169

كلام المتقدمين فيه إشارة إلى ما ذهب إليه المعاصرون أم لا ، المهم بالنسبة لنا هو أن كثيرا من علماء النفس ، بعد اكتشاف عالم اللاشعور وحل بعض المعضلات الروحية عن طريق هذا الاكتشاف ، سعى لتبرير ظاهرة الوحي بما يتناسب ويتفق مع هذا الاكتشاف ، حيث ادعوا أن الوحي هو ترشحات عالم اللاشعور التي تظهر عند الأنبياء على شكل طفرات فكرية بالصدفة.

وقد ساعد الأنبياء في ذلك أحيانا أمران : الأول النبوغ الفكري ، والثاني هو الترويض والتفكير المستمر.

وطبقا لهذه الفرضية ، فإن علاقة «الوحي» بعالم ما وراء الطبيعة ليست علاقة من نوع خاص ومغايرة للعلاقات الفكرية والعقلية لبقية أفراد البشر ، وأن هذا لا يتم عن طريق وجود روحي مستقل باسم «الوحي» ، بل هو انعكاس لضمير الأنبياء الخفي ، وهذه الفرضية كالسابقة القائلة بأن الوحي هو الاتصال بالعقل الفعال ، تفتقد الدليل ، وقد يكون المراد بهذا من هذا الكلام ليس إثبات حقيقة الوحي ، بل مرادهم إن ظاهرة الوحي لا تتنافى مع العلوم الحديثة ، ويمكن تجلي عالم اللاشعور لدى الأنبياء.

وبتعبير أوضح ، فإن العلماء يصرون على تفسير جميع ظواهر العالم طبقا للقوانين الطبيعية والاصول العلمية التي اكتشفوها ، ولهذا فإنهم بمجرد مشاهدتهم لظاهرة جديدة ، يسعون إلى تحليلها في إطار العلم الحديث ، وإذا افتقدوا الدليل في هذا المجال اكتفوا بالفرضيات.

لكن تلقي ظواهر العالم بهذا الشكل ليس صحيحا ، وهذا هو خطأ العلماء الطبيعيين ، مفهوم كلامهم هذا هو : إننا فهمنا الاصول والقوانين الاساسية للعالم ، ولا توجد ظاهرة خارجة عن اطر هذه القوانين والاصول.

وهذا ادعاء محض ولا دليل له ، بل لنا دليل على العكس ، حيث نشاهد بمرور الزمن اكتشاف اصول وقوانين جديدة لنظام هذا العالم ، ولدينا قرائن تثبت أن نسبة ما نعلمه عن هذا العالم إلى ما لا نعلمه كنسبة القطرة إلى البحر.

Page 179