Nabi Musa Wa Tall Camarna
النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة (الجزء الأول): موسوعة تاريخية جغرافية إثنية دينية
Genres
لا يخلو كتاب أو سفر من أسفار العهد القديم، من خرافات وأساطير واضحة ملتبسة بأحداث وقعت بالفعل، مع تدخل دائم من المحرر التوراتي لتفسير الأحداث، وربطها بإرادة يهوه ومشيئته. والقاسم المشترك دوما هو الأيديولوجيا الدينية، التي ترجع كل شيء وتفسر كل شيء، بما يخدم قضية شعب الله المختار، حتى لو تم تزييف بعض الحقائق التاريخية لصالح الهدف القومي، إضافة إلى شغف شديد من المحررين بالمبالغات الأسطورية، التي تكسر قواعد الطبيعة وخط سيرها لصالح الشعب المختار، بل نجد تلك الأساطير والمبالغات، قد أصبحت في اليهودية ومن بعدها في المسيحية وتراث الإسلام، موضوع تصديق وإيمان باعتبارها حقائق حدثت بلا شك.
ونظرا لحجم الكتاب وما حواه من تأريخ وعقائد وأساطير وسير بشر وملوك، مندمجة جميعا في صياغة، كان همها الدائم والأول هو يهوه وشعبه، فقد تعددت مدارس نقد التوراة وتتالت كشوفها، بحيث أصبح بالإمكان نخل وغربلة هذا المأثور الهائل؛ لاستخلاص حقائق الأحداث التاريخية، التي يمكن أن تكون محلا للبحث ومعينا للباحثين، فهناك نصوص يمكنها أن تحمل اسم الوثيقة التاريخية، وبإمكانها أن تملأ لنا فراغا في بعض مناطق التاريخ كعلم، والتي فقدنا وثائقها التاريخية الأصلية.
والمشكلة التي تواجه الباحث أنه حتى النص، الذي يمكن احتسابه نصا تاريخيا بالعهد القديم، ويتحدث عن واقعة تاريخية بعينها، قد دخله حشو وإضافات وحذف وتفسير، خرج به من فضاء التاريخية إلى الهوام في الأسطورية، وبقيت من الحقائق ظلال باهتة، تحتاج من الباحث إلى مشقة عظيمة، في تدقيق مصداقيتها التاريخية.
والمعلوم مثلا أن العهد القديم، يحوي روايات تثبت معرفة مدهشة من المحرر التوراتي، بأحداث تاريخية قديمة بائدة، كانت مخفية عنا ولم نعلم بأمرها، إلا بعد كشف مناطقها الآثارية وفك رموز لغاتها، وهي أمور حديثة جدا قياسا على ما سبق وساقه العهد القديم، وذلك مثل معرفة ذلك الأثر التوراتي، بأسماء مدن مصرية قديمة، أهال عليها الزمن النسيان، حتى وإن ورد بعضها عند المؤرخين اليونان، ولم نكتشفها ونتعرف على أسمائها بشكل واضح، إلا حديثا بعد فك رموز اللغة الهيروغليفية، كأسماء مدن مثل نوف/منف، ورعمسيس/رمسيس، وتحفنيس/تفنه أو دفنه، وأون/عين شمس ... إلخ، وكأسماء فراعنة مثل شيشق/شيشنق، ونخاو، كذلك اسم فوطي فارع كاهن مدينة أون: بادي بارع، وإله الشمس رع، ومركبات فرعون، ومراكب الشمس.
هذا إضافة إلى معرفة دقيقة بأحوال مصر القديمة، وعقائدها مع طقوس كطرق دفن الموتى والتحنيط ومواعيد الدفن، كذلك الأساليب المعمارية في البناء والكتابة والتوابيت، وكلها أمور لم نعلم دقائقها إلا بعد فك رموز الهيروغليفية، وما كشفت عنه الحفائر الحديثة، هذا ناهيك عن أسماء المواضع الجغرافية - مثلا - في رحلة الخروج من شرقي الدلتا المصرية عبر سيناء وحتى فلسطين، وهي مواضع تحتمل ثقة شديدة فيها؛ لأن لا علاقة لها بأية أهداف أيديولوجية ولا أساطير قومية؛ لأنها كانت مجرد مواضع جغرافية معلومة للجميع أوانها، حفظت لنا التوراة أسماءها وإحداثيات بعضها الجغرافية، قبل أن تتغير مسمياتها عبر الزمان.
شكل 1-3: نموذج من الكتابة الهيروغليفية.
ورغم ذلك فإن أبرز وأهم النتائج الأولى، التي خرجت بها مدارس نقد التوراة، أن نسبة الكتب الخمسة الأولى لموسى، وأنه صاحبها أو كاتبها بوحي من الله، قد أصبحت نسبة باطلة تماما، ولا ظل لها من الحقيقة، وبسبيل ذلك تم تقديم عدد من الأمثلة الشاهدة، إليك بعضا منها:
هناك عبارات تتعلق بموسى، لا يمكن أن تكون قد صدرت عنه، وذلك مثل «وأما الرجل موسى فكان حليما جدا، أكثر من جميع الناس، الذين على وجه الأرض» (عدد، 12: 3)، فهنا كاتب أو محرر يتحدث عن موسى، وليس موسى من يتحدث عن نفسه.
هناك خبر خاص بموت موسى يقول: «فمات هناك موسى عبد الله في أرض موآب حسب قول الله، ودفنه في الجواء في أرض موآب» (تثنية، 34: 5)، ومن المستحيل بالطبع أن يكتب موسى عن نفسه قصة موته بعد أن مات، بل تحدد في القصة الموضع الذي دفن فيه.
نحن نعلم أن موسى قد مات، ولم تطأ قدماه أرض فلسطين، ومع ذلك تجد في التوراة المنسوبة إليه، أسماء مواضع جغرافية موجودة في عمق فلسطين، هذا إضافة إلى أن أكثر أسماء تلك المواضع، لم تكن قد وضعت بعد زمن موسى، بل تمت تسميتها بعد ظروف ومستجدات، حدثت بعد موت موسى بقرون، وذلك مثل ورود اسم مدينة دان في التكوين، 14: 14؛ والتثنية، 34: 1، ومجموعة قرى يائير في العدد، 32: 41؛ والتثنية، 3: 14، وهي القرى التي لم تظهر أصلا إلى الوجود، إلا في عصر القضاة (انظر قضاة، 10: 14).
Unknown page