Nafha Zakiyya
النفحة الزكية في تاريخ مصر وأخبار الدولة الإسلامية
Genres
الجزء الأول: في تاريخ مصر قبل الإسلام
المقدمة
1 - في زمن الملوكية المصرية، وفيه ثلاثة فصول
2 - في ذكر مصر تحت حكم اليونان، وفيه فصلان
3 - في ذكر مصر تحت حكم الرومان، وفيه فصلان
الجزء الثاني: في تاريخ مصر بعد الإسلام
المقدمة
1 - في الدولة العربية ومصر مدة حكمها، وفيه ثلاثة فصول
2 - في الدول التي حكمت مصر مستقلة، وفيه ثلاثة فصول
3 - في الكلام على الدولة العثمانية ومصر مدة حكمها، وفيه فصلان
Unknown page
الجزء الأول: في تاريخ مصر قبل الإسلام
المقدمة
1 - في زمن الملوكية المصرية، وفيه ثلاثة فصول
2 - في ذكر مصر تحت حكم اليونان، وفيه فصلان
3 - في ذكر مصر تحت حكم الرومان، وفيه فصلان
الجزء الثاني: في تاريخ مصر بعد الإسلام
المقدمة
1 - في الدولة العربية ومصر مدة حكمها، وفيه ثلاثة فصول
2 - في الدول التي حكمت مصر مستقلة، وفيه ثلاثة فصول
3 - في الكلام على الدولة العثمانية ومصر مدة حكمها، وفيه فصلان
Unknown page
النفحة الزكية في تاريخ مصر وأخبار الدولة الإسلامية
النفحة الزكية في تاريخ مصر وأخبار الدولة الإسلامية
تأليف
محمد زكي
الجزء الأول
في تاريخ مصر قبل الإسلام
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمدك يا من زينت عرائس الأثر بلطائف الغرر، وبهرجت كواعب السير بطرائف الطرر، ونصلي على من قص علينا من الحكم آيات وسورا، وتلا لنا من المواعظ أشكالا وصورا، وعلى آله الرواة الثقات، وأصحابه أولي العزم والثبات، ما اتصلت عين بنظر، وسمعت أذن بخبر.
أما بعد: فلما كان التاريخ آية تتلاعب بالفكر، ومرآة ترتسم فيها صور العبر، وملعبا تتلاعب فيه العقول، وميدانا تتسابق فيه الفحول، ولم أجد مع كثرة كتبه ما يشفي العلة، ويروي الغلة، لدورانها بين اختصار مخل، وتطويل ممل، جمعت هذا المختصر من صحيح الأثر وحقائق الخبر، وأودعته من الأنباء ما فيه مزدجر، ونزهته عن الخرافات، وبرأته من الترهات، وجنبته كل مبتذل شائع، كوصف الملوك والوقائع، وضمنته تاريخ من ملكوا مصر من الفراعنة الأول، وما بعدهم من الملوك والدول، مبينا فيه أسباب ارتفاع كل دولة وانخفاضها، وأسباب وجودها وانقراضها؛ فجاء - والحمد لله - فريدا في بابه ، مفيدا لطلابه، صحيح الأثر، صادق الخبر، جعله الله هاديا للعباد، ودليلا للرشاد، دائم النفع بدوام مليكنا الأكرم، وعزيز مصرنا الأفخم، من رفع عرش المجد على أرفع المباني (خديونا الأعظم عباس باشا الثاني)، ما ترنمت الأدباء بصحيح الأنباء.
المقدمة
Unknown page
وتشتمل على مقالتين
قد كانت مصر أولا مدة الفترة التاريخية محكومة بطائفة القسس، ثم ظهر رجل من مدينة طينة يدعى منا في نحو سنة 5626ق.ه، فتغلب على الكهنة ونزع الحكم من أيديهم، وأسس بمصر الملوكية المصرية، التي مكثت أكثر من أربعة آلاف سنة تحت حكم إحدى وثلاثين عائلة من الملوك الذين يقال لهم الفراعنة، وهم ملوك مصر القدماء. غير أن هذه المدة يتخللها بعض إغارات أجنبية كونت بعض عائلاتها، وهي إغارات الملوك الرعاة والإثيوبيين والآشوريين والعجم، ثم تغلب عليها الإسكندر الأكبر فصارت جزءا من الدولة المقدونية، وبعد موته وقعت في قبضة بطليموس أحد ملوك الطوائف فأسس فيها الدولة البطليموسية، فلم تزل في حكم اليونانيين حتى تغلب عليها الرومانيون فصارت إيالة رومانية تابعة أولا لمدينة رومة، ثم لمدينة القسطنطينية لما انقسمت الدولة الرومانية إلى دولة رومانية شرقية وإلى دولة رومانية غربية. وقبل أن نشرع في التكلم على هذه العائلات نذكر أولا وصف مصر الجغرافي وأقسامها القديمة، ومنشأ المصريين القدماء وأقسامهم، وهيئة حكومتهم وتمدنهم، ومعتقداتهم، فنقول:
المقالة الأولى
في وصف مصر الجغرافي وأقسامها القديمة، ومنشأ المصريين القدماء وأقسامهم
مصر هي واد ضيق لا يزيد عرضه عن 40 كيلومترا، يسقى بماء النيل، ويمتد من شلال أصوان إلى البحر الأبيض المتوسط على طول يبلغ 880 كيلومترا، منحصرا بين سلسلتين من الجبال الصخرية قليلتي الارتفاع، إحداهما جهة الشرق تسمى سلسلة جبال العرب، وتمتد خلفها إلى البحر الأحمر صحراء العرب، والأخرى جهة الغرب تسمى سلسة جبال ليبيا، وتوجد خلفها صحراء ليبيا التي تشتمل على خمس واحات أعظمها واحة سيوة، وهاتان السلسلتان يقل ارتفاعهما كلما اتجهتا إلى جهة الشمال حتى تنمحيا عندما تصلان إلى القاهرة، فيأخذ وادي النيل في الاتساع حينئذ، ويكون شكل مثلث كان يعرف قديما بالدلتا عند اليونانيين ، قاعدته من إسكندرية إلى بورسعيد تبلغ 250 كيلومترا تقريبا، أما نهر النيل فيجري في وسط هذا الوادي، وكان يصب قديما في البحر الأبيض المتوسط من سبعة أفرع، وأما الآن فيصب فيه من فرعين، وهما فرع رشيد وفرع دمياط.
وكانت مصر تنقسم إلى 44 قسما أو مديرية؛ اثنان وعشرون منها في الوجه البحري واثنان وعشرون في الوجه القبلي، وهذه الأقسام كانت قبل اجتماع مصر إلى مملكة واحدة عبارة عن ممالك صغيرة مستقلة تحت حكم أمراء مستقلين يتولون الإمارة بالوراثة، فلما اجتمعت مصر وصارت مملكة واحدة كونت كل مملكة من هذه الممالك الصغيرة قسما من أقسام مصر، وإنما استمر بعضها تحت حكم أمراء من بيوت العائلات الملوكية القديمة يتوارثون الإمارة كل في قسمه، ويحكمون بالتبعية لفرعون مصر؛ أي ملك الوجه القبلي والوجه البحري، وأما البعض الآخر من هذه الأقسام، فصار يحكم بحكام قابلين للعزل يعينهم الملك حسب إرادته.
وأما قدماء المصريين فينسبون إلى مصرايم بن حام بن نوح عليه السلام؛ فإن بني حام كانوا قد هاجروا من أوطانهم بآسيا عندما أخذت ذراري نوح عليه السلام في الانتشار في الأرض من بعد الطوفان، فعبروا برزخ السويس واستوطن منهم أولاد مصرايم بوادي النيل، وقد كان هؤلاء المصريون القدماء منقسمين إلى خمس طوائف، وهي طائفة القسس، وطائفة الجهادية، وطائفة الزراعين، وطائفة الصناع، وطائفة الرعاة، بحيث إن الابن كان في الغالب يحترف بحرفة أبيه، وكان أعظم هذه الطوائف شوكة واعتبارا طائفة القسس الذين مع اختصاصهم بالأمور الدينية كانت في يدهم أيضا وظائف القضاء في الحكومة، ثم طائفة الجهادية، وهكذا، وكانت جميع أراضي مصر في أيدي الملك وأيدي هاتين الطائفتين، بحيث إن بقية الأهالي كالزراعين والرعاة مثلا لم يكونوا إلا عمالا بالأجرة، وكانت حكومة مصر ملوكية مطلقة وملوكها الملقبون بالفراعنة يعتبرون اعتبار الآلهة ويزعمون أنهم من سلالتهم.
المقالة الثانية
في تمدن قدماء المصريين وبيان معتقداتهم
قد بلغ المصريون أقصى درجات التمدن من قبل الهجرة بنحو الخمسة آلاف سنة، وقد وصلوا إلى هذا التمدن من تلقاء أنفسهم لا بالأخذ عن غيرهم ، وكانوا شديدي التمسك بالديانة ويعتقدون بوحدانية الإله. غير أنهم لقبوا الإله في العبادة بألقاب مختلفة، كآمون وبتاح وأوزوريس، وميزوا كل اسم بعلامات خصوصية، وجعلوا له معابد خاصة، فتجزأت الألوهية تجزؤا كبيرا، وزال الاعتقاد بالوحدانية من عند الأمة، ولم يبق إلا عند القسس، وقد شبهوا الآلهة في مبدأ الأمر بالكواكب، ثم لم يفرقوا بينهم؛ فمثلا الإله «رع» كان رمزا للشمس، والإلهة «إيزيس» كانت رمزا للقمر، ثم جعلوا الشمس الإله الأعظم، وضموا لفظ «رع» إلى لفظ «آمون» و«بتاح» و«أوزوريس»، وقد اعتقد المصريون بتجسد الآلهة على الأرض، فعبد كل قسم من أقسام مصر الحيوان الذي يقولون إن الإله انتخبه لظهوره به مدة إقامته على الأرض، فعبدوا حينئذ التمساح والكلب والباشق (الباز) وأبا قردان والتيس والقط والنمس، وخصوصا العجل المسمى أبيس، واتخذوا لها معابد.
Unknown page
وكان المصريون يعتقدون أن الموت ليس إلا تغيرا في الحياة، فيقولون: إن للجسم صورة؛ أي طيفا يعيش بعده بعد أن يصير عديم الحركة ما دام محفوظا؛ ولذا كانوا يصبرون الأموات، ويضعونهم في مقابر مشيدة لأجل حفظها من حوادث الزمان ومن كل رجس وتدنيس، ثم إنهم كانوا يعتقدون أيضا بوجود الروح، وأنها تحاسب بعد الموت أمام أوزوريس وقضاة النار الاثنين والأربعين، فإذا كانت غير محسنة فهي في العذاب الأليم حتى تنعدم بعد موت ثان، وأما إذا كانت محسنة فتلحق بالجسم والطيف بعد امتحانات عديدة، وتبقى معهما حتى تبعث.
أما الصناعة فقد تقدمت كثيرا عند المصريين؛ فقد كانوا ينسجون أقمشة الكتان والصوف، ويستعملون في صباغتها ألوانا لا تتغير قط بتداول الأيام والسنين، وكانوا يحسنون سبك المعادن من ذهب وفضة وبرونز، وكانوا يعرفون القيشاني والزجاج والمينا. أما آثاراتهم فمشهورة بعظم حجمها؛ وأهمها آثارات لقصر ومدينة آبو والفيوم وأهرام الجيزة. وقد اشتغل المصريون أيضا بالعلوم، خصوصا علم الهندسة والفلك والطب والجغرافية. وقصارى الأمر أن مصر كانت منبع العلوم والمعارف، وفيها نبغ أعظم واضعي القوانين من اليونان؛ ليكورغة وصولون، وأعظم فلاسفتهم؛ فيثاغورث وأفلاطون، وغيرهم من مشاهير الرجال الذين اشتهروا بالعلوم والمعارف.
الباب الأول
في زمن الملوكية المصرية، وفيه ثلاثة فصول
إن الإحدى والثلاثين عائلة المتقدم ذكرها التي حكمت مصر من ابتداء الملك منا تنقسم إلى ثلاث طبقات تعرف بالدولة القديمة والدولة الوسطى والدولة الحديثة، وكانت كل عائلة تسمى باسم المدينة التي اتخذتها تختا لملكها؛ فيقال عائلة طينية؛ أي تخت ملكها بمدينة طينة، وعائلة منفية؛ أي تخت ملكها بمدينة منف، وعائلة طيبية؛ أي تخت ملكها بمدينة طيبة، وعائلة صاوية؛ أي تخت ملكها بمدينة صا الحجر، وهكذا. أما إذا كانت العائلة أجنبية فتسمى باسم أمتها؛ ولذا يقال العائلة الإثيوبية، والعائلة الفارسية، والعائلة المقدونية، وهكذا.
الفصل الأول
في الطبقة الأولى، وهي الدولة القديمة، وفيه ثلاثة مطالب:
حكمت هذه الدولة 1940 سنة (5626-3686ق.ه) وتشتمل على عشر عائلات من العائلة الأولى إلى العائلة العاشرة.
المطلب الأول
في الملك منا ومبدأ الدولة القديمة
Unknown page
لما ظهر الملك منا من مدينة طينة التي هي بلدة كانت بالقرب من العرابة المدفونة بجوار جرجا، وتغلب على الكهنة ونزع الحكم من أيديهم، تولى هو ملك مصر، ولما رأى ميل أهالي طينة إلى القسس تركها وأسس مدينة منف المعروفة الآن بالبدرشين وميت رهينة، وجعلها تخت ملكه، وحول إليها مجرى النيل، فجعله يجري بقربها من الجهة الشرقية في وسط وادي النيل، بعد أن أبطل مجراه الأصلي الذي كان بقرب سلسلة جبال ليبيا، والجسر الذي أعده لهذا الغرض موجود للآن، ويعرف بجسر قشيشة، فأصلح بذلك الأراضي التي في شرقها وجعلها تصلح للزراعة، وشيد فيها هيكلا لمعبودها بتاح، ثم سن القوانين، ونظم السياسة، ورتب الديانة، وغزا سكان ليبيا الذين شنوا غارة الحرب عليه فقهرهم، وأدخلهم تحت طاعته، ثم مات بعد أن حكم اثنتين وستين سنة.
ومن بعده تلقب ملوك مصر بملوك الوجه القبلي والبحري. غير أن مصر بقيت على التجزئة التي كانت عليها قبل ظهوره مدة الثلاث عائلات الأول التي لم يعلم من تاريخها شيء تقريبا حتى ظهرت العائلة الرابعة، فانضمت إلى بعضها وصارت مملكة واحدة.
