الإهداء
مقدمة الطبعة الثانية
مقدمة الطبعة الأولى
توطئة
تمهيد تاريخي مع إعادة ترتيب جغرافية الخروج
الباب الأول: شعب التوراة
1 - التوراة وربها وشعبها
2 - «كل إسرائيل» أو مملكة إسرائيل الموحدة
الباب الثاني: مصر والتوراة
1 - قبل زمن الخروج
2 - النظريات التاريخية للخروج
3 - جغرافية الخروج
4 - الأخطاء الكبرى في النظريات المطروحة
الباب الثالث: نظرية المؤلف لضبط جغرافية الخروج وتاريخها
1 - رعمسيس تلك المدينة اللغز!
2 - قناة سيزوستريس وهندسة المكان
3 - إحداثيات مواضع الخروج
الإهداء
مقدمة الطبعة الثانية
مقدمة الطبعة الأولى
توطئة
تمهيد تاريخي مع إعادة ترتيب جغرافية الخروج
الباب الأول: شعب التوراة
1 - التوراة وربها وشعبها
2 - «كل إسرائيل» أو مملكة إسرائيل الموحدة
الباب الثاني: مصر والتوراة
1 - قبل زمن الخروج
2 - النظريات التاريخية للخروج
3 - جغرافية الخروج
4 - الأخطاء الكبرى في النظريات المطروحة
الباب الثالث: نظرية المؤلف لضبط جغرافية الخروج وتاريخها
1 - رعمسيس تلك المدينة اللغز!
2 - قناة سيزوستريس وهندسة المكان
3 - إحداثيات مواضع الخروج
النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة (الجزء الأول)
النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة (الجزء الأول)
موسوعة تاريخية جغرافية إثنية دينية
تأليف
سيد القمني
الإهداء
على أوتار الحشا بين الجوانح والضلوع، تسكنينني يا حبيبتي، ذبت فيك حبا ووجدا، فأعطيتك عمري كله مهرا، وسكبت في أحشائك عصارة عقلي كلمات، أستزرعها في رحمك أجنة؛ كي تلدي للدنيا ابن العهد الآتي، وقربت إليك نفسي أضحية يا معشوقتي، يا أم الدنيا حقا وصدقا.
فلك يا مصر السلام وعليك السلام ... يوم تتفتح أزاهيرك مواليد ... صبايا يعرفن كيف يتكلمن لغة الحرية، وصبية يصوغون معجم مفردات النهار ... ويهزون معا جذوع المسلات لتساقط على صفحة الزمن علما وعدلا وحضارة ومدنية.
سيد القمني
مقدمة الطبعة الثانية
في هذه الطبعة الثانية من كتاب «النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة»، سيجد القارئ تعديلات واسعة بالكتاب؛ فقد حذفنا أبوابا اكتشفنا أنها تثقل كاهل القارئ بمادة علمية كثيفة، ليست بذات تأثير جوهري على العمل نفسه وأهدافه، فاستبعدنا مثلا من الجزء الأول بابا كبيرا هو «التاريخ النبوي»، خاصة أنه كان شديد الجفاف والثقل، كذلك حذفنا جميع الملاحق المتعلقة بتاريخ مصر القديمة؛ لتخصصها الشديد، والمتخصصون أدرى بها وليسوا بحاجة إليها، أما القارئ غير المتخصص فهي بالنسبة له غير ذات جدوى كبيرة.
ثم قمنا بإعادة ترتيب الكتاب مرة أخرى، فدمجنا الجزء الرابع بالجزء الأول، مع تصويبات جديدة شتى متناثرة بالكتاب، نتج معظمها عن أخطاء الطابع في الطبعة الأولى، وبعضها ارتكبها المؤلف، خاصة ما كان يتعلق بإجراء عمليات حسابية لتزمين فترات معينة من التاريخ، كذلك أعدنا تغيير مواضع الأشكال والخرائط؛ ليكون تناولها أكثر يسرا، مع إدخال أشكال ولوحات جديدة من مواقع الأحداث، تدعم النظرية المطروحة في هذا الكتاب.
وكان لأخطاء الطابع دور في التباسات في عدة مواضع، خاصة مع تشابه الأسماء وتقاربها، سواء كانت أعلاما أو مواضع جغرافية؛ ولما كان البحث يعتمد التدقيق الشديد في هذه الأسماء، فإن خطأ واحدا كان كفيلا بضياع القارئ، وسط الحشد المعلوماتي الكثيف، وضياع الهدف والقصد، بل وربما جهد صفحات بكاملها. وكان يكفي أن يدون الطابع على خريطة شرقي الدلتا مثلا موضعا باسم هيروبوليس، فيكتبه الطابع هليوبوليس (لأنها الأشهر والمعتادة)، حتى يضيع القارئ، والمعنى والقصد جميعا؛ لأن هليوبوليس مكان وحكاية وتاريخ، يختلف تماما عن هيروبوليس، وهي مكان آخر وحكاية أخرى وتاريخ آخر، أو أن يكرر تسجيل اسم مقبرة حويا (حيث لوحات للفرعون إخناتون هامة، ولها دور هام في بحثنا) باسم مقبرة يويا، رغم أن مقبرة يويا غرفة صخرية، لم يدون بها شيء، لا لشيء إلا لأنه كان من محبي المصريات، وسمع أو قرأ كثيرا عن يويا فقرر تصويب الاسم، بقرار من عنده وأجره وثوابه على الله.
ونظرا لأن المؤلف هو واضع الخرائط بالكتاب، مستعينا بالخرائط المساحية القديمة، في مشقة لا يعرفها إلا من جربها، وليست خرائط منقولة عن مصادر أخرى، فإن الطابع بالطبعة الأولى، لم يراع الدقة في وضع العلامات والأعلام في أماكنها، مما كان بدوره مدعاة لخلط في الفهم. والمدهش أن بعض الناقلين عنا، أو بالأحرى السارقين تصوروا أن هذه خرائط متفق عليها، وموجودة في مصادر ما، فأخذوها أو سرقوها على علاتها في استسهال مضحك، غير مدركين أن إعادة رسم الحدود أو فروع الأنهار القديمة، ووضع المواضع القديمة في أماكنها على الخرائط، قد استدعى سفرا شاقا وتدقيقا وقياسا، ورجوعا إلى مراجع شتى ومصادر متضاربة، حتى إن دار المساحة المصرية أكلت من عرقي وشربت، إضافة إلى أسفار مضنية بفيافي سيناء ووادي عربة الأردني؛ لذلك فإن الخريطة الواحدة تكمن وراءها معاناة حقيقية وجهد جهيد، وليست مجرد خريطة مأخوذة من مصدر متفق عليه، بل وضعها المؤلف ورسمها ووضع عليها الأعلام القديمة، بعد أسفار إلى بلاد وبراري وأصقاع، وعمليات تدقيق أخذت من عمره عمرا. وكان تشتت المواضع الجغرافية في النصوص القديمة، مع تدخل الميول الإنسانية والأغراض السياسية والدينية في عملية التدوين، مع اتساع مساحة البحث الجغرافية والتاريخية، مدعاة دائما للسقوط في شراك وفخاخ؛ لذلك كان تدقيق المواضع الجغرافية، وإعادة ضبطها ضرورة لضبط التاريخ وخط سير الحملات، وحدود الدول والعلاقات الدولية وخط سير الهجرات، وهذا كله كان الخلفية التي كان يجب ضبطها لتنطق بما لم تنطق به من قبل عملنا هذا، كذلك كانت تلك الأسفار تثمر دائما ثروة عظيمة من الأدلة والقرائن على صدق أطروحة الكتاب، قمت بتسجيلها بالتصوير الفوتوغرافي قبل اكتشاف المنظومة الرقمية واختراع الكمبيوتر، لتنطق بصدق أطروحتي، وهي أسفار بدأت بشرقي الدلتا المصرية عبورا على سيناء مرتين، ثم وادي عربة جنوب الأردن ثم العراق في أقصى شماله، مع المعاناة التي لا بد أن يلقاها باحث مستقل في بلادنا، ليتلقفه الأمن من كل موطئ قدم؛ ليشرح عمله لرجل مخابرات أو أمن، هو أجهل أهل الأرض طرا وقاطبة، وفي بلاد هي أشد بلاد العالم بعدا عن العلم، وأكثرها قمعا وديكتاتورية، ويكفيني حتى اليوم أن أذكر سفري إلى العراق تحت حكم صدام، إبان الحصار الدولي، ليقشعر بدني مما عانيت هناك من أجل هذا الكتاب، كذلك المخابرات الأردنية على الحدود العراقية الأردنية، وحجم الإهانة الإنسانية التي لقيتها هناك، والصغار أمام صغار الأقزام من عسكر المخابرات، الذين هم علينا أسود وفي الوغى صياصي دجاج، بلا حول ولا قوة، مع العسكرية العمياء فهم صم بكم غلاظ شداد، ولا يكادون يفقهون قولا، رغم أني كنت لا أحمل قنابل، بل مجرد أدوية وأقلام وأوراق وكتب، وخرائط وكاميرات وبعض الملابس الضرورية ... ودمتم.
وقد تعرض هذا الكتاب لسوء الحظ مرتين: الأولى بعد جمع المادة العلمية اللازمة، وقبل بدء الكتابة، عندما وقع المؤلف صريع القلب، وتم إجراء جراحة له في كليفلاند بولاية أوهايو بأمريكا. والمرة الثانية عند طباعة الكتاب، عندما اضطر المؤلف لإجراء جراحة دقيقة بجذع المخ، سامح الله الدكتور أحمد حلقة، فمن يومها وأنا في معاناة دائمة لا تتوقف، وقمت بمراجعة بروفات الطابع بالمستشفى، وأنا بين الوعي والغيبوبة، ففات علي الكثير من أخطاء، احتاجت التصويب في هذه الطبعة الثانية. وهنا لا أدعي مطلقا أن هذه الطبعة، ستكون خلوا من أخطاء محتملة، في تزمينات التأريخ أو الأخطاء الطباعية، إنما ما أقول هو أن هذا أقصى جهدي في ظرفي الصحي الحالي، وإذا وجدت بعض الأخطاء الطباعية، فلن تفوت على القارئ الفطن، أو حتى لو وجدت أخطاء في متن الموضوع، فإن هناك من النقاد المحترمين من يمكنه، أن يصلح الشأن والتصويب دوما.
وبمناسبة النقد والنقاد، فقد تعرض لهذا الكتاب طرفان، كان أعلاهما صوتا هو من عمد إلى التشويه والافتراء والدس والوقيعة، ولا أدعي أني أعلم لماذا؟ وقد زعم بعض هؤلاء أن كتابي يؤسس لإسرائيل في تاريخ مصر، وأيضا لا أعرف كيف؟ فالكتاب بين يدي القارئ، لا علاقة له بكل المفاهيم الأيديولوجية، والمواقف المسبقة بالمرة، ولا يسعى لغير العلم وحده، ولا يعمل بغير قواعد البحث العلمي وحده، حتى إن بعضهم وهو يعرض اتهاماته ضد الكتاب، وضع في ثنايا عرضه لوحات مصرية مدمجة بالرؤى الإسرائيلية، مثل لوحة لرمسيس الثاني، وعليها نجمة داود أو الشمعدان (لا أذكر)؛ ليوعز إلى القارئ أنها لوحة في كتابي، لاتخاذ موقف نفسي مسبق منه، رغم أنه خلو منها، ورغم أني لم أعرف هذه اللوحات المزيفة، إلا في مقالات الأستاذ الناقد، ورغم أني لا أرى في كتابي أن رمسيس الثاني، هو فرعون الاضطهاد أو الخروج، كما ترى بعض المدارس البحثية الإسرائيلية وغيرها من المدارس، بل ذهبت مذهبا مغايرا بالمرة. والكتاب بطبعتيه الأولى والثانية بين يدي القارئ، ليرى إلى أي منحدر، وإلى أي تسفل خبيث، وصل مناخنا الثقافي منذ صحوتهم الإسلامية، التي حولتهم إلى أشرار حقيقيين، عن عمد واختيار إرادي وواع.
وعلى نفس الخط أخذ أحد أساتذة التاريخ المصري القديم على عاتقه، شن حملة على الكتاب متهما إياه أنه يشوه تاريخ مصر، ووقف إلى جواره بعض محبي المصريات، انطلاقا من تقدسيهم الفرعون إخناتون، بحسبانه أول الموحدين في التاريخ، وأن كتابي يكشف أنه لم يكن كذلك حقا، وأن على إخناتون مآخذ أخلاقية كثيرة، بمقاييسنا الأخلاقية اليوم، وأنه ارتكب في سبيل دروشته الدينية وتعصبه وتطرفه، أول لون من الاضطهاد الديني الواسع النطاق في مصر، التي عاشت زمنها السابق له في حرية دينية شبه مطلقة، وأن تلك الحرية على مستوى الضمير والفكر، كانت السبب وراء إبداعاتها العبقرية، رغم مركزيتها الصارمة على مستوى الإدارة، فكان إخناتون أول متعصب طائفي قوي في تاريخ مصر، قضى على التعددية العقدية والحريات، لصالح ربه آتون وحده، مما أدى إلى تردي أحوال إمبراطوريته، وعودة مصر إلى الانكماش داخل حدودها، نتيجة قراراته اللاهوتية وفاشيته الطائفية.
لكن الكثير من محبي المصريات في بلادنا، يعاملون إخناتون بذوق إسلامي، بحسبان التوحيد أرقى القمم العقدية، التي يريدون كسبها لمصر قبل الآخرين، وأنها كانت سباقة في كل شأن وأمر، حتى في فكرة التوحيد العزيزة إسلاميا، ومن ثم يكون أي كشف موضوعي بشأن إخناتون، هو إهانة لمصر وتشويها لتاريخها، يصب في مصلحة العدو الصهيوني الإمبريالي الإسرائيلي الأمريكي الطاغوتي ... إلخ (؟!).
ويجمع بين الموقفين أن أحدهما اتهامي، يشكك في الولاء للوطن وتاريخه، والآخر شتام تخويني وطنيا ودينيا، يعتمد على استثارة الغرائز الدينية والعنصرية؛ ولأن كتابي ليس فيه ما يدعم أيا من الموقفين، فلم أجد سببا موضوعيا لكل تلك الهجمة الشرسة سوى السبب النفسي؛ لأنه رغم أن الوصايا التوراتية كانت توصي: لا تشته امرأة جارك ولا بيته ولا حقله ولا حماره. فإنها لم تلتفت إلى أن هناك من يشتهي الملكات والقدرات والجهد، وهو مما لا يمكن اكتسابه إلا بالكد والعنت والمشقة والتفاني، وأخذ النفس بالشدة والقسوة، وهم لا يريدون أن يبذلوا جهدا مماثلا، ومع العجز تبدأ الكراهية، ومع الكراهية تبدأ حملات التشويه، وليس بيدي سبب آخر، أبرر به تلك المواقف غير هذا.
أما الصوت الذي لم يجد سبيله إلى السماع، بعد أن ضاع بين صخب تلك الأصوات، فهو الصوت الموضوعي المحترم، الذي أعطى الكتاب حقه إيجابا أو سلبا، ولأصحاب هذا الصوت أسجل خالص تقديري وامتناني واحترامي، سواء من اتفق معي أو من اختلف.
ومن المفيد هنا إشراك القارئ معنا في بعض الملحوظات الهامة، أولها أنه إذا كان كتابنا هذا كتابا في فلسفة التاريخ وتاريخ الاجتماع الديني، فإن معتمده ومرجعه هو معطيات علم التاريخ عند أهل الاختصاص، وإليهم المرجع وعليهم المعتمد، لكن تلك المعطيات كما سيرى قارئنا، تعاني من خلل شديد يعتورها باستمرار، فلن تجد اتفاقا واضحا بين الأسماء والأعلام من مؤرخين وآثاريين، على تزمين أثر بعينه ولا على تفسيره، أو حتى ضبط قراءته فونيطيقيا، كما ستجد هذا التضارب واسعا، عندما يتعلق الأمر بتاريخ قيام دولة قديمة وانهيارها، وتزمينات هذا القيام والانهيار، وسني حكم الملوك والمواقع العسكرية. وإلى جوار تلك المصادر المصدر الثاني لبحثنا، هو العهد القديم من الكتاب المقدس، الذي يعاني بدوره كثيرا من المغالاة والأسطرة والتضارب بين المحررين في أحيان كثيرة، مما احتاج على المستويين إعادة ترتيب وجهد وصبر وجلد ومشقة، وهي في حد ذاتها كانت طموحا مستحيلا في بداية البحث، لكننا أصررنا عليه، وحملت فيها عن القارئ عبئا عظيما، لكنني أشركت القارئ معي في ذلك ليلمس بنفسه وعثاء الطريق، ويشاركني عملية التحري والمباحثية، ووضع التوقعات بناء على الشواهد والمعطيات، إزاء الحدث أو النص التاريخي، ليجمع معي القارئ الإشارات والدلائل والقرائن، من الأبسط إلى الأعقد ومن الأهون إلى الأشق، ليكشف معي بالتدريج خيوط الحل، التي تنكشف جميعا في الجزء الثالث والأخير من العمل، وتفصح الرموز عن محتواها الصريح، وكيف يمكن لكلمات الماضي، أن تتحاور معا، وأن تتحاور معنا اليوم، أو أن تفرز مقارنة اللفظة المصرية القديمة بلفظة عربية معجمية، عن سياق طويل عريض من الروابط والمعاني والنتائج، زمنا ومكانا وبيئة، لنعيش معها زمانها، فنرى الجغرافيا ومناهج التفكير وطرق المواصلات والهجرات، نعيشه كما كان زمن الحدث ... قدر الإمكان.
لذلك السبب سيبدو لقارئنا، أني أورد نصوصا كثيرة وكثيفة، ربما يظنها بعيدة عن الموضوع، وصعبة التذكر، لكنه مطالب معي بهذا الجهد القليل؛ لأن لكل كلمة دورها الذي تؤديه في هذا العمل، وعليه أن يتابع بدقة تلك النصوص، وقد عمدت إلى كتابة بعض الكلمات بالبنط الأسود، زيادة في التأكيد على دورها ودلالتها ودعمها للبحث، وللتنبيه ليتم تذكرها فهما لما هو آت بعدها.
ومع مثل هذه المساحة الجغرافية الشاسعة والتاريخية، وما لحقها من أحداث وهجرات وأشكال مجتمعية، كان من المستحيل اتخاذ منهج تاريخي خطي واحد، يبدأ من نقطة لينتهي إلى نقطة نهائية، ومن هنا اتخذ بحثنا شكل شبكة عنكبوتية، لها مركزها وطرقها ووصلاتها في حركة ذاهبة آيبة بين المركز والوسط والأطراف، عبورا على متشابكات في الطريق بينهما تتوازى وتتقاطع، وهو المنهج الذي فرضه موضوع البحث، وراعينا فيه تقديم الجرعات المعلوماتية على التدرج، فلا تسبق معلومة أخرى إلا بحسب مكانها في السياق، بحيث تتكامل الشبكة في النهاية، وهو منهج استنباط رياضي بالأساس يحدد المشكلة، ويضع لها فروض الحل، ثم يلجأ إلى العمل الافتراضي، إذا تطلب ذلك، ثم البرهان بالوثائق والبيانات؛ لذلك يحتاج بعض الصبر من القارئ، بعد أن عبدنا له الطريق، ولم نضع له معلومة قبل الأخرى، حتى لا يفاجأ بما لم يكن يعلم، وكان ذلك بالنسبة للمؤلف هو العسر ذاته، وقطعة من عذاب المشقة، في تباديل وتوافيق انتقل فيها موضوع قبل الآخر، ونقلت فيه معلومة من فصل إلى آخر؛ مما اضطر المؤلف إلى كتابة الفصل الواحد أكثر من مرة، وإعادة كتابة الكتاب كله أكثر من مرة.
ويجدر هنا التنويه بأن هناك مصادر أساسية، إضافة إلى المصادر التاريخية والآثارية والكتاب المقدس، اعتمدناها مصادر أساسية في كثير من فصوله، مثل كتاب «آلهة مصر العربية»، للعالم الليبي علي فهمي خشيم، رغم اختلافنا الجوهري مع أطروحته الشاملة لهذا الكتاب وغيره، بل اختلافنا التام معه، لكن جهده الذي استفدنا منه يستحق الإشارة هنا، والإشادة به كمصدر ثري لهذا العمل، هذا إضافة إلى أعمال إيمانويل فيلكوفسكي، وأعمال أحمد عثمان وسيجموند فرويد.
ولا يفوتني أن أشكر صديقي الدكتور محمد سميح عيد الذي عكف على مراجعة هذه الطبعة، وقام بتصويب كثير من حسابات التزمين الواردة بالطبعة الأولى، كذلك كان له ملحوظاته المفيدة، التي سجلتها له في الهامش في مكانها من هذا البحث.
سيد القمني
مدينة العاشر، في 5 / 10 / 2010م، مصر
مقدمة الطبعة الأولى
هذا العمل الذي بين يديك الآن، هو خلاصة جهد استمر عشر سنوات أو يزيد، بدأ العمل فيه عام 1987م، وتوقف أكثر من مرة، لكن مجموع تلك الوقفات لم يزد بحال عن مدة سنتين أنجزت خلالها كتاب حروب دولة الرسول، وكتاب إسرائيل، وكتاب رب الزمان، ولم يستغرق أي من هذه الأعمال سوى بضعة شهور، كنت أعود بعدها إلى موسى مرة أخرى، بعد أن تتراكم مادة علمية جديدة، تدفعنا إلى البدء من البداية مرة أخرى، مرات كانت تصل بنا الفروض إلى طرق مغلقة، فنعود نضع فرضا جديدا، لنلهث وراء ما يدعمه شهورا لنكتشف مرة أخرى، أننا دخلنا متاهة، فنعود نضع علامات على الطريق المحتمل، لكن لنكتشف خللا جديدا، وفي كل مرة كان رجال علم التاريخ وراء تلك المشقة التي كادت تصبح مكابدة لا تنتهي. وما أكثر تناقضات أهل التاريخ، التي تصل أحيانا إلى حد التضارب الكامل إزاء الموضوع الواحد، ومن ثم يصبح من الرعونة بمكان، إقامة أي بناء علمي على أسس تاريخية، دون فحص دقيق ومراجعة تامة لتلك الأسس، وضبطها ضبطا كاملا، وإلا وصل الباحث إلى نتائج شديدة الضلال والبطلان؛ لأن أسس التاريخ نفسه كعلم وهي مادته، يختلف بشأنها أصحاب هذا العلم، بحيث لا يمكنك القطع في أي لحظة مع علم التاريخ، أن ما تقرؤه حقيقة وقعت في الزمن المنسوبة إليه أم بناء افتراضي؟ وما هي مساحة الصدق التاريخي فيه، وما هي المساحة التي سمح المؤرخ بها لنفسه بالتدخل في الوقائع وإعادة بنائها تصوريا؟ ناهيك عن بعض المؤرخين ذوي الأسماء الكبيرة - كما سنرى في بحثنا - قد قاموا بتفسير النص التاريخي على هوى البناء الذي يريدون، بل وصل ببعضهم حد التساهل - وهي كلمة سهلة - إلى حد أنه لم يجد بأسا في إبدال لفظة بلفظة أخرى، تناسب مراده في النص التاريخي الأصلي.
أضرب لك مثلا بسيطا للتوضيح، رأى أحد المؤرخين بحساباته أن الإسرائيليين، كانوا موجودين في مصر زمن رعمسيس الثاني، ووجد نصا من زمن رمسيس الثاني يتحدث عن العابيرو، الذين ينقلون الأحجار لبناء «معبد الشمس الذي توجهت إليه عناية شمس البلاد رمسيس الثاني»، هنا وببساطة يقوم السيد المؤرخ بترجمة العابيرو إلى «الإسرائيليين»، رغم أن الخلاف حول: من هم العابيرو؟ وهل هم العبريون؟ بل وهل العبريون هم فعلا بنو إسرائيل؟ مشاكل لم تحل بعد، وتتضارب بشأنها مدارس المؤرخين شتى.
ومع ذلك وضع الرجل نظريته في خروج الإسرائيليين من مصر على مثل تلك الفروض المختلف عليها.
مثال آخر: يختلف أصحاب علم المصريات الكبار، حول تعيين موضع مدينة كبرى أنشأها الفرعون، عاشق المعمار رعمسيس الثاني باسمه «رعمسيس»، وتعود أهمية هذه المدينة، لكونها المدينة التي ذكرتها التوراة كمدينة للاضطهاد الإسرائيلي في مصر، عندما تم تسخيرهم في بنائها، وكلما تم العثور في حفائر مصرية على أثر باسم رعمسيس الثاني، قام أصحابه يهللون: لقد وجدنا مدينة رعمسيس المفقودة؟! الكارثة تبدأ عندما تحاول أن تعتمد مصادر التاريخ لبحثك في ميدانك الجديد، فمن الطبيعي أن تكون ضمن المطاليب المعرفية، لقارئ كتاب بعنوان النبي موسى، معارف من قبيل: أين تم استعباد الإسرائيليين بمصر؟ هنا يقف عالم عظيم مثل «السير آلن هنري جاردنر»، ليقول لك: إن مدينة رعمسيس هي الفرما الآن على البحر المتوسط شرقي بورسعيد الحالية. ليردف عالم حجة في المصريات هو «بيير مونتييه» ليقول لك: إن مدينة رعمسيس هي «صان الحجر» الآن جنوبي بحيرة المنزلة. لكن ليقف عالم المصريات «محمود حمزة»، معلنا كشفه لآثار كبرى لرعمسيس الثاني، في مدينة قنتير قرب فاقوس بالشرقية، وأن هنا تقع مدينة رعمسيس، ويذهب رابع إلى تل رطابة بوادي طميلات، وخامس إلى مدينة المسخوطة، وسادس إلى صفط الحنة، وسابع ...
هذا بشأن مدينة واحدة فقط اسمها رعمسيس (!) وأين تقع؟ فهل بعد ذلك يصر باحث ليس فقط على العثور على مدينة رعمسيس، بل وعلى تحديد مواضع المدن التي ذكرتها التوراة مجاورة لها؟ نعم لقد أصررنا وأظننا نجحنا، لكن بعد إعادة قراءة شاملة لتاريخ مصر في علاقاتها بجيرانها، «أعادت تنظيم التاريخ مرة أخرى، وفق نظرية جديدة» هي التي يقوم عليها هذا العمل جميعه، واعتبرناها عمودا تأسيسيا ننطلق منه لبحث موضوع النبي موسى على أرض تاريخية أقرب إلى واقع أحداث زمانها، ولحظة وصلنا إلى أسس نظريتنا، لم نفعل بعد ذلك شيئا، سوى سحب طرف الخيط، الذي أصبح مستقيما سهلا، بعد أن كان شرنقة من الخيوط المتشابكة، وقد استغرق هذا التأسيس الجزء الثاني بكامله، لكنه التأسيس الخراساني للعمل كله.
وكان هذا التأسيس بهدف إعادة ترتيب للمادة التاريخية المتضاربة، وإعادة صياغتها من جديد، وفق كشوف جديدة تماما.
لذلك أعتبر من جانبي شخصيا، أن التأسيس هو المعبر الصادق والحقيقي، على مدى ما بذل في هذا الكتاب من جهد.
والنموذج الصارخ بصدد تضارب علم التاريخ، أنك ستجد بشأن الهكسوس الذين احتلوا مصر القديمة في نهاية الدولة الوسطى رأيين أبدا لا يلتقيان، فهناك فريق يأتي بهم من جزيرة العرب (السعودية الحالية واليمن)، وفريق آخر يأتي بهم من البراري والسهوب الآسيوية الوسطى، وهو ما يعني مفارقة كبرى؛ لأن سكان جزيرة العرب ساميون وسكان براري آسيا عند قزوين وأرارات من الجنس الهندوآري، وهو أيضا ما يعني أنه لم يتم حتى الآن الاتفاق حول جنس الهكسوس، والمشكلة تظهر عندما تريد تحقيق حدث يتعلق ببني إسرائيل، زمن الهكسوس، هنا لن تتمكن من بناء بحثي سليم، إلا بعد تحديد هوية العنصر الهكسوسي، لما بين الشعبين الهكسوسي والإسرائيلي من وشائج اتصال، كان أول من أشار إليها المؤرخ الكلاسيكي يوسفيوس فلافيوس.
أو أن تبحث عن موقع دولة كبيرة، كانت على علاقة وثيقة بمصر القديمة، زمن الأحداث التي سنتناولها هي بلاد ميتاني ، فتكتشف أنه قد تم وضع هذه الدولة في المساحة الواقعة بين الفرات والخابور، بأعالي الفرات شمالي الشام وشرقي تركيا (افتراضا)، لكن لتكتشف أن هذا المكان كانت تشغله في ذات الفترة الزمنية دولة الآشوريين؟! وتعود تدقق فتكتشف أن ذلك الموضع الجغرافي، الذي تم تحديده لبلاد ميتاني، ليس فيه أية أدلة قاطعة أو حتى مقبولة، لوضع تلك الدولة هناك! نعم إلى هذا الحد يصل التساهل بعلماء التاريخ القديم.
أو تبحث وراء العنصر الآرامي الذي قطن براري الشام وبواديه شرقي مصر، لكن لتكتشف أنه كان عنصرا أصيلا في البلاد، التي أطلق عليها المصريون القدماء بلاد بونت أرض الإله المقدسة، وبينما انتهى معظم المؤرخين إلى وضع بلاد بونت على الساحل الأفريقي الشرقي عند الصومال، تجد إشارات ونصوصا أخرى هامة وكثيرة لا يمكن تفسيرها، بوضع بلاد بونت عند الصومال، وإلا نكون قد أهملنا دلائل وإشارات أخرى، تذهب بنا إلى مواضع جغرافية مخالفة تماما، لما استقر عليه رأي هؤلاء المؤرخين.
وهي المشكلة التي عشت معها فترة، عندما كنت أبحث وراء العنصرين الهكسوسي والإسرائيلي، لأنتهي من البحث الذي طال بما فاق كل توقعاتي، إلى رؤية جديدة ومخالفة تماما، تدخل في باب الكشوف المدعمة بالبراهين والقرائن بنصوص آثارية ولوحات أركيولوجية، وهي الرؤية التي أصبحت العمود الأساسي لعملي هذا، حيث أمكننا العثور على أطراف خيوط مبعثرة، التأمت جميعا في موطن واحد، تجمعت فيه عناصر التاريخ والجغرافيا معا.
أو نقرأ في نصوص الرافدين عن بلاد باسم «موصري»، ونبحث وراء علماء التاريخ فيقولون لك: إنها إما تقع في أعالي الرافدين في الموضع نفسه، الذي تم تحديده لبلاد ميتاني (!!) أو في منطقة العقبة وشرقي سيناء، هكذا! ولك أن تختار أو تحتار بين موقعين متباعدين تماما لبلاد «موصري»، وهو الشأن الذي ستعيش فيه معي في تفاصيل من المتعة المعرفية الحقة، فالتاريخ رغم كل ما يعتوره، هو مساحة مغامرة علمية، لها ذائقة من نوع شديد الخصوصية، في المتعة الذهنية والتفرد.
أو أن تبحث وراء جنس أطلقت عليه التوراة الجنس الكوشي (أي الزنجي)، والمعلوم أن موطنه أفريقيا السوداء، لكن لتجد التوراة تحدثنا عن كوشيين يهاجمون فلسطين من الجنوب زمن المملكة اليهوذية، فيضع المؤرخون تفسيراتهم فيما لا يزيد عن سطرين عند كل منهم، البعض يرفض روايات التوراة تماما بهذا الخصوص، فكيف يهاجم الأفارقة الزنوج فلسطين طوال الوقت، كما لو كانوا جيرانهم؟ بعض آخر فسر ذلك بأن المقصود هم المصريون؛ لأنهم من أبناء حام، ومن أبناء حام كان كوش أبو الزنج الكوشيين، وذلك حسب شجرة الأنساب التوراتية، لكن يبقى السؤال البسيط الساذج: إن التوراة طوال الوقت تتحدث عن المصريين باسمهم، فلماذا أسمتهم هنا باسم الكوشيين؟! لذلك لا يقنع فريق ثالث بهذه النتائج، ويرى أن المقصود بالكوشيين هم المصريون فعلا، لكن في زمن حكم الأسرة السوداء الكوشية، وهي من الأسر الأخيرة لمصر القديمة، وهنا يبرز فريق رابع ليقول: ليس المقصود بالكوشيين في التوراة دائما هو العنصر الزنجي؛ لأنه ربما كان يشير إلى العنصر الكشي أو الكاسي، الذي احتل بلاد الرافدين قادما من السهوب الآرية الشمالية، في ذات الزمن الذي احتل فيه الهكسوس مصر، ومرة أخرى لك أن تختار، ومع كل اختيار لا يمكنك أن تتأكد من سلامة مقدماتك، لتمضي في استنباطاتك وأنت مطمئن، وكل هذه الحالات التي نشير إليها كانت عاملا مشتركا، في موضوع الإسرائيليين وعلاقتهم بمصر، وهنا لا بد أن ينال موضوعك حجما من التضارب، وتصل بك النتائج إلى درجة من التناقض، تتناسب مع اختياراتك من مجموع المتناقضات التاريخية، ويبقى لديك سؤال لم يجبك عليه أهل التاريخ: وعلى أي الأسس يتم الاختيار، وفي هذه الحال يطرح السؤال نفسه: وهل بذلك نبني علما؟
ثم إليك ما هو أنكى وأشد، في مثال فصيح واضح، حول موعد خروج بني إسرائيل من مصر، وحتى لا نطيل عليك هنا، سنضرب لك مثالا برأي مدرسة واحدة فقط، هي التي سادت واستقرت نهائيا، في زعم علماء التاريخ حول مسألة الخروج، وهي المدرسة التي تعتمد على ذكر كلمة إسرائيل في لوح مرنبتاح ابن رمسيس الثاني لأول مرة، وربما لآخر مرة في التاريخ المصري، ليقولوا إن الإسرائيليين قد سيموا السخرة والعذاب زمن رمسيس الثاني، وخرجوا من مصر زمن ولده مرنبتاح، الذي حكم حوالي 1224-1214ق.م. خلال الأسرة التاسعة عشرة.
المشكلة تظهر عندما نبدأ في رصد وجود الإسرائيليين في فلسطين، ولما كانت التوراة تطلق عليهم أحيانا اسم العبريين، فإن التضارب يبدأ صارخا عندما يعرضون لنا، محتويات مكتبة تل العمارنة عاصمة الفرعون إخناتون، وأغلبها كان رسائل قادمة من ولاة مصر على أراضي الإمبراطورية المصرية في الشام، والتي دونت صرخات استغاثة من هؤلاء الولاة بالفرعون، لحماية أراضي مصر في بلاد الشام، من هجوم شعب جاء اسمه على مختلف التنغيمات «العابيرو، الخابيرو، الهبرو، الهابيري، الخابيري، خبر، الأبيري، العابيري الهبيرو ... إلخ.» فإذا كان الإسرائيليون هم العبيرو (العبريين)، وأنهم خرجوا من مصر زمن مرنبتاح 1224-1214ق.م. وقد حددت رسائل العمارنة تاريخ ذلك الهجوم العبري على فلسطين، بزمن أمنحتب الثالث 1405-1367ق.م. وولده إخناتون 1367-1350ق.م. أي كانوا يهاجمون حدود فلسطين في زمن أمنحتب الثالث، وقبل أن يخرجوا من مصر زمن مرنبتاح 1224-1214ق.م. أي قبل الموعد المقرر تاريخيا لخروجهم بحوالي 170 عاما بالتمام والكمال؟
ونحن نعلم أن القائد الإسرائيلي للخروج بعد موسى المعروف باسم يشوع، أول ما هاجم في فلسطين «غربي الأردن» عندما عبر نهر الأردن، وهاجم مدينة أريحا ودمرها تدميرا شاملا، لكن البحث الأركيولوجي قد أثبت أن أريحا، قد تم تدميرها فعلا، لكن قبل الزمن المحدد في هذه النظرية للخروج بما يزيد عن 150 عاما!
لحل الإشكال لجأ المؤرخون بكل رصانة إلى استبعاد، أن يكون العابيرو هم العبريين التوراتيين، إنما هو اسم مشابه، حملته فئات من شذاذ البدو وقطاع الطرق، ولا يجب ربط تلك الإشارات التاريخية عن العابيرو، بمسألة بني إسرائيل والخروج، وهي النظرية المعتمدة أكاديميا في أقسام التاريخ القديم بجامعات العالم حتى اليوم.
نموذج آخر وما أكثرها النماذج في علم التاريخ! نوضحه بالقول إننا لو حتى أخذنا برأي مدارس أخرى، توارت بعد ظهور واستتباب الأمر لنظرية الخروج زمن مرنبتاح؛ سنجدها تضع الخروج في مساحة تتأرجح بين ثلاثة قرون كاملة، تبدأ بزمن الفرعونة حتشبسوت 1490-1468ق.م. وتنتهي بزمن مرنبتاح 1224-1214ق.م.
ومشكلة أخرى تظهر عندما تبدأ في علاج علاقة الإسرائيليين بالفلسطينيين، فعلم التاريخ الرصين يؤكد لنا أن شعبا جديدا باسم البلست أو البلستي، جاء بسفنه البحرية المسلحة من الجزر اليونانية يهاجم مصر، زمن رمسيس الثالث 1182-1151ق.م. لكننا نجد هذا الشعب في ذات الزمن، يقيم على سواحل فلسطين! والحل ببساطة عند أهل التاريخ، أنه بعد أن هزمهم رمسيس الثالث سمح لهم بالإقامة على سواحل كنعان، التي كانت تابعة لمصر حينذاك، ومن ثم أعطوها اسمهم فأصبحت فلسطين؟! هكذا بكل يسر وسهولة تم حل المشكلة! لكن الصارخ في المسألة أن الإسرائيليين - حسب الكتاب المقدس - عندما خرجوا من مصر كان الفلسطينيون مستقرين في ممالك كبرى، وهذا قبل أن يصلوها زمن رمسيس الثالث (؟!) بحسبان الخروج قد تم زمن مرنبتاح ابن رمسيس الثاني، أو ربما قبله في مدارس أخرى؟
والأكثر إدهاشا أن نجد التوراة نفسها، تأتي بالقبيلة العبرية في تاريخها القديم من «أور الكلدانيين» - قبل دخول مصر والخروج منها بزمان - إلى أرض كنعان كقبيلة هامشية غريبة على البلاد، وتصف التوراة هذه البلاد بأنها «أرض الفلسطينيين» قبل وصول الفلسطينيين إليها، زمن رمسيس الثالث بحوالي خمسة قرون كاملة حسبما يقرر أهل التاريخ؟!
المصيبة هنا أن «كل هذه المتضاربات الصارخة، التي ضربناها مثلا كانت خلال الفترة الزمنية، وفي المساحة الجغرافية التي يعالجها كتابنا هذا». ومن هنا كان لا بد من إعادة قراءة ذلك الرتل المختل مرة أخرى، قراءة تضبط أحداثه وفق منهج علمي صارم ودقيق، وإذا وجد القارئ بعض التضارب أحيانا في المادة التاريخية، فله أن يستميح لي العذر، وأنني قد حملت عنه عبء إعادة الترتيب والضبط، ويبقى كتابي هذا شاهدا على مدى تساهل أهل التاريخ، ومدى قيمة ما يتم تدريسه في جامعاتنا، بل وفي جامعات العالم دون الشعور بأي خلل.
هذا ما كان عن المصدر الأول لهذا العمل، أما المصدر الثاني والذي لا يقل أهمية وخطورة، فهو الكتاب المقدس
Bibel
العهد القديم، المصطلح على تسميته بالتوراة (تجاوزا)؛ لأن التوراة لا تشكل فيه غير الأسفار الخمسة الأولى فقط، وبعضهم يضيف إليها السفر السادس «يشوع»، وهنا سنستخدم الكلمات الثلاث على التبادل: العهد القديم/التوراة/الكتاب المقدس، في هذا العمل، للدلالة على ذلك الكتاب الهائل والضخم، وهو إضافة إلى كونه كان كتابا مقدسا لدين بعينه، فإنه أيضا عمل أدبي رائع لأساليب تعبير ذلك الزمان، إضافة إلى - وهنا الأهم - «أنه كتاب في التاريخ في المقام الأول»، وكتابنا هذا يثبت لك مدى صدق هذا التقرير «أن العهد القديم كتاب في التاريخ»، بل إن هذا الكتاب عندما تعاملنا معه، ألقى أضواء على مناطق كانت شديدة الظلمة في تاريخ المنطقة القديم، وملأ فراغات وثقوبا في علم التاريخ، لكن المشكلة أنك عند التعامل مع هذا المصدر، ستواجه متاعب أخرى ومن نوع آخر، فليس هناك أولا إجماع على قيمة التوراة كوثيقة تاريخية؛ لما شابها على أيدي المحررين من نزوات ومبالغات وحشو وإضافات وأساطير تغشت كل أسفارها، بحيث أصبح علينا أن نثبت مدى الصدق ومدى الباطل ومواضعهما في التوراة عند المعالجة، كي نطمئن إلى ما بقي بأيدينا من هذا المأثور الهائل، يمكن أن يكون واقعة تاريخية، فالوثيقة التوراتية تحمل بصمات التاريخ، يمتد بزمن كتابتها الذي استغرق حوالي 1500 سنة متصلة، تعرضت أثناءها للمعالجة وإعادة التحرير عدة مرات من محررين أغلبهم مجهول، لكنها من جانب آخر تشكل حقلا رائعا وثريا، لمن يريد إعمال المنهج العلمي للخروج منها، بما يمكن تسميته حقائق تاريخية.
لذلك مهدنا لعملنا بالجزء الأول المعنون ب «تمهيد تاريخي»، بعرض أهم أدوات وأساليب التعامل مع هذا المأثور، بحيث يمكننا بعد العرض النقدي، تقديم شهاداته كشهادات تاريخية، ونحن أكثر اطمئنانا لتلك الشهادات، لكن ضمن ذلك المأثور تقع مجموعة من الأساطير، احتاجت منا تضفير تفسيرها وفض دلالاتها، ومعرفة الغرض من وراء دسها وسط السرد التاريخي ضمن مجموع العمل، ومحاولة فهم ما حدث بعيدا عن منطق الأسطورة والمعجزة، فحاولنا العثور على إجابات واضحة لمسألة العصا الثعبانية، وفلق البحر، والعليقة المشتعلة بنار لا تحرق، هذا إضافة إلى أسئلة أخرى تأسيسية، حاولنا الإجابة عليها وهي: لماذا يتمسك اليهود بلحظتين تاريخيتين أساسيتين، كلتاهما تتعلق بمصر تحديدا؛ لحظة العهد مع الله بالختان، والختان شرعة مصرية أساسا، ولحظة عبور البحر من مصر إلى سيناء، وهو ما يجرنا إلى مناقشة كل لحظة تماس في علاقة الشعب الإسرائيلي بمصر، منذ نزول إبراهيم إليها ومن بعده يوسف والأسباط، حتى ميلاد موسى وخروجهم منها، حسبما وردنا من روايات التوراة، أما الأهم فهو أين كان العرب من كل تلك الأحداث؟
أما «موسى» فهو المبحث الأول والغرض النهائي، ويشكل البحث وراءه الجزء الثالث والجزء الرابع في هذا العمل، لكن ما يجب هنا التأكيد عليه وإعلانه واضحا، أنه رغم وجود بعض أوجه الشبه في تفاصيل قصة موسى بين التوراة والقرآن، فإن أوجه الخلاف بدورها كبيرة، سواء في الرؤية العامة لمفهوم الألوهية أو النبوة، مع خلافات أساسية حول بعض التفاصيل والدقائق، وهو ما يجعل من موسى التوراتي شخصا آخر، يختلف اختلافا بينا وحادا عن موسى القرآني، ومن هنا نقول بل ونعلن أن بحثنا هذا، يتناول شخص النبي موسى كما ورد بالتوراة وبقية العهد القديم فقط، «ولا علاقة لبحثنا بشخص النبي الجليل موسى الكليم عليه أفضل الصلوات وأزكى السلام»، لا من بعيد ولا من قريب، وإذا وجد القارئ متناثرات نادرة عن النبي موسى كما هو في الإسلام، فإن ذلك قد جاء على سبيل الاستضاءة ليس إلا، ولا يعني أننا نتحدث عن موسى كما هو في الإسلام.
توطئة
لعل هذا التنويه جدير بذكاء قارئنا، الذي لا ريب يعلم ما تعرضنا له مؤخرا، من إرهاب فكري ومصادرة لكتابنا رب الزمان، والذي صحبته رحلة قاسية بين أروقة المباحث المصرية ونيابة أمن الدولة، والقضاء ورهاب قفص الاتهام، واحتمالات الاعتقال أو القتل. ورغم أن العقبى كانت لنا بعد معركة فكرية، أصررنا فيها على عدم التراجع عن كلمة قلناها، لا بالتصريح ولا بالتلميح ولا بالتأويل، فإن المناخ السائد في مصر الآن، الذي يشبه من جوانب كثيرة «طالبان الأفغانية»، يفرض علينا ذلك التنويه وهذا التنبيه الواضح الفصيح، أكرر لا علاقة البتة بين دراستنا هنا حول موسى التوراتي، وبين النبي موسى كما جاء في الإسلام، بل قصدنا بالعمد قصدا قصر الدراسة على موسى التوراتي، بفرض أنه كان شخصا حقيقيا تاريخيا وليس مجرد أسطورة، «لنرى إلى أين يمكن أن يصل بنا البحث، حسب معطيات التوراة وعلوم التاريخ».
ومن الجدير بالذكر أنه أثناء بحثنا في النبي موسى، قد اكتشفنا الإجابة على بعض التساؤلات، التي سبق وطرحناها في كتابنا «النبي إبراهيم والتاريخ المجهول»، وكنا قد طرحنا بعض الحلول العجلى في كتاب النبي إبراهيم، ثبت لنا الآن أنا كنا فيها مخطئين، وهو كتاب مضى عليه أكثر من ثلاثين عاما، وصل بعدها الكاتب إلى النضوج الراشد، خاصة ما تعلق منها بكتاب «إبراهيم» بتفسير التواجد الثقافي المصري القديم في جزيرة العرب، وهو ما ألجأنا في كتاب النبي إبراهيم، إلى افتراض هجرة مصرية إلى جزيرة العرب، تركت هذه المؤثرات، لكنا الآن نذهب مذهبا آخر في تفسير ذلك، ستفصح عنه صفحات هذا الكتاب.
وقد عمدنا إلى تقسيم هذا العمل في طبعته الأولى إلى أربع وحدات، ثم إدماج الجزء الرابع في الجزء الأول في هذه الطبعة، التي بين يديك ليصبح ثلاث وحدات (أجزاء) هي كالتالي: (1)
تمهيد تاريخي مع إعادة ترتيب جغرافية الخروج. (2)
إعادة ترتيب أحداث التاريخ. (3)
آخر أيام تل العمارنة.
وفي الوحدة الأولى المقسمة إلى أبواب، والأبواب إلى فصول، حاولنا الإجابة على استفسارات مفترضة، حول عدة موضوعات بحاجة إلى إيضاح أولي، مثل طبيعة الإله التوراتي، ومدى اتفاقه أو اختلافه عن مفهوم الألوهية عند الشعوب الأخرى في زمانه، وكان طبيعيا أن نعرج على الوعاء القدسي للمفاهيم التوراتية: الكتاب المقدس، وبالتحديد العهد القديم منه، فعرضنا أقسام العهد القديم كما هي بكتابها، ومصادر ذلك الكتاب حسبما انتهت إليه المدارس البحثية، ولم يفتنا أن نحاول تتبع الطرق التي استخدمت في تدوين تلك الوثيقة الشديدة الأهمية، وبأي لغة كتبت، مع البحث عن مساحات الصدق التاريخي في العهد القديم، وما رواه من أحداث، بالمطابقة مع الكشوف التاريخية والأركيولوجية.
ثم كان لا بد من تعريف واضح للقبيلة صاحبة التوراة، والمعرفة بالقبيلة الإسرائيلية ، مع إطلالة سريعة على الفترة التي تواجد الإسرائيليون فيها بمصر وخروجهم منها، بحسبانها النقطة المفصلية في تاريخ القبيلة الإسرائيلية.
وعند هذه النقطة المركزية وقفنا هنيهة، نستمع لأهم النظريات المطروحة في مسألة دخول بني إسرائيل مصر، ثم خروجهم منها، وموعده الزمني وخطوات رحلة الخروج عبر مواضع جغرافية ذكرتها التوراة، لم تعد اليوم مواضع دقيقة لتغير أسماء المواضع الجغرافية عبر الزمن، بل وتغير الجغرافيا نفسها بتحولات فروع نهر النيل، خلال هذا الزمن الطويل؛ مما أدى إلى خلف كبير بين الباحثين، حول خط سير الخروج، وهو الأمر الذي استدعانا لطرح رؤية جديدة تدقيقية، حول مواضع خط سير الخروج الإسرائيلي من مصر، وبتحديد مواضع إقامة الإسرائيليين في مصر، ومواضع خط الخروج نختتم الوحدة الأولى من هذا العمل ...
أما الوحدة الثانية، والتي نزعم أنها العمود الفقري للعمل جميعه، فهي ما اعتدنا عمله في أعمالنا السابقة تحت عنوان «تأسيس» بديلا عن المقدمة، «لكن التأسيس هنا يعادل في حجمه وفي كيفه بقية الكتاب جميعا». حيث نظننا قد تمكنا في هذا التأسيس من اكتشاف طرف الخيط في شرنقة معقدة، من الألغاز التاريخية غير المحلولة، أو التي سبق حل بعضها بحلول متعجلة ومتسرعة، أدت إلى تراكمات من الأخطاء، تحولت بمرور الوقت إلى لون من الحقائق الثابتة، خاصة عند المؤرخين التقليديين، وعندما نشرنا الفصول الأربعة الأولى من الباب الأول في هذا التأسيس، ثارت زوبعة حادة، تزعم الطرف المقابل أو المعارض فيها أحد أساتذة التاريخ بجامعة الإسكندرية، دون أن ينتظر قراءة بقية العمل كاملا.
على أية حال نحن لا نزعم إلا المحاولة، ولا يذهب بنا الظن حد تصور، أننا قد وضعنا النظرية النهائية التامة الصدق، فلا شك بقدر ما سيجد قارئنا من جهد بين تلال وطرق كالمتاهات، من المادة العلمية الهائلة في كمها وفي كيفها وفي تناقضاتها، بقدر ما سيجد من أخطاء ارتكبناها، لكن كل ما نرجوه أن تكون أقل وزنا من المحاولات الناجحة.
وقد عمدنا في هذا التأسيس إلى أسلوب جديد إلى حد ما، قياسا على أعمالنا السابقة، بحيث تركنا مساحة أوسع للقارئ ليشاركنا التقاط مكامن الأخطاء بين شراك معقدة ، وليشاركنا أيضا متعة البحث والاستقصاء، ومتعة الفرح بالكشف العلمي، إذا جاز لنا وصف ما وصلنا إليه بالكشف.
وعلى هذا الذي أسميته كشفا، أعدت قراءة علاقة القبيلة الإسرائيلية بمصر، على كافة الأصعدة والمستويات الممكنة، ثم علاقتها ببقية شعوب المنطقة، مع إعادة قراءة قصتي دخول بني إسرائيل مصر وخروجهم منها، لتفضي بنا تلك القراءة إلى نتائج هي بقدر جدتها بقدر خطورتها، وقد ضفرنا تلك القراءة مع ما وصلنا إليه في التأسيس، وذلك في الوحدة الثالثة «النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة»، التي ركزت همها البحثي في اكتشاف الحقائق الغائبة وراء النصوص المعلنة في علاقة الفرعون إخناتون بشخصيتين أخريين هما: موسى نبي اليهودية، وأوديب الملك اليوناني صاحب الملحمة المشهورة في المسرح اليوناني.
ولأننا تعرضنا بطول الوحدات الثلاث إلى تفاصيل صغيرة، حاولنا معها ضبط بعض التفاصيل الدقيقة، كالكشف عن اسم فرعون يوسف وزمنه، واسم فرعون موسى وزمنه، فكان لا بد من استكمال سلسلة الحلول الصغيرة، لنستكمل تضفير المشهد الأكبر للوحة الأساسية لكتابنا، ونقصد النظرية التي وضعناها في التأسيس لقراءة الموسوية والإخناتونية، على أرض تاريخية أقرب إلى الصحة والسلامة.
ولأن الكتاب بين يديك، وفيه تفاصيل بها كفاية وغنى عن أي مقدمات تفصيلية، فسنكتفي هنا بمحاولة التوطئة تلك، لنترك القارئ أمام العمل مباشرة، لكنا نستميح قارئنا عفوا ونحن نكرر: «نرجو أن نكون قد ارتكبنا أقل قدر ممكن من الأخطاء، وأكبر قدر ممكن من الكشوف الصادقة، وهي الكشوف التي أزعم أني - أبدا - لم أكن مسبوقا إليها.»
تمهيد تاريخي مع إعادة ترتيب جغرافية الخروج
الباب الأول
شعب التوراة
الفصل الأول
التوراة وربها وشعبها
قيضت مجموعة من ظروف تاريخ الاجتماع الديني، ذكرا عظيما واستمرارا مدهشا - عبر المأثور الديني - لواحدة من القبائل الهامشية القديمة هي القبيلة الإسرائيلية، التي جاءت إلى منطقتنا من مكان بعيد، لم يزل تحديده بشكل دقيق مثار خلاف بين الباحثين والمؤرخين، رغم أن تلك القبيلة في حقيقة أمرها لم تكن بهذا الذكر العظيم في مراجع التاريخ كعلم .
وقد دانت هذه القبيلة بدين يعرف باسم الديانة اليهودية، التي تنسب إما للسبط يهوذا أحد الأسباط الاثني عشر، أبناء يعقوب في أساطير الآباء البطاركة الأولين، وهو الرأي المرجح، وإما لرب اليهودية المعروف في التوراة باسم يهوه أو جاهوفاه أو ياه أو ياي أو إهيه أو يهيه، على مختلف التنغيمات الواردة بالكتاب المقدس، وهو الذي - حسبما تقول التوراة - قد ظهر لموسى في تجل سحري على هيئة لهيب مضيء، ينبعث من شجيرة نباتية (عليقة) لا تحترق باللهيب.
ورغم ارتفاع شأن الإله يهوه في أفق الديانة اليهودية في طورها المتأخر، فإنه لم يكن كذلك في البدء أبدا؛ لأن عقائد القبيلة أو القبائل المنعوتة باسم إسرائيل، حسبما وصلتنا في كتابها المقدس (العهد القديم)، تتضمن رواسب لأشكال بدائية من عبادات الحيوانات كالسوائم النافعة مثل الثور والخروف، أو الضارية الصحراوية كالذئب والضبع، إلى عبادة قوى الطبيعة كالشمس والقمر والمطر والأنهار والبراكين، إضافة إلى عبادة الأسلاف الغوابر.
كذلك عبد هؤلاء أرباب المنطقة وخاصة آلهة الخصب الكنعانية «البعول» (جمع بعل أي سيد أو رب)، وقد تميز من بين تلك البعول البعل الرافدي «تموز»، والبعل الكنعاني «بعل مولك» (أي السيد الملك)، والبعل الفينيقي «أدونيس» واسمه بحذف التصريف الاسمي في آخر الكلمة «يس» هو «أدون»، هو اسم يعني السيد أو الرب أيضا.
وأيضا عبدوا كبير الأرباب السامية وشيخها ورئيس مجمعها «إيل» الذي تنتسب إليه أسماء شهيرة بالكتاب المقدس مثل «عزرا -إيل، وميكا-إيل، وجبرا-إيل، وإسماع-إيل ... إلخ»، وهو الذي اشتق منه اسم الجلالة «إيلاه» أو «الإله»، الذي أصبح في العربية «الله».
كما عبدوا ربات الخصب والزرع والخضرة مثل «عشتروت» الرافدية، و«عشيرة» الفينيقية، و«عناة» الكنعانية، وكلهن زوجات لأرباب الخصب البعول، وكان الثور عادة هو الرمز الأعظم تجليا، والمشترك الواضح بين تلك البعول؛ لما يتميز به من فحولة جنسية تقارن بخصب الطبيعة وعطائها.
كذلك عبدوا عبادات مصرية واضحة، مثل «اليواريس» الحية المصرية حامية الملكية والتاج، ومراكب الشمس التي تحمل رب الشمس «رع» في جولته السماوية من الشرق إلى الغرب .
ونماذج لهذه العبادات نقرأ بالعهد القديم «فقال لهم هارون انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وائتوني بها ... فأخذ ذلك من أيديهم وصوره بالإزميل وصنعه عجلا مسبوكا، فقالوا: هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر» (خروج، 32: 2-5).
وفي سفر العدد (25: 1-3) نجدهم يعبدون بعل فغور في بلاد مديان، وفي سفر القضاة (2: 11-17) يعبدون مع البعل، الأنثى السماوية المخصبة عشتروت ربة الجنس والخصب، وقد عبد أعظم ملوكهم طرا «شلما» المعروف عربيا باسم «سليمان» عددا من الآلهة «فذهب سليمان وراء عشتروت إلهة الصيدونيين وملكولم رجس العمونيين ... وبنى سليمان مرتفعة لكموش رجس الموآبيين على الجبل الذي تجاه أورشليم، ولمولك رجس بني عمون» (ملوك أول، 11: 1-8).
وبعد موت سليمان سار الملك يربعام على ذات الدرب: «وعمل عجلي ذهب وقال لهم: هو ذا آلهتك يا إسرائيل الذين أصعدوك من أرض مصر» (ملوك أول، 12: 28)، ويحيطنا سفر ملوك ثاني (18: 4) أن الحية نحشتان (أي الحنش) ظلت تعبد منذ صنعها لهم موسى في سيناء، وحتى زمن الملك يوشيا، وذات السفر يؤكد أنهم قد عبدوا رع رب الشمس المصري؛ لأنهم كانوا يسجدون لمركبه السماوي (عبادة مراكب الشمس).
ويحدثنا سفر «ملوك ثاني» عن الملك حزقيا بن أحاز، الذي كان متعصبا لعبادة يهوه، وكيف أنه «هو أزال المرتفعات وكسر التماثيل وقطع السواري وسحق حية النحاس التي عملها موسى؛ لأن بني إسرائيل كانوا إلى تلك الأيام يوقدون لها (أي يقربون لها القرابين [المؤلف])» (ملوك ثاني، 18: 4).
وقد عبد البطاركة الأوائل من إبراهيم إلى إسحاق إلى يعقوب حتى زمن موسى، الإله السامي المعروف بكبير الآلهة «إيل»، لكن إلى جواره كانت عبادة الأصنام شيئا اعتياديا معلوما بالتوراة، فهذه راحيل زوجة يعقوب تسرق أصنام أبيها المنزلية اعتزازا بها، عندما غادرت موطنها حاران إلى فلسطين بصحبة زوجها يعقوب (تكوين، 31: 34)، وقد بقيت هذه الآلهة مع غيرها في بيت يعقوب على ما يفهم من الإصحاح (35: 1-2) من سفر التكوين، كذلك نجد ذات الأصنام المنزلية موجودة بشكل اعتيادي في بيت الملك «داود بن يس»، بعد قرون طويلة باسم «الترافيم»، وهو ما يوضحه لنا سفر صموئيل أول (19: 12-13)، بل يبدو أن الرب يهوه نفسه وهو في عزه، عند مطلع القرن السادس قبل الميلاد، لم يكن متفردا، فهناك جالية يهودية عاشت في ألفنتين عند أسوان بمصر، وحافظت على مأثور «اختفى في التوراة ولم يذكر، فكانت تعبد إلى جوار يهوه زوجته عناة يهوه»، ومعلوم أن اسم عناة كان لربة الخصب الكنعانية، وهو اسم زوجات البعول بشكل اعتيادي.
1
والإله يهوه نفسه في التوراة وبلسانه هو لم يدع لحظة، أنه رب البشر أجمعين بمفرده، بل كان نقيض ذلك تماما، فهو يعترف ببساطة بوجود آلهة أخرى أبدى غيرته منها، ووجد أن من حقه على الشعب الذي اختاره أن يميزه عن هذه الآلهة ويعبده دونها؛ لذلك كانت الوصية الأولى بين الوصايا العشر «لا يكن لك آلهة أخرى أمامي» (خروج، 20: 3) لذلك - ومثل جميع القبائل - عظمت القبيلة الإسرائيلية ربها يهوه، وعبرت التوراة عن انزعاجها من عبادة الإسرائيليين لآلهة أخرى لقبائل أخرى، فالمزمور (86: 8) ينادي مؤكدا: «لا مثل لك بين الآلهة يا رب.» ويقول المزمور (135: 5): «عرفت أن الرب عظيم، وربنا فوق جميع الآلهة.» أما أمر يهوه لموسى وأتباعه فكان: «لا تسجد لإله آخر؛ لأن الرب اسمه غيور، إله غيور هو» (خروج، 34: 14).
وكان الشرك بمعنى عبادة آلهة عديدة واضحا في أفق تلك العقيدة منذ بدئها حتى نهاية تدوين الكتاب المقدس اليهودي، ففي أسفاره الأولى المبكرة نجده يقول صراحة: «آباؤكم ... عبدوا آلهة أخرى» (يشوع، 24: 2)، والآباء هم البطاركة من إبراهيم حتى موسى.
ولم يقتصر ذلك على زمن إيل والبطاركة الأوائل، بل يبدو أنه كان سمة زمن يهوه منذ موسى، فترنيمة الخروج تتساءل: «من مثلك بين الآلهة يا رب؟» (خروج، 15: 11)، و«الآن علمت أن يهوه أعظم من جميع الآلهة» (خروج، 18: 11)، وحتى الأزمنة المتأخرة المفترض أن يهوه قد تفرد فيها بالعبادة وحده، نسمع النبي إرميا ينادي شعبه صارخا فيه منددا: «بعدد مدنك صارت آلهتك يا يهوذا» (إرميا، 11: 13).
وخلال ذلك السير التطوري الطويل كان كهنة يهوه وأنبياؤه، يكافحون طوال الوقت العبادات الغريبة الأخرى، وحاولوا - خاصة في الأسفار الأخيرة - تمييز يهوه بحسبانه ربا عالميا، ومع التطور أمكن لهم إدماج جميع الرموز المعبودة في التاريخ اليهودي في رب واحد هو يهوه، الذي صار ربا واحدا لكن تتجلى فيه قدرات آلهة أخرى قديمة، فهو رب البرق والرعد والأعاصير مثل «بعل» الكنعاني، وهو الذي ينزل السخط والعذاب والجوع والجفاف مثل «سيت» المصري، وهو رب الرحمة رغم ذلك مثل «أوزيريس» المصري، وهو أيضا رب البراكين والزلازل المدمرة مثل «تيفون» رب الشر والوباء اليوناني، وهو الذي قتل الحية الشريرة المعروفة في مصر باسم «أبو فيس» عدو رع إله الشمس، والمعروفة في بلاد الشام باسم «لوياثان الحية المتعددة الرءوس»، ومثلما كان رع رب الدولة المصري وأتباعه، ينتصرون على أبو فيس الشرير الظلامي كل يوم، لتعود الشمس ساطعة في اليوم التالي، وكما كان البعل الكنعاني ينتصر على لوياثان، فإن ذات المهمة قد نسبت إلى يهوه، فنجد وصفا مرعبا للوياثان في الكتاب اليهودي المقدس يقول: «من يفتح مصراعي فمه، دائرة أسنانه مرعبة، عطاسه يبعث نورا وعيناه كهدب الصبح، من فيه تخرج مصابيح، شرار نار يتطاير منه، من منخريه يخرج دخان، كأنه من قدر منفوخ أو من مرجل، نفسه يشعل حجرا ...» (أيوب، 41: 14-20)، وهذا التنين الثعباني قد قتله يهوه في النص «أنت شققت البحر بقوتك، كسرت رءوس التنانين على المياه، أنت رضضت رءوس لوياثان» (المزمور، 74).
وهو الأمر الذي سجلته لنا ألواح أوغاريت المكتشفة على الساحل السوري (رأس شمرا الآن) قبل التوراة بأزمان، فنقرأ في ملحمة البعل: «في ذلك الوقت ستقتل لوياثان الحية الهاربة، وتضع نهاية للحية الملتوية شالياط ذات الرءوس السبع.»
2
وقد كررت هذا النص التوراة في قولها نصيا: «في ذلك اليوم يعاقب الرب بسيفه القاسي العظيم الشديد لوياثان الحية المتحوية» (إشعيا، 27: 1).
وأدمجت جميع الآلهة ووظائفها في شخص يهوه، بعضها كان يمثل الخير، وبعضها الآخر يمثل الشر، وتم دمجها في يهوه فحاز الدورين معا، فهو رب الخير والخصب، وهو رب الشر والجفاف، «أنت فجرت عينا وسيلا، أنت أيبست أنهارا دائمة الجريان، لك النهار ولك الليل أيضا» (المزمور، 74: 15).
لذلك - وبالضرورة - احتسب أن الخير والشر ينبعان كلاهما من يهوه الواحد بذات الدرجة دون تناقض، لكن ذلك أدى إلى مشكلة مستعصية، ظلت بعد ذلك أرقا دائما للأنبياء والكهنة.
وتتمثل المشكلة في أن الديانة اليهودية على غير المعتاد في جميع الديانات، اختار فيها الرب شعبه إسرائيل من دون الناس ليتأله عليه، وبالمقابل ينقذهم من ظلم المصريين، بينما المعتاد أن تختار الشعوب آلهتها، أي أنه خص تلك القبيلة دون العالمين بذاته وعبادته وفضلها على العالمين، ومع ذلك فإن هذا الرب الذي جمع صفات آلهة الخير مع آلهة الشر، لم يكن ينزل الشر فقط بالآخرين الأغيار غير اليهود، بل باليهود أنفسهم بشكل يكاد يكون أكثر من الآخرين. لقد كانت مهمته بعد دمج الآلهة في شخصه إنزال الشرور بالأعداء، فما باله ينزل نقمته على شعبه الذي اختاره واصطفاه وفضله على العالمين؟ وتفاقمت المشكلة بعد انقسام مملكة سليمان، وظهور قوى جبارة أخرى في الشرق كالآشوريين والبابليين إضافة إلى المصريين، وهم من جعلوا المملكتين الإسرائيليتين كرة يتقاذفونها فيما بينهم، إضافة إلى سنوات القحط والمجاعة المتواترة، ناهيك عن أولئك اليهود الذين أخذوا بالإثراء على حساب إخوانهم الآخرين بجشع لا يرحم، وهنا ظهرت المفارقة ما بين الإيمان بإله حليف للشعب، ظهر أصلا لإنقاذ هذا الشعب وحمايته، وبين ما بات يعانيه هذا الشعب من آلام وخطوب، لا شك أن الذي ينزلها يهوه نفسه بعد عمليات الإدماج الألوهي، فكيف يجوز احتساب هؤلاء شعبا مختارا؟ أم كان مختارا للعذاب؟
لقد كان ضروريا من أجل توحيد صفات يهوه الجمع بين السمتين القومية والشمولية، ليصبح يهوه كلي الجبروت، وتمتد سلطته لتشمل الشعوب جميعا، لكن إسرائيل يظل شعبه المختار والمحبوب، وهو ما لا يمكنه تفسير ما لحق به من هزائم أمام الوثنيين الذين لا يؤمنون بيهوه؟
إن هذا التناقض كان قد ساقه من قبل الفيلسوف اليوناني أبيقور 341-218ق.م. حين تساءل: إذا كان الإله كلي الجبروت وكلي الخير، فلماذا يوجد الشر في العالم؟ إما أن الإله يريد القضاء على الشر ولكنه لا يستطيع، وفي هذه الحالة يكون عاجزا ولا يستحق صفته الكلية، وإما أنه يستطيع ولا يريد وفي هذه الحال يكون شريرا وشيطانا، يتلذذ بتعذيب عباده، وإما أنه لا يستطيع ولا يريد، وهذا أمر لا يتناسب مع إله، وإما أنه يريد ويستطيع ويبقى السؤال: فمن أين الشر إذن؟
3
أما المشكلة الثانية التي اعترضت طريق اليهودية، وترتبط بالمشكلة الأولى تماما، فهي غياب فكرة البعث والحساب، ثم المصير الأبدي إلى ثواب أو عقاب دائمين، عن أفق التفكير الإسرائيلي، مثلهم في ذلك مثل بقية محيطهم من الشعوب السامية، يعتقدون أن المصير بعد الموت هو الهبوط إلى مملكة تقع تحت الأرض، هي مملكة شيول المظلمة دوما المخيفة، حيث يعيش الموتى على شكل هوام شبحية، وضعها أسوأ من الحياة ومن العدم، الكل فيها سواء، الصالح مثل الطالح.
وبينما عالجت جارتهم الكبرى مصر هذه المشكلة مبكرا، فقررت وجود عالم آخر بعد بعث جسدي، فيه ثواب وعقاب عن العمل في الحياة الدنيا، حتى يمكن الاعتراف بعدل الإله، ويأخذ الشرير عقابه وينال الخير ثوابه، فإن الديانة الإسرائيلية ظلت منذ فجرها وحتى القرن الثاني قبل الميلاد تعتقد أن الثواب والعقاب دنيويان، فالصالح من عباد يهوه ينال حياة أطول وخيرا ماديا (وهو بالطبع الكلام المنطقي)، بعكس الشرير المنحرف دينيا، فهو يموت مبكرا بقرار إلهي، ولا ينال خيرا في دنياه، يهوه بالأمراض والسقم والفقر والخيبة، ثم يموت حزينا كميدا. اليهودية كانت تثق في يهوه، وترفض وهم العزاء الأخروي زمنا طويلا، لكن يهوه أبدا لم يأبه لهم، فالوثنيون أعزاء كرام بين العالمين، والإسرائيليون يكابدون، وبين اليهود أنفسهم يعيش الشرير وأصحاب المال عيشة رغدا، ويتمتع بالصحة والعافية، بينما يموت المؤمن بيهوه المخلص له فقيرا مريضا، بعد أن ذهبت تضرعاته هباء، وهو الأمر الذي أدى إلى نزعات شك وإلحاد، بدأت تنتشر بين هؤلاء، نجدها واضحة جلية في أسفار، مثل سفر الجامعة وسفر أيوب بالكتاب المقدس ذاته.
ونتيجة انتشار الموجة الإلحادية، قام الأنبياء يحاولون تبرير يهوه وتبرئته، بإلقاء اللوم في كل محنة على الشعب الإسرائيلي، لأن بعضه ولو كان أفرادا قلائل، لم يستقيموا في عبادة الرب، وخانوه مع آلهة أخرى أو شعوب أخرى، وتتالت الخطوب تأخذ بعضها برقاب بعض، حتى العصر الهللينستي الذي أطلق عليه عصر الآلام، عشية مجيء القرن الأول الميلادي بقرنين، فقامت اليهودية تأخذ بالعقيدة الأخروية المصرية كأبرز تبرير للإله، حيث سيمكن تحقيق العدل وتعديل الموازين لكن فيما بعد، عندما يأتي «يوم يهوه»، وينال المخلصون ثوابا أبديا، ويذهب الآخرون إلى العار الأبدي، وبذلك يتحقق ليهوه ما كان ناقصا، وهو العدل الذي لم يحدث في دنيانا الفانية ولا مرة واحدة.
هنا يجب ألا نغفل أن هذا التطور الجديد وإن حدث في فلسطين، فإن فلسطين إبان ذلك كانت تموج بالأفكار المصرية، كما كانت تموج بها مختلف بقاع المتوسط الشرقي، ومن هناك، وعبر الديانة اليهودية قدر للعقيدة الأخروية لتبرير الإله، أن تجد طريقها إلى المأثور السامي، فتصبح من بعد ركنا ركينا في ديانات شرقي المتوسط الكبرى، حتى إنها أدت إلى تطور الديانة اليهودية، إلى ما يعرف بالديانة المسيحية، وأصبح الموتى من المؤمنين بألوهية يسوع، يقومون من الموت للجنة، بعد أن كانوا قبله يذهبون إلى الهاوية، ثم جاءت عقيدة مصر الأخروية به بعد ذلك، كأحد الأسس الإيمانية في قانون الإيمان الإسلامي: أن تؤمن بالله وملائكته ورسله وكتبه «واليوم الآخر» والقدر خيره وشره.
لكن هذا المأثور المصري القديم جدا، لم تتقبله اليهودية إلا متأخرا جدا، وهي تلفظ آخر بقاياها مع آخر أنبيائها، لينتظر اليهود بعد ذلك وحتى اليوم (يوم يهوه)، الذي يسودون فيه الدنيا، وبينما تدفع العقيدة المصرية الأخروية بالدماء إلى شرايين اليهودية، يبدأ الصراع بين القديم التقليدي الرافض للبدعة المصرية، وبين الجديد الذي وجدها ضرورة استمرار حتمية، لينتصر الجديد، فيأخذ العقيدة برمتها مع ربها «أوزيريس»، الإله الطيب رب النور والخصب والخير، الذي يموت شهيدا من أجل رعاياه، ويقوم في اليوم الثالث لموته في قيامة مجيدة، ليمنح من يؤمن بموته وقيامته حياة خالدة في عالمه الآتي، وتنادي الأناجيل هاوية عالم الموتى التحت أرضي تقول: أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاويه؟ الموتى الآن يقومون، يصعدون ولا ينزلون، ويستبدل أوزيريس بيسوع الإسرائيلي، وتظهر في أفق الدنيا ديانة جديدة، هي اليسوعية أو المسيحية أو النصرانية نسبة إلى مدينة «ناصرة» في الجليل - شمال فلسطين - حيث كانت تقيم العذراء «مريم»، حيث حملت بالمسيح، ثم وضعت حملها في «بيت لحم» باليهودية جنوبا. تنتصر الدماء الجديدة التي ضخت في شرايين اليهودية على القديم، ويتجدد القديم بجديد كان قديما مصريا، ويقوى أمرها ويستتب، عندما تعتنق الإمبراطورية الرومانية المسيحية دينا رسميا سنة 391م، تفرضه على رعاياها فرضا.
لكن كي تتم تبرئة الإله نهائيا مما يحدث لعبيده الخلص من نوازل، كان لا بد من العثور على مصدر للشر، وهنا تعود الإنسانية إلى فجر قديم، عندما كانت العقائد القديمة تقول بإلهين أحدهما للخير والآخر للشر، أوزيريس وسيت في مصر، وبعل وموت في كنعان، وأهورمزدا وإهريمان في إيران، وإنليل وتهامة في العراق، وبعل وموت في الشام، ووقع اختيار التيار الإسرائيلي الجديد (المسيحية) على شخصية عابرة وردت بالتوراة باعتبارها من بني الله ليكون سببا للشرور، وبنو الله في التوراة عنصر هجين ناتج عن زواج الله ببنات الناس، وذلك الابن هو الذي يحمل اسما عبريا ترجمته: الغريم أو الواشي، واسمه «شاطان» ونكتبها في العربية «شيطان».
وكان يتوجب على شاطان أحيانا (في الأسفار المتأخرة من العهد القديم)، أن يقوم بتجريب الناس في إيمانهم بتكليف من يهوه، فيضرب المخلصين مثل أيوب العبد الصالح بالمرض والفقر بعد صحة وغنى، اختبارا لإيمانه، والواضح أنها كانت إحدى محاولات تبرير وتبرئة الإله، باعتبار ما يحدث من نوازل هو ابتلاء من الله واختبار لأحبائه.
وكان أول ظهور لهذا الابن المتميز «شاطان» في سفر أيوب، وأيوب هو أبرز المحبين لله وأبرز المصابين في الله، وجاء التبرير في هذا السفر في حكاية هي الأولى من نوعها حينذاك، وتقول الحكاية: «وكان ذات يوم أنه جاء بنو الله ليمثلوا أمام الرب، وجاء الشيطان أيضا في وسطهم [في الأصل العبري المازوري شاطان]، فقال الرب للشيطان: من أين جئت؟ فأجاب الشيطان الرب وقال: من الجولان في الأرض والتمشي فيها، فقال الرب للشيطان: هل جعلت قلبك على عبدي أيوب لأنه ليس في الأرض مثله رجل كامل ومستقيم يتقي الله ويحيد عن الشر، فأجاب الشيطان الرب وقال: هل مجانا يتقي أيوب الله؟ أليس أنك سيجت حوله وحول بيته، وحول كل ماله من كل ناحية، وباركت أعمال يديه فانتشرت مواشيه في الأرض، ولكن ابسط يدك الآن ومس كل ماله، فإنه في وجهك يجدف عليك، فقال الرب للشيطان: هو ذا كل ماله في يدك ... ثم خرج الشيطان من أمام وجه الرب» (أيوب، 1: 6-12)، وذهب شاطان وضرب أيوب بالمرض والفقر.
وهكذا وجد الاتجاه الجديد بغيته في التراث الإسرائيلي نموذجا للإله الشرير القديم، ومن ثم أصبحت كل الشرور في المسيحية الناهضة تنسب إلى واحد من أبناء يهوه هو الشيطان الواشي أو الغريم، وفي الإسلام وجد له مكانا وركنا ركينا، «وتحولت الواشي إلى الوسواس الذي يوشوش أو يوسوس للناس» ويشككهم فيما يعتقدون، أما المسيحية فقد وجدت خلاصها وخلاص البشر في تنزيه الله عن الشر؛ لأنه فقط رب محبة، أما الشر فهو من شاطان أو الشيطان الملعون إبليس، الذي جاء حسب التوراة «من الجولان والتمشي في الأرض»، وهو الكلام الذي لا معنى له، وستكشف عن معناه صفحات هذا الكتاب، عندما نعلم من هو الرب المشاء الجواب، الذي كان ربا لمشائين جوابين وكان ربا للشر.
وقبل أن نصل إلى هذه المرحلة نجد العهد القديم، عبر المحررين الذين دونوه، وهم غالبا من الكهنة والأنبياء المتعددين، يحاولون دوما تجريم الابتعاد عن طريق يهوه، ويعدون ذلك انحرافا عن صحيح العقيدة وخيانة للرب تستحق عقابه الشديد، لكن يهوه أبدا لم يحتج يوما على رب البطاركة الأوائل، رب سفر التكوين المعروف باسم إيل، بل حاول التخفي وراءه، والإيعاز أنه كان هو ذات إيل ونفسه.
لقد كان إيل هو رب زمن البطاركة الأوائل من إبراهيم حتى موسى، لكن موسى الذي عاش مع الإسرائيليين في مصر، وتكررت زيارته إلى سيناء، خرج على شعبه بإله جديد هو يهوه، زعم أنه قد التقاه في سيناء، في هيئة شجرة ضوئية، لكن يهوه رغم حربه الضروس ضد الآلهة الأخرى، لم يكن بإمكانه أن يتنكر لرب البطاركة، ومن ثم كانت كذبته على موسى:
هكذا تقول لبني إسرائيل: يهوه إله آبائكم، إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب، أرسلني إليكم، هذا اسمي إلى الأبد. (خروج، 3: 15)
أنا ظهرت لإبراهيم وإسحاق بأني الإله القادر على كل شيء، «وأما باسمي يهوه فلم أعرف عندهم». (خروج، 6: 2-3)
والصفة «الإله القادر على كل شيء» و«الله العلي مالك السماوات والأرض»، كانت صفات معلومة للرب السامي الكنعاني «إيل»، وكان ملك أورشليم الكنعاني «ملكي صادق» أو الملك صادق، كاهنا لهذا الإله، وسبق له أن بارك إبراهيم الوافد الغريب ضيفا على بلاد كنعان، وقد باركه باعتباره أن ملكي صادق ممثل لإيل ونائب عنه وكاهن له، وقال له: «مبارك إيرام من الله العلي مالك السماوات والأرض» (تكوين، 14: 19).
وهنا يصح التساؤل من الباحثين المدققين، إذا كان حقا يهوه إلها معروفا في فلسطين قبل الخروج من مصر، وإذا كان هو ذات عين إيل، فلماذا سميت المدينة المقدسة «بيت إيل» ولم تسم «بيت يهوه»؟ ثم لماذا يتخذ سفر التكوين من إيل إليها، بينما تتحدث بقية الأسفار عن يهوه دون أي اعتبار أو وزن للإله إيل، الذي ملأ سفر التكوين بحضوره الكثيف؟ هذا مع ملاحظة أن أول ظهور للإله يهوه كان في لقائه بموسى في سيناء المصرية وليس في فلسطين، لا بد إذن أن هناك تغيرا جوهريا قد حدث، وأن سفر التكوين تحديدا كان نتاجا لثقافة قديمة في فلسطين، قبل مجيء إبراهيم إليها من أور الكلدانيين، وعليه تكون بقية الأسفار التالية هي نتاج ثقافة أخرى لشعب يعبد يهوه ولا يعرف إيل، وأنه قد تم ضم السفر الفلسطيني القديم للتوراة صاحب «إيل»، لإثبات علاقة نسب بالدم بين أتباع الإلهين، إله شعب فلسطين «إيل»، وإله شعب جديد «يهوه السيناوي»، وجاء مع الخروج من مصر بدين جديد إلى فلسطين.