المطلب الثاني
في زمن تشييد أهرام الجيزة، وهو العصر الأول من أعصار الفنون المصرية
قد كانت العائلة الرابعة أشهر عائلات الدولة القديمة؛ فإن في عهدها كان تشييد أهرام الجيزة؛ أكبر الأهرام الموجودة بمصر، وفي أيامها بلغت مصر درجة عظمى في التمدن، ونمت فيها الفنون والعلوم والثروة الأهلية بطريقة عجيبة، ومن عهدها صار يستدل من الآثار التي بالمقابر على تتابع الملوك والحوادث التاريخية، بل وعلى كيفية معيشة قدماء المصريين. وكان أشهر ملوكها الملك خوفو؛ فقد كان رجلا مقاتلا ومحبا لتشييد العمارات؛ فهو الذي شيد الهرم الأكبر من أهرام الجيزة، واستعمل في بنائه، مع المناوبة، في كل ثلاثة أشهر مائة ألف عامل، فاستمرت عمارته ثلاثين سنة؛ منها عشرة في توطيد أرضيته وبناء حجراته السفلى وبناء الجسر الموصل إليه من شاطئ النيل بالحجارة، وكان معدا لنقل الأحجار التي بني بها هذا الهرم، ومنها عشرون سنة في تشييد نفس الهرم، ويبلغ ارتفاعه الآن 137 مترا، ويتركب من 200 طبقة من الأحجار الجسيمة، وقد كان مغطى بطبقة من الأحجار المنحوتة أزيلت عنه من منذ قرون، ولو كان بقي على حالته الأولى لكان يبلغ ارتفاعه 150 مترا، وأما ضلع قاعدته فيبلغ 235 مترا، والأحجار التي استعملت في بنائه يبلغ حجمها 25000000 متر مكعب، وهو يشتمل على ثلاث حجرات وجملة طرقات موصلة إليها، ثم على بئر عميقة، وأعجب ما يستغرب منه في تشييد هذا الهرم المهارة التي توصل بها المصريون إلى بناء ما بداخله من الحجرات والطرقات التي مع توالي تلك السنين عليها لم يحصل لها أدنى خلل مع عظم الثقل الجسيم الذي فوقها.
أما الهرم الثاني الذي شيده الملك خفرع فيبلغ ارتفاعه 135 مترا، والهرم الثالث الذي شيده الملك منكورع، وأتمته الملكة نيتوقريس من العائلة السادسة لا يزيد ارتفاعه عن 66 مترا.
المطلب الثالث
في انتهاء الدولة القديمة
ثم حافظت مصر على رونقها مدة العائلة الخامسة والعائلة السادسة التي كانت من أشهر عائلات الدولة القديمة، أما زمن الأربع عائلات الأخيرة من هذه الدولة التي لم يعلم حقيقة ما حصل بمصر في عهدها، فكان زمن اضطراب وهيجان وحروب داخلية أوقفت مصر عن التقدم، وفقدت منف في أثنائها الرئاسة التي كانت لها على البلاد من عهد الملك منا، وتجزأت المملكة، فلما كانت أواخر أيام العائلة العاشرة انتصر أمراء طيبة على ملوك هذه العائلة، فأسسوا بطيبة العائلة الحادية عشرة التي هي مبدأ الطبقة الثانية.
الفصل الثاني
Unknown page
في الطبقة الثانية وهي الدولة الوسطى، وفيه مطلبان:
مكثت هذه الدولة 1361 سنة (3686-2325ق.ه) وتشتمل على ست عائلات من العائلة الحادية عشرة إلى العائلة السابعة عشرة، وفيها حصلت إغارة الملوك الرعاة.
المطلب الأول
في العصر الثاني من أعصار الفنون المصرية
قد تجددت بظهور العائلة الحادية عشرة التي هي مبدأ هذه الدولة ثروة مصر وبهجتها، وتجدد تاريخها، مع التغيير الكلي في حالة البلاد السياسية والدينية؛ فقد تغيرت أسماء الأعلام المستعملة في العائلات وأسماء الوظائف، وتغيرت الكتابة والديانة أيضا؛ فإن المرتبة الأولى صارت لمعبودات طيبة بعد أن كانت لمعبودات منف، وانتقل كرسي المملكة من منف إلى طيبة، ولكن العائلة الثانية عشرة هي التي يكون زمنها العصر الثاني من أعصار الفنون المصرية، فإنها كانت أشهر عائلات هذه الدولة، ومن أعظم عائلات مصر بهجة ورونقا وأوضحها تاريخا، وفي عهدها كانت بمصر بأجمعها من شلال أصوان إلى البحر الأبيض المتوسط مملكة واحدة خاضعة لملك واحد، كما كانت في زمن العائلة الرابعة، وقد مدت حدودها شمالا لغاية صحراء بلاد الشام وجنوبا إلى الشلال الرابع، وشيدت بتلك الجهات حصونا وقلاعا لمنع أهل آسيا والنوبة عن التعدي على حدودها، وكان أشهر ملوك هذه العائلة الملك أمنمحعت الثالث؛ فإنه نظم فيضان النيل الذي هو روح مصر؛ وذلك أنه لما وجد فيضان النيل غير منتظم؛ فتارة يزيد زيادة عظيمة بحيث يقطع الجسور ويغرق البلدان، وطورا تكون زيادته طفيفة، بحيث لا تكفي لري جميع الأراضي الزراعية، أراد أن يتدارك هذه المضار، فأمر بحفر البركة الموجودة الآن بوادي الفيوم المسماة بحيرة موريس، وكان بجانبها بركة طبيعية تعرف ببركة قارون، فكان يصرف إليهما القدر الزائد من مياه النيل عن المنافع الضرورية، إذا كان الفيضان كثيرا، وتروى بمياههما جميع أراضي الجانب الأيسر من النيل إلى البحر الأبيض المتوسط إذا كانت زيادة النيل ضعيفة.
وكان في وسط بركة موريس هرمان، في كل منهما تمثال جالس، فالهرم الأول كان فيه تمثال الملك أمنمحعت يشاهد بركته التي حفرها، والثاني كان فيه تمثال زوجته. وشيد في الجهة الشرقية من هذه البحيرة، على ربوة عالية متسعة طولها مائتا متر وعرضها مائة وستون مترا، سراية شهيرة تسمى سراية لابيرانته، يوجد بداخلها اثنتا عشرة رحبة متقابلة الأبواب؛ ستة على اليمين وستة على الشمال، وهذه السراي محاطة من الخارج بسور كبير، وفيها ثلاثة آلاف غرفة؛ منها ألف وخمسمائة في الدور الأول وألف وخمسمائة في الدور الثاني، وجميعها مسقوفة بالحجارة، ومقامة على أعمدة من الحجر الأبيض منتظمة الصفوف. وفي آخر هذه السراي هرم مزين بالرسوم يتوصل إليه من سرداب تحت الأرض، دفن فيه الملك أمنمحعت الثالث.
المطلب الثاني
في الملوك الرعاة
وبعد العائلة الثانية عشرة أخذ تاريخ مصر في الانحطاط، فإنه لا يعلم من تاريخ العائلة الثالثة عشرة والعائلة الرابعة عشرة إلا شيء قليل، أما في عهد الثلاث عائلات الأخيرة من هذه الدولة الخامسة عشرة والسادسة عشرة والسابعة عشرة، فقد كانت مصر محكومة بقوم يقال لهم: الملوك الرعاة أو الهيكسوس، وهم أقوام من آسيا، رحل، أغاروا على مصر من جهة برزخ السويس، فتملكوا على الوجه البحري بدون كبير معارضة، وأخذوا يحرقون المدن والمعابد، وينهبون ما فيها، ويقتلون الأهالي، ثم صعدوا النيل إلى مدينة طيبة. غير أنهم لم يمكنهم أن يستوطنوها، بل تركوا الحكم فيها لأمراء المصريين بشرط أن يدفعوا لهم الجزية، وقد أسسوا لهم حكومة منتظمة، ورتبوا خفراء لملاحظة الوجه القبلي، ثم غلب عليهم التمدن المصري بعد أن أقاموا في مصر مدة؛ فتعلموا لغة المصريين، واعتادوا بعوائدهم، ثم تعودوا على الترف والخمول أيضا؛ لوجود الراحة وكثرة الثروة، حتى تقوى عليهم أمراء طيبة، وطردوهم من أرض مصر بعد أن أقاموا بها أكثر من خمسمائة سنة في عهد الملك أحمس؛ أحد هؤلاء الأمراء الذي أسس بعد طردهم العائلة الثامنة عشرة؛ مبدأ الدولة الحديثة.
وقد كان بيع يوسف الصديق عليه السلام في مصر وحضور بني يعقوب إليها وتوطنهم فيها في عهد هؤلاء الملوك في أيام العائلة السادسة عشرة.
Unknown page
الفصل الثالث
في الطبقة الثالثة، وهي الدولة الحديثة، وفيه أربعة مطالب:
أقامت هذه الدولة 1371 سنة (2325-954ق.ه)، وتشتمل على أربع عشرة عائلة؛ من العائلة الثامنة عشرة إلى العائلة الحادية والثلاثين، وفيها حصلت إغارات الإثيوبيين والآشوريين والعجم.
المطلب الأول
في عصر الفتوحات، وهو العصر الثالث من أعصار التمدن المصري
إن عصر العائلات الثلاث الأولى من هذه الدولة كان في الرونق والبهاء كعصر العائلة الرابعة من الدولة القديمة وكعصر العائلة الثانية عشرة من الدولة الوسطى؛ أي إنه يكون المدة الثالثة من عصر التمدن المصري، وتسمى هذه العائلات الثلاث؛ أي الثامنة عشرة والتاسعة عشرة والعشرون، بالعائلات الحربية؛ فإن في عهدها كثرت فتوحات مصر واتسعت حدودها، فامتد حكمها شمالا لغاية شواطئ الدجلة والفرات، وجنوبا لغاية إقليم النيل الأزرق، وشرقا إلى الشاطئ الغربي من بلاد العرب، ودخل في حوزتها أيضا كثير من جزائر البحر الأبيض المتوسط، وكانت مكللة بالنصر في جميع فتوحاتها سواء كانت برا أو بحرا.
فأما العائلة الثامنة عشرة فكان أشهر ملوكها الملك أمنحتب الأول الذي فتح بلاد الإثيوبية لغاية البحر الأزرق، وأسس فيها مستعمرة مصرية يبلغ اتساعها قدر اتساع مصر، والملك تحتمس الأول أول من دخل بلاد آسيا من ملوك مصر وأخضع بلاد الشام لغاية نهر الفرات، ثم الملك تحتمس الثالث أعظم الذين اشتهروا بالفتوحات من ملوك مصر؛ فقد أوغل بجيوشه في مبدأ الأمر في آسيا لغاية نهر الدجلة، وأدخل تحت طاعته الأمم الذين كان أخضعهم أبوه تحتمس الأول، وأقاموا عليه راية العصيان، ثم استولى أيضا على أغلب جزائر البحر الأبيض المتوسط بمساعدة مراكب فينيقية، فتملك أولا على جزيرتي قبرص وكريد، ثم على جزائر بحر الأرخبيل وجزء عظيم من شواطئ بلاد اليونان وآسيا الصغرى، ووطد سلطته أيضا على ساحل بلاد ليبيا، وقد حكم أربعا وخمسين سنة.
أما أشهر ملوك العائلة التاسعة عشرة فهو رمسيس الثاني الملقب سيزوستريس ابن الملك سيتي ثاني ملوك هذه العائلة، ويقال له أيضا رمسيس الأكبر؛ لأنه كان أعظم ملوك مصر قوة وشوكة، وطالت مدة حكمه، وكثرت فيها الآثار المصرية والعمائر الجسيمة حتى لا يكاد يوجد بوادي النيل أثر من الآثار القديمة والعمائر العظيمة إلا وعليه اسمه ورسمه، وقد لقب هذا الملك في أيام والده بولي العهد، وكان مشتغلا بالحروب والغزوات؛ فإن والده أشركه معه في الحكم وهو صغير، وصار يعلمه اقتحام الأهوال ويعوده على مقاساة الأخطار؛ فأرسله لغزو بلاد الشام وكان عمره عشر سنين، فغزاهم بجنود والده، وأدخلهم تحت الطاعة، ثم حارب أيضا بلاد الإثيوبية، فتعود على الشجاعة والرئاسة، وكان يتولى الحكم في حياة أبيه لكبر سنه، حتى مات والده واشتغل بالملك فقام بأعبائه، واستتبت الراحة واستمر الهدوء في بلاده إلى آخر السنة الرابعة من حكمه، وبعد ذلك قامت عليه جميع سكان آسيا الغربية، وكانوا أقواما ذوي قوة وشجاعة، فخرج لملاقاتهم في السنة الخامسة من حكمه بجيش مؤلف من 150 ألف مقاتل، وسار إلى أن عبر أرض كنعان، ووصل إلى وادي الأورنط بقرب مدينة كدش، فقابله اثنان من الأعداء وقالا له: إن الأعداء تقهقروا إلى حلب، فاغتر بكلامهما، وزحف على الأعداء بحرسه الملوكي فقط، وكان باقي جيشه بعيدا عنه، فلما تقدم نحو مدينة كدش فاجأه الأعداء بجيش مؤلف من 80 ألف مقاتل، وهجموا عليه، فانهزم من معه وولوا الأدبار، وبقي هو بين أعدائه وحيدا، فتأهب للقتال بنفسه، وحمل على الأعداء بشجاعته، ولم يزل يقاتلهم حتى أدركته رجاله وفرسانه وحملوا معه، فانكسر الأعداء وطلبوا الصلح فصالحهم، ثم عادوا إلى الحرب ثانيا، واستمرت الوقائع بينهم مدة خمس عشرة سنة، حتى كاد يفنى غالب رجال الفريقين، فانعقد الصلح بين الطرفين في سنة 21 من حكم رمسيس، ثم تمم الملك رمسيس مدة السبعة وستين سنة التي أقامها على كرسي الملك في تشييد العمارات الجسيمة والمباني الفاخرة، وقبل موته أشرك معه في الحكم ابنه الثالث عشر المسمى منفتاح، فخلفه بعد أن مات، وهو الذي في أيامه كان خروج بني إسرائيل من مصر تحت رئاسة موسى عليه السلام.
وأما العائلة العشرون فكان أشهر ملوكها الملك رمسيس الثالث، ثاني ملوكها الذي فتح بلاد البون؛ أي بلاد اليمن، وكانت مصر في عهده في الشوكة التي كانت عليها أيام تحتمس الثالث ورمسيس الثاني. غير أن هذه الحروب التي وقعت في عهد الثلاث عائلات المذكورة ومكثت نحو الثلاثة قرون قد أضعفت مصر؛ فأخذت قوتها في الانحطاط من وقتئذ، ثم ضعفت السلطة الملوكية بها أيضا، فابتدأ الاختلال في الحكومة، فاستولى على التدريج كهنة آمون بطيبة على وظائف الحكومة المهمة، ولم تزل تزداد سلطتهم حتى إن رئيسهم المدعو حرحور اغتصب السلطة الملوكية في أواخر أيام هذه العائلة.
المطلب الثاني
Unknown page
في تجزؤ مصر وإغارة الإثيوبيين والآشوريين عليها
وبعد حرحور أراد ورثاؤه أن يوطدوا سلطتهم على جميع أنحاء المملكة، فعارضهم في ذلك أمراء الوجه البحري، وأسسوا بمدينة تنيس العائلة الحادية والعشرين، واستقل القسس وهم كهنة آمون بالوجه القبلي بمدينة طيبة، فانقسمت مصر حينئذ إلى حكومتين، ووقعت فيها الحروب الداخلية فسقطت شوكتها الخارجية، وامتنع أمراء الشام من دفع الجزية، حيث كان أغلبهم انضم إلى مملكة بني إسرائيل، التي كانت قد بلغت غاية عظمها إذ ذاك في عهد داود وسليمان عليهما السلام، ثم قام رجل من رؤساء الجيوش بالوجه البحري شامي الأصل يدعى شنشق، فتغلب على السلطة الملوكية وأسس العائلة الثانية والعشرين، ثم وطد سلطته على جميع بلاد مصر وطرد القسس من طيبة وألجأهم إلى بلاد الإثيوبية الممتدة في جنوب مصر، فأسسوا فيها مملكة مستقلة تخت ملكها مدينة نباتة على بعد 900 كيلومتر من الشلال الأول.
غير أنه بعد شنشق ابتدأ انحطاط مصر ثانيا في عهد خلفائه، فأخذت في التجزئة ثانيا، وتلقب بالألقاب الفرعونية عشرون أميرا من أمرائها، منهم اثنا عشر بالوجه البحري، وكونوا العائلة الثالثة والعشرين، إلا أن أحدهم المدعو تفنخت أمير صا الحجر بالوجه البحري شرع في التغلب عليهم وتأسيس العائلة الرابعة والعشرين، فقاوموه واستعانوا عليه بملك الإثيوبية بعنخى الذي من ذرية حرحور، فحضر بعنخى إلى مصر واستولى عليها، ولكن بعد موته ولى المصريون بوكنرو أوبوكوريس بن تفنخت ملكا عليهم، ولكنه بعد أن حكم سبع سنوات أغار عليه ملك الإثيوبية شاباك أو سباكون حفيد بغنخى وتملك على مصر وأسس فيها العائلة الخامسة والعشرين. غير أنه في ذلك الوقت كان قد قام بوادي الدجلة والفرات مملكة آشور التي تخت ملكها بمدينة نينوى على شاطئ الدجلة، وكانت هذه الدولة قد بلغت غاية عظمها، ووصلت إلى أعلى شوكتها حتى صارت هي الدولة المتسلطنة في الشرق، فامتدت سلطتها على جميع البلاد الممتدة بآسيا من بحر الخزر إلى خليج العجم، ومن نهر الدجلة إلى البحر الأبيض المتوسط حتى صارت مجاورة تقريبا لمصر، فأراد سباكون أن يتداخل في أمور الشام ضد ملكها سرجون، فانهزم وهرب إلى بلاد الإثيوبية ولما تملك على مصر طهراقه الإثيوبي بعده، وأراد أن يدخل بلاد الشام أيضا، هزمه آشوراخي الدين ملك آشور وأخذ منه مصر التي تملك عليها من بعده ابنه آشور بابنبال.
المطلب الثالث
في تجدد مجد مصر ورونقها القديم
وبعد أن تخلصت مصر من الإثيوبيين والآشوريين بقيت في أيدي أمرائها العشرين الذين منهم اثنا عشر مكونون بالوجه البحري لحكومة تعاهديه تسمى بالمقاسمة الاثني عشرية، وكان من هؤلاء الأمراء ملك صا الحجر الذي من ذرية تفنخت المدعو بسامتيك الأول، فتغلب عليهم وأسس العائلة السادسة والعشرين التي كانت من أشهر عائلات مصر؛ فإن أيامها كانت كثيرة الخيرات والعمران، وفي عهدها كانت مصر زاهية زاهرة، قد قامت من دمارها وأصلحت فيها الطرق والترع والآثار، وعادت إلى الفتوحات، وفتحت أبوابها للتجار الأجانب وخصوصا اليونانيين، وردت إلى الصناعة حركتها الأولى، ورجع للفنون رونقها القديم، بل وامتازت تماثيل ذاك الوقت بدقة صنعتها وحسن بهجتها، وظهر بمصر في ذاك الحين كتابة أوجز وأبسط من الكتابة الهيروغليفية وأسرع منها تعرف بالكتابة الديموطيقية؛ أي العامية؛ لأنها كانت معروفة عند العامة، فانتشرت المؤلفات الأدبية والعلمية بمساعدة هذه الكتابة.
وقد خلف بسامتيك الأول ابنه نخاو الثاني، فشرع في توصيل البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط بواسطة أحد أفرع النيل، فلم تتم العملية، وكلف جماعة من الفينيقيين الذين كانوا في ذاك الوقت أشهر الأمم في الملاحة بالسياحة حول أفريقيا، فداروا حولها في مدة ثلاث سنوات مبتدئين من البحر الأحمر راجعين من بوغاز جبل طارق، ثم عزم هذا الملك على الدخول في بلاد الشام والتملك عليها. غير أنه في ذاك الوقت كانت مملكة بابل التي قامت بشواطئ الفرات وخلفت مملكة آشور في حكم آسيا، قد وصلت إلى غاية شوكتها ونهاية رفعتها، وامتدت أيضا من جنوب وادي الدجلة والفرات إلى البحر الأبيض المتوسط، فهزم ملكها بختنصر نخاو الثاني فالتزم نخاو بعقد الصلح معه، ثم خلف نخاو ابنه بسامتيك الثاني، ثم وح أبرع أوابرياس ابن بسامتيك، فأرسل جيوشه لفتح برقة بجهة تونس، فانهزمت عساكره، وأقاموا راية العصيان، وولوا أحد رؤساء الجيوش المدعو أحعمس أو أماسيس ملكا عليهم، فلما رجع تحارب مع الملك وهزمه وتولى هو ملك مصر، فحافظت مصر في عهد على رونقها وبهجتها. غير أنه في ذلك الوقت كان قد قام بآسيا مملكة العجم، وكانت هذه الدولة قد أدخلت في حوزتها جميع الممالك الواقعة في غرب نهر السند كمملكتي مادي وبابل اللتين قامتا على أثر مملكة آشور ومملكة ليديه القائمة بآسيا الصغرى وغيرها، حتى صارت هي الدولة المتسلطنة بآسيا الغربية جميعها، وقد امتدت من نهر السند إلى بحر الأرخبيل والبحر الأبيض المتوسط حتى صارت مجاورة تقريبا لمصر، فعزم أحد ملوكها المدعو كمبيز بن كيروش على فتوح هذه المملكة أيضا، فحضر إليها وقت موت أحعمس وإقامة ابنه بسامتيك الثالث ملكا عليها، فحاربه وأخذها منها، وأسس فيها العائلة السابعة والعشرين، وهي مبدأ الدولة الفارسية بمصر.
المطلب الرابع
في الدولة الفارسية بمصر
قد امتد حكم هذه الدولة على مصر نحو القرنين تقريبا (1147-954ق.ه)، وكان أول ملوكها بها الملك كمبيز الذي أغار عليها في عهد بسامتيك الثالث، فلما شرع هذا الملك في الإغارة عليها عقد معاهدة مع مشايخ قبائل العرب الذين لهم اليد على الطريق الموصلة إلى وادي النيل من صحراء برزخ السويس؛ ليرخصوا له بالمرور منها ويأتوا بالماء لجيشه، فسارت جيوشه في تلك الصحراء، حتى حلت أمام مدينة الطينة أو الفرما، فانتشبت الحرب بينهم وبين جيوش بسامتيك هناك، وقاوم اليونانييون المستأجرون في الجيشين مقاومة عظيمة، ثم انهزمت جيوش المصريين إلى مدينة منف لكثرة جيوش العجم، فأرسل إليهم ملك العجم رسلا ليسلموا المدينة ويذعنوا له بالطاعة، فلم يقبلوا منه وقتلوا الرسل، فغضب ملك العجم، وحضر بجيوشه إلى هذه المدينة وأحاط بقلعتها، وأقام محاصرا لها حتى استولى عليها عنوة، ووقع بسامتيك وجميع أمراء المملكة أسراء في قبضته، فقتلهم أمام بسامتيك، ثم أراد أن يقيمه ملكا على مصر بالتبعية له، لولا أن بلغه أنه عصب عليه عصبة، فقتله أيضا، وسلم حكومة مصر إلى أرياندس الفارسي.
Unknown page
فلما تم له فتوح مصر أظهر في أول الأمر علو الهمة والرأفة بالرعية والشفقة عليها، وسلك مسلك الأمن والراحة فلم يخل براحة البلاد وأمنيتها، بل أبقاها على عبادتها، وميز من بقي من المصريين بعلامات الامتياز، وقرب منه أمناء الديانة المصرية، ليتعلم ما اشتهروا به من العلوم والحكمة، ثم أراد أن يجعل مصر أساسا وطيدا لمشروعه، وهو أن يفتتح جميع بلاد أفريقية، فأرسل لغزو جمهورية قرطاجنة سفنا أعدها ببحرية من الفينيقيين، وكان هؤلاء الفينيقيون هم الذين عمرت قبائلهم مدينة قرطاجنة، فامتنعوا عن محاربة القرطاجيين بسبب القرابة التي بينهم، ووجه فرقة من جيشه تبلغ 50 ألف مقاتل لمحاربة واحة سيوة، فضلوا عن الطريق وتاهوا في الصحراء، فهبت عليهم ريح السموم فأهلكتهم عن آخرهم ولم ينج منهم أحد، وسار بنفسه لمحاربة بلاد الإثيوبية، واتخذ طريقه من الصحراء لكونها أقرب طريق، فانحرف عن شواطئ النيل، وأوغل بعساكره في الصحراء، فنفد زاده ولحق جيشه القحط والجوع حتى أكل بعضهم بعضا بالاقتراع من كل عشرة أنفار واحد ممن تقع عليه القرعة، فخسر خسائر عظيمة، وخاف على نفسه الهلاك فالتزم بالعودة إلى مصر بباقي جيوشه بعد أن فقد منهم كثير، فلما رجع إلى مصر استعمل مع أهلها القسوة بدل الرأفة وصارت أفعاله من يومئذ كلها اختلالات ومفاسد؛ فإنه لما وصل إلى مدينة طيبة أراد تعويض تلك الخسائر الجسيمة ، فسلب أمتعة الهياكل وزينتها وذخائرها . ولما وصل إلى منف صادف دخوله فيها يوم الاحتفال بموسم إقامة العجل المسمى أبيس على التخت المعد لإقامته، فظن أنهم فرحون مستبشرون بهزيمته فقتل الكهان وأمراء الأديان وأرباب الحل والعقد دون أن يسألهم عن الأسباب، وطعن أيضا العجل معبودهم بخنجر فأدماه، ثم دخل معبد منف وسخر بتماثيل تلك العجول، ونهب جميع ما كان في المقابر القديمة، فنبش القبور طمعا فيما يوجد بها من النفائس القديمة، ولم يسلم من أعماله الذميمة قومه ولا أهله؛ فقد قتل كثيرا من أمراء العجم ودفن البعض حيا، وقتل أخاه وأخته التي تزوج بها على خلاف عادتهم، وقتل ابن أحد وزرائه ليبرهن لأبيه على صحوه مهما تعاطى من الشراب وغير ذلك، ثم خرج من مصر يريد الرجوع إلى بلاده، فمات ببلاد الشام قبل الوصول إليها بعد أن حكم سبع سنوات وخمسة أشهر.
ثم اجتهد المصريون مرارا من بعده في الخروج عن طاعة العجم والاستقلال بأنفسهم، حتى تمكنوا من ذلك سنة 1028ق.ه لاختلال مملكة فارس في ذاك الحين، فاستقلوا بحكم أنفسهم نحو الستين سنة (1028-962ق.ه)، فقام بمصر في تلك المدة ثلاث عائلات مصرية؛ وهي الثامنة والعشرون والتاسعة والعشرون والثلاثون، واجتهد المصريون في تحصين حدودهم تحصينا عظيما خوفا من العجم. غير أن ذلك لم يجد نفعا؛ حيث لم يمكنهم مقاومة العجم عندما أغاروا عليها في المرة الثانية، بل إن آخر ملوكهم المدعو نقطنبو الثاني بعد أن قاوم العجم مقاومة شديدة جمع أمواله وهرب إلى بلاد النوبة، فدخلت مصر حينئذ تحت حكم العجم ثانيا، فأسسوا فيها العائلة الحادية والثلاثين، ومنهم انتقلت إلى اليونانيين بظهور الإسكندرية الأكبر حيث أغار عليها سنة 954ق.ه، وأخذها من يد دارا الثالث آخر ملوك العجم.
الباب الثاني
في ذكر مصر تحت حكم اليونان، وفيه فصلان
لما أفرغت دولة العجم في دولة الإسكندر الأكبر بإغارته عليها صارت مصر كباقي دول الشرق القديمة التي كانت تحكم حكم العجم جزءا من دولته، ثم مكثت تحت حكم اليونانيين مدة 302 سنة (954-652ق .ه)، فأسسوا فيها عائلتين: الثانية والثلاثين، وهي الدولة المقدونية ؛ أي مدة تبعيتها لدولة الإسكندر الأكبر، والثالثة والثلاثين، وهي الدولة البطليموسية؛ أي مدة استقلالها تحت حكم عائلة بطليموس أحد قواده.
الفصل الأول
في الإسكندر الأكبر وفتوح اليونانيين لمصر
قد كان الإسكندر الأكبر ملك مقدونية إحدى أقسام بلاد اليونان الشمالية رجلا عالي الهمة شديد الذكاء حميد الخصال جميل الصورة، وقد أكفل أبوه بتربيته الفيلسوف الشهير أرسطاطاليس فأحسن تربيته، واستخلفه على الملك وعمره سبع عشرة سنة مدة تغيبه في حرب طراسة، فقام بأعباء الملك، وكانت تلوح عليه من صغره سمة الفطنة والشجاعة، فلما مات والده، فيلبش ملك مقدونية استولى على المملكة وعمره عشرون سنة، فلم يلبث أن خرج عليه بعض الأمم التي أخضعها أبوه ببلاد اليونان وشواطئ الدانوب؛ أي الطونة، فأرجعهم إلى الطاعة بعد أن هزمهم شر هزيمة، حتى ارتجفت منه بقية المدن اليونانية، وأذعنت له بالطاعة بكل خضوع، ثم عزم على محاربة العجم فعبر بوغاز الدردانيل المسمى قديما هلسبونت بجيش مؤلف من 35000 مقاتل، وتلاقى بجيوش العجم عند نهر جرانيقة، فهزمها واستولى على جميع آسيا الصغرى بدون أدنى مقاومة، أما ملك العجم دارا الثالث فجهز جيشا مؤلفا من 500000 مقاتل، وحضر لملاقاته فقابله عند مدينة أسوس، وحصلت بينهما واقعة عظيمة انهزم فيها دارا وهرب في داخل بلاده، وترك أمه وأخته وامرأته وأولاده في المعركة فوقعن أسرى في يد الإسكندر، فعاملهن أحسن المعاملة، ثم اتجه إلى بلاد الشام كي يتملك على جميع الشواطئ البحرية، ودخل بلاد فينيقية ففتحت له جميع مدنها أبوابها إلا مدينة تير وهي صور؛ فإنه لم يتمكن من فتحها إلا بعد حصارها سبعة أشهر، ثم تملك على غزة أيضا، ودخل مصر من طريق بيلوز وهي الفرما، فخضعت له بكل سهولة لبغضها لحكم العجم، ولما وصل إلى مدينة منف أخذ يتفرج في داخل البلاد، وعامل أهلها بالحلم والعدل، ورتب إدارتها ونظم سياستها، ولم يغير شيئا من عوائد أهلها القديمة، ثم نزل النيل حتى وصل إلى قرية راقودة الواقعة بالبرزخ المحصور بين بحيرة مريوط والبحر الأبيض المتوسط، فاستحسن جدا موقع هذا البرزخ، واختاره موضعا لمدينة الإسكندرية، فخطط بنفسه أساساتها سنة 954ق.ه، وأناط المعمار المسمى دينوقراطس بإجراء العمل، ودخلت راقودة في سورها، وبقي اسم راقودة لخطة بالإسكندرية بنيت على آثارها، ثم توجه الإسكندر من هناك إلى معبد آمون في واحة سيوة واستجوب الكهانة، ولم يظهر نفسه، فعرفه الكهان وأعلنوا بأنهم يعهدون أنه ابن المشتري، وقد خضعت له مستعمرة كيرينة اليونانية أيضا، وهي طرابلس الغرب الآن حينما توجه إلى واحة سيوة.