4
ويدعم أصحاب هذا الرأي مذهبهم «بانقطاع التاريخ التوراتي عند البطرك يوسف، وتوقف هذا التاريخ تماما لمدة أربعة قرون قضاها هؤلاء في مصر» حسب زعم التوراة، ويطرحون السؤال: لماذا سمح محررو التوراة بهذه القفزة في عرض تاريخهم؟ الإجابة لا شك هي أنهم عبدوا آلهة مصرية؛ مما يشكل لهم عارا تاريخيا، وهو ما جاء في سفر يشوع «انزعوا الآلهة التي عبدها آباؤكم في عبر النهر وفي مصر» (يشوع، 26)، والمعنى هو أن سلالة البطاركة دخلت مصر مع ربها إيل، لكن لتعيش هناك أربعة قرون، وفجأة يخرج قوم من مصر إلى فلسطين، بثقافة جديدة ورب جديد «يهوه السيناوي» مع موسى، ويزعمون أنهم أخلاف أولئك البطاركة الأسلاف، لكن الواضح أن هذه كانت ثقافة وتلك كانت أخرى جديدة تماما؛ «مما يشكك في هوية الجماعة الخارجة من مصر، ومدى انتسابها لهؤلاء البطاركة، وهو ما يطرح السؤال حول هذه الهوية من جديد»!
ومما يؤكد هذا المذهب ووجهة النظر تلك، هو أنه بعد مجيء الخارجين من مصر إلى فلسطين، أن نجد خلافا جذريا بين أبناء الشعب اليهودي، يكاد يقسمه إلى عنصرين بشريين متمايزين، «قسم يحمل اسم يهوذا»، وقد قرر هؤلاء اليهوذيون استيطان جنوب فلسطين على الحدود السينائية، واتخذوا من أورشليم عاصمة لهم، «والآخر يحمل اسم إسرائيل» استقر في المناطق الشمالية من فلسطين، واتخذ من مدينة السامرة عاصمة له.
وعندما قامت مملكة إسرائيل الموحدة زمن شاءول، ثم داود فسليمان، انقسمت فور موت سليمان إلى إسرائيل شمالا ويهوذا جنوبا، ويبدأ سفر صموئيل الثاني بالتمييز بين إسرائيل (وتحوي الاسم الفلسطيني الإلهي إيل في تركيبها) وبين يهوذا المنتسبة إلى «يهوه»، وهو التميز الذي يستمر ويتضح، ويتأكد عبر الأسفار اللاحقة، وبعد أن كان المحرر يستعمل تعبير «كل إسرائيل» للدلالة على القبائل المنتسبة للأسباط الاثني عشر، بما فيها يهوذا، فإنه يبدأ في سفر صموئيل الثاني بالحديث عن إسرائيل ويهوذا، حيث تبدو يهوذا الجنوبية شيئا وإسرائيل الشمالية شيئا آخر.
وتلخص موسوعة تاريخ العالم علاقة هذا الشعب بالإله يهوه، فتقول: «أصبح يهوه إلها لإسرائيل عن طريق موسى، بعد التخلص من الأسر المصري، وكان يهوه في الأصل إلها لجبل مقدس (سيناء أو حوريب)، ثم قاد يهوه - باعتباره إلها قوميا - الإسرائيليين إلى كنعان، وبعد أن أخذ صفات البعول، واستولى على معابدها أصبح إله كنعان بجانب كونه إله إسرائيل، وبإعلانه إلها دوليا للعدل مهد عاموس 750ق.م. الطريق للاعتراف، بأن يهوه هو الإله الواحد في الوجود في إشعيا (40: 8) حوالي 550ق.م. وبالجمع بين هذا اللاهوت النبوي وطقوس العبادة في المعابد التي اقترحها حزقيال في ذلك الوقت نتج دين جديد هو اليهودية.»
وعلينا أن نلاحظ أن عائلة الملك داود التي تعود إلى سبط يهوذا، هي التي حكمت في دولة يهوذا الجنوبية كأسرة واحدة وسلالة واحدة لملوك يهوذا وحدهم، بينما كانت إسرائيل الشمالية قد تناوبت على عرشها تسع أسر مختلفة من القبائل الإسرائيلية في الشمال خلال أكثر من مائتي عام بقليل، ورغم أن المملكتين قد عبدتا يهوه بعد سيادته الأولى على مملكة «كل إسرائيل»، فإن عبادة يهوه كانت في يهوذا أقوى منها في إسرائيل بشكل واضح، وقد اتهمت التوراة الدولة الشمالية إسرائيل بعبادة الآلهة الغريبة، ولحقت هذه التهمة جميع ملوكها، وأدانت نشاطهم الديني، لكنها لم تتهم من ملوك يهوذا بهذه التهمة سوى ثمانية ملوك، لكن كان فيها ملوك أخر مخلصون ليهوه، فبفضل الملوك اليهوذيين آسا وويهو شافاط ويهورام وحزقيا ويوشيا تجددت اليهودية وانتعشت.
ومع ما تعرضت له تلك القبائل من مفارقات تاريخية قاسية، فقد انغلقت على نفسها في حالة نرجسة قبلية، تماهت فيها الجماعة مع الرب يهوه وعبدت يهوه أو عبدت نفسها لا فرق، وقدمت نفسها للعالم كأفضل الأمم، ودينها كأشرف الأديان، وتحولت الجماعة المندمجة بربها إلى بطل قومي، نقل الإحباط من داخل الجماعة إلى خارجها المعادي المخالف، لتحافظ على انسجامها وعلى وحدتها الداخلية، وهو الأمر الذي يتكرر دوما مع الجماعات، التي تتعرض لخطر الضياع من صفحة التاريخ. (1) أقسام العهد القديم
العهد القديم (الكتاب اليهودي المقدس) هو مجموعة كتب وليس كتابا واحدا، يطلق عليها الأسفار جمع سفر أو كتاب، وتسمى في مجموعها التوراة، وهي تسمية مجازية تطلق على كل الكتاب؛ لأن التوراة تقتصر على الكتب الخمس الأولى، من مجموع كتب يشملها هذا الكتاب يصل عددها إلى تسعة وثلاثين سفرا، وقد اتفق على تقسيم هذه الكتب إلى أربعة أقسام هي على الترتيب:
القسم الأول
ويعرف باسم التوراة أو كتب موسى الخمسة أو البنتاتك
، والكلمة توراة مأخوذة من الكلمة المصرية القديمة توروت أي شريعة، لكنها في العبرية استخدمت بدلالة تعني التعليم، ونطقها العبري «تورة» من الفعل «شورة» (رأى - رأه بالعبرية)، على وزن أفعل، وتعني حرفيا الترئية أو الرقية، وتتضمن معنى العودة للشورى الإلهية، وتشمل التوراة خمسة كتب أو أسفار هي:
التكوين
Cenesis :
ويحكي تاريخ العالم من لحظة البدء بخلق الرب للسماوات والأرض ثم آدم ونسله، ثم تسير التوراة مع ذلك النسل في عمليات غربلة واستبعاد، حتى تستبقي شعب التوراة في المصفاة، وذلك عندما تصل إلى أولاد يعقوب المعروف باسم إسرائيل، وهم اثنا عشر ولدا أو سبطا، والكلمة سبط مأخوذة من الكلمة المصرية القديمة «سبيت» أي إقليم أو فرع، ومعنى الأسباط الفروع التي انقسم إليها بيت يعقوب، ونسبة للكلمة يطلق المصريون على الحبار ذي الأيدي أو الفروع المتعددة «السبيط»، أي متعدد الأرجل أو الأفرع، ويطلق على عرجون النخل «سباطة» ... إلخ، والغريب أن الاسم العلمي للسبيط هو بذات النطق تقريبا
Cephalo poda (سيفالو بودا) ويعني الرأس قدميات.
وينتهي سفر التكوين باستقرار فروع يعقوب أو الأسباط في مصر، ضيوفا عليها إبان مجاعة حلت بالمنطقة بكاملها، لكن مصر كانت بمأمن منها، ويرجح بعض نقاد التوراة أن يكون قد تم تأليف كتاب التكوين، أو جمعه من المأثور القديم لفلسطين والمنطقة حوالي القرن التاسع قبل الميلاد، أي بعد موت موسى بحوالي خمسة قرون كاملة.
ويظهر محررو التوراة في كتاب التكوين بحسبانهم جامعي تراث، أكثر من كونهم مؤرخين لواقع حقيقي، وفي التكوين تم حشد قصص عديدة مختلفة المنشأ والأصل إلى جوار بعضها، مع ربطها ربطا غير محكم بتاريخ إسرائيل؛ مما أبقى على استقلال شبه واضح لكل قصة على حدة، مع تناقض بين الأحداث يسمح للباحث أن يفرز ويصنف، ويظهر أن المحررين كانوا يعون هذا التناقض فيما يدونون من أحداث، لكنهم أبقوا عليها من باب التقديس، وربما برغبة تسجيل أكبر حشد من التنويعات، التي مرت بها القصة الواحدة، مع مهمة أساسية أخذها المحررون على عاتقهم، وهي تنظيم تلك التركة من الأساطير والأحداث والتقاليد والحكي الفولكلوري، في سياق من شأنه أن يخلق لإسرائيل تاريخا كشعب موحد من البداية، فكان هاجس الأصول - فيما يقول فراس السواح - يسيطر طول الوقت على مجموع أسفار التوراة الخمسة، ثم تعداه إلى بقية الأسفار المعروفة بالأسفار التاريخية.
الخروج
Exodus :
ويتعرض هذا الكتاب للأحداث، التي مرت بها القبيلة الإسرائيلية في مصر، في سطور لا تفصح عن أحداث، يفترض أنها استمرت ثلاثين سنة وأربعمائة، بصمت مريب لا يلتئم. وأسلوب هذا القسم الذي يميل للإطناب والتفصيل والتكرار إلى حد الإملال، وتركز بقية السفر على أحداث الأيام الأخيرة للخروج من مصر، لإبراز قدرات يهوه السحرية وضرباته للمصريين ضربات مدمرة، انتهت بخروج الإسرائيليين من مصر تحت قيادة موسى، أحد أحفاد سبط لاوي أو ليفي شقيق يوسف والأسباط، في رحلة هروب أو خروج كبرى تتم حكايتها هنا بتدقيق وتفصيل شديدين، تشير إلى جغرافيا شرقي دلتا مصر وسيناء، بمزيد من التدقيق لأسماء مواضع الحل والترحال، للخارجين عبر سيناء نحو فلسطين، ويحوي هذا السفر بعض أحكام الشريعة اليهودية في العبادات والمعاملات والعقوبات. ويرجح الباحثون أن يكون قد تم تأليفه زمن تأليف كتاب سفر التكوين.
اللاويون أو الليفيون
Leviticus :
نسبة إلى ليفي
Levi
أحد الأسباط، ويشير إلى نسل ليفي هذا، وهم من اختارهم موسى من عائلته اللاوية أو الليفية ليكونوا كهانا ليهوه حفظا لمسئولية العلاقة بالله داخل أسرته، وقد شغل هذا السفر في معظمه بشئون العبادة وطقوسها خاصة ما تعلق منها بطريقة تقديم الأضاحي والقرابين إلى الإله.
العدد
Numbers :
واهتم بإحصائيات عديدة عن إسرائيل، كعدد القبائل وعدد أفراد الجيش وكم الأموال، وأي شأن كان يمكن أن يخضع لعملية الإحصاء؛ لذلك سمي العدد أو الإحصاء.
التثنية
Deuteronomy :
وقد شغل هذا السفر بأحكام الشريعة اليهودية في الحرب والسياسة والاقتصاد والعبادات والمعاملات والعقوبات، وسمي تثنية لأنه ثنى أو أعاد ذكر التعاليم، المفترض أن موسى تلقاها من ربه إبان رحلة الخروج عبر سيناء ، لكن نقاد التوراة لهم رأي آخر، فهم يجمعون على أن هذا السفر لم يتم تأليفه إطلاقا قبل أواخر القرن السابع قبل الميلاد، أي بعد زمن موسى بحوالي سبعة قرون كاملة، وبعد مملكة سليمان بثلاثة قرون، وأن ذلك قد تم إبان وجود اليهود في المنفى البابلي على الرافدين.
القسم الثاني
ويعرف بالأسفار الخارجية وعددها اثنا عشر كتابا، قامت بعرض تاريخ بني إسرائيل منذ دخولهم أرض فلسطين قادمين من مصر، ويشمل أسفار:
يشوع
Josue :
ويشوع هو ربيب موسى وخليفته على قيادة بني إسرائيل إلى فلسطين بعد موت موسى.
القضاة
Judges :
وهم الذين تولوا أمور الحكم على بني إسرائيل بشكل قبلي، حيث كان الحاكم هو من يقضي في الخصومات بين الناس بشكل مباشر في اجتماعات دورية تعقد لهذا السبب.
راعوث
Ruth :
وهو اسم جدة الملك داود من جهة أبيه، ويحكي قصة لا علاقة لها بالسياق التاريخي.
صموئيل الأول وصموئيل الثاني (كتابان أو سفران):
وصموئيل هو آخر قضاة إسرائيل قبل التحول عن نظام حكم القضاة القبلي إلى الحكم الملكي المركزي وقيام المملكة.
أعمال الملوك أول وثان (كتابان):
ويحكيان تاريخ ملوك القبائل الإسرائيلية بدءا من أول ملوكهم المؤسس شاءول مرورا بداود وولده سليمان، ثم انقسام المملكة إلى يهوذا في الجنوب وإسرائيل في الشمال، وسيرة ملوك المملكتين في علاقتهما بالرب وببعضهما وبالدول المجاورة.
أخبار الأيام أول وثان (كتابان):
ويعرضان على الترتيب شجرة النسب من آدم إلى يعقوب، ويكرران ما سبق عرضه في سفر التكوين، ثم يكرران عرض تاريخ الملك داود وولده سليمان، ثم يعرضان لتاريخ اليهود السياسي بعد سليمان.
عزرا
Esdras :
وينسب هذا الكتاب إلى كاهن إسرائيلي باسم «عزرا بن سرايا»، على رأس الموجة الثالثة العائدة من اليهود المنفيين في بابل إلى فلسطين حوالي منتصف القرن الخامس قبل الميلاد ... وإليه تنسب محاولة تجديد الديانة وإيقاد جذوة القومية الإسرائيلية، وقد أشرف على تجديد الهيكل، وإليه تنسب كثير من كتب العهد القديم في رأي نقاد التوراة. وقد بلغ عزرا منزلة عظيمة عند بني إسرائيل، ويخبرنا القرآن أن الإسرائيليين قد قدسوه حتى قالوا : عزير ابن الله، رغم أننا لم نجد - في العقائد اليهودية ذاتها - ما يشير إلى مثل هذا الاعتقاد.
نحميا
Nehemie :
وهو أحد وجهاء بني إسرائيل، تمكن مع عزرا من إقناع الملك الفارسي قورش بعد فتح الفرس لبابل، بالسماح للإسرائيليين بالعودة إلى فلسطين، وبناء الهيكل من جديد.
إستير
Esther :
وهو سفر صغير يشتمل على تسعة أبواب أو إصحاحات، ويروي قصة الإسرائيلية الجميلة إستير، التي تمكنت من إغواء أخشويريش ملك الفرس فتزوجها، وتمكنت بوجودها في البلاط من إحباط مؤامرات وزيره الكبير هامان ضد بني جلدتها، ثم دبرت مع عمها الكاهن مردخاي مكيدة قضت على هامان وأتباعه، حتى سمح لهم الملك الفارسي بالولوغ في دم هامان وفريقه كيف شاءوا، وقام الإسرائيليون بذبح الآلاف من قوم هامان ونسائهم وأطفالهم، وحتى اليوم يحتفل اليهود بذكرى تلك المذبحة في عيد البوريم أو عيد إستير في مارس من كل عام.
القسم الثالث
ويعرف بمجموعة كتب الأناشيد أو الأسفار الشعرية، ويشتمل على أسفار في صيغ أناشيد وتراتيل ومواعظ دينية مصوغة شعرا، ويشمل خمسة كتب أو أسفار، هي على الترتيب:
أيوب.
المزامير.
سفر أمثال سليمان.
سفر الجامعة وينسب بدوره لسليمان.
نشيد الإنشاد وهو بدوره ينسب إلى سليمان، ويسمى نشيد الإنشاد الذي لسليمان.
القسم الرابع
وهو مجموعة أسفار النبييم أو الأنبياء، ويحوي سبعة وعشرين كتابا، تعرض لتاريخ أنبياء إسرائيل بعد موسى، وهي على الترتيب:
إشعيا.
إرميا.
مراثي إرميا.
حزقيال.
دانيال.
هوشع.
يوئيل.
عاموس.
عوبيديا.
يونان.
ميخا.
ناحوم.
حبقوق.
صفنيا.
حجي.
زكريا.
ملاخي.
ويرجح علماء مدارس نقد التوراة، أن معظم تلك الكتب النبوية قد تم تأليفها إبان النصف الأخير من القرن التاسع قبل الميلاد، بينما يعود بعضها إلى أوائل القرن السادس قبل الميلاد، ويمكن نسبة بقيتها إلى القرن الرابع قبل الميلاد، ويمتد تدوينها حتى القرن الثاني قبل الميلاد.
وهكذا تشكل العهد القديم بالحفظ الشفاهي زمنا يصعب تقديره، وربما استغرق تدوينه 700 سنة، ويحكي لتاريخ امتد أكثر من 1500 سنة قبل الميلاد، تعرض أثناءها للمعالجة والتحرير عدة مرات من محررين أغلبهم مجهول، ومع مرور الزمن والتغيرات التي لحقت ديانة إسرائيل، وأخذت توطد سيادة يهوه بشكل واضح، أتاح ذلك الفرصة لأنصار يهوه وكهنته، استخدام المأثور التاريخي لقبائل إسرائيل وغيرها من شعوب المنطقة، من أجل خدمة وتأكيد عبادة يهوه، ومن ثم تعرضت نصوص المقدس التوراتي لتحويرات كانت تتناسب مع روح المذهب الديني المنتصر، لكن هؤلاء - ولحسن حظ الباحثين اليوم - كانوا أتقياء إلى حد عدم الاجتراء على تصحيح النصوص القديمة أو جعلها ملائمة، وعادة ما كانوا يكتفون بحشر مقدمات وخواتيم ضمن نص السرد الأصلي للحوادث التاريخية، وأحيانا كانوا يضيفون على السرد الفعلي، وقائع لم تكن موجودة في النص الأصلي؛ وهو ما يلقي على الباحث اليوم مزيدا من المشقة في غربلة الأصيل مما لحقه من إضافات، خاصة أن المحرر عادة ما كان يستقي موضوعاته من الفلكلور السائد، أو كان يخترعها اختراعا. ثم تواجه الباحث مشاكل أخرى لها أسبابها القديمة، فمثلا كان المحررون لا يتركون فواصل بين مداخلات مؤلفين عدة، بقصد توفير الورق الثمين، وهو ما جعل النساخ المتأخرين ينسبون مداخلات نبي إلى نبي آخر، وأثناء ذلك لم يكن يرى المحرر أي تحرج من حشر مقاطع تناسب وجهة نظره، مع مداخلة نبي قديم عاش في زمن سابق.
ولسوف نشرك القارئ معنا في معرفة أكثر بهذا الكتاب في فصول قادمة، وكيف يمكن قراءة هذا التل المختل، والخروج من الأخيولة الأدبية والأسطورة الإعجازية بالأحداث التاريخية، وكشف المستور التاريخي الكامن وراء السرد الأسطوري، خاصة إذا علمنا أن التوراة «هي أحد المفاتيح الهامة، لفهم خط سير التاريخ الديني ثم السياسي في منطقة الشرق القديم». وإبان ذلك علينا مراعاة أننا نتعامل مع نصوص تنتمي لضروب أدبية مختلفة، وتحوي قوانين ومشاهد طقسية وخرافات وأساطير وقصصا، وتاريخا ينتمي لفئات اجتماعية متباينة، مضافا إلى كل ذلك تعليقات المحررين ونزواتهم. (2) مصادر العهد القديم
أما على مستوى الدرس العلمي النقدي للكتاب المقدس، فقد تم وضع تقسيم آخر يعتمد المصادر الأساسية لخطوط سير الوثائق المقدسة، وقد انتهى التطور الأخير لمدرسة يوليوس فلهاوزن الألمانية 1844-1918م، إلى الكشف عن أربعة وثائق مختلفة عن بعضها وشديدة التباين، يتكون منها العهد القديم، هي على الترتيب:
أولا: المصدر اليهودي
Jahwist
ويرمز له اختصارا بالرمز
J ، وقد أخذت التسمية من اسم الإله يهوه
Jahowa ؛ لأنه الاسم الإلهي الغالب على الاستعمال في هذا المصدر، ويرجع زمن تأليفه إلى حوالي عام 850ق.م. في المملكة الجنوبية يهوذا، وقد ركز هذا المصدر على الوعد الذي أعطاه الله للبطاركة من إبراهيم إلى موسى، والتركيز على هذا المصدر لون من إضفاء الشرعية التاريخية والدينية على الائتلاف، الذي أنشأه داود في فلسطين لدولته، بوضعه هو وأسلافه في خضم تاريخ أقدم، لجعل مملكة داود عهدا مع الرب، يمتد شرعا إلى عهد الرب إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى، ويمنح وحدة القبائل المعروفة بالأسباط وجودا تاريخيا قديما، بقصد وضع أساس قومي تاريخي متين للدولة التي وحدت القبائل، حتى إنه يبالغ ويصعد بتاريخ تلك القومية التاريخية، عبر سلسلة الأنساب إلى آدم زمن الخلق الأول.
ثانيا: المصدر الإلوهيمي
Elohist
ويرمز لهذا المصدر اختصارا بالرمز
E ، نسبة إلى الاسم الإلهي الغالب في ذلك المصدر، وهو «إيل
EL » أي الإله، واللوهيم أي الآلهة، ويرجع زمن تأليفه إلى حوالي 770ق.م. في المملكة الشمالية إسرائيل، التي تحوي في اسمها الشق «إيل/اسم الإله»، وبعد ذلك تم إدماج المصدرين: اليهوي
J
والإلوهيمي
E
في مجموعة واحدة يرمز لها بالرمز
E J
وذلك حوالي 650ق.م. وقد عني هذا المصدر باستكمال النقص الحادث في المصدرين اليهوي والكهنوتي، وسيرد الحديث عن المصدر الكهنوتي.
ثالثا: مصدر التثنية
Deuternomy
ويرمز له اختصارا بالرمز
D ، ويعني بالإغريقية القانون الثاني، وهو مصدر منفصل تماما عن بقية المصادر، ويتمثل في الكتاب أو السفر، الذي يحمل اسم التثنية أو تثنية الاشتراع، وقد تم تأليفه خلال القرن السابع قبل الميلاد، في أورشليم عاصمة المملكة الجنوبية يهوذا، وتزعم الرواية الملحقة به أنه كيف يتم إخفاء هذا المصدر منذ زمن «موسى» في جدران هيكل «سليمان» بالرغم من الفترة الزمنية الكبيرة الفاصلة بينهما؟ وأنه تم الكشف عنه أثناء عمليات ترميم المعبد عام 622ق.م. أثناء حكم الملك اليهوذي الورع يوشيا
Josias (انظر ملوك ثاني، 22: 3-10 و22: 3-25)، حيث عثر المرممون في وجود حلقيا شيخ الأحبار أو كبير الكهنة على كتاب الشريعة وأحضره للملك، وقد ترك الحدث أثره الشديد على الملك الورع، فقام يحرم كل الطقوس الوثنية، ويمنع كل العبادات عدا عبادة يهوه، وقصر العبادة على معبد أورشليم وحده، دون بقية معابد الآلهة الأخرى، لكن الملاحظة الواضحة هو تعرض ذلك المصدر لكثير من الحشو والإضافات، من عناصر ثقافية لا علاقة لها بالبيئة البدوية الصحراوية، والمفترض أنها البيئة التي عاشها الخارجون من مصر إلى سيناء، حتى نهاية زمن القضاة، لكن قراءة هذا المصدر تبين بجلاء أن المحررين كانوا ينتمون إلى ثقافة دولة متماسكة يحكمها ملك، ويعنى هذا السفر بالشريعة، وبوضع شرائع الحرب والأوامر الإلهية المباشرة لأتباعه.
رابعا: المصدر الكهنوتي
ويرمز لهذا المصدر اختصارا بالحرف
، وهو تجميع كهنوتي يرجع إلى القرن الخامس قبل الميلاد، ويركز على شعائر العبادة والطقوس، ويعود إلى التركيز على العهد بين الله وبين نوح، ثم مع إبراهيم ثم مع موسى ثم مع داود، ويقوم جوهره على وجوب إخلاص الشعب اليهودي للعهد حتى يستحق الخلاص، ويتم الوفاء بالعهد من قبل الله إذا أخلص الشعب، ووفى لربه، وذلك بالتزام عباده بالشريعة بدقة، وشريطة أن يتمسكوا بلحظتين تاريخيتين جوهريتين في تاريخهم: الأولى هي لحظة العهد القديم بين الله وبينهم ممثلين في جدهم إبراهيم، وهو الوعد الذي منحهم الله بموجبه أرض فلسطين، مقابل أن يختتن جميع الذكور في قضبانهم، ومعلوم أن أرض فلسطين إبان ذلك كانت خاضعة للحكم المصري، «وكان المصريون هم الشعب الذي ابتدع الختان منذ بداية التاريخ»، في وقت كان فيه المصريون هم السادة في فلسطين زمن الإمبراطورية وكانوا مختتنين، ويبدو أن ذلك الأمر قد أمسى راسخا، حتى وجد الإسرائيليون أنفسهم بحاجة للختان، كدلالة على السيادة في الأرض، والسيادة امتلاك وحكم كالمصريين. ويؤكد هذا المعنى اللحظة الثانية في تاريخهم، التي يجب أن يتمسكوا بها تماما، وهي لحظة خروجهم من مصر، لحظة المعجزة الكبرى وانشقاق البحر، «تأكيدا على مصر والانتماء إليها بأي شكل»؛ لذلك فإن العزف على معجزة فلق البحر والخروج من مصر، يكاد يكون ترنيمة أساسية متكررة دائمة، يومية لدى اليهودي الورع، وتتكرر في كل أسفار أو كتب العهد القديم المقدس بلا استثناء . (انظر الشكل رقم
1-1 .)
شكل 1-1: الختان المصري.
ويرجع زمن ذلك المصدر إلى عهد «عزرا»، وقد تم إدماج هذا المصدر مع المصدرين اليهوي والإلوهيمي، حوالي نهاية القرن الخامس قبل الميلاد.
وقد قامت مدرسة فلهاوزن بعمل شديد الجرأة، عندما قررت عكس الترتيب التقليدي لأسفار التوراة، بناء على ما وصلت إليه من نتائج النقد والمقارنة والتحليل، بحيث أصبح الترتيب يعاد على النحو التالي:
العهد القديم من الكتاب المقدس (1)
أسفار الأنبياء. (2)
الأسفار التاريخية. (3)
أسفار موسى الخمسة + سفر يشوع = التوراة.
ثم أضيفت إليها الأسفار بعد ذلك بترتيب منهجي، حسب مادتها المشتركة وموضوعها، وليس حسب الترتيب الزمني لتأليفها. (3) طرق تدوين العهد القديم
من كتاب اليهود المقدس ذاته، يمكن للباحث العثور على الطرق والأدوات والوسائل، التي استخدمها محررو التوراة لتدوين مؤلفاتهم، فنحن مثلا نجد في سفر إرميا (36: 2)، حديثا عن التدوين على أدراج، والدرج هو اللفيفة وجمعها لفائف، وتتم الكتابة عليها من اليمين إلى الشمال، وقد أكد لنا هذا سفر حزقيال (2: 9 و3: 1) وسفر زكريا (5: 1-2) وسفر المزامير (40: 8)، وهي أسفار تشرح طريقة الكتابة، وقد استخدمت للكتابة على الأدراج أداتين: الأولى يذكرها المزمور (45: 2) وهي قلم الإردواز، والثانية هي الأحبار، أي السوائل الملونة ألوانا كثيفة ثابتة، وقد ذكر لنا ذلك كتاب إرميا (36: 18).
وعلى حد ما نعلمه تاريخيا فإن «الأدراج اختراع مصري بحت»، وكانت تصنع من البردي، وإلى جوارها كانت الكتابة على الرق (الجلود)، وقد ظلت تلك المخطوطات على هيئة اللفائف/الأدراج حتى القرن الثالث قبل الميلاد، حيث بدأت تأخذ شكل الكتب مع الاستمرار في العمل بنظام اللفائف، ولم يزل حتى اليوم يعمل بنظام اللفيفة أو الدرج في الأشكال الطقسية، التي تمارس في المعابد اليهودية من باب تحنيط التاريخ، ونجد ذلك مستعملا خاصة مع أسفار التوراة الخمسة مع سفر أستير نظرا لمناسبته الخاصة. (انظر شكل رقم
1-2 .)
شكل 1-2: لفيفة توراتية.
لكن ما يبدو للمدقق في قراءة التوراة، أن هناك أسلوبا في التدوين، قد اتبع قبل القلم والحبر والدرج، هو النقش على الحجر الصلب، لكن أبدا لم نعثر على نموذج توراتي منه حتى الآن، «وهو الأسلوب المعروف في مصر على جدران المعابد وهرم وتيس، وكثير من الألواح الهامة وعلى المسلات»، حيث كان يتم تدوين الحدث المطلوب حفظه على الحجر الصلد بالنقش بالإزميل، وفي التوراة نجد أول شخصية توراتية تكتب باستخدام هذا الأسلوب، هو النبي موسى أو بالأحرى رب موسى حسب الكتاب المقدس، وتم استخدام هذا اللون من الكتابة في كتابة ألواح الشريعة، منقوشة على الحجر في كتابين أو لوحين كبيرين.
وتزعم التوراة أن الله هو من كتبها بنفسه وبإصبعه، ثم سلمها لموسى، وقد وردت قصة كتابة الشريعة متناثرة في التوراة، وقد جمعناها ورتبناها من جديد لتنطق بالآتي:
وقال الرب لموسى: اصعد إلى الجبل وكن هناك، فأعطيك «لوحي الحجارة» والشريعة والوصية التي كتبتها لتعليمهم، ودخل موسى في وسط السحاب وصعد إلى الجبل، وكان موسى في الجبل أربعين نهارا وأربعين ليلة (خروج، 24: 12، 13، 18).
ثم أعطى موسى عند فراغه من الكلام معه في جبل سيناء، «لوحي شريعة مكتوبين بإصبع الله» (خروج، 31: 18).
فانصرف موسى ونزل من الجبل ولوحا الشهادة في يده، «لوحان مكتوبان» على جانبيهما، من هنا وهناك كانا مكتوبين، «واللوحان هما صنعة الله»، والكتابة كتابة الله «منقوشة» على اللوحين ... وكان عندما اقترب إلى المحلة أنه أبصر العجل والرقص، فحمي غضب موسى وطرح اللوحين من يديه وكسرهما في أسفل الجبل (خروج، 32: 15، 16، 19).
ثم قال الرب لموسى: انحت لك «لوحين من حجر» مثل الأولين، وبكر موسى في الصباح وصعد إلى جبل سيناء كما أمره الرب، وأخذ من يديه لوحي الحجر (خروج، 34: 1-4).
وقد جاء في الأثر الإسلامي في حديث للنبي محمد
صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى خلق آدم بيده، وخلق جنة عدن بيده، وكتب التوراة بيده،
5
كذلك جاء في الآيات القرآنية:
وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة (الأعراف: 144).
هذا إضافة إلى أن ذات الأسلوب قد اتبع مرة أخرى بعد ذلك، وذلك في كتابة أسفار الشريعة بيد اليهود بأمر من موسى ، وبذات الطريقة، وهو ما يتضح في قوله لهم:
فيوم تعبرون الأردن إلى الأرض التي يعطيك الرب إلهك، تقيم لنفسك «حجارة كبيرة » تشيدها بالشيد، وتكتب عليها جميع كلمات هذا الناموس ... «نقشا» جيدا. (تثنية، 27: 2، 3، 8) (4) اللغة التي دون بها العهد القديم
على غلاف الكتاب المقدس نجد لافتة تنبه وتقول: «الكتاب المقدس: أي كتب العهد القديم، والعهد الجديد (الجديد هو الأناجيل)، وقد ترجم من اللغات الأصلية وهي: اللغة العبرانية واللغة الكلدانية واللغة اليونانية.»
أولا «العبرانية هي اللغة الكنعانية مكتوبة بالخط الآرامي المربع»، ويعترف الكتاب اليهودي المقدس صراحة بذلك في سفر إشعيا (19: 18) بأن العبرية هي «شفة كنعان»، وهناك لغات أخرى استخدمت في الكتابة، لم تشر إليها اللافتة المذكورة، فنحن نعلم الآن أن بعض الأجزاء قد كتبت بالآرامية، وأخرى كتبت بالخط المربع (هو خط آشوري أصلا) بعد السبي البابلي، ومعلوم أن عزرا صاحب معظم أجزاء العهد القديم، قد استخدم تلك اللغة، في تدوين كتبه أو أسفاره.
لكن بعض الترتيب المنهجي والمنطقي، لا بد أن يؤدي إلى افتراض أن أول ألوان الكتابة، الذي استخدمه محررو التوراة وأول لغة «كانت هي المصرية»، فنحن نجد جميع البطاركة قبل النزول إلى مصر لا يعرفون الكتابة، ويقيمون الأدلة على العهود والمواثيق بين الناس، ليس بأوراق أو نقوش، بل بقسم مثل القسم الذي أقسمه إبراهيم وأبيمالك عند بئر سبع، وحيث تم ذبح سبع نعاج علامة أو وثيقة للعهد، أطلق بموجبهما الاسم على المدينة «بئر سبع»، كذلك عهد يعقوب مع خاله لابان الأرامي، الذي تم بعمل رجمة أحجار تشهد بالعهد وبنوده، أو العهد الإبراهيمي مع الله وختمه بوثيقة الختان بعد أن بلغ غيتا من عمره، كتوقيع منه ووثيقة لعدم معرفتهم بالكتابة، «ثم فجأة تظهر الكتابة عند هؤلاء بالنقش على الحجر، مع خروجهم من مصر» تحت قيادة موسى، المعروف في الكتاب المقدس أنه عاش في قصر الفرعون، و«تعلم بكل حكمة المصريين» على حد تعبير الكتاب المقدس، بل ربما يجب أن نذهب بالفرض بعيدا، فنقول إن اللغة المزعوم أن موسى قد خاطب بها ربه في سيناء «يجب أن تكون اللغة المصرية القديمة» تحديدا، فهي لغة موسى في بلاط الفراعين، علما أن موسى لم تطأ قدمه أرض فلسطين صاحبة شفة كنعان (العبرية)، ومات وهو بعيد عن تلك الأرض، ناهيك عن كون كلمة توراة نفسها، كما قلنا مصرية قح فهي
Torah
في العبرية، أي التعاليم من المصرية
Toroth
أو شوراه أي الشريعة.
6
ترجمات العهد القديم
من المعروف أن ترجمة هذا الأثر الهائل إلى العربية عن لغته الأصلية وهي النسخة المتداولة الآن، قد تمت فيما هو محقق عام 1865م، أما الترجمة الإنجليزية فقد تمت في عهد الملك جيمس عام 1611م، وكلتا الترجمتين قد تمت عن الأصل العبري، المعروف بالنص المازوري المدون في القرن العاشر الميلادي، عن مجموعة نسخ مجهولة الآن، ومجهول تاريخها أيضا، لكن ذلك لا يعني أن نصا عبريا أو نصوصا لم تكن موجودة قبل ذلك، وإنما كل ما يعنيه هو أن هذه الأصول قد فقدت، والنسخة المازورية الأقدم الموجودة الآن، تعود إلى عام 895 ميلادية، وتم الكشف عنها «في كنيزة المعبد اليهودي في القاهرة».
وكان النص المازوري في النسخ السابقة للقرن العاشر الميلادي، غير مصحوب بالإشارات والحركات والنقاط فوق الحروف، فكانت جميعا ساكنة الكتابة، وعند تدوين الأصل البعيد للنص المازوري، تم اقتباس حركات النظام البابلي في الكتابة، واستخدم في تحريك أحرف النسخة المازورية.
وهناك نص آخر دون باللغة اليونانية القديمة، ويعرف باسم النص السبعيني، وقد تمت كتابته على يد اثنين وسبعين فقيها يهوديا، بأمر من ملك مصر آنذاك بطلميوس فيلادلفوس أي «المحب لأخيه» (285-247ق.م.)، وتزيد عن النسخة المازورية بأربعة عشر كتابا أو سفرا جديدا، وهي أسفار غير موجودة بالطبع في النسخة العربية؛ لأن النسخة العربية مأخوذة عن المازورية وليس عن السبعينية، وتلك الأسفار هي: «سفر طوبيا»: وهو وصف لسيرة أسير إسرائيلي في الأسر الآشوري بمدينة نينوى في القرن السابع قبل الميلاد. «سفر الحكمة لسليمان»: ويشمل أمثلة حكمية وعظات ضد الوثنية. «أسفار المكابيين»: وعددها اثنان، تتحدث عن المكابيين الذين تمكنوا من الاستقلال بفلسطين، وحكمها حكما وطنيا زمن السلوقيين في القرن الثاني قبل الميلاد، وقد جاء اسمهم من الشعار الذي كانوا يتنادون به عند القتال وهو «مي كا مو خابجييم يهوفا» أي «من مثلك بين الآلهة يا يهوه»، فأخذ من كل كلمة حرف (م كا ب ي) شكلت الاسم «مكابي». «سفر يهوديت»: ويروي قصة أرملة يهوية غنية وتقية، ساعدت اليهود في الانتصار على الآشوريين في إحدى المعارك. «سفر الكهنوت»، ويدعى أيضا: سفر الحكمة ليسوع بن سيراخ، وهو مجموعة أمثال على غرار سفر أمثال سليمان. «سفر تسبيحة الفتية الثلاثة»: وهي تسابيح يقال إن أصدقاء دانيال الثلاثة كانوا يرنموها، وهم ملقون في أتون مشتعل بالنار، فكانت عليهم بردا وسلاما، وقد «نسبت تلك الحادثة في الإسلام للنبي إبراهيم»، وهو ما لم تقل به التوراة. «سفر سوزان»: أو سوسنة العفيفة، وهي قصة تمجيد من النبي دانيال لقاض، دحض وشاية ضد سوسنة العفيفة.
هذا إضافة إلى ثلاثة أسفار منسوبة لعزرا، وإصحاحات تمت زيادتها على الأصل المازوري في أسفار إستير ودانيال. والمعلوم أن الكنيسة بمعظم مذاهبها لم تتخل عن النص اليوناني السبعيني إلى النص العبري المازوري، إلا بعد القرن العاشر الميلادي، حيث أصبح النص المازوري هو النسخة المعتمدة للعهد القديم، ورغم ذلك ما زالت الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية، والكنيسة الروسية وكنائس شرق أوروبا، تستعمل النص السبعيني اليوناني. (5) مساحة الصدق التاريخي في العهد القديم
لا يخلو كتاب أو سفر من أسفار العهد القديم، من خرافات وأساطير واضحة ملتبسة بأحداث وقعت بالفعل، مع تدخل دائم من المحرر التوراتي لتفسير الأحداث، وربطها بإرادة يهوه ومشيئته. والقاسم المشترك دوما هو الأيديولوجيا الدينية، التي ترجع كل شيء وتفسر كل شيء، بما يخدم قضية شعب الله المختار، حتى لو تم تزييف بعض الحقائق التاريخية لصالح الهدف القومي، إضافة إلى شغف شديد من المحررين بالمبالغات الأسطورية، التي تكسر قواعد الطبيعة وخط سيرها لصالح الشعب المختار، بل نجد تلك الأساطير والمبالغات، قد أصبحت في اليهودية ومن بعدها في المسيحية وتراث الإسلام، موضوع تصديق وإيمان باعتبارها حقائق حدثت بلا شك.
ونظرا لحجم الكتاب وما حواه من تأريخ وعقائد وأساطير وسير بشر وملوك، مندمجة جميعا في صياغة، كان همها الدائم والأول هو يهوه وشعبه، فقد تعددت مدارس نقد التوراة وتتالت كشوفها، بحيث أصبح بالإمكان نخل وغربلة هذا المأثور الهائل؛ لاستخلاص حقائق الأحداث التاريخية، التي يمكن أن تكون محلا للبحث ومعينا للباحثين، فهناك نصوص يمكنها أن تحمل اسم الوثيقة التاريخية، وبإمكانها أن تملأ لنا فراغا في بعض مناطق التاريخ كعلم، والتي فقدنا وثائقها التاريخية الأصلية.
والمشكلة التي تواجه الباحث أنه حتى النص، الذي يمكن احتسابه نصا تاريخيا بالعهد القديم، ويتحدث عن واقعة تاريخية بعينها، قد دخله حشو وإضافات وحذف وتفسير، خرج به من فضاء التاريخية إلى الهوام في الأسطورية، وبقيت من الحقائق ظلال باهتة، تحتاج من الباحث إلى مشقة عظيمة، في تدقيق مصداقيتها التاريخية.
والمعلوم مثلا أن العهد القديم، يحوي روايات تثبت معرفة مدهشة من المحرر التوراتي، بأحداث تاريخية قديمة بائدة، كانت مخفية عنا ولم نعلم بأمرها، إلا بعد كشف مناطقها الآثارية وفك رموز لغاتها، وهي أمور حديثة جدا قياسا على ما سبق وساقه العهد القديم، وذلك مثل معرفة ذلك الأثر التوراتي، بأسماء مدن مصرية قديمة، أهال عليها الزمن النسيان، حتى وإن ورد بعضها عند المؤرخين اليونان، ولم نكتشفها ونتعرف على أسمائها بشكل واضح، إلا حديثا بعد فك رموز اللغة الهيروغليفية، كأسماء مدن مثل نوف/منف، ورعمسيس/رمسيس، وتحفنيس/تفنه أو دفنه، وأون/عين شمس ... إلخ، وكأسماء فراعنة مثل شيشق/شيشنق، ونخاو، كذلك اسم فوطي فارع كاهن مدينة أون: بادي بارع، وإله الشمس رع، ومركبات فرعون، ومراكب الشمس.
هذا إضافة إلى معرفة دقيقة بأحوال مصر القديمة، وعقائدها مع طقوس كطرق دفن الموتى والتحنيط ومواعيد الدفن، كذلك الأساليب المعمارية في البناء والكتابة والتوابيت، وكلها أمور لم نعلم دقائقها إلا بعد فك رموز الهيروغليفية، وما كشفت عنه الحفائر الحديثة، هذا ناهيك عن أسماء المواضع الجغرافية - مثلا - في رحلة الخروج من شرقي الدلتا المصرية عبر سيناء وحتى فلسطين، وهي مواضع تحتمل ثقة شديدة فيها؛ لأن لا علاقة لها بأية أهداف أيديولوجية ولا أساطير قومية؛ لأنها كانت مجرد مواضع جغرافية معلومة للجميع أوانها، حفظت لنا التوراة أسماءها وإحداثيات بعضها الجغرافية، قبل أن تتغير مسمياتها عبر الزمان.
شكل 1-3: نموذج من الكتابة الهيروغليفية.
ورغم ذلك فإن أبرز وأهم النتائج الأولى، التي خرجت بها مدارس نقد التوراة، أن نسبة الكتب الخمسة الأولى لموسى، وأنه صاحبها أو كاتبها بوحي من الله، قد أصبحت نسبة باطلة تماما، ولا ظل لها من الحقيقة، وبسبيل ذلك تم تقديم عدد من الأمثلة الشاهدة، إليك بعضا منها:
هناك عبارات تتعلق بموسى، لا يمكن أن تكون قد صدرت عنه، وذلك مثل «وأما الرجل موسى فكان حليما جدا، أكثر من جميع الناس، الذين على وجه الأرض» (عدد، 12: 3)، فهنا كاتب أو محرر يتحدث عن موسى، وليس موسى من يتحدث عن نفسه.
هناك خبر خاص بموت موسى يقول: «فمات هناك موسى عبد الله في أرض موآب حسب قول الله، ودفنه في الجواء في أرض موآب» (تثنية، 34: 5)، ومن المستحيل بالطبع أن يكتب موسى عن نفسه قصة موته بعد أن مات، بل تحدد في القصة الموضع الذي دفن فيه.
نحن نعلم أن موسى قد مات، ولم تطأ قدماه أرض فلسطين، ومع ذلك تجد في التوراة المنسوبة إليه، أسماء مواضع جغرافية موجودة في عمق فلسطين، هذا إضافة إلى أن أكثر أسماء تلك المواضع، لم تكن قد وضعت بعد زمن موسى، بل تمت تسميتها بعد ظروف ومستجدات، حدثت بعد موت موسى بقرون، وذلك مثل ورود اسم مدينة دان في التكوين، 14: 14؛ والتثنية، 34: 1، ومجموعة قرى يائير في العدد، 32: 41؛ والتثنية، 3: 14، وهي القرى التي لم تظهر أصلا إلى الوجود، إلا في عصر القضاة (انظر قضاة، 10: 14).
ونجد في سفر التكوين عبارات تتحدث عن يعقوب (إسرائيل) وزمنه، وتقول إن ذلك قد حدث «قبل أن يملك ملك من بني إسرائيل» (تكوين، 36: 31؛ العدد، 24: 7)، وهي جملة لا يكتبها إلا شخص عاصر العهد الملكي، وعرف بقيام المملكة، وهي بذلك لا يمكن أن تكون قد كتبت قبل العهد الملكي لإسرائيل.
ونجد أيضا تعبيرا متواترا هو «حتى اليوم»، يلحق بحكايات بعض الأحداث، كالقول إنه تمت تسمية مدينة كذا زمن كذا، وظل هذا اسمها «حتى اليوم»، أي حتى لحظة التدوين، وبالتدقيق تكتشف أن كل الأحداث والتسميات، التي لحقها هذا التعبير، قد تمت بعد موسى بقرون، والأمثلة على ذلك كثيرة وحاشدة، ونموذجا لها ارجع إلى (تكوين، 35: 20 و47: 26 و48: 15؛ خروج، 10: 6؛ وعدد، 22: 30؛ تثنية 2: 22 و10: 8 و11: 4).
وهناك تعبير بالتوراة يقول: «ولم يظهر نبي مثل موسى» (تثنية، 34: 10)، وهو ما يعني معرفة المحرر بظهور أنبياء من بعد موسى، علما أن الأنبياء لم يبدأ تواجدهم الفعلي إلا بعد عهد صموئيل، ومع قيام المملكة.
أما أهم ما ينفي نسبة التوراة لموسى، فهو أنها أبدا لم تكن موضعا واحدا متكاملا دفعة واحدة، ويؤكد ذلك التكرار في قصة الخلق، الذي يشير إلى اختلاف المحررين، وهو تكرار يحوي اختلافات جوهرية، تشير إلى أكثر من محرر، لم يلتقوا معا، ليصفوا ما بينهم من خلافات.
فالعهد القديم مجموعة جمة من التآليف، التي اشترك في وضعها محررون كثيرون، اختلفوا فيما بينهم، وهذه المجموعة من التآليف، تعنى بمسائل دينية ودنيوية وسياسية وأدبية وتاريخية، وقد أبدت الكنيسة الكاثوليكية تفهما، لما انتهت إليه مدارس نقد الكتاب المقدس، وسجلت اعترافها بذلك، في مقدمة الطبعة الكاثوليكية للكتاب المقدس، الصادرة في عام 1960م في نص يقول: «ما من عالم كاثوليكي في عصرنا، يعتقد أن موسى ذاته قد كتب كل التوراة منذ قصة الخليقة، أو أنه أشرف على وضع النص؛ لأن ذلك النص قد كتبه عديدون بعده؛ لذلك يجب القول: إن ازديادا تدريجيا قد حدث، وسببته مناسبات العصور التالية، الاجتماعية والدينية.»
ولهذا كله؛ ولأن العهد القديم سيستخدم في هذا العمل كوثيقة تاريخية أساسية، مثلها مثل بقية وثائق علم التاريخ، وهي الوثائق التي بدورها قد دخلها الحشو والتزييف والأساطير والأغراض، كما في كل نصوص الحضارات القديمة بل والحديثة؛ لهذا سنسلك بقارئنا في يم هذا المأثور التوراتي ومأثورات حضارات المنطقة، برؤية التحري وعيون المباحثية قبل الوثوق، الذي سيكون بدوره دوما محتملا.
الفصل الثاني
«كل إسرائيل» أو مملكة إسرائيل الموحدة
يزعم الكتاب المقدس (العهد القديم ) أن إبراهيم أرومة العبريين، قد جاء إلى أرض كنعان/فلسطين، قادما من موطن أطلقت عليه مرة «أور الكلدانيين» ومرة «بلاد حاران»،
1
ليسكن جنوبي أرض فلسطين (النقب)، التي أطلقت عليه المأثورات اليهودية الكلاسيكية «أرض الأحبار»، أي أرض الأجداد الآباء البطاركة الأوائل إبراهيم وإسحاق ويعقوب والأسباط.
ويحكي المقدس التوراتي أنه قد حلت ببلاد كنعان سنوات عجاف «وجوع شديد في الأرض»، وكعادة البدو على حدود مصر، لجأ إبراهيم مع زوجته سارة إلى وادي النيل المصري، درءا للموت جوعا، وحصل من ملكها على خير جزيل وثروة عظيمة، بعد أن زوج الفرعون سارة زوجته، بعد أن زعم أنها شقيقته وليست زوجته، وعاد بها بعد أن ردها إليه الفرعون مرة أخرى، إلى أرض الأحبار.
وكرة أخرى تعود كرة الجفاف والجوع، لتعم المنطقة بأسرها زمن الأسباط، لكن مصر تنجو من الجوع بحكمة يوسفية، حيث تمكن ذلك البدوي المتجول حفيد إبراهيم بعد أن بيع عبدا في مصر، أن يصل إلى أعلى المناصب بدهاء إسرائيلي متميز، وأن يفيض بحكمته على مصر وشعبها، بتخزين الحبوب للأعوام العجاف، وتنجو مصر وتفيء بخيرها على روادها من جيران جوعى.
لكن الظروف في مصر تتغير فجأة بالكلية، ويأتي طاقم قيادي جديد إلى سدة الحكم، ويتنكر السادة الجدد للأفضال الإسرائيلية، ويستعبدون بني إسرائيل في أعمال المعمار والإنشاء بقسوة.
وبعد مرور «430 عاما» فيما تزعم التوراة العبرية المازورية، أو «215 عاما» كما تزعم التوراة السبعونية، خرجت سلالة الأسباط من مصر، تحت قيادة شخصية جبارة هي شخصية موسى، أول أنبياء بني إسرائيل، بعد أن دمر الرب يهوه مصر تماما، وتركها خرابا يبابا، وعبر الخارجون البحر المنشق بمعجزة العصا الثعبانية، إلى براري سيناء في طريقهم إلى فلسطين مرة أخرى.
ويقضي الخارجون سنتين ارتحالا، حتى يحلوا في مدينة في أقصى شرقي سيناء على حدود النقب، باسم «قادش برنيع» أو «قادش عين مشفاط»، ويقضوا هناك ثمانية وثلاثين عاما، حتى تمكنوا من غزو فلسطين من شرقها عبر نهر الأردن عند أريحا شمالي البحر الميت، وبذلك يكون قد انقضى منذ خروجهم من مصر إلى غزو أريحا حوالي أربعين عاما، تعرف اصطلاحا باسم سنوات التيه.
وعاش الخارجون على هامش الحياة الكنعانية في فلسطين، تحت حكم القضاة القبلي، حيث كان القاضي هو شيخ القبيلة. ويزعم المقدس أن زمن القضاة قد استمر حوالي أربعة قرون أخرى، حتى قامت للإسرائيليين أول مملكة في فلسطين، تلك التي أسسها شاءول بعد أن اختاره للعرش الكاهن القاضي صموئيل، بضغط من أفراد الشعب الذين طالبوا بالتحول عن نظام القضاة البدوي إلى النظام الملكي المركزي، أو كما قالوا لصموئيل في التوراة: «اجعل لنا ملكا يقضي لنا كسائر الشعوب» (صموئيل أول، 8: 5)، ليحكم شاءول على إسرائيل جميعا أو على إسرائيل ويهوذا معا (كل إسرائيل).
ويظهر شاب وسيم طموح باسم داود، يتمكن بعصابة من شذاذ الآفاق وبمجموعة من الحيل السياسية والمؤامرات المدروسة، يتمكن من إنهاء حكم أسرة شاءول ويقفز على العرش، وبعدها يصبح داود هو المؤسس الحقيقي لدولة إسرائيل الموحدة، بعد أن تم تفسير تلك الأحداث السياسية وفق رؤى دينية، حيث ستفسر الملكية بعد ذلك باحتسابها عهدا بين يهوه وبين داود وسلالته وأولاده، يمتد إلى العهد القديم مع البطاركة الأوائل.
وتوطدت سلطة داود المركزية، ثم من بعده سلطة ولده سليمان، الذي تمكن من تحجيم دور الكهنة ونفوذ الأنبياء الكثر، حتى إن داود بدأ يعين الكهنة بنفسه (انظر صموئيل الثاني، 8: 17 و20: 25-26)، ويؤدي بنفسه الوظائف الكهنوتية ليجمع بيديه السلطة الزمنية والسلطة الدينية في ديكتاتورية متكاملة، ورغم أن تقديم المحرقات أو الذبائح أو القرابين للإله، كانت قاصرة على الكهنة اللاويين بأوامر الرب يهوه في شرائع موسى، وكان العقاب صارما لمن يفعل ذلك من غير اللاويين وينتهي بالموت، وهو السيناريو الذي تم بموجبه تصفية بيت شاءول؛ لأنه أقدم بنفسه على كسر احتكار الكهنة، وتقديم القرابين بنفسه، لكن لأن للقوة منطقها فقد تمكن داود من أن يجمع السلطتين في يده، دون أن يخشى أحدا ولا حتى الرب يهوه نفسه، «وأصعد محرقات أمام يهوه وذبائح سلامة، ولما انتهى داود من إصعاد المحرقات وذبائح السلامة بارك الشعب باسم يهوه رب الجنود» (صموئيل الثاني ، 6: 17-18).
وعندما جاء ولده سليمان جازف أكثر، حتى إنه عندما اختلف مع الكاهن الأكبر أبيثار «طرد ... أبيثار عن أن يكون كاهنا ليهوه.» أي أنه استبعد الكاهن الأكبر ليهوه، والذي كان زمن داود كاهنا أول لتابوت العهد في معبد يهوه المركزي، لكن كتابع لداود الملك (انظر ملوك أول، 2: 26-27)، وهو ما دفع بالكهنة إلى تدبير مؤامرة كبرى ضد سليمان، تزعمها النبي أخيا الشيلوني (أي أخيا الذي من قرية شيلوه)، بمشاركة أحد المقربين من الملك ويدعى يربعام. ويدين المحرر التوراتي يربعام، وكيف تجرأ ورفع يده على الملك (ملوك أول، 11: 26)، وتتضح المؤامرة من النص القائل:
وكان في ذلك الزمان لما خرج يربعام من أورشليم، أنه لاقاه أخيا الشيلوني النبي في الطريق، وهو لابس رداء جديدا وهما وحدهما في الحقل، فقبض أخيا على الرداء الجديد الذي عليه، ومزقه اثنتي عشرة قطعة، وقال ليربعام خذ لنفسك عشر قطع؛ لأنه هكذا قال الرب إله إسرائيل: «ها أنا ذا أفرق المملكة من يد سليمان وأعطيك عشرة أسباط، ويكون له سبط واحد.» (ملوك أول، 11: 29-32)
والنص هنا يصبح واضحا، عندما نعلم أن يربعام هذا قد قام بثورة ضد رحبعام بن سليمان بعد موت سليمان، واستقل بعشرة أسباط «عرفت في التاريخ باسم الأسباط الإسرائيلية»، وأقام مملكة شمالية عرفت باسم «إسرائيل»، وترك الجنوبية لرحبعام بن سليمان، وهي التي «عرفت بمملكة يهوذا الجنوبية»، وتفككت دولة إسرائيل المتحدة أو كل إسرائيل إلى دولتين، غالبا ما كانتا بعد ذلك متعاديتين.
ولما كانت تلك مصيبة كبرى قد حلت بالمملكة، وكان يجب الاعتراف بها، ولما كان يهوه ربا محبا لشعبه، يرجو له الخير؛ ولأن ما حدث لا بد كان قد حدث بإرادة يهوه؛ ولأن ما حدث كان شرا مستطيرا؛ لذلك لجأ المحرر التوراتي لتبرئة يهوه، وإلقاء اللوم على شعبه، ولو سألنا يهوه لماذا فرقت مملكتك وشعبك؟ فإنه يرد ويقول:
لأنهم تركوني وسجدوا لعشتروت إلهة الصيدونيين ولكموش إله الموآبيين، ولملكولم إله بني عمون. (ملوك أول، 11: 33)
وعلينا هنا أن نلاحظ أمرا له أهميته، وهو أن أمهات ملوك بني إسرائيل كن غير إسرائيليات، فداود يعود إلى جدة موآبية باسم «راعوث»، وأبشالوم ابن داود من أم «جشورية» اسمها معكة، وسليمان ابن بتشبع «الحيثية»، ورحبعام بن سليمان من أم «عمونية» (انظر صموئيل الثاني ، 3: 2؛ وملوك أول، 14: 21).
وملحوظة ثانية مهمة وهي أن الإسرائيليين، عندما قرروا إنشاء مملكة والتحول إلى المركزية، لم يكن لديهم مراسم تتويج معلومة، «ومن هنا أخذو مراسم التتويج عن مصر القديمة، وهو دهن المسحة أو المسح بالزيت»، ومن هذه المراسيم ظهرت أهم الأفكار الإسرائيلية؛ لأن منشأ كلمة «شيحا» العبرية، يعود إلى طقس المسح بالزيت المقدس، تتويجا للملك على العرش، أو رسم منصب الكاهن الأكبر. وتمثل الطقس التتويجي بصب الزيت، أو مسحه بالإصبع على رأس الممسوح أو جبهته، وبعد ذلك يتحول إلى شخص مقدس لا يمس، آمرا ناهيا باسم الإله (انظر صموئيل الأول، 26: 9)، «وبعد مسح الملك يصبح مسيحا مقدسا» (؟!).
شكل 2-1: المسحة المصرية المقدسة بالدهن أو الزيت المقدس.
وحتى تقوم الدولة المركزية، وتتوحد مجموع القبائل المتناثرة، أرجع المحرر التوراتي ذلك التوحد إلى الزمن القديم، فاخترع قرابات دم بين الآباء البطاركة الأوائل، أسلاف تلك القبائل، وألقى بوحدة إسرائيل في مرآة التاريخ القديم إلى وحدة عنصر ودم قرابية تأسيسية، رغم أننا سنعلم مما سيظهره هذا البحث، أنهم «كانوا قبائل ضمن مجموعات قبلية عديدة، لا ترتبط برابطة الدم، قدر ما ارتبطت بروابط المصالح المشتركة».
ورغم أن سيرة داود بالكتاب المقدس، تشير إلى شخص نفعي داهية، يضحي بأي كم من الدماء لتحقيق مآربه، ويعقد التحالفات حتى مع أعداء شعبه، وكثيرا ما أظهر ورعا زائفا، بينما كان يسعى لتحقيق مصالح دنيوية بحتة، فإن المحرر اللاهوتي اللاحق رفع داود إلى موضع المختار من يهوه شخصيا، ووضعه في مصاف القديسين؛ «لأن يهوه قد غفر له كل خطاياه وآثامه، والسبب أنه كان شديد الملاحة عظيم السمت جميل الطلعة.»
وفنان أيضا ينشد المزامير على آلات الطرب، «وكان أشقر مع حلاوة العينين وحسن المنظر ... يحسن الضرب بالعود» (صموئيل أول، 16: 12، 17).
وبشأن داود يقول «روجيه جارودي» في كتابه الذي كتبه بعد إشهار إسلامه، وترجمه له الداعية الإسلامي عبد الصبور شاهين:
حينئذ بدأ الصعود الرهيب لداود، الذي جعل من إسرائيل قوة سياسية. كان داود في بداية أمره حامل سلاح لشاول (صموئيل أول، 16: 21)، ثم أبعده شاول لأنه كان يغار من انتصاراته ضد الفلسطينيين (28: 8)، بل حاول قتله (18: 11 و19: 10)، فهرب داود في جبال الضفة الغربية لنهر الأردن، حيث كون «عصابة» مسلحة قوية للغزو (25: 13)، كما كان يفعل الخابيرو قديما، «وعمل داود مع مرتزقته في خدمة الفلسطينيين» الذين كانوا في حرب عنيفة ضد إسرائيل ... ولم يكن الأمر في هذه الغارات أمر تحريم أو إبادة مقدسة، أمر بها يهوه الرب، كما كانت الحال على عهد يشوع، إنما كانت مجرد «عمليات سطو مسلح دنيوية محضة وسياسية» قامت بها المملكة التي سوف يشيدها داود، لا مع الفرق المجندة من الأسباط، بل مع جنده المحترفين من كل جنس. ولما كان داود قد تزوج من ميكال ابنة شاول، فقد كان صهرا للملك القديم (18: 22-27)، وهو ما جعله خليفته الشرعي، عند ذلك تدخل الفلسطينيون للمرة الأخيرة فهزمهم داود، لا بواسطة جيش الأسباط بل بالمرتزقة. (صموئيل الثاني، 5 : 12)
2
ويزعم المقدس أن داود تمكن في سنوات قلائل، من إقامة دولة كبرى، أخضعت بلاد جيرانها مثل آدوم وموآب وعمون، بل وأجبر الأراميين في دمشق على دفع الجزية، وأخذ أورشليم من اليبوسيين واتخذها عاصمة لملكه، وجعل ليهوه مقرا واضحا، بنقل التابوت المتجول، الذي ينام فيه يهوه، من حالة البداوة المرتحلة إلى حالة الاستقرار المدني في مدينة، ثم تقديسها لنزول الإله بها، وأعطى أورشليم قدسية لتصبح رمزا لوحدة إسرائيل، رغم أن هذه القدسية كان يحوزها قبل ذلك جبل حوريب المقدس بسيناء، حيث كان يتجلى الرب المدمدم المزمجر العاصف الناري لموسى، وحيث صنع التابوت، وحيث التقى موسى بربه، وحيث تلقى موسى ألواح الشريعة، وحيث كان هناك مقر الإله وعلامات قوته في سيناء المصرية.
وقد تزامن تشكيل المملكة الإسرائيلية الموحدة في فلسطين مع فجر القرن العاشر قبل الميلاد، ومع بداية تمركز الأراميين في ممالك ببلاد الشام، ورغم أن البحوث الأركيولوجية لم تفدنا إطلاقا بمثل هذا التوسع للدولة الإسرائيلية، فهو مما يوعز بشدة أن حكاية إخضاع داود للشعوب الأخرى، لم تكن سوى مبالغات من المحرر التوراتي، صاغها في حبكة ملحمية، حيث لا دليل تاريخي، ولا آثاري يؤكدها أو حتى يشير إليها مجرد إشارة، لا في نصوص آثار فلسطين ذاتها، ولا في أي أثر من آثار حضارات المحيط بالمنطقة جميعا.
لكن ذلك لا يعني شطب القصة برمتها، وعدم اعتماد تاريخيتها، لأن أول تقاطع بين التوراة وبين التاريخ، كعلم نجده في حديث التوراة عن ملك حكم في دمشق باسم «بن حدد بن طبريمون الأرامي»، إبان حرب بين مملكتي يهوذا وإسرائيل، وهو ما جاء في النص:
وأخذ آسا (ملك يهوذا المملكة الجنوبية) جميع الفضة والذهب الباقية في خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك، ودفعها ليد عبيده وأرسلهم الملك آسا إلى «بنهدد بن طبريمون بن حزيون، ملك أرام الساكن في دمشق» قائلا: إن بيني وبينك وبين أبي وأبيك عهدا، هو ذا قد أرسلت لك هدية من فضة وذهب، فتعال انقض عهدك مع بعثا ملك إسرائيل فيصعد عني. فسمع بنهدد للملك آسا وأرسل رؤساء الجيوش التي له على مدن إسرائيل، وضرب عيون ودان وآبل بيت معكة وكل كنروت مع كل أرض نفتالي. (ملوك أول، 15: 18-20)
وفي التاريخ كعلم تعطينا الوثائق اسم ملك أرامي هو «بن حدد الأول»، وقد عثر قرب مدينة حلب على نصب بازلتي نذره هذا الملك باسمه «بن حدد بن طبريمون بن حزيون» ملك أرام دمشق للإله ملقارت، ويرجع تاريخ النصب إلى حوالي عام 860ق.م.
وعليه نقش يقول: «النصب الذي أقامه بن حدد بن طبريمون بن حزيون ملك أرام لسيده ملكارت الذي نذر له فسمع قوله.» ويحفظ هذا النصب الآن بمتحف حلب بسوريا،
3
والمنطق التاريخي أيضا يجب أن يفترض وجود معارك تنافسية حول المصالح والسيادات بين دولتين، تنشآن في زمن واحد حيث يعود تاريخ نصب بن حدد إلى السنوات الأخيرة من حكم آسا. ويصدق هنا المحرر التوراتي ويثبت أن التوراة ليس كتابا للتلاوة الدينية والعظة الحكمية فقط، إنما هو أيضا مصدر تاريخي هام ووثيقة عالية القيمة، رغم ما يشوبها طوال الوقت من تدخلات المحرر، بما لديه من أوهام وأخيله وعواطف، وطموحات قادته إلى تمجيد ملوك إسرائيل تمجيدا عظيما، يتناقض مع معلومات أخرى بذات المواضع بالكتاب المقدس، تشير إلى ضعف شديد ووهن كان سمة لتلك المملكة وملوكها، كذلك لا يعرف علم التاريخ عظيما باسم داود فتح ممالك وهزم شعوبا، ولا ملكا كونيا وحكيما حاز شهرة فلكية باسم سليمان، وكثيرا ما حير هذا الأمر العلماء والباحثين فلا آثار مصر ولا العراق ولا تركيا ولا الشام ولا فلسطين ذاتها، تنطق ببنت شفة في هذا الأمر، بينما تقرر رواية سفري صموئيل الأول والثاني وسفر الملوك الأول، أن داود قد أقام إمبراطورية تمتد من النيل إلى الفرات، وعليها قامت أحلام إسرائيلية كبرى في قرننا هذا، تطلب عودة الإمبراطورية الكبرى، بحسبانها أمرا ربانيا وقرارا إلهيا، وتقول رواية هذه الأسفار إن تلك الإمبراطورية الكبرى قد ورثها سليمان عن أبيه داود بعد موته، لكن رغم الهوس الأركيولوجي في دولة إسرائيل اليوم، والذي دفع إلى نبش الأرض في كل موضع محتمل للعثور على ما يؤيد هذه الرواية، فإن كل ذلك لم يفض إلى العثور على أي أثر مباشر أو حتى غير مباشر، يشير إلى إمبراطورية داود وولده سليمان.
وكل ما يمكن قوله - بفرض وجود شخص اسمه داود - أنه ربما كان واحدا من الملوك الصغار تمكن من رئاسة تحالف القبائل الإسرائيلية، التي كانت تسكن فلسطين آنذاك، وفقط في مناطق الهضاب؛ لأن المسح الأثري لم يكشف أي وجود لبني إسرائيل لا على الساحل الفلسطيني ولا شمالي فلسطين عند الجليل، ولا في صحراء النقب جنوبا، فقط ربما امتد هذا التواجد بالمواقع الجبلية الوسطى الممتدة من دان (تل القاضي الآن شمالا) حتى بئر سبع جنوبا.
وقد تمكن أحمد عثمان بحق من اكتشاف مميز، حيث قام بعقد مقارنات، انتهى منها إلى أن محرري العهد القديم في بابل إبان القرن السادس قبل الميلاد، قد علموا بقصة الفرعون الفاتح العظيم تحتمس الثالث، التي كانت تتواتر حتى ذلك الزمن بحسبانه بطلا تاريخيا كبيرا، وأنه أقام إمبراطورية كبرى تمتد من النيل إلى الفرات، ولا زالت قصة فتوحاته كأكبر فتوحات، تمت في العالم القديم حتى زمانه، مدونة على جدران معبد الأقصر. ويرى عثمان أن الإسرائيليين قد بهرتهم تلك البطولات والأمجاد، ولما كانوا طوال الوقت يعلنون ارتباطهم الوثيق بمصر، فلم يجدوا بأسا في «استعارة تلك القصة البطولية من المأثور المصري، وإدخالها كما هي دون تعديلات واسعة في وسط قصتهم الرئيسية عن داود».
والمتابع للقصة بالعهد القديم يجد أن داود كان معه، جيشا مكونا فقط من 600 مسلح من رجال العصابات المرتزقة، وأنه دخل بهم معارك مع بني جلدته الإسرائيليين ومع الفلسطينيين، ثم فجأة تجد تفاصيل معركة كبرى، وتتحول العصابة المأجورة إلى جيش عظيم، يخوض معارك عظمى عند قلاع محصنة متعددة في بلاد الشام، ويرى عثمان أن سفر صموئيل الثاني تحديدا يحتوي على إصحاحين هما رقم 8 ورقم 10 «مقتبسان بالكامل من قصة حروب تحتمس الثالث الفاتح الأعظم»، كذلك يرى أن الإصحاح الخامس يحوي جزءا آخر من القصة المصرية، وهو المتعلق باستيلاء داود على مدينة القدس، التي كانت ترديدا لدخول تحتمس الثالث المظفر أورشليم.
4
ولو حذفنا من قصة داود المستعار المصري، لاقتصرت الرواية على صراع داود مع شاول، ثم مع ابنه، ثم مع شبع بكري من قبيلة بنيامين، وكان صراعا على العرش وليس أكثر من ذلك، فكان داود بهذا الرأي مشغولا طوال الوقت، بخلافات العائلة والثوار الذين ثاروا عليه.
هذا ناهيك عن كون ظروف بني إسرائيل، حسبما وردتنا بالعهد القديم، تتناقض تناقضا شديدا مع مسألة الإمبراطورية والتوسع والفتوحات، فهم يظهرون في حالة دائمة من الدفاع عن وجودهم إزاء الفلسطينيين، وهي حالة تتناقض مع استعارات، كتلك التي تقول إن داود ضرب حدد عزر، وذهب يرد سلطته عند نهر الفرات، بينما «لا نجد قبل كورش الفارسي، أي ذكر لأي ملك من ملوك العالم القديم، تمكن من مد حدوده ما بين النيل والفرات، سوى تحتمس الثالث».
5
ويرى عثمان أن محرري التوراة، قد اختاروا قصة تحتمس الثالث، لنسبتها إلى داود لأسباب أهمها: أولا أن تحتمس الثالث كان أول من أقام إمبراطورية تشمل العالم القديم المعروف في زمانه، وثانيا أن اسمه «تحوت-موسى» يتطابق في شقه الأول «تحوت» مع اسم «داود»، وفي رأينا يجب نطق «تحوت» الإله المصري «ضحوت» أو «ضحوض» وهو الأقرب، ويتطابق مع اسم «داود» تماما والحاء تسقط بالتخفيف والإهمال، وسنقدم في الفصول المقبلة الكثير عن هذا الإله، وثالثا، أن تحتمس الثالث هو الفرعون، الذي دخل إبراهيم في زمنه إلى مصر، وهو الذي تزوج من سارة،
6 «وهنا نختلف مع عثمان، ونتباعد تماما عن بقية ما يقوله حتى النهاية.»
ونترك عثمان يستمر في سرد رؤيته لنعود إلى بدايته، حيث يجد ثلاثة إصحاحات خارج سياق الرواية، وضمنها ما ورد في الإصحاح الخامس عن استيلاء داود على أورشليم، ويقول هذا الإصحاح: «ذهب الملك ورجاله إلى أورشليم سكان الأرض، وأخذ داود حصن صهيون، هي مدينة داود.» وعاش داود في الحصن وزاد من تدعيمه، وبدلا من القتال المستمر بينه وبين الفلسطينيين، نجد فجأة قصة حروب عظيمة، خاضها داود ضد تحالف أعظم، ضم ملوك كنعان وبلاد الشام، ويقوم داود هنا بدور البطل المغوار المهاجم، الذي يغزو كل الممالك الواقعة بين النيل والفرات، وتقول النصوص المقحمة على حكاية داود الأصلية، إن مركز اللقاء الحربي قد حدث عند مدينة ربة (بالعربية: ربطة/الرباط [المؤلف])، وكانت عاصمة بلاد عمون الواقعة شرقي نهر الأردن، ويحتمل أنها عمان الأردن الحالية، وتحكي القصة أن ملك هذه المدينة توقع مهاجمة داود له، فقام بجمع ملوك دويلات بلاد فلسطين والشام تحت قيادة هدد أو حدد عزر ملك واحدة من الممالك الآرامية، وتجمعت جيوش الأحلاف عند ربة بني عمون، وقسمت نفسها قسمين: واحد داخل أسوار المدينة والآخر خارج المدينة على الأرض المكشوفة بالجوار منها، وفعل داود ذات الأمر، فقسم جيشه قسمين، وعند الالتحام العسكري هربت جيوش التحالف المتجمعة في الأرض المكشوفة، وأسرعت مع ملوكها بدخول المدينة المحصنة، وأغلقوا الأبواب؛ مما اضطر داود لفرض الحصار عليها، وترك جيوشه تحاصر مدينة ربة، وعاد إلى أورشليم ينتظر استسلامها، وبالفعل تمكنت جيوشه من فتح مدينة ربة، فجمع داود كل الشعب وذهب إلى ربة وحاربها وأخذها وأخذ تاج ملكهم عن رأسه، ووزنه وزنة من الذهب مع حجر كريم، وكان على رأس داود، وأخرج غنيمة المدينة كثيرة جدا (صموئيل ثاني، 12: 29، 30).
7
ورغم الهزيمة التي مني بها التحالف، نجد حدد عزر ملك صوبة الآرامية موجودا، وينظم التمرد ضد داود؛ مما يشير إلى وجوب استنتاج أنه هرب بجلده من الهزيمة عند ربة عمون، لكن داود يتمكن مرة أخرى من هزيمته، عندما سار إلى شمال سورية، حين ذهب «ليرد سلطته عند نهر الفرات.» ونصب داود تذكارا (أقام لوحة/نصبا تذكاريا) عند نهر الفرات، يخلد بها انتصاراته الكبرى، وبعد هذا النصر المؤزر، استسلمت لداود كل ممالك التحالف السوري الكنعاني، وأصبحوا من أتباعه «ولما رأى جميع الملوك عبيد هدد عزر، أنهم انكسروا أمام إسرائيل، صالحوا إسرائيل واستعبدوا لهم.» ومن ثم قام داود ينشر حامياته العسكرية في سورية وكنعان، ليضمن سيطرته عليها، ولضمان تدفق الجزية في مواعيدها.
8
ويرى عثمان أن كل ذلك السرد البطولي، لا علاقة له بداود الإسرائيلي بل بتحتمس/تحوت/ضحوت المصري، ويحكي: «وكان الملك أحمس قد بدأ حكم الأسرة 18 في مصر عام 1575ق.م. عندما طرد ملوك «الهكسوس الكنعانيين» من مصر (مسألة أن الهكسوس كنعانيون بهذا القطع، نخالف فيها عثمان كما سيظهر من السير في بحثنا هذا [المؤلف]) ... وجاء آمنحتب الأول فخرج إلى كنعان وجنوب سورية في مطاردة لفلول الهكسوس ... ولم يكن لآمنحتب الأول ولد فزوج ابنته إلى القائد العسكري تحتمس (الأول [المؤلف])، وتمكن هذا الملك - مع أن حكمه لم يتجاوز 18 سنة - من الوصول بجيشه إلى جنوب الأناضول عبر الفرات، وهناك أقام لوحة سجل عليها أخبار انتصاراته، وكان لتحتمس ابن من زوجة أخرى غير زوجته الملكية، أراد أن يخلفه على العرش، فزوجه حتشبسوت ابنته الوريثة، لكن تحتمس الثاني (أي هذا الابن [المؤلف]) لم يكن مقاتلا مثل أبيه، فهو لم يقم بأي معركة حربية طوال عقدين من الزمان، جلس فيهما على عرش مصر، وواجه تحتمس الثاني المشكلة التي واجهها الأب من قبل، فهو لم ينجب ابنا من الوريثة حتشبسوت، وكان له ابن وحيد من محظية اسمها إيزيس، أراد أن يجعله وليا للعهد، ومع أن حتشبسوت أنجبت له بنتا، إلا أنها لم توافق على زواجها من ابن المحظية، فحرمته من حق خلافة أبيه عن هذا الطريق (كان حق العرش في مصر القديمة، لمن يتزوج الأميرة الوريثة [المؤلف]).
وبسبب عدم وجود ولي عهد شرعي في البلاد، قام الكهنة في يوم احتفال العيد بحمل تمثال آمون في تابوت، وطافوا به حول قاعة الأعمدة الكبيرة بالكرنك، وتحرك التابوت وجاء عند ابن الملك - وكان ما زال طفلا لا يتجاوز الخامسة من عمره، وقد التحق بالمعبد للدراسة - وقاده الكهنة وأوقفوه عند قدس الأقداس في المكان المخصص للملوك، وكان ذلك تعبيرا عن أنه أصبح ابنا لآمون بالتبني، فضار له الحق بالتالي في خلافة أبيه في العرش، من دون حاجة إلى الزواج من الوريثة، وخلف الطفل أباه على العرش باسم نفرو رع تحتمس الثالث، ومع ذلك وبسبب صغر سنه، أصبحت حتشبسوت زوجة أبيه وصية عليه، وسرعان ما أعلنت نفسها ملكة إلى جانبه، وطوال حياة حتشبسوت التي استمرت 22 عاما بعد وفاة زوجها، ظل تحتمس الثالث بعيدا عن السلطة. ... وعندما تولى تحتمس الثالث الحكم بعد أبيه، كان قد مر حوالي أربعين عاما خلال حكم أبيه وزوجة أبيه، لم يشن الجيش المصري أي حملات عسكرية، وكان ملك قادش الواقعة في منتصف الطريق بين دمشق وحمص في شمالي سورية، قد تزعم تحالفا من ملوك سورية وكنعان في حركة تمرد على السلطة المصرية.»
9
ويقف عثمان يرصد مقارنا فيرى القصتين، تتفقان على مواجهة الملك لتحالف من ملوك كنعان وأرام، بقيادة ملك أرامي عند مدينة محصنة، وفي كلتا القصتين نجد جيوش التحالف مقسمة إلى قسمين، أحدهما داخل المدينة والآخر خارجها، وكذلك فعل الملك فقسم جيشه قسمين، وفي كلتا القصتين تهزم جيوش الملك المتحالفين، الذين يهرعون إلى داخل أسوار المدينة، وأن الملك بطل القصة في القصتين، قد حاصر المدينة وأقام في مدينة أخرى، ثم ذهب ليتسلم المدينة بعد استسلامها، وفي كلتا القصتين نجد ملك التحالف المهزوم، يهرب ويعود إلى مملكته، ويجمع شتات المتحالفين المتمردين مرة أخرى، لكن ليسير إليهم بطل القصة ويهزمهم، ثم يسترجع سلطته عند الفرات، ويقيم على الفرات نصبا تذكاريا، ويعلن كل الملوك ولاءهم ويدفعوا الجزية، ويقيم الملك البطل حاميات في كل مكان، إعلانا عن نفوذه أينما كان.
10
وبعدها يعرج عثمان على القصة الأصلية، حيث دونت هناك في جنوب الوادي المصري، على جدران معبد الأقصر بعاصمة الإمبراطورية الكبرى ليحكي لنا: «وخرج تحتمس الثالث بجيشه من مدينة زارو الحربية عند القنطرة شرق، وسار في طريق حورس بشمال سينا متجها إلى كنعان، ووصل الملك إلى مدينة غزة، وكانت ما تزال خاضعة للنفوذ المصري، وهناك احتفل بعيد جلوسه الثالث والعشرين، وكانت المعلومات التي وصلت القيادة المصرية، تفيد بأن ملك قادش جمع عددا كبيرا من ملوك سورية وكنعان، عند مدينة مجدو بوسط كنعان، وكانت أكبر مدينة محصنة، فسار تحتمس الثالث بجيشه على سلسلة جبلية وعرة محاذية للبحر، وكانت هناك ثلاثة طرق تؤدي لهذه المدينة، طريق ينتهي غربي مجدو والثاني يؤدي إلى جنوبها الشرقي، بينما الثالث كان طريقا أشد وعورة «مع ضيق شديد»، لكن تحتمس الثالث قرر ركوب الصعب، فسلك الطريق الثالث رغم خطورته؛ لأنه الطريق الذي كان لا بد سيستبعد الأعداء مجيئه منه، وكانوا قد قسموا جيوشهم قسمين، واحد داخل المدينة والآخر خارجها يقف عند نهاية الطريق الممهد ينتظرون مجيئه.