وأما دارا فقد جمع بوادي الدجلة والفرات جيشا ضعف جيشه الأول الذي انهزم في واقعة أسوس، فخرج الإسكندر من مصر، ورجع على عقبه إلى بلاد الشام، ثم عبر نهري الفرات والدجلة، وتلاقى معه في سهل إربل، فهزمه أيضا، وهرب دارا إلى مدينة أكبتان، وهي همذان، فلم يقتف الإسكندر أثره، بل اتجه جنوبا، وتملك على بابل وسوس وبرسيبوليس وباسارجاد من عواصم مملكة العجم، ثم اتجه شمالا حينئذ ليقتفي أثره، فوصل إلى مدينة أكبتان. غير أن دارا كان قد خرج منها والتجأ إلى ولاية بكتريان من ولايات مملكته، وهي قسم بخارة الآن، فقتله واليها بسوس، فلم يلبث الإسكندر أن حضر إلى مدينة بكتر، وهي بلخ، تخت هذه الولاية، وقبض على بسوس بعد أن اقتفى أثره خلف نهر أكسوس، وهو نهر جيحون، وسلمه إلى أخي دارا فأماته في العذاب الأليم.
ثم قصد الإسكندر نهر السند، فعبر هذا النهر، وأراد أن يتوغل في بلاد الهند فلم تطاوعه عساكره فنزل فيه إلى مصبه، ورجع إلى مدينة بابل من طريق صحراء جدروزية، وهي بلوجستان، فأراد أن يجعلها عاصمة دولته، وينظم أمور المملكة فأدركته فيها الوفاة سنة 945ق.ه، وله من العمر ثلاث وثلاثون سنة، فمات أثناء فتوحاته قبل أن يتمم جميع مشروعاته العظيمة التي لم تخطر على قلب بشر، وترك له من الصيت والشهرة ما ملأ أقطار العالم، وكانت دولته إذ ذاك ممتدة من البحر الأدرياتيقي والبحر الداخل؛ أي البحر الأبيض المتوسط غربا، إلى جبال إيجود؛ أي جبال هماليا ونهير هيفاز ونهر السند غربا، ومن نهر الدانوب وهو الطونة وبحر بونت لوكسن؛ أي البحر الأسود وجبال القوقاز وبحر الخزر ونهر ياكسارت؛ أي نهر سيحون شمالا إلى بحر أريطرة؛ أي بحر عمان وخليج العجم وصحراء بلاد العرب وشلال أصوان جنوبا، فاقتسمها قواد جيوشه، فكانت مصر من نصيب أحدهم المدعو بطليموس، فأسس فيها عائلة ملوكية جديدة، وهي دولة البطالسة.
Unknown page
الفصل الثاني
في الدولة البطليموسية
قد حكمت هذه الدولة على مصر نحو الثلاثة قرون (945-652ق.ه)، وبلغت مصر في عهدها في الشوكة والمجد والثروة درجة عظمى، لم ترها من مدة مديدة؛ فقد صارت مدينة الإسكندرية؛ عاصمة المملكة الجديدة، منبعا للعلوم والمعارف، وكان جميع ملوك هذه العائلة يطلق عليهم اسم بطليموس مع أن كلا منهم كان له لقب خاص به، وهم نحو الأربعة عشر، استقلوا بحكم مصر، واستعملوا مع المصريين اللين والرفق، وأصلحوا البلاد واحترموا نظاماتها، مع اجتهادهم في إدخال التمدن اليوناني فيها، وكان أشهرهم بطليموس الأول الملقب لاغوس أوسوطير؛ أي المخلص، وهو المؤسس لهذه الدولة، فلما قبض على أزمة الحكومة في مصر وجه مزيد همته إلى استمالة قلوب الأهالي إليه؛ فاستعمل الرأفة والحلم في أحكامه، وأحسن التدبير والسياسة، وضم إلى مصر كيرينة والشام وقبرص وفينيقية، وشيد بمدينة الإسكندرية معابد كثيرة، وبنى بها منارة في جزيرة فاروس لتسهيل الملاحة بجوار ميناها، ومن أشهر أعماله مدرسة الإسكندرية المسماة بالرواق التي جلب إليها العلماء من اليونان وغيرها من البلدان الرائجة فيها أسواق العلوم والمعارف، وكان هذا الملك محبا لمجالسة العلماء ومحادثتهم، وقد جمع لهم كتبخانة عظيمة، فهرع إلى مصر مشاهير الرجال من أهل الشرق والغرب حتى صارت مدينة الإسكندرية مركز العلوم والمعارف.
وبطليموس الثاني الملقب فيلادلفوس؛ أي محب أخيه، وهو ابن بطليموس الأول، قد تنازل له أبوه عن الملك في حياته، فلما خلف أباه على سرير الملك اجتهد مثله في نشر العلوم والمعارف، وترجم إلى اللغة اليونانية كتب اليهود المقدمة (المعروفة بالترجمة السبعينية)، وزاد في الكتبخانة التي أنشأها أبوه، وأوسع علمي الفلك والملاحة، وأمر باستكشاف بلاد النوبة والنيل الأعلى، وكان من أعظم ملوك هذه العائلة، وعصره من أعظم الأعصر في تاريخ الفلسفة.
ثم بطليموس الثالث الملقب ويرجيطة؛ أي المحسن أو الرحوم، وهو ابن بطليموس الثاني، خلف أباه بعد موته على سرير الملك، وكانت مدته من أعظم المدد رفعة لمصر حيث امتدت فتوحاته إلى أواسط آسيا وبلاد النوبة؛ فقد أغار على بلاد الشام وعبر نهر الفرات ووصل لغاية بكتريان ببلاد العجم، فأرجع إلى مصر تماثيل الآلهة المصرية التي كان سلبها كمبيز من مصر، وضم إلى مصر الجزء الشمالي من بلاد الإثيوبية لغاية مدينة إبريم.
أما من بعده فقد ابتدأ انحطاط هذه الدولة؛ فإن الملوك الذين خلفوه كانوا قد تولوا جميعا في حداثة سنهم، فتركوا أمور المملكة في يد أوصيائهم عليها يديرونها حسب أغراضهم، ولم يلتفتوا إلا إلى اللذات والشهوات، فابتدأ حينئذ اختلال المملكة، وسقطت شوكتها الخارجية فطمع فيها جيرانها، ووقعت الحروب بين ملوكها وملوك الشام على الدوام، فالتزموا بأن يوسطوا دولة الرومانيين في الخلاف بينهم وبين هؤلاء الملوك، حيث كانت هي الدولة ذات السطوة في ذاك الوقت التي لها الكلمة النافذة على جميع ممالك البحر الأبيض المتوسط، فابتدأ تداخل الرومانيين حينئذ في أمور المملكة، ثم لما وقعت فيها الفتن والثورات لازدياد اختلالها وانهماك ملوكها على ملاذهم الشهوانية التزم هؤلاء الملوك بأن يخضعوا للسلطة الرومانية، ويحكموا برعاية مجلس رومة لهم لخوفهم من أهالي الإسكندرية، فارتبطت أمور مصر حينئذ بالدولة الرومانية حتى آل الأمر أخيرا إلى أن تملكت عليها هذه الدولة بعد موت قليوبطرة آخر ملوك هذه العائلة، فصارت مصر إيالة رومانية تحكم بعمال من الرومانيين.
الباب الثالث
في ذكر مصر تحت حكم الرومان، وفيه فصلان
إن الدولة التي أفرغت فيها دولة الإسكندر تقريبا هي الدولة الرومانية؛ فقد ورثت هذه الدولة ذاك الفاتح المقدوني في ممالكه الواقعة على البحر الأبيض المتوسط، وامتدت فتوحاتها على جميع البلاد الواقعة على هذا البحر، وإليها انتهى تمدن الأمم القديمة، وبها انتقل من المشرق إلى المغرب، وقد حكمت على مصر 411 سنة (652-241ق.ه)، وهذه المدة هي التي كانت فيها مصر تابعة لرومة؛ أي لدولة الرومانيين قبل انقسامها ، فلما انقسمت هذه الدولة إلى دولة رومانية شرقية وإلى دولة رومانية غربية صارت مصر أيضا تابعة للدولة الرومانية الشرقية نحو 259 سنة (241ق.ه-18ب.ه)، وهذه المدة تسمى بمدة النصرانية؛ لأن المصريين كانوا فيها قد اعتنقوا الديانة المسيحية، وأما في سائر المدد السابقة فكانت ديانة مصر الوثنية؛ ولذا مجموعها يعبر عنه بمدة الوثنية.
الفصل الأول
Unknown page
في فتوح الرومانيين لمصر وحكمهم بها
لا زال نفوذ الرومانيين يزداد بمصر، ولا زالت ملوك مصر تتقرب من هذه الأمة لكثرة عصيان المصريين عليهم، حتى كانت أيام بطليموس الحادي عشر الملقب أوليطيس، أي الزامر، فأوصى قبل موته بملك مصر لأكبر أولاده وكبرى بناته بشرط عقد الزواج بينهما وأن يكون الوصي عليهما الأمة الرومانية، فلما مات خلفته قليوبطرة، وحكمت بالاشتراك مع أخيها بطليموس الثاني عشر الملقب بطليموس دنيس، أي الخمار، حسب وصية أبيهما، وكانت إذ ذاك الدولة الرومانية بين يدي أميرين من أمرائها مشتركين في حكومتها؛ وهما يوليوس قيصر وبمبيوس، وكانت قد ظهرت بينهما العداوة وحصل بينهما الفشل بعد موت شريكهما الثالث أقراسوس، فوقعت بينهما الحروب، وهرب بمبيوس من رومة إلى بلاد اليونان، فتبعه فيها يوليوس قيصر وهزمه، فهرب بمبيوس إلى مصر ملتجئا إلى بطليموس دنيس ظنا منه أنه يجيره؛ حيث كان هو الذي أجلسه على كرسي المملكة، وكان بطليموس المذكور منفردا بملك مصر إذا ذاك؛ فإن أهالي الإسكندرية كانوا قد ثاروا على أخته قليوبطرة، فهربت منهم إلى بلاد الشام، فلما قدم بمبيوس مصر أرى لبطليموس وزراؤه أن لا يوقع نفسه في ورطة الاشتراك معه، فأرسل له بطليموس جماعة لاستقباله وأمرهم بقتله، فقتلوه عند حضوره إلى شاطئ مصر.
ولما حضر يوليوس قيصر إلى الإسكندرية مقتفيا أثر خصمه قدم له وزراء بطليموس رأس بمبيوس، فغضب يوليوس من هذا الفعل الشنيع ولم يستحسنه، فلما رأى منه ذلك وزراء بطليموس تجاسروا بمحاصرته في السراي الملوكية بالإسكندرية لقلة عساكره، فبقي محصورا بها حتى أتته الإمدادات، ثم هزم المصريين وغرق بطليموس في النيل، فأرجع قليوبطرة إلى الملك حيث كان أحضرها معه من الشام ليصلح بينها وبين أخيها، وأشرك معها في الحكم أخاها الثاني بطليموس الثالث عشر الملقب بطليموس الشاب، حسب وصية بطليموس الزامر، إلا أنها قتلته مسموما بعد سفر قيصر من الإسكندرية، وانفردت بملك مصر.
وأما يوليوس قيصر فقد رجع إلى رومة بعد أن قهر أحزاب خصمه وعليه من العظمة والكبرياء ما خوف منه أعضاء المجلس الروماني، وصارت في يده أزمة الحكومة الرومانية، فرام قلب الجمهورية واستعاضتها بالملوكية ليكون ملكا، وكان الرومانيون يكرهون ذلك، فتآمر عليه أعضاء مجلس رومة وقتلوه، فوقعت الحكومة الرومانية بعده في أيدي ثلاثة أمراء أخر بالاشتراك بينهم؛ وهم أقطاوس ابن بنت أخته، الذي كان قد تبناه لعدم خلفه، وأنطنيوس وليبيدس من قواد جيوشه، فاقتسموا ممالك الدولة الرومانية، وكانت مصر من قسم أنطنيوس. غير أن أقطاوس لم يلبث أن جرد ليبيدس من ولايته، ثم التفت إلى أنطنيوس، فتظلم منه لمجلس رومة بأنه أطال المكث مع قليوبطرة وترك مصالح رومة، وتحصل من المجلس على إعلان الحرب لملكة مصر، فانتشبت الحرب بحرا بين أقطاوس وبين قليوبطرة وأنطنيوس على شواطئ بلاد اليونان، فهربت قليوبطرة بما معها من المراكب المصرية إلى الإسكندرية، فتبعها أنطنيوس، ولما وصلا إلى الإسكندرية شرعا في الاستعدادات الحربية. غير أن قليوبطرة رأت من مصلحتها أن تنضم إلى الأقوى، فأرسلت إلى أقطاوس تتحبب إليه، وسلمت إليه مدينة الفرما التي هي مفتاح الديار المصرية أملا في أن تفتنه كما فتنت من قبله قيصر ثم أنطنيوس، فلما خاب ظنها في ذلك وأيست منه بالكلية قتلت نفسها سنة 652ق.ه، حتى لا تقع أسيرة في يد عدوها، وكان أنطنيوس قد قتل نفسه قبلها حتى لا يعيش بعدها، فدخلت مصر حينئذ في حوزة الرومانيين، وصارت إيالة رومانية، فصاروا يرسلون إليها عمالا من قبلهم يعينهم مجلس رومة، وكان العامل منهم بيده جميع السلطة الإدارية والعسكرية وتابعا مباشرة لمجلس رومة؛ أي ليس فوقه في الدرجة إلا مجلس رومة أو قيصر الرومانيين، وليس تابعا لحكمدار عموم المشرق.
وقد أتى على مصر في تلك المدة بعض أيام سعيدة، إلا أنها كانت في غالب أوقاتها لم تتمتع براحة ما، ولم يستمر فيها إلا الاختلال وعدم النظام، فكانت دائما مخضبة بدماء أهلها بسبب ما يقع فيها من المجادلات الدينية والاضطهادات ضد النصارى، حتى إنه لكثرة ما وقع بمصر من المآثم والمظالم في أيام دقلطيانوس أرخ المصريون بحكمه على الرومانيين، وهو التاريخ الذي يسمونه تاريخ الشهداء، وتؤرخ به القبط إلى الآن، وهو يبتدئ من 13 يونيو سنة 284ب.م، ويوافق سنة 339ق.ه وتسعة وثلاثين يوما.
وما زال النواب الرومانيون على مصر متصرفين تصرف القيصر؛ أي إن الواحد منهم كان فاعلا مختارا مرخصا في الملكية والعسكرية إلى أيام قسطنطين الذي نقل تخت مملكة الرومانيين إلى القسطنطينية، فغير حالة مصر الإدارية بأن فصل الإدارة الملكية عن الإدارة العسكرية، فعهد برئاسة الجيوش إلى قائد عسكري يعينه القيصر، وقصر المتصرف السياسي على إدارة الأقاليم والاشتغال بأعمال الري، ونقل الغلال إلى القسطنطينية، غير أنه لم تزل البلاد مضطربة لما يقع فيها من الفتن الدينية إلى سنة 241ق.ه؛ ففي تلك السنة أصدر القيصر طيودوسيس الذي كان حاكما بالقسطنطينية أمرا بمحو الديانة المصرية القديمة والتمسك بالديانة النصرانية، وأمر بهدم الهياكل المصرية والمعابد الأهلية، وكلف الأسقف تيوفيل بطريرق الإسكندرية بتنفيذه، فحمله التعصب على أن يفعل من العنف والجبروت ما لم يسمع بعمله في وقت آخر لمحو آثار ديانة صابئة؛ فقد أعدم ما صنع من الفنون المصرية، وكسر الأصنام وأبواب المعابد، وشتت كتب الكتبخانة التي كانت من أنفس الكنوز العلمية القديمة حتى سبب ذلك دمار ما كان يمكن أن يبقى إلى الآن من العلوم المصرية، فانتهت حينئذ المدة الوثنية وابتدأت مدة النصرانية، وهي مدة حكم مصر بالدولة الرومانية الشرقية؛ أي الدولة السفلى.
الفصل الثاني
في ذكر مصر مدة حكم الدولة السفلى، وهي مدة النصرانية
قد انقسمت دولة الرومانيين بعد موت طيودوسيس إلى دولة رومانية غربية بمدينة رومة تحت حكم ابنه هونوريوس، وإلى دولة رومانية شرقية بمدينة القسطنطينية تحت حكم ابنه أرقاديوس، وصارت مصر تابعة للدولة الرومانية الشرقية المسماة أيضا بالدولة السفلى، ولم تزل تحت حكمها إلى أن فتحها المسلمون سنة 18 هجرية في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فانتهت حينئذ مدة النصرانية وابتدأ مدة الإسلام.
الجزء الثاني
Unknown page
في تاريخ مصر بعد الإسلام
المقدمة
قد صارت مصر أولا بعد أن فتحها المسلمون جزءا من الدولة العربية؛ دولة الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين؛ أعني ولاية يرسلون إليها عمالا من طرفهم، ثم استقلت تحت حكم ثلاث عائلات مستقلة؛ وهي الدولة الفاطمية والدولة الأيوبية ودولة المماليك، ثم دخلت في حوزة الترك حين تغلب عليها السلطان سليم، فصارت إيالة عثمانية، ولم تزل كذلك إلى الآن، وإن كانت مستقلة استقلالا إداريا من عهد الهمام الأكبر محمد علي باشا، وقبل أن نشرع في التكلم على هذه الدول نذكر أولا كيف نشأت الدولة العربية بظهور النبي
صلى الله عليه وسلم
فنقول:
إن أمة العرب تنقسم إلى ثلاثة أقسام: عاربة ومتعربة ومستعربة؛ فالعرب العاربة، ويقال لهم: البائدة، هم العرب الأول الذين ذهبت عنا تفاصيل أخبارهم لتقادم عهدهم، وهم قوم عاد وثمود وطسم وجديس وجرهم الأولى. والعرب المتعربة هم بنو قحطان ولد سام بن نوح عليهما السلام، وكانوا يسكنون أولا جنوب بلاد العرب بجهة اليمن وعمان، ثم انتشرت قبائلهم في جميع أنحاء الجزيرة سيما بعد سيل العرم؛ فقد كان منهم قبيلة جرهم الثانية الذين نزلوا بمكة من عهد إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام واتحدوا به، فربي في أحيائهم وتزوج منهم، وكانت لهم سدانة البيت مدة من الزمن بعد بنيه وقبيلة خزاعة الذين نزلوا بمكة أيضا بعد سيل العرم، وأخذوا سدانة البيت من جرهم وأقاموا فيها نحوا من ثلاثمائة سنة حتى رجعت لبني إسماعيل، حيث أخذها قصي القرشي من أبي غبشان الخزاعي سنة 507م، ثم قبيلتا الأوس والخزرج اللتان سكنتا يثرب ودعيتا بالأنصار في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم
وغيرهم، وقد كان هؤلاء العرب من بني قحطان يغلب عليهم الميل إلى الحضارة فسكنوا المدن وأسسوا الممالك، فكان منهم التبابعة ملوك اليمن، والمناذرة ملوك الحيرة والأنبار، والغساسنة ملوك الشام، وقد خضعوا بعضا من الزمن للسلطة الأجنبية؛ فقد كان الغساسنة عمالا للرومانيين، والمناذرة كذلك عمالا للعجم الذين تسلطوا أيضا على اليمن مدة من الزمن بعد طردهم الحبشة منها. وأما العرب المستعربة فهم بنو إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام، وكانوا يسكنون نجد والحجاز؛ أي أواسط جزيرة العرب، وكان أكثر ميلهم إلى البداوة، فعاشوا قبائل متفرقة في تلك النواحي، ولم يخضعوا قط لسلطة أجنبية، وكانت أشهر قبائلهم قبيلة قريش، فقد بلغت في القرن السادس من الميلاد مبلغا عظيما من الشرف وعلو الكلمة حيث آلت إليهم سدانة البيت الحرام بعد خزاعة حتى صار لهم نوع من السلطة والمشورة على جميع قبائل العرب، وفيهم نشأ النبي
صلى الله عليه وسلم
من بني هاشم؛ فقد ولد عليه الصلاة والسلام بمكة سنة 570 ميلادية، وكانت ولادته يوم الاثنين لعشر خلون من ربيع الأول، وقد مات أبوه عبد الله بن عبد المطلب بيثرب، وله من العمر شهران، وقيل قبل ولادته بشهرين، فحضنته أمه آمنة بنت وهب سيد بني زهرة، حتى بلغ من العمر ست سنوات، ثم كفله بعد أن ماتت بالأبواء بين مكة والمدينة جده عبد المطلب بن هاشم سيد بني هاشم وأمير قريش حتى بلغ من العمر ثمان سنوات، فتوفي جده عبد المطلب وقام بكفالته عمه أبو طالب شقيق أبيه، فخرج به في تجارة له إلى الشام وعمره ثلاث عشرة سنة، فلما نزلوا بصرى خرج إليهم راهب اسمه بحيرا من صومعته وأخذ النبي
Unknown page
صلى الله عليه وسلم
من يده وقال لعمه: «سيكون لهذا الصبي شأن عظيم؛ ينتشر ذكره في مشارق الأرض ومغاربها.»
ولما كمل له من العمر خمس وعشرون سنة صار اسمه في قومه الأمين؛ لما جمع فيه من الأمور الصالحة، فعرضت عليه خديجة بنت خويلد وكانت ذات شرف ويسار أن يخرج بمالها تاجرا إلى الشام، فأجابها إلى ذلك وخرج، ثم رغبت فيه وعرضت نفسها عليه فتزوجها وعمرها يومئذ أربعون سنة، وأقامت معه إلى أن توفيت بمكة اثنتين وعشرين سنة، ولم يتزوج عليها في حياتها، وأولاده منها القاسم والطيب والطاهر وعبد الله وقد ماتوا صغارا، وفاطمة زوج علي بن أبي طالب، وزينب زوج أبي العاص، ورقية وأم كلثوم تزوج بهما عثمان بن عفان واحدة بعد الأخرى، وأما إبراهيم فمن مارية القبطية وقد مات صغيرا أيضا، ولما كمل له أربعون سنة أرسله الله تعالى للناس كافة بشيرا ونذيرا، وأيده بجميع المعجزات التي أيد بها المرسلين قبله، وخصه بالقرآن الكريم الذي هو أعظم المعجزات، المحفوظ من كل طارئ ما دامت الأرضون والسموات، فأظهر الدعوة، فكان أول من آمن به خديجة زوجته وعلي ابن عمه وزيد مولاه وأبو بكر صديقه، ثم دعا أبو بكر بعضا من أشراف قريش منهم عثمان بن عفان إلى الإسلام فأسلموا، وجاء بهم إلى النبي فآمنوا به، ثم صار يزداد عدد المؤمنين يوما فيوما؛ فأسلم عمه حمزة، وأسلم عمر بن الخطاب وكان من أشد المعارضين له
صلى الله عليه وسلم ، فازداد غيظ قريش وصارت كل قبيلة تعذب من آمن منها، فأذن النبي
صلى الله عليه وسلم
لمن ليس له عشيرة تحميه في الهجرة إلى الحبشة، وأما هو عليه الصلاة والسلام، فقد منع عنه عمه أبو طالب إيذاء قريش، فلما مات أبو طالب عمه (619م)، وماتت خديجة زوجته (620م)، أصابته قريش بعظيم من أذى، فعزم على أن يترك مكة للقرشيين، فذهب أولا إلى الطائف، ثم عاد إلى مكة ومنها هاجر إلى المدينة وهي يثرب بعد أن بايع أهلها بيعتي العقبة على منعه من أعدائه، فأمر المؤمنين بالمهاجرة إليها، وخرج هو مع أبي بكر فأقاما ثلاثة أيام بغار في جبل ثور على بعد ثلاثة أميال من مكة جنوبا، ثم وصلا إلى المدينة بعد ستة أيام، ولحقهما بها علي بن أبي طالب؛ ولذا دعي أهل المدينة بالأنصار وأهل مكة بالمهاجرين، وكانت الهجرة في 8 ربيع الأول من السنة الرابعة عشرة من بعثته
صلى الله عليه وسلم (16 يوليو سنة 622م).
وفي السنة الثانية منها كانت غزوة بدر، وفي الثالثة حصلت وقعة أحد، وفي الثامنة أسلم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وفتحت مكة، فأمر النبي
صلى الله عليه وسلم
المسلمين أن لا يقتلوا فيها إلا من قاتلهم، وأمن من دخل المسجد ومن أغلق على نفسه بابه وكف يده ومن تعلق بأستار الكعبة سوى قوم يؤذونه، وأسلم أبو سفيان، وهو عظيم مكة، من تحت السيف، وفي السنة العاشرة حج عليه الصلاة والسلام حجة الوداع، ثم وعك ومرض، وتوفي يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة 11 من الهجرة بعد أن نصح الأنام، وبلغ الرسالة إلى جميع العالم، وكاتب بها الملوك
Unknown page
صلى الله عليه وسلم
وكان عمره ثلاثا وستين سنة.
وقد توفي عن تسع من الزوجات غير مارية سريته، أشهرهن عائشة بنت أبي بكر، وجملة زوجاته خمس عشرة، جمع بين إحدى عشرة منهن، ولما توفي أراد أهل مكة من المهاجرين رده إليها لأنها مسقط رأسه، وأراد أهل المدينة من الأنصار دفنه بالمدينة لأنها دار هجرته ومدار نصرته، ثم دفنوه بالمدينة في حجرته حيث قبض، ثم اجتمع المهاجرون والأنصار للمبايعة بالخلافة فبايعوا أبا بكر الصديق، وكان أول من بايعه عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
الباب الأول
في الدولة العربية ومصر مدة حكمها، وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول
وفيه مطلبان:
المطلب الأول في ذكر الخلفاء الراشدين
الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم أجمعين أربعة: أبو بكر الصديق (11-13ه) وعمر بن الخطاب (13-23ه) وعثمان بن عفان (23-35ه) وعلي بن أبي طالب (35-41ه) بويع لهم بالخلافة الواحد بعد الآخر من بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم
Unknown page
فقاموا بالأمر من بعده على التعاقب مدة ثلاثين سنة نشروا في أثنائها الديانة المحمدية نشرا عظيما، وأوسعوا الدولة الإسلامية اتساعا غريبا؛ فقد كانت مدتهم أعظم المدد الإسلامية في تعظيم الدين ونشره بالفتوحات خصوصا خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه هو الذي فتح معظم فتوحات تلك المدة؛ فإن أبا بكر لقصر مدته وخروج معظم قبائل العرب في مبدأ الأمر عن طاعته لم يتمكن إلا من فتوح بلاد العراق وجزء صغير من بلاد الشام، فإنه بعد أن رد القبائل المرتدة إلى الطاعة وأوجد وحدة بلاد العرب على يد خالد بن الوليد وغيره من الأمراء أمر هذا القائد بالمسير إلى بلاد العراق فافتتحها، وتملك على الحيرة والأنبار، ثم سيره أبو بكر رضي الله عنه من هناك إلى بلاد الشام لمساعدة أبي عبيدة بن الجراح الذي كان أرسله لفتوح تلك البلاد، فافتتحا بعض بلادها، فلما تولى الخلافة عمر بن الخطاب أتم فتوحها على أيدي هذين القائدين وذهب بنفسه للمعاهدة مع بطريرق بيت المقدس، ثم افتتح أرض الجزيرة، فصارت حينئذ جميع قبائل العرب بدون استثناء أمة واحدة خاضعة لأمير واحد، ثم دخلت جيوشه بلاد أرمينية، ووصلت إلى بلاد القوقاز، وقد سير عمرو بن العاص لفتوح مصر ففتحها، وضم إليها برقة وبلاد النوبة، وأرسل سعد بن أبي وقاص لفتوح بلاد العجم، فوصل العرب إذ ذاك إلى حدود بلاد الهند، ودخل في حوزتهم خراسان وخوارزم، ثم زاد عثمان بن عفان رضي الله عنه على ذلك أفريقية التي افتتحها عبد الله بن أبي سرح عامله على مصر، وجزائر قبرص وكريد وكوس ورودس بالبحر الأبيض المتوسط التي افتتحها معاوية عامله على الشام، فصارت مملكة العرب ممتدة حينئذ من حدود بلاد الهند شرقا إلى البحر الأبيض المتوسط وبلاد أفريقية غربا، ومن شواطئ نهر جيحون وبحر الخزر شمالا إلى الأقيانوس الهندي وبلاد النوبة جنوبا.