واختبأ تحتمس الثالث يومين في الجبال، حتى يسمح لجيشه «بعبور المضيق»، وقسم جيشه إلى وحدتين، كان هو نفسه على رأسهما، فوق عربته الحربية المطهمة بالذهب، وخرج عليهم من عند المضيق مباغتا؛ ليجدوه في القلب من صفوفهم، وكان لظهور المصريين المفاجئ أثره، فارتبك جيش الأحلاف، وأخذوا يولون الأدبار تاركين الخيول والعجلات والسلاح، فانهمك أفراد الجيش المصري في الغنيمة، دون متابعة العدو واحتلال المدينة؛ مما أعطى الفرصة للأحلاف للتحصن داخل أسوار مجدو وإغلاق أبوابها، واضطر تحتمس الثالث إلى فرض الحصار على المدينة، بينما تمكن ملك قادش الزعيم من الهرب، وذهب تحتمس الثالث ينتظر تسليم مجدو في مدينة أخرى، فتحت له أبوابها دون قتال، وبعد سبعة أشهر استسلمت مجدو، وخرج أمراء التحالف يحملون الهدايا لتحتمس طالبين السلام، وسلموا كل أسلحتهم ومركباتهم، وعند حضور تحتمس لاستلام المدينة وقف أمامه 350 ملكا، يعلنون خضوعهم لسلطان مصر.
وعاد الفرعون المنتصر إلى عاصمته المصرية في طيبة، بينما كان ملك قادش يعيد تجميع الأحلاف مرة أخرى، فخرج إليه تحتمس الثالث بعد سبع سنوات، ليستعيد نفوذه الذي سبق وأقامه جده عند نهر الفرات، وسقطت قادش وعبر تحتمس الثالث الفرات، «وأقام بجوار نصب جده التذكاري نصبا جديدا، يسجل أخبار انتصاراته»، وبذلك يكون تحتمس الثالث هو الشخص الذي تنطبق عليه عبارة العهد القديم، جملة وتفصيلا وكلمة كلمة، وهي التي تقول عن داود إنه: «ذهب ليرد سلطته عند الفرات، ونصب تذكارا هناك.»
11
ولا يبقى سوى اختلافات طفيفة بين القصة التوراتية وبين القصة المصرية، وهي ما يبرره عثمان بقوله: «أما استخدام كتبة العهد القديم لأسماء أخرى مثل «ربة» بدلا من «مجدو»، و«صوبة» بدلا من (قادش)، فهذا شيء متوقع منهم لمحاولة إخفاء الأصل الحقيقي للقصة، فمدينة ربة هي عمان الحالية عاصمة الأردن، ولم تكن سوى قرية صغيرة غير محصنة في عصر داود، «أما صوبة فلم يتم العثور على موقع بهذا الاسم، في أي من المصادر التاريخية القديمة»، ومجدو (تل المتسلم حاليا حسبما يرى بعض الباحثين)، التي كانت أهم المدن الحربية في كنعان، موجودة داخل الإمبراطورية، التي يقول سفر أخبار الملوك الأول، إن داود أورثها لسليمان، وجاءت نتيجة الحفريات الحديثة لتنكر كل ما نسبه كتبة العهد القديم لداود من انتصارات مزعومة. ومع أنه تم العثور على ما يؤكد دمار المدن، التي تقول القصة بدمارها على يد داود، إلا أن تاريخ هذا الدمار ثبت أنه يرجع إلى عصر تحتمس الثالث في النصف الأول من القرن 15ق.م. وليس إلى عصر داود بعد ذلك بخمسة قرون.»
12
ولنا هنا ملحوظة، وهي أن المعلومات التي خالفت بها التوراة القصة المصرية، ربما لم تكن مخالفة، لو نظرنا إليها من وجهة نظر أخرى، ستأتي في حينها في ثنايا عملنا هذا، «حيث سنفترض لمملكة صوبة مكانا آخر تقع فيه، ووفق هذا الفرض سنكتشف أن مجدو كانت تقع في الجوار منها فعلا، وأن قادش في النصوص المصرية كانت تقع بدورها في الجوار من صوبة، كما أشارت النصوص التوراتية.»
ويتابع عثمان مقارناته فيقرأ بالعهد القديم، أن داود بعدما صار ملكا على كل إسرائيل (يهوذا وإسرائيل)، قام بالاستيلاء على مدينة أورشليم «ذهب الملك ورجاله إلى أورشليم إلى اليبوسيين سكان الأرض، وأخذ داود حصن صهيون وهي مدينة داود.» وتعبير الملك ورجاله لا يشير إلى جيوش جرارة، تفتح البلاد وتهزم الملوك، إنما يشير إلى عصابة تتكون بحد أقصى من 600 مقاتل، وقد اعتمد داود خطة ذكية لدخول مدينة أورشليم المحصنة، فقد كانت المدينة تقوم على هضبة مرتفعة، وكانت تحصل على المياه من نبع في أسفل الوادي بأسفل المدينة، عبر ممر محفور تحت أسوار المدينة يصل إلى عين الماء، وكان يمكن الحصول على الماء أثناء الحصار بهذا الشكل، دون أن يخرجوا من المدينة المرتفعة، وكان داود يعرف هذا الأمر، فأعلن أنه سيكافئ الرجل الذي يمكنه أن يتسلق البئر إلى داخل المدينة، ويفتح أبوابها، بتعيينه رئيسا على رجاله. وهكذا تمكن داود من الاستيلاء على أورشليم، لكن عثمان يعقب بأنه قد «عجز الأثريون عن العثور على بقايا تدعم هذه الرواية.»
13
لكن في واقع الأمر أن عثمان لا يعرف أنه قد تم العثور على ذلك الموقع جميعه، وبتفاصيله الدقيقة مع الأثر الأركيولوجي المدون، الذي يحكي قصة حفر النفق بين المدينة العالية، وبين مصدر المياه البعيد المنخفض.
معروف أن أورشليم التي كانت تعرف بمدينة اليبوسيين، نسبة إلى قبيلة يبوس التي سكنتها، واتخذتها مدينة منيعة وقلعة حصينة، كانت تقع بكاملها إلى الجنوب من أورشليم الحالية، على سلسلة تلال القدس الشرقية، «وقد تطابقت جغرافية المدينة وطبوغرافيتها المكتشفة، مع عرض العهد القديم بشأنها»، فقد بنيت المدينة على الجزء الجنوبي من السلسلة الشرقية، وبني الهيكل على الجزء الأوسط منها ، أما الجزء الشمالي فلم يكن ضمن المدينة القديمة، ويقع حاليا ضمن مدينة القدس، وتحيط بأورشليم التلال من جوانب ثلاثة، كما هو واقع وكما هو وارد في «مزامير، 125: 2»، فإلى الشمال الشرقي يقع جبل المشهد أو جبل المشارف، ويسمى أيضا جبل سكوبس، وإلى الشرق يقع جبل الزيتون، وفي الجنوب جبل المكبر.
وأما الوديان فيقع وادي قدرون شرق أورشليم بين المدينة وبين جبل الزيتون، وكان يسمى وادي يهو شافاط أيضا (يوئيل، 3: 12)، ويسميه العرب الآن وادي الست مريم، وفي الغرب بين سلسلة التلال الشرقية والغربية، يقطع المسافة وادي تيبريون، ويسميه العرب اليوم «الوادي» فقط، وإلى الغرب من التلال الغربية يقع وادي هنوم، الذي يسميه العرب الآن وادي الربابة.
وقد أثبتت التنقيبات أن المدينة تعود إلى مطلع الألف الثالث قبل الميلاد زمن عصر البرونز الأول، ويبدو أنها كانت مدينة صغيرة بدون أسوار، ومع مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، تظهر دلالات انقطاع حضاري وسكني، يبدو أنه قد حدث إبان الموجة الهكسوسية، التي احتلت مصر حوالي ذلك الزمان. ومع مطلع عصر البرونز الوسيط يلاحظ انتعاشا جديدا، وتظهر المدينة اليبوسية، التي تم العثور على سورها وتزمين بنائه بحوالي عام 1800ق.م. «وهي الفترة التي ظهر فيها لأول مرة اسم أورشليم في نصوص مصر.»
14
وكان موضع المدينة محاصرا بنبع جيحون في وادي قدرون، وكان المصدر الرئيسي لمياه الشرب، ومن ثم تم بناء السور قرب النبع لحمايته أثناء الحصار، لكنه من جانب آخر بني بحيث لا يهبط نحو الوادي، فيكشف المدينة والمدافعين عنها، ومن هنا «تم حفر نفق تحت الأرض بين المدينة والنبع، يمر أسفل السور وتم الكشف عنه»، وهو قناة سلوام المذكورة في الرواية التوراتية، والتي نفذ منها القائد يوآب ومجموعته، لاقتحام المدينة بطلب الملك داود، كما في سفر صموئيل الثاني (5: 8) وأخبار أيام أول (11: 6، 7).
ومن أهم أعمال الملك اليهوذي حزقيا الباقية للآن، هو سحبه مياه نبع جيحون، إلى قناة تمر تحت مدينة أورشليم، حتى وادي تبريون لتصب في بركة سلوام في موقع محصن، لمنع الآشوريين من السيطرة على مصدر المياه الوحيد، الذي يغذي المدينة بالمياه، «وحزقيا هذا سد مخرج مياه جيحون الأعلى، وأجراها تحت الأرض إلى الجهة الغربية من مدينة داود، وأفلح حزقيا في كل عمله» (أخبار أيام ثاني، 22: 3، 4، 30)، ولم تزل بركة سلوام موجودة وتعرف اليوم باسم بركة سلوان، ويعرف نبع جيحون باسم نبع العذراء، وقد اكتشف المنقب وارن
Warren
القناة في 1867م، ونظفها المنقب باركر
في 1911م، وتابع العمل بها بعثة الأركيولوجية كاثلين كينيون 1961-1967م، ويتطابق مجرى القناة المكتشفة الآن مع وصف سفر أخبار الأيام الثاني.
15
وقد تم العثور على نقش حجري، يصف اللحظة الأولى لانتهاء حفر القناة اليبوسية تحت المدينة، وكيف التقى فريقا الحفر القادم كل منهما من الاتجاه المعاكس، ويقول النقش: «بينما النحاتون يرفعون فأس الحفر كل تجاه رفيقه، وبينما بقي ثلاث أذرع للنحت، سمع صوت رجل ينادي أخاه؛ لأنه وجد ثقبا في الصخر من ناحية اليمين، وفي يوم انتقابه ضرب النحاتون رجل أمام رجل، وفأس على فأس، وسالت المياه من النبع إلى البركة، مسافة مائتين وألف ذراع ومائة ذراع، وكانت قمة الجبل فوق رأس النحاتين.»
16
ولأن أحمد عثمان فيما يبدو، لم يتابع تلك الكشوف، فقد أنكر قصة أولئك الجنود، الذين دخلوا المدينة عبر النفق والقناة، واحتسب أورشليم هي المدينة التي استراح فيها الملك الفاتح داود أو تحتمس الثالث سبعة أشهر، كانت هي مدة حصار ربة كما في قصة داود، أو حصار مجدو كما في قصة تحتمس، وأنها كانت مدينة صديقة للفاتح، فتحت له أبوابها دون قتال ورحبت به؛ لذلك أطلق عليها منذ ذلك الحين اسم مدينة السلام أو أورشليم.
17
هذا رغم أنه كان بإمكان عثمان المتابعة، وافتراض أن قصة دخول المدينة عبر النبع والقناة، قد حدثت بأمر من تحتمس الثالث، وليس داود، خاصة وأن أورشليم لم تكتسب اسمها زمن تحتمس الثالث، كما يذهب عثمان، إنما أبعد من ذلك بكثير، وقد سبقت إشارتنا إلى أن أول ظهور لهذا الاسم، كان في النصوص المصرية حوالي 1800ق.م. «أي قبل زمن تحتمس الثالث بحوالي أربعة قرون كاملة»، ورغم ذلك يصر عثمان ويتابع القول، إن «هذه المدينة التي انفردت بإعلان السلام مع الملك المصري في تلك المعركة، أصبح السلام جزءا من اسمها منذ ذلك التاريخ، فهي صارت معروفة على أنها مدينة السلام أو أورشليم، والمدينة التي يسميها العرب قدس أو بيت المقدس، لم تعرف في أي من المصادر القديمة باسم أورشليم، إلا بعد عصر تحتمس الثالث.»
18
ويرى عثمان أن تحتمس الثالث، لم يذكر في قائمة المدن الكنعانية، التي أخضعها مدينة باسم أورشليم؛ لذلك افترض أنها تلك التي جاءت في نصوصه باسم قادش، الذي هو اسم القدس الحالية، هذا «بينما سنفترض نحن لقادش افتراضا آخر سيأتي في حينه».
وكما قدم عثمان قراءته الجديدة لأهم السجلات المقدسة، حول المؤسس الحقيقي لدولة إسرائيل الموحدة أو كل إسرائيل المعروف باسم داود، وأبان عن ميل شديد من المحرر التوراتي، إلى نسبة الأعمال العظيمة لبني إسرائيل، كما حدث مع تحتمس الثالث وداود، فإنه يعرج على مبالغات المحرر التوراتي بشأن مملكة سليمان الأسطورية، ليكشف لنا أنها لم تكن سوى تسجيل لصدى أيام حكم الفرعون المصري آمنحتب الثالث، هارون رشيد العالم القديم، لكنه يقول لنا هذه المرة، إن هناك مصادر أساسية لتلك المقارنة، ثم لا يذكرها لنا، فهو يؤكد أنه قد «لاحظ كثير من المؤرخين الشبه الشديد بين قصة سليمان كما وردت في سفر الملوك الأول، وتفاصيل حياة آمنحتب الثالث تاسع ملوك الأسرة 18 المصرية، والذي حكم لمدة 39 عاما عند بداية القرن الرابع عشر قبل الميلاد.»
19
وعن هؤلاء المؤرخين الذين «لاحظوا» يأخذ عثمان ثم يحكي، «كان آمنحتب الثالث يسيطر على معظم أرجاء العالم المعروف في زمانه، وعندما توفي والده تحتمس الرابع، كانت الأمور استقرت للملك الصغير، الذي تولى الحكم وهو لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره. وعمد آمنحتب الثالث إلى الزواج من أميرات ممالك الإمبراطورية، وتبادل الهدايا مع الملوك خصوصا الذهب، الذي كانت مصر تحصل عليه بكثرة من مناجم أفريقيا. وفي العام العاشر لحكمه «تزوج آمنحتب، الأميرة جيلوخيبة ابنة شورتانا ملك ميتاني بشمال ما بين النهرين»، وجاءت العروس إلى مصر في موكب كبير، ومعها 317 امرأة من الوصيفات للانضمام إلى حريم الملك.» «... وعاد آمنحتب فتزوج أميرة أخرى من مياني وأميرتين من بابل، وأميرة من سوريا إلى جانب زوجاته المصريات.»
20
ثم يتابع: «عندما جلس آمنحتب الثالث على عرش مصر، كان الثراء قد وصل درجة لم يصل إليها من قبل، ولا وصل إليها في أي عصر لاحق، واستطاع الملك الذي ساد السلام في عصره، أن يستخدم هذا الثراء في البناء، سواء في مصر أو في بلاد سورية وكنعان، فشيد المعابد والقصور والمدن المحصنة، وكان لوجود عدد كبير من أسرى الحرب في ذلك الزمان أثر فعال.»
21
ثم يعقد المقارنات مع قصة العهد القديم، التي تتحدث عن ثروة سليمان، التي كانت تأتيه من الممالك الخاضعة له «وكان وزن الذهب الذي أتى سليمان في سنة واحدة ستمائة وستين وزنة ذهب.» وكانت فترة حكم سليمان فترة سلام، فلم يقم بأي حروب طوال سني حكمه الأربعين؛ لذلك استعمل تلك الثروات في المعمار والإنشاء، كبناء قصر الملك وبناء المعبد والهيكل، استخدم فيه جيشا من البنائين، جمعه من بين الشعوب التي خضعت له، كما امتلأ قصره بالغيد الحسان من زوجات وجوار، وصل عددهم إلى ما يربو على الألف امرأة، ويلاحظ عثمان أن «كل النسوة لم يكن بينهن ولو واحدة فقط من بني إسرائيل»!
22
ثم يقول: «وبينما لم يتم العثور على أية بقايا لكل هذه الإنشاءات، ترجع إلى القرن العاشر ق.م. الذي عاش فيه سليمان، نجد الأدلة كلها تؤكد أن هذه الأعمال نفسها تمت من أربعة قرون، قبل ذلك في عهد آمنحتب الثالث. والبعثة الأمريكية التي قامت بالكشف عن القصر الذي بناه آمنحتب الثالث غرب الأقصر، أكدت أنه كان مكونا من البيوت نفسها، التي ورد ذكرها في قصة سليمان، وما زال خشب الأرز اللبناني قائما هناك.»
23 ... وإن هذه الإمبراطورية الإسرائيلية الوهمية، اختفت تماما كالسراب في قصص العهد القديم نفسه، «بمجرد أن وارى التراب جثة سليمان، فلا قصور ولا حصون ولا جيش جرارا، ولا سفن تجوب البحر إلى أوفير، ولا خشب من صور، ولا جزية من أرام سورية أو من موآب وآدوم في الجنوب»، وعادت القصة إلى الصورة الأصلية لقبائل بني إسرائيل المنتشرة على سفوح الهضاب الفلسطينية، في حالة مستمرة من الدفاع عن النفس أمام قوى كانت دائما أكبر منها بكثير.»
24
والمعلوم أنه بعد موت سليمان، انقسمت المملكة إلى يهوذا في الجنوب، وإسرائيل في الشمال، بينما قام الفرعون شيشنق المصري، بمهاجمة مملكة يهوذا، ولم تسجل نصوصه شيئا عن مملكة قوية في فلسطين، ولم يذكر شخصا باسم سليمان ولا بالإشارة، بينما كان العهد القديم يشير إلى مملكة وصل نفوذها إلى الفرات، وطبقت شهرة ملكها سليمان الآفاق، ومن ثم يعقب فراس السواح بالقول: «فإما أن التاريخ قد أحبك مؤامرة صمت مقصودة، وإما أن هذه المملكة الموحدة لم يقم لها قائمة، إلا في خيال المحرر التوراتي؛ فلم يتم العثور على بنية واحدة من بناها، وعلم الآثار كما تقول السيدة كينون، لا يستطيع تقديم أية فكرة عن مدينة العصر الذهبي وثرائها، وقصور سليمان التي بناها له ولزوجاته.»
25
ويتابع: «وفي قصة زواج الملك سليمان من ابنة الفرعون، يقع المحرر في تناقض يظهر الطابع الخيالي لنفوذ سليمان الداخلي والخارجي، فقد صعد فرعون مصر المجهول الاسم على فلسطين وأخذ مدينة جازر، وهذه لا تبعد عن أورشليم أكثر من بضع عشرات من الكيلومترات. وهكذا نعرف مدى النفوذ الفعلي للملك سليمان، الذي وصلت سلطته إلى الفرات، وكان عاجزا عن ضم مدينة كنعانية قوية، لا تبعد إلا رمية حجر من عاصمته.»
26
ثم يتساءل السواح: «وإذا كانت سلطة داود قد وصلت الفرات، فلماذا لم يصطدم بالآشوريين؟ ولماذا خلا الخبر التوراتي من أي ذكر لهم ولتواجدهم في عبر النهر؟ ولماذا لم يرد ذكر لداود في الوثائق الأرامية، التي اكتشفت في عواصم ومدن ممالك أرام عبر النهر؟ ... هذا المحرر لم يكن يقصد إلى تقديم نص تاريخي موثق عن حرب داود، بل إلى تزيين سيرة هذا الملك الملحمي بأخبار حروب، جمعها من الذاكرة القبلية للمنطقة.»
27
أما «زياد منى» فيقول بشأن ما جاء عن سليمان وملكه وحكمته في العهد القديم: «إن المحرر اتخذ موقفا منحازا لسليمان بن داود، ولا يمل من كيل المدح له، لكن المتابعة الدقيقة لعهد سليمان التوراة، تبين أنه «كان أبعد ما يكون عن الحكمة، فولعه غير العادي بالنساء، جعله يستحق صفة زير نساء من الطراز الأول»، أما ضعف مقاومته لكافة أنواع البذخ والترف ومتع الحياة الدنيا، فجعله أبعد ما يكون عن الحكمة، وأقرب للولد العاق، الذي أضاع الثروة التي قضى الأب عمره في جمعها. فالتوراة تسجل في سفر ملوك أول (9: 10-13) بصريح العبارة أن سليمان اضطر للتنازل عن بعض أقاليم مملكته، وإجراء تعديلات حدودية، لرد بعض الديون التي استحقت عليه من قبل بعض الممالك المجاورة، كما أن اهتمامه وبطانته ببذخ الحياة، هي التي أدت بلا شك إلى تراخي جيشه، التي عبر عنه بفقدان بعض أقاليم مملكة داود سفر ملوك أول (14: 11-22)، فأية حكمة هذه التي تؤدي إلى انهيار المملكة فور موت ملكها؟! إن انقسام مملكة داود إلى إسرائيل ويهوذا بعد وفاة سليمان، كانت النتيجة الحتمية لسياسة الأخير «التي يمكن نعتها بأي صفة باستثناء الحكمة»، أما الأحاديث التوراتية المطولة عن إنجازات عهده، فلا يمكن أخذها جديا لأنها تدخل ضمن التراث الأدبي الشعري العام، هذا عدا أنها لا تنقل لنا أي عمل مادي محدد، وفيما يتعلق بمسألة الهيكل فمن الضروري الإشارة إلى أن «علماء التوراة - كثيرا في الخفية وقليلا علنا - لا يقبلون الادعاء بأن سليمان التوراة قام ببناء أي معبد»، بل إنهم مقتنعون بأن الهيكل لم يكن أكثر من قاعة أو غرفة في القصر الملكي. إن سياسة سليمان التي قامت على استعباد الشعوب الأخرى المقيمة بالمملكة، واستثنائها من المشاركة في السلطة شكلت القاعدة الوحيدة لموقف المحرر الإيجابي تجاهه، وهذا هو منبع مديح الكهنة لسليمان وعهده، كما أن سليمان على عكس أبيه داود شارك المحرر الكهنوتي في وجهة نظره القائمة على حصر إسرائيل في مجموعة معينة، وعمل على تطبيق ذلك نصا وروحا.»
28
شكل 2-2: خريطة لمواقع الأحداث القديمة حسبما رأى المؤرخون. (انظر أيضا شكل رقم
2-3 .)
شكل 2-3: خريطة لموقع الأحداث بالأقمار الصناعية.
الباب الثاني
مصر والتوراة
الفصل الأول
قبل زمن الخروج
علاقة القبيلة الإسرائيلية ببلاد مصر، علاقة وطيدة تلمسها بطول الكتاب المقدس (العهد القديم) وعرضه، هناك مصر دوما وباستمرار، ويحكي المقدس التوراتي أن أول علاقة للقبيلة العبرية بمصر، قد حدثت في زمن أول البطاركة وأبيهم، ذلك الذي عرفه التاريخ باسم أبي الكثرة أو أبي الرهام أو إبراهيم، كناية عن وصف الكتاب المقدس لنسله الآتي، بأنه سيكون في الكثرة العددية كرمال الصحراء ومياه البحر، رغم أنه لم ينجب إلا بعد أن بلغ من عمره عتيا.
ولنبدأ الحكاية التوراتية من البداية ...
يأتي البطرك إبراهيم إلى فلسطين غريبا من بلاد بعيدة، يقول المقدس مرة إنها أور الكلدانيين، ومرة إنها بلاد حاران داخل الحدود التركية الآن شمالي بلاد الشام الأقصى، وقد انتهينا في كتابنا النبي إبراهيم والتاريخ المجهول إلى قدومه من منطقة أرمينيا الحالية، وأن وصف التوراة لسلف القبيلة الإسرائيلية بأنه كان أراميا «أراميا تائها كان أبي.» كان يعني بلاد أرمينيا الحالية تحديدا.
وعند وصول إبراهيم إلى فلسطين، كان يعيش إلى جوار أهلها الكنعانيين أقوام أخر، منهم الفلسطينيون القادمون من جزر البحر المتوسط، والحيثيون القادمون من تركيا، مع عدد آخر من العروق البشرية دونتها التوراة بتكرار مفصل.
ومن البداية تظهر مصر في تاريخ التوراة، فتحكي التوراة أنه قد حدثت في فلسطين مواسم من الجفاف، دفعت بإبراهيم لنزول مصر هربا من المجاعة. والغريب أن إبراهيم في تلك الرحلة يتمكن من الاقتراب من القصر الملكي المصري، عن طريق ملاحة زوجته سارة وجمالها، ثم يخرج من مصر بأموال جزيلة، أهداها له الفرعون. «لكن المقدس لا يعلمنا بمن كان هذا الفرعون؟ ولا باسمه؟ ولا في أي مدينة كان يعيش؟ ولا السر وراء اهتمامه بهذا الراعي البسيط؟ سوى حكاية سارة غير المقبولة بذوقنا القيمي اليوم، وإن كان المفسرون يرون تلك الروايات، دلالة صدق الكتاب المقدس بسرده سقطات الآباء القيمية.»
ويعود إبراهيم إلى فلسطين ثريا موسرا، يعيش جنوبها ينتقل بين مدائن الجنوب أو النقب، يعيش حياة البداوة في الخيام مع سوائمه، التي ترعى وتتحرك ويتحرك معها وراء الكلأ.
وينجب إبراهيم من سريته المصرية هاجر ولده إسماعيل، لكن السياسة الأيديولوجية التأسيسية للكتاب المقدس، تستبعد إسماعيل من التركة المقدسة؛ لأن إبراهيم قد أنجب بعده ولدا حرا من زوجته سارة هو إسحاق، وينجب إسحاق: عيسو ويعقوب، ومرة أخرى تتم التصفية والغربلة، فيستبعد عيسو السلف البعيد للشعب الآدومي، ليبقى يعقوب وحده في المصفاة، ويحمل يعقوب اسم إسرائيل في شبابه، وينجب اثنى عشر ولدا أو سبطا، ومع الأسباط يعود ذكر مصر مرة أخرى، فقد حنق الأسباط المكرمون على أخيهم الحلوم الصغير يوسف، لما تميز به عند أبيه يعقوب من حظوة، ومن هنا يتآمرون على الصغير المليح، ويلقونه في بئر جافة، فتلتقطه قافلة تجار، وتبيعه في مصر ... وفي مصر يشتريه «فوطي فار» رئيس الجند أو «... رئيس الشرط»، وهو اسم مصري قح «بادي بارع» أي «من يعطيه رع»، و«رع» هو رب الشمس المصري ورب الدولة.
ويرتفع شأن يوسف في مصر زمن مجاعة، نجت منها مصر بالحكمة اليوسفية، ويرتقي سدة الوزارة العظمى آنذاك، وهي وزارة الخزانة أو المالية، وكان توليه شئون مصر الاقتصادية، مدعاة لدخول متغيرات جوهرية، على أنظمة مصر الاقتصادية، ومن ثم الاجتماعية، فبعد أن كان الناس يعيشون أحرارا يملكون أرضهم، ويتعبدون لمن شاءوا بين مئات الآلهة، ليس لملكهم عليهم سوى سلطان مركزية الدولة ومصالحها، يقول المقدس:
اشترى يوسف كل أرض مصر لفرعون، إذ باع المصريون كل واحد حقله؛ لأن الجوع اشتد عليهم، فصارت الأرض لفرعون. فقال يوسف للشعب: إني اشتريتكم اليوم وأرضكم لفرعون، فقالوا أحييتنا ليتنا نجد نعمة في عيني سيدي، فنكون عبيدا لفرعون، فجعلها يوسف فرضا على أرض مصر إلى هذا اليوم. (تكوين، 47: 20-26)
ويستدعي يوسف أهله ليقيموا معه في مصر «وسكن إسرائيل في أرض مصر في أرض جاسان وتملكوا فيها وأثمروا وكثروا جدا» (تكوين، 47: 27).
وهذه أسماء بني إسرائيل الذين جاءوا إلى مصر، مع يعقوب جاء كل إنسان وبيته، رأوبين وشمعون ولاوي ويهوذا ويساكر وزبولون وبنيامين ودان ونفتالي وأشير، وكانت جميع نفوس الخارجين من صلب يعقوب سبعين نفسا، ولكن يوسف كان في مصر، ومات يوسف وكل إخواته وجميع ذلك الجيل، وأما بنو إسرائيل فأثمروا وتوالدوا ونموا وكثروا كثيرا جدا، امتلأت الأرض منهم، «ثم قام ملك جديد على مصر، لم يكن يعرف يوسف » فقال لشعبه: هو ذا بنو إسرائيل شعب أكثر وأعظم منا، هل نحتال لهم لئلا ينموا، فيكون إذا حدثت حرب أنهم ينضمون إلى أعدائنا، ويحاربوننا ويصعدون من الأرض، فجعلوا عليهم رؤساء تسخير، لكي يذلوهم بأثقالهم، فبنوا لفرعون مدينتي مخازن: فيثوم ورعمسيس. (خروج، 1: 1-11)
وكثيرا ما أثار دهشة الباحثين تعبير التوراة أن السبعين شخصا الذين دخلوا مصر قد صاروا أكثر عددا من المصرين أنفسهم، ويعطي سفر التكوين صورة هائلة لعدد هؤلاء عندما خرجوا من مصر تحت قيادة موسى «فارتحل بنو إسرائيل من رعمسيس إلى سكوت نحو ستمائة ألف ماش من الرجال عدا الأولاد» (خروج، 12: 37). وبحسبة بسيطة تضع الأولاد والنساء في التعداد سنجد الخارجين لا يقلون بحال عن المليونين من البشر، هذا ناهيك عن زيادة أخرى على هذا لرقم، لأنه «صعد معهم لفيف كثير أيضا.» ولا نعلم من هم هؤلاء اللفيف (سيأتي الحديث عنهم في موضعه من هذا الكتاب)، لكنهم على أية حال كانوا زيادة عددية أخرى.
ويطرح السؤال نفسه: كم قضى هؤلاء من الزمن في مصر، حتى يبلغوا هذا العدد الهائل؟ وتأتينا الإجابة: «وأما إقامة بني إسرائيل التي أقاموها في مصر، فكانت أربعمائة وثلاثين سنة» (خروج، 12: 40)، لكن الأغرب والأكثر تناقضا في هذه الرواية، أن الإسرائيليين منذ دخولهم أسباطا زمن شقيقهم يوسف إلى زمن خروجهم، لم يستغرقوا سوى أربعة أجيال فقط، حيث تروي التوراة أن لاوي شقيق يوسف أنجب قهات، وأن قهات قد أنجب عمران، وأن عمران قد أنجب موسى، الذي خرج بهم من مصر (خروج، 6: 14-20) «فقط، وهكذا؟! أربعة أجيال عاشت أربعة قرون وثلث القرن، بل وأنجب هؤلاء الأربعة الملايين من البشر!!» لكن في موضع آخر نجد المقدس، يحيطنا علما أن فترة إقامتهم في مصر، لم تتجاوز حياة جيل واحد، وهو لم يصرح بذلك، لكنه ما يفهم مما سجله، ففي سنوات يوسف الأخيرة يشهد يوسف ولادة أولاد أحفاده «وأولاد ماكير بن منسي [ابن يوسف] أيضا ولدوا على ركبتي يوسف» (تكوين، 50: 23) ثم نرى أولاد ماكير أبناء حفيد يوسف (لأن ماكير بن منسي بن يوسف) يخرجون مع موسى من مصر إلى فلسطين (يشوع، 13: 3 و17: 1)، وهو ما يعني أن المدة الفاصلة بين دخول مصر والخروج منها، لم تتجاوز حوالي المائة عام؛ لأن الذين ولدوا في مصر في حياة يوسف، هم من خرجوا من مصر مع موسى، وهم من دخلوا فلسطين مع يشوع خليفة موسى.
وما أكثر المدهشات بالكتاب المقدس، لكن أكثرها إدهاشا ما تعلق منها بقصة موسى، الذي قاد بني إسرائيل في رحلة خروج كبرى عبر سيناء إلى فلسطين، فقد هرب هؤلاء من تسخير وعبودية مصر، «ومعهم مواش وأغنام كثيرة» (خروج، 12: 38)، الأمر الذي يتناقض والأوضاع المعلومة للعبيد.
والفرعون حسب التوراة قد خشي من الكثرة العددية للمستعبدين لديه، وسخرهم في بناء مدينتيه الكبيرتين؛ فيثوم أو بالمصرية بي توم، أي مقر الإله آتوم، ورعمسيس/مدينة رمسيس؛ لذلك أمر الفرعون بقتل من يولد لبني إسرائيل من الذكور «كل ابن يولد تطرحونه في النهر، لكن كل بنت تستحيونها» (خروج، 1: 22). وفي هذا الظرف العصيب ...
ذهب رجل من بيت لاوي وأخذ بنت لاوي، فحبلت المرأة وولدت ابنا، ولما رأته أنه حسن خبأته ثلاثة أشهر، ولما لم يمكنها أن تخبئه بعد، أخذت له سفطا من البردي وطلته بالحمر والزفت، ووضعت الولد فيه ووضعته بين الحلفاء على حافة النهر، ووقفت أخته من بعيد لتعرف ماذا يفعل به؟ فنزلت ابنة فرعون إلى النهر لتغتسل، وكانت جواريها ماشيات على جانب النهر، فرأت السفط بين الحلفاء فأرسلت أمتها وأخذته، ولما فتحته رأت الولد وإذا هو صبي يبكي فرقت له وقالت: هذا من أولاد العبرانيين، فقالت اخته لابنة فرعون هل أذهب وأدعو لك امرأة مرضعة من العبرانيات لترضع لك الولد؟ فقالت لها ابنة فرعون: اذهبي. فذهبت الفتاة ودعت أم الولد، فقالت لها ابنة فرعون: اذهبي بهذا الولد وأرضعيه لي، وأنا أعطيك أجرتك، فأخذت المرأة الولد وأرضعته، ولما كبر الولد جاءت به إلى ابنة الفرعون فصار لها ابنا، ودعت اسمه موسى وقالت: إني انتشلته من الماء. (خروج، 2: 1-10)
لكن موسى حسب رواية التوراة بعدما يفع واجتاز مرحلة الصبا إلى الرجولة لم ينس أصله رغم أنه قد أصبح أحد نبلاء البلاط، فقتل مصريا انتصارا لإسرائيلي، فطلبه القصاص القانوني، فهرب من مصر إلى مكان تصفه التوراة بأنه: «أرض مديان» (خروج، 2: 15) ويبدو أنها كانت أرضا صحراوية؛ لأن موسى عندما ذهب هناك «جلس عند البئر» (خروج، 2: 15) ويبدو أنها كانت قرب مخرج مصر، حيث لا تفاصيل بالتوراة، عن رحلة طويلة لموسى؛ مما يعني أن المديانيين كانوا ينتشرون في سيناء، حتى حدود مصر الشرقية مع سيناء.
والتقى موسى ببعض غيد مديان عند البئر، فاستقى لهن بشهامة، فذهبن وأخبرن أباهن «فقلن رجل مصري أنقذنا من أيدي الرعاة، وأنه استقى لنا» (خروج، 2: 19)، ولحسن حظ موسى كان أبوهن كبيرا من وجهاء مديان، فهو «رعوئيل» أو «يثرون» سيد وكبير كهنة مديان، وتنتهي أحداث هذا الجزء بالحدث السعيد، ويتزوج موسى من صفورة بنت يثرون، وينجب منها ولدين هما جرشوم وألعازر.
واشتغل موسى برعي غنم حميه يثرون، وبينما هو مع أغنامه عند سفوح الجبل المقدس المعروف بجبل الله أو جبل حوريب «جبل الله حوريب» (خروج، 3: 1) من عبارة «هو الرب» العبرية، رأى ظاهرة عجيبة، نبات مضيء؟ نبات يبدو مشتعلا بالنار لكنه لا يحترق؟ واقترب موسى المشدوه بالمشهد، لكن ليكتشف أن ذلك الضوء ضوء إلهي مصحوب بصوت يناديه: «لا تقترب إلى ههنا، اخلع حذاءك من رجليك؛ لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة» (خروج، 3: 5).
ويتعارف الاثنان، ويقدم هذا الإله نفسه لموسى هكذا: «أنا إله أبيك، إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب، رأيت مذلة شعبي الذي في مصر؛ فنزلت لأنقذهم من أيدي المصريين، وأصعدهم من تلك الأرض إلى أرض جيدة وواسعة» (خروج، 3: 6-8).
ويبدو أن «موسى كان يجهل اسم «إيل»، رب البطاركة» الأوائل المفترض أنهم أسلافه؛ لذلك سأل الإله عن اسمه وصدق إجابته فورا، في حوار سأل فيه موسى ربه «فإذا قالوا لي ما اسمه؟ فماذا أقول لهم؟ فقال الله لموسى: أهيه الذي «أهيه ... يهوه» إله آبائكم ... هذا اسمي إلى الأبد» (خروج، 3: 13-15).
وكانت خطة يهوه هي إخراج بني إسرائيل من مصر إلى فلسطين، بترتيبات إلهية مدعومة بالمعجزات ، فأعطى موسى آيات سحرية كالعصا الثعبانية وإضاءة يده، إذا أدخلها في جيبه أو «عبه» بتعبير التوراة، وكانت الخطة هي إيهام الفرعون أن الإسرائيليين بحاجة إلى إقامة احتفال ديني خاص بهم، يذبحون فيه حيوانا مقدسا عند المصريين؛ لذلك فهم بحاجة إلى الابتعاد عن مساكن المصريين «نمضي ثلاثة أيام في البرية ونذبح للرب إلهنا» (خروج، 3: 18)، وبعد ابتعاد مسيرة ثلاثة أيام في الصحراء يكونون قد أصبحوا بعيدين بمسافة كافية، ويمكنهم الاستمرار في الهرب وهم آمنون من اللحوق بهم، لكن كان عليهم أيضا بأمر يهوه أن يستعيروا حلي المصريات ومصوغاتهن الذهبية زينة للعيد، ثم يفرون بها، أو كما أمر يهوه موسى قائلا: «وأعطي نعمة لهذا الشعب في عيون المصريين، فيكون حينما تمضون لا تمضون فارغين، بل تطلب كل امرأة من جارتها ومن نزيلة بيتها أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثيابا، وتضعونها على بنيكم وبناتكم فتسلبون المصريين» (خروج، 3: 21، 22)، لكن موسى كانت لديه حجة أخرى جعلته مترددا في تنفيذ أوامر يهوه، وهو أنه «ثقيل الفم واللسان»، فجعل له يهوه من أخيه هارون ناطقا بما يريد ومبلغا. «وقال الرب لموسى في مديان: اذهب ارجع إلى مصر؛ لأنه قد مات جميع القوم الذين كانوا يطلبون نفسك» (خروج، 4: 19)، وبموت الفرعون، الذي كان يطلب القصاص من موسى لقتله المصري، بات موسى آمنا في العودة إلى مصر، وذهب موسى وهارون فور العودة إلى قصر الفرعون، يطلبون منه السماح بارتحال بالمستعبدين في أعمال المعمار، إلى البوادي الشرقية ليذبحوا لإلههم، فرفض الفرعون، لكن يهوه أعلن لشعبه: «أنا الرب، وأنا أخرجكم من تحت أثقال المصريين، وأنقذكم من عبوديتهم، وأخلصكم بذراع ممدودة وبأحكام عظيمة وأتخذكم لي شعبا وأكون لكم إلها» (خروج، 6: 6-7)، وهكذا اختار يهوه شعبا خاصا له ليتأله عليه، وحمل هذا الشعب من يومها لقب «الشعب المختار».
ويبدأ يهوه ألاعيبه ليثبت أنه أشد سحرا من السحرة المصريين، وأنه أقوى من فرعون الذي كان أقوى ملوك العالم، وكان الانتصار عليه انتصارا عالميا بل وكونيا، فقام يهوه يركز غضبه على عصب الحياة والاقتصاد والزراعة المصري، فيقوم بضرب نهر النيل ليتحول إلى دم، ليضطر المصريون إلى الحياة كالبدو والرعاة بحفر الآبار للشرب، كي لا يموتوا عطشا (خروج، 7: 19-24)، وينشر الضفادع في بلاد النيل (خروج، 8: 5، 6)، ثم البعوض (خروج، 8: 16)، ثم الذباب (خروج، 8: 20-24) ثم ينشر الوباء بين البشر والسوائم (خروج، 9: 3-6)، مع دمامل وبثور (خروج، 9: 8-10)، ثم يسلط ظواهر الطبيعة الرديئة على الوادي الغني ليفقره، كالبرد الثلجي والنار والرعود (خروج، 9: 22-26)، ويلحق بها الجراد ليقضي على البقية الباقية من خيرها (خروج، 10: 12-15)، ثم ينزل بالبلاد جميعها ظلاما دامسا وقت النهار (خروج، 10: 21-23)، حتى تأتي ضربة يهوه العاشرة وهي قتل الصبية المصريين من الأبكار، وكذلك أبكار السوائم أيضا:
وقال موسى: هكذا يقول الرب: إني نحو منتصف الليل أخرج في وسط مصر، فيموت كل بكر في أرض مصر، من بكر الفرعون الجالس على كرسيه إلى بكر الجارية التي خلف الرحا، وكل بكر بهيمة، ويكون صراخ عظيم في كل أرض مصر، من بكر الفرعون الجالس على كرسيه إلى بكر الجارية التي خلف الرحا، وكل بكر بهيمة، ويكون صراخ عظيم في كل أرض مصر. (خروج، 11: 4-6)
وإبان ذلك جميعه، تصر دراما الفزع والرعب التوراتي، على تأكيد أن المصريين وحدهم، هم من عانى تلك الضربات، بينما كان الإسرائيليون يسكنون أرض جاسان في مصر، ولم تصبهم ولا أرض جاسان التي سكنوها أي من شرور يهوه الكونية تلك، لكن يبدو أن المحرر التوراتي لم ينتبه، وهو يؤكد تلك العناية والرعاية، من يهوه لشعبه المختار، أنه قد جعل من جاسان حيث يقيم شعبه، مقرا للبلاط الملكي الذي استحق كل هذا الدمار والغضب اليهوي، والذي لا شك لم يلحقه بدوره هذا الدمار، لوجوده في مقاطعة جاسان، التي لم تصب بأي أذى، ولكن ذلك لم يكن شاغلا للمحرر، فهو متأكد من وجود جاسان بعيدا عن الضربات، وهو ما أصر المحرر على تأكيده مع كل ضربة يهوية، انظره يقول مثلا:
أنا أرسل عليك وعلى عبيدك وعلى شعبك وعلى بيوتك الذبان، فتمتلئ بيوت المصريين ذبانا وأيضا الأرض التي هم عليها، «ولكن أميز في ذلك اليوم أرض جاسان حيث شعبي مقيم حتى لا يكون هناك ذبان». (خروج، 8: 21، 22)
فماتت جميع مواشي المصريين «وأما مواشي بني إسرائيل فلم يمت منها واحد». (خروج، 9: 6)
فأعطى الرب رعودا وبردا وجرت نار على الأرض ... «إلا أرض جاسان حيث كان بنو إسرائيل، فلم يكن فيها برد». (خروج، 9: 23-26)
ثم قال الرب لموسى مد يدك نحو السماء، ليكون ظلام على أرض مصر ... «لكن جميع بني إسرائيل كان لهم نور في مساكنهم». (خروج، 10: 21-23)
ثم يختتم يهوه وعصاته الثعبانية تلك المغامرات المدمرة واللذات الشاذة بإغراق المصريين جميعا مع فرعونهم وجيوشهم في لجج البحر المفلوق بالعصا السحرية الثعبانية (خروج، 14).
لكن وسط كل هذا الصخب الأسطوري والضجيج السحري، يضع المحرر شروحات جغرافية بينية، لخط سير الخروج، تلتقي إلى حد مدهش مع أوضاع الجغرافيا في شرقي الدلتا المصرية المتصل بالصحاري السينائية، فهناك كان بداية طريق حورس الحربي الكبير المؤدي إلى فلسطين، والمسمى أيضا طريق فلسطين، لكن يهوه ينحرف بشعبه عن هذا الطريق الأسهل، لتحاشي قتال متوقع، ويأمر أتباعه بالاتجاه نحو بحر باسم بحر سوف، ومن مدينة باسم «سكوت» - وردت بذات الاسم بالوثائق المصرية القديمة أيضا - يتحركون نحو بادية باسم إيثام في طرف الصحراء، ومن هناك ينزلون على بحر سوف بين ثلاثة إحداثيات جغرافية هي: مجدل، وبعل صفون، وفم الحيروث، وعند نقطة فم الحيروث تفلق العصا الحية البحر، ليعبر الإسرائيليون بينما يغرق الفرعون وجنده عند مطاردتهم للإسرائيليين، إذ ينطبق عليهم البحر المفلوق (خروج، 13: 20، 18؛ 14: 2).
والغريب أن الخارجين لم يكتفوا باصطحاب أنعامهم الوافرة، بل حملوا معهم من مصر ذهبا هائل الوفرة، لم يجد له المحرر التوراتي سوى تكرار تفسير يقول: «وفعل بنو إسرائيل بحسب قول موسى، طلبوا من المصريين أمتعة فضة وأمتعة ذهبا وثيابا، وأعطى الرب نعمة للشعب في عيون المصريين حتى أعاروهم، فسلبوا المصريين، فارتحل بنو إسرائيل من رعمسيس» (خروج، 12: 35-37).
وهكذا يخرج بنو إسرائيل من مصر تحت قيادة موسى في خط سير جغرافي شديد التدقيق (بالتوراة)، يتجهون معه نحو جبل الله حوريب المقدس في عمق سيناء، ويستغرق رحيلهم سنتين كاملتين، حتى يحطوا في قادش في أقصى شرقي سيناء ، ليعيشوا هناك ثمانية وثلاثين عاما كاملة، ومن قادش تبدأ رحلة غزوهم لفلسطين بعبور الأردن، من شرقيه عند جبل نبو إلى غربيه عند أريحا، رغم أن قادش كانت تقع في النقب جنوبي فلسطين، دون أي عوائق أو موانع جغرافية مع فلسطين شمالها، لذلك يظل السؤال ينتظر إجابة: لماذا اجتاز الإسرائيليون مانعين هامين؟ الأول هو مانع سيادي حيث اجتازوا دولة آدوم مشرقين، ثم التفافهم من الشرق إلى الغرب بعبور مانع جغرافي هو نهر الأردن، لماذا كل هذه الالتفافة وفلسطين على مسيرة يوم أو يومين شمالي قادش؟
الفصل الثاني
النظريات التاريخية للخروج
(1) نظرية أن الإسرائيليين هم الهكسوس
تعد أقدم نظرية طرحت بشأن خروج بني إسرائيل من مصر، تلك التي تربط بينهم وبين الهكسوس، الذين ورد ذكرهم في الوثائق المصرية كمحتلين أجانب للبلاد، وتعتبرهم مع بني إسرائيل شيئا واحدا، وكان صاحبها هو المؤرخ اليهودي «فلافيوس يوسفيوس» (37-100م)، الذي حصل على تكريم الإمبراطور الروماني «فيسبيان»، وقام بتأليف كتب ثلاثة، هي على الترتيب: «العاديات اليهودية»، ويتناول فيه تاريخ بني إسرائيل، ثم «الحروب اليهودية»، ويعالج فيه ثورات القبائل الإسرائيلية بفلسطين ضد الحكم الروماني، أما الثالث - وهو الأهم لموضوعنا - فهو الكتاب الذي وضع فيه نظريته، حول خروج بني إسرائيل من مصر، وهو الكتاب المعروف بعنوان «ضد آبيون»، وقد ألفه ردا على «آبيون النحوي السكندري» المصري، الذي كان يبغض الجنس الإسرائيلي، ويكن للإسرائيليين كراهية شديدة ومقتا عظيما، ودون عنهم رواية تقول: إنهم كانوا نوعا من الأجناس القذرة الدنسة بين بني البشر، وإنهم عاشوا في مصر عبيدا، دون أن يتعلموا من أهلها قواعد النظافة والتطهر، فأصابتهم علل القذارة، مثل البرص والقراع وما يشوب الجلد من قرح، فلما خشي المصريون تفشي الوباء بينهم «طردوهم من بلادهم» وقادهم في رحلة خروجهم من مصر إلى فلسطين عبر سيناء، ذلك الشخص المدعو «موسى».
وقد رد «يوسفيوس» اليهودي على «آبيون النحوي» المصري في كتابه: «الرد على آبيون»، ليؤكد أن هؤلاء الأنجاس الدنسين، لم يكونوا سوى الهكسوس، الذين دخلوا مصر بلد آبيون المصري غزاة فاتحين، حكموها كملوك ولم يعيشوا فيها كعبيد، ولم يكونوا أنجاسا ولا ملاعين، وقد دعم «يوسفيوس» رده هذا بكلام المؤرخ المصري «مانيتون السمنودي»، وكان «مانيتو» كاهنا مصريا، عاش زمن الملك «بطلميوس الثاني» ملك مصر، الذي حكم حوالي عام 283-246ق.م. ودون تاريخ بلاده باللغة اليونانية، بتكليف من ذلك الملك، ليقدم للإغريق صورة عن تاريخ مصر.
وقد تمكن «مانيتو» بجهد وحذق، وبمعرفته بلغة بلاده وباللغة الإغريقية، أن يتابع بمهارة نقوش مصر القديمة ومدوناتها الحجرية والبردية، التي كانت قائمة حتى زمانه، وأن يجمع منها تاريخا متكاملا لوطنه، هذا إضافة إلى سبعة كتب أخرى، جاءنا منها فقط بعض أسمائها، ومنها «تون فيزيكون أبيتومه» وخصصه للاهوت المصري والقصص الديني في التكوين والخلق، وكتاب «في صنع بخور المعابد»، وكتاب في التقويم المصري والتقسيم الزمني بعنوان «كتاب الشعرى اليمانية سيتوس»، إلا أن الكتاب الذي حاز الشهرة، ونقل عنه المؤرخ اليهودي «يوسفيوس»، ويعد عمله الرئيس، هو كتاب تاريخ مصر «إيجبته ياكا»، وهو مصنف في مجلدات ثلاثة، يغطي المجلد الأول منها تاريخ الأسرات المصرية الحاكمة الأولى، من الملك «مينا» موحد القطرين حتى الأسرة الحادية عشرة، ويتناول المجلد الثاني المساحة الزمنية الممتدة ما بين الأسرة الحادية عشرة وبين الأسرة العشرين، ثم يتابع معالجة بقية الأسرات في المجلد الثالث، الذي ينتهي عند حكم آخر ملك مصري وطني، وهو الذي أسماه «نيكتا نيبوس».
وقد ألف «مانيتو» كتابه «إيجبته ياكا» باللغة اليونانية، لكن لسوء الحظ لم تصلنا منه أية نسخة، سوى تلك الشذرات التي نقلها عنه «يوسفيوس» في كتابه «الرد على آبيون»، إضافة إلى ما نقله آخرون مثل «يوليوس الأفريقي/أفريكانوس» (ت 220م)، و«سنكلوس» (ت 800م) في كتابه «تاريخ العالم من الخليقة حتى دقلديانوس».
ومن الجدير بالتنويه هنا، أن خبر نجاسة الجنس الإسرائيلي وإصابته بأوبئة عدم النظافة، لم يكن بدعا من «آبيون» المصري، حيث نجد بعد ذلك حوالي عام 900م، ترجمة عربية لكتاب قديم ألفه كاهن كنسي هو «هروشيوش» أو «أورسيوس» باسم «تاريخ العالم»، بتكليف من القديس المسيحي «أوغسطين» شخصيا، يقول فيه «هروشيوش» نقلا عن مؤرخ قديم باسم «قرناليس »:
قال قرناليس: اتفقت دواوين أصحاب الأمر، على أنه أصابت القبط (المقصود هنا المصريين [المؤلف]) جوائح أفسدت أبدانهم، وشوهت أجسامهم، وأن ملكهم بخوريم
Boccorim
رأى أن يعالج ذلك «بنفي من ظهرت عليه الجائحة» فتجمعت من المنفيين جماعات، كان على رأسهم رجل يدعى موسى، حضهم على أن يتخلوا عن الاستنصار بالأوثان، ويتبرءوا من عبادتها، ويفوضوا أمرهم لرب السماء لينصرهم ويشفيهم من دائهم.
1
والواضح في تأريخ «هروشيوش»، أنه لا يرى الإسرائيليين جنسا يتميز بذاته، قدر ما يحتسبهم «صنفا من المصريين» أصابهم وباء معد، فنفاهم أهلوهم خارج البلاد، تحسبا من انتشار المرض بين بقية المصريين.
وفي رده على «آبيون»، يؤكد لنا «يوسفيوس» أنه سينقل عن «مانيتو» المصري بكل أمانة، حتى إنه سينقل ذات الكلمات بالحرف، وهو بصدد ذلك يروي الراوية التالية: «توتيمايوس» في عهده، لسبب لا أعرفه، حلت بنا ضربة الإله، وفجأة، تقدم في ثقة بالنصر، غزاة من إقليم الشرق، من جنس غامض، إلى أرضنا، واستطاعوا بالقوة أن يتملكوها بسهولة، دون أن يضربوا ضربة واحدة.
ولما تغلبوا على حكام الأرض، أحرقوا مدننا بغير رحمة، وقوضوا أرض معابد الآلهة، وعاملوا المواطنين بعدوان قاس، فذبحوا بعضهم، وساقوا زوجات آخرين وأطفالهم إلى العبودية، وأخيرا عينوا واحدا منهم ملكا يدعى «سالاتيس»، وكان مقره ممفيس، ففرض الضرائب على مصر العليا والسفلى، وكان يخلف وراءه حاميات في الأماكن الهامة.
وفي المقاطعة السيتورية، وجد مدينة ذات موقع طيب «تقع على الضفة الشرقية من الفرع البوباستي للنيل» وكانت تسمى «أفاريس»، تبعا للتراث الديني المصري، فأعاد بناء هذا المكان، وحصنه بأسوار ضخمة، ومات سالاتيس بعد أن حكم تسعة عشر عاما.
وخلفه ملك آخر يدعى «بنون»، حكم أربعة وأربعين عاما، تلاه بعدها «أباخنان» الذي حكم ستة وثلاثين عاما وسبعة شهور ، ثم «أبوفيس» الذي حكم واحدا وستين عاما، ومن بعده «ياناس» مدى خمسين سنة وشهرا واحدا، وأخيرا جاء «أسيس» الذي حكم تسعة وأربعين عاما وشهرين.
وهؤلاء الملوك الستة، هم أول من حكم منهم، وكانوا يعملون جاهدين أكثر فأكثر لاستئصال العنصر المصري، وكان جنسهم عادة يسمى الهكسوس ، أي الملوك الرعاة؛ لأن هيك في اللغة المقدسة: ملك، وسوس في اللغة الدارجة: راعي.
2
هذا؛ وقد نقل «يوليوس الأفريقي» بدوره عن «مانيتو»، أسماء لستة حكام من الهكسوس، قال: «إنهم حكام الأسرة الخامسة عشرة»، وأضاف أنهم «فينيقيون»، وإن أوردهم بنطق مختلف قليلا عما أورده «يوسفيوس»، وبالمقارنة يصبحون كالتالي:
الأول:
عند يوسفيوس - «سيتلاتيس»
Sutchlatis
وقد حكم تسعة عشر عاما، ويبدو أن تلك الأسماء القديمة كانت غير واضحة تماما أو دقيقة لزمن هؤلاء المؤرخين؛ لذلك أسماه يوليوس الأفريقي «سيتيس» وأعطاه ذات المدة الزمنية للحكم، وكما هو واضح فالاسم هو «الستي»، نسبة إلى الإله سيت المصري رب الصحاري
Sutch/set ، ونظرا لوجود أسماء هكسوسية أخرى في الآثار المصرية، تكتشف على التتابع، فقد تمت مطابقة واحد من هؤلاء جاء ذكره في قائمة منف، وتمت قراءة اسمه «شارك» أو «شالك» أو «شليك»، بالملك «سيتلاتيس» أو «سيتيس»، ويحتمل أنه هو ذات الاسم الوارد بالآثار المصرية «مي إيب رع شيشتي».
3
الثاني:
دونه يوسفيوس بالنطق بنون
Benon
ويرجح المؤرخون أنه ذاته الذي ورد في بردية تورين بلفظ بنيم، ويحتمل أيضا أنه هو من جاء اسمه على بعض الآثار مكتوبا «سكا»، وبالنظر إلى الكلمة الهيروغليفية لاسمه، وتتضمن صورة لرجل يدفع محراثا؛ ولأن الكلمة «سكا» في الساميات وضمتها العربية، تعني سلاح المحراث، فربما كان يعني «الحارث»، كما سنرى في داخل هذا البحث أن «سكا» هي «إسحاق»، وهو اسم سامي معلوم، وقد وردت سكا في الآثار هكذا ، وقد ذكره يوليوس الأفريقي أيضا باسم بنون وبذات مدة الحكم.
الثالث:
كتبه يوسفيوس: «أبا خنان» أو أبخناس
Ibikhnas ، وربما كانت تعني «أبا الغنم» من «خنم» المصري، فنحن نجد إلها مصريا قديما باسم «خروف»، ويرسم خروفا ويكتب «خنوم» و«خنوف»، هو الذي كان يشكل البشر من صلصال كالفخار في العقائد المصرية القديمة، ويرجح المصرولوجيون، أن يكون هو الوارد في الآثار المصرية باسم «نب خبش رع » والمعروف بلقب «أبوفيس الأول »، وأعطاه يوسفيوس مدة حكم تصل إلى ستة وثلاثين عاما، وأطلق عليه يوليوس الأفريقي اسم «بخنان»، مع مدة حكم مضاعفة، فقد حكم مدة واحد وستين عاما.
والمعلوم أن «أبوفيس» هو الاسم المصري للحية الثعبانية الأفعى الضخمة «الأفعوان»، وهو في الأساطير المصرية إله شرير، يقوم الإله رع بقتله وينطق اختصارا أبيبي، وهو المقابل المصري لذات الأفعى في المأثورات السامية، التي وردت باسم لوياثان، وقد وجدت مدونة في آثار مدينة أوغاريث على الساحل السوري، وقد تكفل بقتلها الإله بعل الكنعاني/الفينيقي، كما وردت في التوراة، وتكفل بقتلها رب التوراة يهوه.
الرابع:
عند يوسفيوس يحمل اللقب مباشرة «أبوفيس
Ibuphis
وهو أبوفيس الثاني/أبيبي» وقد أعطاه يوسفيوس مدة حكم واحد وستين عاما، ومن المحتمل أن يكون هو عاقنن رع
أي «الحمار الشجاع»،
4
وسنعرف فيما بعد أن الهكسوس قد عبدوا الرب الشيطاني سيت، وأنه ضمن تمثلاته التجلي في هيئة الحمار الأحمر اللون، ومن هنا أطلق عليه يوليوس الأفريقي اسم «ساتان/ستان»، وجعل مدة حكمه خمسين عاما، ومن جانبنا نرى أن «ستان» هو «شيطان» في العربية، كما سنرى داخل هذا العمل.
الخامس:
عند يوسفيوس هو: يان-س
Jaynas /جون، ويحتمل أنه المذكور في الآثار باسم «خيان»
Khayan ، وقد حكم عند يوسفيوس خمسين عاما، وقد تأكد أنه الذي حمل اللقب المصري «سازوسر إن رع»/ابن رع، بعد أن عثر السير آرثر إيفانز سنة 1901م بقصر كونسوس في كريت، على غطاء مرمري يحمل الاسم «سازوسر إن رع» مع «خيان»، في خرطوش واحد،
5
كذلك عثر على ذات الأسماء على صدر أبي هول صغير جيء به من بغداد.
6
وفي المأثور التاريخي العربي حديث عن ملك حكم مصر باسم «الريان»، وهو ما يلتقي مع الاسم «إيان» أو «يان-س»، وكان الريان في المأثور العربي من ملوك العرب، الذين حكموا مصر باسم العمالقة، وهو أمر سنتعرض له فيما بعد بالتفصيل.
وهكذا فإن خيان أو يان بالتأكيد كان هو سازوسر إن رع
إلا أن يوليوس الأفريقي أطلق عليه اسم أرخليس، وأعطاه مدة حكم تصل إلى تسعة وأربعين عاما.
السادس:
يكتبه يوسفيوس أسيس، وأعطاه مدة حكم واحدا وستين عاما، وربما كان هو المذكور في الآثار باسم «عاوسر رع»، وهو اسم مصري انتقل إلى الساميين في المسميات «عازر» و«عزرا» و«عزير»، ناهيك عن كون اسمه «أسيس» هو «عزيز»، وقد دونت الآثار المصرية اسمه عاوسررع هكذا ، لكنا نعلم من يوليوس الأفريقي أنه قد حمل اللقب أبوفيس، ويصبح بذلك أبوفيس الثالث، وقد أعطاه يوليوس ذات مدة الحكم، ويعتبر آخر حكام الهكسوس الستة، ويحتمل أنه الوارد بلقب خمودي أو حمودي في بردية تورين.
7
ويمكن تلخيص ذلك في الجدول التالي:
م
اسم الملك عند يوسفيوس
مدة حكمه
اسم الملك عند يوليوس الأفريقي
مدة حكمه
الاسم كما ورد في الهيروغليفية المصرية
تخريج الاسم [للمؤلف]
1
سالاتيس = «شالاد»
19
سايتيس = «سيت»
19
مي إيب رع شيشي، ربما هو شليك = أو شارك
الستي
2
بنون = «بيبون»
44
بنون
44
بنيم سكا
سكا = إسحاق = الحارث
3
أباخنان = «أبو فيس الأول»
36
بخنان
61
نب خبش رع أبو فيس
أبو الغنم
4
أبو فيس الثاني
61
ستان
50
ابيبي أبو فيس عاقنن رع
الشيطان
5
يان-س
50
أرخليس
49
خيان = سازوسر إن رع
الريان
6
أسيس = «أبو فيس الثالث»
61
أبو فيس
61
عاوسر رع = خمودي
عزيز = حمودي
لكن المربك في الأمر هو وجود أسماء أخرى في الآثار للهكسوس، غير تلك التي تمت مطابقتها مع لائحة الملوك الستة لمانيتو، وتلك الأسماء يحمل بعضها لقب «حقا خاسوت»، أي الهكسوس بالنطق المصري، منهم واحد باسم سمقن وآخر باسم «عنات» هر، وأسماء أخرى تحمل لقب «الإله الطيب» وردت على جعارين، وهم حوالي ثمانية ينتهي اسم كل منهم باسم إله الشمس المصري رع، ومجموعة أخرى تحمل لقب «ابن الشمس»، مثل ابن الشمس «يعقوب» هر، وابن الشمس «عامو»، وابن الشمس قار، ولا حل سوى القول إن هؤلاء جميعا شيوخ قبائل (والتوراة تشير لشيوخ القبائل باعتبارهم ملوكا)، وأنهم كانوا من الشيوخ البارزين في الطاقم الهكسوسي المتميز، فحازوا مكانة تركت بموجبها أثرها فيما وصلنا من آثار؛ وهو الأمر الذي انتهى إليه جاردنر في تفسير هذا اللغز، وأوضحه (محمد بيومي مهران) في قوله عن الأسماء الهكسوسية الواردة في بردية تورين بقوله: «إن الحصر الإحصائي للبردية، يضم ملوكا كثيرين كانوا موجودين معا في وقت واحد، ومن المحتمل أنهم كانوا في أنحاء متباعدة من البلاد، وينظر إليهم كمجرد رؤساء لقبائل آسيوية مختلفة وعديدة، متجمعين تحت لواء ملك الهكسوس الكبير.»
8
المهم أن «يوسفيوس» يتابع روايته عن الهكسوس، نقلا عن «مانيتو»، فيقول: إن الحال قد استمر كذلك حتى قام الفرعون المصري «تثموزيس»
Tethmosis
بالتمرد عليهم، وطردهم من بلاده في حرب هائلة،
9
حيث لم يكن حكام الهكسوس قد تمكنوا من القضاء على الحكم المصري الوطني، المتحصن طوال الوقت في طيبة جنوبي مصر؛ أولئك الذين خاضوا حربا طويلة ضد الهكسوس، وبعد أن استمر الاحتلال خمسمائة عام وإحدى عشرة سنة، تمكن «تثموزيس» من طرد المحتلين، فانسحبوا إلى سوريا (يقصد بسوريا كل بلاد الشام شرقي المتوسط [المؤلف])، حيث أسسوا هناك المدينة المعروفة باسم أورشليم.
10
ولما كان «مانيتو» قد زعم أن البعض اعتبر الهكسوس عربا، وأن البعض الآخر رآهم فينيقيين، فقد رأى «يوسفيوس» من جانبه أن خروجهم من مصر إلى يهوذا تحديدا وتأسيسهم أورشليم بالذات، وصفتهم كعرب «بدو ساميين»، وكفينيقيين، شواهد قاطعة على أنهم كانوا من بني إسرائيل، وأنهم دخلوا مصر ملوكا ولم يدخلوها عبيدا أبدا.
ويستمر «يوسفيوس» ناقلا عن «مانيتو»: أن الهكسوس تركوا منهم بقايا لم يستطيعوا الفرار، فوقعوا أسرى بيد المصريين، حيث سيموا العذاب الطويل، وفرضت عليهم السخرة انتقاما منهم، «وبعد أن قضى أولئك الذين أرسلوا للعمل في المحاجر، زمنا طويلا في تلك الحياة البائسة، طلبوا من الملك أن يخصص لهم مدينة أفاريس
Avaris - وكانت قد خوت على عروشها، بعد أن تركها الرعاة الهكسوس - لتكون لهم مسكنا ووقاء، فاستجاب للرغبة وحققها لهم، والواقع أن هذه المدينة كانت مدينة الإله
Typho
تيفون/ست، وفقا للديانة القديمة، ولكن لما دخلوها وجدوا المكان صالحا لإشعال الثورة، فأقاموا على أنفسهم من بين كهنة هليوبوليس (أون/عين شمس) حاكما عليهم، وأعطوه العهد أن يطيعوه في كل شيء، وكان أول ما فعله أن سن لهم هذه الشريعة، التي بموجبها حرم عليهم أن يعبدوا آلهة المصريين، وأن يمسكوا عن عبادة أي حيوان من تلك الحيوانات المقدسة، التي يعظمها المصريون أيما تعظيم، بل أمرهم أن يقتلوها ويدمروها جميعا، كذلك نهاهم أن ينضموا إلى أحد غير رابطتهم.
وبعد أن وضع أمثال هذه الشرائع - والكثير من غيرها - المعادية في أغلبها لعادات المصريين، أمرهم أن يستخدموا ما يملكون من سواعد كثيرة، لبناء سور حول المدينة، وأن يعدوا أنفسهم لقتال الملك أمينوفيس
Amenophis (آمنحتب
Amenhotep )، أما هو نفسه فقد أنشأ صداقات «مع الكهنة الآخرين، ومن كانوا قد أفسدوهم»، وأرسل السفراء إلى الرعاة/الهكسوس، الذين كان تثموزيس
Tethmosis
قد طردهم من البلاد إلى أورشليم، وعن طريق السفراء أبلغهم بأحواله وبأحوال أولئك الآخرين، الذين عوملوا بكل تلك الشناعة، وطلب إليهم أن تجتمع كلمتهم، على أن يخفوا لمساعدته في حربه ضد مصر، كذلك وعدهم بأنه سيبادر إلى إعادتهم إلى مدينتهم ودولتهم القديمة أفاريس، وبأنه «سيمون جموعهم بالغذاء الوفير»، وبأنه «سيحميهم» ويقاتل من أجلهم، كلما دعت الحاجة إلى ذلك، «وأن في ميسوره أن يخضع البلاد لسلطانهم».
وقد اغتبط هؤلاء الرعاة بهذه الرسالة أيما اغتباط، وخفوا جميعا على وجه السرعة، وكان عددهم 200000 رجل، وبلغوا أفاريس في وقت قصير، ولما بلغ أمينوفيس ملك مصر نبأ غزوهم، اضطرب اضطرابا عظيما، وتذكر ما كان قد أخبره به آمنحتب بن بابيس (آمنحتب بن حابو [المؤلف])، وبدأ يجمع حشود المصريين ويتشاور مع قادتهم، وأرسل في طلب «الحيوانات المقدسة» ليأتوا بها إليه، ولا سيما الحيوانات التي كانت معبودات رئيسية في معابدهم، وأصدر أمرا خاصا وواضحا للكهنة، أن يخفوا أوثان آلهتهم بعناية تامة، كذلك «أرسل ولده سيتوس
Sethos ، وكان يسمى أيضا رمسيس
Ramses
من أبيه هورامبيس
Rhempes
إلى صديق من أصدقائه، وكان الغلام لا يزال في الخامسة من عمره».
وبعد هذا سار مع بقية المصريين، وكانوا 300000 رجل من أعند المقاتلين، لمواجهة العدو، الذي التقى بهم في المعركة، غير أنه لم يشترك في المعركة مع رجاله، «فقد كان يعتقد أن الحرب عمل ضد الآلهة»، ولذا عاد أدراجه ووصل إلى منف
Memphis ، حيث أخذ أبيس (العجل المعبود) وغيره من الحيوانات المقدسة، التي كان قد طلب إحضارها له، وسار لفوره إلى إثيوبيا
Ethiopia ، ومعه كل جيشه وحشود المصريين، فقد كان ملك إثيوبيا تحت ولايته، فاستقبله ورعى كل من كان معه من الحشود، بينما قدمت تلك البلاد كل الغذاء الكافي لرجاله، كذلك خصص مدنا وقرى لهذا المنفى، الذي كتب له أن يكون في بدايته، «خلال تلك السنوات الثلاث عشرة التي قضى بها القدر»، كذلك كرس معسكر الجيش الإثيوبي، ليتولى حراسة الملك أمينوفيس عند حدود مصر.
هذه كانت حال الأمور في إثيوبيا، أما «شعب أورشليم» فعندما نزلوا مع «المصريين الفاسدين»، عاملوا الرجال بوحشية بالغة، جعلت كل من رأى قهرهم للبلاد المذكورة، وما ارتكبوه من فظائع بشعة، يستنكر فظائعهم أشد الاستنكار، فهم لم يكتفوا بإحراق المدن والقرى، بل استمرءوا خطيئة تدنيس الأحرام وتحطيم الأوثان، وأشعلوا النيران في التماثيل المقدسة، واستخدموها في شي الحيوانات المقدسة، وأرغموا الكهنة والأنبياء على أن يكونوا الجلادين، الذين يذبحون تلك الحيوانات، كذلك قيل إن الكاهن الذي وضع سياستهم وشرائعهم، كان بالمولد من هليوبوليس، وكان اسمه «أوزرسيف
Osarsiph » (المأخوذ من اسم إله هليوبوليس أوزيريس
Osiris ).
وبعد هذا عاد أمينوفيس من إثيوبيا بجيش عظيم، وكذلك ابنه هورامبيس بجيش آخر، واشتركا معا في قتال الرعاة والناس الفاسدين، وهزموهم وفتكوا بعدد عظيم منهم، وطاردوهم حتى سوريا.»
11
وهنا وجد «يوسفيوس» الدليل الأقوى في مجموعة أحداث، تتشابه في بعضها مع قصة التوراة عن الخروج، أما الأقوى والحاسم في الأمر، فهو «أوزرسيف» الذي رأى فيه «يوسفيوس» شخص موسى نفسه، ومن ثم انتشرت تلك القصة عن «يوسفيوس» في العالمين الإغريقي والروماني، وظلت زمنا طويلا يمتد قرونا، التفسير شبه التاريخي، شبه الموثق، لقصة الخروج، المؤسسة على المزج بين الهكسوس وبين بني إسرائيل ومن ثم «كان ذلك كافيا لتفسير عدم ذكر المصريين في نصوصهم لبني إسرائيل، ودخولهم أو خروجهم من مصر؛ لأن مصر قد عرفتهم بالفعل، وعرفت أنهم دخلوها وأنهم خرجوا منها، ولكن باسم الهكسوس».
وهنا يضيف «يوسفيوس» إلى تلك الرواية خبرا غريبا يجب أخذه بحذر، وذلك في كتابه «العاديات اليهودية»، نوجزه في قوله: عندما كان موسى في مصر حدثت حرب بين مصر وإثيوبيا، واشترك موسى في المعركة كضابط بالجيش المصري ، ووصل الإثيوبيون حتى تخوم منف، لكن موسى ببراعته حاربهم مع رجاله، ودحرهم حتى عادوا ديارهم، وحاصر مدينتهم، وهناك من على الأسوار، رأته بنت ملك إثيوبيا، فدخل حبه إلى قلبها، فأرسلت تخطبه لنفسها، وهنا ساومها موسى على الحب مقابل استسلام مدينتها.
ثم يؤكد يوسفيوس رغبة الآلهة المصرية في التحالف بين المصريين والإسرائيليين بقوله: «فلما وصل الغزاة الإثيوبيون إلى أبواب منف، لجأ المصريون لاستشارة الآلهة، طلبا للنبوءة واستلهام الوحي، وإذا النصيحة تأتي من الإله أن اتخذوا من اليهودي حليفا.»
12
وهي الرواية التي قصد منها الالتقاء بما ورد في التوراة، حول زواج موسى من امرأة كوشية/زنجية سوداء، وجاءت الإشارة إليها في حكاية التوراة السريعة المختصرة المبتسرة «وتكلمت مريم وهارون على موسى، بسبب المرأة الكوشية، التي اتخذها؛ لأنه كان قد اتخذ امرأة «كوشية»، فقالا: هل كلم الرب موسى وحده، ألم يكلمنا نحن أيضا» (عدد، 12: 1-2).
لقد حاول يوسفيوس أن يجد تعليلا، لزواج موسى من سوداء زنجية كوشية في سيناء، فقال بحرب بين مصر وإثيوبيا، حيث الكوش الزنوج، والتي تقع جنوبي مصر، انتهت بزواجه من بنت ملك كوش، وهو ما يتناقض تناقضا صارخا مع بقية روايته، التي تتحدث عن صداقة أمينوفيس/آمنحتب لملك إثيوبيا ولجوئه إلى بلاده، إبان حربه مع الغزوة الهكسوسية الثانية، التي تحالفت مع الثائر الكاهن أوزرسيف.
والواضح أن المحرر قد استخدم كلمة إثيوبيا مرتين، للدلالة على العنصر الأسود وليس على المكان؛ لأننا سنرى في هذا البحث أن إثيوبيا التي لجأ إليها الفرعون جنوبي مصر أمر، وإثيوبيا التي كانت في حالة عداء مع الفرعون آنذاك أمر آخر وموضع آخر، موضع ضم عددا من الأجناس من بينها الزنج (الكوشيون)، ناهيك عن كوننا نعلم أن موسى تزوج صفورة بنت يثرون، أو رعوئيل كاهن مديان بسيناء، «ولا شك لدينا أنها هي ذاتها التي وصفت بكونها زنجية كوشية، وهو ما سيتأكد مع السير في بحثنا هذا قدما».
وهكذا يمكن تفصيل المكونات الرئيسية لنظرية مانيتون، حسب رواية يوسفيوس في عناصر هامة أبرزها:
أن فرعون مصر زمن غزو الهكسوس لمصر كان باسم «توثيما يوس»، وهو ما يغطي لنا صمت الوثائق المصرية عن الحديث، بشأن اسم الفرعون المصري زمن غزو الهكسوس، ولو مؤقتا.
أن الهكسوس كانوا هم ذات عين الإسرائيليين، وأنهم ربما كانوا عربا أو فينيقيين.
أنهم أقاموا عاصمة عسكرية في مدينة باسم أفاريس/أواريس/حواريس/حويرة على مختلف الألسن القديمة/هوارة بالعربية/حاوعرة بالمصرية القديمة.
أنهم عبدوا هناك الإله المصري رب الصحاري وسيد الشر «سيت» بالنطق المصري، أو «سوتخ» أو «سوتتش» بالنطق الهكسوسي، وهو من أطلق عليه اليونان اسم «تيفون» رب الأوبئة والدمار.
أن فرعون باسم «تثموزيس» كما نقل يوسفيوس، أو «آموس» كما كتبه يوليوس الأفريقي، قد حاربهم وطردهم من مصر، فانسحبوا منها إلى فلسطين، وأقاموا في إقليم يهوذا الجنوبي، وأسسوا هناك مدينة أورشليم.
بقي من الهكسوس في مصر أسرى بعدد غفير، واستخدمهم المصريون في الأعمال الشاقة، وفي زمن آمنوفيس/آمنحتب (دون تحديد أي أمنحتب هو بين المناحتة)، التمسوا فيه بعض الرحمة، فطلبوا منه أن يمنحهم لسكناهم مدينة الهكسوس القديمة أفاريس، فمنحهم المدينة ليسكنوها، وهناك لحق بهم كاهن مصري من كهنة عين شمس يدعى أوزرسيف، الذي ربما كان هو موسى ذاته، وقد استولى على قيادة أمرهم، ووضع لهم شرائع جديدة، تخالف كل شرائع المصريين.
أن هناك «غزوة هكسوسية ثانية»، حدثت زمن نفس الملك المصري آمنحتب/آمنوفيس، جاءت من خارج الحدود الشرقية، متحالفة مع ثورة أسرى أفاريس وزعيمها أوزرسيف في الداخل، «وعادة لا يأخذ المؤرخون المحدثون قصة الغزوة الهكسوسية الثانية، التي أشار إليها يوسفيوس نقلا عن مانيتون مأخذ الجد أو حتى الاعتبار».
أن فرعون مصر آنذاك آمنوفيس/آمنحتب، كان له ولد، والغريب أن الرواية هنا شديدة الالتباس والغموض، فهذا الولد مرة اسمه «سيتوس»، ومرة أخرى «رمسيس»، ومرة ثالثة «هورامبيس». «أن هذا الصبي الملكي قد استبعد من مصر وهو طفل صغير»، حرصا على حياته عند أصدقاء أوفياء للملك، وكان عمره حينذاك لم يتجاوز بعد «الخمس سنوات».
أنه كان في حواريس مع بقايا الهكسوس الأسرى «عنصر مصري منفي بدوره» لأسباب غير معلومة ، ووجود هؤلاء في مدينة العبيد الأسرى مع زعيمهم أوزرسيف لم يزل لغزا محيرا غير محلول.
أن الرعاة قد هزموا للمرة الثانية، وتم طرد الحملة الهكسوسية الثانية إلى فلسطين أمام دفاعات الجيوش المصرية التي قادها آمنحتب/آمنوفيس، وولده ذو الأسماء الثلاثة، بعد أن يفع ونضج وأصبح قائدا عسكريا مظفرا، والمفترض أنه آنئذ كان يبلغ من العمر ثمانية عشر عاما، حيث استبعد وله من العمر خمس سنوات، وعاد بعد ثلاثة عشر عاما حسب رواية يوسيفيوس ليحارب مع أبيه ضد الغزاة.
زمن الغزو الهكسوسي لمصر
من المعلوم أن الوثائق المكتشفة في تاريخ مصر القديمة، لم تمدنا حتى الآن بتحديد دقيق لزمن غزو الهكسوس مصر، ولا من هم الهكسوس ولا جنسهم، ويقول لنا «محمد بيومي مهران»: «ولقد اختلف المؤرخون القدامى منهم والمحدثون، في تقدير مدة حكم الهكسوس في مصر، فهناك من وصل بها إلى أكثر من تسعة قرون، بينما نزل بها آخرون إلى قرن واحد.»
13
وكل ما نعلمه عن محاولات المصرولوجيين تزمين وقت غزو الهكسوس لمصر، أنها قد اتفقت على مجيء الهكسوس بعد سقوط الأسرة الثانية عشرة آخر أسر الدولة الوسطى حوالي عام 1788ق.م. وأن الاحتلال قد استغرق خمس أسر حاكمة هي: 13، 14، 15، 16، 17، حتى مجيء فراعنة التحرير من الأسرة السابعة عشر وأشهرهم «أحمس» آخر ملوك الأسرة 17، ومؤسس الأسرة الثامنة عشرة، حوالي عام 1575-1550ق.م. والتي تعد الأسرة الأولى في سلسلة أسر الدولة الحديثة (الإمبراطورية).