هذا ومع عظم هذه الدولة وما كان عليه هؤلاء الخلفاء من السلطة والشوكة، فإنهم لم يخرجوا عن حالة الزهد والقناعة التي كانوا عليها أيام النبي
صلى الله عليه وسلم ؛ فلم يلتفتوا إلى زينة أو فخار أو ثروة، بل استمروا على عيش الكفاف والأخذ بناصر الضعيف والنظر إلى الفقراء والمساكين؛ فإن عمر رضي الله عنه لما سافر من المدينة إلى فلسطين للتملك على بيت المقدس لم يصحب معه سوى غلام له، وكان راكبا على ناقة يتناوبها مع غلامه حاملا على مقدم رحلها حقيبتين مملوءة إحداهما دقيقا والأخرى تمرا، ومعلقا عليه مزادة ماء، وكان يتصدق من ذلك على من صادفه في طريقه. وقد كان هؤلاء الخلفاء رضي الله عنهم يقضون في الأحكام بغاية الحكمة والعدالة ؛ فإنهم كانوا يسوون بين الغنى والفقير، والرفيع والحقير؛ يؤيد ذلك ما وقع في أيام عمر رضي الله عنه؛ حيث قال لجبلة بن الأيهم ملك الغسانيين حين اشتكاه إليه رجل: إما أن ترضيه بالمال أو يلطمك كما لطمته. فقال له جبلة: ألا يفضل عندكم ملك على سوقة؟ قال: كلا، بل كلاهما في الحق سواء. وقد بويع لهم جميعا بالمدينة فاتخذوها مركزا لحكومتهم، إلا عليا رضي الله عنه؛ فإنه انتقل منها إلى الكوفة ببلاد العراق ليتمكن من إقماع الذين خرجوا عن طاعته، ولم يزل بها حتى قتل، فبويع لابنه الحسن بها، فلم يلبث أن تنازل عن الخلافة لمعاوية أمير الشام، فانتقلت الخلافة حينئذ إلى بني أمية.
المطلب الثاني
في ذكر عمرو بن العاص وفتوح العرب لمصر
قد كان فتوح العرب لمصر في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب؛ فإنه بعد أن عاد إلى المدينة من فتوح بيت المقدس رد معه من جيش الشام عمرو بن العاص ليسيره إلى مصر، وكان عمرو بن العاص هو الذي يحرض أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على فتوحها، وكانت مصر إذ ذاك تابعة لمملكة الرومانيين الشرقية التي كان تخت ملكها بمدينة القسطنطينية، وكان عليها عاملان من قبل هرقل قيصر الرومانيين؛ أحدهما وهو الحاكم على الأقاليم البحرية كان من القسطنطينية ومقيما بسكندرية، والآخر وهو الحاكم على أقاليم مصر الوسطى كان يدعى المقوقس ومقيما بمدينة منف، وكان يوناني الأصل مصري المولد.
فلما أمر عمر بن الخطاب عمرو بن العاص بالمسير إلى مصر جهز له جيشا مؤلفا من أربعة آلاف رجل، فسار عمرو بهذا الجيش قاصدا أرض مصر سنة 18ه، فلما بلغ رفح، وهي قرية تبعد عن العريش بعشر ساعات، وصله كتاب من أمير المؤمنين يأمره فيه بالانصراف عن مصر إن لم يكن قد دخلها، فلم يفتحه عمرو بن العاص حتى وصل إلى العريش، ففتحه وتلاه على الجمهور بعد صلاة الفجر، ثم سار حتى وصل إلى مدينة الفرما، فحاصرها شهرا وتملك عليها، ثم تقدم إلى بلبيس وتملك عليها بعد أن حاصرها نحو شهر أيضا، وأسر بها أرمانوسة بنت المقوقس، وسيرها إلى أبيها مكرمة في جميع مالها، ثم سار قاصدا مدينة منف فوصل إلى حصن بابل، وهو حصن على الشاطئ الأيمن للنيل، بينه وبين الجبل المقطم في الشمال الشرقي لمنف، متصل بجزيرة الروضة بواسطة جسر من الخشب، كما أن هذه الجزيرة متصلة بالشاطئ الغربي بواسطة جسر آخر، وكان المقوقس قد تحصن فيه بعساكر المصريين لمقاومة العرب، فنزل عمرو برجاله فيما بين الحصن والجبل المقطم، وأخذ في المهاجمة عليه مدة فأبطأ عليه فتحه، فكتب إلى الخليفة يستمده فأمده بأربعة آلاف عليهم أربعة من القواد؛ وهم الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود وعبادة بن الصامت ومسلمة بن مخلد أو خارجة بن حذافة، على القولين، وشدد الحصار على الحصن، فلما رأى المقوقس إقدام العرب وصبرهم على القتال ورغبتهم فيه، خاف أن يظهروا على رجاله، فعمد برجاله إلى باب الحصن الغربي على ضفة النيل، وعبروا على الجسر إلى الجزيرة تاركين نفرا قليلا في الحصن، أما العرب فقد تسوروا الحصن، وفي مقدمتهم الزبير بن العوام، فهرب من بقي فيه، فنزل الزبير وأصحابه إلى باب الحصن ففتحوه، وتملكوا على الحصن بعد أن حاصروه سبعة أشهر، ثم عمدوا إلى الجسر فتعقبوا القبط إلى الجزيرة، فسار هؤلاء إلى منف عاصمة ولايتهم، وبعد أن عبروا النيل رفعوا الجسر عنه فتوقف العرب عن تعقبهم؛ حيث لم يستطيعوا عبور النيل، فأخذ المقوقس حينئذ في مكاتبة عمرو بأمر الصلح، فبعث إليه عمرو عشرة أنفار في مقدمتهم عبادة بن الصامت للمخابرة معه على أن يقبلوا واحدة من ثلاث: إما الإسلام أو الجزية أو الجهاد، ثم اجتمع عمرو والمقوقس وعقدوا معاهدة الصلح على أن يعطى للمصريين الأمان على أنفسهم وأموالهم وأولادهم، وهم يدفعون الجزية للمسلمين.
ولما تم التعاهد بين المسلمين والقبط هاجر جميع من كان بين هؤلاء من الروم ملتجئين إلى الإسكندرية، أما عمرو فعزم على النزول على الإسكندرية، وكانت محصنة تحصينا عظيما، وبها كثير من العسكر، فأمر عسكره بالرحيل إليها، فبينما هم يحملون للمسير وإذا بعمرو قد أخبر بأن زوج يمام قد باض على خيمته وأشرف على الفقس، فأمر عمرو بترك المخيمة قائمة إلى حين رجوعه من فتوح الإسكندرية، ثم سار قاصدا هذه المدينة، فحاصرها المسلمون أشهرا وهم لا يتمكنون من فتحها لشدة تحصينها، ثم ضيق عمرو الحصار عليها حتى التزم المحاصرون بعقد الصلح بعد مدافعة شديدة، فسلموا المدينة بعد حصارها أربعة عشر شهرا، فدخل عمرو مدينة الإسكندرية في أول يوم جمعة من شهر المحرم سنة 20 هجرية وقت صلاة الجمعة، ثم كتب لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب يخبره بفتوحها وما تحتوي عليه، فكتب إليه عمر يهنئه بالظفر، وولاه عاملا على الديار المصرية، فوضع الحرس الكافي في الإسكندرية، ورجع إلى الموضع الذي كان ترك فيه خيمته وعسكر هناك بجيوشه على شاطئ النيل، فبنت العسكر في أول الأمر حول الخيمة أكواخا صغيرة، ثم شيدت الأمراء ورؤساء الجيوش قصورا مشيدة، فتكون من مجموع هذه المباني مدينة عظيمة سميت بالفسطاط، ومعناه الخيمة؛ حفظا لذكر الحادثة التي كانت سببا في تأسيسها، فجعلها عمرو عاصمة مصر، واتخذها مركزا لإقامته، وبنى بها جامعه الموجود باسمه في مصر العتيقة الآن، وتفرغ حينئذ لترتيب الحكومة، فقسم مصر إلى مقاطعات، وجعل على الإسكندرية المقوقس، وعلى الوجه القبلي عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وتولى بنفسه صلات خراجها، وكان قد جعل على كل فرد من الأهالي دينارين جزية، خلا الشيوخ والنساء ومن لم يبلغ الحلم، فجبى من الأموال سنويا 12 مليون دينار، وقد أمره عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأن يحفر خليجا من الفسطاط إلى البحر الأحمر لسهولة النقل إلى مكة والمدينة، فحفره وسماه خليج أمير المؤمنين، ولم يزل عاملا على مصر حتى عزله عثمان بن عفان سنة 26 هجرية، وولى مكانه عبد الله بن أبي سرح، فثقل الضرائب على الأهالي حتى وصلت إلى 14 مليون دينار سنويا، ثم تولى عليها قيس بن سعد ثم محمد بن أبي بكر من قبل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم عاد إليها عمرو سنة 38 هجرية من قبل معاوية ، فلم يزل واليا عليها حتى مات سنة 43 هجرية.
الفصل الثاني
وفيه مطلبان:
Unknown page
المطلب الأول في الدولة الأموية
أقامت هذه الدولة إحدى وتسعين سنة (41-132 هجرية) تحت حكم أربعة عشر خليفة؛ أولهم معاوية بن أبي سفيان الذي كان ولاه عمر بن الخطاب عاملا على بلاد الشام، وأقره عليها عثمان بن عفان مدة خلافته، ثم خرج على علي بن أبي طالب حين تولى الخلافة، ووقعت بينهما حروب عديدة، فلما قتل علي وتنازل ابنه الحسن عن الخلافة استقر أمرها لمعاوية، فانتقل حينئذ مركز مملكة العرب إلى بلاد الشام بمدينة دمشق، وانحرفت المملكة العربية عن منهج الخلافة البسيط إلى أبهة الملك وعظمته، ثم انتقلت الخلافة أيضا من الحالة الانتخابية إلى الحالة الوراثية؛ حيث عهد بها معاوية إلى ابنه يزيد، فهاجت الأمة الإسلامية حينئذ، ولاقى بنو أمية من أهل العراق والحجاز مقاومة عظيمة؛ فإنه بموت معاوية أحضر أهل العراق الحسين بن علي من المدينة ليبايعوه بالخلافة، فقدم إليهم في سبعين نفرا من عائلته. غير أنه لما وصل إلى الفرات قابلته جيوش يزيد عند كربلا، فأحدقت به من كل جانب، فقتل هناك، وأما أهل المدينة ومكة فبايعوا عبد الله بن الزبير خليفة عليهم، فاستمر الاضطراب والشقاق إلى أن كانت أيام عبد الملك بن مروان خامس خلفاء هذه الدولة، فولى الحجاج بن يوسف عاملا على الحجاز، فحارب عبد الله بن الزبير، حتى ظهر عليه وقتله بمكة، ثم صرفه عبد الملك إلى العراق وخراسان وسجستان، فهدأ تلك البلاد، واستتبت الراحة فيها، وحينئذ تفرغت الأمة العربية للفتوحات ثانيا، فأمر عبد الملك حسنا عامله بمصر بفتوح شمال أفريقيا ثانيا الذي كان فتحه عقبة بن نافع في أيام معاوية، وتغلب عليه البربر ثانيا، ثم لما خلفه ابنه الوليد أذن لعامله على بلاد المغرب موسى بن نصير بأن يفتح بلاد إسبانيا، فأرسل موسى أحد المغاربة المدعو طارق بن زياد بجيش إلى تلك البلاد، ثم لحقه بجيش آخر، فأتما فتوحها ومدا مملكة العرب إلى جبال البرنات التي صارت آخر حدود الدولة العربية من جهة الغرب، فإن العرب لما عبروها ودخلوا فرنسا تحت قيادة عبد الرحمن الذي خلف موسى على ولاية المغرب، لم ينجحوا في مشروعهم؛ لأنهم بعد أن وصلوا إلى أواسط هذه البلاد هزمهم كارلوس مارتللو (شارل مارتل) بين طورس وبواطير، فتقهقروا ثانيا إلى الجبال المذكورة.
وأما من جهة الشرق فقد امتدت المملكة العربية إلى بلاد الهند؛ فإنه في عهد هذا الخليفة أرسل الحجاج محمد بن القاسم الثقفي لفتوح بلاد الهند الشمالية، فعبر محمد نهر السند، ووصل إلى جبال هماليا ونهر الكنك. غير أن العرب لم تحفظ هذه البلاد، فكانت هذه الفتوحات آخر تقدم العرب شرقا وغربا في فتوحاتهم التي انقطعت من يومئذ، وآخر ما وصلت إليه دولتهم من الامتداد، فإنها كانت إذ ذاك في غاية عظمها، ونهاية اتساعها ممتدة من نهر السند ووادي كشمير شرقا إلى الأقيانوس الأطلانطيقي غربا، ومن بلاد التركستان وبحر الخزر وجبال القوقاز والبحر الأبيض المتوسط (الذي يملكون فيه جزائر رودس وقبرص وكريد وجزائر الباليار) وجبال سوينة الجنوبية والبرنات شمالا إلى صحراء أفريقيا، وبلاد الإثيوبية وبحر الهند لغاية مصب نهر السند فيه جنوبا، وهذا الامتداد يبلغ طوله نحو الألف وثمانمائة فرسخا، وهو ما لم تصل إليه دولة قط، وقد وصلت إليه دولة العرب في أقل من مائة سنة.
وبعد أن بلغت دولة بني أمية هذه الدرجة القصوى في أيام الوليد ومن خلفه إلى آخر أولاد عبد الملك، اضطربت أمورها حتى تقوى حزب بني العباس وقدروا أخيرا على إظهار الدعوة لهم بجهة خراسان في أيام مروان الثاني ابن محمد آخر الخلفاء الأمويين، وبويع بالخلافة لأبي العباس السفاح بالكوفة في ربيع الأول سنة 132ه، فوقعت الحرب بين مروان وأبي العباس عند نهر الزاب بقرب الموصل، فانهزم مروان وهرب إلى مصر، فقبض عليه بأبو صير وقتل، فاستولى على الخلافة حينئذ أبو العباس وأوقع القتل في بني أمية، فلم ينج منهم إلا عبد الرحمن الداخل ابن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان؛ فإنه هرب إلى بلاد الأندلس، فأسس فيها دولة أموية جديدة بقرطبة تسمى بالدولة المروانية بعد أن انقرضت دولتهم من الشام وظهرت دولة بني العباس.
المطلب الثاني
في ذكر مصر في عهد الدولة الأموية
ولما آل أمر الخلافة إلى بني أمية دخلت مصر تحت حكم هذه الدولة أيضا، فكان يرسل إليها عمال من طرف الخلفاء ينتخبون أحيانا من أعضاء عائلة الخلافة، وكان مقرهم بمدينة الفسطاط عاصمة مصر في عهد هذه الدولة أيضا، إلا أن الخلفاء كانوا يسرعون في تغييرهم خوفا من أن يستقلوا بالبلاد إذا أقاموا فيها زمنا طويلا؛ فلكثرة تغييرهم كانت البلاد دائما في حالة تقلب واختلاف لم يستقر لها حال؛ ولذا لم نجد شيئا يستحق الذكر في حكم أغلبهم؛ فإن الواحد منهم كان يحضر إلى مصر ثم يصرف عنها بدون أن يبدي فيها شيئا، وقد اشتهر بعضهم بالعدل والإنصاف، والبعض - وهو الأكثر - بالجور والاعتساف.