ولما كان سقوط الأسرة الثانية عشرة، قد حدث حوالي 1788ق.م. فقد اعتبر ذلك هو التاريخ المرجح للغزو الهكسوسي لمصر، وبذلك يكون مجموع سنوات حكم الهكسوس لمصر، إضافة للأسر المصرية الحاكمة التي لم تقع تحت النير الهكسوسي، أو التي ظلت تحكم تحت سيطرتهم، لا تتجاوز 238 سنة، وإن كان التقدير الدقيق في ترجيح المصرولوجي «جاردنر»، لا يتجاوز «215 سنة».
14
وتشمل هذه المدة خمس أسر كاملة، وهو التقدير الذي يخالف بشدة الزمن الذي رصده «مانيتو» لذات المدة، وقدره بحوالي 1770 سنة، منها 511 سنة للحكم الهكسوسي، و1259 سنة لأسر مصرية، تقع جميعا بين نهاية الأسرة الثانية عشرة، وبداية الأسرة الثامنة عشرة.
والمشكل في الأمر هنا، أن المؤرخين - أنفسهم - الذين رصدوا زمنا قدره 238 سنة لمجموع الأسر الخمس، يعترفون بعسر قبول ذلك، حيث الزمن قصير جدا بالنسبة لعدد الأسر، التي تراكمت إبانها في الحكم، ولما لم يجدوا حلا لهذه المشكلة، نظرا لاعتمادهم في ذلك التقدير على معطيات آثارية، ومتشابكات ومتزامنات لا تسمح بغير 238 سنة للأسر الخمس، فقد لجئوا لحل المعضل، بما ذهبت إليه - كمثال موجز - موسوعة تاريخ العالم، مستندة إلى «مانيتو» مرة أخرى، بالقول إن مصر انقسمت أقاليم في ذلك الزمان، «وتعاصرت الأسر المختلفة في الحكم على تلك الأقاليم»، فحكمت الأسرة المصرية الثالثة عشرة في طيبة متحصنة هناك، بعيدا عن يد البطش الهكسوسي، وفي ذات الوقت تعاصرت معها أسرة مصرية، حكمت في سخا بوسط الدلتا، كانت خاضعة تماما للهكسوس، هي الأسرة الرابعة عشرة، أما الأسرتان الخامسة عشرة والسادسة عشرة، فكانت أسرا هكسوسية خالصة، حكمت خلال ذات الزمن والمدة المرصودة، ثم قامت الأسرة السابعة عشرة في طيبة، بعد سقوط أسرتها الملكية عند الغزو، وهي الثالثة عشرة، وهي الأسرة التي قاد ملوكها الأماجد، حملات التحرير ضد الهكسوس. وبطرد الهكسوس على يد أحمس أحد رجال تلك الأسرة العسكريين، تأسست معه وبداية به، الأسرة الثامنة عشرة، أولى أسرات الدولة المصرية الحديثة، دولة الإمبراطورية.
أما «جاردنر» فوضع حلا لمشكلة الحجم الزمني الضئيل، لمجموع الأسر التي أخبرنا التاريخ بها، فافترض بداية أن هناك امتدادا للدولة الوسطى، خلال أسرتين مصريتين حكمتا لمدة 107 سنوات، هما الأسرة الثالثة عشرة الضعيفة، والأسرة الرابعة عشرة التي استغرقها حكم الفرعون القوي «نفر حوتب» ، الذي حاول ترميم ضعف الأسرة السابقة، وبنهاية «نفر حوتب» جاءت غزوة الهكسوس، التي شكلت الأسرة الخامسة عشرة، التي دام حكمها في رأي «جاردنر» ما لا يزيد عن 108 سنوات، وحكم خلالها الملوك الستة الذين أشار إليهم «مانيتو»، لكن «جاردنر» اعتبر «مانيتو» مضللا في قوله إنهم أول الملوك الهكسوس الأقوياء؛ حيث اعتبرهم «جاردنر» هم كل من حكم مصر من ملوك الهكسوس، وقد استند «جاردنر» في ذلك، إلى ما جاء في بردية تورين ، التي ذكرت ستة ملوك هكسوس حكموا مصر لمدة 108 سنوات.
ثم قام «جاردنر» بإلغاء أسرتين هما السادسة عشرة والسابعة عشرة دفعة واحدة، واعبر وجودهما خطأ من «مانيتو»،
15
ومن ثم أعاد ترتيب الأوضاع كالآتي:
الأسرة 13، 14
أسر مصرية صميمة
الأسرة 15
أسرة هكسوسية
الأسرة 16، 17
غير موجودة أصلا
وعليه لن يكون هناك سوى ثلاث أسر فقط وليس خمس، تقع في الفترة ما بين سقوط الدولة الوسطى وبين قيام الدولة الحديثة، وقد عمد «جاردنر» وهو بسبيل إثبات خطأ «مانيتو» إلى مقارنة تاريخية، بتأريخ عالم رصين هو «إدوارد ماير»، الذي انتهى بعد دراسته للتأريخ بحسب النجم سايروس/الشعرى اليمانية، حيث جرى تزمين المصريين لتأريخهم بحسابات ظهوره واختفائه، وقال «ماير» أن أبعد نقطة يمكن الوصول إليها في تزمين بداية أول أسرة مصرية حاكمة، لا تبعد عن عام 3200ق.م.
ومن المعلوم أن هناك ثلاثة جداول أخرى للملوك، تم اكتشافها وترجمتها، تحصر لنا ملوك مصر عبر الأسرات الحاكمة، وهي: جدول أبيدوس المنقوش على جدران المعبد الكبير بالعرابة المدفونة (أبيدوس)، وجدول سقارة الذي عثر عليه «وبدي جونيري» عام 1861م، في مقبرة رئيس عمال منف، وجدول الكرنك المنقوش بمعبد طيبة، وقد اشتركت الجداول الثلاثة في الاتفاق على عدم تسجيل عدد من الملوك، اعتبرهم المصريون غير شرعيين، وهو ما جرى على ملوك الهكسوس من الأسرة الخامسة عشرة حتى السابعة عشرة، «كما لوحظ استبعاد الجداول الثلاثة لملوك أسرة العمارنة بدورها، والتي تمثل «آمنحتب الرابع» المعروف باسم «إخناتون»، وخلفائه المباشرين من أعضاء أسرته».
16
وقد علل المصرولوجيون ذلك بمروق إخناتون الديني، بحيث اعتبرت فترة حكمه لا تقل سوءا وكراهية عن فترة حكم الهكسوس، لكن السؤال هنا الذي يقف بلا إجابة: إذا كان ذلك جائزا بحق «إخناتون» نفسه، فكيف يجوز بحق أخلافه الذين عادوا إلى عبادة آمون، وانتقلوا من «أخت آتون» بالعمارنة إلى «طيبة» مرة أخرى، وهم الفراعنة سمنخ كارع وتوت عنخ آمون وآي؟ إن المسألة بحاجة إلى تفسير أكثر إقناعا من ذلك، المهم أن سقوط أسرة العمارنة من تلك الجداول، أدى بالمؤرخين قبل اكتشاف تل العمارنة ومعرفة تلك الأسرة، إلى الوقوع في أخطاء شديدة، «حيث كانت هناك فجوة تاريخية هامة بل وخطيرة غير معلومة لديهم بالمرة».
وعملا بقاعدة إهمال المصريين تدوين ملوك بعينهم، مع سني حكمهم، نجد جدولي الكرنك وأبيدوس - كمثال - لا يوردان إطلاقا أي ذكر لحكام الأسرة 13، 14، 15، رغم أن جدول الكرنك ذكر ملوكا من الأسرة الحادية عشرة لا يستحقون ذكرا، وسجل أسلاف الملك «أحمس» في الأسرة 17، وهم غير مهمين بالمرة، كذلك سجل جدول أبيدوس ملوكا لا قيمة لهم إطلاقا من حكام الأسرة الثامنة عشرة، وإذا أخذنا بقاعدة الإهمال في التدوين؛ لأن الملوك في تلك الحال غير شرعيين أو أجانب، «فينبغي في تلك الحال اعتبار حكام الأسر 13، 14، 15 حكاما غير شرعيين، ويجب أن نستنتج أنهم لا بد كانوا هكسوسا».
وهكذا كانت الخدعة المبيتة في التاريخ المصري، والتي تأكدت لنا في محاولة الفهم: لماذا اعتبر «مانيتو» أن «هورامبيس» الذي يجب - بمطابقة الأسماء - أن يكون هو الفرعون «حور محب» آخر ملوك الأسرة الثامنة عشرة، وأول ملوك الأسرة التاسعة عشرة؟ وجاء بعد انتهاء حكم أسرة العمارنة، يجب أن يكون «هورامبيس» هذا ابنا مباشرا للفرعون «آمنحتب»؟ والإجابة هي أن الفرعون السابق مباشرة لحور محب، بعد حذف ملوك العمارنة الأربعة الذين لم تدونهم جداول الملوك المصرية هو «آمنحتب الثالث»، ومن ثم احتسب «مانيتو» أن «هورامبيس» أو «حور محب» ابنا ل «آمنحتب الثالث»، بينما تقف بين آمنحتب الثالث وبين حور محب، أسرة حاكمة كاملة هي أسرة تل العمارنة.
المهم أن ذلك كله يشير إلى قدر كبير من الصدق التاريخي في تاريخ «مانيتو»، لكنه لا يعني من جانب آخر التسليم بكل تاريخه؛ لوقوعه في خلط كبير أحيانا، لبعد الشقة الزمنية بينه وبين زمن الأحداث التي أرخ لها، لكن حتى ذلك الخلط كان يحمل خيوطا من حقائق وأحداث، لكنها التبست عليه فتبدل فيها الأبطال كما تبدلت المواضع، وهو ما سنلمسه مع السير في خطوات بحثنا هذا.
وعليه فقد وضع «مانيتو» لحكم الهكسوس زمنا يصل إلى 511 سنة، وهو رقم مبالغ فيه بعض الشيء، هذا بينما وضع مصرولوجي مثل «جاردنر» زمنا يقع ما بين 215 سنة و108 سنوات، اعتمادا على بردية تورين، وهو بالمقابل زمن هزيل تماما بالنسبة لعدد الأسر ولضخامة الحدث، وما احتواه من أمور جسام، «وعليه فلا مناص من محاولة تحديد مدة زمنية، تتأرجح بين المدتين المرصودتين»، وهو الأمر الذي لا يفصل بشأنه، إلا تحديد زمن الفرعون الذي حدث الغزو إبان اعتلائه العرش، والذي ذكره «مانيتو» باسم «توثيمايوس»، أو بحذف التصريف الاسمي اليوناني «توتيماوي»، وهو ما لم يجد المصرولوجيون بشأنه أي أثر حتى الآن، ثم تحديد زمن فرعون التحرير الذي ذكره «يوسفيوس»، نقلا عن مانيتو بالقراءة «تثموزيس»، بينما قرأه «يوليوس الأفريقي» بالرسم «آموس»، وقرأه يوسابيوس نقلا أيضا عن «مانيتو» باسم «آموزس»، واتفقت آراؤهم جميعا، أنه حكم في طيبة خمسة وعشرين عاما.
ومن الجدير بالذكر الإشارة لاتجاه هام، يرى الهكسوس قد كونوا إمبراطورية كبرى، مستندين إلى العثور على اسم الملك الهكسوسي «خيان»، والمحتمل أنه ابا خنان/أبا الغنم «حنا» الهكسوسي الثالث، منقوشا على عدد من الجعول، وعلى غطاء مرمري عثر عليه «إيفانز» في كونسوس بكريت. و«خيان» هو الاسم الذي يلتقي مع «يان» أو «ياناس» في جدول «مانيتو»، ووجدت له آثار في سوريا وفلسطين وبغداد، وبين الآثار كان تمثال لأبي هول صغير، عثر عليه في بغداد عليه النقش: «خيان الإله الطيب سوسرن رع»،
17
والمهم أن هذه الآثار الهكسوسية المتناثرة في مساحة واسعة، ما بين الأناضول شمالا ومصر جنوبا، والعراق شرا وكريت غربا، أدت إلى استنتاج «أن الهكسوس قد أقاموا إمبراطورية كبرى، تشمل كل تلك المنطقة»، وهو الرأي الذي لا يلقى قبولا واسعا بين المهتمين، وهناك أعلام مثل «جاردنر» يرفضون قبول تلك النظرية تماما.
18
وتأتينا أول النصوص المصرية حول حرب التحرير، في نص «قصة الملك أبو فيس وسقننرع»، والتي تحكي لنا بداية المقاومة الوطنية، في عهد ملك من ملوك الأسرة السابعة عشرة، المتحصنة في طيبة جنوبي البلاد، ويدعى سقنن رع تاعا ، وكان معاصرا لملك هكسوسي يدعى «أبو فيس»، وكان الملك الهكسوسي يحكم من مقر عاصمته العسكرية «أفاريس» أو «أواريس» أو «حواريس» شمال البلاد.
وبمطابقته مع اللوحة السداسية لملوك الهكسوس يكون ترتيبه السادس بينهم، ويكون هو أبو فيس الثالث حيث سبقه إلى حمل لقب أبو فيس اثنان من الملوك الهكسوس.
وتلك القصة التي تروي ذلك الصراع من أجل طرد الغزاة، دونت بعد عصرها بزمان، في عهد الملك «مرنبتاح بن رمسيس الثاني» في الأسرة التاسعة عشرة، ويبدو عليها أنها كانت تمرينا مدرسيا، وصلنا به أخطاء عديدة نتيجة جهل التلميذ، الذي نقلها عن أصل لا نعرفه الآن، وبها تكرار لبعض الجمل وبعض الأحداث، وغموض في نواح كثيرة، نشأ عن تهشم بعض أجزائها، وتقول الفقرة الأولى منها:
حدث أن أرض مصر كانت في جائحة شنعاء، ولم يكن للبلاد حاكم يعد ملكا في هذا الوقت، وقد حدث أن الفرعون سقنن رع كان حاكما على المدينة الجنوبية، لكن «الجائحة الشنعاء كانت في بلد العامو»، وكان الأمير أبو فيس في أواريس، وكانت كل البلاد خاضعة له، وكذلك كل حاصلاتها بأكملها، كذلك كل طيبات تميرا (مصر)، وقد اتخذ الملك أبو فيس الإله ستخ ربا له، ولم يعبد أي إله آخر في البلاد سوى ستخ، وقد بنى معبدا ليكون حصنا خالدا بجانب قصر أبو فيس، وقد كان يستيقظ كل يوم ليقرب الذبائح اليومية للإله ستخ، وكان موظفو جلالته (أي الفرعون سقنن رع) يحملون الأكاليل من الزهر، كما كان يفعل تماما في معبد رع حر أختي
19 (علينا هنا ملاحظة أن قرابين سوتخ كانت ذبائح وأن قرابين الرب المصري كانت أكاليل من الزهور).
ويتوالى سرد القصة، فتروي أن حاكم الهكسوس، أراد التحرش بملك المملكة الجنوبية «طيبة/الأقصر»، فأرسل له زاعما أن أفراس النهر الموجودة في بحيرات طيبة، تصدر في الليل ضجيجا يمنعه من النوم ويقلق راحته، وللأسف فإن ما تلا ذلك من أحداث، ينقطع عنا بسبب التشوه الذي لحق بالوثيقة، وكل ما أمكن استنتاجه أن حربا قد بدأت بين الطرفين، وأن الملك المصري الوطني سقننرع قد وقع صريعا، وهو ما تم استنتاجه من فحص مومياء الملك، التي تقلصت تقلصا شديدا، وهو ما يشير إلى آلام فظيعة عانى منها سقننرع، هو في سكرات موته، وظهر بالمومياء جروح غائرة في الرأس والعنق، من المرجح أنها ضربات بلط، ولم يكن الملك قد تجاوز عامه الثلاثين بعد، حسب تقديرات الأطباء الذين فحصوا المومياء.
20
ويستنتج «محمد بيومي مهران» من ذلك نتيجة يلخصها في قوله: «إن سقنن رع قد قتل في ساحة الوغي، وإن المصريين تمكنوا من حمل الجثمان وتحنيطه، وذلك دليل على سيطرة الجيش المصري على أرض المعركة.»
21
وفي عام 1954م اكتشف الأركيولوجست المصري «محمد حماد» بالأقصر، لوحة كبيرة تروى بإفاضة الجهود الحربية التي قادها «كامس» ، خليفة سقننرع ضد ملك الهكسوس أبو فيس أو «أبوبي»، الذي حمل هذه المرة لقبه المصري «عا أو سر رع خمودي»، وهو الكشف الذي دعم شبيها له، سبق أن كشفت عنه حفائر «اللورد كارنارفون» بحوالي خمسين عاما، وكان لوحة هيراطيقية تروي مراحل الصراع الأولى، وكانت بدورها نسخة نقلها كاتبها عن نص تاريخي أصيل أقيم بالمعبد، وهو التعدد الذي يشير لأصالة الرواية التي تروى:
السنة الثالثة، حور الظاهر على عرشه، وصاحب الإلهتين، حور الذهبي، الذي يجعل الأرضين مسرورتين، ملك الوجه القبلي والوجه البحري، واز خبر رع ابن الشمس، كامس، معطى الحياة مثل رع أبد الأبدين، محبوب آمون رع سيد الكرنك، الملك القوي في ربوع طيبة، كامس معطى الحياة مخلدا، كان ملكا محسنا، وقد جعله رع ملكا حقيقيا، وسلمه القوة بالحق المبين، وقد تكلم جلالته إلى مجلس كبار الدولة، الذين كانوا في حاشيته قائلا: إلى أي مدى أدرك كنه قوتي هذه؟ عندما أرى «حاكما جالسا في أواريس وآخر بلاد كوش»، وأنا أجلس مشتركا مع رجل من العامو وزنجي، وكل رجل منهما مسئول عن جزئه من مصر هذه، «وذلك الذي يقاسمني الأرض لن أجعله يمر في ماء مصر حتى منف»، تأمل إنه يسيطر على الأشمونيين، ولا يرتاح رجل لصيرورته عبدا «للستيو»، إني سأصارعه وأبقر بطنه، وإن رغبتي هي تحرير مصر والقضاء على الآسيويين ... وعندئذ قال عظماء مجلسه: تأمل، لقد تقدم الآسيويون حتى وصلوا القوصية، وقد أخرجوا ألسنتهم لنا حتى آخرها، إننا في طمأنينة نملك نصيبنا من مصر وألفنتين، والقوم يحرثون لنا أحسن أرضهم، وماشيتنا ترعى في مستنقعات الدلتا البردي، والشعير يدرس لخنازيرنا، ومواشينا لم تغتصب، بسبب ذلك، «وهو ... ويستولي على أرض العامو، ونحن نمتلك مصر»، ولكن كل من يأتي إلى أرض ليناهضنا سنناهضه ...
وكانوا قد أغضبوا قلب جلالته (بقولهم هذا): أما عن مجلسكم هذا، فإن هؤلاء العامو الذين ... تأملوا إني «سأحارب العامو»، وإن النصر سيأتي، وإذا ... بالبكاء، فإن الأرض قاطبة سترحب بي، بوصفي الحاكم القوي داخل طيبة، كامس حامي مصر.
ولقد أقلعت منحدرا في النيل بوصفي محاربا، لأهزم العامو بأمر آمون صادق النصيحة، وقد كان جيشي شجاعا يسير أمامي، كأنه عاصفة من نار، وكان جنود المازوي في مقدمة معاقلنا، ليتجسسوا على مواقع «الستيو»، وليدمروا مواقعهم شرقا وغربا، ومعهم طعامهم وأدمهم، وقد كان جيشي المكتظ بالمؤن في كل مكان.
وقد أرسلت جيشا من المازوي، في حين أني قد أمضيت يومي ... لأحبس ... تيتي بن بيوبي داخل نفروسي، وكنت لا أريد السماح له بالهرب، ثم جعلت «العامو الذين اعتدوا على مصر» يولون الأدبار، وقد كان مثله كمثل رجل ... قوة العامو، وأمضيت الليل في سفينتي وقلبي فرح، وعندما أضاء النهار، انقضضت عليه كالصقر، وعندما جاء وقت تعطير الفم، كنت قد هزمته وخربت أسواره، ذبحت قومه وجعلت زوجته تنزل إلى شاطئ النهر، وكان رجال جيشي كالأسود، عندما ينقضون على الفريسة، ومعهم العبيد والقطعان والأدم والشهد، فقسموا غنائمهم وقلوبهم فرحة، وكان إقليم نفروسي على وشك السقوط، ولم يكن بالأمر العظيم أن تحبس زوجة ... وكان برشاق غير موجود عندما وصلت، وهربت خيولهم من الداخل والحامية.
22
وهنا يتهشم النص الهيراطيقي، فنكمله بما جاء في لوحة الأقصر التي تقول على لسان «كامس»، وهو ينادي عدوه «أبوب/أبوفيس»، الذي لا شك كان في عاصمة الهكسوس «حواريس»:
إن قلبك معطل أيها الآسيوي الوضيع، الذي اعتاد أن يقول: أنا سيد، وليس لي هناك ند من خمون وبي حتحور حتى أفاريس.
23
ويبدو أن كامس لم يتمكن من تحرير أفاريس/حواريس، فتتحدث خاتمة اللوح عن عودة كامس، منتصرا إلى عاصمته، حيث جن الناس به فرحا، ومع ذلك لم يكن هو القاهر النهائي للهكسوس، حيث ادخر هذا العمل المجيد لخليفته وشقيقه أحمس
الذي يلتقي باسمه مع آموس «عند يوليوس الأفريقي»، ومع «آموزس عند يوسابيوس»، ومع بعض التحريف عند «يوسفيوس: تثموزيس»، وهو الفرعون الذي مجدته الأجيال اللاحقة، باعتباره محرر مصر من الهكسوس، ومؤسس الأسرة الثامنة عشرة الماجدة.
وقد علمنا بأمر أحمس وانتصاراته من مقبرة في الكاب في أقصى جنوبي مصر، تخص واحدا من ضباط جيشه، يحمل ذات اسم الفرعون، هو الضابط «أحمس بن أبانا»، الذي حكى في نقوش مقبرته، كيف أبحر مع سيده الملك أحمس شمالا، لمهاجمة الآسيويين (العامو/الستيو)، ليتابعوا حصار قلعة الهكسوس في حواريس، وكيف انسحب العامو عبر سيناء، حتى شاروهين جنوبي غربي فلسطين، وهناك استمر أحمس يحاصرهم لمدة ثلاث سنوات على التوالي، إلى أن استسلموا مرة أخرى، وتم إجلاؤهم عن المنطقة نهائيا،
24
وإن كان خبر إجلائهم عن جنوبي فلسطين من وجهة نظرنا محل شك كبير، ويبدو أنهم ظلوا هناك، وفي مناطق متفرقة بشبه جزيرة سيناء، يتمتعون ببعض قوتهم، التي كانت تحتاج من الفراعين إلى تجريد الحملات بين حقبة وأخرى لتأديبهم. ومما يدل أيضا على وجودهم القوي، ما جاء في تاريخ تحتمس الثالث، بعد قرن من تلك الأحداث، حيث وجد «زيته» في مقدمة تاريخ تحتمس الثالث، إشارة لوجود هكسوس في قلعة شاروهين نفسها، وقد ترجم زيته تلك الفقرة كالآتي:
السنة الثانية والعشرون، الشهر الرابع من فصل الشتاء، اليوم الخامس والعشرون، مر جلالته بقلعة ثارو في أول قلعة مظفرة، ليطرد الذين هاجموا حدود مصر بشجاعة ونصر وقوة وفوز.
وقد مرت مدة طويلة من السنين كان فيها الآسيويون يحكمون البلاد اغتصابا، والكل يخدمون أمام ... وقد اتفق في أزمان أخرى أن الحامية، التي كانت هناك كانت في مدينة شاروهين، «وهم الآن من يرذ إلى نهاية الأرض، في استعداد للثورة على جلالته».
25
الواضح خلال التاريخ أن سيناء ظلت مرتعا، للبدو الخارجين على السلطان المصري المركزي طوال الوقت، وأنهم كانوا من القوة بحيث جعلوا من سيناء شبه مملكة لهم، أو مجموعة ممالك، وأن السيادة الحكومية المصرية عليها، كانت دوما في مد وجزر، وكثيرا ما دون التاريخ اعتداءهم على حدود الدلتا الشرقية، كما يشهد بذلك النص السالف، وكان الفراعين دوما بحاجة إلى تقوية حدود مصر الشرقية، لهذه الأسباب تحديدا، حتى أقاموا أثرا مشهورا في تاريخ مصر القديمة، هو المتفق على تسميته ب «سور الأمير الذي يصد الآسيويين»، على حدود الدلتا الشرقية مع سيناء.
26
وأحيانا كان تمردهم يصل إلى درجة الهجوم، على المدن المصرية العامرة شرقي الدلتا، كما حدث في عهد الملك ستي الأول من حكمه 1302ق.م. عندما هاجموا مدينة بي توم أو فيثوم؛ مما اضطره إلى تجريد حملة تأديب كبرى،
27
وعند حملته على الشام اصطدم مرة أخرى عند رفح، بجماعات الشاسو
28
أو بدو سيناء، ولم يتمكن من دخول فلسطين، إلا بعد أن أحرز نصرا شديدا عليهم.
المهم أنه إذا كانت الوثائق، قد أفادت باسم فرعون التحرير «أحمس»، فإنها لم تفدنا حتى الآن باسم فرعون مصر وقت الغزو، باستثناء ما ورد عند مانيتو عن فرعون باسم «توثيمايوس» أو «توثيمايو»، بعد حذف التصريف الاسمي اليوناني، وقد لجأ المتأولون المتعجلون إلى تصحيفه بالقراءة إلى «تحتمس»، لكن ذلك لم يحل الإشكال، فلدينا بين الفراعين أكثر من تحتمس، ومانيتو لم يحدد لنا من هو ال «تحتمس» المقصود بين الفراعين؟ ثم إن ما يفصل في الأمر، أن الملوك التحامسة لم يحكم أحدهم قط قبل الأسرة الثامنة عشرة، أي أنهم حكموا بعد طرد الهكسوس من مصر، وليس قبل ذلك، وأولهم «تحتمس الأول»، الملك الثالث في ترتيب ملوك الأسرة الثامنة عشرة، بعد أحمس وآمنحتب الأول.
إلا أن الباحث «غطاس الخشبة» نبهني إلى أمر هام بالفعل، حيث إنه تابع قراءة جداول بردية تورين للملوك، المرفقة بكتاب «جاردنر»: مصر الفراعنة، وطابق اسم «توتيماوي» مع الاسم المذكور في العمود السادس تحت رقم 24،
29
إلا ان الأرجح بالفعل أن يكون هو الفرعون الذي ورد بذات البردية في العمود رقم 7 تحت رقم 5، باسم «سعنخ رع أن سوا دج/تو»، الذي حكم ثلاث سنوات وشهرين، وهو الاسم الذي ينقح إلى اسم مشهور دون سبب واضح لتلك الشهرة، هو «سخم رع سوا دج/توي»، واشتهر باسم «سبك حتب الثالث»
ولا سبيل لتفسير تلك الشهرة إلا بحدث كبير مثل حدث غزو الهكسوس.
ولما كان حرف «ت» ينطق - في تلك الحال - «دج»، مع تعطيش الجيم، كما في نطق اسم مدينة «أبيدوس» بذات الطريقة «آبدجو» بدلا من «أبيدو» المعتادة، فإنه يمكننا أن ننطق اسم الفرعون نطقا يوافق زمن مانيتو بتخفيف «دج» إلى «ت»؛ ليقرأ: «سخم رع/سوا/ت/تو وي»، وهو الاسم الذي يحوي كل المكونات الفونيطيقية للاسم، الذي أورد مانيتو «توتيماوي» ويقع ترتيبه في سلسلة الملوك - بعد سقوط الأسرة الثانية عشرة - الثامن والعشرين، وهو بذلك أحد ملوك الأسرة الثالثة عشرة، التي حدث الغزو إبانها بالفعل، وهو ما يعني وجود أسرة بهذا الرقم فعلا في طيبة، ولا يصح أن نذهب مع من ينصحون بإلغائها، لصالح عمليات التزمين السالف الإشارة إليها.
والمطالع لقائمة سني الملوك الذين حكموا بعد الأسرة الثانية عشرة، سيلحظ فورا أن هذا العدد من الملوك، قد حكم مددا قصيرة جدا، حيث إن الملك منهم لم يحكم أكثر من شهور، وبعضهم لم يحكم سوى أيام، وأطول مدة حكمها ملك من بينهم لا تتجاوز سنواتها أصابع اليد الواحدة، كما في حالة «توتيماوي/سبك حتب الثالث»، وحالة أخرى وحيدة نادرة، استمر فيها أحدهم ثلاثا وعشرين سنة، وهو الأمر الذي يشير إلى قصر عمر قياسي للأسرة الثالثة عشرة، وصراع هائل على السلطة، أدى إلى تفكك نظام الدولة وانهيار البلاد، إلى الحد الذي سمح بدخول الهكسوس إليها، لكن في ضوء تضارب التزمين لا يمكن بحال أن ندقق بشكل قاطع الزمن الذي دخل فيه الهكسوس مصر، على الأقل في هذه المرحلة من البحث، وإن كان العلماء قد حددوه بعام 1788ق.م. أو نحو ذلك، وهو العام الذي حددوه لسقوط الأسرة الثانية عشرة.
أما الدليل الأوفى على صدق «مانيتو»، فهو إشارته لاتخاذ الهكسوس عاصمة في شمالي مصر باسم «أواريس/أفاريس/حواريس»، واتخاذهم إلها رئيسيا باسم «تيفون»، وهي أمور لا جدال بشأن صحتها، حيث حدثتنا الوثائق المصرية المكتشفة عن مدينة الهكسوس باسم «حواريس»، وقد وردت باسمها هذا عدة مرات في وثائق التحرير، وطبقا لما نقله «يوسفيوس» عن «مانيتو»، فإن حواريس كانت تقع في مقاطعة باسم «المقاطعة الستروية»، وتبعا لما بين أيدينا الآن من تصنيف لمقاطعات مصر القديمة، لم نعثر بينها على مقاطعة بهذا الاسم.
وقد ظلت نظرية «مانيتو» - التي أخذ بها المؤرخون القدامى، مسيطرة وسائدة، إلى ما يزيد عن سبعة عشر قرنا على التوالي، والتي تؤكد - بتفسير «يوسفيوس» - أن بني إسرائيل، هم ذات عين الهكسوس، وأن طردهم قد تم على يد فرعون باسم «أحمس»، وأن بعضهم بقي أسيرا في مصر، ثم أشعلوا نار ثورة ضد فرعون باسم «آمنحتب»، ومن علوم المصريات، وحسب جدول الملوك، نعلم أن هناك أربعة ملوك حكموا بهذا الاسم خلال الأسرة الثامنة عشرة المصرية، أولى أسر الدولة الحديثة، دولة الإمبراطورية، وقد تم ترتيب ملوك تلك الأسرة، وفق قوائم الملوك القديمة (أبيدوس، الكرنك، بردية ليدن ... إلخ)، مع الاستعانة بالكشوف الحديثة في علوم المصريات لآثار مصر، لملء الفراغات التي أسقطتها تلك الجداول، بحيث جاءت كالتالي:
اسم الفرعون
بالهيروغليفية
التاريخ الافتراضي لسني حكمه ق.م.
أحمس
1575-1550
آمنحتب الأول
1550-1528
تحتمس الأول
1528-1510
تحتمس الثاني
1510-1490
حاتشبسوت
1490-1468
بينهما فترة حكم مشتركه
تحتمس الثالث
1490-1436
آمنحتب الثاني
1436-1413
تحتمس الرابع
1413-1405
آمنحتب الثالث
1405-1367
آمنحتب الرابع/إخناتون
أسرة العمارنة ساقطة من الجداول المصرية القديمة
1367-1350
سمنخ كارع
1350-1347
توت عنخ آمون
1347-1339
آي
1339-1335
حور محب
1335-1308
لكن علوم المصريات الحديثة، رغم أخذها - بعد تأكدها - بما ذكره «مانيتو» عن أحمس كفرعون للتحرير، فإنها لم تطمئن إزاء المعطيات الآثارية المكتشفة، إلى فكرة أن الأسرى الإسرائيليين قد خرجوا بعد ذلك زمن فرعون باسم «آمنحتب»، ومن هنا طرحت عدة نظريات تحاول تزمين خروج بني إسرائيل من مصر، وإذا أخذنا عينات منها على الترتيب الزمني، سنجد: منهم من ذهب إلى خروجهم زمن الفرعونة «حتشبسوت»، ومنهم من أرجأ ذلك لزمن شريكها في العرش وخليفتها الفاتح المظفر «تحتمس الثالث»، بينما ذهب آخرون إلى تأخير ذلك الزمن إلى أيام «آمنحتب الثالث» أو «الرابع/إخناتون»، باعتباره ما ذكره «مانيتو» عن صفات الفرعون المحب للسلم واسمه آمنوفيس، واحتسابه هو فرعون التسخير والاستعباد، وأن الخروج تم في عهد ابنه «هورامبيس» أو «رمسيس» كما قال «مانيتو»، والذي سيتأرجح ما بين كونه إخناتون «آمنحتب الرابع» وبين كونه «حور محب»، لكن ذلك الفرض جاء قبل أن تلقي علوم المصريات الأركيولوجية الضوء على كثير من المجهول، واكتشفت أنه لا «رمسيس» ولا «حور محب» كانا أبدا أبناء لآمنحتب، بل إنهما قد أتيا بعد ذلك بفترة، وفي أسرة أخرى هي الأسرة التاسعة عشرة، ثم أخيرا تأتي آخر النظريات وأكثرها شيوعا ورسوخا الآن، وهي التي تقول باستعبادهم زمن الفرعون «رمسيس الثاني» (1290-1224ق.م.) أشهر ملوك الأسرة التاسعة عشرة وأجلهم شأنا، وخروجهم زمن ولده «مرنبتاح» (1224-1214ق.م.). (2) نظريات الخروج المتراوحة بين زمن «حتشبسوت» وبين زمن «مرنبتاح»
والنظرية الأولى هي القائلة بخروج بني إسرائيل من مصر زمن الفرعونة «حتشبسوت» و«تحتمس الثالث»، الذي شاركها في الحكم فترة من الوقت، ثم أزاحها عن العرش وانفرد به، وقاد جيوش مصر ليقيم أكبر إمبراطوريات ذلك الزمان. ويمثل تلك النظرية أصدق تمثيل الأستاذ «جارستانج» عضو بعثة مارستن
Martson
التابعة لجامعة ليفربول، للتنقيب في فلسطين، وقد ملأ «جارستانج» الدنيا صخبا وضجيجا بما زعمه عن كشف آركيولوجي حاسم في الأمر جميعه، حيث عثر على جعران في مقابر أريحا الملكية، عليه إشارات فسرها كأدلة قاطعة، تثبت أن «موسى» قد أنجبته الفرعونة «حتشبسوت» عام 1527ق.م. بالتحقيق، عندما كانت أميرة، وقبل أن تتربع على عرش مصر، أي خلال حكم الفرعون «تحتمس الأول» أو «تحتمس الثاني»، وأن «موسى» قد تربى في بلاطها وبين حاشيتها بعد ذلك، ثم فر من مصر عندما نجح الانقلاب الذي قام به «تحتمس الثالث»، ثم عاد ليقود الخروج أثناء حكم «تحتمس الثالث» عام 1447ق.م. وأن بني إسرائيل وصلوا أريحا وفتحوا فلسطين، بعد سبعة وأربعين عاما من خروجهم من مصر، أي عام 1400ق.م. على وجه التحديد.
وكما ظهرت ضجة «جارستانج» فجأة، خفتت فجأة، وانتهى «جارستانج» إلى الصمت التام، ولم يعد أحد يتحدث عن جعرانه الأعجوبة، ويبدو أن المصرولوجيين لم يقتنعوا تماما بتأويلاته لنقوش جعران أريحا، ربما لسقوطه في أخطاء هامة تبرر ذلك الخفوت، فالتلاشي، لكشف بهذه الخطورة.
وممن ذهبوا إلى تزمين الخروج بأيام حكم الفرعونة «حتشبسوت» الباحث «هانز جيدك
H. Jedic » الذي أكد هذا المعنى، وحاول إيجاد تبرير معقول للقناعة بغرق الفرعونة وجيوشها، رغم عدم وجود أي وثيقة تاريخية في كل مدونات حوض المتوسط، تشير إلى غرق أي جيش أو أي فرعون، فأرجع الأمر إلى انفجار بركان جزيرة تيرا
Tira
المعروفة الآن بجزيرة سانتورين
Santorin ، الواقعة شمالي جزيرة كريت بحوالي سبعين كيلومترا، حيث زعم أنه قد تصادف خروج الإسرائيليين عقب الانفجار، ولحظة وصولهم إلى بحيرة المنزلة؛ لكي يسلكوا الطريق الساحلي إلى أرض كنعان، وفي اللحظة التي كانت فيها جيوش «حتشبسوت» تدخل المنطقة، و«موسى» وأتباعه على ربوة عالية بعد مرورهم من جنوبي البحيرة، وصلت موجة المد الهائلة التي سببها البركان، فأدى إلى غرق المصريين، و«جيدك» بذلك يفترض أن بحر سوف الذي عبره الإسرائيليون، لم يكن بحرا بالمعنى المفهوم، بل موضعا بساحل بحيرة المنزلة الجنوبي شمال الدلتا، ويكون المد الذي أغرق المصريين قادما من البحر الأبيض المتوسط.
ويبدو لنا أن من ذهبوا إلى تزمين الخروج بعهد الفرعونة «حتشبسوت»، قد ازدادت قناعتهم بمذهبهم، استنادا إلى النقوش التي خطت زمن حتشبسوت بحروف هجائية في صورة بدائية، عند موضع جبل الشريعة (سانت كاثرين وموسى بسيناء)، وورد فيها أكثر من مرة الاسم «منشه
Manassah »، الذي دفع إلى الظن بأنه اسم «موسى» نفسه ، هذا مع الاعتقاد الراسخ أن جبل سانت كاترين بسيناء، كان هو الجبل الذي توجه إليه الخارجون من مصر، إلا أنه لوجه الحق، أن حل رموز تلك النقوش غير محقق، إضافة إلى أن الصفات التي وردت في تلك المخربشات عن المدعو «منشه»، تخالف إلى حد بعيد ما ورد بشأن «موسى» في التوراة، فمنشه هذا كان عاملا مصريا في المحاجر هناك، يعبد آلهة مصرية كثيرة، وكان فيما يبدو مقربا في زمن سابق من الفرعونة حتشبسوت.
30
وربما انبنت قناعة «جارستانج» و«هانزجيدك» على ذلك النص المصري عن «حتشبسوت»، والذي وجد منقوشا على واجهة أحد معابدها، في منطقة إسطبل عنتر بضاحية مصر القديمة الآن، وهو معبد إقليمي، أطلق عليه اليونانيين اسم «سبيوس أرتميدس»، ويحمل علامات شديدة الدلالة، يمكن تأويلها مع قصة الخروج، وهو نص مدهش بالفعل، يقول النص:
أصغ إلي، إن جميع الناس من البدو هم على ترحالهم، وإني لم آخذ في اعتباري أعمالهم الشاذة، ولم تشغل خاطري، فإني لم أنس أن أشيد «وأصلح ما قد دمروه وأتلفوه» من قبل، وكان من بينهم حشود تقوم بهدم ما سبق تشييده، «كانوا يحكمون» بغير مشورة رع، ولم يحدث أن تم التصرف طبقا للأمر الإلهي، حتى عصر جلالتي.
وحكم جلالتي الآن ثابت بقوة رع؛ لأنه قد سبقت النبوءة بمولدي، بأني سأكون من الملوك القادرين المنتصرين؛ ولذلك جئت كالحية النارية الملتهبة ضد أعدائي، «ولما سمحت لأولئك الذين أغضبوا الآلهة بالخروج، فكأن الأرض ابتلعت آثار أقدامهم»، وهذه إرادة أبي الآلهة، التي رتبت ذلك في حينه، وهم لا يوافقون على إلحاق الضرر بمن جاء بإرادة الإله آمون، وإني أتمتع بقوة احتمال حين تسطع عليه أشعة الشمس النورانية، «فوجود جلالتي ولقبي شرعي وقانوني»، والإله حورس الصقر هو الذي يحميني بجناحيه، وينشر اسمي الملكي إلى أبد الآبدين.
31
الواضح لدينا هنا أن «حتشبسوت» تريد تأكيد شرعية ملكها بإرادة الإله «آمون»، وهناك نصوص عديدة حاولت فيها تأكيد تلك الشرعية، مع دليل آخر يدعم ذلك الشك، حيث اصطنعت قصة تقول إنها ابنة مباشرة للإله آمون بالجماع الجسدي مع والدتها، وهو الأمر الذي تكرر مع أكثر من فرعون، وهو ما يقول بشأنه «عبد العزيز صالح»: «وعادة ما ازداد تمسح هؤلاء بالدين وكرامات آمون، كلما أحس أحدهم بشبهة يمكن أن تمس شرعية ولايته للعرش، حيث يسارع إلى تأكيد بنوته المباشرة له، نتيجة تقمصه روح أبيه حين أنجبه، وعبرت عن هذه الادعاءات أربع روايات للفراعنة: حتشبسوت، وتحتمس الثالث، وتحتمس الرابع، وآمنحوتب الثالث.»
32
ويشير كل من «دريتون» و«فاندييه» إلى: «إن فكرة تدخل الإله تدخلا مباشرا في إنسان الملك الجالس على العرش، كانت شائعة في الأسرة الثامنة عشرة، إذ تمثل النقوش في معبد الدير البحري عن حتشبسوت، ومعبد الأقصر عن آمنحتب الثالث، ومراحل الاقتران الإلهي؛ أي اجتماع آمون مع الملكة الوالدة، بعد أن يتخذ مظهر الملك الوالد.»
33
أما الجزء الخاص بالبدو في ذلك النص، فقد جاء عرضا لإثبات اقتدارها وسلطانها، ولم يكن مقصودا لذاته، ويبدو لنا لونا من الادعاءات الكثيرة المتكررة في حوليات الفراعنة غير الشرعيين أو الضعاف، فيدعي أحدهم أنه أسقط حضارة دولة معادية قبل زمنه بمئات السنين، أو يزعم أنه باني المعبد الفلاني وليس له، أو يكتفي بمحو اسم الفرعون صاحب الأثر العظيم ويضع عليه اسمه، وهي أمور معتادة ومعلومة مع دارس التاريخ المصري القديم، والنص هنا يتحدث عن بدو كانوا يحكمون مصر، لا عن عبيد بمصر، إنه إشارة للهكسوس الحكام، وليس للإسرائيليين المستعبدين، مما يشير إلى أنها أرادت أن تنسب لنفسها تحرير مصر من الهكسوس، الذين حكموا مصر بالنص، وهدموا معابد الآلهة وحكموا بغير مشورة الإله رع، النص هنا لا يمكن تفسيره إطلاقا بأنه يتحدث عن بني إسرائيل، فلا التوراة ادعت أنهم حكموا مصر، ولا مصر دونت ذلك، النص يتحدث إذن عن الهكسوس تحديدا في فخر، لفرعونة مشكوك في شرعية حكمها.
أما الجملة: «ولما سمحت لأولئك الذين أغضبوا الآلهة بالخروج، فكأن الأرض ابتلعت أقدامهم.» فيبدو أنها تشير إلى اغتصابها عمل الفرعون «أحمس»، الذي سمح للهكسوس بالخروج من حواريس بعد حصار طويل ومفاوضات، ليتجهوا إلى شاروهين، أما الباحث «غطاس الخشبة» فيبدو أنه لم يلتفت إلى مسألة حكمهم لمصر وهدمهم لمعابدها، ووقف فقط عند تلك الجملة، ليستنتج أنهم بنو إسرائيل.
وقد رتب الباحث نتائج عمله وأجملها في قوله: «إن الهكسوس طردوا من قلعة «حواريس» سنة 1568ق.م. في السنة الخامسة لحكم «أحمس الأول»، وظل يطاردهم حتى دخلوا فلسطين، وأن «موسى النبي» ولد سنة 1548ق.م. في أول حكم الملك «آمنحتب الأول »، وانتشل من السفط تحت رقابة أخته مريم بنت عمران، وأن خروج بني إسرائيل كان في نهاية حكم «حتشبسوت» عام 1468ق.م. بقيادة موسى، حيث كان له من العمر ثمانون عاما، والأشبه إن صح هذا، أنها ماتت غرقا عندما لاحقتهم مع الجيش في أطراف بحيرة المنزلة، أو أنها حمت بسبب ذلك، ودفنها تحتمس الثالث سرا، لاغتصابها الملك منه، ويبين من ذلك أن تاريخ طرد الهكسوس من مصر سنة 1568ق.م. كان سابقا لخروج بني إسرائيل من مصر سنة 1468ق.م. بمائة سنة، الذين كانت متاعبهم قد بدأت في مصر منذ ذلك الحين، عقب طرد الهكسوس.»
34 «معلومة هامة»: تم اكتشاف أو التأكد من مومياء الملكة حتشبسوت العام 2008م ... وأعلن زاهي حواس عن ذلك.
والواضح أن «الخشبة» قد حاول باجتهاد أن يوفق في بحثه، بين رواية التوراة وبين رؤيته وتزميناته هو الاجتهادية لوقائع التاريخ، وفي ذلك لا مثلبة عليه؛ لأننا لا نملك مصدرا آخر يتعلق بتفاصيل الخروج الإسرائيلي سوى التوراة، ولا مناص من أخذه كمصدر أساسي، عند بحث أي شأن من شئون الخروج الإسرائيلي من مصر.
إلا أن تحديد زمن الخروج الإسرائيلي من مصر، بزمن الفرعونة حتشبسوت، سيتضارب تماما مع تقارير التوراة التي اعتمدها هو نفسه واعتمدها غيره، كما نعتمدها نحن، حيث قررت التوراة أن الإسرائيليين قد عاشوا في مصر 430 عاما، وحيث إن الأستاذ الباحث قرر بحساباته، أنهم دخلوا في عهد الملك الهكسوسي الثالث، الذي ذكره «مانيتو» باسم «أبخنان»، فإنه بحسبة بسيطة، سنجدهم قد دخلوا مصر بعد 63 عاما من غزو الهكسوس، ولما كان غزو الهكسوس لمصر قد تم حوالي 1788ق .م. فإن ذلك سيعني دخول بني إسرائيل مصر حوالي 1725ق.م. ولما كان باحثنا يقول بخروج بني إسرائيل زمن «حتشبسوت» التي توفيت عام 1480ق.م. فمعنى ذلك أن الإسرائيليين لم يقضوا في مصر أكثر من 245 عاما.
ثم إننا لو احتسبنا النص المعتمد صادقا تماما، فهو يشير لحكام غزاة وليس لعبيد إسرائيليين، مما يعني أن مستنده الأساسي، لا يعطي التفسير الذي يذهب إليه هو نفسه، وإن كان ذلك لا يقلل من جهده المحمود.
والنظرية الثانية هي نظرية الخروج زمن الفرعون تحتمس الثالث
وممن اقتربوا بتزمين الخروج من زمن الفرعونة «حتشبسوت»، من ذهب إلى أن الخروج قد حدث زمن الفرعون «تحتمس الثالث» شريكها في الحكم، وخليفتها المباشر، وقد قال بهذا الرأي عدد من الباحثين، نأخذ منهم نموذجا الدكتور «أحمد سوسة»، في كتاب واسع الانتشار بين قراء العربية، معنون باسم «العرب واليهود في التاريخ»، وفيه قام سوسة اليهودي العراقي، الذي أسلم بمزج النظرية التي أسسها «جارستانج» بآرائه الخاصة، التي توصل إليها بشأن جنس هؤلاء الخارجين من مصر، وهو ما يستحق المعالجة، فقط بسبب الانتشار الواسع للكتاب المذكور، وليس لأي سبب علمي، وحيث اعتمد «سوسة» على تأسيس يعتمد اسم الفرعون المذكور عند «مانيتو» كفرعون للخروج، وقرأه «يوسفيوس» بالاسم «تثموزيس»، ليصحفه «سوسة» إلى «تحتمس» وليس «أحمس»، مهملا قراءة «يوسابيوس» وقراءة «يوليوس الأفريقي»، اللتين كانتا بإمكانهما تصويب ذلك التصحيف مقدما، فهو عندهما «آموزيس» أو «آموس» أي «أحمس».
يقول الدكتور «سوسة»: إن جماعة يعقوب/بني إسرائيل، قد دخلت مصر في القرن السابع عشر قبل الميلاد، لحوقا بالهكسوس الذين كانوا يحكمون مصر آنذاك، وأن تلك الجماعة عاشت هناك حوالي خمسة قرون، آخذا بذلك بتقدير «مانيتو» حول زمن وجود الهكسوس في مصر، وبزيادة من سبعين إلى مائة عام عن تقدير التوراة، لمدة بقاء بني إسرائيل في مصر، ودليله على دخولهم زمن الهكسوس، ما عثر عليه من آثار الهكسوس في مصر، من أسماء ذكرها هي: «يوسف إيل» أو «يعقوب إيل».
35
وقد أخطأ الرجل بداية في ذكر الأسماء، فما تم العثور عليه تدقيقا هو الاسم «يعقوب هر»، وقد ترجمها المؤرخ «فيليب حتي»: «ليحم هور إله الجبل»، واعتبرها إشارة قاطعة ليعقوب، المعروف في التاريخ الديني باسم إسرائيل،
36
بينما نرى من جانبنا أن صدق الترجمة هي «ربوة يعقوب»، وليس «ليحم هور إله الجبل»، ومعلوم فعلا أن المفردة «هور» تعني في العبرية «الجبل»، لكن التوراة كانت تشير إلى العشيرة أو القبيلة أو النسل بكلمة «ربوة»، التي تشبه عدد النسل بتراكم الرمال ليصنع ربوة كالجبل ، وتتكرر هذه المعاني في التوراة، كما في القول: «وأجعل نسلك كتراب الأرض» (تكوين، 13: 16) «وباركوا رفقة وقالوا لها: أنت أختنا، صيري ألوف «ربوات»، وليرث نسلك باب مبغضيه» (تكوين، 24 : 60)، ومن ثم فالمقصود بيعقوب هور هو جبل يعقوب أو ربوة يعقوب أي «قبيلة يعقوب» أو نسل يعقوب، المهم أن «سوسة» يستمر متابعا فيقول: إن النتيجة الحتمية، لبقاء سبعين شخصا مع نسلهم في مصر مدة خمسة قرون متصلة، أن ينصهروا بالكامل ثقافيا وعرقيا في الشعب المصري، وقول سوسة هذا مقبول تماما وبالفعل، ويستند قبوله لدينا إلى ما لاحظناه من إشارات عند «مانيتو» وفي «التوراة»، عن لفيف مع الخارجين، ليسوا من الإسرائيليين، وهو ما وجدناه عند «مانيتو» في حديثه، عمن أثاروا الشغب في حواريس ووصفهم ب «المصريين الفاسدين»، وهو لا شك مأثور قديم معلوم، ظل يتواتر حتى وصل «مانيتو»، وهو المأثور الذي كان يعلم أن هؤلاء كانوا مصريين، لكنهم فاسدون، وهو الوصف الذي كان المصري القديم يطلقه على «المارقين بالمعنى الديني، أو على الخونة بالمعنى الوطني»، أما التوراة فقد وجدناها تقول لحظة الخروج من مصر:
فارتحل بنو إسرائيل من رعمسيس إلى سكوت نحو ستمائة ألف ماش من الرجال، عدا الأولاد، وصعد معهم «لفيف كثير» أيضا. (خروج، 12: 37، 38)
وإذا كان النص هنا لم يوضح جنس هذا اللفيف، فإن البحث وراء الأمر في الكتاب المقدس، يكشف لنا عن جنس هذا اللفيف، في حديث لموسى أمام شعبه في قادش، وهو ما لم يذكره سوسة، حيث وقف يخطب فيهم ويردد على مسامعهم وصايا الرب، ومن بين تلك الوصايا الوصية التي تقول:
لا تكره مصريا لأنك كنت نزيلا في أرضه، والأولاد الذين يولدون لهم في الجيل الثالث، يدخلون منهم في جماعة الرب. (تثنية، 23: 7)
وهو ما يعني وجود مصريين بين الخارجين. المهم يقول «سوسة»: إنه قد بقي بعد تحرير مصر من الهكسوس شراذم أسرى، لا يمكن تصنيفهم جنسيا، كما لا يمكن القول إن هؤلاء الباقين هم تحديدا بنو إسرائيل فقط، ويرى «سوسة» أن هؤلاء قد أخذوا بديانة التوحيد الآتونية، التي تدعو إلى عبادة إله واحد باسم «آتون»، والتي دعا إليها الفرعون «آمنحتب الرابع/إخناتون»، وقد أدى سقوط «إخناتون» وانهيار ديانته إلى اضطهاد تلك الجماعة، فحاصرهم «تثموزيس» كما قال «مانيتو» في مدينتهم «حواريس»، وقد احتسب «سوسة» أن «تثموزيس» هو «تحتمس الثالث» (1501-1447ق.م.) الفاتح المصري المظفر، وهنا أول سقطاته الشديدة، وخبطه، وسوء تقديره؛ لأنه بمقارنة بسيطة مدققة في قوائم الملوك المصرية، كان يمكنه أن يعلم أن «تحتمس الثالث» سابق لإخناتون بحوالي ثمانين عاما، وليس بعده، وأن هناك ثلاثة فراعنة تقع مدة حكمهم في المرحلة الفاصلة بين تحتمس الثالث وبين إخناتون على الترتيب: «آمنحتب الثاني» (1436-1413)، و«تحتمس الرابع» (1413-1405)، و«آمنحتب الثالث» (1405-1367).
ويستمر «سوسة» في عرض نظريته، فيقول: إنه لما فشل «تحتمس الثالث» في التغلب على هؤلاء المتحصنين في حواريس، هذا رغم ما نعلمه عن «تحتمس الثالث» كصاحب أعظم وأنجح حملات عسكرية في الشرق القديم، على وجه الإطلاق، ووصلت حملاته إلى سبع عشرة حملة (14 حملة [المؤلف])، وصل بها إلى عمق شمال سوريا («رتنو العليا» أعلى نهر الفرات [المؤلف])، المهم أن «تحتمس الثالث» لما فشل في ذلك الحصار - فيما يرى سوسة - لجأ إلى مصالحتهم، على أن يخرجوا مع ممتلكاتهم وأنعامهم من مصر.
ثم يؤكد لنا الدكتور «سوسة» أن هذا الخروج كان حملة مصرية بحت على فلسطين، والقول بمصريتهم يدعمه اقتباسه مما ذهب إليه «غوستاف لوبون»، حول وجود عدد كبير من العبيد المصريين الفارين من سادتهم، إضافة إلى بقايا الهكسوس الذين أخذوا بعقيدة التوحيد الآتونية مع هؤلاء المصريين، والجميع عند «سوسة» كانوا يتكلمون المصرية القديمة، ويرى أن «موسى» نفسه - كما ذهب كثيرون - مصري مائة بالمائة، وهو ما سبق وأكده «مانيتو» عن «أوزرسيف»، وبدليل قول بنات كاهن مديان لأبيهن، بعد أن سقى لهن موسى الغنم: «فقلن رجل مصري أنقذنا من أيدي الرعاة، وأنه استقى لنا أيضا وسقى الغنم» (خروج، 2: 19).
ثم يستند «سوسة» إلى أكثر التآريخ عمومية وفضفاضة، فيعمد لتأكيد مصرية موسى، من تاريخ الحضارة لول ديورانت، حيث يقول: إن «موسى» كان اسما مصريا، وإنه اختصار للاسم «أحموس»، وإن «موسى » المصري هذا ذهب إلى العبيد المصريين وبقايا الهكسوس الموجودين بمدينة «حواريس»، وقام بتعليمهم قواعد النظافة المتبعة عند الكهنة المصريين، باعتباره كان كاهنا مصريا كما أفاد «مانيتو»، وذلك لاتقاء شر وباء البرص الذي تفشى بينهم، وكان «موسى» من أتباع «إخناتون» ومن المخالفين للوثنية المصرية، وقد قال «مانيتو»: إن «أوزرسيف» كان كاهنا مصريا خالف ديانة المصريين، وفي المأثور الديني أن ابنة فرعون أقامت عليه أساتذة من الكهنة المصريين، ليفقهوه في علوم المصريين، هذا إضافة إلى ما جاء عند العلامة «ويج»،
37
لينتهي إلى أن «موسى» لا علاقة له بإله اليهود «يهوه»، إنما كان موسى من أتباع «إخناتون» وإلهه «آتون»، وأن نسبة «يهوه» لموسى لون من التزوير التوراتي، كذلك استند «سوسة» إلى آراء «سيجموند فرويد» بهذا الشأن، والتي سنفصلها بعد قليل تفصيلا وافيا، وأهم ما فيها أن تلك الفرقة الفارة من مصر، قد أخذت بعادة الختان، وهي عادة مصرية قح، أخذتها عنهم الشعوب الأخرى، ولم يكن تقرير التوراة لتلك العادة على بني إسرائيل من بعد، إلا «لأن الخارجين كانوا مصريين» بالأساس، كما أخذ بملاحظة فرويد للقب الإلهي التوراتي «آدون»، ومطابقته لاسم إله التوحيد الإخناتوني «آتون».
وإعمالا لكل تلك المقدمات، ينتهي «سوسة» «إلى أن الخروج كان مصريا خالصا»، وأنه كان حملة كأي حملة مصرية معتادة على فلسطين، وكل الفارق بين تلك الحملات جميعا، وتلك الحملة بالذات، هو أن حملة «موسى» كانت منشقة عن الدولة المركزية الأم، ولا تتمتع بالتنظيم العسكري المألوف، ولا بإسناد الدولة، كما لم تكن ضمن أهدافها مصلحة الدولة المصرية، إنما كانت فرارا من اضطهاد المجتمع المصري الوثني.
وعليه، «فإن جماعة الخارجين كانت غريبة على أرض كنعان؛ مصرية، لا صلة لها ببني إسرائيل الذين اختلطوا بالهكسوس عند دخولهم مصر، وذابت بذرتهم وضاعت تماما مع طرد الهكسوس من مصر، فقامت التوراة مع هذا الضياع بتنسيب الجماعة المختلطة الخارجة من مصر، إلى جماعة بني إسرائيل ويعقوب».
ومن هنا يستمر «سوسة» في سرد تصوره للأحداث، فيقول: إن الخارجين بقوا في سيناء أربعين سنة، هي المعروفة تقليديا بسنوات التيه، لكنه عند «سوسة» لم يكن تيها، بل انتظارا وترقبا مقصودا داخل سيناء، وهو كلام معقول، لكنه يحدد لذلك أسبابا كان أهمها أنه لم تكن لديهم آنذاك القوة الكافية لطرد سكان فلسطين والحلول محلهم، ثم يزيد في إيراد الأسباب فيقع في مجموعة أخطاء، من قبيل أنهم بسيناء أمنوا شر الآشوريين، ولو أجرى مراجعة تاريخية بسيطة، لعلم أن الآشوريين كانوا واقعين آنذاك تحت الاحتلال الكاسي، والسبب الآخر عنده أنهم بسيناء، كانوا بمأمن من الآراميين، رغم أن الآراميين آنذاك لم يبلغوا بعد قوة تمكنهم من المغامرة، إضافة إلى حكمة أخرى هي أن أرض كنعان، كانت حينذاك ساحة لمعارك بين رمسيس الثاني والحيثيين، والخطأ هنا فادح حقا؛ فهناك فارق عظيم بين زمن «تحتمس الثالث» (1490-1436ق.م.) وبين زمن «رمسيس الثاني» (1290-1224ق.م.) يتجاوز تلك الأربعين عاما المفترضة للتيه، بمائتي عام إضافية، أي إن الفارق بين الزمنين كان 240 عاما كاملة، هكذا؟! ...
المهم أنه يقول بتجنب «موسى» التوغل في فلسطين، تلك السنين الأربعين (لم يحاول بالطبع إجراء أي حسابات، ليعلم أن ما ذهب إليه قد جعل سنوات التيه 240 سنة)، وبعدها تمكن الخارجون من الدخول إليها بقيادة «يشوع» بعد موت موسى، بالعبور من شرقي الأردن إلى غربه في عمق فلسطين، وقد تم ذلك دون مشاكل؛ لأن مصر كانت عاجزة عن التدخل في شئون فلسطين، ومد يد العون لملوك كنعان، وهو بدوره خطأ هائل وتناقض عظيم، فلو أخذنا أخطاءه بحسبانها صادقة، واحتسبنا الخروج قد حدث زمن «تحتمس الثالث»، وأن التيه قد حدث زمن «رمسيس الثاني »، فإنه في كلا العهدين كانت مصر في أوج اقتدارها وعزتها.
38 (3) نظرية الخروج زمن خلو العرش بعد سقوط إخناتون
ويمثل هذه النظرية العالم النفسي الأشهر «سيجموند فرويد»، وهي تأخذ ثقلها العلمي، ليس من وثائق التاريخ، بقدر ما تأخذه من تطبيق «فرويد» للتحليل النفسي على القبيلة الإسرائيلية الخارجة من مصر، ومحاولته حل بعض الغوامض في تاريخهم بمنهجه الفريد والممتع، وهو يسلم برواية التوراة عن الدخول إلى مصر والخروج منها، ولا يناقش التفاصيل إلا فيما لا يبدو متسقا مع المنطق؛ لذلك فإن نظريته هي محاولة للتفسير أكثر منها محاولة لبحث علمي تاريخي جغرافي مقارن، لكنه توصل أثناءها إلى بعض الفروض لتحديد زمن الخروج، وما حدث في شبه جزيرة سيناء في سنوات التيه، وأثر ذلك على تطور المفاهيم الدينية لبني إسرائيل.
وقد لاحظ «فرويد» أن قصة إلقاء «موسى» في اليم، قصة متواترة في مأثورات الحضارات القديمة بالمنطقة، وفي أساطير الرافدين وبلاد اليونان القديمة وغيرها، حول أبطال الأساطير، ومن هنا رصد لنا أهم العلامات البارزة التي تشكل العناصر الأساسية، لقصة إلقاء البطل الأسطوري في اليم، أو استبعاده عن بيت أبيه وأهله بأي أسلوب آخر، ليربى بين قوم غرباء، ليلفت نظرنا إلى أن الأسطورة التقليدية تقول بعدة عناصر، أولها استبعاد البطل وهو طفل عن أسرته أو وطنه، وثانيها إنقاذ البطل الطفل المستبعد، بواسطة الرعاة أو أناس بسطاء عموما أو حتى حيوانات، فترضعه أنثى الحيوان المنقذ أو المرأة البسيطة، وحين يشب عن الطوق يعثر على أهله بعد مغامرات عديدة، وعادة ما تقول الأسطورة النمطية بانتقام الشاب اليافع من أبيه الذي فرط فيه، وبعدها يحظى بالشهرة والمجد.
لكن المشكلة في قصة النبي «موسى»، هو أنها تختلف عن الأسطورة النمطية، إلى حد السير بعكس الاتجاه التقليدي للأسطورة النمطية المعلومة، «فالأسرة التي تتخلص منه وضيعة جدا وليست أسرة نبيلة»، فموسى سليل لاويين ضمن بني إسرائيل المستعبدين بمصر، «وتنقذه أسرة من البيت الملكي» المصري، وتقوم الأميرة على رعايته، وهو عكس للأسطورة التقليدية، التي تقول بإنقاذ الطفل المستبعد، من بيت نبيل على أيدي أسرة وضيعة، ليشب في البراري أو الغابات، وقد كان اختلاف أسطورة موسى عن الأسطورة النمطية التقليدية، مثيرا دائما لدهشة الباحثين في الميثولوجيا، والمفترض في تفسير الأسطورة النمطية، أن تكون الأسرة النبيلة التي ولد بها الطفل هي الواقعية، والأسرة الوضيعة هي الوهمية، التي اصطنعتها الأسطورة، لتجعل نجاة البطل ميلادا غير عادي أو مألوف، ليكتسب البطولة أو الملوكية أو القدسية، أي إن الأسطورة النمطية تحوي أسرتين: الحقيقية فيها هي الأسرة النبيلة أو الملكية، أما الأسرة الوضيعة فهي الأسرة الخيالية المتوهمة. لكن حتى هنا نجد قصة «موسى» تقلب الوضع، فتقول إنه ولد بأسرة وضيعة، ونما ونشأ في أسرة نبيلة؛ لذلك وحسب قواعد الأسطورة النمطية، لم يجد «فرويد» مفرا من احتساب «الأسرة التي تخلصت من الطفل «الأسرة الإسرائيلية»، هي الأسرة الوهمية، بينما كانت الأسرة الحقيقية هي التي ربته في البيت الملكي، ومن ثم لا بد أن يكون «موسى» مصريا بالفعل، جنسا ونشأة وتربية وثقافة»، من أصل مصري نبيل، لكن حتى تحقق الأسطورة التوراتية أغراضها التي صيغت من أجلها، تجعل هذا المصري يهوديا.
39
وقد لاحظ «فرويد» أدلة هامة على صدق نظريته في مصرية «موسى»، حيث قال: إن هذا المصري الذي وهب اليهود دينهم الجديد، قد أرسى بينهم عادة الختان، والمعلوم أنها عادة مصرية صميمة، كان أول من ابتدعها في الشرق هم المصريون،
40
وكان الشعب المصري فريدا بين الشعوب. أما الأكثر فهو أن الديانة اليهودية، كانت تجهل العالم الآخر والحياة بعد الموت، بالرغم من التلازم بين عقيدة التوحيد وعقيدة العالم الآخر الخالد، وهو الأمر الذي قاد «فرويد» إلى أن ذلك النفي للبعث في ديانة توحيدية، يجب أن تأخذ بالعقيدة الأخروية، يعطينا إشارات لكشف الأمر، فالمصريون يؤمنون طوال تاريخهم تماما بالعقيدة الأخروية، ولكن يوجد زمن قصير جدا ومحدد في مصر، نفى الآخرة ورفض الاعتقاد بالعالم الآخر، ويجب أن يكون هو زمن الخروج حيث ترك تأثيره بنفي الآخرة عند الإسرائيليين الخارجين، وهو ما يحدد لنا زمن الخروج، ونحن نعلم «أن الفرعون الذي نفى الآخرة من عقيدته، ولا يوجد غيره فعل ذلك، هو «آمنحتب الرابع/إخناتون» (1367-1350ق.م.)» الذي دعا لعبادة إله واحد هو «آتون»، وألغى كل العبادات الأخرى، وأغلق بالقهر معابد الآلهة المتعددة، وفي نضاله ضد الخرافات الوثنية، كان لا بد أن يصطدم بأعمق العقائد في نفوس المصريين، التي يمثلها الإله «أوزيريس/أوزير»، إله الموتى والعالم الآخر وقاضي الحساب أمام الموازين، وفي سبيل التوحيد «ضحى «إخناتون» بأوزير وبعالمه الآخر»، ورفض فكرة البعث من بعد الموت برمتها، حتى لا تستدعي إلها يشارك «آتون» وحدانيته، وهي أعز الفكر للمصري القديم، والتي كانت وراء الغليان بالثورة ضد الفرعون فيما بعد، تحت قيادة كهنة آمون رع.
ويبقى لغز المفارقة بين أسطورة استبعاد موسى طفلا، وبين استبعاد الطفل البطل في الأسطورة النمطية، وهو الأمر الذي وجد «فرويد» حله في وضع «موسى» زمن «إخناتون»، وأنه كان بينهما صلة من نوع ما، حيث «ربما كان موسى أحد أعضاء الأسرة الملكية الحاكمة في تل العمارنة» مدينة إخناتون، وربما كان عظيم الطموح قوي التصميم، وبحكم مركزه السيادي كفرد في العائلة المالكة، فقد كان يحلم بقيادة تلك الإمبراطورية المصرية الواسعة، التي تسيطر على معظم الشرق الأوسط القديم ذات يوم آت، ومن ثم قام يؤيد الديانة التي دعا إليها سيده الملك بشدة، واعتنقها بتفان، لكن بموت إخناتون وارتداد مصر إلى آلهتها التقليدية، كان على ذلك النبيل الملكي «موسى»، أن يتنازل عن أحد أمرين عزيزين عليه: فإما أن يتنازل عن عقيدته، ليأمن شر كهنة آمون ويعيش أميرا في القصر بعد الارتداد، وبذلك لن يحقق شيئا بسبب تاريخه وعلاقته بالفرعون إخناتون، والتي لا شك ستكون لعنة دائمة تجعله يعيش في القصر - إن عاش فيه - مراقبا منبوذا، وإما أن يرفض مصر المرتدة عن عقيدة التوحيد، ويتمسك هو بهذه العقيدة وبحلمه القيادي معها، ومن ثم يرى فرويد أن الأمير المصري موسى ذا الأصل الملكي اتخذ قراره التاريخي، فأضاع وطنه وتمسك بآماله وطموحاته، بالتخطيط لتأسيس إمبراطورية جديدة، يعطيها ديانة آتون التي رفضتها مصر، كان يريد أن يقف ببطولة نادرة في وجه القدر، باحثا عن تعويض عما أصابه بانهيار ديانة التوحيد الإخناتونية في مصر.
وربما كان «موسى» آنذاك حاكما أميريا للإقليم الحدودي، الذي ذكرته التوراة باسم «جاسان»، كمسكن لبني إسرائيل وقت سقوط إخناتون، حيث استقرت بعض القبائل السامية منذ أيام الهكسوس، وهناك قرر موسى اختيار شعبه الذي سيعطيه عقيدته وطموحاته، لقد اختار أولئك العبيد.
وهكذا قاد الأمير المصري «موسى»، عبيد جاسان الساميين خارجا بهم من مصر، في فترة خلو العرش بعد موت «إخناتون»، حيث لم تكن هناك سلطة مركزية لتضع العصا بين عجلاته، وهو ما يعني رفض «فرويد» لقصة مطاردة المصريين للخارجين، التي ذكرتها التوراة؛ لذلك لا بد أن يكون الخروج قد حدث بين عامي 1358 و1350ق.م. في الفترة الواقعة بين نهاية «إخناتون» وبين اعتلاء «حور محب» العرش وتوطيده سلطان الدولة، وهو زمن حكم الملك الصبي سمنكارع، ثم الصبي توت عنخ آمون، ثم آي بقية أسرة العمارنة الضعيفة، ولم يكن أمام هؤلاء الخارجين هدف ممكن سوى فلسطين، حيث العشائر السامية، التي تمت بصلات قرابة جنسية للبدو الخارجين من مصر.
41
أما أبلغ دليل على مصرية «موسى»، فهو إشارة التوراة لثقل لسانه؛ مما اضطره للاستعانة بهارون، «الذي تزعم الأسطورة التوراتية أنه كان أخاه»، وهو ما يعني أن «موسى» كان يتكلم لغة غير أولئك البدو الساميين، الذين كانوا يقطنون «جاسان» تحت إمرته كحاكم إقليمي، ومن ثم كان اتصاله بهم بحاجة إلى مترجم، وهو ما يعني «أن «موسى» كان مصريا، لا يعرف لغة هؤلاء العبيد، الذين كانوا يتكلمون العبرية».
وكان «فرويد» يعلم الخلاف الخطر في أطروحته، بين «موسى» الذي يقدمه لنا كمصري مهيب، يهب بدو «جاسان» ديانة صارمة قوية، تحرم تماما جميع طقوس السحر والشعوذة، وبين «موسى» التوراتي، الذي يجعل من تمثال الثعبان إلها للشفاء، لكنه ذاته هو التفسير للتناقض بين الإله «آتون» السمح الراقي الرءوف، وبين «يهوه» إله التوراة الذي يسكن جبلا كالشياطين، قاسيا، ناريا، لا يرحم،
42
ومن ثم يجب علينا أن «نفترض مرحلة كان فيها المصري «موسى» بكل جلاله، مستمرا حتى اختفى بالموت في سيناء، ثم تستأنف التوراة قصتها بموسى آخر وهمي، يمد حياة «موسى» المصري الأصلي، وتنسب إليه كل الخرافات التوراتية، وقسوة البدو وربهم الشيطاني».
وقد استند «فرويد» في ذلك إلى استنتاجات «سيلين» في كتابه «موسى وأهميته في تاريخ بني إسرائيل اليهودي»، وأهمها أن سفر «يشوع» ينبئ عن نهاية مفجعة لموسى، أثناء تمرد قام به الشعب البدوي العنيد المشاكس، وأن الدين الذي أسسه تم هجره والنكوص عنه فورا،
43 (وهو الأمر الذي حدث لإخناتون من قبل)، ومن ثم يتمسك «فرويد» بكشف «سيلين»: «أن ديانة «موسى» المصري الهادئ الدافئة، قد تم هجرها بعد اغتياله»، ثم انضم الخارجون من مصر، إلى قبائل أخرى نسيبة في قادش بسيناء، «حيث اعتنق الخارجون ديانة أقاربهم القوادش؛ ديانة يهوه»، وهناك تم الانصهار والامتزاج بين الشعبين، الذي أنتج شعب إسرائيل، ويرى أن ذلك قد تم بتأثير أنسباء «موسى»، المديانيين القاطنين في تلك المنطقة، وبعد فترة امتدت أربعين عاما، عندما استشعروا بأنفسهم قوة كافية، شرعوا في غزو فلسطين.
وهذا إنما يعني «أن «موسى» الحقيقي الخارج من مصر، سليل الملوكية والنبالة، لم يسمع قط باسم «يهوه» ولم يصل قادش، بل قتل قبل ذلك التحول»، أما «موسى» الثاني الخيالي الذي يعبد «يهوه»، ويجهل كل شيء عن «آتون»، فهو الاختراع التوراتي الذي التبس بعقائد «مديان»، ونسب لشخص «موسى»، الذي تمت نسبته لبني إسرائيل، «وهنا تظهر الأسرة الوهمية الخيالية في الأسطورة لأول مرة، أما في الأصل فلم تكن هناك أبدا أسرة إسرائيلية، نبت فيها موسى» كما تقول الأسطورة.
لكن ذلك الخلاف الأصلي بين عنصرين متحدين، أحدهما عاش في مصر، وتأثر بها، والثاني كان في بداوة واضحة، أدى إلى انفصال العنصرين، عندما انقسمت مملكة سليمان بموته إلى مملكتين: إسرائيل في الشمال، ويهوذا في الجنوب. ولأن الجنوب هو الملاصق لمصر، فإن فرويد يقول: «نؤكد أن من بقي مقيما في البلاد (الفلسطينية) كان موجودا في الشمال، وأن من رجع من مصر استقر في الجنوب.»
44
أي إن هناك أسباطا لم يدخلوا مصر إطلاقا، كانوا يسكنون شمالي فلسطين، وظلوا هناك طوال تلك الأحداث ، وأسباطا دخلوا مصر وخرجوا منها، وهم الذين عاشوا جنوبي فلسطين، وزمن الملك سليمان تم توحيد أسباط الجنوب وأسباط الشمال في مملكة واحدة، أطلقت عليها التوراة «كل إسرائيل»، لكنهم ما لبثوا بموت سليمان أن انقسموا مرة أخرى، عندما عاد الشمال لينشق عن الجنوب، في مملكة عرفت باسم مملكة إسرائيل، بينما حمل الجنوب اسم مملكة يهوذا.
ولأن شخصا مثل ذلك النبيل المصري، كان لا بد أن ترافقه حاشية، فقد رأى «فرويد» أن تلك الحاشية كانت مصرية، والتي لا شك كان أفرادها أشد المخلصين لديانة «آتون»، وهي من شكلت بعد ذلك من عرفتهم التوراة باسم «اللاويين»، الذين جعلهم «موسى» المصري الحقيقي كهنة ديانته، واستمروا في عملهم بعد مقتله؛ لذلك «فإن اللاويين لم يكونوا من بني إسرائيل، بل كانوا حاشية مصرية لمصري عظيم»، وبمرور الزمن لن نجد أسماء مصرية في التوراة، إلا بين اللاويين، وقد ظل هؤلاء على وفائهم لذكرى قائدهم، وحافظوا على ميراثه، ولكنهم مع الاندماج في البدو الآخرين بالتمازج الذي حدث، كانوا أقلية، لكنها أقلية فاعلة؛ لأنهم كانوا الأكثر علما وتحضرا، «وقد صمم هؤلاء المصريون على التمسك بمصر، فظلوا يركزون على قصة الخروج من مصر، للتذكير بالأصل المصري، كما ظلوا يتمسكون بشخص «موسى» المصري الحقيقي، وبعادة الختان المصرية»، بينما على الجانب الآخر، كان الباقون يخترعون «موسى»، الوهمي السيناوي المدياني القادشي، لكنهم لم يتمكنوا من التخلي عن عادة الختان، لكن حتى ينزعوا عنها أصلها المصري، قاموا ينسبونها للآباء الأوائل من زمن البطرك إبراهيم، فجعلوه يختتن في التسعين من عمره! في علامة ميلودرامية رمزية، على تأخر دخول الختان إلى بني إسرائيل.
وهناك علامات يسوقها «فرويد»، تشير إلى تلك الأحداث الافتراضية، «فالكتاب المقدس يميل باستمرار لنفي أن «يهوه» كان إلها أجنبيا»، وهو أمر غريب، فهل كان ثمة شك في ذلك؟ إن «يهوه» يدون بيد أنبيائه مزاعمه بالتوراة، ويؤكد أنه كان إله البطاركة القدامى «إبراهيم» و«إسحاق» و«يعقوب»، رغم المعلوم أنهم كانوا يعبدون إلها ساميا كنعانيا باسم «إيل».
ثم علامة أخرى تتمثل في أمر عجيب إلى حد بعيد، فالشعوب جميعا تختار آلهتها، «لكن إله التوراة هو الوحيد الذي يختار شعبا بعينه ليتأله عليه». إن تلك الواقعة الفريدة في التاريخ الديني، تشير إلى ما حدث، فموسى قد اختار هؤلاء ومنحهم ديانته، وجعلهم بذلك شعبه، وهو ما يفسر الاصطلاح المتواتر «الشعب المختار»؟
مع علامات أخرى تشير إلى ما حدث، «فقصة ردة الشعب وعبادته العجل الذهبي، توضح خلافا حادا، أدى إلى قتل «موسى»، وارتداد الشعب عن ديانة «آتون»، كما نجد في حادثة تحطيم «موسى» لألواح الشريعة، رمزا آخر لنهاية ديانته»، وليس كما فسرتها التوراة بسذاجة شديدة، فقالت: إن «موسى» كسر الألواح نتيجة لغضبه، وهي المكتوبة بيد الله نفسه، ظل يكتب فيها أربعين يوما على الحجرين! (خروج، 32).
45
وجاء وقت ندم فيه أولئك الهمج على قتل قائدهم، وسعوا إلى نسيان جريمتهم، ولا شك أن ذلك تم أثناء اجتماع «قادش»، الذي عقد بين كافة الأطراف، ولا جدال أنه تم حوالي عام 1215ق.م. حسبما يرى فرويد،
46
وفي تسوية «قادش» تحزب اللاويون لسيدهم القتيل، وفي العصور التالية انصهر اللاويون المصريون في الشعب؛ ولأنهم الكهنة، فقد حافظوا على المدون القديم المقدس، ونقحوه في الاتجاه المناسب بمرور الزمن، على أيدي مجموعة أنبياء، عادوا للتبشير بالموسوية المصرية التوحيدية القديمة.
47
ويفترض «فرويد» أن «موسى» الأمير المصري زمن «إخناتون»، كان يحمل اسما من الأسماء المركبة، وتحمل في شقها الثاني اللفظ «موسى»، وليكن افتراضا «تحوت موسى = تحتمس»، لكنه كان بعكس قريبة الملك إخناتون - العكوف الخيال - رجلا ذا عزم، ولعل عزمه هذا هو الذي جعله يفرض شرائع أشد صرامة من إخناتون، وهو الأمر الذي لم يتحمله البدو الهمج؛ مما أدى إلى ثورتهم عليه بعد ذلك وقتلوه في سيناء،
48
ثم انصهروا بعد ذلك في قبائل أخرى نسيبة، كانت تقطن سيناء، وفي قادش اعتنقوا - بتأثير المديانيين - ديانة إله البراكين السينائي «يهوه»،
49
وإن كان «فرويد» يبدي شكا شديدا في أن يكون اسم «إسرائيل» خاصا بأي من تلك القبائل، بقدر ما كان اسما لشعب من الشعوب، التي اندمجوا فيها بعد دخولهم إلى فلسطين ، حيث كان يعبد هناك كبير الأرباب السامي «إيل»، الذي ينسب إليه اسم إسرائيل.