وكان أشهر من يؤثر عنه بعض الحوادث منهم عبد العزيز بن مروان الذي ولاه عليها أبوه مروان بن الحكم رابع خلفاء هذه الدولة، وأقام بها أكثر من عشرين سنة، فلم تر مصر راحة ولا أمنا كما رأت في أيامه، وهو الذي بنى مقياس النيل الذي كان بحلوان؛ أول مقياس للنيل بناه المسلمون في مصر، وقد تولى بعده على مصر ابن أخيه عبد الله بن عبد الملك بن مروان، فجعلت في أيامه الكتابة في دواوين مصر باللغة العربية بعد أن كانت لا تزال إلى ذاك الحين باللغة القبطية، ثم أسامة بن يزيد الذي ولاه عليها سليمان بن عبد الملك سابع خلفاء هذه الدولة، ولقبه أمير الخراج، فقاست منه الأهالي جميع أنواع الظلم والجور، فإنه لم يهتم إلا في جمع الأموال ولو بقوة السلاح، وجعل على كل من سافر بالنيل ضريبة قدرها عشرة دنانير يشتري بها ورقة مرور بالنهر، حتى جلب عليه ذلك سخط جميع الأهالي، وهو الذي بنى سنة 97 هجرية - بإذن من الخليفة المذكور - مقياس النيل الموجود الآن في الجهة الجنوبية من جزيرة الروضة بدلا من المقياس الذي كان بحلوان وانهدم في السنة المذكورة.
الفصل الثالث
وفيه أربعة مطالب:
Unknown page
المطلب الأول في الدولة العباسية
أقامت هذه الدولة في الخلافة الإسلامية مدة 524 سنة (132-656ه) جلس في أثنائها على كرسي الخلافة سبعة وثلاثون خليفة، أولهم أبو العباس الملقب بالسفاح الذي تغلب على بني أمية وأخذ منهم الخلافة، وبظهورها ابتدأ عصر التمدن والعلوم والمعارف والآداب والفنون والصناعة والتجارة عند الأمة العربية؛ فإنه وإن كان عندما ظهرت هذه الدولة ابتدأ تجزؤ مملكة العرب، فاستقلت إسبانيا بنفسها لتباعدها عن كرسي المملكة بدون أن تجد مقاومة من العباسيين، ولم تلبث بلاد المغرب أن قام فيها مستقلا: الدولة الأغلبية بالمغرب الأوسط، ثم الدولة الإدريسية بالمغرب الأقصى؛ اللتان قامت على أثرهما الدولة الفاطمية، إلا أن أوائل عصرها كانت أعظم أزمان العرب في الشرف رونقا ورفعة، وقد ابتدأ مجدها من أيام أبي جعفر المنصور ثاني خلفائها الذي أسس مدينة بغداد على شاطئ الدجلة سنة 145 هجرية، فصارت عاصمة المملكة من عهده، ومنها انتشرت جميع العلوم والمعارف في سائر البلاد الإسلامية، ووصلت هذه الدولة إلى أعلى درجة المجد والشوكة في أيام هارون الرشيد خامس خلفائها وابنه المأمون سابعهم؛ فقد كانا من أعظم رجال العصر همة وذكاء وعدلا وحبا للترقي والتمدن والعلوم ونشر المعارف وحماية الصنائع وكل ما يئول لعمار البلاد.
ومن بعدها لم تبق شوكة المملكة إلا مدة يسيرة ثم وقعت الخلافة في الفوضوية، وابتدأ زمن انحطاطها من عهد المتوكل على الله عاشر خلفاء هذه الدولة؛ فإن المماليك الأتراك الذين كان أدخلهم في الحرس الملوكي المعتصم ثامن خلفائها كانوا قد كثروا في بغداد، وقويت سلطتهم فاستولوا على المملكة، وصار بيدهم الحل والعقد والولاية والعزل، ثم زادت شوكتهم فاستضعفوا الخلفاء وسطوا عليهم، فكان الخليفة في يدهم كالأسير؛ إن شاءوا أبقوه، وإن شاءوا خلعوه، وإن شاءوا قتلوه، حتى ضعف أمر الخلفاء عند ولاة الأقاليم، فنبذوا طاعتهم واستبدوا بالأحكام فتجزأت المملكة حينئذ ، وظهرت فيها العائلات المستقلة شرقا وغربا؛ فقام في الشرق: الدولة الطاهرية بخراسان، ثم الدولة الصفارية بسجستان وخراسان وطبرستان، ثم الدولة السامانية بخوارزم وما وراء النهر، حتى خرجت جميع آسيا الشرقية من يد الخلفاء. وقام في الغرب: الدولة الطولونية بمصر والشام، حتى عم الاضطراب داخلا وخارجا؛ فكان لا ينقطع من داخل بغداد لوجود الأتراك، ولا من خارجها لكثرة ظهور تلك الإمارات الصغيرة حولها، إما على التعاقب أو في آن واحد، حتى إنه لم تكن أيام الراضي بالله الخليفة العشرين من هذه الدولة إلا وقد أحيطت بغداد من جميع الجهات بإمارات مستقلة؛ فكانت بلاد فارس في يد بني بويه، وأرض الجزيرة وديار بكر في يد بني حمدان، وخراسان وما وراء النهر في يد بني سامان، ومصر والشام في يد الإخشيد، وغير ذلك، ولم يبق في يد الراضي إلا بغداد وما والاها؛ هذا فضلا عن وجود دولتين أخريين يدعيان الحق في الخلافة؛ وهما الدولة المروانية بالأندلس والدولة الفاطمية بالمغرب؛ فكان هاتان الدولتان ينازعانها الإمامة الدينية، والإمارات المذكورة تنازعها السلطة الإدارية التي فقدها الخلفاء كلية حتى في بغداد من عهد الراضي؛ فإنه لخوفه من الأتراك ابتدع وظيفة أمير الأمراء؛ وهي وظيفة وزير أعظم يلقب أمير الأمراء، سلمه الراضي رئاسة الجيوش وإدارة الأموال، حتى صار مطلق التصرف، بيده جميع أمور المملكة، وكان يضاف اسمه إلى اسم الخليفة في الخطبة، فتنازع هذه الوظيفة الأمراء أيضا، فلم تلبث أن وقعت في يد بني بويه، فأقاموا فيها أكثر من مائة سنة، وكانوا هم الحكام في الدولة العباسية حقيقة، ولهم فضل الاستمرار على تنشيط العلوم والمعارف.
وأما الراضي ومن خلفه فتركوا أمور المملكة واقتصروا على قصورهم، فصارت الخلافة إمامة دينية ليس للخلفاء منها إلا الاسم فقط، حتى إنه عندما قامت الدولة الفاطمية بمصر فيما بعد كانت دولة العرب في الشرق تشتمل على ثلاث ممالك مستقلة: الدولة الفاطمية، وهي تدعي الإمامة أيضا، والدولتان البويهية والسامانية، وهما يعترفان بالإمامة للخلفاء العباسيين الذين حفظوا تلك الإمامة الدينية في بغداد إلى مجيء التتار ، وتركوا السلطة الإدارية إلى هاتين الدولتين، ثم إلى الأولى منهما، والدولة الغزنوية التي خلفت الدولة السامانية في آسيا الشرقية، وامتدت من منابع نهر الكنك ونهر السند إلى بحر الخرز ثم إلى الدولة السلجوقية التي خلفتهما وامتدت من حدود الهند إلى بوغاز القسطنطينية ثم تجزأت إلى سلطنات مستقلة، فكان منها سلطنة أيقونية التي صارت تركية آسيا، ونتج عن تجزئها أن حكام الولايات التي كانت تابعة لها المدعوين أتابك؛ أي أمراء استقلوا بولاياتهم، فكان منهم الأتابك عماد الدين زنكي صاحب الموصل أبو نور الدين، فلما قصد بغداد هولاكو أخو مابخوخان ملك التتار والمغول في أيام المستعصم آخر الخلفاء العباسيين ببغداد، وتملك عليها عنوة في صفر سنة 656 هجرية انقرضت الخلافة العباسية من بغداد كلية، وأما بنو العباس فقد انتقلوا إلى مصر واستقروا بها نحو الثلاثة قرون تحت رعاية المماليك، وكان لهم الإمامة وما يتعلق بالأمور الدينية حتى تملك العثمانيون على مصر، فأفضت الخلافة إليهم ولم تزل لسلاطينهم إلى الآن.
المطلب الثاني
في الكلام على تمدن العرب من عهد الدولة العباسية
قد عرفنا ما وصلت إليه دولة العرب من الامتداد والقوة والشوكة في القرن الأول من الهجرة، والآن نتكلم على ما وصلت إليه هذه الأمة من التمدن والمعارف والثروة والرفاهية في القرن الثاني منها، فإن العرب بعد أن فتحوا تلك البلاد الشاسعة، وتحصلوا منها على الأموال الوافرة فترت عندهم تلك الحماسة الأولى فأبطلوا همتهم في الحروب والفتوحات واستعاضوها بمطالعة العلوم ونشر الفنون والصنائع، وصاروا يؤثرون الشغل والتجارة والتمتع بأتعابهم، والسكنى بسلام على الحروب وفتح الممالك، فإن الثروة التي تحصلوا عليها والأموال الوافرة التي صارت بأيديهم عودتهم على الترف ونضارة العيش، فارتاحوا للحياة الرافهة ونعيم الدنيا حتى أسرفوا في التمتع بهما؛ فإن الملكة زبيدة زوجة هارون الرشيد ما كانت تلبس إلا ملابس الحرير، ولا تستعمل إلا أواني الذهب مرصعة بالجواهر النفيسة وأقمشة منسوجة بخيوط من فضة، ويقال: إنه كان يوجد في قصر المأمون من الفرش ثمانية وثلاثون ألف قطعة؛ منها اثنا عشر ألف قطعة وخمسمائة مطرزة بالذهب واثنان وعشرون ألف بساط وسبعة آلاف خصي؛ منهم ثلاثة آلاف من السودان، وغير ذلك من الخدم والمستحفظين، وقد أمر بإقامة شجرة مسمطة من الذهب مرصعة باللؤلؤ على شكل الفاكهة في صالة المقابلة عند مقابلته لسفير الروم.
وهكذا صاروا ينفقون الملايين من الدنانير في بناء المدن اللطيفة والقصور المشيدة والجوامع المزخرفة ويكثرون البذل في عطاياهم وفي حجهم؛ فقد فرق المأمون يوما على خواصه أكثر من أربعمائة ألف دينار، وصرف المهدي في حجة واحدة ستة ملايين دينار. غير أنهم أخذوا ينشطون مع ذلك العلوم والفنون والتجارة، فأول من اعتنى بذلك منهم أبو جعفر المنصور الخليفة الثاني من الدولة العباسية التي بظهورها انقضى عصر الفتوحات، وابتدأ عصر التمدن عند الأمة العربية، ثم حرص على دوام هذه الحركة العلمية خلفاؤه من بعده، حتى إنه لما أفضت الخلافة إلى الخليفة السابع منهم عبد الله المأمون أعظم الخلفاء في المعارف وعلو الفكرة اعتبر المعارف أنها أعظم شيء في سلام الأمة وسعادتها، فأقبل على طلب العلم في مواضعه، وأكثر من فتوح المدارس وتأسيس الكتبخانات، وجعلها عمومية لكل أحد، وجمع العلماء من يونان وفرس وقبط وكلدان، واستحضر الكتب من سائر البلدان، حتى صارت بغداد مقر المعارف ومركز العلوم، فكان يدخل إليها كل يوم مئات من الجمال محملة بالكتب من جميع الأقطار، وكانوا يترجمون أحسنها إلى اللغة العربية، فترجموا جملة مؤلفات يونانية في الفلسفة والفلك والرياضيات، حتى تقدمت عندهم تلك العلوم واكتشفوا فيها اكتشافات مهمة، وبنوا الرصدخانات، ووضعوها فيها الآلات العظيمة المدهشة للعقول، وقد اجتهدوا كثيرا في تقدم علم الطب، فأسسوا الإسبتاليات، وصاروا يمتحنون الأطباء قبل التصريح لهم بالعلاج، وأسسوا معامل للأجزخانات، واكتشفوا كثيرا من النباتات الطبية، وابتدءوا علم الكيمياء، وقد اهتموا أيضا بالعمارة وفن الموسيقى، وكانوا يشرفون الزراعة.
وأما الصناعة فقد تقدمت عندهم تقدما عظيما؛ خصوصا صناعة الآلات الميكانيكية، كما يعلم ذلك من الساعة التي أرسلها هارون الرشيد إلى شارلمان ملك فرنسا، وقد استخرجوا كثيرا من المعادن والأحجار، فاستخرجوا معادن الحديد من خراسان ومعادن الرصاص من كرمان وغير ذلك، واشتهرت عندهم صناعة الأقمشة اللطيفة بالموصل وحلب ودمشق من مدن العراق والشام، وأما صناعة النقش والتصوير، فلم تتقدم عندهم كثيرا لآباء الشريعة لها. غير أنهم أكثروا من وجود الآثارات اللطيفة في المدن الشهيرة مثل بغداد والبصرة والموصل والرقة وسمرقند، حتى فاقوا جميع الأمم المعاصرة لهم في العلوم والفنون والصنائع، فأخذوا في أسباب التجارة، وسعوا في إحداث محطات تجارية في ممالكهم، فكان ذلك سببا لانتشارهم فيما بعد في آسيا وأفريقيا وتقدم قوافلهم شمالا إلى بلاد التتار والمغول على حدود سيبرية وشرقا إلى بلاد الصين وجزائر السوندبالا وقيانوسية، وجنوبا إلى بلاد السودان والزنجبار وموزنبيق ومداغشقر.
المطلب الثالث
Unknown page
في ذكر مصر في عهد الدولة العباسية
ولما أفضت الخلافة إلى بني العباس، صارت مصر تحت حكمهم أيضا؛ حيث كانت جزءا من الدولة الإسلامية، إلا أن حكمهم في مصر لم يمتد إلا إلى سنة 358 هجرية؛ أعني إلى أيام أبي العباس بن المقتدر الملقب بالمطيع لله، وهو الخليفة الثالث والعشرون من العباسيين، وقد استقلت مصر أثناء تلك المدة مرتين استقلالا إداريا؛ فاستقلت أولا نحو سبع وثلاثين سنة تحت حكم العائلة الطولونية حيث انفرد بإدارتها أحمد بن طولون في أيام المعتمد على الله ابن المتوكل الخليفة الخامس عشر منهم، وأسس فيها الدولة الطولونية، ثم دخلت في حوزة العباسيين ثانيا في عهد المكتفي بالله بن المعتضد الخليفة السابع عشر منهم، واستمرت نحت سلطتهم إلى أيام الراضي بالله، فولى عليها أبا بكر محمد بن طغج عاملا من قبله، فاستقل أيضا بإدارتها وتلقب بالإخشيد، وأسس فيها العائلة الإخشيدية التي أقامت أربعا وثلاثين سنة إلى تغلبت على مصر الدولة الفاطمية في عهد الخليفة العباسي المطيع لله، فخرجت مصر بالكلية من يد العباسيين.
وقد استعمل بنو العباس نفس السياسة التي استعملها بنو أمية في كيفية انتخاب العمال وفي سرعة تغييرهم؛ فاستمرت مصر في أيامهم على الحالة التي كانت عليها في أيام بني أمية، وزاد بنو العباس في سياستهم حتى نتج عنها أن العمال صاروا لا يجتهدون مدة إقامتهم بمصر إلا في الحصول على المنفعة الشخصية كالثروة وغيرها، بدون نظر إلى مصلحة البلاد.