50
والمسألة السيكولوجية في كل تلك الأحداث الافتراضية، التي قدمها «فرويد»، دون أن تستند إلى وقائع تاريخية مدروسة دراسة ضافية، هي تلك التي يلخصها في عقدة «أوديب»، التي يقتل الابن فيها أباه، وهنا يقول: «نظرا لأنه لم يعد هناك مجال ليحتل الحقد المميت على الأب، مكانه في إطار الدين الموسوي، فقد كان رد الفعل الجامح الوحيد، الذي يمكن أن يعلن عن نفسه، هو الشعور بالذنب، الذي ما وني الأنبياء يغذونه ويؤججون جذوته، والذي سرعان ما أمسى جزءا لا يتجزأ من النظام الديني، كان له أيضا دافع سطحي؛ فقد مر الشعب بأوقات عصيبة، ولم تأخذ الآمال التي كان قد علقها على الله طريقها السريع إلى التنفيذ، وبات من الصعب على الشعب، أن يثابر على إيمانه بأنه الشعب المختار، وحتى لا يتخلى عن هذه السعادة، كان لا بد أن يأتي شعور بالذنب، ووعي بالخطيئة التي اقترفت، لتبرئة ساحة الإله في الوقت المناسب، وبالفعل إن الرب لم يعاقب الشعب، إلا لأنه انتهك حرمة شريعته.»
51
إن الشعب قد عوقب لأنه قتل أباه موسى وهجر ديانته؛ لذلك كانت العودة إلى المأثور المصري - مع الشعور بالذنب - بعد ذلك بقرون، هي مما صنع من عقيدة هذا الشعب فيما بعد نموذجا للتوحيد.
والمشكلة الكبرى في نظرية «فرويد» هنا، أنها بالكامل مجرد فروض وتصورات، لم يحاول أن يعثر لها على أي سند وثائقي حقيقي، أو يجمع لها من القرائن الموضوعية ما يدعمها، رغم أنها تتسم بروح القبول والاتساق، بحيث لا يصح استبعادها كلية، بل إننا نرى أنه لو أنهك «فرويد» نفسه، بالبحث في الجانب التاريخي، لقدم لنا دعما فريدا لنظريته، لكنه كان لا بد سيقوم ببعض التعديلات فيها، وهو ما سنقوم به، وسيشغل جزءا كبيرا من بحثنا هذا. (4) نظريات الخروج زمن مرنبتاح بن رمسيس الثاني
تعد نظرية الخروج، التي تقول: إن اضطهاد الإسرائيليين في مصر، قد حدث زمن الفرعون عاشق المعمار «رعمسيس الثاني»، وإنه هو من استعبدهم في أعماله الإنشائية الواسعة، وإن الخروج قد حدث زمن ولده «مرنبتاح»؛ من أشهر النظريات القائمة اليوم، وأحوزها للثقة بين المصرولوجيين، كذلك بين علماء التوراتيات، وقد اتفقت معظم الآراء اليوم حولها، وسلم بها كبراؤهم أمثال: «ألبرايت» و«نافيل» و«بتري» و«سايس» و«بروجش» و«بيير مونتييه» إلخ، وهم الكبار الأعلام في علوم المصريات.
وفي تسليم «نافيل» يقول: «إني لا أزال مسلما بوجهة النظر التي أدلى بها ليبسيوس، عن موضوع خروج بني إسرائيل، وهي التي يقتفيها معظم الأثريين: أن مضطهد اليهود هو رعمسيس الثاني، الذي كان حكمه الطويل، بداية انحلال الإمبراطورية المصرية، وأن الفرعون الذي ينسب إليه خروج بني إسرائيل، هو مرنبتاح».
52
أما «سايس» فيقول: «إن الآثار المصرية تحصر هذه الحادثة، في حكم الفرعون مرنبتاح، بورقة أنستاسي السادسة، وتشمل خطابا من كاتب الملك مرنبتاح جاء فيه:
إن بعض بدو إيتام، قد سمح لهم على حسب التعليمات التي لديه، أن يجتازوا حصن إقليم سكوت، ليتاح لهم رعي ماشيتهم بالقرب من بلدة بتوم، في ضياع الفرعون العظيم.»
53 (يجدر هنا التنويه - بعد مراجعة ما قال سايس - أن الكلمة «إيتام» في تلك الترجمة، هي في الأصل النصي آدوم، وأن الكلمة «بدو» هي في النص الأصلي شاسو، فهي في الأصل: «إن بعض شاسو آدوم».)
ولما كان هذا الخطاب مؤرخا بالسنة الثامنة من حكم «مرنبتاح»، فإن الأمر يعني أن هؤلاء البدو كانوا خارج حدود مصر حينذاك، و«سايس» يراهم هم عين الإسرائيليين، ومن ثم يفترض أنهم خرجوا من مصر قبل التاريخ، وعادوا يتطفلون القوت مرة أخرى،
54
أما «أولبرايت» فيجزم بحدوث الخروج زمن «رعمسيس الثاني» نفسه، فيقول: إن لوح «مرنبتاح» المسمى بلوح إسرائيل، مؤرخ بعام 1229ق.م. ويقول فيه مرنبتاح إنه ضرب إسرائيل، فيعني ذلك أنهم خرجوا قبل تدوين اللوح، ومن ثم يحدد لخروج الإسرائيليين من مصر عام 1290ق.م. وأنهم احتلوا فلسطين عام 1260ق.م.
وهكذا، يظل لوح «مرنبتاح» فيصلا وقاسما مشتركا بين المصرولوجيين، في تحديد زمن خروج الإسرائيليين من مصر، ويميل أغلبهم إلى أن الحدث قد وقع في النصف الثاني من القرن الثالث عشر قبل الميلاد، ولما كان «رعمسيس الثاني» فرعونا قويا مقتدرا، بلغت مصر في زمنه شأوا بعيدا في قوتها، فإن مسألة الخروج في زمانه لا بد سيشوبها شك كبير، خاصة مع إفادة الكتاب المقدس التي ربطت بمصر، والتي تقول: «وحدث في تلك الأيام أن ملك مصر مات» (خروج، 3)، ومن ثم كان الاستنتاج أن «موسى» عاد إلى مصر من مهربه المدياني، بعد موت «رعمسيس الثاني»، الذي يجب أن يكون في تلك الحال هو فرعون الاضطهاد، ولما كانت مصر قد تعرضت في عهد ولده «مرنبتاح»، لعدة هجمات متتابعة، جاءت متزامنة، فهاجمها الليبيون (التحنو) من الغرب، وهاجمتها شعوب البحر من الشمال والشرق، فإن انتصارات مرنبتاح استنزفت قوى مصر، لم تستطع معه استعادة عافيتها، إلا بعد ذلك بزمان، وأثناء فترة الضعف تلك تحديدا، استغل بنو إسرائيل الفرصة، وانتزعوا حريتهم من العبودية، وهربوا خارج البلاد.
الفصل الثالث
جغرافية الخروج
(1) رأي «دي بوا-إيميه»
حتى الزمن الذي أخرج فيه «دي بوا إيميه» نظريته، ضمن كتاب «وصف مصر»، كانت نظرية «يوسفيوس» ومعاصريه، هي النظرية السائدة في الأوساط العلمية والكهنوتية، وهي النظرية التي تقول: إن الإسرائيليين هم ذات عين الهكسوس، ومن ثم قام «دي بوا إيميه» بتفسير بعض الغوامض، وإضافة بعض المسائل الجوهرية، حيث اعتبر «الهكسوس والإسرائيليين فصيلين مختلفين، وإن كانا من أصل عرقي واحد، وربما تجمعهما ثقافة مشتركة، لكن الإسرائيليين وصلوا مصر متأخرين عن الهكسوس، حيث لحقوا بهم، وعاشوا في كنفهم.»
وبداية وقف «دي بوا إيميه» مع الإشارات المذكورة لدى المؤرخين، عن إصابة الإسرائيليين - في مصر - بوباء مرض جلدي تفشى بينهم، وأن ذلك المرض كان سبب طردهم من مصر، منعا لانتشاره بين المصريين، ليقول إن انتشار وباء البرص أو الجذام، كان عادة ما ينتشر بين البدو، لجهلهم بمبادئ النظافة والتطهر مع ندرة الماء، وطول عشرتهم للحيوان، مع جهلهم بفروض النظافة، التي جعلتها الديانة المصرية، واحدة من طقوس الإيمان الملزم للعبادة، ومن ثم أطلق المصريون على مرض البرص «مرض الرعاة»، كما أطلقوا على الرعاة أنفسهم لقب «الأنجاس»، وكانوا يشيرون لغزاة بلادهم من الهكسوس بلقب المجذومين والأنجاس.
وقد «لحظنا من جانبنا» في روايات التوراة، نصوصا وحكايات تشير لانتشار مرض جلدي بالفعل بين الإسرائيليين، والمدقق في تلك الروايات سيجد مبررا قويا لانتشار تلك الفكرة في كتب المؤرخين القدامى، وأول تلك الإشارات توضح لنا مدى تقزز المصريين من ذلك الجنس ونفورهم الشديد منه، وهو ما نجده في قصة «يوسف» عندما جاءه إخوته إلى مصر، يمتارون الحنطة زمن المجاعة، فقام بإعداد وليمة ضيافة لهم، ويشرح النص ذلك الموقف بقوله:
وقال: قدموا طعاما، فقدموا له وحده، ولهم وحدهم، وللمصريين الآكلين عنده وحدهم؛ لأن المصريين لا يقدرون أن يأكلوا طعاما مع العبرانيين «لأنه رجس عند المصريين». (تكوين، 43: 31-32)
وعندما عاد إخوة يوسف إلى مصر مع أبيهم، ليستقروا فيها مع يوسف، نبههم يوسف إلى أمر هام، يجب أن يضعوه باعتبارهم، وذلك في قوله لهم:
فيكون إذا دعاكم فرعون وقال: ما صناعتكم؟ أن تقولوا: عبيدك «أهل مواش»، منذ صبانا وإلى الآن، نحن وآباؤنا جميعا، لكي تسكنوا في أرض «جاسان»؛ لأن كل راعي غنم «رجس» للمصريين. (تكوين، 46: 33- 34)
ومع المزيد من التدقيق، يمكنك أن تجد إشارات واضحة، في مناطق متقطعة من التوراة، تشير إلى وباء المرض الجلدي، البرص المصحوب بالقرح وبياض الجلد، ولمعانه وظهور نتوءات فيه وبثور، وهو ما تظهره التوراة بداية، كما لو كان معجزة خاصة بموسى في النص.
ثم قال له الرب أيضا: أدخل يدك في عبك، فأدخل يده في عبه ثم أخرجها، وإذا يده «برصاء» مثل الثلج. (خروج، 4: 6)
وأحيانا كان يظهر الوباء، كما لو كان عقابا من رب إسرائيل، على آثام بعينها، وهو ما نجده في رواية تقول:
وتكلمت مريم وهارون على موسى بسبب المرأة الكوشية التي اتخذها؛ لأنه كان قد اتخذ امرأة كوشية ... فحمي غضب الرب عليها ومضى، فلما ارتفعت السحابة على الخيمة، «إذا مريم برصاء كالثلج» فالتفت هارون إلى مريم، وإذا هي برصاء. (عدد، 12: 1، 9، 10)
بينما هناك نصوص أخرى، تحدثنا عن الأمر كوباء، متفش بين الإسرائيليين، فبعد ابتلاع الأرض لقورح (قارون إسلاميا) وجماعته، تقول التوراة:
فتذمر كل جماعة بني إسرائيل في الغد على موسى وهارون قائلين: أنتما قتلتما شعب الرب ... فكلم الرب موسى قائلا: اطلعا من وسط هذه الجماعة، فإني أفنيهم بلحظة، فخرا على وجهيهما، ثم قال موسى لهارون: خذ المجمرة واجعل فيها نارا على المذبح، وضع بخورا، واذهب بها مسرعا إلى الجماعة، وكفر بها عنهم؛ لأن السخط قد خرج من قبل الرب، «قد ابتدأ الوباء»؛ فأخذ هارون كما قال موسى، وركض إلى وسط الجماعة، «وإذا الوباء قد ابتدأ في الشعب»، فوضع البخور وكفر عن الشعب، ووقف بين الموتى والأحياء فامتنع الوباء، «فكان الذين ماتوا بالوباء أربعة عشر ألفا وسبعمائة». (عدد، 16: 41-49)
وهناك نص آخر يحدثنا عن حرب بين الإسرائيليين، وبين أنسبائهم المديانيين، وخالف فيها الإسرائيليون تعاليم الحرب، التي تأمر بالإبادة التامة والشاملة للعدو، حتى الحيوان والنبات والأطفال والنساء، باصطلاح «حرم» أي «إبادة تامة»، ولما خالف بنو إسرائيل ذلك، واهتموا بسبي الغنائم بدلا من حرمها، غضب عليهم الرب وضربهم بالوباء مرة أخرى، وهو ما يقول نصه:
وكلم الرب موسى قائلا: «انتقم نقمة لبني إسرائيل من المديانيين ... فتجندوا على مديان كما أمر الرب، وقتلوا كل ذكر ... وسبى بنو إسرائيل نساء مديان وأطفالهم، ونهبوا جميع بهائمهم، وجميع مواشيهم، وكل أملاكهم، وأحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار؛ فسخط موسى على وكلاء الجيش، وقال موسى: هل أبقيتم كل أنثى حية؟ ... خيانة للرب ... فكان الوباء في جماعة الرب، فالآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال وكل امرأة». (عدد، 31: 1، 7، 9، 10، 14، 15، 16، 17)
أما تهديدات الرب لشعبه باستمرار، لردعه عن العصيان، فكانت:
يلصق بك الرب «الوباء» حتى يبيدك (تثنية، 28: 21).
يضربك الرب «بقرحة مصر، وبالبواسير، والجرب والحكة، حتى لا تستطيع الشفاء» (تثنية، 28: 37).
يضربك الرب «بقرح خبيث» على الركبتين وعلى الساقين، حتى لا تستطيع الشفاء، من أسفل قدميك إلى قمة رأسك. (تثنية، 28: 35)
وفي مواضع أخرى نجد الوباء الجلدي إصابة جماعية، لا علاقة لها بغضب يهوه أو رضاه، فيغص سفر اللاويين بدءا من الإصحاح الثالث عشر، بالتعليمات التي يجب اتباعها مع المصابين بأمراض الجلد، والتي تصنف ضمن الجذام أو البرص، ومن أمثلتها فقط وليس حصرا:
إذا كان إنسان في جلد جسده ناتئ أو قوباء أو لمعة، تصير في جلد جسده ضربة «برص» ... في الضربة شعر قد ابيض، ومنظر الضربة أعمق من جلد جسده، فهي ضربة برص، فمتى رآه الكاهن يحكم بنجاسته ... إنها برص. (لاويين، 13: 2، 8، 3)
ويظل السفر يحدد الأعراض وأساليب عزل المرضى، ومعاملة البيوت والخيام المنكوبة، بعرض واف تفصيلي يثير التقزز، حتى نهاية الإصحاح الخامس عشر من سفر اللاويين، بطول ثلاثة إصحاحات كاملة ، رغم وعد الرب لشعبه إن آمن به وخرج مع موسى من مصر وأطاعه، وعدا يظهر في قول الرب: «وأزيل «المرض» من بينكم» (خروج، 23: 25).
ومثل هذا السرد الطويل، يبرر قول «آبيون» النحوي السكندري، إنهم «طردوا من مصر طردا، ولم يهربوا، ولم تطاردهم جيوش مصر، وذلك خشية تفشي الوباء» في البلاد، وهو ما وجدناه في التوراة، يصادق على قول آبيون تصديقا، واضحا لا التباس فيه، إذ يقول: «فقال الرب لموسى: الآن تنظر ما أنا فاعله بفرعون، فإنه بيد قوية يطلقهم، وبيد قوية يطردهم من أرضه» (خروج، 6: 1).
ونعود إلى «دي بوا إيميه»
يستند «دي بوا إيميه» إلى الروايات المنقولة عن «مانيتو» فيقول: إنه بعد غزو الهكسوس لمصر، واحتلالهم لمنف، لاذ ملوك مصر الشرعيون بصعيد مصر، وكونوا هناك دولة مستقلة، ثم قام أحدهم وهو ما ينقل اسمه عن القدماء في صيغة «أليسفرا جموتوفيس»، بتجريد جيوشه على منف بمساعدة الإثيوبيين والمصريين الثائرين، وأحرز انتصارات هائلة على الهكسوس العرب؟! واضطرهم إلى التقهقر شمالا حتى تحصنوا في مدينة حواريس.
ونظن من جانبنا أن «أليسفرا جمو توفيس»، هذا ليس سوى «كامس»، من «جامس» أو «جوميس»، وهو المعروف في المدونات كأول ملك مظفر حارب الهكسوس، وسجل عليهم انتصارات، ويؤيد ذلك أن الرواية التي بين أيدينا هنا، تقول إن أخاه هو الفرعون الذي ذكره يوسفيوس باسم تثموزيس، والذي ذكره يوسابيوس ويوليوس الأفريقي باسم «أحمس»، حيث كشفت علوم المصريات بعد ذلك، أن أحمس كان ابنا لكامس هذا مع الإشارة إلى كونه الفرعون الذي حاصر حواريس، ولما طال الحصار وافق على خروجهم مع أملاكهم إلى بلاد الشام، ولما خرج هؤلاء من مصر، تحاشوا عبور بادية الشام خشية بأس الآشوريين، فدخلوا فلسطين من جنوبها، واستقروا في جبال اليهودية «يهوذا»، حيث أسسوا هناك مدينة أورشليم، وهو خط سير يخالف بالمرة خط السير الذي رصدته التوراة للخروج الإسرائيلي من مصر إلى سيناء إلى شرقي الأردن، ثم العبور إلى أريحا من الشرق إلى الغرب، عبر نهر الأردن. «ويتابع دي بوا إيميه رسم السيناريو الذي ارتآه، فيتابع القول إن الإسرائيليين قد واصلوا البقاء في مصر، وجرت عليهم أقدار المهزومين»، وانسحبت عليهم كراهية المصريين للرعاة المحتلين، وأخذ المصريون يشيرون إليهم بالأنجاس والمجذومين، لكنهم عاشوا في مصر، يتمتعون على تخومها الشرقية بقدر من الحرية، حتى عصر الملك «آمنحتب»، دون تحديد ترتيبه بين الملوك المناتحة، وهو والد الملك الشهير «سيزوستريس»، ودفع كهان مصر ملكهم «آمنحتب» إلى التقرب للآلهة باضطهاد الرعاة، فجمعهم ودفع بهم إلى الأعمال المعمارية الشاقة.
وبعد فترة دفعت بعض المخاوف الأسطورية والمتطيرة الملك «آمنحتب»، ليسمح لهؤلاء المستعبدين بالانسحاب إلى أرض جاسان، وهناك اختاروا لهم رئيسا مصريا «كان من كهنة هليوبوليس يدعى «أوزرسيف»، وكان قد نفي معهم مع عدد من الكهنة المصريين ومصريين آخرين، بسبب معتقداتهم الدينية، المخالفة لعقائد البلاد، كما تبعهم عدد آخر من المصريين الفارين من الاضطهاد» أو يخشون وقوع اضطهادات جديدة، لاعتناقهم ذات العقائد المخالفة، وقد أعطى «أوزرسيف» لهذه الألوف من المصريين المنشقين، وللرعاة الإسرائيليين «ديانة خاصة، كانت بالضرورة خليطا من ديانتي الشعبين»، ثم أمرهم «أوزرسيف» بألا يتزوجوا إلا من داخل جماعتهم الجديدة، لكي يحول دون أي انحراف أو تصالح مع المصريين، كما أباح لأتباعه أكل الحيوانات التي كانت مقدسة عند المصريين، كما أمرهم بتدمير ما يستطيعون من آلهة مصر.
وكانت النتيجة حنقا شديدا من المصريين، والرد بقهر أشد، كان لا بد معه أن يبحث هؤلاء لأنفسهم عن موطن جديد، ويذهب «دي بوا إيميه» إلى أنه «في تلك الفترة» نشأت مستعمرات جديدة في بلاد اليونان، وأن مؤسسيها كانوا فريقا من هؤلاء الهاربين من مصر، وأن «موسى» قد ولد في عهد «آمنحتب» هذا، وأن أول الاضطهادات تمت في عهد هذا الفرعون.
وكان للخوف من فرعون، والرغبة في الانتقام «دافعا لأوزرسيف ليطلب من هكسوس أورشليم العودة، ليزخفوا معا لفتح مصر»، فاستجابوا له وحملوا على مصر، «ولم يكن ثمة ضرب من ضروب القسوة لم يرتكبوه، كما يقول مانيتون، ولم يكتفوا بإحراق المدن والكفور وتحطيم صور الآلهة، إنما قتلوا حتى الحيوانات المقدسة، وأرغموا الكهنة المصريين والعرافين أن يكونوا هم ذابحيها ، ثم أطلقوهم بعد ذلك عراة كما ولدتهم أمهاتهم.»
وانسحب «آمنحتب» إلى ما وراء الشلالات جنوبا، وثبت هناك مدعوما من الإثيوبيين، لمدة ثلاثة عشر عاما يناوئ الرعاة، وفي النهاية تمكن من الهجوم وهزيمة «أوزرسيف»، ومطاردته مع رجاله حتى سوريا.
ولا جدال عند «دي بوا إيميه» أن «أوزرسيف» هذا هو ذاته «موسى»، لكنه يفترض أن جبال اليهودية بفلسطين، كان قد تم احتلالها من قبائل أخرى، أثناء تواجد الجميع في حملتهم على مصر، وذلك لتفسير الحروب التي خاضها الإسرائيليون الخارجون من مصر، ضد هذه القبائل لدخول فلسطين.
لكن مرة أخرى يقع عدد كبير من الرعاة في الأسر المصري، بعد أن هزمهم «آمنحتب»، لتفرض عليهم أقسى درجات العبودية، وكان أكثرهم من القبائل الإسرائيلية، وقد ظلوا كذلك حتى عهد الفرعون الشهير «سيزوستريس»، ومن جانبنا (المؤلف) نوضح أن اسم «سيزوستريس» كعلم على فرعون مصري مشهور، نجهل أول من أطلقه من اليونانيين على فرعون مصري، إعجابا بشخصه وبأعماله وبزمانه، لكن اليونانيين من بعده، أكدوا أن المقصود بهذا الاسم فرعون قوي حاز شهرة عظيمة، لجئوا إلى بلاده، وعملوا مرتزقة في جيشه؛ لثراء مصر في زمانه. ويميل الباحثون اليوم إلى احتسابه الفرعون «رعمسيس الثاني»، أعظم فراعنة الأسرة التاسعة عشرة، وصاحب أعظم وأكثف الأعمال الإنشائية، وصاحب بطولات عسكرية كبرى، حدثت إبان صراعه مع دول الشرق القديم، ويذهب الباحثون إلى أن لقب «سيزوستريس» ربما كان ناتجا عن أحد الألقاب الكثيرة لرعمسيس الثاني، ومنها «مرى آمن أوسر ماعة رع»، و«سنب أن رع » و«ميامو رع ميسو»، الذي ميزه عن بقية الرعامسة، فقيل عنه «رعمسيس ميامون»، و«سيزو أزيس»، ثم هناك لقب آخر هو «سماره تبن رع»، ومعناه القوي الذي اختاره «رع»،
1
ومن هذا اللقب أطلق على مدينته المشهورة بشمال الدلتا اسم مدينة «سمارة»، إضافة إلى الاسم «بي رعمسه» أو «رعمسيس»، ومن ألقابه الأخرى «سيسي رع»؛ لذلك أطلق على ذات المدينة اسم «سمارة سيسي»، أي القوية التي لرعمسيس.
وقد اهتم «هيرودوت» في تاريخه بالفرعون سيزوستريس المظنون عند المؤرخين المحدثين أنه رعمسيس الثاني ، وركز على الأعمدة التي كان يقيمها تسجيلا لانتصاراته في البلاد المفتوحة، وكان ينقش عليها اسمه ووطنه وكيف أخضع ذلك المكان لسطوته، وهي الأعمدة التي يسميها المصرولوجيون: أنصاب النصر، وأحجار الحدود، لتبين إلى أي مدى وصلت حدود الملك.
ويشير «هيرودوت» إلى أن فتوحاته وصلت أقصى جنوب البحر الإريتري (الأحمر) جنوبا، ثم يعقب بالقول: «ومع أن أغلب الأعمدة التي أقامها ملك مصر سيزوستريس في الأقطار اختفت، ولم يبق منها شيء بعد، إلا أني لحظت بنفسي أن بعضها ما زال موجودا بفلسطين السورية، وعليها النقوش التي تحدثت عنها.»
2
وتلك الأعمدة لا بد أن تذكرنا بوصف القرآن الكريم لفرعون موسى بأنه
وفرعون ذي الأوتاد .
ولأن «سيزوستريس» عرفه اليونان بشدة البأس، فقد رأى «دي بوا إيميه»
3
أنه من الصعب أن ننسب إلى عهده الكوارث التي لحقت بمصر في حديث التوراة، ومن هنا يرى أن تلك الأحداث التي انتهت بالخروج، يجب نسبتها لعهد ولده الذي أسماه «هيرودت» باسم «فيرون»، وأطلق عليه «ديودور» اسم «سيزوستريس الثاني»، ولا شك عند «دي بوا إيميه» أن «فيرون» لم يرث فضائل أبيه ومواهبه، حيث يصوره التاريخ أميرا ضعيفا متطيرا يؤمن بالخرافات، مع ما حدث في عهده من فيضان النيل إلى حد التدمير، مع ما صحب ذلك من عواصف وأعاصير وسيول؛ مما أقنعه بأن ذلك غضب إلهي؛ وهو ما أدى به إلى إطلاق الأسرى من مصر.
وبالمراجعة وراء «دي بوا إيميه» رجعنا إلى «هيرودت»، فوجدنا «فيرون» عنده مذكورا باسم «فيروس» ولا بأس فهما واحدا بحذف ال «ن»، وإضافة التصريف الإسمي اليوناني المعتاد، لكن المثير في المسألة أن «فيرون» هنا، ستنطق أيضا نطقا مصريا وعبرانيا صحيحا باللفظ «فرعون»، ويبدو أنه يعود بدوره إلى أحد الألقاب المصرية الخاصة بهذا الفرعون، وأنه اسم خاص تماما بفرد بعينه، وهو ما يبدو لنا الأصل في انسحاب اللقب على بقية حكام مصر «الفراعنة»، لكن إذا كان هذا الفرض صحيحا، فإنه كان هناك فرعون واحد باسم «فرعون»، وأنه يبدأ من لحظة تاريخية أولى، كانت مع بني إسرائيل زمن الخروج ، ويعاضد ذلك تماما الفهم الديني المتواتر عن الفرعون زمن موسى، كما لو كان لمصر طوال تاريخها فرعون واحد، هو ذاك الذي غرق في بحر سوف، والأمر بهذا الشكل يستدعي إعادة النظر في التخريج القائل إن كلمة «فرعون» مأخوذة من كلمة «برعو» المصرية القديمة، والتي تعني السور العظيم، أو ربما تعود التسمية للسببين معا.
ومن ثم، فقد احتسب «دي بوا إيميه» أن «سيزوستريس» المظنون الآن أنه «رعمسيس الثاني» ابن للفرعون «آمنحتب»، سيرا مع «مانيتو» بإسقاط أسرة العمارنة، لكن المهم أنه رتب الأمر حتى إنه كشف عن نظرية الخروج زمن «مرنبتاح»، الذي هو عنده «فيرون»، قبل فك رموز الهيروغليفية، ومعرفة كشوف أركيولوجية أدت إليها، وأهم تلك الكشوف ذلك اللوح الذي تركه لنا «مرنبتاح ابن رعمسيس الثاني»، وذكر فيه للمرة الأولى والوحيدة واليتيمة اسم إسرائيل، في تاريخ مصر طولا وعرضا، وقد جاء الاسم في ذلك اللوح ضمن انتصاراته على عدد من الشعوب، واللوح لون من اللوحات التذكارية، مصنوع من الجرانيت الأسود، ويعرف الآن في المتحف المصري بلوح إسرائيل، وكان قد أقيم أصلا في معبده الجنائزي، ثم نقل إلى المتحف المصري حيث يحفظ الآن، كما أقيم له مثيل في الكرنك، وجدت منه قطعة هناك، أما الفقرة التي تعني موضوعا هنا في ذلك اللوح، فهي تلك التي تقول:
يقول الرؤساء وهم منطرحون أرضا:
السلام
ولم يعد واحد من بين قبائل البدو «التسعة أفواس»
يرفع رأسه،
والتحنو قد خربت،
وبلاد خاتي أصبحت مسالمة،
وكنعان أسرت مع كل خبيث،
وأزيلت عسقلان،
وجازر قبض عليها،
وينو عام أصبحت لا شيء، «وإسرائيل» خربت وليس لها بذر،
وخارو أصبحت أرملة لمصر.
4
وتبعا لهذا اللوح، بعد الكشف عنه، أعاد الباحثون النظر في كل ما انتهوا إليه قبلا، وتم رفض فكرة أن بني إسرائيل هم الهكسوس، حيث تم طرد الهكسوس من مصر زمن أحمس حوالي 1575-1550ق.م. وهو آخر زمن الأسرة السابعة عشرة وبداية الأسرة الثامنة عشرة، وهو تاريخ يسبق زمن «مرنبتاح» 1225-1215ق.م. بما يزيد على ثلاثة قرون كاملة، ومن ثم ذهب بعض الباحثين إلى القول: إن بني إسرائيل هم بقايا أسرى هكسوس، تخلفوا في مصر طوال تلك السنين، حتى خرجوا زمن «مرنبتاح»، وبعضهم ذهب بحدث الدخول مذاهب شتى، لكن الأغلبية اتجهوا إلى القول: إن «رعمسيس الثاني» كان هو فرعون الاضطهاد، وأن ابنه «مرنبتاح» هو فرعون الخروج.
ويبدو أن «مانيتو» هو الواضع الحقيقي لأصول تلك النظرية، حيث قال: إن ثورة أسرى مدينة حواريس بقيادة الكاهن المصري «أوزرسيف»، قد حدثت زمن الملك «آمنحتب»، الذي طاردهم مع ولده الذي حمل عند «مانيتو» أسماء ثلاثة متضاربة هي: «هورامبيس/سيتوس/رمسيس»، في قول غامض وملتبس يقول: إن ابن «آمنحتب» كان اسمه: «سيتوس»، وكان يسمى أيضا «رمسيس» من أبيه «هورامبيس».
وقد اتضح لنا أن «مانيتو» كان معذورا تماما في ذلك اللبس، فالرجل قد اعتمد على المدونات المصرية القديمة، التي كانت موجودة حتى زمانه، وقد علمنا مما بقي من قوائم ملكية، إسقاطها جميعا لفترة أسرة العمارنة، وهي فترة حكم الملك «آمنحتب الرابع/إخناتون» وأتباعه الثلاثة المباشرين، وعدم ذكرهم أو الإشارة إليهم، وعندما تم الكشف عنهم بعد ذلك، سواء في حفائر تل العمارنة، أو في مقبرة توت عنخ آمون، كان الأمر كشفا مدويا، أعيد بموجبه إعادة ترتيب قوائم الملوك، وإدخال أسرة العمارنة في دائرة الضوء لأول مرة، ليتم إدراجها مباشرة بعد حكم الملك «آمنحتب الثالث»، في الفراغ بينه وبين حور محب أو «هورامبيس».
ومعلوم أن الباحثين قد برروا إسقاط المدونات المصرية لأسرة العمارنة، بالهرطقة الدينية التي قادها «إخناتون»، وهاجم بموجبها كل آلهة البلاد، وطاردها لصالح عقيدته في إلهه الأوحد «آتون»، مع تعصبه الشديد ومطاردته للآلهة الأخرى، مع فرض عقيدته بالقهر، ومن ثم اعتبره المصريون مارقا دنسا، هو وأسرته لا يصح ذكرهم، ووصمة عار يجب تناسيها ومحوها تماما من ذاكرة التاريخ، بالضبط كما فعلوا مع فترة الاحتلال الهكسوسي، التي أسقطت تماما ولم تدخل في المدون التاريخي المصري القديم، وظلت دوما فجوة نحاول ملأها بالنتف التي يمكن العثور عليها، من آثار الهكسوس أنفسهم، أو من أصحاب التواريخ القديمة مثل «مانيتو»، أو من بردية تشكل حالة خاصة مثل بردية تورين، ومن ثم أسقطت من قوائم مصر أسرة العمارنة كاملة، «فكانت القوائم الملكية تقفز مباشرة من زمن «آمنحتب الثالث»، منهية به الأسرة الثامنة عشرة، إلى «حور محب» مؤسس الأسرة التاسعة عشر، الذي قضى تماما على بقايا عبادة «آتون» الهرطقية».
ولما كان اسم «حور محب» باللسان اليوناني هو «هورامبيس»، فقد سجلها «مانيتو» كذلك، معتبرا إياه ابنا لآمنحتب، وأبا لمشاهير الأسرة التاسعة عشرة «رعمسيس الأول، ستي الأول، رعمسيس الثاني، مرنبتاح ... إلخ».
وعليه فلا جدال أن «آمنحتب» المقصود عند «مانيتو» هو «آمنحتب الثالث» قطعا وتحديدا، ولم يكن أمام «مانيتو» سوى احتساب «هوارمبيس/حور محب» و«رمسيس الأول» و«سيتوس/ستي الأول» و«رمسيس، رعمسيس الثاني» أبناء مباشرين للملك «آمنحتب الثالث»، أو أسماء متعددة لابن واحد لذلك الفرعون، لكنه أبدى حيرته لنا في قوله إن «سيتوس» هو «رمسيس» من أبيه «هورامبيس»، بحيث بدا متشككا ما بين وجوب نسبة «رعمسيس» إلى «آمنحتب الثالث» آخر الأسرة الثامنة عشرة، وبين وجوب نسبته إلى «حور محب» مؤسس الأسرة التاسعة عشرة.
ومن بعد، وبمرور الوقت، تدعمت نظرية «مانيتو» لكن المؤرخين استبعدوا معركة «آمنحتب الثالث» مع ثورة عبيد حواريس التي قادها «أوزرسيف»، ووقفوا مع من بقي منهم أسرى زمن «رعمسيس»، المفترض عند «مانيتو» ولدا لآمنحتب الثالث، ليعتبروه فرعون الاضطهاد، ويحددوا ولده «مرنبتاح» فرعونا للخروج، ومن المفيد هنا بشأن اللبس الحادث عند «مانيتو»، أن نذكر باللوحة التي شاهدناها بالكرنك للفرعون «آمنحتب الثالث»، وإلى جواره ابنه طفلا، مع تدوين اسم هذا الطفل «حور محب»!
فقد لاحظنا إبان زيارتنا للكرنك، أنه قد صورت على الواجهة الخارجية الجنوبية بقاعة الأعمدة بالصرح البحري، رحلة لمركب الإله «آمون» ومعه الملك «آمنحتب الثالث»، واقفا داخل المركب مرتين، وبصحبته شخص تمت إزالة صورته لكن عملية الإزالة تركت الأثر السابق واضحا، ولا شك أن الصورة كانت تمثل ابن «آمنحتب الثالث»، ومحل الصورة تم تدوين اسم «حور محب»، ولما كنا نعلم أن ابن «آمنحتب الثالث» هو «آمنحتب الرابع/إخناتون»، بالقطع واليقين، فلا جدال أن لوحة مثل تلك، كانت كفيلة بإقناع «مانيتو» أن «هرمبيس، حور محب»، ابن مباشر لآمنحتب الثالث، دون أن يضع بحسبانه - بالطبع - الخدعة المتمثلة في إهدار المصريين لأسرة العمارنة بكاملها، والتي تشمل الفراعنة: «إخناتون» وخلفائه على الحكم «سمنخ كارع» و«توت عنخ آمون» و«آي».
ولأن رواية مانيتو تقول بفتنة شخص اسمه أوزرسيف زمن فرعون باسم أمنوفيس/آمنحتب، فقد قام «دي بوا إيميه» بمزج ما وصله من تآريخ الكلاسيك القدماء برواية التوراة، ليضع سيناريو للأحداث مصدقا بالتوراة، وأن موسى قد ولد بين الإسرائيليين المستعبدين في مصر، وألقت به أمه في اليم زمن الفرعون آمنحتب، ليجرفه التيار إلى قصر الفرعون، فتنقذه ابنة الفرعون وتحسن إليه، وتتبناه وتأمر بتعليمه كل حكمة المصريين وعلومهم، فنشأ موسى نشأة مصرية كاملة، لكن يبدو أن تلك التي تبنته قد ماتت ففقد الحماية، ثم في لحظة غضب قتل مصريا، فطارده القصاص القانوني المصري، فهرب إلى عرب مديان بسيناء، الذين تناثروا في شبه الجزيرة، وتمركز معظمهم عند خليج العقبة، وهناك عند جبل حوريب المقدس، جبل الإله حسب نص التوراة، واصل التأمل ليضع خطة كبرى لمشروع عظيم، وعندما علم بموت الفرعون آمنحتب، قرر العودة إلى مصر، وذهب يدعو بني جلدته الإسرائيليين المستعبدين هناك، للهروب من تلك العبودية إلى آفاق الحرية، وبسبيل ذلك ابتدع للفرعون قصة مختلقة، وهي أنه مع شعبه لديهم مناسبة دينية سنوية، يذبحون فيها حيوانا مقدسا لدى المصريين؛ لذلك وحتى لا يستفزوا إيمان المصريين، فإنهم يحتاجون إلى مغادرة المدينة إلى الصحراء، لمدة ثلاثة أيام، يقيمون فيها احتفاليتهم ثم يعودون. بينما كان موسى يضمر الهروب بشعبه، كان يريد مجرد الخروج الآمن من المطاردة بتلك الحجة، وأن الأيام الثلاثة كفيلة، بقطع مسافة تجعل اللحاق بهم صعبا، عندما يكتشف المصريون الخدعة، لكن الفرعون «فيرون ابن سيزوستريس» رفض ذلك، في الوقت الذي تصادف فيه حدوث بعض الكوارث الطبيعية في مصر، فتطير الفرعون شرا، وتصوره غضبا إلهيا، بسبب عدم إطلاقه الإسرائيليين، وليس كما ذهب آخرون إلى أنه رمسيس الثاني؛ فدعا موسى وهارون وأعطاهما تصريحا بالخروج،
5
أو بحسب النص التوراتي:
فدعا (أي فيرون ابن سيزوستريس، ولاحظ أن دي بوا إيميه يرى آمنحتب هو سيزوستريس) «فدعا موسى وهارون ليلا وقال: قوموا «اخرجوا» من بين شعبي، أنتما وبنو إسرائيل جميعا، اذهبوا واعبدوا الرب كما تكلمتم، خذوا غنمكم أيضا وبقركم كما تكلمتم واذهبوا». (خروج، 12: 31، 32)
ومن «رعمسيس» مدينة الاستعباد، قادهم موسى في رحلة طويلة نحو فلسطين، عبر البوادي السينائية الكبرى، وكانت أول محطة استراحة بعد الخروج من رعمسيس باتجاه فلسطين، تلك تذكرها التوراة باسم «سكوت»، أو بنص التوراة:
فارتحل بنو إسرائيل من «رعمسيس إلى سكوت»، نحو ستمائة ألف ماش من الرجال عدا الأولاد، وصعد معهم لفيف كثير أيضا، «مع غنم وبقر ومواشي وافرة جدا». (خروج، 12: 37-38)
وبعد ذلك ارتحلوا عبر عدة محطات، حتى لحظة العبور الإعجازي من البحر، فيما ترويه التوراة قائلة:
وارتحلوا من «سكوت» ... ونزلوا في طرف البرية ... وكلم الرب موسى قائلا: كلم بني إسرائيل «أن يرجعوا وينزلوا أمام فم الحيروث، بين مجدل والبحر أمام بعل صفون» ... ومد موسى يده على البحر، فأجرى الرب البحر بريح شرقية شديدة كل الليل، وجعل الرب البحر يابسة، وانشق الماء، فدخل بنو إسرائيل وسط البحر، وتبعهم المصريون ... فقال الرب لموسى: مد يدك على البحر ليرجع الماء على المصريين، فدفع الرب المصريين في وسط البحر، «ثم ارتحل موسى بإسرائيل من بحر سوف، وخرجوا إلى برية شور». (خروج، 13: 2 و14: 21، 1، 22، 26، 27 و15: 22)
ويرى دي بوا إيميه أن أرض جاسان بمدينتيها فيثوم ورعمسيس، تقع في النهاية الشرقية لوادي طميلات، ويسمى أيضا وادي السدير، الممتد من الدلتا نحو الشرق، حتى بحيرة التمساح ثم البحيرات المرة، وأن المدينة التي خرجوا منها تقع قرب السبع أبيار على رأس بحيرة التمساح في موقع تل المسخوطة الحالي، واسمها أيضا «الخشبي» و«أبو خشيب» و«أبو كيشيد»، وأنهم ساروا من هناك عدة محطات، حتى عبروا البحر من عند منطقة تقع إلى الجنوب من المسخوطة، بجوار مدينة السويس الآن على رأس «خليج السويس، الذي كان يعرف بالخليج العربي» حتى زمن دي بوا إيميه. ويرسم لنا سيناريو الأحداث ، فيقول إن الركب كان متجها في البداية نحو الطريق المباشر إلى فلسطين، وهو الطريق الذي نعلم اليوم أنه كان باسم طريق حورس الحربي، والذي يسير بمحاذاة البحر الأبيض المتوسط، لكنه خشي المرور بهذا الطريق، فيقترب من فلسطين، ويتعرض لهجوم مباشر من سكانها؛ لذلك سار برجاله جنوبا ليخفي - أيضا - عن المصريين نيتهم في الهرب، وليوهمهم أنه يبحث في الصحاري عن مكان بعيد للاحتفال الديني، فقام يقودهم بالتفافة طويلة نحو بلاد أنسبائه سكان مديان في سيناء.
يقع الطرف الشمالي للبحر الأحمر (يقصد خليج السويس) على بعد ستة أو سبعة آلاف متر إلى الشمال من مدينة السويس، وفيما وراء ذلك ثمة حوض ينتهي بعد حوالي ستين ألف متر إلى الشمال من هذه المدينة، ويبلغ أقصى اتساع لهذا الحوض 12 : 15 ألف متر، ويضيق كثيرا عند الجنوب، «هذا الحوض يدل على أن البحر كان يغمره فيما مضى»، فهناك يعثر المرء على طبقات الملح البحري، تتخذ في بعض المناطق شكل القباب. وعلى عمق أربعة أو خمسة أمتار، مياها نتعرف فيها على نفس مذاق مياه البحر، وفي مناطق أخرى نجد الأرض موحلة، ونعثر هنا وهناك على مستنقعات من مياه مالحة. والأرض في هذا الحوض تغطيها القواقع، وتنخفض عن سطح البحر إلى حد كبير (بالحاشية: يبلغ الفرق في أماكن عديدة من 12 : 15 مترا)، وعلى الرغم من ذلك لا يفصلها عن البحر، سوى كتلة من الرمال، يبلغ عرضها من أربعة إلى خمسة آلاف متر. ونلمح فوق التلال المحيطة به (أي بالحوض)، خطا يتكون من مخلفات نباتات بحرية، تشبه تمام الشبه ذلك الأثر، الذي تتركه البحار فوق الشواطئ، لكن ما يلفت النظر بشكل كبير، هو أن هذا الخط يوجد على نفس مستوى المد العالي للخليج العربي
6 (أي خليج السويس [المؤلف]) ... بوضوح نحن هنا بصدد أرض كانت تغطيها فيما مضى مياه البحر، وأن ترعة القدماء تلك التي يتحدث عنها هيرودت وبليني واسترابون ... إلخ (يقصد القناة المعروفة باسم قناة سيزوستريس التي كانت تصل النيل بخليج السويس [المؤلف])، كانت تنتهي عند الطرف الشمالي للحوض، الذي انتهيت لتوي من تحديده
7 (أي إن ترعة سيزوستريس كانت لا تصل لقمة خليج السويس الحالي عند مدينة السويس/القلزم قديما [المؤلف])، إنما كانت تأتي بماء النيل من شرقي الدلتا، لتصل حتى تل المسخوطة قرب الإسماعيلية الآن، حيث كانت نهاية رأس خليج السويس/الخليج العربي في ذلك الزمان، قبل أن ينسحب بالتدريج جنوبا عبر السنوات، ليتوقف عند السويس الآن.
وكي يزيد دي بوا إيميه في تدعيم نظريته العبقرية، يعمد إلى ما جاء عند بليني بالفصل 27 من الكتاب السادس، إذ يقول عن القناة التي نهض بإتمامها سيزوستريس، لتربط النيل بالخليج العربي على البحر الأحمر، كانت تبلغ حوالي 62 ميلا (93كم)، وفي تاريخ هيرودت الكتاب الثاني الفصل 58، أن هذه القناة كانت تتفرع من الفرع البوباسطي للنيل جنوب بوباسطة بقليل (بوباسطة من أحياء الزقازيق الآن)، وذلك في المنطقة التي يصنع فيها ذلك الفرع كوعا يتجه نحو الشرق متفرعا من فرع دمياط الحالي، لكنا لو قسنا الآن المسافة من هذه النقطة، حتى رأس خليج السويس الحالي، سنجدها 135كم وليس 93، بينما المسافة ما بين بوبسطة عبر وادي طميلات، حتى مدينة السبع أبيار على بحيرة التمساح، تساوي 90كم كما ذكر بليني.
8
شكل 3-1: تصور لما ذهب إليه دي بوا إيميه في امتداد خليج السويس ليضم البحيرات المرة.
وحتى يحدد لنا موضع الخروج بدقة، يضع دي بوا إيميه تصورا لجغرافية المنطقة زمن الخروج، فيرى أن الخليج العربي/السويس الآن، كان يمتد زمن الخروج ليلتحم بالبحيرات المرة، وبحيرة التمساح حيث السبع أبيار، مدللا على ذلك بعدد وافر من القرائن المفترضة، وأهمها ما جاء في عرضه التالي:
وفي الجزء الشرقي من وادي طميلات، نجد أنقاضا عظيمة تخلفت عن الأزمان الفرعونية، عند موقع «بلدة أبو كيشيد» (وهي الآن أبو خشب أو الخشبي أو تل المسخوطة إلى الشرق من أبي صوير بثلاثة كيلومترات [المؤلف]). ويعتقد دي بوا إيميه أن رعمسيس أوبيتوم التي ذكرتها التوراة المازورية، هي «ذات هيروبوليس» التي ذكرتها التوراة السبعينية، هي ذاتها مدينة المسخوطة الحالية، التي لا شك عنده كانت تقع عند رأس الخليج العربي (السويس)، عندما يملأ حوض البحيرات الحالي، ويتصل بالبحيرات المرة وبحيرة التمساح في خليج واحد، وأن تلك القمة هي بحيرة التمساح الآن، وأن اليونان كانوا يطلقون على البحر الأحمر اسم البحر الإريتري، وعلى خليج السويس الخليج العربي مرة، «والخليج الهيروبوليتي مرة، نسبة إلي هيروبوليس التي هي رعمسيس أوبيتوم، وهو ما يدعم وجودها على قمة الخليج».
9
ويتأرجح دي بوا إيميه حول كون هيروبوليس كانت هي رعمسيس أو بيتوم، ويذكرنا أن المؤرخين والجغرافيين الكلاسيكيين ذكروا مدينة باسم
وهي لا شك عند دي بوا إيميه هي بيتوم، هي هيروبوليس، هي المسخوطة أو الخشبي حاليا، حيث ذكر هيرودت أن «القناة التي كانت تحمل مياه النيل للخليج العربي، كانت تقع عليها مدينة باسم باتوموس».
ولمزيد من التدقيق يقول دي بوا إيميه «ولقد قمنا بتنقيبات عديدة في حوض القلزم (يقصد المساحة الممتدة من خليج السويس الآن حتى بحيرة التمساح شمالا)، دون أن نعثر على أقل شقفة طمي، في حين وجدنا هذا الطمي في شكل طبقات أفقية في وادي السبع أبيار.»
10
وإذا كان حوض القلزم الممتد من السويس حتى البحيرات المرة ليس به سوى آثار مياه البحر المالح، وأن وادي السبع أبيار (طميلات) يمتلئ بطمي النيل، فمعنى ذلك أن خليج السويس كان يمتد حتى بحيرة التمساح، وأن قناة سيزوستريس كانت لا تصل إلى السويس الحالية، إنما إلى المسخوطة هيروبوليس التي قد تكون هي بيثوم أو رعمسيس التوراتيتين عند بحيرة التمساح الحالية.
ويؤكد ذلك رفيقه من علماء الحملة الفرنسية المسيو دي فيليه
Divilliers ، الذي أكدت دراساته أن الماء كان يصل حتى زمن الحملة، منحدرا من النيل بشكل طبيعي زمن الفيضان، حتى يصل إلى ألسنة كراش عند بحيرة التمساح، وعند البلاح إلى الشمال منها.
11
ولاحظ دي بوا إيميه أن مد البحر الأحمر في الخليج العربي، يعلو في منسوبه عن منسوب مياه النيل، التي كانت تصل هناك كما جمع من معلومات؛
12
لهذا رجع إلى بليني يستعيد نصه الذي يشرح الجغرافيا، قادما من عند خليج العقبة، متجها نحو مصر قائلا:
بعد خليج إيلانتيتك
Aelantique (أي خليج إيلات/العقبة الآن [المؤلف]) نجد خليجا آخر يطلق عليه العرب اسم إيوانت
Eaant ، هناك توجد مدينة الأبطال (يقصد هيروبوليس بحسبان الاسم هيرو يعني البطل، وبوليس تعني مدينة [المؤلف])، كما توجد هناك ... مدينة قمبيز (كبريت حاليا) التي كان ينقل إليها مرضى الجيش، تأتي بعد ذلك أمة العمالقة
Tyres
ثم ميناء دانيون
Daneon ، التي أريد أن تبدأ منها حتى الدلتا ترعة ملاحية، يبلغ طولها 62 ألف قدم، هي المسافة بين النيل والبحر الأحمر، وكان «أول من فكر في هذا المشروع سيزوستريس ملك مصر، ثم داريوس ملك الفرس، وبعد ذلك بطلميوس الثاني»، الذي أمر بحفر ترعة تصل إلى البحيرات المرة، يبلغ عرضها 100 قدم وعمقها 30 قدما، في حين يبلغ طولها 37500 قدم، لكن بطلميوس لم يتم مشروعه، خشية غرق المنطقة؛ «إذ وجد أن مستوى البحر الأحمر يعلو بمقدار ثلاثة أذرع عن مستوى سطح أرض مصر».
وإن كان ثمة تفسيرات مخالفة عند الآخرين، حيث يرى هؤلاء أن بطلميوس قد خشي أن يتلف البحر مياه النهر، إذا صب الأول مياهه في النيل، وهي المياه الوحيدة القابلة للشرب ... وتؤدي هذه الطرق المختلفة إلى مدينة أرسينوية (أرسينوية هي السويس الحالية [المؤلف])، والتي أطلق عليها اسم أخته، وهذا الحاكم هو أول من أخضع
Troglodiytiques
أي «سكان الكهوف»
13 (سيأتي حديث طويل يفسر لنا حكاية سكان الكهوف في موضعه من هذا الكتاب).
ويلخص دي بوا إيميه تلك النتائج التأسيسة في قوله:
أما عن مدينة هيروبوليس ولعلها هي نفسها مدينة أفاريس (حواريس عاصمة الهكسوس بمصر [المؤلف])، فإنني مصر على أن أضعها في نفس المكان الذي تشغله اليوم أبو كيشيد (المسخوطة).
ثم يعقب في الحاشية قائلا:
أوضحت في مذكراتي عن الحدود القديمة للبحر الأحمر، رأي البعض ممن يرجحون أن تكون هيروبوليس هي التي تشير إليها التوراة باسم بيثوم
، والراجح أن المدينة التي أسماها العبرانيون باسم بيتوم، كانت هي تلك التي أطلق عليها الإغريق اسم باتوموس
، وأطلق عليها الرومان اسم توم
Thoum ... وهذه الاعتبارات المختلفة تفسر بطريقة بالغة اليسر، لماذا كانت تلتمس هيروبوليس في روايات الأقدمين على الدوام، في المنطقة التي كان ينتهي إليها الخليج العربي باتجاه مصر.
14
ويسير دي بوا إيميه مع الخارجين، حيث يتجهون شمالا بعد تجاوز رأس الخليج العربي القديم عند بحيرة التمساح، حيث أول محطة ذكرتها التوراة باسم (سكوت)، وسكوت عنده هي من الكلمة العبرية سيخوت، أي المخيمات أو العشش، ومن هناك يعود موسى خشية الحرب مع الفلسطينيين، فيتجه برجاله جنوبا بحذاء الشاطئ الغربي للخليج العربي، حيث يستريحون في محطة إيتام، ويرى أنها حاليا بير السويس، ومن بير السويس يرتدون غربا، حيث كانت تمتد مياه الخليج نحو المنطقة، التي أسمتها التوراة فم الحيروث، ويرى أنها تبعد عن بير السويس غربا بثلاثة فراسخ، وأنها حصن عجرود الحالي بجبل عجرود، ويطابق فونيطيقيا بين فم الحيروث أو بالعبرية «ه حيروث» وبين «ع-جروت» أو «عجرود» ليراهما موضعا واحدا.
ويرسم لنا دي بوا إيميه جغرافية منطقة العجرود بدقة العالم الحصيف، فيرى هناك كتلة رمال جنوب شرقي العجرود، يسعى وراءها فيجدها تتصل بشكل متقطع بخليج السويس، مع وجود خواص عند تلك التقطعات، يشير إلى وجود ماء قديم كثيف، ثم إنها منخفضة عن مستوى الماء بالخليج، وهنا يرى أنها كانت بحيرة تقع في طرف لسان الخليج من شماله الغربي.
ولما كان موسى قد تربى بحكمة المصريين وعلومهم، فلا شك أنه كان يعرف ممكنات العبور من هذه النقطة، سيرا على الأقدام إلى الضفة الأخرى، «وكان المد يأتي فيغطي البحيرة فيصلها بالخليج، ثم ينحسر فتصبح بحيرة منفصلة عن الخليج». ووقت وصول الفرعون وجيشه كان المد يغطي البحيرة؛ مما جعل الجيش المصري ينشد الراحة بعد المطاردة المجهدة، وهو يجد الخارجين أمامه مرتعبين محاصرين وراءهم البحر وأمامهم الجيش، ولم يخطر ببالهم أي خشية لافتلات الخارجين، بينما كان موسى يستفيد من دوامات الرمال والغبار والضباب، ليبدأ التحرك مستغلا أول ساعات الجزر، فيتبعه خائضا برجاله في البحيرة الجافة، وعندما لاحظ المصريون متأخرين، مؤخرة الإسرائيليين وهي تنسحب نحو الشرق، كان المد التالي قد بدأ في العودة، ووسط حماس المطاردة ومسابقة للمد الآتي، دخل المصريون في المد بسرعة، يريدون تجاوز ارتفاعه بالوصول إلى الشاطئ وراء الإسرائيليين، مما قلل من إمكانية بلوغ الشاطئ في الوقت المناسب، وأدى لتراجع الجيش وغرق بعضه وانفلات الخارجين، ويطابق دي بوا إيميه نظريته المتماسكة بقول التوراة: «فدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة، والماء سور لهم عن يمينهم وعن يسارهم» (خروج، 14: 22)، «ويراها مجازا تمت صياغته في رواية إعجازية، تعبر عن حالة جغرافية طبيعية، لا علاقة لها بالمعجزات، فقد عبروا عند مخاضة جانبها بحيرة وجانبها الآخر خليج السويس/العربي وقت الجزر، فكانوا يبدون محصورين في مساحة ضيقة، كما لو كانوا بين بحرين أو داخل بحر مفلوق».
لكن علينا أن نلاحظ أن نيبور
Niebuhr
الرحالة، ولوكليرك
Leclerc
قد سبقا دي بوا إيميه إلى تحديد رأس خليج السويس بالتحديد موقعا للعبور، ولكن عن طريق آخر وبمنهج مختلف.
المهم يستكمل دي بوا إيميه مشهديه الخروج، ويعرج على بعض الظواهر الإعجازية، ليجد لها تفسيرا عقليا مقبولا، ومنها ما جاء في رواية التوراة يقول:
وكان الرب يسير أمامهم نهارا في عمود سحاب ليهديهم في الطريق، وليلا في عمود نار ليضيء لهم، لكي يمشوا نهارا وليلا. (خروج 13: 21)
وقدم تفسيره بأنه لا بد كان هناك بركان يقع في جبل الله حوريب المقدس بسيناء (كاترين وموسى الآن)، وقرأ هذا التفسير على المجمع العلمي الفرنسي الذي انعقد بالقاهرة في 16 من برميير من العام التاسع للحملة الفرنسية، ودلل على وجهة نظره بما يستخدمه البحارة الآن في مدينة الطور بالخليج العربي من أحجار لحفظ التوازن، وأن هذه الأحجار هي خفاف بركاني، ولا شك مجلوبة من الجبل المقدس، لكن الرجل تراجع عن هذا الرأي بعد التقرير الذي قدمه عالمان آخران بالحملة، قاما بدراسة جبلي كاترين وموسى، هما السيد كوتل
Coutelle
وروزيير
Roziere ، وأكدا أنه لا وجود هناك لأي أحجار بركنية، وأن الجبال هناك جميعا جرانيتية تماما.
وأسقط في يد عالمنا الجليل، لكنه كان يصر على العقلنة، فقام يقدم للآية التوراتية تفسيرا جديدا بعد سقوط نظرية البركان، فقال: إن هذا الإله السحابي الناري، ليس سوى الشعلة النارية الضخمة، التي يحملها البدو إبان سيرهم جماعات في الصحاري ليلا ونهارا، حتى لا يفقد المرتحلون بعضهم، بدليل أن التوراة تؤكد أن دليلهم في الصحراء، كان شخصا يعرف دروب المنطقة ومن أهلها، هو حوباب المدياني شقيق صفورة زوجة موسى، نظير جعل من المال جعله له موسى، والآية تقول: «وقال موسى لحوباب بن رعوئيل المدياني حمو موسى: إننا راحلون إلى المكان الذي قال الرب أعطيكم إياه، اذهب معنا فنحن نحسن إليك ... بنفس الإحسان الذي يحسن الرب إلينا نحسن نحن إليك» (عدد 10 : 29-32)، ولو كان الرب هو الذي يسير أمامهم، فما حاجته لاستئجار نسيبه ليدله على الطريق في دروب البوادي السينائية؟
ويعرج دي بوا إيميه على قصة المن والسلوى، ويفسر قوله: إن السلوى هو طائر السمان، الذي يتساقط بكثرة في سيناء، نتيجة الإنهاك في رحلته الفصلية، وقد حدثنا ديودور الصقلي عن مصريين منفيين في عهد أكتيزانيس في صحراء برزخ السويس، كانوا يغتذون من الطيور المهاجرة، التي يسهل اصطيادها بعد سقوطها مجهدة، أما المن فما برح يجمع من شحر وفير في شكل كرات من الصمغ العسلي في المناطق المحيطة بجبل سيناء، أما النار التي كانت تزحف على خيام الإسرائيليين في ذلك الجبل وتحرقهم، فكان ممكنا تفسيرها بالبركان الذي نفاه السيدان كوتل وروزيير، لكن نتيجة بحثهما دفعت دي بوا إيميه لتفسير آخر، قال فيه إن تلك النار كانت نارا انفجارية مصنعة، هي التي عرفها اليونان بعد ذلك باسم النار اليونانية، وبالتأكيد عرفها المصريون قبلهم، كأسلوب حربي متطور، ولا شك أن موسى تعلمها من وجوده بالقصر، حين كان يتعلم كل حكمة المصريين.
وتبقى من تلك الخوارق الأصوات الهائلة، التي كانت تصدر من الجبل المقدس، التي لن تكون بركانا بل أصوات رعد، ملأت الإسرائيليين البدائيين رعبا، وهم يعيشون طفولة عقلية اسمها الإيمان.
15
رأي هنري بروجش
يعد هنري بروجش
Henirich Brugsch
من أبرز المصرولوجيين، الذين أولوا اهتماما خاصا لمسألة علاقة الإسرائيليين بمصر، وهو من أنصار المدرسة التي توقت الاستعباد بزمن رمسيس الثاني، والخروج بزمن ولده مرنبتاح، وقد قدم بروجش ما وصل إليه من محاولات تدقيق، لموضع مدينة الاستعباد رعمسيس، ونقطة عبور البحر، وما هو هذا البحر؟ في شكل محاضرة ألقاها بحفل المدارس المجانية بالقاهرة عام 1879م، قدم فيها نتائج بحوثه في نقوش وبرديات مصر القديمة وفي التوراة، ورسم فيها تصوره لخريطة الخروج.
يشرح بروجش أن مدينة رعمسيس كانت في المصرية القديمة «بي رعمسيس»، و«فيثوم» هي «بي آتوم» أي بيت آتوم ومدينته، ثم يعمد إلى إيراد موجز سريع لقصيدة ألقاها شاعر مصري قديم، أمام جلالة الفرعون في حفل افتتاح مدينة رعمسيس. ومن جانبنا قمنا بمقارنة ذلك الموجز مع الأصول النصية، فاكتشفنا أن بروجش في محاضرته هذه قدم مزيجا مختصرا من برديات ثلاث، ورأينا من جانبنا العودة للنصوص الثلاثة الأصلية، بادئين القصيدة الأولى المعروفة بالقصيدة الصغرى في مديح رعمسيس:
يا ابن رع محبوب آمون،
أنت السفينة الرئيسية،
والعصا التي تهشم،
والسيف الذي يذبح الشعوب الأجنبية،
وحربة اليد.
إنه نزل من السماء وولد في عين شمس،
وكتب له النصر في كل أرض،
ما كان أجمل يوم حضورك!
وما كان أجمل صوتك عندما تكلمت! «حينما بنيت مدينة رعمسيس محبوب آمون،
فهي بداية كل أرض أجنبية ونهاية مصر»،
هي المدينة ذات الشرفات الجميلة،
والقاعات التي تخطف الأبصار
باللازورد والزمرد،
والمكان الذي تستعرض فيه فرسانك،
وتجند رجالك، «وحيث ترسو سفينتك حينما يحضرون لك الجزية،
الثناء عليك حينما يأتي عبيدك المختارون من بدو آسيا»،
وهم رجال وجوههم كاسرة
وأصابعهم محرقة،
يتقدمون حينما يرون الأمير واقفا ومقاتلا ،
لا قدرة للجبال على الوقوف أمامه،
وهي تخاف بطشه.
يا ابن رع محبوب آمون،
ستبقى ما بقيت الأبدية،
وستبقى الأبدية ما بقيت،
وستمكث على عرش والدك رع حور أختي.
16
والبردية الثانية ليست قصيدة، إنما تقرير في شكل رسالة مرسلة من كاتب من كتاب البلاط، هو «بينبس» إلى رئيس قلم كتاب القصر «آمنموبي» يقول له فيها:
إن الكاتب بينبس
يرحب بسيده الكاتب آمنموبي
في حياة وفلاح وصحة،
وقد حرر هذا ليكون سيدي على علم به.
ترحيب ثان بسيدي
لقد وصلت إلى «مدينة بيت رعمسيس» محبوب آمون،
ووجدتها في غاية الازدهار!
هي عرش جميل منقطع النظير، على طراز طيبة،
وإن رع هو الذي أسسها بنفسه،
فهي مقام تلذ فيه الحياة،
حقولها مملوءة بكل ما طاب
ولديها مؤن وذخيرة كل يوم،
بركها تزخر بالسمك،
وبحيراتها بالطيور،
حقولها يانعة بالبقل،
وشواطئها محملة بالبلح، «ومخازنها» مفعمة بالشعير والقمح،
فيها الثوم والكرات للطعام،
وخس ال (ثقب في النص) جنينة،
وفيها الرمان والتفاح والزيتون والتين من البساتين،
وخمر كنكمة اللذيذ الذي يفوق الشهد حلاوة،
وفيها «سمك وز الأحمر من قناة» (ثقب)
وسمك بتن «من بحيرة» (ثقب) «وسيهور» تنتج الملح،
ويستخرج من «بحيرة هر» النطرون، «وسفنها تروح وتجيء إلى الميناء»،
وفيها المؤن والذخيرة كل يوم،
وينشرح الإنسان بالمقام فيها،
ولا أحد يقول: ليت كذا،
والصغير فيها مثل العظيم
تعال، وتعالى نحتفل بأعيادها السماوية،
وأوائل فصولها السنوية، «إن مستنقعات زوف تنتج لها البردي»، «وسيهور» تمدها باليراع،
وغرائس العنب تأتي إليها من البساتين،
وتيجان الأزهار من الكروم،
وتجلب إليها الطيور من الماء البارد، «والبحر» فيه سمك بج وسمك أد، «والمستنقعات» تهدي إليها (ثقب)
وشباب عظيمة الانتصارات (لقب مدينة رعمسيس [المؤلف]) يلبسون حلل العيد كل يوم،
ورءوسهم مضمخة بزيت زكي الرائحة،
في الشعر المرجل حديثا،
ويقفون بجوار أبوابهم وأيديهم مثقلة بالزهور،
وبالنبات الأخضر من بيت «حتحور»،
وبالكتان من «بحيرة حر»،
في اليوم الذي يدخل فيه رعمسيس
هو منتو (منتو إله مصري [المؤلف]) في كلتا الأرضين صبيحة عيد كيهك (شهر مصري [المؤلف ])
عندئذ يدلي كل إنسان بملتمسه،
ونسيم عظيمة الانتصارات حلو،
وشرابها تبى مثل الفاكهة شاو،
وشرابها خيو طعمه كطعم الفاكهة إنو،
فهو يفوق الشهد حلاوة،
وجعة كدى ترد «من الميناء» (بلاد كدى «بالشام» [المؤلف])
والنبيذ والكروم والروائح العطرة
يؤتى بها من مياه سيجبين،
وتيجان الأزهار من (ثقب) جنينة،
أما مغنيات عظيمة الانتصارات ذوات الصوت العذب
فقد تعلمن الغناء في منف.
اسكن هناك سعيدا وامش مرحا ولا تغادرها،
يا وسر مارع المختار من آمون،
يا منتو في الأرض،
يا رعمسيس محبوب آمون
أنت أيها الإله.
17
ثم نأتي إلى النص الثالث، وهو «قصيدة في مدح مدينة رعمسيس، تعرف بالقصيدة الكبرى»، لنستمع إلى الشاعر يقول:
لقد بنى جلالته لنفسه «قلعة» تسمى:
عظيمة الانتصارات.
وهي «واقعة بين فلسطين ومصر»،
وهي ملأى بالذخيرة والأرزاق،
وهي مثل أرمنت (مدينة بصعيد مصر [المؤلف]) وخلودها كخلود منف.
فالشمس تشرق في أفقها وتغرب فيها،
وجميع الناس يهجرون مدنهم ويسكنون في ربوعها،
حيها الغربي معبد آمون،
والجنوبي معبد الإله «سوتخ»،
والإلهة عشتار في شرقها،
والإله «بوتو» في الجهة الشمالية منها،
والحصن الذي في وسطها مثل أفق السماء.
ورعمسيس محبوب آمون إله،
ومنتو في الأرضين رسول،
وشمس الأمراء وزير له وفرح لمصر،
ومحبوب آتوم محافظ تذهب الدنيا إلى سكنه.
ورئيس «بلاد الخيتا» (تركيا الآن [المؤلف]) الأعظم يكتب إلى ملك بلاد كدى:
تجهز لنسرع إلى مصر حتى يمكننا القول: إرادة الإله تنفذ،
وحتى يمكننا أن نتكلم كلاما جميلا أمام رعمسيس؛ «إنه يعطي نفس الحياة من يريد»،
وكل بلد يحيا حسب رغبته،
وبلاد الخيتا تعيش حسب إرادته فقط.
وإذا لم يتسلم الإله (يقصد رمسيس [المؤلف]) قربانه منها
فإنها لا ترى مطر السماء.
وذلك في استطاعة وسر مارع (أي رمسيس)
الثور الذي يحب الشجاعة؛
الإله الطيب مثل منتو المظفر
الذي ولد من رع،
طفل ثور هليوبوليس
الذي يقف في ساحة القتال ويحارب بشجاعة،
مثل الواحد القوي في سفينة السماء حاكم الأبدية.
وهو الذي كان ملكا وهو في البيضة (أي وهو في رحم أمه)
مثل جلالة الإله حور،
وقد استولى على الأرض بانتصاره،
وأخضع الأرض بخططه.
والشعوب التسعة وطئها بأقدامه.
وكل الشعوب الأجنبية تساق بهداياها، «وجميع الممالك تسعى إليه على الطريق الوحيد»،
ليس له خصم،
وأمراء البلاد الأجنبية لا قوة لهم،
يصيحون كالماعز الوحشية ذعرا منه.
إنه يدخل بينهم كابن نوت؛
فيسقطون أمامه خوفا من نفسه الناري.
اللوبيون يتساقطون لذبحه إياهم،
والناس يسقطون بنصل سيفه.
وقد منح قوته إلى الأبد،
وإرادته تحيط بالجبال.
آه يا رعمسيس محبوب آمون رب القوة،
يا من يحمي جنوده،
أنت يا ابن آمون أيها الجسور،
أيها الثور القوي الذي يثني المتحالفين ضده،
ويقف ثابتا على عربته الحربية مثل رب طيبة؛
قوته تقهر كل الممالك الأجنبية،
ويخترق الأراضي باحثا عن مهاجميه،
ونداؤه الحربي للموقعة يؤثر في قلوب من يخافون وجهه.
هو الحاكم الطيب اليقظ الممتاز النصيحة،
هو الذي «يضع اسمه في كل الأراضي»
بوصفه الفرد الشجاع.
نعم يا ملك الأرضين وربهما مثل جلالة الإله حور،
إن أمراء الأرض قد أصبحوا في وجل منك، ... ...
وجنوده الشردانا (من جزيرة سردينيا بالمتوسط) الذين حملتهم إلى بلادك بقوتك؛
يأسرون لك رجال الصحاري.
ما أجمل ذهابك إلى طيبة،
وعربتك الحربية مثقلة بالأيدي،
ورؤساء القبائل يمشون أمامك مكبلين،
وستقودهم إلى والدك المبجل آمون ثور أمه!
يا قصر سيسي الذي تكرر فيه الأعياد،
يا عرش تنن إنك تضيء مثل (ثقب)
كآتوم،
كمصباح والدك رع.
18
هذه نصوص البرديات الثلاث التي دمجها بروجش موجزة، ليأخذ عناصرها الأساسية لبحثه، وأهمها أن مدينة رعمسيس «كانت ميناء عظيما، تقع على بحر»، وكانت مقر علية القوم، حيث قصور وضيافة الملوك الأجانب، ومليئة بالخيرات، «وتقع بين مصر وفلسطين، وإنها آخر كل أرض مصرية، وبداية كل أرض فلسطينية، وإنها الطريق الوحيد بينهما»، وهو ما يعني وقوعها على أطراف الدتا الشرقية، «وأنها تتصل بقناة تمدها بالمياه العذبة»، وفي محيطها مجموعة بحيرات ومستنقعات.
ويتطابق وصف التوراة للمدينة، بحسبانها ميناء يقع على بحر سوف، مع النصوص المصرية التي أكدت من جانبها أنها كانت ميناء دوليا، وهي النتائج التي وصل لها المؤرخون من دراسة النصوص المصرية، التي تتعلق برمسيس وتم إيجازها في القول: «من خلال وصف مدينة بر رمسيس يمكننا أن نستنتج «أن تلك العاصمة كانت تقع على أحد فروع النيل، وأن ثغرها كان يستقبل أسطول البلاد التجاري والحربي»، يرسو فيه ويبحر منه عند قيامه بالغزوات الحربية أو البعثات التجارية.»
19
ويرى بروجش أن بناء مدينة بهذه المواصفات، لا شك قد احتاج إلى عمالة ضخمة، وهو ما يراه بروجش شرحا يوافق ما ذكرته التوراة، عن استعباد بني إسرائيل في بناء مدينتي فيثوم ورعمسيس.
ثم ينتقل بروجش إلى نتائج حفائر المصرولوجيست مارييت في خرائب مدينة صان الحجر، في أقصى شمال شرقي الدلتا قرب بحيرة المنزلة، حيث عثر مارييت على تمثالين للملك رعمسيس الثاني عليهما نقوش، تؤكد أنه قد بنى مدينة باسمه، ويرى أن تلك المدينة هي صان الحجر، وأنها هي المعروفة لدى اليونانيين باسم «تانيس».
وقد حظيت صان الحجر بعدة حفائر على يد المصرولوجيست الشهير بيير مونتييه، ومن بعده على يد البعثة الفرنسية برئاسة جان بويوت من معهد آثار جامعة باريس، وقد تمكن مونتييه من اكتشاف مجموعة مقابر مشيدة في صان الحجر من أحجار الجرانيت، كما تم التعرف على مقبرتين ملكيتين للملك بشنس الأول والملك شيشنق من الأسرة الليبية التي حكمت مصر، وهي الأسرة الثانية والعشرون.
ويرى بروجش أن «صان الحجر هي ذات مدينة تانيس، هي ذات مدينة صوعن» المذكورة بالتوراة، ثم يلجأ إلى نقش على جدار هيكل الكرنك عن مدينة رعمسيس، يرجع إلى زمن ستي الأول أبو رعمسيس الثاني، حيث يمكن رؤية «جانبي المدينة مرفوعين على شاطئ ومتصلين بقنطرة»، مع رسوم توضيحية زيادة في الشرح، حيث نرى على جهة من القنطرة تمساحا ونباتات نيلية نهرية، ليعرفنا الفنان أن المدينة تقع على أحد فروع النيل، وعلى الجهة الأخرى رسم الفنان أسماكا بحرية، ليعلمنا أنها تقع من الجانب الآخر على بحر مالح، ويرى بروجش أن تلك المدينة، قد اكتسبت أهميتها الخاصة، لوقوعها على طرف بداية الطريق الكبير الموصل لفلسطين، ويقول إنه بجوار هذا الطريق كانت توجد بئر، ذكرها الرومان باسم مجدولان، ويراه بروجش هو مجدل المذكور بالتوراة عند موقع الخروج من البحر «أمام فم الحيروث بين «مجدل» والبحر أمام بعل صفون» (خروج، 14).
ويعتقد بروجش جازما أن مدينة رعمسيس هي صوعن، هي صان الحجر هي تانيس الشهيرة في التاريخ، وأنها كانت عاصمة مديرية من مديريات شرقي الدلتا أو عاصمتها جميعا، «وأن اليونان أطلقوا عليها اسم «تراموس تانيسيس»». ويرى أن جغرافيتها تجعل جزءا كبيرا منها يقع على الشاطئ الشرقي لفرع نيلي، وغربها يقع على بحيرة المنزلة، بينما تتماس حدودها الجنوبية مع إقليم آخر من مديريات شرقي الدلتا، هو المعروف باسم «توكو» أو «توكوت»، وهو الذي أشارت إليه التوراة باسم «سكوت»، وأن المؤرخين اليونان أسموا هذا الإقليم باسم «سيتوزيدس»، ويؤكد أن الآثار المكتشفة أسمت هذا الإقليم باسم بي توم، وهو المذكور في التوراة باسم فيثوم.
ثم يدعم نظريته في أن رعمسيس هي صان الحجر، برسالة محررة على بردية بمتحف ليدن من كاتب حكومي يدعى كويسرا/كويس رع إلى رئيسه بيكوبتاح زمن رمسيس الثاني يقول فيها محررها كويسرا:
وقد أطعت الأمر الذي أصدره سيدي فأعطيت قمحا للعسكر «والإسرائيليين»، الذين ينقلون الأحجار إلى حصن رمسيس العظيم، تحت ملاحظة إفمان رئيس الضباط، وأعطيتهم القمح كل شهر طبقا للأمر الصادر إلي.
ومن ثم يستنتج بروجش أن «عاصمتي الإقليمين: إقليم صان الحجر وعاصمته رعمسيس أو تانيس، وإقليم سكوت وعاصمته بي توم أو فيثوم، كانا يتصلان ببعضهما عند جنوبي بحيرة المنزلة»، وأن هناك أقيمت حصون ظل بعضها موجودا حتى بعد مرور عشرة قرون إلى زمن اليونان بمصر، حيث نسب المؤرخون اليونان بناء حصن مجدولان للفرعون الشهير سيزوستريس، الذي يرى بروجش أنه رمسيس الثاني تحديدا، وقد تأكد من وجود ذلك الحصن «مجدل»، من وثيقة تعود لزمن مرنبتاح ابن رمسيس الثاني، وكان يحمل اسم حصن مرنبتاح، والرسالة محررة على بردية بالمتحف البريطاني، ويقول نصها:
كن مسرور الخاطر يا سيدي، فإن «قبائل بدو آدوم» قد مروا بحرية تامة من «حصن الفرعون مرنبتاح»، الذي في «إقليم سوكوت » بالقرب من برك «مدينة بيثوم»، التابعة للملك مرنبتاح الموجودة في أرض سوكوت، وقد صرف لهم ولدوابهم الزاد، الذي هو أرزاق فرعون شمس العالم.
ويعود بروجش إلى اسم المقاطعة التي سكنها الإسرائيليون بمصر، وجاءت باسم جاسان في التوراة، محاولا العثور عليه على خريطة الدلتا الحالية، فيقول إنه الإقليم الذي أطلق عليه اليونان اسم الإقليم العربي، ويسمى اليوم الصهرجية (بحثنا من جانبنا فلم نجد أية صهرجية، لكن ربما كان بروجش يقصد صهرجت الكبرى وصهرجت الصغرى إلى الجنوب من الموضع الذي يتحدث عنه وليس عند صان، وصهرجت الكبرى قرية تابعة لمركز كفر شكر بالقليوبية، وصهرجت الصغرى قرية تابعة لمركز ميت غمر بالدقهلية، والاثنتان تقعان على الرياح التوفيقي، ولا تزيد المسافة بينهما على 15كم [المؤلف])، وكانت عاصمة هذا الإقليم تلك المدينة التي أسماها اليونان «فاقوسة»، «وهي الآن صفط الحنة بجوار الزقازيق وبسطة»، وقد تم العثور على آثار في صفط الحنة، تشير إلى أنها كانت في إقليم مصري قديم اسمه «جوسيم»، ويرى أن المؤرخين قد خلطوا بين اسم «جوسيم» أو فاقوسة الموجودة في صهرجت، وبين اسم مدينة رعمسيس التي هي عنده صان الحجر، أما جوسيم فقد صارت فاقوسة بعد ذلك، بإضافة حرف «فا» أو «با» أو «بي» المصرية المعتادة لأسماء البلدان مثل «بي رعمسيس» ومثل «بي» التي أضيفت إلى توم فأصبحت «فيثوم»، وعليه أصبحت جوسيم «فاجوسيم» التي أصبحت «فاقوسه» التي هي جاسان التوراتية.
ويرى بروجش أن القوم الذين ذكرتهم المدونات المصرية باسم الخالو وكانوا يستقرون هناك، هم بعض الساميين الفينيقيين الذين سكنوا جاسان كجالية أجنبية، وأنهم وراء إطلاق التسميات السامية على مواضع تلك المناطق المصرية؛ لأن مجدل كلمة عبرية تعني حصنا أو قلعة، وسكوت كلمة عبرية تعني المخيم أو العشش أو المظلات، وصان هي التي كتبتها التوراة صوعن.
ويسير بروجش مع الخارجين من مدينة رعمسيس، فيتبع الطريق الفرعوني الكبير (طريق حورس الحربي)، المحاذي للبحر الأبيض المتوسط، وأنه قد خرج معهم لفيف كثير حسب التوراة، وهم عنده الفينيقيون/الخالوا، وأنهم استراحوا في أول محطة هي سكوت في إقليم بي توم، ومن هناك اتجهوا شرقا نحو الصحراء أسمتها التوراة إيتام، لكنهم عادوا لتجنب الطريق الكبير المعروف، ليس لأنهم كانوا يخشون حربا كما قالت التوراة؛ إنما لأن موسى كان يعلم بمعاهدة السلام التاريخية، التي ربطت مصر بمملكة الحيثيين زمن رمسيس الثاني، والتي تنص على إعادة الرعايا الهاربين من إحدى المملكتين إلى الأخرى.
ومن جانبنا رأينا إيراد ذلك البند من بنود الاتفاقية
المعروف أن حربا طاحنة قد جرت بين مصر وتركيا، قادها رمسيس الثاني ضد حاتوشيليش الثالث ملك خيتا (بلاد الحيثيين)، لوقف اعتدائه على أملاك مصر في آسيا، وكان ذلك في السنة الحادية والعشرين من حكم رمسيس الثاني، وانتهت المعارك بمعاهدة سلام هي الأولى من نوعها، دونت بنودها على لوح فضي، وضع عند قدمي الإله رع، وتم العثور عليه بمصر، بينما حمل الوفد الحيثي النسخة المدونة بالحيثية على لوح فضي، وتم وضعها عند قدمي إله العاصفة الحيثي تيشوب، وقد عثر عليها بدورها. «وتقول فقرة بالمعاهدة في نصها الحيثي»:
هذه كلمات رعمسيس الثاني ملك أرض مصر العظيم قاهر جميع البلدان، ابن منمورا (اسم العرش لأبيه ستي الأول)، الملك العظيم، ملك مصر القاهر. قالها إلى حاتوشيليش الملك العظيم، ملك بلاد الحيثيين، الشجاع ابن مورشيليش الملك العظيم ملك بلاد حاتي، بالنسبة لنا فإننا إخوة والسلام بيننا قد عقد، وسيكون خيرا من الأخوة. «أما البند الذي يقصده «بروجش» فقد جاء مدونا بالوثيقة المصرية يقول»:
إذا هرب نبيل من بلاد الحيثيين، وجاء إلى رعمسيس العظيم إلى بلاد مصر، كي يدخل في خدماته، سواء كان رجلا أم مدينة (المقصود شعب أو قبيلة كبيرة [المؤلف])، فإن ملك مصر سيلقي القبض عليهم، ويرجعهم إلى ملك الحيثيين، وإذا هرب نبيل من رعمسيس ملك أرض مصر وأتى إلى بلاد الحيثيين، فإن حاتوشيليش ملك بلاد الحيثيين سيلقي القبض عليه، ويرجعه إلى رعمسيس الملك العظيم ملك مصر، أخيه.
20
وعليه فإن بروجش يرى أن موسى كان على علم ببنود تبادل المارقين الواردة بتلك المعاهدة الدولية؛ لذلك فضل سلوك السبل غير المطروقة في سيناء، فعاد برجاله إلى مجدولان، ويرى أنها كانت تقع بين «الفرما/بيلوز» وبين سيله قرب القنطرة، «أما بحر سوف الذي عبروه فلا بد أن يكون سهل الطينة» جنوبي خليج الطينة وشرقي بحيرة المنزلة، فتبعهم المصريون لكن ليغرقهم مد البحيرة العالي.
ويستشهد بروجش على صدق نظريته بخطورة المد في تلك المنطقة، ومفاجآته الكارثية لأكثر من مرة معلومة بالتاريخ، منها المرة التي ذكرها سترابون عندما ساح في مصر خلال القرن الأول قبل الميلاد، وقال فيها:
وقد حدث في مدة إقامتي بالإسكندرية مد وجزر عظيمان، في مدينة بي لوز قرب جبل كاسيوس، فأغرق الماء تلك الجبال، حتى صار الجبل كأنه جزيرة، وكانت السفن تجري على الطريق المجاور (يقصد الطريق الموازي للبحر المتوسط على اليابسة [المؤلف]) الذي كان يمتد إلى فلسطين حيث غطاه الماء.
ويستشهد بشهادة أخرى من ديودور الصقلي في معرض حديثه عن حملة ارتكزكثيس ملك الفرس على مصر، عندما وقع في شراك تلك المنطقة الجهنمية مع رجاله، عندما وصل زحفه إلى البركة التي تجاور سهل الطينة حيث منطقة المهالك، وهناك فقد جانبا كبيرا من جيشه في هذا المكان بالتحديد.
21 (2) رأي بيير مونتييه
ومن بين النظريات الهامة التي اهتمت بحدث الخروج الإسرائيلي، وعلاقة التوراة بمصر القديمة، نظرية المصرولوجيست بيير مونتييه، التي طرحها في كتابه مصر والتوراة، وتعد بدورها من النظريات المشهورة، والمعتبرة بين الباحثين، ولم تزل صامدة حتى الآن، ونوجز لها هنا ملخصا سريعا، يبدأ مع دخول يعقوب وأبنائه إلى مصر زمن ولاية يوسف الخزانة المصرية، حسب رواية التوراة، وأنهم سكنوا أرض جاسان التي يجب أن تتموضع شرقي الدلتا، لاعتبارات ساقها مونتييه، أبرزها «أن يوسف حسب التوراة، قد عاش في عاصمة البلاد قرب الفرعون»، وأن يوسف عندما علم بوصول أبيه حدود مصر، أسرع فركب عربته العسكرية، وتوجه للقاء أهله، ثم عاد ليخبر الفرعون، وأن ذلك «حسب التوراة السبعونية قد استغرق يوما واحدا»، ثم نعلم أن يوسف استسمح الفرعون لإسكان أهله بأرض جاسان، ومن المحال أن تكون جاسان في طيبة جنوبا أو حتى في منف؛ لأن الراكب منها إلى حدود الدلتا الشرقية يحتاج أسبوعا أو يزيد مع عدم التوقف للوصول، وليس يوما واحدا.
هذا بالإضافة إلى إفادات ماسبيرو عن المواصلات في مصر القديمة، التي كانت تعتمد على الإبحار في النيل وقنواته العديدة؛ لذلك كان لا بد أن تستخدم العجلات في مناطق، تسمح بها على الأطراف بعيدا عن الأنهار والقنوات، وهو شرقي الدلتا حيث الصحاري الممتدة المتصلة بسيناء، وعليه لا بد أن تقع جاسان هناك.
ويرى مونتييه أن جاسان كانت المقاطعة الهكسوسية، التي كانت تقع فيها عاصمتهم المصرية حواريس، ولا يشك مونتييه أنها هي مدينة صان الحجر الحالية، ويؤكد لمونتييه أن يعقوب وأولاده دخلوا مصر زمن الهكسوس، أنها كانت الفترة الزمنية الوحيدة التي تسمح بذلك، حيث كانت عاصمة الهكسوس تقع شمال البلاد المصرية قرب الحدود السينائية؛ ولأن عاصمة مصر قد عادت بعد التحرير إلى مقرها القديم العريق في طيبة (الأقصر) بأقصى الجنوب.
ثم يسير مونتييه مع الخارجين ليدقق موقع العبور البحري الإعجازي ويعقلنه، فيراهم ينطلقون من حواريس أو رعمسيس اللتين هما عنده مدينة واحدة هي حاليا صان الحجر، ليسيروا بمحاذاة شاطئ بحيرة المنزلة، يريدون الطريق الحربي الكبير المعروف بطريق حورس الممتد على ساحل المتوسط نحو فلسطين، لكنهم يخشون الاصطدام بالتحصينات المصرية القوية على الحدود، وهو الذي أطلقت عليه التوراة خطأ «خشية حرب مع الفلسطينيين»؛ لأن فلسطين كانت بعيدة تماما، وهو ما اضطر موسى ورجاله إلى تغيير خط سيرهم من الاتجاه شرقا إلى الاتجاه جنوبا.
وللعثور على النقطة المفصلية وهي عبور البحر، يقف مع المحطة التي ذكرتها التوراة باسم بعل صافون، حيث عبروا عند إحداثيات حددتها التوراة بأنها «أمام فم الحيروث بين مجدل والبحر أمام بعل صفون»، فيرى أن «بعل صفون» كانت فيما يبدو معبدا للإله الكنعاني، الذي يحمل ذلك الاسم، وتعني «رب الشمال»، ويعلمنا أن اليونان كانوا يدمجون «بين بعل صفون وبين الرب اليوناني زيوس كاسيوس»، وقد لاحظ أن اليونان قد أطلقوا اسم زيوس كاسيوس في زمنهم بأرض مصر على منطقة الكسارون الحالية بجوار الفرما /بي لوز على شاطئ البحر المتوسط بسيناء، وبذلك تكون هذه النقطة هي بعل صافون المذكورة بالتوراة، وأن المعبد لا شك كان يقوم هناك، على الشريط الساحلي الممتد أقصى شمال سيناء محاذيا للمتوسط.
شكل 3-2: خريطة خط الخروج حسب مونتييه.
ويصر مونتييه على متابعة التوراة، ويصدق قصة غرق أكبر جيش في العالم آنذاك إبان مطاردة الخارجين، ويجد لها تبريرات جغرافية حيث تقع بحيرة «البردويل/سيربونيس» على الشاطئ السينائي، على البحر المتوسط في بقعة منخفضة عن سطح البحر عدة أمتار، وعادة ما تجف مياهها ويمكن عبورها دون خطر، لكن ذلك لم يمنع أحيانا من مفاجآت مهلكة للعابرين نتيجة للهبوب المفاجئ وغير المتوقع، لعواصف شمالية قادمة من البحر المتوسط، وعادة ما ذكر المؤرخون أحداثا مأساوية حدثت للعابرين على الشريط الضيق بين البحر والبحيرة، أو خلال البحيرة إبان جفافها.
ويرسم مونتييه صورة تأملية للحدث الأكبر، فنشاهد معه الإسرائيليين يسيرون في طابور طويل على الشريط الضيق بين البحر والبحيرة، متجهين إلى الطرف الآخر نحو العريش، في الوقت الذي بدأت فيه مطاردة الجيش المصري للإسرائيليين، وفضل المصريون عبور البحيرة إبان جفافها، ليقطعوا الطريق على الخارجين، لكنهم ما إن وصلوا وسط وعمق هذا الدن الهائل، حتى هبت الأعاصير العاتية قادمة من المتوسط، بأمواج هائلة ملأت البحيرات الفارغة وأغرقت من فيها، وكان عرض البحيرة حوالي عشرين كيلومترا وطولها سبعين كيلومترا، مما لم يعط الفرصة لمن في وسطها بالوصول إلى أحد شواطئها، فلاقى المصريون جميعا حتفهم.
22
ويذهب مونتييه مع النظرية التي تقول بالاستعباد زمن رمسيس الثاني والخروج زمن مرنبتاح، وإزاء إشكالية وجوب وجود بركان في طريق الخروج، يفسر أحداث سيناء، مع عدم وجود أثر لأية براكين بسيناء، حسب تقرير علماء الحملة الفرنسية كوتل وروزيير، ومع إصرار مونتييه على تفسير الأحداث التي روتها التوراة بضرورة وجود بركان، فقد ذهب بالخارجين بعد خروجهم من مضيق الشريط الساحلي شمال البردويل، نحو العقبة داخل الأراضي الشمالية للسعودية الآن، ليتمكن من العثور على بركان حيث كانت المنطقة هناك بركانية بالفعل حتى زمن قريب. [انظر أيضا شكل رقم
3-3 .]
شكل 3-3: خط الخروج حسب بيير مونتييه من الشريط اليابس الضيق شمالي بحيرة البردويل/صورة بالأقمار الصناعية للشريط اليابس، يمتد من الغرب إلى الشرق، فاصلا ما بين البحر المتوسط وبحيرة البردويل. (3) رأي علي بك شافعي
وتعد هذه النظرية من النظريات المحترمة الجديرة بالاهتمام وبالاعتبار، في محاولة رسم سيناريو لخط سير الخروج من رعمسيس إلى سيناء، بعبور البحر الإعجازي، مع عقلنة ذلك العبور بعيدا عن أسطورة العصا الثعبانية، ومبدئيا يأخذ شافعي بدوره بنظرية الخروج زمن مرنبتاح، ثم يسلم بكشوف محمود حمزة في حفائر مدينة قنتير الواقعة شمالي مدينة فاقوس، ويعتبر قنتير هي رعمسيس بشكل قاطع.
ويستند إلى ما وصل إليه جوتييه حول مدينة رعمسيس، باعتبارها «كانت المقر الصيفي لملوك الأسرتين التاسعة عشرة والعشرين»، تحاشيا لرد نظريته بأن مقر الملك كان طيبة في الجنوب، ويروي لنا قصة عن راهبة تدعى (إيثيريا)، تركت لنا حكاية أدائها لفريضة الحج إلى الأماكن المقدسة في فلسطين عبر مصر، وأن رحلتها بدأت من جاليا نربونيس
Gallia Narbunis ، ودونت خط سيرها حوالي عام 533-540 ميلادية، وهي مودعة الآن في مكتبة أرزو، ومن خط سير تلك الرحلة يحاول شافعي أن يتعرف على مواقع الإسرائيليين بمصر ومن أين خرجوا؟
تقول الراهبة إيثيريا إن بلدة «رعمسيس، تقع على مبعدة أربعة أميال من مدينة كانت تعرف في زمنها باسم أرابيا»، ويرجع شافعي إلى المصور الجغرافي الذي وضعه الأمير عمر طوسون، نقلا عن وصف جورج القبرصي الذي عاش في القرن السابع الميلادي، فيكتشف أن «رعمسيس» كما جاءت في قائمة المقاطعات المحفوظة بأكسفورد «هي فاقوسة، لكنه لا يرى فاقوسة هي صفط الحنة»، كما هو متفق عليه لدى المؤرخين الكلاسيك، «بل هي مدينة فاقوس الآن جنوبي قنتير بحوالي عشرة كيلومترات»، وهي إلى الشمال الغربي من سفط الحنة/فاقوسة، وعلى نفس البعد من فاقوس توجد آثار تل الضبعة ومعبد أمنمحات الأول على يمين ويسار ترعة الديدمون. ويرى علي بك الشافعي أن تلك الخرائب هي امتداد للخرائب الشاسعة، التي حدثتنا عنها الراهبة إيثيريا في قصة حجها.
تقول إيثيريا إنها عبرت «من بلدة أرابيا إلى مدينة رعمسيس لمسافة أربعة أميال» خلال حقول حتى وصلت رعمسيس، وكانت بدورها حقول دون أية مبان، لكن المنطقة كانت مفروشة بأحجار وآثار مبان متهدمة، فقط شاهدت أثرا كان باقيا حتى زمانها لتمثالين ضخمين، ربما كان لأحد الفراعين، لكن الناس كانوا يزعمون زمن إيثريا من سكان المنطقة، أنهما للأخوين موسى وهارون؛ مما يعبر عن ذكريات قديمة لعلاقة موسى وهارون بهذا المكان، تواترت حتى وصلتهم، وتؤكد صلة الإسرائيليين بهذه المنطقة من مصر، وعليه فلا بد - عند شافعي - أن تكون رعمسيس هي قنتير، التي كشف آثارها محمود حمزة.
ومع رحلة الخروج يسير شافعي باحثا عن موضع، يمكن أن يكون هو استراحة المحطة الأولى للخارجين المذكور في التوراة باسم «سكوت»، فيبحث في المناطق المجاورة لقنتير، ويرى أن الموضع المناسب لمدينة سكوت هو الصالحية الحالية، التي تبعد حوالي عشرين كيلومترا إلى الشرق من قنتير باتجاه سيناء، وهي مسافة مناسبة للرحلة تستوجب الراحة بعدها، لكن معنى ذلك أن يعبر الخارجون عددا من قنوات النيل بين قنتير والصالحية، وهو ما لم تذكره التوراة، ولتبرير ذلك يقول إن وقت خروجهم كان النيل في أدنى منسوب له، حيث تتحول كثير من القنوات إلى حياض جافة، ومن ثم لم يكن هناك داع لكي تذكر التوراة عبور مناطق جافة. ومن جانب آخر عمد شافعي إلى الصالحية بحسبانها سكوت المذكورة بالتوراة، اعتمادا على ورقة أنستاسي، التي تعود إلى الأسرة التاسعة عشرة، وتصف سكوت بأنها متاخمة للحدود، ويسكنها أجانب، وبها قلعة باسم «ختم» سكوت، يحتمل أنها مجدل التوراة، بينما كان الرعامسة يسكنون على بعد خمسة وعشرين كيلومترا شمال غربي سكوت/الصالحية بمدينة قنتير (في مدينة رعمسيس).
ومع شافعي نسير على خط السير بحذاء الشاطئ الأيمن لفرع النيل الشرقي، لنجده يعتمد وثيقة أخرى من أوراق أنستاسي، وهي وثيقة تتحدث عن مطاردة عبيد هاربين تقول الوثيقة:
وبعد، فقد أرسلت من بلاط القصر الملكي وراء هذين العبدين، في اليوم التاسع عشر من الشهر الثالث من فصل الصيف وقت المساء، ولما وصلت حصن سكوت في اليوم العشرين من الشهر الثالث، علمت أن أخبار الجنوب تقول: فرا ذاهبين ... اليوم ... من الشهر الثالث من فصل الصيف، ولما وصلت القلعة أخبرت أن السائس قد حضر من الصحراء، وأعلن أنهما تخطيا الحدود شمالي حصن مجدول سيتي.
ولما لم يكن هناك قصور ملكية - برأي شافعي - في هذه المنطقة سوى في قنتير، فإن «سكوت يجب ألا تبعد سوى مسيرة يوم واحد، حسب الوثيقة المذكورة (من اليوم التاسع عشر إلى اليوم العشرين من الشهر الثالث) عن قنتير باتجاه سيناء».
أما الطريق الذي سلكوه على وجه التدقيق، فهو الممتد وراء مدينة تحنفيس القديمة، المعروفة الآن باسم دفنة (تل دفنة) ثم الفرما (بي لوز) إلى الشمال الشرقي منها، وكان هناك فرع نيلي يأخذ ماءه من عند دفنة ليصل إلى تل أبو سيفا، ويفترض شافعي أن هذا التل هو محل القلعة التي حدثتنا عنها النصوص المصرية كثيرا، وحددت مكانها أقصى الحدود الشرقية للدلتا، وأسمتها سيلة أو ثارو أو زالوا أو شور. وفي هذه الحال يجب أن تقع مجدل شرقي سيلة على أول الطريق نحو فلسطين، وكان فرع النيل الذي ينتهي إلى سيلة/أبو سيفا هو ما ذكرته النصوص المصرية باسم ماء حور أو بالمصرية القديمة سي حور، أما الفرع الأصلي الذي يتفرع منه سي حور، فكان يسمى ماء رع أو سي رع.
ولتفسير العبور من عند «فم الحيروث» يقول علي شافعي: إن حور كان الإله المحلي لمدينة سيلة/ثارو/أبو سيفا الواقعة بين بحيرة البلاح وبحيرة المنزلة، وكان الملح يستخرج من جنوب شرقي بحيرة المنزلة، حيث كان يصب الفرع النيلي دون منفذ على البحر، فازدادت ملوحة الماء في هذه المنطقة، وهذا هو الملح الذي يتحدث عنه الكاتب بينبس في تقريره لسيده آمنموبي؛ وهو الموضع الذي رسمه علي شافعي على خريطته مع التعقيب: «يمكن ملؤه بالماء إذا احتاج الأمر.» وهو المكان أو المصب لماء حور، وتترجمه اليونانية «فم حور»، وهو بالضبط يساوي فونيطيقيا فم الحيروث المذكور بالتوراة، كموضع لعبور البحر الإعجازي.
والبحر الذي عبروه ذكرته التوراة باسم بحر سوف، «وكلمة سوف كلمة عبرية تعني البوص»، وهو نبات ينمو في الماء الضحل ومصبات الترع والمصارف العذبة والمختلطة بالماء المالح. وقد ذكر الكاتب بينبس أن رعمسيس كانت تأخذ حاجتها من البوص من ماء حور، الذي لا بد أن يكون هو بحيرة ماء حور، وأن تلك المنطقة بالتحديد هي بحر سوف.
ويبحث عن موقع مجدل، ويستند إلى وثيقة مذكرات أنتونين التي وضعته في مكان ما بين سيرابيوم عند رأس البحيرات المرة وبين الفرما/بيلوز إلى الشمال منها، وإلى المصرولوجيست بتري الذي احتسب تل الحير الحالي جنوبي الفرما هو مجدل التوراة، كما أن العرب قد بنوا في تل الحير قلعة، لا شك أنها كانت تجديدا لمجدل المذكورة بالتوراة.
ويبقى موضع بعل صافون المقابل لموقع العبور من فم الحيروث على شاطئ بحر سوف، فيستعين علي شافعي بما كتبه الأثري نويل جيرون عن ورقتين اكتشفتا في سقارة عام 1940م، واحدة ديموطيقية والأخرى فينيقية، وأكدت إشارات الورقة الديموطيقية أنها معاصرة للفينيقية، وأنهما كتبتا خلال القرن الخامس قبل الميلاد، ومضمون الورقة الديموطيقية تضرعات من شخص للإله «بعل صافون وكل آلهة دافني» أي تل دفنة، مما يعني أن بعل صافون كان الإله الرئيسي في تل دفنه، وقد عقب جيرون بالقول: إذا قبلنا اعتبار مجدل هي تل الحير، فإن بعل صافون يجب أن يكون هو إله هذه المنطقة الرئيسي.
شكل 3-4: خريطة الخروج عند علي شافعي كما رسمها بيده.
ويخلص علي بك شافعي إلى وضع خريطة لتفاصيل مواضع الخروج، فموسى يجد نفسه هو وأتباعه في مأزق شديد الوعورة، فبحيرة البوص عن يمينه «بحر سوف»، وحصن مجدل أمامه بالحامية المصرية القوية، تسد عليه الطريق إلى فلسطين، بينما تحصره من اليسار مستنقعات نهاية الفرع البيلوزي للنيل، وخلفه الفرعون على رأس الجيش المصري، وفي هذه اللحظة الحاسمة تقول التوراة، إن الله أرسل ريحا شرقية قوية جففت بحر سوف. ويقول شافعي إن تلك الظاهرة تتكرر هناك حتى الآن، حيث لم يزل منسوب ماء بحيرتي المنزلة والبرلس، وهما من البحيرات الكبرى يتأثر تماما بالرياح، حتى إن الماء يغطي الطريق من بلطيم حتى برج البرلس، عندما تهب الرياح الغربية، بينما يجف تماما عندما تهب الرياح الشرقية، لكن الذي لا ريب فيه عند شافعي، أنه لم يغرق أحد، لا الفرعون ولا جنوده؛ لأنه لا يمكن تصور الغرق في ماء ضحضاح، لا يزيد ارتفاعه مهما ارتفع عن قدمين.
23
شكل 3-5: خريطة للخروج توزعها الكنيسة الأرثوذكسية المصرية.
شكل 3-6: خريطة كنسية أخرى للخروج.
شكل 3-7: وتصور آخر مرفق بالكتاب المقدس أعاد المؤلف رسمه بمزيد من الوضوح، وعلامات الاستفهام بالخريطة دلالة شك وليست من عندنا وإنما وضعت بأصل الخريطة.
الفصل الرابع
الأخطاء الكبرى في النظريات المطروحة
أولا:
في عام 1989م تم اكتشاف مجموعة مقابر تضم أربع عشرة مومياء مصرية، كان من بينها لحسن الحظ مومياء الملك مرنبتاح بن رمسيس الثاني، وكان العثور عليها شاهدا ودليلا على أن الرجل لم يختف في لجج البحر المفلوق غرقا، وزيادة في الاحتياط تم افتراض أنه غرق بالفعل، لكن البحر قذف بجثته إلى الشاطئ، أو أن أتباعه قد حملوه ميتا إلى الشاطئ نظرا لقدسيته، حيث حنطوه بعد ذلك ودفنوه؛ ولهذا الاحتمال تحديدا تمت إحالة المومياء إلى الأطباء المتخصصين، وخضعت لبحوث طبية دقيقة، إلا أن كل البحوث أسفرت عن نتيجة واحدة، وهي «أن الفرعون مرنبتاح قد مات ميتة طبيعية، بعد أن عمر طويلا، ولم يعثر إطلاقا على أثر لمياه البحر أو أملاحه أو أي من خواصه بالمومياء» كما لم يعثر على أي إشارة بالمومياء يمكن تأويلها لصالح فكرة الغرق بأي ماء عذب أو مالح.
ثانيا:
بالنسبة لنظرية دي بوا إيميه ومطابقته لبحر سوف التوراتي بخليج السويس، وأن العبور تم من عند العجرود قرب السويس الآن، يعتورها بعض الخلل الواضح؛ لأن كلمة سوف تعني القصب، وهو ما يشير إلى ماء تنمو فيه نباتات القصب (البوص وليس قصب السكر)، وهو أمر لا يتحقق إلا إذا كان هذا الماء مالحا، ويستقبل ماء عذبا من مصدر نهري دائم أو متقطع بما فيه من طمي، أي أن يكون ماء مالحا يصب فيه مصرف يحمل مياها عذبة، وحسب نظرية دي بوا إيميه فإن حوض القلزم الممتد من السويس إلى بحيرة التمساح، لم تظهر فيه أية آثار نيلية، مما لا يسمح بتسمية منطقة العبور عند العجرود والسويس ببحر سوف، «فهو إطلاقا في هذه الحال لا يعرف القصب».
وعلى المستوى الجيولوجي فقد مد دي إيميه خليج السويس/العربي، ليتصل بالبحيرات المرة وبحيرة التمساح، ليضع عند رأسه هيروبوليس التي رآها رعمسيس علما على مدينة المسخوطة، لكن جيولوجيا الأرض المصرية، رغم أنها تعترف بأن ذلك كان واقعا حقيقيا، فإنها تردف أن الانفصال بين الخليج والبحيرات قد تم في أقرب التقديرات فيما قبل بدايات عصر البلايستوسين الأول، قبل زمن الخروج بأزمان، وقبل أن تعرف الأرض دولا وحضارات وممالك.
ثم إنه إذا كانت هيروبوليس هي تل المسخوطة/أبوكيشيد الخشبي قرب الإسماعيلية الآن، مع شبه إجماع الآن على أن تلك المسخوطة هي سيخوت التوراتية، التي تعني المخيم أو العشش أو الحظائر بالعبرية، والمدونة بالنسخة العربية سكوت، فسيكون هناك تضارب واضح يتم التعامي عنه بين هذا المعنى وبين النص التوراتي: «فارتحل بنو إسرائيل من رعمسيس إلى سكوت» نحو ستمائة ألف ماش من الرجال عدا الأولاد. (خروج، 12: 37)
وهو ما يعني أن رعمسيس مدينة، وأن سكوت مدينة أخرى، وسكوت تبدو طوال الوقت محطة أولى على طريق الخروج؛ مما يعني أنها لا بد تقع في طريق الخارج من الدلتا إلى الصحراء السينائية، أي يجب أن تقع إلى الشرق أو إلى الشمال الشرقي من رعمسيس وبيتوم معا، ناهيك عن كون الاسم: تل المسخوطة اسما حديثا لا يشير إلى سكوت القديمة، وقد أطلقه الأهالي المسلمون على تل المسخوطة؛ لما بها من تماثيل يعتقد العامة أنها كانت لأشخاص حقيقيين سخطهم الله أحجارا، ويسقط بهذا التخريج القائل إن محطة الخارجين الأولى سكوت هي المسخوطة؛ لأن التطابق اللفظي وحده لا يكفي، بل ويتعارض مع حقائق الجغرافيا.
هذا إضافة إلى إشكالية أخرى تواجه نظرية دي بوا إيميه بشدة، فلو افترضنا أن هناك هبوطا قد حدث بمرور الزمن في مستوى المياه منذ زمن الخروج، مع ارتفاع في اليابس الموجود الآن بين بحيرة التمساح وبين البحيرات المرة وخليج السويس، وهو هبوط شديد بدليل تلك المساحة الكبرى، التي تركها الخليج انسحابه جنوبا، فلا بد أن يكون هناك هبوط آخر قد حدث على التوازي في مناطق بحرية مجاورة، حسب نظرية الأواني المستطرقة، لكن ما نعلمه يقينا أن العكس هو ما قد حدث، والدليل يستمد من سواحل البحر الأبيض المتوسط القريبة، حيث ارتفع الماء وغطى مساحات كانت يابسة، بل وعامرة بالمباني وبالبشر، وهو ما نقرؤه في جغرافية جمال حمدان، حيث كان يشرح جغرافية الساحل الشمالي لمصر، بعيدا عن مشاغل موضوعنا، فيقول: «تعرض النطاق الساحلي الشمالي من الدلتا خلال العصور التاريخية إلى حركة هبوط وانخفاض بالنسبة لسطح البحر المتوسط، أدت إلى غرق وضياع مناطق كثيرة منه، والحركة لا شك فيها علميا، والأدلة المادية والوثائقية والشهادات والشواهد وفيرة، مثلما هي يقينية ودامغة، لكن أسبابها وتفسيرها هي موضع الخلاف؛ فهل البحر هو الذي ارتفع؟ أم اليابس هو الذي انخفض؟ «المهم في الأمر أن البحر نفسه لم ينخفض إطلاقا»، إنما احتمال ارتفاعه هو الوارد، والثبات في مستواه هو المقبول، حيث يجمع الأكثرية على «هبوط الساحل الشمالي؛ مما أدى إلى غرقه تحت البحر، وتحت البحر ترقد الآن المقابر الرومانية الشهيرة بكوم الشقافة
Catacombs ، وكذلك المقابر البطلمية الغارقة بالشاطبي، وأيضا أرصفة ميناء الإسكندرية القديم، وما تناثر بينها تحت الماء من تماثيل مهشمة، والطبقة الرومانية عموما تقع تحت سطح المدينة الحالي بنحو سبعة أمتار، هذا إضافة إلى غرق جزيرة أنتيرودس
Antirhodes
التي كانت تتوسط الميناء الشرقي القديم، إضافة إلى ثلاث مدن كلاسيكية غارقة تحت الخليج هي: هيرا كليوم ومنوتيس
Menuthis
وكانوب، وفي قاع بحيرة البرلس بقايا وآثار متناثرة، تمثل أرضا هابطة تشير لغزو البحر للبحيرة. وبحيرة المنزلة تعتبر أكبر متحف مائي لبقايا وأطلال القرى والمدن القديمة الغارقة» تحت البحر، والتي طغى عليها البحر وأغرقها بحسابات المؤرخ المقريزي سنة 535م، وعلى أساس رواية المخزومي عن نشأة بحيرات الدلتا في 961 ميلادية، بواسطة طغيان مياه البحر، وينتهي بوتزر إلى أن هذه العملية كانت جزءا من ارتفاع مستوى سطح البحر منذ القرن الثاني الميلادي.»
1
ومثل هذه الشواهد تدحض للأسف الشديد إحدى النظريات العبقرية بشأن الخروج، ألا وهي نظرية دي بوا إيميه، كما أنها من جانب آخر تدحض النظريات التي وضعت مدينة رعمسيس كميناء عظيم تصله سفن العالم القديم عند موضع صان الحجر اليوم؛ لأن صان الآن تقع على مسافة من بحيرة المنزلة، ومعنى أن المنزلة ازداد اتساعها ازديادا عظيما خلال القرون الماضية، هو أن صان الحجر كانت على مسافة أكثر بعدا من بحيرة المنزلة، بحيث لا يمكن احتسابها ميناء على الإطلاق، ناهيك عن أمر آخر يجب أن نعلمه، يستبعد أي إمكانية لوضع ميناء دولي على بحيرة المنزلة، ونستقيه مرة أخرى من جغرافية جمال حمدان، فهو يحدثنا عن بحيرات مصر شمالي الدلتا وشرقها، فيقول: «إن الضحالة البالغة قاسم مشترك أعظم، فعمقها جميعا يتراوح حول المتر أو أقل، وبها مساحات شاسعة يزيد عمقها عن عدة سنتيمترات، إلى درجة أن الرياح القوية كثيرا ما تدفع مياهها وترفعها رفعا، بل وأحيانا ترفع مستوى المصارف التي تفرغ فيها، وأن الرياح القوية هذه إذا استمرت تجفف مئات الأفدنة فيها أحيانا لبضعة أيام، وتهلك أثناءها بالطبع ملايين الأسماك.»
2
ثالثا:
لاحظنا عند بروجش أنه قد عمد لدعم نظريته إلى تلفيقات، لا تليق بعالم جليل مثله، فإذا لم نعتبر إيجازه للنصوص المصرية الثلاثة بشأن رمسيس في نص واحد موجز تلفيقا، فإن التلفيق الأكيد كان في النص الذي ساقه في شكل رسالة محررة، من الكاتب كويسرا إلى رئيسه بيكو بتاح حيث أوردها كالآتي: «وقد أطعت الأمر الذي أصدره سيدي فأعطيت قمحا للعسكر «والإسرائيليين» الذين ينقلون الأحجار ... إلخ.» وقد تم هنا إبدال كلمة خطيرة عن النص الأصلي، حيث أبدل كلمة «والعابيرو» بكلمة «والإسرائيليين»، محتسبا ببساطة أن هؤلاء هم أولئك (وهو الأمر الذي سنفصل الحديث بشأنه في موضعه من بحثنا هذا)، كما أن النص الذي أورده عن رسالة بردية المتحف البريطاني:
كن مسرور الخاطر يا سيدي، فإن قبائل بدو آدوم قد مروا بحرية تامة من حصن الفرعون مرنبتاح.
تم فيه إبدال الكلمة الأصلية «شاسو آدوم» ب «بدو آدوم»، فالنص الأصلي حسب جاردنر هو:
انتهينا من السماح لقبائل الشاسو الآدومية بتخطي قلعة مرنبتاح، التي في زيكو حتى بحيرات بيتوم مرنبتاح التي في زيكو، ليظلوا هم وقطعانهم أحياء بفضل إحسان فرعون.
3 (عقب هنا جاردنر بالقول إن بي توم هنا ربما كانت فيثوم التوراة، لكنه فضل وضعها في وادي طميلات.)
ومما يدحض نظرية بروجش أيضا أنه اعتمد نصوصا بالتوراة، وأغفل أخرى عامدا؛ لأنها ضد نظريته، فحدد بحر سوف التوراتي بموضع خليج الطينة الآن بين الفرما وبين بحيرة المنزلة على شاطئ المتوسط، لكن ذلك يتضارب تضاربا صارخا مع بقية قصة التوراة؛ لأن التوراة تستمر فتقول إنه بعد عبور البحر من عند فم الحيروث، «خرجوا من بحر سوف» إلى بادية/برية باسم «شور»، ومن شور ساروا لمدة ثلاثة أيام حتى وصلوا إلى موضع باسم مارة (الخروج، 15: 22-23) ثم ارتحلوا من محطة مارة إلى موضع باسم إيليم (خروج، 15: 27)، ومن إيليم ارتحلوا «لينزلوا مرة أخرى على بحر سوف» (عدد، 33: 10)، وهنا تظهر المفارقة الكبرى، فلو كان المقصود ببحر سوف خليج الطينة عند المنزلة، فمعنى ذلك أن الخارجين من مصر، قد داروا بقسم كبير في عمق سيناء عبر خمسة مواضع، استغرقت أكثر من ثلاثة أشهر، ثم قفزوا فجأة من إيليم دون المرور بأية مواقع، ليعودوا فجأة إلى خليج الطينة عند بحيرة المنزلة مرة أخرى، باحتسابه بحر سوف، هذا إضافة إلى موضع تكرر التوراة ذكره، يقع عند المواقع الأخيرة في رحلة الخروج ميناء باسم «عصيون جابر»، وذلك بعد رحيل استغرق من الزمن سنتين عبر سيناء، وتصف هذا الموضع بأنه ميناء يقع بجوار أيلة (إيلات الآن على العقبة)، ثم تصفه في مواضع أخرى بأنه يقع على بحر سوف، انظر مثلا المراحل الأخيرة في رحلة الخروج تحكي:
ثم ارتحلوا من عبرونة ونزلوا في عصيون جابر، ثم ارتحلوا من عصيون جابر ونزلوا في برية صين وهي قادش. (عدد، 33: 35-36)
فعبرنا عن إخوتنا بني عيسو الساكنين في «سعير» على طريق «العربة» على «أيلة» وعلى «عصيون جابر»، ثم تحولنا ومررنا في طريق برية موآب. (تثنية، 2: 8)
وبعد قيام مملكة إسرائيل الموحدة وزمن حكم الملك سليمان يحكي الكتاب المقدس:
وعمل الملك سليمان سفنا في «عصيون جابر» التي بجانب أيلة على شاطئ بحر سوف في أرض آدوم. (ملوك أول، 9: 26)
وهكذا تكشف لنا رواية التوراة في مجملها دون انتقاءات حسب رغبة الباحث، أن الخارجين كانوا طوال الرحلة لمدة سنتين بالقرب دوما من ساحل بحر سوف؛ مما ينفي بالقطع أن يكون بحر سوف هو خليج الطينة أو بحيرة المنزلة؛ لذلك نجد تقليدا إنجيليا قديما لا نعرف صاحبه أو كيف وصل إلينا يقول: إن بحر سوف هو البحر الأحمر بذراعيه خليج السويس وخليج العقبة، فكان البحر الأحمر بحسبانه بحر سوف موروثا يتواتر في فلسطين زمن المسيح، وكان المحرر التوراتي لديه وثائق جغرافية، تؤكد أنهم داروا بحذاء سواحل البحر الأحمر السينائية من ضلعه الأيسر (خليج السويس أو الخليج العربي)، مع الاتجاه جنوبا نحوب رأس المثلث السينائي، ثم صعودا إلى الشمال مع ضلعه الأيمن (خليج العقبة)، حتى عصيون جابر بجوار إيلات. «إن ذلك المأثور التوراتي يتفق تماما وخط السير الوارد بأسفار الخروج والعدد بالتوراة، ويدحض تماما أية نظرية تبتعد ببحر سوف عن البحر الأحمر بذارعيه: السويس والعقبة».
وقد لاحظ «غطاس الخشبة» تلك المشكلة، لكنه تابع الرأي القائل بأن مدينة الاضطهاد رعمسيس، كانت هي صان الحجر مرة، ثم ناقض ذلك وقال إنها كانت الفرما الحالية، لكن ما يشغلنا في أمره، أنه اتفق مع بروجش وغيره، ممن قالوا إن بحر سوف ليس البحر الأحمر، إنما هو بحيرة المنزلة، وما لاحظه الخشبة هو أن خط سير الخروج كما هو بالتوراة، كان يعود بين كل عدة مواقع بالرحلة إلى شاطئ بحر سوف مرة أخرى، ومن هنا قام الباحث بوضع عدد من الخرائط، تبين أن الخروج تم على مراحل، كان يقوم فيها كل مرة بالقفز بالخارجين فجأة، من أقصى جنوب سيناء إلى بحيرة المنزلة مرة أخرى، بحسبانها بحر سوف، كلما مر الخارجون على هذا البحر، دون المرور بأية مواقع، كما لو كانوا قد طاروا ليعودوا إلى المنزلة، في كل مرة يعودون فيها إلى موضع على شاطئ بحر سوف، ودون أية مبررات عقلية أو موضوعية واضحة لهذا الطيران غير المقبول أبدا، ناهيك عن كونه كان يعود بالخارجين في كل دورة إلى قبضة الجيش المصري مرة إثر أخرى دون مبررات.
ومن الجدير بالذكر أنه رغم أن الباحث الخشبة، قد اعتمد نظرية بروجش في كون بحر سوف هو بحيرة المنزلة، فقد استبعد رأيه في تزمين الخروج، ورفض القول بالخروج زمن مرنبتاح بن رعمسيس الثاني، وأخذ بدلا منه برأي آخر هو رأي (جارستانج)، رغم أنه لم يشر إلى هذا العالم كمصدر لرأيه، ورأي جارستانج هو أن الخروج قد حدث زمن الفرعونة حتشبسوت، والرد السهل والبسيط على ذلك، خاصة أن الخشبة يقر فكرة مطاردة الفرعونة للخارجين وغرقها في خليج الطينة عند المنزلة، هو أن خروج الإسرائيليين سواء من صان الحجر أو من الفرما، كان بأقصى الشمال الشرقي في زمن حتشبسوت، بينما كان مقر حكمها وإقامتها في طيبة بأقصى الجنوب على مبعدة حوالي 1000كم، وهو ما يعني أن الفرعونة قد تحركت فورا للحاق بالخارجين، لتلحق بهم بعد خروجهم من رعمسيس إلى خليج الطينة كالبرق، بينما كانت تحتاج للوصول من العاصمة طيبة حتى خليج الطينة إلى أسبوع على الأقل، بينما التوراة تؤكد لنا أنهم بعد الخروج كانوا داخل سيناء عند إيليم بعد ثلاثة أيام من خروجهم، حيث لحقت بهم جيوش الفرعونة عند فم الحيروث. الأمر هنا شديد الاضطراب ومفكك إلى حد بعيد، ولا يصمد للنقد وإعمال المنطق، لكنا لا ننكر على الرجل جهده لهذا كان محل اهتمامنا.
أما بيير مونتييه فقد أخطأ مرتين: الأولى باحتساب صان الحجر هي رعمسيس التوراتية، والثانية عندما أخذ من التوراة المقدمات حول مواضع سكنى الإسرائيليين بمصر ومواضع الخروج، ثم قرر بعد ذلك مخالفة التوراة تماما في بقية تفاصيل مواضع خط سير الخروج، فأسقطها جميعا ليصل من المنفذ الشرقي لبحيرة البردويل، إلى أقرب موضع بركاني شرقي خليج العقبة.
هذا ناهيك عن أن كل من ذهب ببحر سوف شمالا إلى البحيرات المتصلة بالبحر الأبيض المتوسط، سواء بحيرة المنزلة كما عند بروجش، أو بحيرة البردويل كما عند مونتييه، قد أغفلوا أمرا هاما، هو أن «المحرر التوراتي كان يعلم جيدا، أن هناك فرقا بين بحر سوف وبين البحر المتوسط وبحيراته»؛ لأنه كان دوما يتحدث عن بحر سوف البعيد عن أرض فلسطين، وعن بحر آخر يتكرر ذكره ملاصقا لفلسطين، ويقع غربها تماما، يطلق عليه في أكثر من موضع البحر الكبير، وهو البحر المتوسط الآن.
وقد تم تحديد حدود الأرض الموعودة بفلسطين، في عدة مواضع بالكتاب المقدس، كان حدها الغربي دوما هو البحر الكبير، ولم يخلط المحررون ولا مرة واحدة، بين البحر الكبير (المتوسط) وبين بحر سوف.
رابعا:
إن الاعتماد على الحفائر المصرية وحدها في البحث عن مدينة رعمسيس غالبا ما أدى إلى نتائج مضللة، فكلما عثر أحدهم في الدلتا على آثار باسم رمسيس الثاني وقف ينادي: هنا رعمسيس مدينة الاضطهاد، وهو الأمر الذي من أجله حدث أول إجماع حول صان الحجر بحسبانها رعمسيس، حيث عثر هناك على نقش يقول: «آمون صاحب بر رعمسيس مرى آمون ذو الانتصارات العظيمة.» وقد احتسب ذلك دليلا كافيا على أن صان، كانت هي رعمسيس التوراتية، وذهب هذا المذهب مع الإجماع، رجل في ثقل جاردنر، الذي انتهى إلى أن صان هي التي ذكرتها النصوص باسم حواريس كعاصمة للهكسوس، وأن رعمسيس الثاني جاء بعد زمن، فجددها وأطلق عليها اسمه، ثم حملت بعد ذلك ولمدة طويلة اسم تانيس، وأنها هي التي أطلقت عليها التوراة اسم صوعن، ثم عرفت مؤخرا باسم صان الحجر، وقد وافقه على ذلك مصرولوجست آخر محترم هو يونكر، لكن ما لا يفوتنا هو أن ذلك النص الذي عثر عليه في صان الحجر «آمون صاحب بر رمسيس» و«مرى آمون ذو الانتصارات العظيمة»، قد أصبح الآن غير ذي موضوع، بعد اكتشاف أنه نص متكرر على آثار رمسيس الثاني في أكثر من موضع بمصر،
4
وما يجب الانتباه إليه هنا وجود خطأ آخر شديد الوضوح، هو احتساب مدينة صان الحجر هي تانيس المذكورة في المصادر التاريخية؛ لأن تانيس هذه بدورها اختلف بشأن موضعها أشد الاختلاف، وليس من المقبول علميا إلقاء القول هكذا سهلا: «تنيس هي صان الحجر»، مع إغفال احتمالات أخرى لموقع تنيس، لعل أشهرها ما جمعه محمد رمزي في معجمه الجغرافي للبلدان المصرية، عن تاريخ مدينة تنيس، حتى أمكنه القول:
تنيس
Tinnis
من المدن المصرية القديمة التي اندثرت، تكلم عنها ياقوت في معجمه، فقال إن تنيس «جزيرة في بر مصر» قريبة من البر «ما بين الفرما ودمياط»، وبها تعمل الثياب الملونة والفرش الأبوقلمون، وبحيراتها التي هي عليها، مقدار إقلاع يوم في عرض نصف يوم، ويكون ماؤها أكثر أيام السنة ملحا، لدخول ماء بحر الروم (البحر المتوسط) إليه عند هبوب ريح الشمال، فإذا انصرف نيل مصر في دخول الشتاء، وكثر هبوب الريح الغربية، خلت البحيرة وخلا سيف البحر المالح مقدار بريدين، حتى يجاوز مدينة الفرما، فحينئذ يخزنون الماء في حباحب، أي صهاريج لهم، ويعدونه لشربهم مدة السنة، ولما فتحت مصر سنة 20ه، كانت تنيس حينئذ أخصاصا من قصب، وكانت تعرف بذات الأخصاص إلى صدر بني أمية، ثم إن أهلها بنوا بها قصورا، ولم تزل كذلك إلى أيام بني العباس، فبنى سورها ودخلها أحمد بن طولون في سنة 269ه، فبنى بها عدة صهاريج وحوانيت في السوق كثيرة، تعرف بصهاريج الأمير، وأما صفتها «فهي جزيرة في وسط بحيرة مفردة عن البحر الأعظم»، يحيط البحر بهذه البحيرة من كل جهة، فإذا تكاملت زيادة النيل غلبت حلاوته على ماء البحر فصارت البحيرة حلوة، فحينئذ يدخر أهل تنيس المياه في صهاريجهم ومصانعهم لسنتهم، وكان لأهل الفرما قنوات تحت الأرض تسوق إليهم الماء إذا خلت البحيرة، وبعضهم سمى تنيس باسم تونة، في حين أن تونة من أعمالها، وبالبحث تبين لي أن الجزيرة التي كانت بها مدينة تنيس، لا تزال موجودة إلى اليوم ببحيرة المنزلة، ومعروفة بجزيرة تنيس، وبها بقايا من الطوب الأحمر المتخلف من مبانيها القديمة.
5
ومن جانبنا قمنا بالبحث وسافرنا وراء تنيس، ووجدناها جزيرة صغيرة عبارة عن تلال من مدينة مدمرة، وتقع بين الفرما ودمياط شمالي البحيرة، ويعرفها الصيادون هناك باسم كوم تنيس، ثم وقعنا عند جمال حمدان على حديث فاصل في مسألة تنيس يقول:
إن تنيس وحدها بحجمها الضخم وثرائها المعماري، وصناعاتها العظيمة من أفخر المنسوجات والأسلحة والصلب، وتجارتها الواسعة مع العراق بالذات، هي التي كانت تقارن بدمياط وشطا، ولقد كانت تنيس تقوم على «جزيرة كبيرة المساحة»، ويتم الوصول إليها عن طريق قناة تسمى بحر الروم تنتهي إلى الصالحية، وربما كانت جزءا من الفرع التانيسي، ولكن حتى وقت متأخر كالقرن العاشر الميلادي، ظلت تنيس عامرة بالآثار العظيمة من المساجد والكنائس والحمامات بالمئات والعشرات، وحتى بعد قرن آخر في القرن 11م، ذهل الرحالة ناصري خسرو لضخامتها ورخائها، حيث وجد بها كما ذكر 10000 محل تجاري و1000 سفينة في مينائها، بينما بلغ عدد سكانها الذكور وحدهم 50000 تقريبا، وعلى الجملة كانت من أجمل مدائن مصر، والأكثر إثارة أن هذه الجزيرة لم تكن تزرع شيئا، واعتمدت في كل غذائها وتموينها على التجارة، كانت تعيش على الصهاريج في مياه الشرب، فأثناء الفيضان كانت مياه النيل تكتسح المياه المالحة المحيطة بها، فتملأ الصهاريج الباطنية الشاسعة، حيث تخزن العام كله، ولقد ظلت جزيرة تنيس تقاوم غزو مياه البحر، لكنها عجزت عن أن تواجه منفردة غزاة البحر؛ إذ أصبحت معرضة لخطر غارات القراصنة والصليبيين من صقلية وفلسطين، فأمر صلاح الدين الأيوبي بإخلائها في نهاية القرن 12م، وفي أوائل القرن 13م هدم الكامل حصونها وسورها وسواها بالأرض، وتركها مجرد كومة من الحطام، لتظل بعدها جزيرة مهجورة خربة، تعرف الآن بكوم تنيس أو تل تنيس.
6
وهو ذات ما قاله «إبراهيم محمد كامل»: «تل تنيس يقع حاليا في بحيرة المنزلة، «التي لم تكن قائمة خلال العصر الفرعوني»؛ إذ تكونت البحيرة تدريجيا على أثر عوامل طبيعية، سببت هبوط الأرض في تلك الجهة، وبقايا التل تشكل جزيرة وسط المياه ذات معالم أثرية واضحة للعين المجردة. والتل هو بقايا مدينة تنيس المشهورة، التي لم يحاول الأثريون إزاحة الستار عن ماضيها المجيد. ولا شك أن المدينة القديمة تنيس كانت قائمة في العصور الفرعونية، وأنها كانت تقع على مصب الفرع التنيسي.»
7 «وهذا بحد ذاته رد كاف على من يزعمون أن بحيرة المنزلة كانت هي بحر سوف التوراتي؛ لأن البحيرة لم تكن قد وجدت بعد حينذاك».
ثم نجد عالم مصريات حجة هو نافيل، يرفض تماما أن تكون صان الحجر هي حواريس الهكسوسية، وقدم على ذلك برهانا قاطعا، بعد أن وجد كلا من البلدين مذكورا بمفرده في قائمة آمنموبي، وهو ما لا يقبل معه احتسابهما مدينة واحدة.
8
ثم اشتد نافيل في المخالفة، وذهب إلى أن رعمسيس التوراتية، هي التي كان يطلق عليها اليونان اسم فاقوسة، التي هي برأيه سفط الحنة الآن، والسبب أيضا آثار لرمسيس، حيث تم العثور هناك على قطعتين من الجرانيت الأسود باسم رمسيس الثاني، مع قطعتين أخريين من البازلت باسمه، ومن هنا «رأى نافيل أن سفط الحنة هي رعمسيس التوراة»، وأنها كانت عاصمة المقاطعة العشرين من مقاطعات الدلتا، التي عرفها اليونان باسم المقاطعة العربية «أرابيا».
هذا علما أن جاردنر قبل أن يذهب برعمسيس إلى صان الحجر، كان يؤكد أن رعمسيس هي بيلوز/الفرما.
9
أما بتري وهو حجة مصريات معلوم، فقد خالف هؤلاء وأولئك، معتمدا أيضا على آثار لرمسيس الثاني، تم العثور عليها في موضع مخالف تماما، فقال إن رعمسيس هي «تل رطابة حاليا في النصف الشرقي من وادي طميلات غربي تل المسخوطة»، حيث عثر هناك على معبد لرعمسيس الثاني، ثم على أثره يصوره وهو يضرب أسيرا آسيويا أمام الإله آتوم، وأثر ثالث على هيئة تمثال جرانيتي أحمر لرمسيس الثاني والإله آتوم، عليه عبارة تقول: «عظيم الاحترام عظيم الروعة في البلدان، وعلى البلدان الأجنبية البعيدة، ملك مصر العليا والسفلى رعمسيس ابن الشمس معطي الحياة، الذي أوقع مذبحة في أرض الشاسو، ونهب تلالهم وقتلهم، قد بنى مدينة باسمه للأبد.» وقد اعتبر فلندر بتري العبارة الأخيرة دليلا قاطعا على وقوع مدينة رعمسيس في موقع تل رطابة الحالية، خاصة أنه قد عثر بها على غرف عديدة استخدمت كمخازن، والتوراة تشير إلى أن الإسرائيليين قد استعبدوا في بناء مدينتي مخازن هما فيثوم ورعمسيس.
10
وكلما زادت مساحة الكشوف الأركيولوجية، زادت الخلافات وازداد الالتباس، فقد عثر المنقب محمود حمزة على دور سكنية في حفائر قام بها في قنتير شمالي الزقازيق، وتبعد حوالي 17كم إلى الجنوب من صان، وتقع فوق تل أثري تآكل بمرور الزمن، وأصبح في مستوى الأرض الزراعية، ووجد في حفائره آثارا من الأسرة الثانية عشرة والأسرة التاسعة والعشرين، كما عثر على أطلال لقصر يخص الملك ستي الأول ، أما الأهم فكان عثوره على لوحة دون عليها «الإله الطيب الأسد ضد السوريين الإله الطيب حبيب سوتخ»، وهي إشارة واضحة للإله سيت، الذي كان يعبده الهكسوس في حواريس، وعبده رعمسيس الثاني في مدينته رعمسيس.
وبين الدور السكنية عثر محمود حمزة على آثار كثيرة باسم رعمسيس الثاني وموظفي عهده، دونت بكتابات هيراطيقية على كسرات فخار كثير، تتضمن أيضا اسم رعمسيس.
11
ونظرا لأهمية هذا الكشف تحديدا، نستمع إلى محمود حمزة نفسه، يعقب على حفرياته في قنتير فيقول: «إن سيتي الأول كان أول من أقام فيها قصرا، ليجعله مكانا لراحته بعد عودته من حروبه في آسيا، ولما جاء عهد رعمسيس الثاني، رأى أنه تسهيلا للقبض بيد من حديد على ممتلكاته في آسيا، وتخليص البلاد من غارات الساميين المتتالية، أن يترك مقره في طيبة، ويجعله في الدلتا على مقربة من فلسطين، ليقمع أي ثورة في مهدها؛ لذلك يعد من الأمور الهامة في حكم رعمسيس الثاني، انتخاب موضع قنتير ليكون مقره الملكي في الدلتا. والواقع أننا وجدنا في الحقول والبيوت، عوارض أبواب وعتب، نقش عليها اسمه، هذا بالإضافة إلى مئات القراميد والزهريات المصنوعة من الخزف، والأشكال التي كانت تؤلف جزءا هاما في تزيين القصر وزخرفته، على أن وجود مئات القوالب من الفخار المطلي باسم سيتي الأول، ورعمسيس الثاني، ومرنبتاح الأول، وسيتي الثاني، ورعمسيس الثالث، ورعمسيس السابع ، ورعمسيس العاشر، لبرهان على أن هؤلاء الفراعنة، كانوا يقطنون هذا القصر، الذي كان يحلى بمنتجات مصنع خاص به (مهمته تزويد القصر بالعناية المعمارية والفنية بشكل دائم)، وذلك ليكونوا على اتصال بأملاكهم الآسيوية. كذلك كان في قنتير معابد للآلهة آمون وبتاح وست ... وتحمل كثير من قوالب الفخار المطلي، الذي عثر عليه في قنتير باسم رعمسيس الثاني، مصحوبا باللقب «با نتر» أي روح الإله، وأخرى تحمل طغراء
12
الملك مصحوبا بالنعتين: شمس الأمراء وحاكم الحكام. فإذا كانت قنتير هي رعمسيس، فإنه لا بد من البحث عن حواريس في مكان آخر.»
13
ومن ثم اعتمد المهندس علي بك شافعي اكتشافات محمود حمزة، وسلم بأن قنتير هي رعمسيس، وأن فاقوس الحالية (وليس فاقوسة/سفط الحنة) هي فيثوم، ويرسم خريطة الخروج اعتمادا على دليل سفر حج الراهبة إيثيريا، لكنه يتغافل تماما عن المسافة التي ذكرتها تلك الراهبة بين فيثوم ورعمسيس؛ «لأن المسافة بين فاقوس وقنتير تصل إلى حوالي ضعف المسافة، التي ذكرتها إيثيريا بين فيثوم ورعمسيس».
وحتى لا نغمط دي بوا إيميه حقه، فإن الكشوف الأركيولوجية الحديثة، يمكنها دعم وجهة نظره بعد رحيله بزمن، في أن موقع تل المسخوطة كان هو مدينة رعمسيس، فقد جاء من بعده فرديناند دليسبس، ليعثر أثناء حفر قناة السويس في موقع المسخوطة على عدد من التماثيل والنصب، وأشكال لأبي هول صغير تعود إلى عهد رمسيس الثاني، وهي محفوظة الآن في متحف الإسماعيلية، كذلك تم العثور على ثالوث من الجرانيت الوردي لرعمسيس الثاني، جالسا بين الإلهين حورأختي وخبري، ولوحة أخرى من ذات المادة لرعمسيس الثاني، يقدم تمثال ماعت للإله حور أختي، ثم محراب من الجرانيت الأحمر لرعمسيس الثاني، وهو يحتفل بعيده الثلاثيني «حب سد»، وتمثالا لابي الهول من الجرانيت الأسود، من الدولة الوسطى سبق واغتصبه لنفسه أحد ملوك الهكسوس، ثم جاء رعمسيس الثاني فاغتصبه لنفسه ثانية ودون عليه اسمه، كما عثر على صقر يحمل طغراء الملك رعمسيس الثاني من الجرانيت الأسود.
والأهم أنه تم العثور على آثار واضحة، لسور ضخم من اللبن حول معبد كبير، وقد جاء في رواية التوراة: «فاستعبد المصريون بني إسرائيل بعنف، ومرروا حياتهم بعبودية قاسية في الطين واللبن» (خروج، 1: 13-14)، وحديث «الطوب اللبن» متكرر في سفر الخروج، كما في الإصحاح خمسة مثلا، وهو ما يرجح بدوره أن تكون المسخوطة هي رعمسيس التوراتية.
وهكذا كانت شخصية رعمسيس الثاني النرجسية المتضخمة، وعشقه للمعمار وانتشار هذا المعمار في مناطق واسعة، مدعاة لتعدد الاحتمالات حول موضع مدينة رعمسيس التوراتية، كلما وجد المنقبون اسم رعمسيس في موضع من المواضع؛ ومن ثم «نؤكد مرة أخرى أن الآثار وحدها، ليست بالقطع كافية وحدها، للفصل في مسألة أين تقع مدينة رعمسيس التوراتية؟!» وهو ما فعلته النظريات السوالف جميعا، وكان نقطة ضعفها الأساسية، حيث اعتمدت على الآثار والحفائر وحدها.
ومن أجل وضع تصور واضح أقرب إلى القبول، حول تلك المواضع التوراتية، والاتفاق مع ما لدينا من مصادر ومادة علمية هائلة، رغم تنافرها وتضاربها، علينا أن نعيد ترتيب ما بيدنا الآن من أوراق.
أولا:
أقام الهكسوس في مصر عاصمة لهم هناك، على الحدود الشرقية للدلتا، باسم يمكن نطقه متعددا بين لسان مصري وسامي ويوناني دون خلاف، هو «حوت وعرت، حوارة، هوارة، حواريس، أواريس - أفاريس، حويرة، حويلة»، وإن تلك المدينة كانت مقرا عسكريا ودينيا، وكان الإله المعتبر فيها هو إله الشر المصري سيت، أو كما نطقه الهكسوس «سوتخ» بتصريفه اسميا، وإنها بالتأكيد تقع إلى الشرق من الفرع البوباستي للنيل، حسبما جاءنا في مقبرة الضابط المصري أحمس بن أبانا، الذي حكى لنا قصة معارك التحرير، التي قادها الفرعون أحمس بن سقننرع.
شيد الفرعون رعمسيس الثاني مدينة باسمه، أو أعاد بناءها حيث كانت قائمة قبله، ويحتمل أن تكون هي ذات مدينة الهكسوس حوايس أو لا تكون، وإلى القرب منها حسب خط سير رحلة الراهبة إيثيريا بحوالي 4 أميال، أي حوالي ستة كيلومترات ونصف، تقع مدينة أخرى باسم فيثوم أو بي توم أو باتوموس.
إلى الشرق من هاتين المدينتين تقع محطة أولى على طريق الخروج باسم سكوت، المظنون أنها الآن الخشبي أو أبوكيشيد المعروفة باسم تل المسخوطة، وأن المسخوطة كانت تلك التي جاءنا ذكرها عند اليونان باسم هيروبوليس، أو بترجمة البعض لها «مدينة الأبطال» إلى القرب من الخليج العربي/القلزم/السويس الآن.
ثانيا:
اختلفت آراء الباحثين في تحديد موقع مدينة رعمسيس وجارتها فيثوم كالآتي:
افترض دي بوا إيميه أن رمسيس أو ربما بيتوم، هي التي ذكرها اليونان باسم هيروبوليس، وأنها تل المسخوطة الآن، وأنها كانت ميناء دوليا على قمة الخليج العربي، المعروف الآن بخليج السويس، وأن الخليج كان يمتد في ذلك الزمن ليملأ كل حوض القلزم، ويلتحم بالبحيرات المرة وببحيرة التمساح.
افترض آخرون مثل بروجش وجاردنر أن مدينة رعمسيس هي ذات عين المدينة المذكورة بالوثائق التاريخية باسم تانيس، وأنها هي هي صان الحجر حاليا، وذهب معهما ذات المذهب بيير مونتييه، إلا أن يونكر رفض توحيد حواريس - الهكسوسية - بتانيس، بعد أن وجد كلا منهما مذكورا بمفرده في قائمة آمنموبي.
رأى بتري أن رعمسيس هي تل رطابة الحالية بوادي طميلات، دون تقديم بحث واضح وحقيقي.
رأى محمود حمزة أن رعمسيس هي قنتير الحالية، مع رفضه أن تكون هي حواريس الهكسوسية، وقد تابعه على ذلك علي بك شافعي، الذي رسم وفقا لاكتشاف حمزة خطا لسير الخروج الإسرائيلي من مصر.
اعتمد نافيل على كشوف أثرية بدوره، ليقول إن رعمسيس هي سفط الحنة الحالية، وكان اليونان يسمونها فقوسة، وكانت عاصمة المقاطعة التي عرفها اليونان بالمقاطعة العربية، لغلبة العنصر السامي بين سكانها، ورفض بدوره أن تكون هي حواريس الهكسوسية.
ثالثا:
إن لمدينة رعمسيس عدة مواصفات أمكن تحديدها من التوراة، من اللوحة المنقوشة على جدار الكرنك، ومن رسالة أحد الكتبة إلى سيده كاتب البلاط، ومن قصيدتين في مديح مدينة رعمسيس، تعرفان باسم القصيدة الصغرى والقصيدة الكبرى، ومن هذه المصادر يمكن تجميع أهم الصفات والشروط للمدينة، التي نبحث عنها في موقع يجمع «مواصفات من الصعب أن تجتمع لمدينة على خريطة مصر»، وهذه المواصفات كالتالي:
نحن بحاجة إلى «موضع تتوافر فيه آثار مصرية قديمة، تشير إلى المدينة باسم رعمسيس بشكل واضح»، وهذا شرط أول ، وقد أخذ به الباحثون المصرولوجيون كشرط وحيد وليس أولا؛ مما أدى إلى تضارب شديد في تحديد موضعها مع تعدد المواضع، التي عثر فيها على اسم رعمسيس في آثاره الهائلة عددا وتفرقا. «يجب أن يقع هذا الموضع في أقصى شرقي الدلتا على الحدود مع البراري المتصلة بسيناء»، بحيث يكون حسب قصائد مديح رعمسيس، «آخر كل أرض مصرية وبداية كل أرض أجنبية» أو فلسطينية.
إن تلك المدينة «عند طرف الطريق الوحيد المؤدي إلى خارج مصر شرقا»، رغم تعدد الطرق إلى الشرق، وهو الأمر الذي يزيد في الالتباس؟!
أن يسمح الموضع بقيام «ميناء دولي» يستقبل سفنا بحرية، تفد إليه بجزية بلدان العالم المعروف آنذاك، سواء تلك القادمة من آسيا، أو القادمة من أفريقيا، أي ميناء يقع على البحرين الأبيض والأحمر في ذات الوقت، وهو المستحيل عينه، فكانت تأتي إليه جزية بلاد كدى (تركيا)، وجزية السواحل الأفريقية مباشرة إلى مدينة الميناء رعمسيس!!
أن يكون في الجوار موضع أو «قناة ماء بالتحديد، تحمل اسم شيحور» حسبما جاء في التوراة، أو باسم سيهور حسبما جاء بقصائد مديح رعمسيس المصرية. «أن تطل كميناء على الساحل الغربي لبحر يحمل اسم سوف»، وأن يتناسب هذا البحر في ظروفه مع اسم سوف أي «بحر البوص»، فيجب أن يكون ضحلا، وأن يستقبل ماء عذبا من قناة نيلية، وتلك الضحالة ستتضارب مع القول بميناء يستقبل سفنا كبرى، وهي بذاتها مشكلة مستعصية. «ربما كانت رعمسيس هي حواريس الهكسوسية»، وإذا لم تكن فيجب البحث عن موضع مناسب لمدينة حواريس لقطع الشك باليقين.
في جوار رعمسيس وعلى حوالي بعد أربعة أميال، منها حسب الراهبة إيثيريا، يجب أن تقع «مدينة أخرى باسم فيثوم» أو بيتوم، ويجب أن نعثر هناك على آثار مصرية تؤكد ذلك، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
أن تقع رعمسيس وفيثوم في محيط إقليم واحد، يعرف حسب المؤرخين اليونان باسم «الإقليم العربي»، وفي التوراة باسم «جاسان».
أن نجد ما يشير إلى أن إحدى المدينتين رعمسيس أو فيثوم، كانت «تحمل اسم صوعن» الوارد بالتوراة .
أن يقع «إلى الشرق» من موقعنا هذا موضع يحمل اسم «سكوت يبعد بمسافة سفر يوم واحد، بالعربة التي تجرها الجياد»، حسبما علمنا من التوراة السبعونية، عن سفر يوسف من القصر الملكي إلى الحدود لاستقبال أهله، كما كانت سكوت محطة الراحة الأولى في طريق الخارجين، كذلك من خبر الموظف المطالب بمطاردة عبدين هاربين من القصر الملكي، واستغرق بدوره سفر يوم واحد، وهذه وثيقة مصرية توافق ما قالته التوراة السبعونية، أي يجب وقوع سكوت قرب طرف الطريق للخارج من رعمسيس نحو الحدود، وأنها أول ما يقابل الداخل من سيناء إلى مصر نحو رعمسيس، «مع وجوب وجود آثار مصرية» تشهد بذلك.
أن يقع موضعنا الذي نبحث عنه غربي بحر سوف، بينما «يقع شرق هذا البحر صحراء/برية باسم شور»، حيث إن الخارجين قد خرجوا من البحر المفلوق (سوف) إلى برية باسم شور، حسب الأسطورة التوراتية.
إلى الشرق من موضعنا هذا بمسافة سفر يوم كامل، تقع مجموعة إحداثيات جغرافية على الساحل الغربي لبحر سوف، هي «مجدل وبعل صافون وفم الحيروث»، حيث تم فلق البحر في الأسطورة التوراتية، بينما يقع إلى شرق هذا البحر الموضع شور. ... «وهكذا فنحن نبحث تقريبا عن المستحيل».
الباب الثالث
نظرية المؤلف لضبط جغرافية الخروج وتاريخها
الفصل الأول
رعمسيس تلك المدينة اللغز!
نختصر الموقف من علاقة الهكسوس بالإسرائيليين، بكوننا نحتسب افتراضنا أن بني إسرائيل قد دخلوا مصر في زمن الهكسوس كفصيل قبلي نسيب، وهو الفرض الذي سنقيم الدليل عليه بطول هذا الكتاب.
كان آخر ملوك الهكسوس على مصر، هو الملك أسيس الملقب بلقب أبوفيس الثالث، وذلك حسبما ورد عند يوسفيوس نقلا عن المصري مانيتو، وهو ما طابق قائمة الملوك المعروفة باسم بردية تورين، وهو الملك الأخير من الحكام الأجانب، وقلنا إنه قد بدأت الثورة ضده من طيبة، بقيادة الملك سقننرع وولديه كامس ثم أحمس، وحسب القصة التوراتية تمكن يوسف ببراعة إسرائيلية من الوصول إلى الحظوة الملكية، فصار وزيرا لخزانة الهكسوس في مصر، ثم تمكنت الثورة المصرية من الإطاحة بالاحتلال، ليقلب الزمان لبني إسرائيل وجها مخالفا، تمثله بصدق - وتطابق على صدقنا أسفار - التوراة إذ تقول: «ثم قام ملك جديد على مصر، لم يكن يعرف يوسف» ... فجعلوا عليهم رؤساء تسخير لكي يذلوهم بأثقالهم، فبنوا لفرعون مدينتي مخازن: «فيثوم، ورعمسيس». (خروج، 1: 8-11)
النص يقول إن ملكا جديدا قد قام على حكم مصر، وهو أمر طبيعي، وربما يعني موت الملك السابق أسيس الهكسوسي، ومجيء ملك جديد، لكن النص هنا يحمل دلالات أخرى؛ لأنه لو كان الأمر قد سار على الوتيرة المنطقية للأحداث، لكان ضروريا أن يعرف الملك الجديد، الذي نشأ بالبلاط وعاينه وارتقى فيه المناصب، من هو يوسف ومن هم أهله؟ خاصة أن يوسف كان يشغل أحد أهم المناصب الكبرى في الدولة، لكن النص يقول إن هذا الملك الجديد، لم يكن صاحب علاقة مباشرة بيوسف، أي إنه جاء من خارج البلاط الحاكم المعروف ليوسف حينذاك، ليس هذا فقط، بل جاء وهو يحمل ليوسف وأهله ضغينة شديدة وكراهية عظيمة حتى إنه استعبدهم قصدا نكاية وسخرهم في بناء مدينتين للمخازن: الأولى باسم فيثوم والثانية باسم رعمسيس.
لقد قالت التوراة ذلك قبل اكتشاف حجر رشيد، وفك رموز اللغة الهيروغليفية بقرون بعيدة، لكنا قد أصبحنا نعرف الآن من علوم المصريات مصداقية تلك التسميات؛ لأن فيثوم هي «بر-آتوم» أو بالنطق الملتبس بالسامي «بي-توم» بإسقاط حرف الراء المعترض والثقيل، و«بر» أو «بي» أو «في» تعني المقر أو البيت أو المعبد أو المسكن أو الفم، أو المصب أو أول الطريق أو نهايته، فهي دلالة مكانية على الإطلاق، فهي بهذا المعنى تصبح «مقر آتوم»، وآتوم هو الإله المصري المعلوم الشأن، هكذا أخبرنا أصحاب علم المصريات عن مدينة «فيثوم» أو «بي توم»، أما «رعمسيس» فهي لا شك تلك التي كشف عنها علم المصريات الحديث، في المدونات المصرية التي تذكرها باسم «بر رعمسيس» أو «بي رعمسيس» أو «بي رعمسة»، حذف «ي س» وهو التصريف اليوناني المعلوم للأسماء، و«رع مس يس» هو اسم لسلسلة من الفراعين حكموا مصر، بدءا من الأسرة التاسعة عشرة باسم سلالة الرعامسة، وبإسقاط حرف «ع» بالتخفيف، يصبح الاسم هو «رمسيس» المتداول حتى الآن، كمسمى بين المصريين المسيحيين بالذات، وإن أكد لنا المصرولوجيون أن مدينة رعمسيس يجب أن تنتسب تحديدا للفرعون العظيم المحارب وعاشق المعمار، الذي لم يترك مقاطعة في مصر، إلا وترك فيهما آثارا باسمه والمعروف باسم «رمسيس الثاني»، وهو والد الفرعون مرنبتاح صاحب لوح إسرائيل المشهور، وبسبب ذلك اللوح تم استنتاج أن رمسيس الثاني، كان هو فرعون الاضطهاد الذي سخر الإسرائيليين الأسرى بمصر، في أعماله الإنشائية الكبرى، أما ولده مرنبتاح فكان هو فرعون الخروج الإسرائيلي من مصر زمن النبي موسى.
لكن إذا كان باني المدينة ومنشئها لأول مرة هو رعمسيس الثاني، فإن ذلك سيتضارب مع رواية التوراة حول استقرار يوسف وإخوته في مدينة رعمسيس، قبل زمن رعمسيس الثاني بزمان، منذ استقر فيها يوسف وإخوته قبل أربعة أجيال من زمن الخروج الموسوي، حسبما تقول التوراة أي قبل زمن رمسيس الثاني ب 430 سنة حسب التوراة المازورية، أو 215 سنة حسب التوراة السبعونية، وهي المشكلة التي واجهت أحمد عثمان فحاول حلها بالقول: إن تسمية المدينة باسم رعمسيس، لا تعود إلى رعمسيس الثاني، إنما إلى رعمسيس آخر، خاصة أن عثمان يرفض النظرية، التي تربط بين الاستعباد الإسرائيلي وبين رمسيس الثاني؛ لذلك يلجأ إلى الضابط رعمسيس الذي أصبح فيما بعد رعمسيس الأول، وكان قد تولى مناصبه زمن العمارنة، ثم حكم بعد سقوط أسرة العمارنة، وبعد انتهاء حكم حور محب مؤسس الأسرة 19، لكنه في رأينا كان حلا شديد التعسف والتكلف؛ لأنه من الصعب تصور مدينة مصرية كبرى، تنسب في نشأتها واسمها إلى ضابط صغير، لم يكن متوقعا ماذا سيكون مستقبله حين نشأتها، ومن ثم نتصور من جانبنا، أن ما حدث هو أن المحرر التوراتي، قد ذكر المدينة بالاسم الذي كان قد استقر، وأصبح مشاعا معلوما زمن تدوينه ذلك النص، وهو ما ذهب إليه باحث رصين مثل فراس السواح، إذ يقول: «في الحقيقة إن أرض رعمسيس ومدينة رعمسيس، مما ورد ذكره في سفر الخروج، مسألة لا يمكن الاعتماد عليها في تحديد زمن الخروج؛ لأن المحرر التوراتي قد استخدم اسم أرض رعمسيس، في الإشارة إلى منطقة الدلتا منذ أيام يوسف، أي قبل بناء مدينة رعمسيس بحوالي خمسمائة عام (أي قبل زمن رمسيس الثاني، بفرض أنه هو باني المدينة [المؤلف])، وهذا يعني أن المحرر التوراتي الذي كان يكتب سفر الخروج في فترة متأخرة من الألف الأول قبل الميلاد، قد استخدم الاسم الذي يعرفه لمنطقة الدلتا، بصرف النظر عن ارتباط هذا الاسم بفترة تاريخية معينة.»
1
وبهذا المعنى أجرى «روبنسون» أبحاثه، وانتهى إلى القول: «لعل ذكر بيثوم
ورعمسيس، «تفسير متأخر من كتاب القصة»، وأن القصة في صورتها الأصلية لم تسم هذه المدن.»
2
وبالفعل فإنك تجد تسمية رعمسيس لموضع سكنى الإسرائيليين بمصر، يبدأ مبكرا جدا وليس متأخرا مع الاضطهاد وظهور موسى، فقد كانت المدينة موجودة زمن يوسف، وزمن الدخول إلى مصر، وإذا كنا من جانبنا نؤكد أنه دخل زمن الهكسوس، فهو ما يعني أنه دخل عاصمة الهكسوس المصرية حواريس، قبل أن يحكم مصر أي فرعون باسم رمسيس، لكن المحرر المتأخر عندما كتب القصة، كتب اسم المدينة المتداول «رعمسيس»، وهو الاسم الذي كان متداولا حتى عهده، وهو ما يعني أن رعمسيس هي ذات عين حواريس الهكسوسية، والنص المقصود هو الذي يقول:
فأسكن يوسف أباه وإخوته، وأعطاهم ملكا في أرض مصر، في أفضل أرض مصر، في أرض رعمسيس، كما أمر فرعون. (تكوين، 47: 11)
هذا عن الترجمة العربية عن النص العبري المازوري، أما النص السبعوني اليوناني، فيورد ذات الكلام مطابقا مع اختلاف وحيد لكنه تأسيسي، في كلمة واحدة هي اسم المدينة، التي سكنها الإسرائيليون في مصر، فبدلا من «رعمسيس» تأتي التسمية اليونانية «هيروبوليس»، والتي تترجم عادة ترجمة اعتباطية بمعنى «مدينة الأبطال»، فهل كانت مدينة حواريس الهكسوسية، هي بالتحديد التي حملت بعد ذلك اسم مدينة رعمسيس، أطلق عليها اليونانيون اسم هيروبوليس؟ أم أن هذه غير تلك غير الثالثة؟ هذا لغز أول حول التسمية، ناهيك بعد ذلك عن تحديد الموضع الجغرافي التدقيقي، وفيه من الفروض والأقوال ما لم يلتق أبدا مع بعضه البعض.
والتوراة تضع مدينة رعمسيس، وجارتها مدينة فيثوم أو بي توم، كمدن رئيسية ضمن مقاطعة كبيرة، تسميها جاسان (أو باللسان العربي: غسان) فتقول:
وسكن إسرائيل في أرض مصر في أرض «جاسان»، وتملكوا فيها وأثمروا وكثروا جدا. (تكوين، 47: 27)
ثم لتزيدنا التوراة التباسا تعطينا اسما آخر للمدينة، التي سكنها الإسرائيليون بمصر هو كما في النصوص:
قدام آبائهم صنع أعجوبة في أرض مصر، بلاد صوعن، شق البحر فعبرهم ونصب المياه كند ... جعل في مصر آياته وعجائبه في بلاد صوعن. (مزامير، 78: 12، 13، 43)
ونبدأ بالسؤال الملحاح الذي لم يجد حتى الآن إجابة قاطعة بين مبعثرات التاريخ القديم وشظاياه: أين تقع المدينة التي اتخذها الهكسوس مركزا عسكريا وإداريا في مصر، وجاءنا ذكرها عند المؤرخ المصري «مانيتون ق 3ق.م.» باسم «حواريس» أو «أواريس»، أو «حواعرة» أو «هوارة» بالنطق المصري، علما أنها كانت تقع في مقاطعة مصرية باسم «سترويت»؟ وهو ما نقله عن «مانيتو» مؤرخو العصر الكلاسيكي أمثال يوسفيوس ويوليوس الأفريقي وغيرهم.
إن البحث عن مقاطعة الإله سيت، التي تمركز فيها الهكسوس «سترويت» في جدول المقاطعات المصرية، التي دونها المصريون القدامى بأنفسهم، وعلى تغير أسمائها عبر الزمن، أمر غير مجد، فقد سعينا وراء تلك الجداول، ولم نجد أي ذكر لمقاطعة باسم «سترويت».
وللحل افترضنا احتمالين: الأول أن تكون جداول المقاطعات المصرية قد ذكرتها باسم آخر، والاحتمال الثاني يرتبط بالأول، إذ يحيل الاسم «سترويت» فورا إلى الإله «سيت»، ومن ثم يحتمل أن يكون «مانيتو» قد نحت لها اسما منسوبا إلى ربها المعبود «سيت»، فأسماها «سيترويت» نسبة إليه، بمعنى المقاطعة «الستية».
وحتى الآن، ورغم ما بذل من جهود، لم يوفق علماء المصريات إلى اتفاق واضح حول موضع «حواريس»، وهو في أصله المصري «حواره»، مع إضافة التصريف الاسمي «يس»، وهو التلوين اليوناني الذي لحق إله المقاطعة «سيت»، فحمل الاسم اليوناني «تيفون»، لما يجع بين الإلهين: المصري واليوناني من صفات الشر والجدب والأفعال الرديئة الحمراء، ويتضح ذلك الدأب اليوناني في إطلاق أسماء يونانية على جميع المدن والآلهة المصرية الأخرى.
وتعتقد جلة محترمة من الباحثين، أن مدينة الهكسوس «حواريس» أو «حاوعرة»، هي ذات المدينة التي عرفت بعد ذلك باسم «تانيس»، إلا أن المشكل يظل قائما إذ لم يتم اتفاق الرأي حول موقع «تانيس» ذاتها؟ ولم يتم الاتفاق حول موضعها بشكل قاطع، وإن كان من المتفق عليه وجوب البحث عنها على حدود الدلتا الشرقية مع سيناء، استنادا إلى كون الإسرائيليين، وهم ساميون، قد عاشوا في تلك المناطق، وربما كانوا على علاقة بالهكسوس، وقد رجحنا أن تكون تانيس هي القابعة تحت تل تنيس شمالي بحيرة المنزلة، وقد أطلقت التوراة على المدينة التي عاش فيها الإسرائيليون اسم «صوعن» (سفر العدد، 13: 22) ولأن «صوعن» تعتبر عند بعض الباحثين هي ذات عين «تانيس»، فقد انتهوا بالقياس إلى أنها هي ذات «حواعرة/حواريس»، وإن كان هذا التأكيد برمته فيما يرى «جاردنر»
3
لم يزل موضع جدل شديد حول مصداقيته، التي لم تزل قائمة على افتراضات وتخمينات، وأنها تتوقف أساسا على اليقين بأن بني إسرائيل عاشوا في «حاوعرة» الهكسوسية، وأن «حاوعرة» هي «تانيس» حقا، وأنها المدينة المعروفة في التاريخ والمذكورة في التوراة باسم «رعمسيس»، ومعنى «حاوعرة» في المصرية القديمة هو المدينة المتطرفة أو الواقعة على الحدود، وأسماها اليونانيون «أفاريس»، الذي حرف إلى «أوراس» و«أواريس» و«هواريس» و«هوارة» و«حواريس»، وعادة ما تسمى بها مدن البدو المتطرفة في مصر حتى اليوم، كما لو كانت بقية من مأثور قديم، فيطلق المصريون على مدن الحواف الصحراوية اسم «الهوارة».