ومن مآثر هذه الدولة بمصر بناء مدينة العسكر التي جعلت مركزا لحكومة مصر في عهدها؛ وهي مدينة صغيرة تحتوي على طرق منظمة وأسواق، وبيوت مشيدة مسكونة جميعها بالعساكر، كانت توجد في شمال الفسطاط خارج سوره، وتتصل شمالا بهضبة قليلة الارتفاع تسمى جبل يشكر، وتنتهي غربا عند النقطة المسماة قنطرة السباع، أسسها أبو عون عبد الملك بن يزيد الذي حضر إلى مصر مع صالح بن علي ليقتفي أثر مروان الجعدي؛ وذلك أن جيشه كان قد نزل بتلك الجهة فأمر أصحابه بالبناء فيها، فابتنوا فيها تلك المدينة الصغيرة التي دعيت بالعسكر، ثم بنيت فيها دار الإمارة التي صار ينزل فيها أمراء مصر من بعد أبي عون إلى أن بني أحمد بن طولون القطائع وأقام فيها قصره، فانتقل تخت مصر إلى هذه المدينة.
ومن مآثر هذه الدولة أيضا الزيادات التي أضافها المأمون عند مجيئه مصر إلى مقياس النيل الذي أسسه أسامة بالروضة؛ فقد عمل له قبة مشيدة البناء، وهو الذي أسس الحوض والعامود الموجودين إلى الآن بالمقياس المذكور، وكتب الكتابة الكوفي الموجودة بأوجه الحوض من داخله التي لم يزلها إلى الآن تمادي الزمن، ثم تجديد بناء مقياس النيل بالفسطاط في أيام المتوكل على الله؛ حيث كان انهدم بزلزلة في أيامه فأمر ببنائه جديدا وسمي بالمقياس الجديد.
المطلب الرابع
في الدولتين الطولونية والإخشيدية، وفيه فرعان
لم تكن هاتان الدولتان من الدول الملوكية، وإنما هما عائلتان أصلهما من عمال الدولة العباسية على مصر، فاستقلتا بها كما استقل غيرهما من العائلات التي ذكرناها في جميع أنحاء الدولة العباسية، فكان أمراؤهما يعترفون بالتبعية للخلفاء ظاهرا وقد نبذوا طاعتهم باطنا، واستقلوا بإدارة البلاد وانفردوا بتدبيرها؛ ولذلك يعد زمن حكم العائلتين المذكورتين في مصر في مدة حكم الدولة العباسية عليها، وقد امتدت سلطتهما على مصر والشام وأرض الجزيرة لغاية نهر الفرات وعلى جزء من بلاد العرب أيضا.
الفرع الأول في الدولة الطولونية
حكمت هذه الدولة نحو السبعة وثلاثين سنة (255-292ه) تحت حكم خمسة أمراء من ذرية طولون؛ وهو مملوك تركستاني أسر في إحدى المواقع الحربية وجيء به إلى ابن أسد الصمامي عامل المأمون على بخارى، فأرسله ابن أسد إلى المأمون ضمن المماليك الذين أرسلهم إليه سنة 200 هجرية، فأعجب المأمون تناسب أعضائه وقوة بنيته فألحقه بحاشيته، وما زال يرقيه حتى جعله رئيس حرسه ولقبه بأمير الستر، فصرف طولون نحوا من عشرين سنة في هذا المنصب في أيام المأمون والمعتصم، فلما توفي في أيام المتوكل على الله سنة 239 هجرية رأى الخليفة في ابنه أحمد المولود سنة 220 هجرية اللياقة للقيام مقام أبيه في إمارة الستر، ولو أنه لم يبلغ التاسعة عشرة من العمر.
Unknown page
وكان أحمد قد تعلم وتربى تربية حسنة حتى اشتهر بالعلم والشجاعة والتقوى، فأحبه كثير من العلماء ومال إليه كثير من الأتراك؛ منهم ياركوج من كبراء حرس الخليفة فزوجه بابنته، وهي التي رزق منها بابنه عباس، وقد شب أحمد بن طولون بين الدسائس والثورات التي كانت للأتراك، ولكنه لم يتداخل فيها قط، بل عكف على توسيع معارفه والاشتغال بالعلم، فسار يسافر إلى طرسوس بآسيا الصغرى لتلقي العلوم بمدارسها، وقد صادف أثناء رجوعه من طرسوس إلى سامر أن هجم بعض العربان على القافلة ليسلبوا منها أموالا كانت محمولة إلى الخليفة المستعين بالله، فحمل عليهم أحمد بعزم شديد وردهم على أعقابهم واستخلص منهم أموال الخليفة، وكان عمره إذ ذاك تسعا وعشرين سنة، فلما وصل الركب إلى سامرا وبلغ الخليفة الخبر أعطاه ألف دينار، ووهبه إحدى جواريه المسماة مية التي ولدت له ابنه الثاني خمارويه سنة 250 هجرية، وكان ذلك مبدأ شهرته وظهوره، فلما تولى بابكيال أحد رؤساء الأتراك عاملا على مصر من قبل الخليفة المعتز بالله سنة 254 هجرية لم يرغب هذا العامل في أن يترك بغداد محل نفوذه ويذهب إلى مصر، فاستخلف عليها أحمد بن المدبر وأحمد بن طولون، وقسم بينهما إدارة البلاد؛ فأعطى أحمد بن المدبر جباية الأموال، وأعطى أحمد بن طولون باقي الوظائف عسكرية وإدارية، وجعله نائبا عنه ، فحضر ابن المدبر إلى مصر قبل مجيء ابن طولون إليها، فاضطهد الأهالي كثيرا، وثقل عليهم الضرائب؛ وذلك أنه ابتدع في مصر بدعا استمرت من بعده؛ فقد أحاط بالنطرون وحجز عليه بعدما كان مباحا لجميع الناس، وقرر على الكلأ الذي ترعاه البهائم مالا سماه المراعي، وقرر على ما يطعمه الله من البحر مالا سماه المصائد، فانقسم مال مصر إلى خراجي وهلالي.
أما الخراجي فهو ما يؤخذ مسانهة من الأراضي التي تزرع حبوبا ونخلا وعنبا وفاكهة، وما يؤخذ من الفلاحين هدية مثل الغنم والدجاج وغيره من جهة الريف، وأما الهلالي فعلى نوعين سماهما بالمرافق والمعاون، وهو ما يؤخذ من الضرائب على مثل ما ابتدعه ابن المدبر كما تقدم؛ فكره الأهلون هذه المعاملة، وجعلوا يسعون إلى الكيدية، وكان عالما بذلك، فجعل في حاشيته الخاصة نحوا من مائة غلام هندي ممتازين بالقوة والشجاعة كانوا يرافقونه إلى حيث توجه، فلما قدم ابن طولون إلى مصر ليستلم زمامها خرج لمقابلته ابن المدبر بحرسه، وأهدى إليه هدايا قيمتها عشرة آلاف دينار، فردها عليه ابن طولون وطلب منه عوضا عنها المائة غلام، فلم يجد بدا ابن المدبر من أن يبعثها إليه، فتحولت هيبة ابن المدبر إلى ابن طولون؛ حيث انتقلت السلطة إليه وصارت تزداد شوكته شيئا فشيئا بتطهيره مصر من عصاتها، ثم استخلف أخاه موسى بن طولون على مصر، وخرج في جيش بأمر الخليفة المعتمد على الله لمحاربة عيسى بن الشيخ أمير الشام، حيث كان استولى على أموال مرسلة إلى الخليفة من مصر، ولكنه وصله وهو في الطريق كتاب من الخليفة يأمره بالعود إلى مصر؛ حيث أرسل عوضا عنه لمحاربة عيسى بن الشيخ أماجور التركي، فلما عاد ابن طولون إلى مصر عزم على الاستقلال بها، فشرع في تحصين البلاد وجمع الأموال، وأكثر من العسكر وآلات الحرب، فضاقت عليه العسكر محل إقامته، فانتقل منها إلى هضبة جبل يشكر الممتدة في شرق الفسطاط لغاية أسفل الجبل المقطم، فأسس فيها مدينة جديدة سماها القطائع؛ لأنه كان أقطع رؤساء جيشه أرضها فقسمها بينهم، وكلفهم بأن يبنوا فيها مساكن كل في إقطاعه، فشيدوا بها مساجد وحمامات وبساتين وبيوتا وأسواقا ومعامل ودكاكين وخانات، وقد اتخذ بها أحمد بن طولون ميدانا للجيش، وأسس فيه قصره فسمي بالميدان، فلما كانت سنة 257 هجرية ولى المعتمد بن المتوكل على الله ياركوج صهر أحمد بن طولون أبا زوجته عاملا على مصر بعد موت بابكيال، فصار أحمد بن طولون نائبا عموميا عنه، ثم مات هذا العامل في السنة الثانية، فتحصل ابن طولون على أمر من الخليفة بتقليده ولاية مصر، فلما انفرد بإدارتها خفف على الأهالي الضرائب الباهظة التي كانوا يؤدونها، فألغى الخراج الهلالي الذي وضعه ابن المدبر، وأصلح مقياس النيل الذي بالروضة، وأسس إسبتالية في العسكر، وكانت أول إسبتالية أسست في مصر، وأمر بإصلاح منارة الإسكندرية وصهاريجها، وأوصل مياه النيل إليها، وشيد بالقطائع جامعه المسمى باسمه، فأتم بناءه في سنتين، ولم يدخل في بنائه شيئا يحترق أو تفسده الرطوبة؛ فهو مبني بالجبس والطوب الأحمر فقط، ثم تملك على بلاد الشام؛ مع مضادة الموفق أخي الخليفة له، ثم توفي في ذي القعدة سنة 270ه، ودفن بالجبل المقطم، وترك شيئا كثيرا من آلات الحرب ومن الخيل والعبيد، وترك من الأولاد ثلاثين ولدا منهم سبعة عشر ذكورا وثلاث عشرة إناثا؛ مع أنه لم يبلغ من العمر خمسين سنة.
ثم خلفه ابنه خمارويه، وكان يلقب أبا الجيش، فأخذ في تدبير الأحكام، ولم يغير شيئا مما كان على أيام أبيه، بل أبقى الرتب والوظائف على حالها، وأرسل مراكب حربية تجول في سواحل الشام ليتأكد من تحصينها، ثم التفت للأمور الداخلية؛ فزاد في قصر أبيه، وجعل الميدان كله بستانا زرع فيه أنواع الأزهار والأشجار، واتخذ في هذا البستان برجا من خشب وضع فيه جميع أنواع الطيور المستحسنة الحسنة الصوت وغير ذلك، وعمل ميدانا غيره أكبر منه، واقتنى كثيرا من الخيول للسباق، وكثيرا من الحيوانات المفترسة وغيرها كالسبع والنمر والفيل والزرافة وغير ذلك. ثم لما تولى الخلافة المعتضد بالله أراد خمارويه تحسين العلائق بينه وبين هذا الخليفة ليزيل ما كان حصل بينهما من الخلاف أيام الخليفة السابق، فأرسل إليه هدايا كثيرة ووعده بأن يدفع له سنويا مائتي ألف دينار خراجا خلاف المائة ألف دينار المتأخرة من السنين الماضية، وعرض عليه ابنته قطر الندى زوجة لابنه ولي العهد، فقبل منه الخليفة ذلك. غير أنه اتخذ قطر الندى زوجة لنفسه، فلما وقعت المصاهرة بينهما لم يدفع خمارويه شيئا من الخراج بعد الذي دفعه في المرة الأولى، ثم بعد موته خلفه ابنه جيش الملقب أبا العساكر، فلم يلبث أن قامت عليه العساكر فقتلوه وأقاموا مكانه أخاه هارون، فكثر في أيامه الاختلال وعدم النظام، وكادت أن تخرج عن طاعته جميع الولايات التابعة له، فخضع للخليفة المعتضد ودفع له سنويا مليون دينار خراجا، فلما مات المعتضد وخلفه ابنه المكتفي بالله أرسل محمد بن سليمان بجيش إلى بلاد الشام فاستولى عليها، ثم دخل مصر فأراد هارون مقاومته غير أن عمه أبا المغازي شيبان حرض عليه العساكر فقتلوه، ثم أراد أن يجلس مكانه ويدافع عن مصر، فلم يمكنه؛ لأن أمراء جيوشه كانوا قد تعاهدوا مع محمد قائد الخليفة وتركوه فالتزم بالهروب لكنه قتل في هروبه، فكان هو آخر من حكم مصر من الطولونيين، فانتهت حينئذ العائلة الطولونية، ودخلت مصر ثانيا تحت حكم العباسيين، فلم تزل تحت سلطتهم حتى استقل بها محمد الإخشيد وأسس فيها العائلة الإخشيدية.
الفرع الثاني في الدولة الإخشيدية
حكمت هذه الدولة أربعا وثلاثين سنة (324-358ه)، وأمراؤها خمسة؛ أولهم أبو بكر محمد بن طفج الملقب بالإخشيد، الذي أرسله الراضي بالله إلى مصر ليكون عاملا عليها من قبله فاستقل بها وانفرد بتدبير أمورها لما رأى اضمحلال الخلافة العباسية واختلال أمورها، وقد امتدت سلطته على الشام أيضا، ومات فيها بمدينة دمشق، ودفن بأورشليم؛ أي بيت المقدس، ثم خلفه ابنه أبو القاسم أنوجور، وكان حديث السن فكفله كافور وزير أبيه وأحد معاتيقه، وكان عبدا أسود لكنه زكي ذو همة ونشاط، نفع الإخشيد كثيرا، ولم يكن له غاية إلا عظم شأن أمرائه وخير مصر، فصارت الكلمة له واستتبت الراحة في البلاد بحسن تدبيره، ورد عن مصر أعداءها، وأخذ قلعة إبريم التي على بعد خمسين فرسخا من جنوب أصوان من ملك النوبة الذي كان أغار على أصوان ونهبها في تلك الأيام.
ولما مات أبو القاسم خلفه أخوه علي الملقب أبا الحسن، ولم تزل الكلمة لكافور، ثم بعد موت علي تولى كافور فاعترف بالتبعية للخليفة العباسي المطيع لله الذي هو آخر من تبعته مصر من العباسيين، فأقره الخليفة على ولاية مصر، ثم خلفه بعد موته أبو الفوارس أحمد بن علي، فنازعه في الملك أحد أقاربه المدعو حسين، فاضطربت أحوال الديار المصرية؛ حيث انقسمت مصر إلى جزأين، ووقعت فيها المنافسات الشديدة والحروب الداخلية، فكاتب أعيان مصر الخلفاء الفاطميين بالمغرب في التملك عليها، وكان إذ ذاك في حوزتهم من بلادها الإسكندرية والفيوم وجزء عظيم من الصعيد، فأرسل إليها المعز جيشا لتتميم فتوحها تحت رئاسة جوهر الصقلي، فقصد جوهر الفسطاط وأسر حسينا، وخلع أحمد أبا الفوارس، وخطب باسم الخليفة الفاطمي، فانتهت حينئذ العائلة الإخشيدية، وقام بمصر دولة الفواطم.
الباب الثاني
في الدول التي حكمت مصر مستقلة، وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول
وفيه مطلبان:
Unknown page