وسبق وأفادنا «مانيتو» أن حواريس كانت «تقع على الضفة الشرقية للفرع النيلي الدلتاوي المعروف باسم البوباسطي»، نسبة لتفرعه من جوار مدينة «بوباسطة» التي تقع على ساحله الغربي، والتي تعرف اليوم باسم «تل بسطة»، وكانت مقرا لتقديس الآلهة القطة «باستت»، (علما بأن هذا الفرع قد ضمر الآن، وحلت محله ترع ومصارف، مثله مثل الكثير من الفروع الكبرى الأخرى للنيل، والتي بلغ عددها أيام هيرودت سبعة فروع كبرى في الدلتا، وحدثنا عنها في تاريخه، ولم يبق منها سوى فرعين رئيسيين هما دمياط ورشيد)، ونفس القول حول وقوع حواريس على الفرع البوباسطي للنيل، يأتي في قصة «أحمس ابن أبانا»، لتؤكده ولا تدع مجالا للشك في ذلك، وهناك تيار قوي بين العلماء كما سبق وأشرنا، يذهب إلى أن مدينة «حواريس» هي بالضبط مدينة «صان الحجر» الحالية، استنادا إلى شواهد أهمها الشاهد الأركيولوجي، المعروف بلوح الأربعمائة سنة، الذي عثر عليه بين مجموعة كبيرة من الأنقاض في صان الحجر، التي تشير إلى مدينة مصرية كبرى، كانت تقوم في هذا المكان.
ويذكر نص اللوح الأربعمائي أميرا باسم «رعمسيس»، يقوم على احتفال كبير سمي الاحتفال الأربعمائي، فتم الربط بين «رعمسيس» هذا و«رعمسيس الثاني» من ناحية، وبينه وبين اللوح الأربعمائي من ناحية أخرى، وأخيرا بين اللوح الأربعمائي وبين عبادة الإله «ست» في تلك المدينة، حيث معلوم أن «رعمسيس» وفراعنة الأسرة التاسعة عشرة، قد قدسوا «ست» الإله الذي سبق وقدسه الهكسوس في مدينتهم، حتى إن والد الفرعون «رعمسيس الثاني» انتسب باسمه إلى الإله «ست» وتسمى باسم «ستي» أي «الستي»، ومن ثم كان الاستنتاج أن «رعمسيس الثاني» قد أقام مدينة باسمه، في ذلك الموضع الذي كان يعبد فيه «ست»، وأن عبادة «ست» قد تكرست - حسبما جاء باللوح الأربعمائي - في ذلك المكان منذ أربعمائة عام سبقت «رعمسيس»، وعلى تلك الارتباطات تم الافتراض عند جاردنر لمدة حكم الهكسوس لمصر ب 108 سنوات، مع إضافة سني الملوك الذين حكموا مصر بعد الهكسوس حتى زمن «رمسيس الثاني»، لتكمل الأربعمائة سنة، ومسألة داية تكريس «ست»، كإله لمدينة باسم حواريس لدى الهكسوس واردة في تاريخ «مانيتو»، وأكدته «قصة الملك أبوفيس وسقننرع»، وقد برهن المصرولوجست «يونكر» على أن «ست»، كان الإله المحلي لبلدة باسم «سترت
STRT »، وأنها سميت «سيترويت
Sethroite » في العهد الإغريقي، والتي ذكرها «مانيتو» كمقاطعة مصرية سكنها الهكسوس، وأكد «يونكر» أنها لا بد تقع في شمال شرقي الدلتا،
4
لكن أين بالتحديد؟ لا يجيبنا «يونكر»، المهم أن علماء المصريات وضعوا استنتاجا يقول: إن مدينة الهكسوس «حواريس»، هي ذاتها التي أعاد «رعمسيس الثاني» بناءها بعد ذلك بأربعمائة سنة، وأنها حملت اسم «رعمسيس»، وبعد ذلك أطلق عليها اليونان اسمها المشهور تانيس، وهي ذاتها التي أطلقت عليها التوراة اسم «صوعن» واسم «رعمسيس»، وقالت: إنها المدينة التي اضطهد الإسرائيليون في بنائها، وهي التي تحمل اليوم اسم «صان الحجر»،
5
حيث عثر هناك على اللوح الأربعمائي، الذي يقول فيه «رعمسيس»، عندما كان أميرا وقبل تنصيبه فرعونا:
السنة الأربعمائة من الشهر الرابع في فصل الصيف، في اليوم الرابع من حكم ملك الوجهين البحري والقبلي ست
Sotch (المقصود تكريس عبادة الإله سيت)، عظيم القوة ابن الشمس نبتي المحبوب من رع حور أختي، الذي سيبقى مخلدا، حضر الأمير الوراثي المشرف على العاصمة، والوزير، والمشرف على البلاد الأجنبية، والمشرف على حصن شارو، ورئيس المازوري، والكاتب الملكي، والمشرف على الخيالة، ومدير عيد كبش منديس، والكاهن الأول للإله ست، والمرتل للإلهة بوتو فاتحة الأرضين، والمشرف على كهنة الإلهة ستير.
لقد حضر الأمير الوراثي رعمسيس المرحوم، الذي وضعته ربة البيت المغنية تيا المرحومة، ليقول: الحمد لك يا ست بن نوت، يا صاحب القوة العظيمة في سفينة الملايين، الذي طرح الثعبان المعادي لرع أرضنا، والذي على رأس سفينة رع، ومن صوته العظيم في الحرب، ليتك تمنحني حياة جميلة، لأجل أن أخدمك، ولأجل أن أبقى في حظوتك.
6
ولنلحظ أن ذلك اللوح الأربعمائي، وحتى تدوينه ونصبه في مكانه، لم يكن يتحدث عن «رعمسيس الثاني» بوصفه فرعونا، إنما بوصفه أميرا وارثا يحمل تلك الألقاب العديدة؛ لذلك ذهب الأستاذ «زيته» إلى الظن أن ذلك العيد الأربعمائي قد حدث في عهد الملك «حور محب» حوالي عام 1335-1308ق.م. والذي يفصله عن الملك «رعمسيس الثاني» ملكان هما: «رعمسيس الأول» و«ستي»، وربما كان «رعمسيس الثاني» إبان حكم حور محب أميرا وقائدا عسكريا مهما، قبل أن يتولى سدة الحكم بعد ذلك.
7
أما أول ذكر لمدينة «رعمسيس» باسم «بر رعمسيس»، فقد ورد في السنة الثانية لحكم «رعمسيس الثاني» حوالي عام 1300ق.م. في نصب «أبيدوس»، الذي تعرض لأعمال «رعمسيس الثاني»، وإكماله معبد والده «سيتي الأول» في معبد «أوزيريس» بمدينته المقدسة «أبيدوس»، وقد وصف نصب أبيدوس رحلة بحرية قام بها «رعمسيس الثاني»، حتى وصل إلى مدينة «بر رعمسيس»،
8
وقد استنتج الباحثون من ذلك ما يؤيد رأي «زيته»، «وهو أن المدينة كانت موجودة وقتذاك، وأنها شيدت في عهد سابق، وأن «رعمسيس الثاني» أضاف إليها وجددها».
ويبدو أن أصحاب هذا الاتجاه الذي يرى أن «رعمسيس الثاني»، قد استكمل تشييد المدينة وأطلق عليها اسمه، وكانت تقوم على أنقاض «حواريس» الهكسوسية القديمة، وأنها هي ذات «تانيس» المذكورة بعد ذلك في المدونات، وأنها ذات المدينة المذكورة باسم «صوعن» في التوراة (انظر: متكررات منها مثلا ما جاء في الأعداد 12، 13 من المزمور 78، في قوله: «قدام آبائهم صنع أعجوبة، في أرض مصر بلاد صوعن، شق البحر، فعبرهم، ونصب المياه كسد.») وأنها جميعا هي ذات «صان الحجر» الحالية، إضافة لما تشير إليه تلك الأسماء من علاقة لسانية، تجيز ذلك الاستنتاج ما بين «صوعن» و«صان».
وعليه فإن وجود المدينة «رعسميس» كما جاء عند «مانيتو»، وأنها كانت مدينة الهكسوس «حواريس»، معلومة صحيحة مائة بالمئة، دعمتها نصوص التحرير المكتشفة، وإن كان مكانها غير محدد باليقين حتى الآن، كذلك المعلومة الثانية حول المعبود الأول للهكسوس «ست» أيضا صادقة مائة بالمائة، وهو ما يضيف باستمرار رصيدا مستمرا لمصداقية «مانيتو» المصري السمنودي. المهم الآن أن حواريس لم يزل مختلفا عليها وعلى موقعها أشد الاختلاف، وإن ذهبت جلة محترمة من علماء المصريات إلى أن «حواريس» هذه، هي ذات المدينة التي حولها رمسيس الثاني فيما بعد إلى مدينة عامرة، وأعاد بناءها حتى كانت أزهى مدن الزمان، وأطلق عليها اسمه «رعمسيس» ... إلا أن ما يحبط أي باحث هنا، أن مدينة «رعمسيس» نفسها، والتي ذكرتها التوراة باعتبارها مدينة الاضطهاد الإسرائيلي في مصر، لم يتم الاتفاق على موقعها حتى اليوم بشكل قاطع، ونعيد اختصار مجمل الاتجاهات التي تتفق جميعا على الذهاب بها إلى شرقي الدلتا، على الحدود السينائية، وتناثرت الاقتراحات على خريطة محافظة الشرقية الحالية أو حدودها الشرقية مع سيناء، فقد ذهب «دي بوا إيميه» العالم المصاحب للحملة الفرنسية، إلى أن مدينة «رعمسيس» كانت تقع قرب مدينة «السبع أبيار» الواقعة على الساحل الغربي لبحيرة التمساح، وموضعها الآن تل المسخوطة قرب مدينة الإسماعيلية، أما «جاردنر» فقد ذهب إلى أنها «بي لوز» أو «بيلوزيوم»، المعروفة الآن بالفرما أو بالوظة إلى الشرق من بورسعيد، لكنه تراجع عن «بي لوز» واقترح مدينة «صان الحجر» الحالية على شاطئ بحيرة المنزلة الجنوبي، وذلك بعد أن ذهبت مجموعة متميزة من المصرولوجيين إلى موضعتها هناك، ومن هؤلاء «يونكر» و«بروجش» و«بيير مونيتيه»، هذا بينما ذهب آخرون إلى وضعها على الخط الواصل بين شرقي الدلتا وبين البحيرات المرة وبحيرة التمساح، في الوادي المعروف الآن بوادي طميلات، ومن هؤلاء «نافيل» الذي اقترح «صفط الحنة» غرب هذا الوادي موقعا لرعمسيس، دون وضع نظرية أو خط سير واضح، وبعضهم ذهب بها شرقا على ذات الخط، فاقترح «تل رطابة» مثل «بتريي»، وأوغل آخرون شرقا فاقترحوا «تل المسخوطة»، كما عند دي بوا إيميه، أما آخر الاقتراحات وهو السائد الآن، فهو ما جاء بعد كشف أثري كبير قام به «محمود حمزة»، واقترح معه أن تكون رعمسيس هي «قنتير» الحالية إلى الشمال من فاقوس شرقي الدلتا.
والمعنى أننا لو أخذنا بأن «حواريس» هي ذات مدينة «رعمسيس»، فإن علينا الاتفاق على موضع واحدة منهما أولا، وحول الاسم «حواريس» فهو من الأصل «حوارة أو هوارة»، ويفيدنا «جاردنر» بأن معناه الإدارة المدنية للدولة، وإذا أخذنا بالنظرية القائلة إن الهكسوس قد كونوا إمبراطورية، فلنا أن نفترض وجود أكثر من مركز إداري لهم في المنطقة المحيطة بشرقي المتوسط، وهو ما يقود إلى افتراض وجود أكثر من «حوارة»، وهو المفتاح الذي سيدلنا الآن على الموضع، الذي تكرر كثيرا في التوراة باسم «حويلة»، وما نقصده أنه لا خلاف على أن حواريس التي ذكرتها النصوص المصرية القديمة، كانت مركزا للإدارة الهكسوسية في مصر، وأنها كانت على الطرف الشرقي للدلتا، الذي هو الطرف الغربي لسيناء، وإن لم يتمكن الباحثون من تدقيق موضعها هناك.
وكثيرا ما ربطت التوراة بين مدينة في جنوبي فلسطين (حبرون/الخليل)، وبين حواريس المصرية، والتوراة تذكر حواريس باسمين يردان على التبادل، الأول والقديم هو «صوعن»، والثاني الأحدث هو مدينة «رعمسيس»، وتشير في تواتر متعدد في مناطق متفرقة، إلى أن «صوعن» قد بنيت بعد «حبرون» بسبع سنين، يبدو لنا كما سيأتي التفصيل بشأنه فيما بعد، أنها الفارق الزمني بين استيلاء الهكسوس تماما على حبرون/تاريخ احتلالهم مصر، وإقامتهم في صوعن/رعمسيس/حواريس.
الواضح لدينا على المستوى اللساني وحده (الآن)، أن «حويلة» التي تكررت في الكتاب المقدس، أنها بالتبادل بين حرف اللام والراء، باعتبارها حروف سقف حلقية، فإن «حويلة» ستكون «حويرة»، وهي المسمى الذي يلتقي تماما مع اسم عاصمة الهكسوس «حواريس»، بعد حذف التصريف الاسمي فتصبح «حواره »، وهي التي أطلق عليها المصريون «حواعرة»، وفي المعركة التي قادها أول ملك إسرائيلي، الملك «شاول» ضد العماليق العناقين في شبه جزيرة سيناء، يؤكد لنا الكتاب المقدس نتيجة المعركة بقوله: «وضرب شاول عماليق من حويلة، حتى مجيئك إلى شور التي مقابل مصر» (صموئيل أول، 15: 7) وهذه النتيجة تعني أن شاول بضربه مدينة العماليق، امتد تأثير تلك الضربة على العمالقة، بطول المنطقة الممتدة من «حويلة» إلى «شور» التي أمام مصر، وحتى الآن لم يتم تحديد أين تقع «حويلة» التوراتية على الإطلاق، إنما ذهب الجميع إلى تحديد «شور»، بأنها على الساحل الشرقي لبحر الخروج «سوف» مباشرة، حتى تكون أمام مصر للقادم من فلسطين أو سيناء عموما، استنادا إلى مجموعة إحداثيات أعطتها لنا التوراة، حيث يتكرر ذكر «شور» مرات متعددة، وأول الإحداثيات وأوضحها تأتي في أسطورة حدث عبور البحر بالعصا المعجزة، حيث نجد أول موضع ينزل به الإسرائيليون، بعد عبور البحر من الدلتا المصرية إلى سيناء، هو برية باسم شور «ثم ارتحل موسى بإسرائيل من بحر سوف، وخرجوا إلى برية شور» (خروج، 15: 22)، مما يعني أنها على الساحل الشرقي مباشرة لهذا البحر، بينما تقع المدن المصرية العامرة غربي هذا البحر، وكله شرق الدلتا، والمواضع المصرية على الساحل الغربي لهذا البحر كان أهمها «صوعن» أو «رعمسيس»، مدينة الفرعون التي يزعم الإسرائيليون أنهم اضطهدوا في بنائها ، وعبروا من جوارها البحر في أسطورة العصا الحية، ويبدو أن هناك طريقا كان يبدأ من الموضع شور حتى يصل إلى شرقي سيناء نحو فلسطين، أطلقت عليه العبرية «درك شور»، وجاء في الترجمة العربية «طريق شور، تكوين، 16: 17» «ولا زلنا نرتب أوراقنا فمهلا».
الفصل الثاني
قناة سيزوستريس وهندسة المكان
هناك معلومات مؤكدة أن الفراعنة قد وصلوا النيل بخليج السويس على البحر الأحمر، وينسب المؤرخون اليونان تلك القناة للفرعون الشهير سيزوستريس، المظنون أنه ربما كان رمسيس الثاني، لكن يبدو لي وحسب فروضي، ومما جمعت من الأخبار غير الكاملة التي وصلتنا، أن شأن القناة أقدم من ذلك بكثير، وأنها ربما تعود إلى زمن ما يسمى بالفترة الوسطى الأولى، الواقعة بين نهاية الأسرة السادسة في الدولة القديمة وبين قيام الأسرة الثانية عشرة في الدولة الوسطى، حيث استغرقت تلك الفترة خمس أسرات كان من بينها أسرة قوية، اتخذت من مدينة إهناسيا بمصر الوسطى عاصمة لها، وقد تلقب ملوكها باللقب «خيتي» أو «أخيتوي»، لنستمع هنا إلى «جون ويلسن» يحدثنا عن أسرة الملوك الإهناسيين، نسبة إلى إهناسيا المعروفة يونانيا باسم «هيرا كوبوليس» فيقول: «لقد كان العدو الذي يخشاه الإهناسيون هم الآسيويين حملة القوس - رغم رنة الاحتقار في حديث الملك الإهناسي - ذلك لأن طبيعة بلادهم القاسية وما يلاقونه فيها من متاعب، تدفعهم إلى السطو على الدلتا، ويصفهم خيتي بقوله: انظر إلى الآسيوي اللعين، إن الأمور سيئة في البلاد التي يعيش فيها، فهم في حزن من أجل المياه، وبلادهم من الصعب الوصول إليها «بسبب كثرة الأشجار، والطرق هناك وعرة بسبب الجبال»، ومن ثم فإن الآسيوي لا يقطن في مكان واحد، وساقاه خلقتا للتجول.»
1
ثم ينبه ولده في مجموعة نصوص، عرفت بالعنوان «نصائح خيتي إلى ولده مري كارع»، أن يكون مستعدا لكل الاحتمالات، إزاء هؤلاء الآسيويين الذين يربضون على حدود الدلتا الشرقية، ينتهزون أي فرصة ضعف تبدو هناك، ومن هنا يقول «أحمد فخري» إن خيتي قام ينبه ولده إلى أن يكون مستعدا للبدو دوما، فمن خاف الحرب استعد لها؛ ولذلك يوجه اهتمامه إلى «منطقة البحيرات المرة» لحماية مصر من خطر البدو، وينصحه بتحصين جزء منها، ثم تعمير الجزء الآخر «وإمداده بالماء»،
2
ويعود ليؤكد على ولده: «إذا قامت بلادك في الجنوب بثورة، فإن الأجانب في الشمال سيحاربونك؛ فعليك أن تقيم مدنا في الشمال.» بقصد إيجاد مجتمع مصري مدني على الحدود يصد أي اعتداءات.
3
ويقول «إبراهيم كامل» إن ملوك إهناسيا الملقبين باللقب أخيتوي أو خيتي «قد قاموا بتحصين الحدود الشرقية، «وإغلاق الوديان الصغيرة، إما بغمرها بالمياه عن طريق تحويل قنوات النيل إليها»، أو بتأسيس المدن المحصنة عليها.»
4
وإذا كان ذلك صحيحا، فإنه يفسر لنا الإشارات القديمة الغامضة، عن وجود قناة النيل-البحر الأحمر زمن الدولة الوسطى بعد زمن إهناسيا وأخيتوي، وتلك ملاحظة «إبراهيم كامل» إذ يقول: «إن البحوث الجيولوجية وما كتبه المؤرخون القدامى من الإغريق والرومان، نقلا عن المصريين أنفسهم، تدل كلها على أن تلك القناة كانت موجودة خلال عصر الدولة الوسطى.»
5
كذلك نجد «مانيتو» قد وضع في قائمته للملوك ملكا باسم «سيزوستريس» الذي سميت القناة نسبة إليه في الترتيب رقم 3 لحكام الأسرة الثانية عشرة أول أسر الدولة الوسطى،
6
مما يدحض الاتفاق غير المفهوم حول كون سيزوستريس هو رعمسيس الثاني. ويمد «إبراهيم كامل» الخيط على استقامته، «فيرى أن وجود القناة في هذا الزمن القديم، يفسر لنا عودة رحلة حتشبسوت من بونت عبر النيل، من الشمال مباشرة بالسفن التي أقلعت بها من القصير جنوب مصر على البحر الأحمر» ويقول: «يبدو واضحا من واقع دراستنا لمناظر ونصوص رحلة بونت، التي أرسلتها الملكة حتشبسوت إلى تلك البلاد، أن السفن المصرية لدى عودتها من الرحلة، محملة بمحاصيل بلاد بونت، كانت تصل إلى قرب مدينة منف، حيث بدء القناة، ثم تبحر في النيل مصعدة حتى مدينة طيبة، عاصمة البلاد في ذلك الوقت.»
7
ويؤكد هذا المعنى، أنه قد تم العثور في تل رطابة بوادي طميلات إلى الغرب من تل المسخوطة، على «أثر يرجع إلى الملك خيتي» من الأسرة الحادية عشرة من الفترة الوسطى الأولى، وهنا يتساءل المؤرخون: «ولكننا لا ندري إن كان هذا الأثر مؤكدا قد نقل إلى البلد، أم أن «تاريخها (أي تاريخ تل رطابة) يرجع لعصر سابق لعصر رعمسيس الثاني»، وإن كان هذا غير مؤكد.»
8
وفي أكثر من موضع في كتاب الموتى، نستمع إلى إشارات حول ما يسمى بالبحيرة «المزدوجة» المقدسة في أكثر من موضع،
9
وفي اللوحة الرابعة من الفصل السابع عشر، بذات الكتاب نشاهد «كهنة مصريين يقومون بواسطة الحيات بمعجزة فلق بحيرة ما». (انظر شكل رقم
2-1 .)
شكل 2-1: معجزة شق ماء البحر بالعصا الحية بواسطة كاهنات مصريات.
ربما تلك البحيرة المزدوجة تحديدا، والتي نعتقد من جانبنا أنها بحيرة التمساح تحديدا، وأن قناة سيزوستريس المشهورة كانت تصب هناك.
للتيقن من هذا الفرض، نبحث فنعثر على خبر من زمن آمنحتب الثالث، آخر يفيدنا علما أن كهنة آمون عندما رفضوا أن تقوم زوجته الملكة تي بجولتها الطقوسية، كملكة أولى رئيسية بالبحيرة المقدسة؛ لأنها غير مصرية الأصل، قرر آمنحتب الثالث الذي توله بزوجته حبا، الاستمرار في سلسلة صداماته مع الكهنة، بإنشاء بحيرة كبرى لهذا الغرض وصلتنا أطوالها؛ فعرضها يصل إلى 1200 قدم أي حوالي ثلاثة كيلومترات، ويصل طولها إلى 6400 قدم أي حوالي ثمانية عشر كيلومترا.
10
شكل 2-2: معجزة شق ماء عذب ربه تماسيح نيلية.
وبالبحث في مصر عن بحيرة موجودة الآن تحمل هذه المواصفات، لم نعثر سوى على بحيرة التمساح، وسنرى أن البحيرة بالفعل بحيرة مزدوجة، يصل بين شقيها الشرقي والغربي مضيق ضحل صغير، فلم تزل حدودها الحالية شاهدة على وضعها قبل حفر قنال السويس، ويبدو أن القسم الغربي الأصغر كان البحيرة التي تم حفرها للملكة تي، حيث تأتي أطوالها في النص الملكي بعرض 700 ذراع أي حوالي نصف كيلومتر، وطولها 3700 ذراع أي حوالي ثلاثة كيلومترات، عن طريق وصله بالقناة النيلية بعد أن طمت هذه القناة بعد زمن خيتي، وكانت المنطقة بحكم طبيعتها الجيولوجية المرئية منخفضا طبيعيا، لم يحتج جهدا عظيما لإزالة ما تراكم بينه وبين البحر من سدود ملحية، لتترك مياه النيل تنساب لتملأ منخفض التمساح، وأنه سرعان ما تسربت المياه عبر هذا المضيق إلى المناطق الواطئة إلى الشرق منها، مع فيضانات متتالية لتشكل بحيرة أخرى أطول منها وأعرض، لتظهر لنا بحيرة التمساح بحيرة مزدوجة قولا وفعلا.
شكل 2-3: بحيرة الملكة تي/التمساح.
ويبدو لنا أو ضع بحيرة تي في ذلك المكان، يتفق تماما مع منطق أن تي من تلك المناطق البدوية الشرقية - كما سنثبت ذلك في أبواب لاحقة - فهي حسب بحثنا هذا بشواهد وأدلة غفيرة وكثيفة من أصل مدياني سيناوي، ويدعم ذلك أن النص الخاص بإنشاء البحيرة يقول: «إن جلالته قد أمر بعمل بحيرة الملكة تي «عند مسقط رأسها» جاروخا
Djarkha »، و«إن جلالته أقام احتفال «هدم السدود» في السادس عشر من الشهر المذكور، ثم أبحر في رعاية الله في مركبه الرسمي آتون المتألق.»
11
والقول بهدم السدود يعني أنه قد تم توسيع القناة القديمة والقناة المؤدية لها، وعند الوصول إلى نقطة الالتقاء بينهما أقيم سد يمنع المياه عن السقوط في حفائر البحيرة، انتظارا لحضور جلالة الملك ليفتتحها بنفسه، وأنه قد تم هدم هذا السد يوم افتتاح البحيرة بحضور الفرعون ومليكته العظمى، ونستمع من عبد المنعم أبو بكر للحدث كما دونه المصري القديم يقول:
العام الحادي عشر الشهر الثالث من الفصل الأول، اليوم الأول من حكم الملك آمنحوتب له الحياة وزوجته الكبرى زوجته الكبرى تي لها الحياة.
إن جلالة الملك قد أمر بحفر بركة لزوجته الملكة الكبرى تي في مدينة زارو خع، على أن يكون طولها 3700 ذراع وعرضها 700 ذراع، وقد احتفل الملك بافتتاح البركة في الشهر الثالث من الفصل الأول، وفي اليوم السادس عشر أبحر فوق سطحها على الزورق الملكي بهاء آتون.
12
ولدى المؤرخين العرب تختلط الحقائق بالأخيلة، وتختلط الأماكن ببعضها على حد تعقيب جمال حمدان، وهو يحدثنا عن ياقوت في حديثه عن مدينة تنيس، يقول: «إن التي أسستها وسمتها باسمها هي دلوكة ملكة مصر الفرعونية القديمة، بعد حادثة خروج موسى وكانت هي التي «قادت إليها مياه النيل»، بينما كانت منطقة المدينة أرضا صلبة كلها.»
13
وقد علمنا أن تنيس كانت داخل بحيرة المنزلة، وبالتالي لم تكن أرضا صلبة ومحيطها كله زراعي لا صحراوي، إنما الأرض الصلبة كانت عند بحيرة التمساح، والمهم في الخبر أنه يتحدث عن «قناة تخص فرعونة»، وهو ما يلتقي مع خبر بحيرة تي، ناهيك عن كون اسم دلوكة لا يلتقي مع اسم تنيس، بينما ياقوت يؤكد أنها دلوكة هي التي أسست المدينة وأسمتها باسمها، لكن علينا أن نلحظ بشدة التطابق الفونيطيقي بين اسم دلوكة أو تاروكا، وبين الاسم الذي أعطانا إياه نص آمنحتب الثالث لمكان البحيرة «زارو خا»، أو «زارو كا»، أما المدهش حقا أن ياقوت يقول إن مدينة دلوكة أو زاروكة في زمنه كانت تسمى ذات الأخصاص، أي العشش أو الحظائر أو المظلات ، وهو اسم لا تجده إطلاقا في سيرة مدينة تنيس، إنما هو المعنى العبري لكلمة سكوت، المحطة الأخيرة للخارجين من مصر قبل شق البحر؛ لأن سكوت تعني الحظائر أو العشش أو الأخصاص، ثم إننا نعلم أن جميع الحملات العسكرية المصرية، تتحدث عن خروجها من آخر مدينة مصرية نحو سيناء، والشام تقع على الحدود المصرية الشرقية، وجاء اسم هذه المدينة على مختلف القراءات «سيلة، زل، شور، ثارو، زارو، شارو»، والواضح أن الشق الأول من اسم مدينة بحيرة التمساح «زارو-خع»، يلتقي تماما مع اسم «زارو» أو «سيلا» المشهور للقلعة الحدودية الكبرى، منطلق الحملات المصرية على آسيا.
وقد ترك هذا الوادي (وادي طميلات) بمدنه ذكريات عظمى في مخزون الذكريات العربي عن المدائن القديمة الكبرى بالمنطقة، مأثورا يتحدث عن قصور عظيمة عرفها العرب في ترحالهم لقربهم منها، ومعلوم أن وادي طميلات عرف بهذا الاسم حديثا، لكنه كان يعرف قديما باسم وادي «الساتير أو السدير»، والساتير عرفه اليونان باعتباره وحشا إلهيا شريرا، يلقي بنا اسمه مع الإله المصري للشر «سيت»، «فهو وادي سيت وهو ما يمكنه تفسير الاسم سيترويت، كاسم لتلك المقاطعة المتصلة بالبوادي السينائية دون بقية البلاد المصرية»، وقد ذكره باسم السدير معجم البلدان لياقوت الحموي ومعجم محمد رمزي.
14
وفي وادي السدير قامت مدائن فيثوم ورعمسيس، وفيها قصر الفرعون الذي عرفه العرب باسم قصر السدير، وتغنوا به شعرا كما جاء عند عدي بن زيد يقول:
وتبين رب «الخورنق» إذ
أشرف يوما وللهدى تفكير
سره حاله وكثرة ما يملك «والبحر معرضا والسدير»
15
ولا يحتاج إلى تنبيه ربطه بين «بحر مستعرض»، الذي نراه قناة سيزوستريس (الذي يسير عرضا بين الغرب والشرق، بعكس كل مجاري الدلتا التي تسير من الجنوب إلى الشمال)، وبين الوادي المسمى بالسدير، حيث يجري هذا البحر، أما الخورنق فلا شك لدينا أنه الكرنك، وقد اشتهرت قصر الكرنك الشتوي وقصر السدير الصيفي لفراعنة مصر، حتى صارا مضرب الأمثال كما في الأبيات القائلة:
ولقد دخلت على الفتا
ة الخدر في اليوم المطير
الكاعب الحسناء تر
فل في الدمقس وفي الحرير
وأحبها وتحبني
ويحب ناقتها بعيري
وإذا شربت فإنني
رب «الخورنق والسدير»
وإذا صحوت فإنني
رب الشويهة والبعير
نعم نحن نقول إن تلك القناة التي كانت بعكس كل فروع الدلتا، تسير عرضا هي المقصودة في شعر عدي بن زيد «بالبحر المعرض»، وسنعلم بعد قليل لماذا اعتبرت «بحرا» رغم أنها قناة.
ومع الاتفاق بين المؤرخين الذين قلما يتفقون على كون المسخوطة هي التي عرفها اليونان باسم هيروبوليس، فإننا - وفق كل ما بيدنا الآن - من معطيات، يمكننا أن نجازف ونقول إن مدينة الهكسوس الكبرى بمصر، والتي حملت اسم حواريس وأواريس وهوارة، قد قامت في تل المسخوطة تحديدا، وأنها هي التي حملت بعد ذلك اسم رعمسيس، فالكلمة بوليس اليونانية تعني مدينة، أما الشق الأول من اسم المدينة وهو «هيرو» أو «إيرو»، ولا تعني «هيرو» الأبطال، إنما هي مدينة الهكسوس «حيرو»، ومع تصريفها اسميا تصبح حيرويس أو حواريس، وبكتابتها يونانيا تصبح حيروبوليس، أو هيروبوليس، ويحدثنا «الدكتور محمد سيد غلاب» بما وصله من معلومات عن مدينة هيروبوليس فيقول: إن هذه المدينة قد «نمت إلى مدينة تجارية في عهد بطلميوس الثاني، كما كانت مدينة دينية إلى جانب مكانتها كمدينة تجارية ومركز دفاعي وميناء نهري وبحري، «فقد كانت منطلق السفن الملكية الحربية» والتجارية نحو البحر الأحمر، «وقد عرفت في عهد الرومان باسم مدينة إيروبوليس
Eropolis
أو إيرو، وكانت مركزا تجاريا وحربيا» شيد على قناة النيل/البحر الأحمر، وقد ظلت قناة النيل/البحر الأحمر هذه مهملة بعد ذلك - الترتيب الزمني للأحداث مرتبك - حتى ولي الملك نيخاو من ملوك الأسرة السادسة والعشرين 609-594ق.م. وحاول إعادة حفر القناة، ولكنه لم يتم مشروعه هذا رغم اهتمامه بقوة مصر البحرية، ثم حفر دارا بن قمبيز الفارسي الذي فتح مصر في القرن الخامس ق.م. ترعة على غرار ترعة الفراعنة القديمة، وكانت هذه القناة تخترق وادي الطميلات (السدير)، وتتبع مجرى ترعة الإسماعيلية الحالية، وقد أمكن تتبع مجرى هذه القناة، بما وضعه دارا من شواخص حجرية تخليدا لذكرى هذا المشروع، الذي كان يرمي من ورائه إلى تنشيط تجارة مصر مع بلاد فارس عبر البحر الأحمر.»
16
ويقول إبراهيم نصحي: «إذا كان من الجائز أن يكون قد سبق دارا إلى حفر قناة وادي الطميلات، «أحد ملوك الأسرة الثانية عشرة أو حتشبسوت»، فإن النصوص التي تتحدث صراحة عن هذه القناة مدونة على اللوحات الفارسية، ولوحة بطلميوس الثاني، فقد أقام دارا على مجرى القناة ثلاث لوحات في تل المسخوطة وسيرابيوم وكبريته، وأقام «خلفه الفارسي» أجزركسيس لوحة رابعة عند الكوبري شمالي مدينة السويس بستة كيلومترات، وقد لوحظ أن كل لوحة تبعد عن الأخرى بحوالي 25 كيلومترا، وأن المسافة بين تل المسخوطة ومخرج القناة من النيل عند تل بسطة، تبلغ ضعف هذه المسافة؛ ولذلك إما أن تكون قد أقيمت لوحة خامسة (في المنتصف) بمنطقة التل الكبير على الحافة الجنوبية للهضبة الصحراوية، لكن هذه اللوحة لم تكتشف بعد، وإما أن يكون نخاو هو الذي أعاد حفر القناة من تل بسطة حتى تل المسخوطة، ويكون دارا وأجزركسيس قد أعاد حفر الباقي، من تل المسخوطة حتى رأس خليج السويس.»
17
شكل 2-4
شكل 2-5: خريطة بطلميوس لفروع الدلتا حسب تفسير بول، ومن جانبنا نرى أن الفرع العرضي مقصود به قناة سيزوستريس لمخالفتها خط سير بقية الأفرع، وهي البحر المعرض أو المستعرض في الروايات والأشعار العربية.
ويضيف «غلاب» القول: «ويتحدث مؤلف كتاب تاريخ الفرنجة
Histoire des frances
576م، عن «طريق مائي يصل بين ذراع البحر الأحمر والمستنقعات والبحيرة المرة والتمساح، وقناة تصل هذا كله بالنيل»، فهل معنى هذا أن القناة كانت موجودة حتى القرن السادس الميلادي؟ على كل حال فقد كانت مدينة «إيرو» (يقصد هيروبوليس) موجودة في القرن الرابع، كا لو كانت كليزما (السويس الآن) قائمة أيضا حتى الفتح العربي لمصر، وكان البحر الأحمر معروفا عند العرب باسم القلزم، وهو تحريف لكليزما اليونانية، ويبدو أن قناة النيل/البحر الأحمر ضؤل شأنها بعد القرن الثاني الميلادي، وكانت تتعرض لسفي الرمال، ولم يكن خليج وادي طميلات، يمتلئ بالماء إلا أوقات الفيضان، ولكن بعض البرك والمستنقعات تخلفت عنها، فكانت تطهر من الرمال حينا وتترك حينا آخر، وقد استطاع العرب بعد فتح مصر مباشرة، الاستدلال على مكانها بسهولة؛ فأعيد حفرها باسم خليج أمير المؤمنين، وتم حفرها عام 34 للهجرة، ولم ينقطع سيل ماء النيل عند البحر الأحمر إلا سنة 150ه/767م، في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور.»
18
وهذا يعني «أن القناة قديمة العهد، بدأ ذكرها منذ عهد خيتي في زمن الفترة الأولى، وظل حتى الزمن العربي في عصره العباسي، وأنها قد ربطت بحيرة التمساح بالبحيرات المرة بالخليج العربي (خليج السويس/البحر الأحمر)، دون الاحتياج لعصور جيولوجية ودون مد خليج السويس خارج حدوده (كما افترض دي بوا إيميه) وهو ما ربط البحيرات جميعا بالخليج، لتشكل خطا واحدا هو امتداد للبحر الأحمر، وأصبحت جديرة جميعا باسم «بحر سوف»، الذي تصب فيه مياه النيل قادمة عبر القناة».
ولقد ذهب «دي بوا إيميه» إلى حل لغز مدينة رعمسيس، عندما جعلها المدينة التي عرفها اليونان باسم «هيروبوليس»، ووضعها على رأس الخليج العربي/السويس، الذي أسموه حينا الخليج العربي، وحينا الخليج الهيروبوليتي؛ مما أدى إلى استنتاجه أن «هيروبوليس» تقع عند قمته وأعطته اسمها؛ لذلك مد الخليج وعبر به الحوض جميعه، ليعبر به البحيرات المرة ويصله ببحيرة التمساح، وهناك عند منطقة السبع أبيار (الإسماعيلية الحالية) أو إلى الغرب منها، حيث تقع تل المسخوطة، وضع دي بوا إيميه مدينة رعمسيس، وقد استند دي بوا إيميه في وصلة خليج السويس ببحيرة التمساح عبورا على البحيرات المرة إلى عدة شواهد هامة فعلا، فكما أوردنا سلفا أنه عثر في الحوض الرملي ما بين خليج السويس والبحيرات المرة على طبقات من الملح البحري، تصل في كثافتها إلى درجة أنها أخذت شكل قباب من الملح، وبالحفر في مواضع مختلفة من ذلك الحوض الطويل، كان الماء يوجد دوما على عمق ما بين أربعة وخمسة أمتار فقط، وله ذات مذاق مياه البحر، وإنك في ارتحالك بطول ذلك الحوض المستطيل، ستصادفك مناطق كثيرة موحلة مع مستنقعات ملحية متناثرة، ناهيك عن كون الحوض نفسه ينخفض عن سطح البحر بحوالي خمسة عشر مترا. وقد عثر «دي بوا إيميه» إبان بحثه الميداني في هذا الحوض على قواقع بحرية ومخلفات لنباتات بحرية، تنتشر على خط طولي يسير على مستوى خط واحد من خليج السويس/العربي إلى البحيرات المرة، ثم من البحيرات المرة إلى بحيرة التمساح، حيث يتوقف هناك. وتأسيسا على هذا أقدم «دي بوا إيميه» على فرضيته، فقام يوصل أو يمد أو يدمج الخليج العربي/الهيربوليتي/السويس بالبحيرات حتى التمساح، حيث احتسبه كان يصل إلى هناك زمن الخروج، لتقع تل المسخوطة هيروبوليس على قمة ضفته الغربية،
19
ومع هذا الفرض لا بد من افتراض آخر، هو أن الخليج عند هذه القمة كان فسيحا متسعا، كي يمكنه أن يغطي عرضا ستة عشر كيلومترا كاملة، هي المسافة بين الشاطئ الغربي لبحيرة التمساح وبين تل المسخوطة، إلى الغرب منها «بستة عشر كيلومترا».
ولتأكيد وجهة نظره يذهب دي بوا إيميه في وصلة الخليج ببحيرة التمساح، إلى القصص القديم المتواتر عن قناة كانت تربط النيل بالخليج، وعرفناها باسم قناة سيزوستريس، ويقول إن مدينة القلزم القديمة المظنون أنها السويس القديمة لو كانت كذلك فعلا، أي لو كانت تقع قديما محل السويس الحالية، فكان لا بد أن تمر القناة منطلقة من النيل، لتعبر وادي طميلات الدير إلى بحيرة التمساح، لتخرج منها جنوبا لتعبر البحيرات المرة، حتى تصل رأس الخليج عند السويس الحالية، لتصب في الخليج، لكن ذلك ليس صحيحا بالمرة؛ لأن دي بوا إيميه لم يجد أي أثر لطمي النيل في حوض القلزم جميعه، أو حتى أية بقعة قريبة من بحيراته: التمساح والمرة الكبرى والمرة الصغرى. ولم يسفر البحث عن وجود أي طمي، وكل ما وجده آثار للبحر وليس للنهر، ويستنتج دي بوا إيميه من ذلك أن البحر كان يمتد بخليجه العريض حتى بحيرة التمساح، وأن القناة القادمة من النيل من الغرب، كانت تصب في بحيرة التمساح، وعليه فقد كانت ميناء القلزم تقع على الشاطئ الغربي لبحيرة التمساح، التي كانت بهذا الشكل هي قمة الخليج، ولم تكن القناة تصب عند السويس الحالية، إنما في بحيرة التمساح، التي هي في رأيه مع البحيرات المرة كانت جزءا من خليج السويس، انفصل عنه بعد ذلك بعوامل جيولوجية.
وقد استشهد «دي بوا إيميه» على مذهبه بوصف «لوبير
Le pepere » لمياه الفيضان، وهي تندفع نحو الشرق قادمة من الدلتا، خارجة بشكل طبيعي من النيل، لتجري بكميات كبرى واندفاع؛ مما يشير إلى انحدار سريع للأرض على خط المجرى، وقد أكد شيوخ البدو في تلك المنطقة (عند السبع أبيار) للمسيو «ديفيليه»، أن الماء كان يستمر في تدفقه حتى يصل إلى موضع يتجمع عنده، أطلق عليه البدو اسما على مسمى، هو «رأس المية» قرب بحيرة التمساح، وهذا يعني أن مياه النيل وقت الفيضان كانت تندفع بشكل تلقائي طبيعي، في منحدر يخترق وادي طميلات/السدير، لتصب في نقطة قرب بحيرة التمساح، وهو الأمر الذي يؤكد أخبار القدماء، عن وجود قناة تربط خليج السويس بالنيل، وربما كانت المسافة من النيل حتى هذه النقطة، التي تقف عندها مياه النيل، هي التي أشار إليها الدكتور غلاب من هنيهة، أن من حفرها هو الفرعون نخاو أو على الأصح هو من أعاد حفره، ثم جاء «دارا» الفارسي واستكمل حفر الجزء الباقي حتى السويس، وبخصوص تلك القناة يقول «هيرودت»: «وأنجب بسماتيك ولدا هو نيخوس (نخاو) الذي حكم مصر، وهو أول من شرع في حفر القناة التي تؤدي إلى بحر أروتري (بحر أروتري هو الإريتري أي الأحمر، وقوله إن أول من حفرها هو نخاو، يعني أن هذا ما وصله وليس بالضرورة صادقا [المؤلف])، والتي حفرها من بعده دارا الفارسي، وطول القناة يساوي مدى إبحار أربعة أيام، وقد حفرت عريضة «حتى إن سفينتين من ذوات الثلاث صفوف من المجاديف، تعبرانها جنبا إلى جنب (لاحظ هذه صفات سفن بحرية ضخمة وليست نيلية [المؤلف])، ويؤتى إليها بالماء من النيل منصرفا من مكان فوق مدينة بوابسطيس بوبسطة (ضمن مدينة الزقازيق حاليا [المؤلف]) بقليل، بالقرب من المدينة العربية باتوموس»، وتنتهي إلى بحر أروتري، ثم تسير في منحدرات متجهة من الجبل نحو الجنوب، حتى تبلغ الخليج العربي. وقد هلك من المصريين أثناء عملهم فيها في عهد نيخوس مائة وعشرون ألف عامل.»
20
وهنا يقف دي بوا إيميه مستندا إلى هيرودت، ليقول إن تلك القناة الكبرى كانت تخرج من جنوب تل بسطة، وهذا يعني خروجها من الفرع المعروف بالفرع البوباستي، القادم من الزقازيق لتصل مباشرة إلى الخليج العربي، الذي يمتد عنده حتى بحيرة التمساح؛ لذلك رفض دي بوا إيميه الطول الذي أعطاه لنا هيرودت للقناة وهو تسعون ميلا؛ لأنه يصل بها للسويس الحالية، ويأخذ برأي بلليني
الذي قال إن طولها كان 62 ميلا فقط؛ لأن 62 ميلا كانت أقرب للمسافة بين بسطة وبحيرة التمساح.
21
المشكلة هنا كما سبق وأشرنا، أن مد الخليج حتى بحيرة التمساح، كما يريد «دي بوا إيميه» إن كان حقيقة، فقد كان أمرا قديما قدم عصره الجيولوجي، ويؤكد لنا رفضنا لاحتساب الخليج كان يمتد بحجمه الهائل هذا حتى التمساح، أن الدراسات الحديثة بعد دي بوا إيميه بزمان، أعادت دراسة حوض القلزم، فوجدت تحت آثار البحر بأعماق أبعد، طبقات طمي نيلي وافرة، لا تشير إلى قناة صناعية كانت تربط النيل بالخليج، إنما إلى فرع نيلي حقيقي قديم، كان يعبر الحوض جميعه ليصب عند السويس الحالية، وفي ذلك يقول جمال حمدان إنه كان ضمن أفرع النيل «فرع ناقص أو متدهور نوعا، كان يخرج قبل الفرع البيلوزي، ويتجه شرقا ليتصل بالبحيرات، ليخترقها جنوبا نحو البحر الأحمر عند كليسما/السويس، ويبدو أن هذا الفرع كان يسير بوضوح في وادي طميلات الحالي.»
22
ثم يزيدنا إيضاحا بشأن هذا الفرع النيلي القلزمي، ضمن حديثه عن انقراض فروع الدلتا القديمة، حتى لم يبق منها سوى فرعي دمياط ورشيد، فيقول حمدان: «يبدو أن الانقراض قد بدأ من الشرق، حيث «الفرع الواهي الضعيف الطميلاتي القلزمي»، وبعده أتى دور البيلوزي أقصاهم شرقا، الذي ذكره الجميع إلا جورج القبرصي، مما يوحي أنه كان قد اختفى قبل القرن السابع الميلادي على الأقل، ويلي بعد هذا غربا التانيسي فالمنديسي.»
23
لكن العمق الذي تم فيه العثور على طمي ذلك الفرع القلزمي القديم، يشير إلى أنه كان في عصور قديمة، لكن آثاره هي التي أوعزت للفراعنة بشق القناة على ذات خطه القديم.
هنا تواجه نظرية دي بوا إيميه مشكلة كبرى، تسقطها تماما رغم عبقريتها؛ لأن وجود فرع نيلي قديم، يعني أن حوض القلزم كان كما حوضنا، وليس امتدادا للخليج، وأنه كما هو لأزمان بعيدة، وأن انفصال البحيرات هو أقدم من زمن ذلك الفرع النيلي المنقرض، ويعود إلى حقب موغلة في القدم، بدليل أن النيل هو الذي كان يسير في حوض القلزم وترك آثاره هناك، «ولم يكن الخليج ممتدا حتى التمساح، لكن هنا يبقى اللغز الكبير، فمن أين جاءت آثار البحر المالح، لتترك آثارها في الطبقات العليا الحديثة لحوض القلزم؟»
ثم يأتي هيرودت ليزيد الأمر اضطرابا، بقوله إن في المنطقة مناط الحديث، كان يوجد أقصر طريق بين البحر الأحمر وبين البحر الأبيض، وأن هذا الطريق (موضع قناة السويس حاليا)، هو الحد الفاصل بين البلاد المصرية والبلاد الفلسطينية (كانت سيناء تعد عند المؤرخين اليونان فلسطينية لسكناها بالبدو؛ ولذلك أسموا خليج السويس بالخليج العربي)، فيقول نصا: «وهناك يوجد أقصر طريق وأصغر، للذهاب من البحر الشمالي إلى البحر الجنوبي، وهذا نفسه يسمى بحر أروتري، من جبل كاسيوس والحد الفاصل بين مصر وسوريا.» لكن المثير للبلبلة في كلام هيرودت، وهو يتحدث عن خط جبل كاسيوس (الكسارون الآن عند الفرما) يقول: «إن القناة هناك تصبح أكثر تعرجا؟ وهكذا فالقناة هنا تتجه شمالا نحو الفرما، وليس جنوبا نحو السويس، وهي عند الفرما أو قربها تصبح أكثر تعرجا!».
ولمزيد من الاضطراب بشأن قناة سيزوستريس، ما جاء عند دي بوا إيميه وهو يتحدث عن الفراعنة في آخر عهودهم زمن البطالمة، عندما أراد أحد البطالمة إعادة حفر القناة، بعد أن عدت عليها الأيام والإهمال وسفي الرمال فطمرتها، فيقول: «بطلميوس حاول إعادة المشروع، لكن مهندسيه أكدوا أن «مستوى سطح البحر الأحمر، يرتفع بمقدار ثلاثة أذرع عن سطح مصر»، فخشى غرق المنطقة، أو أن يتلف ماء البحر مياه النهر، فأمر بإيقاف العمل بعد أن وصل إلى العيون (يقصد البحيرات [المؤلف]) المرة.»
24
والآن لنتوقف لنلتقط الأنفاس وسط هذا الرتل المختل، نحاول أن نحدد ما لدينا من معلومات عن قناة سيزوستريس: (1)
أن هناك «قناة عرضية»، كانت تربط فرعا شرقيا لدلتا النيل بخليج السويس، عبورا على البحيرات الواقعة بينهما. لكن من عند البحيرات جنوبا وحتى خليج السويس العربي، ينعدم وجود تلك القناة، لعدم وجود أي أثر حديث لطمي النيل في حوض القلزم جميعه، والأثر القديم للطمي يشير إلى أن النيل كان له في العصور الجيولوجية القديمة، فرع قديم متدهور يسير في حوض القلزم حتى السويس، وهو ما يعني تراجع البحر عن حوض القلزم والبحيرات قبل ذلك بأزمان، ليسمح للنهر وطميه بالتواجد في هذا الحوض، وتبقى مشكلة من أين أتت الآثار الباقية لمياه البحر المالح (الأحدث) بحوض القلزم؟ (2)
زمن الحملة الفرنسية على مصر، لم تكن قناة سيزوستريس موجودة عمليا، لكن زمن الفيضان كانت مياه النيل تجري شرقا بشكل طبيعي تماما مندفعة مخترقة وادي طميلات، حتى تصب عند رأس المية قرب المسخوطة وبحيرة التمساح؛ مما يشير إلى وجود فرع نيلي قديم تجري محله تلك المياه. (3)
أن إشارة هيرودت لاتساع القناة، بحيث تستوعب «عابرتين متجاورتين»، من السفن البحرية ذوات الثلاثة صفوف من المجاديف، تشير إلى أن القناة لم تكن مجرد ترعة صغيرة، إنما جهزت لاستقبال السفن العابرة للبحار؛ مما يتعارض مع القول إنها كانت فرعا ضعيفا واهنا. (4)
أن أحد البطالمة أراد إعادة حفر القناة، فأكد له مهندسوه أن مستوى البحر الأحمر أعلى بمقدار ثلاثة أذرع، وهو ما وجدناه حقيقة إبان ارتحالتنا وراء مواقع الأحداث؛ إذ ينخفض هذا «الحوض حوالي خمسة عشر مترا» عن سطح البحر، وأمر بطلميوس بإيقاف المشروع، بعدما تبين له الخطر عندما وصل بالحفر إلى البحيرات المرة؛ «مما يشكك في كل ما سبق».
والآن ما قيمة كل تلك المعلومات؟ وماذا لدينا لينتج جديدا بعد النماذج التي طرحناها لعلماء أجلاء، من أجل تحديد موقع مدينتي رعمسيس وفيثوم الواقعتين في مقاطعة جاسان؟
لقد تأكد لنا من المؤرخين والجغرافيين الكلاسيك، وجود فرعين شرقيين منقرضين للنيل، كان الأول وهو البيلوزي ينطلق من جنوبي تل البسطة أي من الفرع البوباستي، ويتجه نحو الشمال الشرقي ليصب عند بيلوزيوم/الفرما، والثاني ينطلق من موضع ما بالقرب من بسطة بدوره، ليتجه شرقا عبر وادي طميلات، ليلتقي ببحيرة التمساح، ويتصل بعد ذلك بالبحيرات المرة، ثم يهبط إلى رأس خليج السويس، وعرفه المؤرخون الكلاسيك باسم قناة سيزوستريس. وقد وصلتنا خرائط أولية رفعت عليها القناتان كما في خريطة استرابون وخريطة هيرودت (حسب تفسير بول)، في زمن كان فيه النيل لم يزل يحتفظ بسبعة أفرع بالدلتا، وقبل أن تنقرض جميعا وتتحول إلى ترع ومصارف، بحيث لم يبق منها الآن سوى فرعي دمياط ورشيد.
وحتى زمن الحملة الفرنسية، نسمع «لوبير» أحد علماء الحملة، يؤكد أنه حتى زمانه - فقط منذ قرنين من الزمان - كان الفيضان يدفع بكميات هائلة من الماء شرقا، حتى قرب المسخوطة غربي بحيرة التمساح على حدود سيناء الغربية، وذلك يعني أنه مع انقراض فروع الدلتا القديمة، «فإن الماء كان يعرف طريقه الشرقي العتيق حتى زمن الحملة الفرنسية»، ويتفق ذلك مع تقرير عالم الحملة المسيو ديفليه عن رأس المية، عند موضع ألسنة كراش قرب بحيرة التمساح، كمصب للمياه المتدفقة من النيل نحو الشرق.
كما أن ذات الخرائط القديمة تؤكد وجود قناة، تربط بين الفرع البوبسطي وبين خليج السويس، وقال هيرودت حسبما وصله إنها حفرت زمن نخاو، ولكنا ذهبنا إلى أنها حفرت قبل ذلك بزمان، ربما من أيام خيتي في العصر المتوسط الأول، لكن بالتأكيد منذ زمن آمنحتب الثالث وزوجته تي، لكن هيرودت يقول إن بطلميوس لما حاول حفرها من جديد، حذره مهندسوه لانخفاض سطح مصر هناك عن مستوى سطح البحر، ويكون السؤال البدهي: «إذا كانت الأرض هناك منخفضة عن سطح البحر وهو الثابت فعلا، فكيف أمكن حفر القناة زمن نخاو ومن قبله آمنحتب الثالث، ثم زمن سيزوستريس ومن قبله زمن خيتي أو أخيتوي قبل الدولة الوسطى وقبل الجميع؟» لم نجد حلا سوى افتراض أن قناة سيزوستريس، لم يكن الغرض منها إيصال الماء العذب إلى منطقة القلزم والبحيرات، كهدف أول لمثل هذا العمل، بدليل أنها بالفعل لم تصل بمائها العذب إلى هناك، حيث لم يعثر على طمي النيل في حوض القلزم، وعوضا عنه وجدنا آثارا بحرية، وعليه «لا حل سوى افتراض أن غرض القناة كان غرضا تجاريا عسكريا في المقام الأول»، فلم يشغل الفرعون الماء العذب أو المالح، إنما شغله إقامة الخط التجاري البحري، وخط حماية خندقي بالمياه، هو ما نعتقد أنه المعروف في التاريخ المصري القديم، باسم سور الأمير (الحاكم) الذي يصد الآسيويين. لقد تم حفر القناة ليس لتحمل مياه النيل من عند مصبها عند بحيرة التمساح إلى الخليج، بل العكس هو المقصود، أي «لتحمل مياه البحر الأحمر المنحدرة في القناة»، بعد إزالة الحاجز الرملي الكبير، لتندفع باتجاه البحيرات عبر حوض القلزم، ثم نحو الوادي المنخفض طميلات، حتى تتوقف عند أكثر المناطق موازنة على اليابس مع سطح البحر، وهناك - عند منطقة التوازن - تلتقي المياه الحلوة القادمة من القناة من الغرب، من مخرجها عند الفرع البوبسطي.
ولأن الماء المالح كان لا بد سيختلط بالحلو، ويغلب أحدهما الآخر حسب قوته وتدفقه، فقد لاحظ الدكتور «نصحي» ذلك، وقال لمحة سريعة في جملة واحدة: إن «حوض البحيرات المرة كان بمثابة حوض موازنة، بين المياه القادمة من النيل، وبين المياه القادمة من البحر الأحمر.»
25
وإن كان تحديده لمكان الموازنة برأينا غير موفق ولا دقيق.
ولما كان اليابس حسب جميع التقارير أدنى ارتفاعا من سطح البحر، خاصة إذا ما اخترقت القناة أوطأ مناطق الدلتا الشرقية في وادي طميلات العميق؛ لذلك «نفضل افتراض حوض الموازنة في وادي طميلات، أو بالأحرى في نقطة ما شرقيه تقع في مكان ما يحتاج إلى تحديد، عند موضع التقاء القناة القادمة من الجنوب بماء البحر المالح، مع الفرع النيلي العذب القادم من الغرب؛ لأن الطرف الشرقي من وادي طميلات أكثر انخفاضا من حوض القلزم نفسه، وهو بدوره كان منخفضا عن سطح البحر أصلا».
ومن ثم نرسم تصورا أن فرع القناة الجاري عبر وادي طميلات، كان هو منطقة التوازن بين لحظات مد، تندفع معها المياه المالحة، ثم تعود مع الجزر ليندفع ماء النيل العذب يطاردها مرة أخرى، ويترك لنا آثاره طميا واضحا بطول وادي طميلات، «ويحول سواحل القناة إلى مناطق غنية بأحراش البوص»، حيث توافر الماء العذب مع المالح مع ضحالة قياسا على حال البحر نفسه، ومن هنا نعتقد سبب إطلاق التوراة اسم بحر البوص على البحر الأحمر جميعه، باعتبار هذا الفرع أو تلك القناة كانت تحتسب جزءا من خليج السويس؛ لأنها امتداد صناعي له، وهو ما لمحه «إبراهيم نصحي» إذ يقول: «إن القدماء كانوا يعتبرون البحيرات المرة امتدادا للبحر الأحمر؛ ولهذا فإن بلينوس كان يدعو خليج السويس بأجمعه الخليج الهيروبوليني نسبة إلى هيروبوليس»،
26
بينما هيروبوليس كانت تقع في شرقي وادي طميلات غربي الإسماعيلية الحالية وبحيرة التمساح، وليست عند خليج السويس.
إذن، وبهذا المعنى لدينا هنا قناتان وليس قناة واحدة، قناة ماء عذب مخرجها من الفرع البيلوزي، تنحدر بمائها طبيعيا عبر وادي طميلات، حتى تصل إلى نقطة قرب بحيرة التمساح، ربما تكون المسخوطة، وأن اسم التمساح يشير إلى أن هذه القناة كانت تحوي ماء عذبا لا مالحا، فالتماسيح المصرية لا تعيش إلا في الماء العذب النيلي في مصر، وربما جرت تسميتها بهذا الاسم تمييزا لها عن البحيرات المالحة، التي لا تعيش فيها التماسيح، وأطلق عليها اسم البحيرات المرة، فالماء المر عند المصري حتى اليوم يعني الماء المالح، هذا علما أن دي بوا إيميه لم يشر لا من بعيد ولا من قريب، إلى نتائج بحثه عن آثار البحر المالح ما بين البحيرات المرة وبحيرة التمساح؛ مما يعني أن المسافة بين البحيرات المرة وبحيرة التمساح شمالا، كانت تخلو من آثار البحر التي أشار إلى انتشارها بطول حوض القلزم، وهذا أيضا يعني أن القناة التي تم شقها من عند السويس الحالية، وتم وصلها بالبحيرات المرة، لتنحرف بعدها غربا نحو النقطة، التي يتوقف عندها صعود الماء المالح في منطقة توازن حاملة معها ماء البحر، لم تكمل خطها المستقيم نحو الشمال حيث بحيرة التمساح، وخلو المسافة ما بين بحيرة التمساح والبحيرات المرة من آثار البحر يؤكد ذلك، وهو ما يعني أن القناة قد انحرفت بعد البحيرات المرة غربا، بمياهها المالحة القادمة من الخليج، لتلتقي بالمياه العذبة القادمة من النيل (ويبدو أنه قد تم مد قناة الماء العذب من بحيرة التمساح، لتلتقي بالفرع البيلوزي مرة أخرى قرب شرقي مدينة القنطرة، لتصبح القنطرة غربها وتل أبو سيفا بشرقها، وكان لا بد هناك من إنشاء قناطر للعبور نحو أبو سيفا وسيناء، تركت أثرها في اسم البلدة «القنطرة»، وهي فيما نعتقد تلك القناة الضائعة، التي كانت تعرف تاريخيا باسم قناة الجفار)، ومعنى هذا أن «الفرعون ومهندسيه قد قاموا بحفر القناة من السويس إلى البحيرات المرة، ثم حفروا من غربي البحيرات المرة منحرفين بها نحو الغرب، لتلتقي بفرع الماء النيلي الطبيعي القادم من الزقازيق عند نقطة بعينها، وهي تلك النقطة التي أصبحت مركز التوازن، أو ملتقى البحرين أو مجمع البحرين، وأن عند هذه النقطة أنشأ الفرعون مدينته العبقرية، لتكون ميناء عالميا تلتقي عنده السفن القادمة ببضائع أفريقيا والجنوب الآسيوي عبر البحر الأحمر، عبورا بالقناة المالحة على البحيرات المرة ثم غربا إلى المسخوطة، بالسفن القادمة من عالم البحر المتوسط عبر الفرما، فقناة الجفار حتى التمساح فمدينة الفرعون، التي حملت بعد ذلك اسم رعمسيس، والتي وصفت بأنها بوابة مصر الوحيدة، وهو التعبير الذي يجد صداه في تخريجنا هنا وحده دون غيره؛ إذ تصبح جميع الطرق إلى مصر بهذا الشكل محاطة بخندق مائي عظيم، ولا يبقى سوى منفذ واحد بري، يصل إلى تلك المدينة، هو المسافة المثلثة بين البحيرات المرة وبحيرات التمساح، وأن هذا المنفذ لا بد ينتهي نحو المدينة، التي يلتقي عندها طرفا الماء في زاوية حادة (حسب ما هو مبين بالشكل رقم
2-6 )، لتجعل مدينة رعمسيس بوابة مصر الوحيدة».
شكل 2-6: تصورنا لموضع رعمسيس في إقليم جاسان حيث استعبد الإسرائيليون (المسخوطة = رعمسيس).
شكل 2-7: شق تفصيلي.
شكل 2-8: تفصيل أوضح.
وهذا التخريج الذي نسوقه يلتقي بشدة مع خرائط جغرافيي ومؤرخي العصر الكلاسيكي، وخاصة مع أخبار هيرودت وخريطة بطلميوس واسترابون وتفسير بول لخريطة استرابون، الذي يأخذ من الفرع البوبسطي/التانيسي «فرعين»، يتجه أحدهما نحو الشمال الشرقي حتى يصب عند بيلوز/الفرما، ويتجه الآخر نحو البحيرات المرة والتمساح البحر الأحمر.
وهيرودت من جانبه يخرج الفرعين جنوبي تل بسطة/الزقازيق بقليل، ويضع المدينة الثانية من مدن الاضطهاد (فيثوم/بي توم/باتوموس)، عند نقطة مقوسة في انحناءة قناة سيزوستريس من الشرق نحو الجنوب.
وذلك يفسر لنا أيضا التضارب بين هيرودت وبليني، حول طول قناة كان مظنونا أنها واحدة، فقال هيرودت إنها كانت تسعين ميلا، وقال بليني إن طولها كان ستين ميلا، «بينما كان بليني يتحدث عن طول القناة العذبة من الزقازيق إلى المسخوطة، وهيرودت يتحدث عنها بشكل طولي من الفرما إلى السويس، كما هو حال قناة السويس اليوم».
لقد حفر الفرعون أخيتوي ثم آمنحتب الثالث قناته البحرية، وهو يعلم ماذا يفعل بالضبط، لقد كان يعرف جيدا عن انخفاض حوض القلزم، وبعض من سطح وادي طميلات عن سطح البحر، ومع ذلك أمر بإزاحة أكوام الرمال العظيمة من أمام خليج السويس، لينحدر الماء في الحوض المنخفض، حاملا معه الماء المالح دافعا البحر خارج حدوده، ليظل في طريقه حتى يتوقف عن الصعود عند نقطة، يلتقي فيها بالفرع العذب القادم من النيل، ليبني الفرعون في نقطة اللقاء مدينته العبقرية وزهرة مدائن العالم القديم، التي أصبحت بهذا الشكل مركزا وسطيا رئيسيا، بين فرعين يشكلان سورا حاميا لمصر، ثم إنها بذلك أصبحت ميناء فريدا من نوعه في تاريخ الدنيا، فهي بذلك ميناء للبحرين الأبيض والأحمر في عمق الأراضي المصرية داخل اليابس، وليست ميناء على بحر، هي الميناء الوحيد عبر التاريخ كله داخل عمق اليابس، تصلها السفن القادمة ببضائع الهند وأفريقيا من البحر الأحمر عبر القناة المالحة، وتصلها السفن القادمة من بلاد الشام وتركيا وجزر المتوسط عبر الفرع قناة الجفار، ويشرف الفرعون منها على ممتلكاته في آسيا من أقرب نقطة ممكنة، لتتحول المنطقة إلى منطقة جذب تجاري عظيم وعالمي. وهكذا فقط يكون المستحيل قد أصبح ممكنا! لميناء داخل اليابسة ويستقبل سفن عالم الشمال وعالم الجنوب.
وفي الوقت نفسه تقع المدينة العبقرية عند منطلق الخطوط الرئيسية للمواصلات مع آسيا، فعندها يبدأ الخط المتجه شمالا فشرقا المحاذي للبحر المتوسط، المعروف بطريق حورس الحربي الكبير، ثم طريق متلا وطريق الجدي اللذان يخترقان وسط سيناء نحو الشرق ونحو الجنوب، بينما المنطلق للجميع من عند نقطة انطلاق واحدة لا يوجد غيرها، عند المدينة الميناء، وتصدق قصيدة مدح رعمسيس الكبرى ثم الصغرى، وهي تصف المدينة بأنها تقع على بداية «الطريق الوحيد نحو آسيا، وأنها بمفردها كمدينة حد فاصل بين الأراضي المصرية والأراضي الفلسطينية».
ثم إن الفرعون المصري قد ضمن بذلك سيطرته التامة أيضا على بلاده من الداخل لمنع أي عمليات هروب، فمدينته العبقرية تقع على المجرى النهري الرئيسي، لقد كان الموقع فريدا يليق بمن هندسه.
وحسب هذا التصور، فإن ذلك التخطيط الاستراتيجي العسكري الإداري الفني الفذ، قد حجز مصر تماما عن سيناء بقناة سيزوستريس المتصلة بالخليج العربي (السويس)، بالبحر الأحمر جنوبا وقناة الجفار والفرع البيلوزي المتصلة بالبحر الأبيض المتوسط شمالا، ولم يترك مكانا مفتوحا للقادم من سيناء إلى مصر، سوى تلك المساحة الصغيرة، ولا بد في هذه الحال للداخل إلى مصر من المرور على قلاعها الواقفة بين القناتين عند مدينة رعمسيس، كي يتمكن من دخول مصر، وأصبح الماء حائلا دون الدخول أو الهروب، إلا عبر تلك المساحة الضيقة الواقعة تحت رقابة الجيش الكاملة، والأكثر يسرا في مدينة المدائن وميناء الموانئ اللغز المعجز «رعمسيس».
وأصبحت مساحة وادي طميلات المحصورة بين بحيرة التمساح والبحيرة المرة شرقا، وحتى نقطة التقاء الماءين عند رعمسيس غربا، مساحة خاصة جدا كادت تكون سينائية تماما وخارج مصر؛ لذلك يصبح مفهوما لماذا أسماها اليونان المقاطعة العربية والفلسطينية لاتصالها المباشر ببوادي سيناء السامية.
وتحكي لنا التوراة حكاية خروج بني إسرائيل من مصر تحت قيادة «موسى»، وتفصل أسماء المواضع بتفصيل يقول:
فارتحل بنو إسرائيل من «رعمسيس» إلى «سكوت» نحو ستمائة ألف ماش من الرجال عدا الأولاد، وصعد معهم لفيف كثير أيضا مع غنم وبقر «ومواش وافرة جدا». وكان لما أطلق فرعون الشعب «أن الله لم يهدهم في طريق أرض الفلسطينيين مع أنها قريبة» لأن الله قال: لئلا يندم الشعب إذا رأوا حربا ويرجعوا إلى مصر، «فأدار الله الشعب في طريق برية بحر سوف»، وارتحلوا من «سكوت» ونزلوا في إيثام في طرف البرية. وكلم الرب موسى قائلا: كلم بني إسرائيل أن «يرجعوا»، وينزلوا أمام «فم الحيروث بين مجدل والبحر أمام بعل صفون»، مقابلة تنزلون عند البحر ... فلما أخبر ملك مصر أن الشعب قد هرب، تغير قلب فرعون وعبيده على الشعب، فقالوا ماذا فعلنا حتى أطلقنا إسرائيل من خدمتنا، فشد مركبته وأخذ قومه معه، وأخذ ستمائة مركبة منتخبة وسائر مركبات مصر، وجنودا مركبية على جميعها، وشدد الرب قلب فرعون ملك مصر، حتى سعى وراء بني إسرائيل، وأدركوهم جميع خيل مركبات فرعون وفرسانه وجيشه، وهم «نازلون عند البحر عند فم الحيروث أمام بعل صفون». ومد موسى يده على البحر، فأجرى الرب البحر بريح شرقية شديدة كل الليل، وجعل البحر يابسة وانشق الماء، فدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة، والماء سور لهم عن يمينهم وعن يسارهم، وتبعهم المصريون، فمد موسى يده على البحر، فرجع البحر عند إقبال الصبح إلى حاله الدائمة، والمصريون هاربون إلى لقائه، فدفع الرب المصريين في وسط البحر. ثم ارتحل موسى بإسرائيل من «بحر سوف، وخرجوا إلى برية شور». (خروج، 12: 37، 38؛ 13: 17، 18، 20؛ 14: 1، 5، 6، 7، 8، 9، 21، 22، 23، 27؛ 15: 22)
فماذا لدينا هنا من مواضع جغرافية على خط السير الهلامي هذا؟
الفرض التأسيسي أن مدينة رعمسيس تقع على حدود الدلتا الشرقية مع البراري السينائية، بين البحر المتوسط شمالا، وخليج السويس أو القلزم أو العربي من البحر الأحمر جنوبا.
والنص يقول إنهم ارتحلوا من رعمسيس إلى موضع آخر، يحمل اسم سكوت، وأن الموقع سكوت كان أول محطة على طريق يحمل اسم طريق أرض الفلسطينيين، وأن «طريق أرض الفلسطينيين» كان قريبا من الموقع سكوت، أي إنهم اتجهوا نحو بداية طريق معلوم، يعبر سيناء ليفضي إلى أرض فلسطين، وهو طريق حورس الحربي السائر بحذاء شاطئ المتوسط، لكن النص يقول إن الرب بعد أن تركهم يمضون هذه المسافة إلى سكوت نحو الطريق الدولي، خشي من تعرض شعبه لمعركة وحرب؛ مما يعني أن هذا الطريق يقف عليه قوم مسلحون، يمكنهم أن يجعلوا الشعب يندم على خروجه من مصر، أو بالأحرى أن موسى قد شاهد علامات وجود تلك القوة العسكرية الحدودية، فأمر رجاله بالعودة مرة أخرى، وهو ما يفهم من التعبير: «فأدار الله الشعب في طريق بحر سوف.» وكانت تلك العودة نحو صحراء تحمل اسم برية بحر سوف، وهو ما يفيد أن تلك البادية تحمل اسم بحر داخل محيطها الجغرافي، هو بحر سوف، وهكذا عادوا من سكوت أول محطات الطريق الدولي نحو فلسطين، ونزلوا إلى موضع باسم إيثام في هذه البادية (برية بحر سوف)، ومن هناك رجعوا مرة أخرى، ونزلوا في موضع تتعدد إحداثياته الجغرافية، حتى تكاد التوراة تضع له حدوده الأربعة، فالحد الأول الواضح هو البحر، وفي المقابل الآخر للبحر «مجدل» أي القلعة، وعليه فقد كان الإسرائيليون لحظة الخروج بين القلعة والبحر، وأمامهم يقع موضع باسم «بعل صفون»، وهو اسم إله، مما يشير إلى معبد أو تمثال لهذا الإله في ذلك الموضع، أما الموضع الذي نزلوا فيه على بحر سوف، فكان يحمل اسم «فم الحيروث»، التي هي في أصلها العبري بي ه حيروت، ومن بي ه حيروت عبروا البحر المفلوق بالعصا الثعبانية، ليخرجوا إلى صحراء باسم برية شور، تقع إلى الشرق من بحر سوف.
نحن إذن بعد أن حددنا موضع رعمسيس بالمسخوطة حاليا أو الخشبي، ولا زلنا نجمع لها الأدلة، بحاجة إلى تحديد عدد من المواضع الجغرافية هي: «فيثوم»: رفيقة رعمسيس في التوراة، حيث استعبد بنو إسرائيل في بناء المدينتين. «سكوت»: الواقعة على أول الطريق الدولي وإيثام الموجود في برية بحر سوف. «فم الحيروث»: بين مجدل والبحر أمام بعل صفون. «بحر سوف»: الذي تقع على شاطئه الغربي الإحداثيات السابقة. «برية شور»: على الشاطئ الشرقي من بحر سوف. (1) هندسة المكان
المفترض حسب رواية التوراة، أن تقع مدينة الاضطهاد «رعمسيس» قرب بحر سوف، وعلى جانب هذا البحر من جهة الغرب، وعليه يتم الاستنتاج أن الخارجين خرجوا من رعمسيس، ولم يتجهوا شرقا نحو البحر مباشرة، الذي لا نجد له مقابلا له في تلك المنطقة، سوى بحيرة التمساح، إنما اتجهوا شمالا نحو الطريق الدولي (طريق حورس) الحربي المتجه نحو فلسطين، ونزلوا محطة سكوت، ثم عادوا منها جنوبا مرة أخرى نحو بحيرة التمساح، بعد أن خشوا حربا، ليحدث العبور من مدينة رعمسيس التي خرجوا منها في البداية، وهو ما يعني افتراض وجود رعمسيس قرب بحيرة التمساح، وهو ما سبق وذهب إليه دي بوا إيميه عبقري الحملة الفرنسية الفذ، عندما اعتبر تل المسخوطة هي مدينة رعمسيس، وهو الأمر الذي عثرنا له على كثير من القرائن والشواهد والمؤيدات، فقد عثر ليبسيوس في موقع تل المسخوطة عام 1860م، على تماثيل لرمسيس الثاني مع الإلهين رع وآتوم، كما عثر على آثار سور عظيم يحيط بالبلدة، كما عثر على تماثيل لأبي الهول من الجرانيت الأسود، تحمل اسم رمسيس الثاني، كذلك عثر نافيل هناك عام 1884م على حجرات مخازن مصنوعة من اللبن؛ لذلك ذهب كلاهما إلى موضعة مدينة رعمسيس في موضع المسخوطة/الخشبي الآن بوادي طميلات غربي بحيرة التمساح،
27
لكن دون أن يقدم أحدهما أو يكابد ما كابدناه هنا، لقد وضعوها فروضا سريعة في شكل فكرة فلاشية، تنبني على وجود آثار مصرية لرعمسيس الثاني وليس أبعد من ذلك.
وهنا نعثر بعد لأي على واحدة من أخطر الشوارد لكنها الشواهد، المتمثلة في الإله الذي أفصحت عنه آثار المسخوطة، الذي ورد مكتوبا «وع نب هوو»، الذي يعني «الرب الوحيد هوو»،
28
وهو ما يصادق على كل ما قلنا حتى الآن؛ لأن «هوو» ببساطة هو «يهوه»، هذا ناهيك عن دليل قاطع، حيث لا يكتب النصب السبعوني للتوراة اسم مدينة الاضطهاد بالاسم رعمسيس، إنما بالاسم هيروبوليس، والمعلوم أن اسم «هيروبوليس» في العصر اليوناني كان الاسم الذي أطلقه الإغريق على تل المسخوطة الحالية، فقد ذكر استرابون أن هيروبوليس تقع قرب ميناء أرسينوي على خليج العرب، وقد أكد أميلينو في جغرافيته أن هيروبوليس هي المسخوطة.
29
لكن يبقى المأخذ على هذا الفرض؛ لأن تل المسخوطة لا تقع على بحيرة التمساح، إذا افترضنا أن بحيرة التمساح هي بحر سوف، إنما تبعد عنها إلى الغرب، بمسافة تصل إلى ستة عشر كيلومترا.
خاصة أننا سبق ورفضنا نظريات، تجعل بحر سوف مجرد بحيرة مثل بحيرة المنزلة عند بروجش، أو بحيرة البلاح عند علي شافعي، أو بحيرة البردويل عند بيير مونتييه، وأصررنا على خليج السويس بالبحر الأحمر، فهل ثمة حل؟
لقد حللنا ذلك عندما قلنا إن الماء العذب كان يتدفق تلقائيا حتى يصل المسخوطة، وإن ما فعله آمنحتب الثالث، أنه أعاد الحفر من فرع النيل البوباستي، الذي سبقه إليه أخيتوي، للمسافة بين المسخوطة وبين بحيرة التمساح (16كم)، لإقامة بحيرة لمليكته تي، وحفر من جنوب البحيرات المرة إلى خليج السويس، ليأتي بالماء المالح القادم من البحر إلى البحيرات المرة، بإزالة التلال الملحية أمام ماء الخليج ليس أكثر، ليندفع الماء للبحيرات المرة، ومن البحيرات المرة تم حفر مسافة ستة عشر كيلومترا غربا، ليلتقي ماء البحر بماء النيل في نقطة، لتقام هناك مدينة رعمسيس، في موضع بحاجة بالضرورة إلى قناطر للعبور، ولا ننسى لوحة الكرنك، التي رسمت لنا مدينة رعمسيس، في هيئة قناطر تطل على نهر وبحر معا.
ويظل علينا مع كل تلك المجازفات أن نحدد: أين تقع رفيقة رعمسيس التي دونت التوراة اسمها فيثوم؟
وهنا نقف مع أميلينو الذي اعتمد على خط سير أنطونين الروماني، وقد وضع أنطونين مدينة فيثوم (بي توم أو باتوموس بالنطق اليوناني)، على بعد 24 ميلا غربي هيروبوليس/المسخوطة غربا، ومن ثم استند أميلينو إلى ذلك، وانتهى إلى أن بي توم هي التل الكبير الآن، فحدد موقع فيثوم بأنه التل الكبير،
30
وهو ما نخالفه فيه بشدة، كما سيأتي بيانه.
وفي رسالة الكاتب بينبس لسيده أمنموبي، يقول عن مدينة رعمسيس:
لقد وصلت إلى مدينة بيت رعمسيس.
محبوب آمون ...
لديها مؤن وذخيرة كل يوم.
بركها تزخر بالسمك و«بحيراتها» بالطيور ...
وشواطئها محملة بالبلح ...
وهي تناطح السماء في «ارتفاعها» ...
وفيها سمك وز الأحمر من «قناة» (تلف بالوثيقة) ...
وسمك بتن من «بحيرة» (تلف بالوثيقة) ...
ويستخرج من «بحيرة حور» النطرون ...
وسفنها تروح وتجيء إلى «الميناء» ...
إن «مستنقعات» زوف تنبت لها البردي «وسيحور» تمدها باليراع «والبحر» فيه سمك بج وسمك أد.
وإشارة الكاتب بينبس إلى سمك وز الأحمر، من عند مدينة رعمسيس، إشارة لسمك ليس نيليا على الإطلاق؛ لأن النيل في مصر لا يعرف أي لون للأسماك سوى الرمادي، التي تظهر في نادر أنواعه الخضرة القاتمة والصفرة فيما هو أشد ندرة. وعليه لا بد أن يكون سمك وز المستخرج من مياه مدينة رعمسيس سمكا بحريا، والأكثر التقاء معنا إشارة التقرير، أن «هذا السمك الأحمر البحري لا يعيش في بحر، إنما في قناة» فقدنا اسمها بتلف الوثيقة، ومعنى ذلك أنه يتحدث عن سمك يعيش في القناة القادمة بمياه البحر الأحمر، حتى المسخوطة حيث منطقة التوازن، أما «سيحور» فهي الفرع البيلوزي (قناة الجفار) أو «الشيحور» بالتوراة، الذي وصفته التوراة بأنه «الشيحور الذي هو أمام مصر» (يشوع، 13: 2). وعن ماء حور أو سي حور أو الشيحور، حدثنا النبي الإسرائيلي إرميا، وهو يندد بشعبه الذي يلجأ بسوائمه إلى مياه مصر، يناديه قائلا: «والآن مالك وطريق مصر لشرب مياه شيحور» (إرميا ، 2: 18).
ولا حل سوى أن تكون بحيرة حور، هي التي نعرفها اليوم باسم بحيرة البلاح، أما مستنقعات زوف التي كانت تمد مدينة رعمسيس بالبردي، فيمكن أن تكون هي بحيرة التمساح.
ثم بهذا التصور الذي طرحناه وحده، تنطبق لوحة الكرنك وتتطابق بالكامل مع الموضع الذي حددناه، حيث وضعت مدينة رعمسيس على ماءين: أحدهما مالح بتصوير الأسماك البحرية، والآخر عذب بتصوير بيئة نهرية نيلية.
وفي التوراة يتكرر ذكر مدينة مصرية باسم «نو آمون»، كما في سفر «ناحوم، 3: 8-10»، وتذكر في مواضع أخرى باسم «آمون نو» كما في «إرميا، 46: 25»، وأحيانا تذكر فقط باسم «نو»، كما في «حزقيال، 30». وقد ذهب الباحثون إلى أن المقصود بها طيبة (الأقصر الحالية)، لورود اسم آمون وهو سيد طيبة ورب الدولة، في اسمها المركب «نو آمون».
لكننا نعلم أن أحد الألقاب المتكررة لرعمسيس - الذي منح المدينة اسمه - الذي عادة ما يلازم اسمه هو «رعمسيس ميامون»، ونظن مدينة «نو آمون» هي «ميامون» لاختلاط النوم بالميم، إشارة لمدينة رعمسيس العبقرية كما حددنا موضعها، ويدعمنا في ذلك المواصفات التي قدمتها التوراة لمدينة «نو آمون» أو كما نظن «ميامون»، حيث تطابق المواصفات التوراتية خريطتنا لرعمسيس تطابقا تاما، انظر معي التوراة تقول مخاطبة أورشليم، تصغيرا إزاء مدينة عظيمة أخرى، تقع في مصر اسمها «نو آمون»:
هل أنت «يا أورشليم» أفضل من نو آمون؟ «الجالسة بين الأنهار، حولها المياه حصن ومن البحر سور لها». (ناحوم، 3: 8-9)
ومثل هذا الوصف إطلاقا لا يطابق «طيبة/الأقصر»، فالبحر ليس سورا لها، فهي بعيدة تماما عن أي بحر بالمطلق، وليس هناك أنهار بل نهر واحد هو شريان النيل القادم من أفريقيا، أما تلك الجالسة «بين الأنهار والبحر سور لها والمياه حصون»، فلا شك لدينا أنها مدينة رعمسيس/المسخوطة، حسب نظريتنا أو جغرافيتنا.
الفصل الثالث
إحداثيات مواضع الخروج
(1) فيثوم
فيثوم العبرية هي في المصرية القديمة بي - توم، أي مقر الإله آتوم، ورد ذكرها عند المؤرخين الكلاسيك مصرفة اسميا بالاسم باتوموس، وقد وضعها هيرودت على القناة الواصلة بين الفرع البوبسطي للنيل وبين بحيرة التمساح ، والتي تمتد حتى الخليج، وأطلق المؤرخون الكلاسيك على مدينة بيتوم «أرابيا» أي المدينة العربية، نسبة إلى غلبة العنصر الآسيوي البدوي على سكانها حتى العصر اليوناني.
ولدينا الآن وثيقتان شديدتا التنافر، كل منهما تعطي تقريرا عن موضع فيثوم بالنسبة لرعمسيس: الأولى هي خط سير الحاجة إيثريا، التي تقول إن المدينة العربية «أرابيا»، تبعد عن رعمسيس مسافة أربعة أميال فقط، والثانية خط السير الروماني «أنطونين»، ويعطينا مسافة أربعة وعشرين ميلا كاملة، وعليه سنقوم بتحقيق كلتا المسافتين، لنرى إلى أين تلقي بنا تقديراتهما، ونبدأ بخط السير الروماني «أنطونين».
وباعتماد لوحات دارا التي وضعت على مسافات متساوية كل منها 25كم، يمكننا أن نقوم ببعض الحسابات مع أنطونين (وليس مع أميلينو الذي ذهب إلى أن بيتوم حسب أنطونين هي التل الكبير ولا نعلم كيف).
شكل 3-1: لوحات دارا.
إن المسافة إذن بين تل المسخوطة وبين تل بسطة/الزقازيق حاليا خمسون كيلومترا، لو طرحنا منها 24 ميلا أي 37 كيلومترا ستكون المسافة بين الموضع الذي نبحث عنه (فيثوم) وبين تل بسطة/الزقازيق حوالي 13 كيلومترا، ولو بحثنا شرقي الزقازيق على خط وادي طميلات بعد ثلاثة عشر كيلومترا سنجد قريتين متجاورتين يفصل بينهما كيلومتر واحد، إحداهما باسم «سفط الحنة» والأخرى باسم الصوة، وعندما وصلنا إلى ذلك، «ومضينا نبحث وراء سفط الحنة والصوة، كانت النتائج مبهرة حقا».
وخط السير الروماني للإمبراطور أنطونين، إذ يشرح يقول إن المسافة 24 ميلا بين هيروبوليس (رعمسيس/المسخوطة) وبين بي توم، يحدد أكثر فيقول إن نقطة انتهاء ال 24 ميلا، تقع عند «بيتوم أو باتوموس التي تسمى ثو»،
1
ذلك الاسم الغريب الذي لم يزل موضع خلاف حاد بين المؤرخين، دون تحديد جغرافي واضح، و«ثو» برأينا تؤدي إلى «ثوم» أو بي توم، وقد أكد سليم حسن أن بلدة «ثو» أو «سو» أو «صو» موضع مجهول تماما حتى الآن، وكل ما نعلمه عنه أنه كان عاصمة لمقاطعة باسم «حقا عنز».
2
ولو ترجمنا حقا عنز عن الهيروغليفية فسيكون «حكم السمكة، باعتبار السمكة هي عنز»، وحقا هي الحكم، ولو ترجمناها بافتراض الأثر السامي من البدو، وهي منطقة سامية تسمى العربية، فإن الترجمة ستكون: مقر حكم العنزيين أو الرعاة أو أصحاب العنز، وهو المرجح لدينا وسيتأكد في الأبواب المقبلة، عندما نعلم أن العنزيين هم من الساميين، أما معنى كلمة «صو» نفسها في المصرية القديمة، فهو المكان المحصور أو المضيق،
3
وسنرى عندما تكتمل فرضياتنا ونرسم خريطتنا، كم يصدق اسم «صو» على موقعها الجغرافي.
ثم إن «سو» أو «صو» أو «ثو» تحمل معنى آخر، يلائمنا تماما ويدعم أطروحاتنا؛ لأنها كما تعني المضيق فهي أيضا تعني في المصرية القديمة اسم الإشارة للغائب المذكر «هو»، وهو ما يحيل مبنى ومعنى إلى رب التوراة «يهو»، الذي لا يلفظ اسمه ويكنى عنه باسم الإشارة «هو»،
4
وبفعل الكينونة (يكون أو الكائن).
ثم معنى ثالثا يشير إلى ترافق وتجاور وتلاصق بين مدينتين هما «صو» و«بيتوم»؛ لأن كلمة «صو» تعني أيضا «يمشي بقربه»، رفقة، تجاور؛ فهي المجاورة أو الرفيقة،
5
ولا يزال المصري حتى اليوم يستخدم كلمة «سوا» تعبيرا عن الرفقة والتلازم.
وقديما جازف جوتييه - فيما يبدو تخمينا - مجازفة نراها صادقة حقا، فقال في قاموسه أن «صو» هو الاسم الديني لمدينة
Atoum «بر آتوم»، المذكورة في الوثائق المصرية، وأن اسمها المدني كان فيثوم
المدون بالتوراة، وأن اسمها الرومي هو
. بعد كل هذا الكلام الجميل، يحدد موضعها عند التل الكبير، ولكن لدينا الآن وبيدنا مع التدقيق قرية «الصوة»،
6
الملاصقة لسفط الحنة على مرمى ميل واحد منها، ثم نتذكر أن هناك اسما لمدينة ورد بالتورة هو «صوعن»، لم كن نعلم بالقطع هل كان يطلق على قسم من مدينة رعمسيس، أم على قسم من مدينة فيثوم، والآن لا شك قد أصبحنا نعلم، «فالصوة هي صوعن أما فيثوم فيجب أن تكون سفط الحنة»، ونتذكر هنا نافيل عندما ألقاها إلقاء، وقال إن مدينة رعمسيس هي سفط الحنة، لكن على أية حال لم تكن سفط الحنة هي رعمسيس حسبما وصلنا إليه، إنما سفط الحنة هي بيتوم/فيثوم/باتوموس/أرابيا/المدينة العربية المعروفة عند اليونان باسم فاكوسة (وليس فاقوس الحالية )، وهناك تم العثور على قطعتين من الجرانيت الأسود باسم رعمسيس الثاني، إضافة إلى قطعتين أخريين باسمه من البازلت، أما المدهش فهو أن يحتفظ اللسان المصري حتى الآن بذكريات الماضي، فلم يزل المصرف القائم محل الترعة القديمة من النيل إلى بسطة يحمل اسم مصرف «الفيوم»! ولا علاقة له بالفيوم الحالية، ولا يوجد في الجوار أي مكان باسم الفيوم، ومن ثم فلا ريب أنه من البقايا اللغوية الحاملة لمدينة «فيثوم».
ويرى جوتييه أن اسم كلمة «سفط» في سفط الحنة، مشتقة من اسم الإله «سوبد» - بقلب الباء فاء - المعروف باسم رب الشرق المصري القديم،
7
ويرجح أن اسمها المصري القديم كان «برسوبد»، ويبدو أن هذا التخريج لدى جوتييه وآخرين، قد اعتمد على نقوش وجدت على ناووس في سفط الحنة وضمنها «بيت سب»، رغم أن ترجمة «بيت سب» بأنها «بيت سوبت» فيه تكلف شديد؛ لأن ترجمتها المباشرة كما هي «بيت سب» تعني «بيت الجميزة». هكذا فسروا «سفط» وبقيت «الحنة»! هنا قيل إنه كان للبلدة اسما آخر هو «سختيو حنو» أي حقل الحنا، وهكذا تكون سفط الحنا قد أخذت اسمها من اسمين قديمين، سفط من اسم الإله «سوبد» في كلمة «بيت سب»، والحنا من «حنو» في كلمة «سختيو حنو»!
8
وما دمنا غير موافقين على هذا التخريج فماذا لدينا؟ سنعيد كلمة سفط مباشرة إلى «سبيت» أو «سبت»، التي تعني إقليم أو فرع أو مقاطعة، وليس إلى الإله سوبد، مع ملاحظة أن قرى تملأ كل بر مصر الآن، يبدأ اسمها بكلمة سفط، ولا يمكننا بحال أن نتصور أن مئات القرى في عمق مصر، كانت تعبد الإله سوبد رب المشرق إلها رئيسيا لها تأخذ منه اسمها، وهو إله مغمور الشأن بين آلهة مصر، لكن الأرجح أن تكون كل تلك القرى وتحمل اسم سفط شقا في اسمها، بمعنى إقليم كذا، وعليه فاسم سفط الحنة هو إقليم الحنة، لكن الحنة لدينا ليست نبات الحنة أو غيط الحنة أبدا، إنما هي «حنت» الكلمة المصرية القديمة التي تعني: «الفاصلة»، وكانت تطلق على المواضع المفصلية، مثلا كما في مقاطعة شرقي النيل/حلوان الآن، كان اسمها حنت أي الفاصلة بين القطرين القبلي والبحري،
9
وجاء ذكرها في قائمة سنوسرت بهذا المعنى،
10
وعليه يصبح أصل «سفط الحنة هو سبت حنت أي المقاطعة الفاصلة»، وهو ما يصادق تماما على موقعها كما نرى على خريطتنا.
ويصادق على كلامنا هنا أن ستي الأول، عندما قام بحملته على الشاسو (بدو سيناء)، بدأها من المدينة الواقعة على «القناة الفاصلة»
11 ، وهي القناة الفاصلة التي عرفناها باسم قناة سيزوستريس، التي كانت ذلك الزمان تبدأ من جنوبي تل بسطة، على هيئة كوع ينحني خارجا شرقا من الفرع البوبسطي، ثم تضرب شرقا مخترقة وادي طميلات حتى تصل بحيرة التمساح.
وتتدافع الدلائل بين أيدينا عندما يطالعنا معجم البلدان، بأن سفط الحنة قرية في جوف مصر قرب بلبيس، ويفيدنا المشترك لياقوت بأنها هي سفط «ترابية أو طرابية أو طرابيته»،
12
وهكذا يمسي أمر سفط الحنة شديد الوضوح. لقد أطلق اليونان على مدينة فيثوم القديمة (باتوموس) اسم «أرابيا/العربية»، وأضاف لها اللسان المصري كلمة «أرض» المصرية «ت/طأ»، فأصبحت «طأ/أرابيا» هي ترابية أو طرابية في معاجم البلدان العربية، أما اسم «فاكوسة» فلا شك أنه كان اسم المقاطعة، وكانت المقاطعة التي عاش الإسرائيليون في مدنها باسم جاسان، ولو أضفنا إليها «بي» أي «موضع أو بيت» كالعادة المصرية، فستصبح بي جاسان أو بالأحرى فاقوسان أو فاكوسة.
شكل 3-2: قطاع أوضح لموضع الأحداث حسب رؤيتنا وتخريجنا.
هذا ما كان عن مطابقتنا لخط السير الروماني (أنطونين)، 24 ميلا بين هيروبوليس/المسخوطة وبين باتوموس/فيثوم، وأدى بنا إلى «الصوة وسفط الحنة كموقع لفيثوم»، أما لو أخذنا بما جاء عند الحاجة إيثيريا، بأن المسافة بين رعمسيس وأرابيا فيثوم أربعة أميال فقط، وإذ كنا قد سلمنا بأن رعمسيس هي المسخوطة فإن على مسافة
أميال، إلى الغرب منها تقع تل رطابة بكل آثارها الفنية بدورها بالمخازن والتماثيل الرعمسية، ناهيك عن كون «تل رطابة» يمكن أن يكون تحريفا لسانيا للاسم «طرابيته»، الذي أطلقه العرب على أرابيا فيثوم، لكنا نميل بشدة إلى خط سير أنطونين، كإمبراطور يحوز الثقة بما لديه من جهاز هندسي عسكري متكامل، وربما سقط من مدون إيثريا رقم المدونات اليونانية التي تشير إلى الرقم «2» اللاحق برقم «24 ميلا»، فأدى إلى فوضى هائلة في تحديد موقع المدينة العربية، وإذا أردنا الفرض الذي يذهب إلى تل رطابة، فالمسافة بين المسخوطة ورطابة، تزيد عن أربعة أميال بقليل، وفي هذه الحالة ربما كان رقم أنطونين الأصلي «4»، وأضيفت إليه «2» بالخطأ، أو لوجود حرف لغوي يليه فسر على أنه «2» فأصبحت «24»، هذا إذا احتسبنا فيثوم هي رطابة الحالية.
وبهذا التصور نكون قد احتسبنا أن مدينة بيثوم التوراتية هي باتوموس عند هيرودت، ويدعم ذلك قوله العابر: «ويوجد في «بلاد العرب» مكان يقع باتجاه مدينة «بوتو»، وقد ذهبت إلى هذا المكان أثناء بحثي عن الحيات ذات الأجنحة.»
13
ولأن علم المصريات لا يعرف سوى مدينة مصرية واحدة باسم بوتو، تقع شرقي فرع رشيد الحالي عند مدينة سايس غربي الدلتا، بعيدا عن موقعنا هنا شرقي الدلتا، فقد عقب «أحمد بدوي» على قول «هيرودت»: «الغالب أن بوتو هنا مدينة أخرى، ربما كان مكانها بالقرب من البحيرات المرة.»
14
والتي يجب أن تكون في هذه الحال هي بي ثوم أو فيثوم.
وإذا صدقت تصوراتنا جميعا أو بعضها، مع خرائطنا التي خرجناها، والخرائط التي وصلتنا عن القدماء، فلا بد أن منطقة محيط الزقازيق الحالية ووادي طليمات بمدائنه الرائدة فيثوم ورعمسيس، قد تحولت تقريبا إلى جزيرة بين فرعي المياه، وهي الرواية التي يصادق عليها خبر من هيرودت، يقول عن تل بسطة: «ويقع نطاق معبدها المقدس هكذا كله «ما عدا المدخل»: عبارة عن «جزيرة» إذ تمتد «قناتان»، لا تتصلان ببعضهما، إذ تصل كل منهما إلى مدخل المعبد، ثم تندفع إحداهما حوله من جانب، والثانية من جانب آخر، ويبلغ عرض كل من القناتين ثلاثين مترا.»
15
شكل 3-3: خروج بني إسرائيل من مصر حسب نظريتنا.
وقد لفت نظرنا مأثور كان معلوما لدى تجار عرب الحجاز عشية الإسلام، وكانوا قد أصبحوا تجار العالم في القرن السادس الميلادي، وورثوا البتراء بكل صنوف تجارتها العالمية، وتاجروا مع مصر وعرفوا مدينتها العبقرية، وعايشوا الإسرائيليين وعرفوا مأثورهم عن مدينة الاضطهاد المصرية، وسار بينهم حديث عن بحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان، أي لا يبغي أحدهما أو يطغى على الآخر، وأن أحدهما ماء مالح والآخر ماء عذب، ليسجل القرآن الكريم ذلك المأثور العربي بقوله:
مرج البحرين يلتقيان*بينهما برزخ لا يبغيان . (الرحمن: 29-30)
وفي موضع آخر يصف ذات المكان بإشارته لفعل إلهي معجز عبقري بقوله:
وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا . (الفرقان: 53)
وقد ذهب المفسرون في تفسير هذه الآيات مذاهب شتى، فمنهم من قال إن البحرين هما خليج السويس وخليج العقبة، أما البرزخ فهو مثلث شبه جزيرة سيناء، لكن ذلك التفسير لا يطابق القول بلونين متمايزين من الماء. ومنهم من قال إن البرزخ هو مصب نهري دجلة والفرات، وهما المقصودان بالبحرين، حيث يسير الماء العذب في البحر مسافة، يمكن شرب الماء العذب منها داخل البحر، وقد استند هؤلاء لكلمة فرات، رغم أنها في اللغة تعني الماء العذب على إطلاقه، ولا تخص نهر الفرات العراقي بالتخصيص وبالذات.
أما نحن فنعتقد أننا قد عثرنا على الموقع الصحيح لبحرين متمايزين بينهما برزخ، «وقد اقترب من موقعنا ابن الكندي فيما وصله من مأثور، والذي قال عن مدينة الفرما/بيلوز: «وبها مجمع البحرين وهو البرزخ الذي ذكره الله عز وجل، فقال: مرج البحرين يلتقيان.»
16
كذلك كان ابن إياس يعلم أن البحرين المتمايزين عذبا وملحا يصلان البحر الأحمر، أو كما كان يعرف زمنه ببحر الصين، والبحر الأبيض الذي كان يعرف باسم بحر الروم»، استمع إليه يقول في الجزء الأول من كتاب النجوم الزاهرة وكلماته الباهرة، التي تؤكد كل ما قلنا:
إن مجمع البحرين يقع في مصر في «منطقة وسطى»، بين بحر الروم (البحر الأبيض [المؤلف]) وبحر الصين (البحر الأحمر [المؤلف])، والحاجز بينهما مسيرة «ليلة واحدة».
17
ومن جانبه احتفظ المأثور الإسلامي بذكريات، تربط بين ملتقى البحرين عند مدينة رعمسيس، وبين النبي موسى الذي ذهب إلى موضع ملتقى البحرين، ولا نعرف لموسى أية علاقة بالعراق والفرات، لكن علاقته بمصر هي الفصل، ليلتقي هناك بالحي الغائب المعروف باسم الخضر عند مجمع البحرين.
ثم يجب فهم ما ورد متكررا بالنصوص المصرية في أزمنة مختلفة عن «سور الأمير أو سور الحاكم الذي يصد الآسيويين» في ضوء ما طرحناه، فهو لم يكن سورا حجريا بطول المسافة بين البحر الأبيض والبحر الأحمر، إنما كان فقط مجموعة قلاع بين بحيرة التمساح وبحيرة البلاح، بينما شكلت القناتان عائقا مائيا ضد أي محاولة دخول، وكان يكفي نثر بعض القلاع، وهنا وهناك للمراقبة، كي تكون حدود مصر آمنة بما يكفي؛ ومن ثم كان لا بد على الداخل إلى مصر، أن ينتهي اضطراريا إلى مدينة رعمسيس أولا، حيث الطريق الوحيد الفاصل بين كل أرض مصرية وكل أرض فلسطينية.
أما عند الفاصل البري بين بحيرة التمساح والبحيرات المرة، فلا بد أنه قد تواجد أكبر معقل عسكري مصري.
ونلتفت هنا بعناية إلى الخبر الذي وردنا من زمن الفرعون مرنبتاح، عن قلعة باسم «ختم سكوت»، وورد في معجم جوتييه ذكر لقلعة كبرى، حملت في زمانه اسم قمور
Kemour ، كانت تقع شرقي القصاصين، أي ملاصقة لمكان المسخوطة الآن، التي تقع على بعد 3كم من القصاصين، ولدينا تسجيل كامل لخط رحلة عسكرية، تلك التي قام بها سيتي الأول، لتأديب حلف القبائل السينائية المتمردة؛ ولأننا سنستقي خطوات سير الحملة من جاردنر، فسنهمل تفسيراته ونستبقي الأصل. يقول النقش إن سيتي خرج بحملته، من عند موقع تم تصويره محصنا، له ضفتان/قنطرتان على قناتين، اسمه «الفاصلة» (لأنه يفصل مصر عن الصحراء)، ويتألف هذا الموقع من مبان في الشمال والجنوب، وله «بابان أحدهما في الشرق وآخر في الغرب»، ويؤدي الباب الشرقي إلى قنطرة فوق قناة.
وكان أول محط نزل به ستي للاستراحة، عند قلعة مستطيلة تقع على بركة مستطيلة الشكل، والاستطالة من الشمال إلى الجنوب، وهي في رأينا قلعة المسخوطة/هيروبوليس، أما البحيرة التي تجاورها في اللوحة فهي بحيرة التمساح المستطيلة من الشمال إلى الجنوب ، وقد دون النص اسم تلك القلعة «عرين الأسد» كناية عن الفرعون.
ثم بعد ذلك وعلى الترتيب مع المسير شرقا، نجد قلعة أخرى تقع على ذات البحيرة، التي تقع عليها قلعة عرين الأسد، أي حسب تفسيرنا على بحيرة التمساح، أي إنها تجاور المسخوطة، وهو ما يعني في رأينا وقوعها إلى الشرق من المسخوطة مباشرة، وحملت هذه القلعة في النقش اسم «مجدل ماعت» أي قلعة العدل.
18
ويدعم ذلك التفسير أن رعمسيس الأول، كان يحمل وهو وزير في عهد الفرعون حور محب، عدة ألقاب تحيل إلى الموضع الذي نقف عنده الآن، فهو:
حارس الحدود الشرقية ومقره قلعة «ثارو».
رئيس «قلعة مصبات النيل».
رسول الملك إلى البلاد الأجنبية.
المشرف على «قلعة العدل».
19
وللمزيد نقرأ في أدب الدولة الوسطى؛ لنقف مع القصة الشهيرة باسم «سنوحي»، ويتحدث فيها بطلها «سنوحي» عن هربه من مصر، إثر مؤامرة دبرت في القصر، بقصد اغتيال الملك «أمنمحات الأول»، الذي نجا من المؤامرة، فقرر سنوحي الهرب فورا خارج البلاد؛ مما يشير إلى أنه ربما كان متواطئا. يقول سنوحي:
ثم أسلمت الطريق إلى قدمي متجها نحو الشمال، ووصلت أخيرا إلى جدار الأمير (الحاكم)، الذي كان قد أقيم لصد الآسيويين والقضاء على سكان الصحراء، وقد خبأت نفسي في خميلة، خوفا من أن يراني الحارس، الذي كان رابضا فوق الجدار ليل نهار.
20
فهل لم يجد سنوحي للهرب سوى مكان تقف عليه الحراسة؟ وأمامه كل بوادي سيناء المفتوحة على الدلتا الشرقية؟ نظريتنا وما طرحناه يجيب على السؤال؛ لأنه لم يكن هناك سوى طريق واحد ومدينة واحدة يمكن الخروج منها. وتقول القصيدة الكبرى في مدح رعمسيس: «وجميع الممالك تسعى إليك على الطريق الوحيد.» «وهنا أقول لأهل الأركيولوجيا وعلوم المصريات، احفروا المسخوطة وستجدون هناك بقية آثار مدينة رعمسيس كاملة، وتحت رعمسيس ستجدون مدينة الهكسوس «حواريس»، واحفروا الصوة وسفط الحنة أو تل رطابة، وستجدون هناك مدينة «فيثوم»، أو هكذا أرجو حسبما وصلت إليه نتائج هذا البحث، القائم على النظر العقلي في وثائق التاريخ، وفق منطق رياضي بحت، وتكون جهودكم مشكورة». (2) سكوت
هي أول محطة للخارجين من مدينة رعمسيس، وتقع على بداية الطريق الدولي المذكور في التوراة، باسم طريق أرض الفلسطينيين، ونحن نعلم من الوثائق المصرية أن الطريق الدولي الحربي الكبير إلى فلسطين، كان يعرف باسم طريق حورس الكبير، وكان يبدأ من عند مدينة محصنة بالقلاع الضخمة، كانت تعرف باسم زارو أو ثاروا أو سيلا أو شور، وقد تم تحديد سيلا إلى الشرق من مدينة القنطرة الحالية بثلاثة كيلومترات، عند موضع يعرف الآن باسم تل أبو سيفا أو أبو صيفا،
21
فإذا افترضنا أن هذا الطريق هو ذات الطريق، الذي قرر الخارجون اتخاذه في البداية للاتجاه نحو فلسطين، فلا بد في هذه الحالة أن تكون القنطرة غربي أبو صيفا مباشرة، هي التي أشارت إليها التوراة بالاسم سكوت، وهو خط السير المنطقي نحو فلسطين، لكن عند وصولهم واكتشافهم حجم وضخامة الاستعدادات العسكرية، على بعد ثلاثة كيلومترات إلى الشرق من قلعة سيلة، قرروا العودة مرة أخرى جنوبا باتجاه ما أسمته التوراة بحر سوف، وفي هذه الحالة سيكونون باتجاه بحيرة التمساح، أو على التدقيق مقابل الخانق اليابس الممتد بطولها، وأنهم نزلوا بعد عودتهم من سكوت جنوبا في موضع يدعى إيثام. وفي النصوص المصرية نقرأ عن قلعة زمن الفرعون مرنبتاح، تحمل اسم «ختم سكوت»، وأنها تقع قرب بحيرة تحمل اسم «بي توم مرنبتاح»، وأن في محيطها تقع مدينة اسمها «أتوما»، حيث يسكن البدو،
22
التي أرى أنها هي إيثام الواردة بالتوراة.
وقد وردت بالقوائم المصرية مدينة، تحمل اسما يطابق الاسم التوراتي سكوت، بالصياغة تيكوت وتكو، بحسبانها مدينة لمقاطعة من مقاطعات الوجه البحري، وورد ذكرها في بردية أنستاسي من الأسرة 19 «بحسبانها تقع على الحدود، ويسكنها أقوام من الأجانب».
23
وفي تل المسخوطة الواقع في وادي طميلات غربي بحيرة التمساح، تم العثور على لوحة لبطلميوس الثاني، محفوظة الآن بالمتحف المصري عليها النص التالي: ... وفي الشهر الثالث من العام السادس من حكم جلالته (أي حوالي 280ق.م.) «حفروا قناة» لإدخال السرور على قلب أبيهم آتوم الإله العظيم، «والإله الحي سكوت»، وبقصد إحضار إلهة مديرية خنت يابت.
24
ويلتقي هنا اسم الإله سكوت بالموضع سكوت، والنص يفيد بوقوع معبد الإله سكوت في مديرية خنت يابت، وبالبحث نجد ما يؤيد وضعنا لسكوت التوراتية عند القنطرة غربي قلعة سيلا/أبو صيفا، إذ نعلم أن عاصمة مقاطعة خنت يابت هذه، كانت هي قلعة سيلا ذاتها.
25
وقد أوضح العالم روجيه من جانبه أن ثارو/سيلا كانت عاصمة لمقاطعة خنت يابت، وأنها كانت من أكبر القلاع التي تحمي المدخل الشرقي الرئيسي لمصر.
26
كما وجدنا عند جوتييه أن سكوت (بالعبرية سوخيت وتعني مظلات أو عشش)، هي بالمصرية تيكو أو تكوت، وأن لها في المصرية القديمة معنيين: الأول هو مدينة الحقل، أما الثاني وهو ما يطابق حال المدينة حسب رؤيتنا ؛ لأنه يعني «باب الشرق».
27 (3) فم الحيروت
لحل تلك الإشكاليات جميعا حلا سهلا، ولاحتمالات سكنى الإسرائيليين بمصر في أقصى الشمال، عند صان الحجر أو قنتير، واحتمالات أخرى بسكنهم في وادي طميلات، والاحتمالان يستتبعان الخروج عبر طريق حورس الحربي المنطلق من صان الحجر، محاذيا للبحر المتوسط، أو الخروج عبر وادي طميلات إلى ممر متلا أو ممر الجدي الممتدين إلى وسط سيناء، فقد تم طرح حل سريع وسهل، أصبح اليوم كما لو كان ليس له بديل، يقول بدفعتين للخروج، أي إن الإسرائيليين خرجوا على مرتين: الأولى من صان الحجر أو ربما قنتير، والدفعة الثانية من وادي طميلات عند المسخوطة، لكن نظريتنا لم تبق مساحة للطروحات المجازفة المستسهلة، فالإسرائيليون حسب خريطتنا قد خرجوا من فيثوم/الصوة/سفط الحنة، ليمروا بعد ذلك على رعمسيس (المسخوطة/الآن: الخشبي)، ليأخذوا بقيتهم من هناك نحو الشمال إلى القنطرة غرب «سكوت»، لينيخوا هناك يتدبرون أمرهم، فيقررون التوجه نحو بداية خط الطرق الدولية المؤدية إلى فلسطين، لكن ليكتشف الخارجون أن قلاع مصر في سيلة/شور (القنطرة شرق)، كانت قد أخذت عدتها كاملة، وتحاشيا للحرب حسب نص التوراة:
إن الله لم يهدهم في «طريق أرض الفلسطينيين» مع أنها قريبة؛ لأن الله قال: لئلا يندم الشعب إذا رأوا حربا ويرجعوا إلى مصر، فأدارهم الله في طريق برية بحر سوف. (خروج، 13: 17، 18)
وإذا أخذنا باحتمالات الطرد، وأنهم لم يخرجوا عنوة وعتوا، رغم إرادة المصريين كما تحب التوراة أن تصور الحدث لإبراز قدرات يهوه، إنما خرجوا مطرودين حسبما فلتت منها الحقائق في مواضع أخرى، فقد عادوا وهبطوا جنوبا نحو بحيرة التمساح، يتسللون تسلل الهاربين من المنطقة المعتادة، لفرار العبيد والآبقين والمحكومين بالأحكام، بين شقي البحيرة الضحلة إبان قدوم الرياح، التي ترفع الماء الضحضاح، فيتحولون عن الطريق الرئيسي بتبرير التدخل الإلهي، فأدارهم الله في طريق بحر سوف، أي جنوبا نحو بحيرة التمساح؛ لأنه كان طبيعيا أن تعتبر بحيرة التمساح امتدادا لبحر سوف، لاتصالها به عبر قناة سيزوستريس، ونستمع التوراة تحكي تلك اللحظة التاريخية، التي قام عليها كل تاريخ إسرائيل فتقول:
وكلم الرب موسى قائلا: كلم بني إسرائيل أن «يرجعوا» وينزلوا أمام «فم الحيروت» بين «مجدل والبحر» أمام «بعل صافون»، مقابلة تنزلون عند البحر. (خروج، 14: 2)
وعند فم الحيروت أو بي ه حيروت بالعبرية، تتم المعجزة الكبرى، فيقول المقدس التوراتي إن العصا الحية اللاعبة بسحرها قد فلقت بحر سوف، وعبر الخارجون بعيدا عن الطرق المطروقة المعروفة.
والآن هل بيدنا ما يمكننا من تحقيق إحداثيات هذه المواضع الأربعة:
فم الحيروث:
أو بي ه حيروت.
مجدل:
أي القلعة.
البحر:
وهو بحر القصب سوف.
بعل صافون:
وهو معبد للإله بعل السامي الأصل.
لقد سبق وعلمنا أن هذه المنطقة، كانت مركزا كبيرا لعبادة الإله بعل صافون/سيت وكل آلهة دافيناي (ارجع إلى نظرية علي بك شافعي)، ومعلوم أن التمساح كان من أبرز الرموز المصرية للإله الشرير «سيت بعل»، فقد عرفنا أن هذا المعبد كان في القنطرة غرب، حيث قلعة سكوت، حيث كانت تقع قلعة أخرى هي قلع العدل «مجدل ماعت»، التي هي في رأينا مجدل التوراة، أما فم الحيروت فهو ما ترجمته «مدخل الحيروت»، وإذا كنا قد اتفقنا على أن مدينة رعمسيس هي هيروبوليس، وأن هيروبوليس (الاسم الروماني لمدينة الهكسوس)، هي مدينة الهكسوس التي عرفها اليونان باسم «حواريس»، فإن اسمها المصري كان «حوت وعرت»، وهو ما يتطابق تطابقا مدهشا مع الكلمة التوراتية «حيروت»، فقد عبروا تماما وبكل دقة، من المنطقة التي يمكن للآبقين والخارجين على القانون استخدامها، وأعطوها اسما يدل على معناها الجغرافي، فهي المدخل غير المطروق المؤدي إلى «حيروت» أو «حوت وعرت» أو «حواريس»، عبر بحيرة التمساح.
وبحيرة التمساح كان يمكن عبورها يبسا، فتصبح كبحر عن يمين وعن يسار، حتى يتم العبور من الخانق الواقع في أقصى جنوبها الشرقي، مع أول بادرة ريح شديدة، وهو ما قالته التوراة كسبب لجفاف البحر المفلوق، أما ما أضافته التوراة عن المطاردة، وغرق جيش أكبر دولة معروفة آنذاك، فهو الأمر الذي ليس عليه دليل واحد في أي وثيقة من وثائق دول المنطقة، بل ولا أي إشارة يمكن تأويلها أو حتى وضعها موضع الاحتمال الظني.
لقد خرج موسى التوراتي مخرج المجرمين والعبيد الفارين، مطرودين لا مطاردين.
وهناك احتمال آخر يعطينا تخريجا ثانيا، يعضدنا في تفسيرنا بي ه حيروت، فأمام بحيرة التمساح كان يقع جبل يحمل اسم جبل الخير، وهو بالمصرية القديمة حينوتا خيرتا،
28
وهو ما يلتقي مع بي ه حيروت التوراتية، ناهيك عن كوننا قد دققنا القول إن المسخوطة هي هيروبوليس أي هيرو/إيرو/حيرو/وكلها تحيل إلى أواريس أو حواريس الهكسوسية، التي دونتها التوراة حويلة المصرية، ويدعم ذلك التفسير ما جاء عند بليني، يصف خريطة المنطقة، فيقول: إن الخليج العربي/السويس كان العرب يسمونه خليج
Eaant
إيان، وهو ما نظنه قد حمل اسم الملك الهكسوسي خيان الوارد في الكتابات العربية، بحسبانه فرعونا من العماليق باسم الريان، ويقول ابن كثير عن هذا الفرعون العماليقي: «هو الريان بن الوليد بن ثروان بن أراشة بن «فاران» بن عمرو بن «عملاق» بن لاوذ بن سام بن نوح.»
29
ويستمر بليني ليقول: وهناك توجد مدينتان هامتان: الأولى هي مدينة «هيروبوليس»، ومدينة قمبيز (كبريت حاليا)، ثم يقول ما نصه وهو يتجه غربا «وتأتي بعد ذلك أمة «العمالقة»
Tyres .»
30
وغني عن الذكر أنه في تلك المنطقة، التي عرفها اليونان باسم المقاطعة العربية، تم اكتشاف (دونته هنا أثناء كتابة هذا الفصل [المؤلف])، وردت أخباره بصحيفة الأخبار القاهرية بتاريخ 10/ 11/ 94 بالصفحة الأولى، تحت عنوان: «العثور على 50 مقبرة من عصر الهكسوس، حقائق علمية عن الخروج الأول لليهود»، وتحت هذا العنوان يأتي الخبر يقول: «تم اكتشاف جبانة أثرية ترجع إلى عصر الهكسوس، في منطقة تل الكوع بوادي الطميلات بالإسماعيلية، تم العثور على 50 مقبرة حتى الآن بحالتها كاملة، وتضم الأثاث الجنائزي وعددا كبيرا من الأواني الفخارية والأدوات والجعارين، كما عثر على دفنات لحيوانات يرجح أنها الحصان الذي أدخله الهكسوس لمصر لأول مرة، يستكمل الاكتشاف الجديد حلقة مهمة في التاريخ لوقوعه في وادي طميلات، والمشهور بخط سير الخروج الأول لليهود من مصر ... صرح الدكتور عبد الحليم نور الدين الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار «أن هذا الاكتشاف يثير تساؤلات علمية مهمة، لوجوده في موقع لم يكن معروفا من قبل، أي علاقة بوجود الهكسوس في مصر».» لكن حسب بحثنا هذا نكون قد سبقنا هذا الكشف، إلى معرفة ذلك الموقع واتصاله عبر سيناء بمواقع الهكسوس الكبرى، ووضعنا للكشف أسسه التاريخية والجغرافية، وهو ما ستتضح تفاصيله الكاملة التامة المانعة والخرسانية في الجزء الثاني من هذا العمل.
وبهذا التصور لخريطة الخروج، لا بد أن تكون هناك قلعة قرب موقع التسلل عبر بحيرة التمساح، تستحق الاسم العبري مجدل، وفي هذه المساحة التي حددناها تؤكد الورقتان الديموطيقية والفينيقية، اللتان اكتشفهما نويل جيرون أن في هذا المحيط الجغرافي الضيق، كان يوجد معبد للإله بعل صافون/سيت رب الهكسوس المقدم، فالورقة تحوي تضرعات للإله «بعل صفون وكل آلهة دافني»، ودافني هي دفنة الحالية التي أسمتها التوراة تحفنح، أو بالتصريف الاسمي تحفنحيس، المنشأة على اسم ملكة مصرية، ودافني تقع في مركز وسط بين القنطرة وبين بحيرة التمساح إلى الغرب قليلا.
والتوراة تردد أن عبور البحر الإعجازي، قد تم «أمام فم الحيروت بين مجدل والبحر، أمام بعل صفون» (خروج، 14: 1).
أما المنطقة التي خرجوا إليها فتقع إلى الشرق من جنوبي بحيرة التمساح، ليتجهوا نحو جنوبي سيناء، ولا شك أن اسم تلك المنطقة «برية شور»، يعود إلى اسم القلعة المصرية الكبرى سيلا/زارو/شارو/شور، التي منحت اسمها بشهرتها للبوادي الممتدة من البحر المتوسط شمالا، إلى خليج السويس جنوبا، إلى الشرق من سور الأمير العظيم، الذي يصد الآسيويين وعابري الرمال.
شكل 3-4: خروج بني إسرائيل من مصر حسب نظريتنا.
شكل 3-5: صورة بالأقمار الصناعية لقناة السويس الحالية.
شكل 3-6: موقع مدينة رمسيس حسب تخريجنا.
شكل 3-7: تفصيل أوضح.
شكل 3-8: قطاع تفصيلي لموضع الخروج حسب نظريتنا.
شكل 3-9: موضع الخروج حسب تخريجنا.
أما الآن فسنعرض لخط سير بني إسرائيل الخارجين من مصر عبر سيناء، بعد عبورهم البحر المفلوق «سوف» بالعصا المعجزة، لتدقيق المواضع التي مروا بها في محطات حل وترحال. (4) الخروج عبر سيناء
ويمكن لغير المهتم بهذه التفاصيل التجاوز عنها، والاطلاع على خرائط هذا الفصل، ليتابع خط سير الخروج عبر سيناء، وهو على الترتيب سار خط السير كالآتي:
الخروج من بحر سوف مباشرة إلى صحراء برية شور (خروج، 15: 22)، وهو اسم الساحل الشرقي للبحر المفلوق، ويؤدي إلى بداية الطريق السينائي، ومعلوم أن «إيل» أو كبير الأرباب السامي الذي حل محله يهوه السينائي، كان يلقب باللقب «ه-شور» أي الثور، وقريب منه في المصرية القديمة «ه-تور» أي بقرة السماء، أو البقرة العالية أو السامية، وتقابل هذه الكلمة في الآرامية
Tor ، وفي الأكادية والعبرية
Shor ، وفي الأوغاريتية الحورية و ت ر، وفي الحبشية سور، وفي اللاتينية
Taurus ، وفي اليونانية
Touros ، وفي اللتوانية
Tauras ، المهم في كل هذا ما يقوله علي الشوك: «والعلاقة واضحة بين كلمة ثور والفعل ثار ... وتقابل ثار العربية شاور العبرية وتعني: يثب، يقفز، يقوى، وهناك كلمة سار العربية بمعنى مشى، وتقابلها شور العبرية وتعني: يدور، يسافر، ويمكن ذكر كلمة السور أيضا ومثلها شور العبرية، وتفيد المعنى نفسه.»
31
وهنا نتذكر أن آخر مدينة شرقية في مصر كانت تحمل اسم «ثارو» في المدونات المصرية، وأنها كانت مخرج جميع حملات مصر على آسيا، وأنها كانت أول الطريق نحو سيناء، وأنها كانت قلعة ذات أسوار عظيمة، وأنها والأهم تنطق في العبرية «شور»، لقد كانت ثارو أو سيلة هي أول مدائن الخروج بعد عبور البحر المفلوق.
تحرك الركب بعد ذلك في سيناء، مسيرة استغرقت ثلاثة أيام جنوبا، بلغوا بعدها موضعا باسم مارة «فجاءوا إلى مارة، ولم يقدروا أن يشربوا ماء من مارة؛ لأنه مر؛ لذلك دعي اسمها مارة، فتذمر الشعب على موسى قائلين: ماذا نشرب؟ فصرخ إلى الرب، فأراه شجرة فطرحها في الماء فصار عذبا» (خروج، 15: 23-25) وبعد رحلتنا المعذبة الشاقة وراء مواضع الخروج، أمكننا افتراض أن الموضع مارة هو موضع البير المرة الآن أو جبل مر، وتقع داخل سيناء إلى الشرق من مدينة السويس الحالية.
ومن المناسب هنا أن نعلم أن تلك المعجزة التوراتية، أمر اعتيادي تماما يمارسه الأهلون هناك حتى الآن، فمعلوم أن بعض الآبار في الصحراء، تحتوي على كبريتات الكالسيوم، التي تجعل الماء مر المذاق، وأنه إذا أضيف لتلك المياه حمض الإكساليك، تعادل التركيب واختفت المرارة، ولم يزل بدو سيناء حتى اليوم يستخدمون أغصان شجرة اسمها «ألواح»، تحتوي على حمض الإكساليك لإزالة مرارة الآبار، بحكم التجربة المكتسبة خلال الأجيال.
ارتحلوا من مارة إلى منطقة اسمها إيليم، وصفتها التوراة بأنها غنية بالنخل وبالعيون (خروج، 15: 27)، وهو المكان الذي يمكن احتسابه منطقة عيون موسى الحالية جنوب شرقي السويس.
ارتحلوا من إيليم ونزلوا على ساحل بحر سوف، وهو ما يعني أنهم كانوا يلتزمون الطريق المحاذي لشرقي خليج العرب/السويس.
عادوا من ساحل بحر سوف إلى عمق الصحاري السينائية مرة أخرى، ليعمقوا بالداخل إلى منطقة باسم برية سين (خروج، 16: 1)، المحتمل أنها المعروفة الآن باسم جبل سن البشر، وهناك يعاني الخارجون من الجوع، رغم ما نعلمه من وجود السوائم معهم، ونفسره بأوامر بعدم أكل اللحم، تحت قيادة رجل عاش في قصور مصر، ويعمل في الغالب بمحرماتها؛ لذلك كان اعتراض الخارجين على موسى وهارون يقول: «ليتنا متنا بيد الرب في مصر، إذ كنا جالسين عن قدور اللحم نأكل خبزا للشبع، فإنكما أخرجتمانا إلى هذا القفر؛ لكي تميتا كل هذا الجمهور بالجوع» (خروج، 16: 3) وهنا تأتي معجزة جديدة، تستمر مدة طويلة، تتمثل في طعام المن وطيور السلوى، التي قدمنا بشأنها التفسير، ونضيف هنا ما اكتشفه بودينسها يمر عام 1927م في سيناء، لصنف من الأثل يفرز في الربيع سائلا حلو المذاق، سرعان ما يجف ويتحول إلى كرات بيضاء، تشبه حبات البرد فور تعرضه للهواء، وإذا حرق يعطي تبخيرا طيب الرائحة، وحتى اليوم ينطلق بدو سيناء مع بداية الربيع في جماعات كبيرة لجمع تلك الكرات، وبإمكان الشخص الواحد أن يجمع حوالي كيلوجرام ونصف في اليوم، وهي كمية كافية لتغذية فرد ليوم واحد أو يومين، ويبدو أن موسى كان يعرف القيمة الغذائية لهذا المن.
32
أما السلوى فسوف نعرفه في الأبواب المقبلة بحسبانه طائر السمان/الزقزاق.
ارتحلوا من برية سين إلى موضع باسم دفقه (عدد، 31: 12)، والتي نحققها بموضع «عين الفوقية» الآن، إلى الجنوب من جبل سين البشر، ومن هناك ارتحلوا إلى موضع باسم الوش (عدد، 31: 13)، لم نتمكن من تحقيقه، وإن كنا نظنه موقع سرابيط الخادم الآن.
ارتحلوا من الوش إلى رفيديم (عدد، 31: 14)، وقد عثرنا إبان سعينا في رحلتنا التنقيبية على ثلاثة مواضع باسم رفيه، فهناك على التجاور وادي رفية وجبل رفية وبئر رفية وجمعها العبري «رفيديم»، وتقع هذه الرفيات أو بالجمع العبري رفيديم في صحراء الطور، إلى الجنوب الشرقي من وادي مكتب، ووادي فيران، وهناك تحدث مشكلة عدم وجود الماء مرة أخرى، فنجد أعجوبة أخرى لم تزل إلى الآن من الأمور الاعتيادية، فيضرب موسى الأرض بعصاه، فتنبجس بالمياه عيونا (خروج، 17: 1)، وبدو سيناء حتى اليوم يمارسون ذلك أيضا؛ لأنهم يعلمون أن مياه الأمطار تتجمع عند سفوح الجبال، تحت شريط رملي متماسك، وهو التماسك الذي ينشأ من رطوبة الماء تحت الرمل، ويكفي في هذه الحال طرقه بأداة صلبة لتنبجس المياه من تحته.
وعند رفيديم تأتي جماعات تسكن سيناء، يسميهم الكتاب المقدس باسم العماليق أو العناقين على التبادل المتكرر، العمالقة لتدخل معركة مع الخارجين ينسحب العمالقة بعدها.
يرتحلون من رفيديم إلى برية سيناء (خروج، 19: 1)، ليجدوا جبل سيناء يرتجف بالزلزلة والدخان والنار (خروج، 19: 18)، ويبدو أن المصريين كانوا قد أقاموا هناك تمثالا عظيما من الفيروز (الحجر الأزرق الصافي، وهو من أحجار سيناء المشهورة)، ربما كان للإله حور أو للإله سيت؛ لأن نص التوراة يحدثنا عن كون موسى أخذ معه سبعين من شيوخ إسرائيل، وصعد بهم الجبل ليشاهدوا رب البركان، ربهم؛ لأن جبل سيناء هو جبل الله حوريب المقدس، وتقول التوراة: «ثم صعد موسى وهارون وناداب وأبيهو وسبعون من شيوخ إسرائيل، ورأوا إله إسرائيل، تحت رجليه شبه صنعه من العقيق الأزرق الشفاف، وكذات السماء في النقاوة، ولكنه لم يمد يده إلى أشراف بني إسرائيل، فرأوا الله» (خروج، 24: 9-11).
وفي موقع برية سيناء/جبل الله حوريب/كاترين وموسى الآن، يصعد موسى الجبل وسط ضباب البركان، ليأتي بألواح الشريعة المكتوبة بإصبع الله، ويغيب هناك أربعين ليلة يزوغ أثناءها الخارجون عن ربهم ، ويعبدون العجل الذهبي الذي صنعه هارون، ويرقصون حوله عراة، فيغضب موسى ويكسر الألواح، ويضربهم يهوه بالموت في تبعيرة ومسه وقبروت هتأوت، على مسيرة ثلاثة أيام من الجبل (عدد، 10: 33)، وفي ذات الموقع يأتي الأمر الإلهي، بصناعة التابوت الذي سينزل الرب ليسكن فيه، ويحملونه معهم في ارتحالاتهم. ونظننا قد تمكننا من تحقيق موضع قبروت هتأوت، أي المقابر بموقع بئر الرقبة وجبل البرقة الآن، إلى الشمال الشرقي من جبل كاترين على الجانب الأيسر لخليج العقبة.
بعد ذلك يصل المرتحلون إلى محطة باسم حضيروت (عدد، 11: 35)، وهناك تتذمر مريم شقيقة موسى وهارون، وتحمل غاضبة هي وهارون على موسى، اعتراضا على زواجه من امرأة كوشية زنجية، وهو ما أغضب يهوه على مريم، فأصابها بعدوى البرص (عدد، 12: 1-9)، وقد أمكننا تحقيق حضيروت بموضع الحضيرة الآن شمالي جبل البرقة وجنوبي وادي وتير الحالي.
يمرون بعد ذلك بعدد من المواقع، أمكننا تدقيق بعضها، ولم نتمكن من تحقيق أغلبها، وهي على الترتيب: رثمه (عدد، 33: 18)، ثم رمون فارص (عدد، 33: 19)، ثم لبنة (عدد، 33: 20)، ثم رسة (عدد، 33: 24)، ثم قهيلاتة (عدد، 33: 22) وربما كانت هي وادي القهلت أو القلت الآن بين إيلات والثمد، ثم جبل شافر (عدد، 33: 23)، ثم حرادة (عدد، 33: 24)، ثم مقهيلوت (عدد، 33: 5)، ثم تاحت (عدد، 33: 26)، ثم تارح (عدد، 33: 27)، ثم مثقة (عدد، 33: 28)، ثم حشمونة (عدد، 33: 29)، ثم مسيروت (عدد، 33: 30)، ثم بني يعقان، ثم حور الجد جاد (عدد، 33: 32).
والواضح أن كل تلك المراحل من خط السير كانت تقع على الساحل الغربي لخليج العقبة؛ لأنها تنتهي عند قمة خليج العقبة في موضع باسم «يطبات» (عدد، 33: 33)، ويوجد بهذا الاسم عدد من المواقع هناك، مثل طوبية وطابا ويطبات، والأغلب أن المقصود بها طوبية إلى الجنوب من قمة الخليج ببضعة أميال؛ لأنهم بعد ذلك يمرون بموقع عبرونة (عدد، 33: 34)، ثم ميناء عصيون جابر، الذي تذكره التوراة باعتباره يقع على بحر سوف، على قمة خليج العقبة بجوار أيلة (إيلات)، الميناء المعروف على خليج العقبة (عدد، 33: 35؛ تثنية 2: 1).
شكل 3-10: الغزو: العبور من جنوبي دولة آدوم إلى ما بين دولتي موآب وعمون لغزو غربي النهر، مع حملات مكثفة على طول الساحل الشرقي لنهر الأردن حتى جبل الشيخ (حرمون بالتوراة).
ويبدو أنهم كانوا في مبدأ الأمر يريدون الوصول إلى نقطة حصينة، تسمح بإيواء هذا العدد الغفير جنوبي فلسطين، حتى يقروا قرارهم بدخول فلسطين من جنوبها أم من شرقها، وكانت تلك المنطقة المختارة هي قادش برنيع/عين مشفاط عدد 33 / 36، التي تم تحقيقها والاتفاق عليها بين مدارس نقد التوراة بعين قديس الحالية، عند برية صين وبرية فاران، اللتين حققناهما ببرية تسين وبرية باران الحاليتين، ومن قادش بعد ثمانية وثلاثين عاما، تخللتها صراعات واتفاقات بين أهل مديان وبين الخارجين، قرروا عبور بلاد آدوم من عند العقبة وعصيون جابر، دون الدخول في أية صراعات أو معارك مع أهل آدوم؛ مما يشير إلى التحالف القرابي بين الجميع، ومن هناك يعبرون بلاد موآب ثم عمون إلى جبل نبو شرقي الأردن مقابل أريحا، حيث تزعم التوراة موت موسى هناك (عدد، 33: 47)، وكان هارون قد مات قبله ودفن في جبل هور (عدد، 14: 22)، الذي يحمل أيضا اسم جبل موسير (تثنية، 10: 6)، وبعدها يقودهم يشوع عابرا نهر الأردن من شرقيه إلى غربه، لفتح فلسطين بادئا بأريحا.
وهنا تحكي لنا التوراة عن معجزة جديدة، بطلها هذه المرة يشوع بن نون خليفة موسى، فقد كانت أريحا قلعة حصينة، يحيط بها سور قوي منيع، يقف عقبة كئودا إزاء أي طامع، وهنا تروي التوراة أن يشوع قام بعملين معجزين: الأول عند عبور نهر الأردن، والثاني عند اقتحام أريحا.
والمعجزة الأولى هي تكرار لمعجزة فلق البحر الموسوية، فقد أمر يشوع باختيار اثنى عشر رجلا، يمثلون الأسباط ليحملوا تابوت العهد على أكتافهم، ويخوضوا به في ماء الأردن، وعندما فعلوا ذلك توقفت المياه المنحدرة من فوق، وقامت ندا واحدا بعيدا جدا عن آدام المدينة التي إلى جانب صرتان، والمنحدرة إلى بحر العربة (البحر الميت) بحر الملح، انقطعت تماما وعبر الشعب مقابل أريحا (يشوع، 3: 16-17).
ولو افترضنا أن ذلك قد حدث، فإن تفسيره شديد السهولة واليسر، وقائم ويحدث ويتكرر حتى الآن، دون حاجة لمعجزات؛ لأن مدينة آدام التي يشير إليها النص هي داميح الحالية، على بعد خمسة وعشرين كيلومترا إلى الشمال من أريحا، وهي التي تضع بيدنا مفتاح التفسير؛ لأن معنى ذلك أن يشوع لم يعبر مباشرة برجاله من أمام أريحا، إنما اختار هذه النقطة البعيدة، بمسافة خمسة وعشرين كيلومترا إلى الشمال ليعبر منها النهر، والسبب أنه عند داميح/آدام يضيق مجرى الأردن بين جدارين من الأرض، ويغلب على تركيب الجدارين الجير مع الطين الهش، وهناك ودوما تحدث انهيارات مفاجئة مع أي قلقلة أو اهتزازات أرضية، وكان آخر الأحداث من هذا النوع عام 1927م، عندما توقف ماء الأردن وانقطع عند هذه النقطة لمدة أربع وعشرين ساعة كاملة نتيجة انهيارا جرف داميح،
33
وكثيرا ما عجبنا لماذا أمر يشوع رجاله جميعا، حسب رواية التوراة - بالاصطفاف في هذه النقطة، مع دق الأرض بالأقدام دقات عسكرية شديدة، كانت كافية لزلزلة الجرف، وانقطاع ماء النهر وحدوث المعجزة.
أما المعجزة الثانية فكانت حول حصون أريحا، عندما أمر يشوع رجاله قائلا: «تدورون دائرة المدينة سبع مرات، والكهنة يضربون بالأبواق، ويكون عند امتداد قرن الهتاف، عند استماعكم صوت البوق، أن جميع الشعب يهتف هتافا عظيما فيسقط سور المدينة مكانه» (يشوع 6: 4-5).
وإن المرء ليسأل نفسه في دهشة عن الحكمة، في دوران جيش هائل حول مدينة محصنة مطمئنة سبع مرات، والكهنة ينفخون الأبواق، والجيش يهتف بصوت عال قوي، وعلاقة هذا كله بسقوط السور المفاجئ، اللهم إلا إذا كان هذا كله لإلهاء حراس الأسوار، وإلقاء الرعب والذعر بين سكان أريحا، مع التغطية على عمل عسكري حقيقي، يتم تحت ستار من الهرج والمرج والأصوات المفزعة، في خفاء الغبار الذي يثيره دوران المهاجمين حول القلعة.
ونحن نعلم من نقوش الرافدين القديم، أن الآشوريين قد ابتدعوا أسلوبا فريدا لتفجير الأسوار الحصينة، قبل اكتشاف النار اليونانية/البارود، فكان المهاجمون يشغلون المدافعين بالأصوات والحركات، التي لا تعني شيئا، بينما يتسلل بعض الفدائيين، ويحفرون حفرا طويلة عميقة تحت الأسوار، يضعون فيها جذوع أشجار سريعة الاشتعال، تتفسخ وتفرقع عند إضرام النيران فيها فتنهار الأسوار،
34
وهكذا فتح الخارجون أريحا ، كان فتحها بحاجة إلى معرفة أساليب الحرب في زمنهم، أكثر مما كانت بحاجة إلى معجزات.
الباب الأول: ألغاز تاريخية
1 - لغز بلاد بونت
2 - سالع/البتراء ... ونظرية جديدة
3 - حملة تحتمس الثالث على بلاد الفينيق
4 - لغز بلاد موصرى (؟!)
الباب الثاني: أحلاف سيناء
1 - العمالقة
2 - سر الملكة السوداء
3 - الرب الأحمر
4 - معان المصرية
5 - أين تقع حويلة التوراتية
6 - بعل صفون: لغز آخر!
7 - لغز أرام النحاسية
الباب الثالث: من الألغاز إلى الحلول
1 - العامو أو العموريون: اسم الأحلاف الجامع
2 - الشاسو والكاشو والحاثو
3 - عاد وثمود
4 - إسحاق و«الإله الضحاك»
5 - تجليات الرب السينائي
6 - لغز البلست
7 - حل لغز الخابيرو
8 - إسرائيل ويهوذا العبري أو إسرائيل والهكسوسي الخبري
9 - قاطعو الرقاب
الباب الأول: ألغاز تاريخية
1 - لغز بلاد بونت
2 - سالع/البتراء ... ونظرية جديدة
3 - حملة تحتمس الثالث على بلاد الفينيق
4 - لغز بلاد موصرى (؟!)
الباب الثاني: أحلاف سيناء
1 - العمالقة
2 - سر الملكة السوداء
3 - الرب الأحمر
4 - معان المصرية
5 - أين تقع حويلة التوراتية
6 - بعل صفون: لغز آخر!
7 - لغز أرام النحاسية
الباب الثالث: من الألغاز إلى الحلول
1 - العامو أو العموريون: اسم الأحلاف الجامع
2 - الشاسو والكاشو والحاثو
3 - عاد وثمود
4 - إسحاق و«الإله الضحاك»
5 - تجليات الرب السينائي
6 - لغز البلست
7 - حل لغز الخابيرو
8 - إسرائيل ويهوذا العبري أو إسرائيل والهكسوسي الخبري
9 - قاطعو الرقاب
النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة (الجزء الثاني)
النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة (الجزء الثاني)
موسوعة تاريخية جغرافية إثنية دينية
تأليف
سيد القمني
الباب الأول
ألغاز تاريخية
الفصل الأول
لغز بلاد بونت
يتكرر ذكر بلاد «بونت»
أو «أرض الإله» في النصوص المصرية القديمة بشكل متواتر، كما في نصوص أمنمحات الأول
مؤسس الأسرة الثانية عشرة بالدولة الوسطى، الذي حكم حوالي 2000-1970ق.م. حيث يذكر أنه أرسل ثلاثة آلاف جندي برئاسة القائد «حنو»؛ لإحضار المر (البخور) من بلاد بونت، وإحضار «الأحجار» من هناك.
1
وبالنظر إلى الحرف المرسوم الأول في هيئة ثلاث هضاب، فقد احتسب معظم المؤرخين بلاد بونت بلادا أجنبية، حيث اعتيد الإشارة لبلاد الأجانب بجبل مثلث القمم. لكن نظرية هذا الكتاب تقوم على أن الحرف هنا يقصد الإشارة لمنطقة جبلية فقط، ولا تعني أنها كانت بلادا أجنبية بالنسبة لمصر.
وقد تكرر إرسال البعثات إلى بلاد بونت، في عهد «أمنحمات الثاني
1938-1903ق.م.»، حيث أكدت لوحة نصر تخصه «أن جلالة الفرعون قد قام بتوطيد سلطانه، في أرض الإله في بونت».
2
كما وصلت إلينا قصائد غزلية مصرية قديمة، منها قصيدة رائعة في ستة مقاطع، تتضمن مجموعة من بلاغيات التشبيه الجمالية، تليق بمفاهيم الجمال في ذلك الزمان، حيث نجد الحبيب يشبه حبيبته بجواد الفرعون، الذي تم اختياره من بين ألف حصان أصيل، كما يشبهها بالطيور المهاجرة إلى مصر، قادمة من بلاد «بونت».
3
لذلك سجل الفرعون المقاتل «رمسيس الثالث»
الذي حكم حوالي 1182-1151ق.م. خلال الأسرة العشرين، أنه قد أرسل سفنه في حملة بحرية وبرية إلى أرض الإله، المعروفة لدى المصريين باسم بلاد «بونت»، لإحضار المر لمحرقات الإله.
4
أما أشهر الرحلات المصرية إلى بلاد «بونت/أرض الإله»، على الإطلاق، فقد كانت البعثة المصرية السلمية إلى «بونت»، زمن الفرعونة «حتشبسوت»،
التي حكمت حوالي 1490-1468ق.م. خلال الأسرة الثامنة عشرة من الدولة الحديثة، المعروفة بدولة الإمبراطورية. وهي الرحلة التي سجلت تفاصيلها على جدران معبد روعة الروائع، المقام بالدير البحري بالأقصر، والذي أمرت الفرعونة ببنائه خصيصا؛ لتسجل عليه تقريرين بأهم حدثين في حياة الفرعونة. وكان الحدث الأول هو اصطفاء الإله «آمون»، رب الدولة المركزية المصرية لها؛ لتكون حاكما مطلقا للبلاد. أما الحدث الثاني فكان بعثتها السلمية إلى أرض الإله، بلاد «بونت».
وقد تم تدوين أمر تلك الرحلة الكبرى بكثير من التفاصيل الدقيقة، مما سمح للمؤرخين بوضع مجموعة فروض؛ لتحديد «أين تقع بلاد بونت» في ضوء تلك التفصيلات. ومع ذلك فقد جاءت هذه الفروض شديدة التباعد عميقة التنافر، فهناك من افترض أنها تقع في قارة أفريقيا؛ استنادا إلى ما جاء ذكره مكتوبا، أو مرسوما بالنقش عن منتجات بلاد «بونت»، خاصة بعض الحيوانات المستقدمة من بونت، والتي توجد بإفريقية وحدها. ولما كانت الرحلة قد خرجت من العاصمة طيبة/مدينة الأقصر، واتجهت إلى «قفط» إلى الشمال منها مباشرة، ومنها أخذت طريقها بريا عبر الصحراء الشرقية، حتى ميناء القصير على ساحل البحر الأحمر. ومن هناك انطلقت السفن إلى بلاد «بونت». فقد ذهب الفرض إلى أن الرحلة قد أبحرت من ميناء القصير في البحر الأحمر جنوبا، إلى بلاد الصومال ملتزمة الساحل الإفريقي، أو ربما إلى بلاد أثيوبيا. وهو ما سنرى نموذجه عند المصرولوجيست «جاردنر» وآخرين.
وقد ارتسم هذا الفريق الخطوط الرئيسية التي وضعها المصرولوجست «ماريت
Mariette »، صاحب الفضل الأول في كشف لوحات بونت على جدران معبد «روعة الروائع» بالدير البحري عام 1877م، حيث أكد «ماريت» أن الرسوم جميعا تشير إلى أن بلاد بونت تقع على الساحل الأفريقي الشرقي شمالي الصومال. وقد اعتمد في ذلك على تحليل نقوش رحلة حتشبسوت، من حيث شكل المساكن، وصفات الملكة التي تشير ملامحها إلى عنصرها الإفريقي، وتحليها بخلاخيل المعدن أسفل السيقان. وهي عادة أفريقية مستمرة حتى الآن، إضافة إلى علامة لا تجعل بونت خارج أفريقيا على الإطلاق، وهي وجود حيوان «الزراف» ضمن المنتجات التي أحضرتها البعثة من بلاد بونت. و«الزراف» حيوان أفريقي قح، مع أشجار البخور، وهي أشجار تنمو على ساحل الصومال حتى الآن.
5
ورغم تركز معظم الفروض على الساحل الإفريقي الشرقي؛ فقد أعمق بعضها داخل القارة، مثل «هيرتسوج
Herzog »، الذي أكد وقوع بونت في المنطقة الحدودية الواقعة بين السودان والحبشة الآن، وبين النيلين الأزرق والأبيض، وأن رحلة حتشبسوت وصلت هناك بالإبحار في النيل، وليس بالإبحار في البحر الأحمر.
6
وقد رد عليه «كيتشن
Kitchen » مؤكدا أن بونت هي المنطقة الممتدة من بور سودان حتى شمالي أريتريا، على الساحل الصومالي.
7
وحول ذات الجهات، ذهب «كرال
Krall »، الذي وضع بونت في المنطقة الممتدة من سواكن وحتى مصوع، باعتبارها مناطق منتجة للصمغ العربي، وهو ما كان يستخدم كبخور مثل المر.
8
وضمن هذا الفريق يأتي عبد المنعم عبد الحليم الذي لا تعود أهميته إلا لصراخه المتواصل ضد كتابي هذا، وهو مدرس بجامعة الإسكندرية، ويرى أن بونت بلا جدال هي الساحل الصومالي تحديدا.
9
ولم يزل الخلاف قائما حول النخيل المرسوم في لوحات حتشبسوت؛ هل كان نخيل أشجار الدوم كما ذهب هيرتسوج وكتشن، أم هو نخيل البلح كما يعتقد «عبد المنعم عبد الحليم» في رسالتيه الماجستير والدكتوراه؟
وقد أضاف لرصيد الذاهبين ببلاد بونت إلى الصومال، أن التقرير المصري صور لنا أربعين نوعا من الأسماك والكائنات البحرية، بينها خمس سمكات، واضح أنها نهرية وليست بحرية. وهو ما يشير إلى أن الميناء البونتي، الذي رست فيه سفن حتشبسوت، كان يقع عند مصب نهر صغير. وفي الصومال نجد لدينا نهرا كان يعرف باسم نهر الفيل، ويعرف الآن باسم نهر جلوين.
10
واتجهت فرضيات أخرى إلى أن أرض الإله «بونت»، كانت تقع على الساحل الغربي لجزيرة العرب في منطقة جبال عسير، كما نجد عند «الصليبي» و«زياد منى»، مع اتجاهات أخرى نزعت إلى الفانتازي، كالقول إن تلك الرحلة كانت نحو الأمريكتين، وأن المصريين هم من اكتشف أمريكا قبل الجميع، وأنها هي التي دونت في مدونات مصر القديمة باسم بلاد بونت. وبسبيل ذلك تم إجراء مقارنات لبعض المفردات المصرية بلغات الهنود الحمر، وموروث حضارات المايا والأنكا.
11
هذا بينما افترض آخرون أن بلاد بونت المذكورة في الوثائق المصرية هي ذات بلاد «أوفير» التي جاء ذكرها بالكتاب المقدس، وكانت محلا لبعثات متشابهة أرسلها الملك الإسرائيلي سليمان بن داود أشهر ملوك إسرائيل الموحدة. إلا أن «أوفير» نفسها وجدت في تحديد موضعها تضاربا في الفروض، أشد اتساعا من التضارب حول موضع بلاد بونت. ولم تزل حتى اليوم بلدا مجهولا بدورها.
ولحل الإشكال تم اللجوء إلى حل وسطي أو تلفيقي، يلخص الأمر في إنهاء يائس للإشكال، يقول: إن المصريين قد استخدموا اسم بونت بمعنيين؛ الأول: معنى عام يشير إلى أي موقع جغرافي يزرع اللبان/المر/البخور. ومعنى خاص قصدوا به سواحل إفريقيا من الصومال جنوبا حتى السودان شمالا.
ورغم أن حل لغز بلاد بونت يمكن أن يؤدي إلى حلول تسلسلية لمجموعة من المتشابكات التاريخية الملغزة، كما يمكن أن يفصح عن تدقيقات هامة لتحديد ملامح العالم القديم، مع فرز واضح للأجناس والهجرات، فقد ظلت جميع الفروض ناقصة التمام والإقناع، وظلت أرض الإله بونت لغزا يبحث عن حل.
وعلى متون صروح معبد روعة الروائع بالدير البحري، نقش الفنان المصري القديم صورا وكتابات جدارية، تصف أهم حدثين في حياة الفرعونة حتشبسوت. الحدث الأول: هو قصة ميلادها الإلهي من أبيها الإله آمون نفسه، إضافة إلى الحدث الثاني، والأهم تاريخيا، وهو مجموعة جداريات بونت التي تصف رحلتها إلى أرض الإله.
وتصور اللوحات الرائعة طريق الرحلة البري من «قفط» حتى «القصير»، مع رسوم للسفن البحرية الضخمة المجهزة بصفوف المجاديف أدوارا، مما يشير إلى كونها سفنا بحرية بل محيطية. وخلفها تظهر لوحة بلاد بونت، في هيئة تلال كثيرة جميلة تزينها النباتات. ثم نشاهد ثلاثة أجناس من البشر بخلاف المصريين، يحددهم لنا «عبد المنعم عبد الحليم» نفسه، فيقول: «إن سكانها خليط من عدة سلالات: (أ) السلالة التي تنتمي إليها الطبقة الحاكمة، أي: البونتيون أنفسهم، ويشبهون المصريين. (ب) السلالة الزنجية. (ج) سلالة ثالثة، لعلها المسماة إرم، وهي قريبة الشبه بالبونتيين.»
12
هذا إضافة إلى تصوير اللوحة لمجموعة متنوعة من الحيوانات منها القردة، مع صور واضحة لجلود فهود أو نمور، وكثير من الأشجار والنباتات، التي تشبه إلى حد بعيد نباتات الساحل اليمني.
وقد عادت البعثة بكثير من تلك الأشجار بجذورها، وهو ما يعني أن هناك أشجارا بعينها قد استجلبت من بلاد بونت؛ لتستزرع في أرض مصر، مع كميات من خشب الأبنوس والعاج، إضافة إلى معادن تتضح فيها الفضة، ومعدن آخر ربما كان ذهبا، مع أحجار كريمة. ويحيطنا «فليكوفسكي» علما بأن الفنان المصري، وهو ينقش بإزميله اسم بونت في مواضع متعددة، لم يضع فوق الاسم تلك العلامة الهيروغليفية، التي كان المصريون القدماء يضعونها فوق أسماء البلاد الأجنبية.
13
مما أوعز بشدة إلى أن المصريين القدماء كانوا يرون أن هناك رباطا من نوع ما بين بلاد بونت وبين مصر، وأنها ربما كانت تابعة لمصر، أو أن المصريين كانوا يعتقدون أنها جزء من مصر، ناهيك عن تقديسها بحسبانها أرض الإله. لكن النصوص المصرية لم تسم لنا هذا الإله، أو تقدم له أي تعريف ولا مرة واحدة.
وفي الجزء الأسفل من جداريات بونت في معبد روعة الروائع، يمكنك أن تشاهد مرسى بحريا، رسمت تحته الأسماك في المياه للتوضيح. وعلى يمين المرسى يقف الملك البونتي، الذي دون بالاسم «بارح» أو «فارح» أو «فرح» أو «باروخ» مع اللقب «عظيم عظماء إرم». أما الملكة فكانت ضخمة الجثة، ورسمها الفنان بواقعية شديدة، أراد بها أن يبرز ما يكتب باعتباره تقريرا تسجيليا.
ويصف لنا المصرولوجيست الأشهر «السير آلن هنري جاردنر» معبد روعة الروائع بقوله: «إن المعبد الجنازي لحتشبسوت في الدير البحري، يقع داخل نصف دائرة من القمم العالية، وهو يدين بكثير من وحيه إلى أثر منتوحتب الأول الأكثر بساطة، والواقع على الخط نفسه جنوبا. ولم يبق سوى آثار الممر الصاعد في رفق إلى الأسوار التي يؤدي مدخلها إلى بهو واسع، يرى فيه الزائر في مواجهته رواقا بالأعمدة فوق رواق بالأعمدة، لكنها تصعد من المنحدر الرئيسي إلى المستوى العلوي. ويكشف صف من أعمدة الحجر الجيري بشمال البهو عن جمال المبنى، قبل أن يحوله الزمن والتدمير البشري إلى حالته الراهنة. ومع ذلك فليس في مصر اليوم عمارة في مثل هذا السمو يمكن رؤيتها. أما الرواق التالي إلى أعلى ففيه منظر أكثر تشويقا. فعلى الجانب الجنوبي منه مثلت الرحلة إلى بونت، في السنة التاسعة لحكم حتشبسوت. كما مثل على الجانب الشمالي حمل أم الملكة بها عن طريق معجزة ثم ولادتها. وتصور المجموعة السابقة من الصور سفن الملكة حتشبسوت وهي تبدو في هذه المرحلة، كملكة تصل إلى هدفها عند باب المندب» (ملاحظة للمؤلف: ليس في اللوحات أية إشارات أو كتابات توعز إلى باب المندب، وكانت تلك إضافة من جاردنر لاعتقاده أن الرحلة قد اتجهت جنوبا عبر البحر الأحمر إلى الصومال، التي يعتقدها جاردنر ذات بلاد بونت). ويتابع جاردنر وصفه: «ثم يتقدم رئيس ملتح وزوجته المشوهة تشويها فظيعا. وهناك عدد من الرؤساء أقل أهمية، يخرون على وجوههم أمام شعار الملكة يتحدثون. إنهم يلتسمون السلام من جلالتها بقولهم: المجد لك يا فرعون مصر، أيتها الشمس الملكية التي تضيء كقرص الشمس. ويعيش الأهلون وسط أشجار النخيل، وفي أكواخ ذات قباب مستديرة، يمكن الوصول إلى أبوابها عن طريق سلالم نقالة. وقد أقام الرسول المصري خيمته في ناحية قريبة، ثم قدم الهدايا من الجعة والنبيذ واللحوم والفواكه كأمر حتشبسوت. لكن الواضح أن جيوشها أفادت أكثر من عملية التبادل، فهناك صور متقنة لكل الأشياء الثمينة، التي حملت من هناك إلى السفن. ومن بين هذه المنتجات: أشجار المر والأبنوس، ثم العاج، والذهب، والقرود، وجلود الفهود. ويرى الأسطول في الصف العلوي من اللوحة، وهو يبدأ طريق العودة إلى الوطن، وقد تجاهل الرسام أمر الانتقال من الصحراء إلى النيل.»
14
والواضح تماما أن حتشبسوت كانت ترى في تلك الرحلة أهم إنجازاتها على الإطلاق، وهو الأمر الذي تشي به ببساطة ووضوح روايتها المدونة، ناهيك عن تكريسها كل هذا البناء الهائل؛ لتسجل عليه ذلك التقرير عن بعثة بونت. كما تتضح الأهمية في أن الفرعونة قد أولت عظيم اهتمامها إلى الجانب المعرفي العلمي، فأرفقت برحلتها خبراء يقومون بدور الصحفيين الذين كتبوا بالفعل ريبورتاجا مصورا علميا دقيقا رائعا، وصفوا فيه أرض الإله وصفا طبيعيا وبيئيا، وراعوا الجغرافية البشرية لبيان الأجناس التي تسكن تلك البلاد. كما أولوا عنايتهم لبيان عادات وتقاليد أهلها، مع دراسة علمية ممتعة لمختلف أنواع الأسماك والحيوانات البحرية، إضافة إلى مسح تفصيلي لمنتجات بلاد بونت، من أخشاب ثمينة وجلد الفهد، وسبائك الذهب والفضة، مع أحمال البخور والعطور والتوابل، والأعشاب التي ربما كانت للكيمياء العلاجية. ولم ينس التقرير أن يوضح أهمية أشجار بلاد بونت، التي دفعت البعثة المصرية إلى الإتيان بها بجذورها إلى مصر، مما يعني أنها أشجار لا تنمو في مصر، وأنها نوع خاص ببلاد بونت. حتى التفاصيل الصغيرة لم تفت عين الصحفي المدققة، مثل إحضار البعثة لكحل العيون (الإثمد)، مع تصوير واضح لأنواع الحيوانات المستجلبة من هناك. فترى كلابا أشبه بالكلاب السلوقية الموجودة اليوم، مع القردة التي تعلقت بصواري السفن، لتضيف إلى اللوحة بهجة تستدعي الابتسامة، مع الزراف وتنويعات أخرى، قصد بها أن يكون التقرير مشوقا، إلى جانب كونه مستوفيا.
وقد سجلت الموسوعة الأثرية العالمية، تحت مادة «بونت» الآتي:
: بلاد تقع جنوبي بلاد مصر. كان الوصول إليها عن طريق البحر الأحمر. وقد صور الناس يعيشون في بيوت تشبه خلايا النحل، وصورت الملكة التي كانت تحكمهم بدينة جدا. ومن بونت كان يأتي الذهب والبخور، ومختلف أنواع السلع لأغراض دينية. وموقع بونت غير مؤكد، لكن حسبما يتضح من منتجاتها، لا بد أنها كانت تقع في مكان ما بالقرب من الصومال.
أما «حتشبسوت» نفسها؛ فقد سجلت:
لقد منحتهم الذهب،
فتلقيت منهم الذهب الأخضر،
من بلاد الآمو،
وأشجارا يانعة من المر بأعداد كبيرة،
من عجائب أرض بونت.
ولم يحدث ذلك من قبل في عهد أي إله،
منذ خلق العالم.
لقد أحضرت إحدى وثلاثين شجرة،
من خشب البخور،
لم يعرف لها مثيل منذ فجر الخليقة.
15
وهنا ملاحظة لا تفوت مدققا، نضعها في الاعتبار حتى يأتي حين معالجتها. وتتمثل في السؤال: ما معنى أن تهدي الملكة ذهبا لتتلقى ذهبا، في رحلة قصد منها تبادل منتجات مع منتجات بونت؟ فهل كان ذهب بونت يختلف عن ذهب مصر؟ يبدو ذلك؛ لأن النص قد ميز ذهب «بونت» بأنه ذهب أخضر. فماذا كانت تعني بالذهب الأخضر؟ أما الملحوظة الثانية التي ننبه إلى وجوب تذكرها، فهي القول: إن هذا الذهب من بلاد الآمو. والآمو أو العامو هي الكلمة التي استخدمها المصريون القدماء؛ للدلالة على بدو آسيا الساميين عموما، وعلى الهكسوس - خصوصا - الذين سبق واحتلوا بلادهم في نهاية الدولة الوسطى. وقد طردوا منها زمن «أحمس» مؤسس الأسرة الثامنة عشرة، وحكم حوالي 1575-1550ق.م. أي قبل زمن حتشبسوت بحوالي ستين عاما، أو تزيد قليلا.
ولا يصح أن نتغافل عن عبارتها «منذ فجر الخليقة» وتكرارها. وهو ما يؤكد على أهمية تلك الرحلة للملكة، ولتقديرها الأمور. أما الغريب حقا فكان مسألة تجاهل الفنان لطريق العودة من البحر الأحمر، من ميناء القصير حتى قفط على النيل شمالي الأقصر، في رحلة عودة برية عبر الصحراء الشرقية، الممتدة ما بين البحر الأحمر وبين النيل. فعاد بالسفن فورا من «بونت» إلى الأقصر عبر النيل، دون المرور بالطريق البري، رغم أنه فصل ذلك بوضوح في رحلة الذهاب. فهل تجاهل الفنان الدقيق الدءوب الفاحص المدقق الطريق البري، أم أنه كان لم يزل يقدم لنا تقريرا دقيقا وعلميا وحقيقيا؟ وإذا كان كذلك فإن لغز «بونت» يكون قد ازداد تعقيدا. فكيف وصلت السفن إلى طيبة/الأقصر، دون المرور بالطريق البري من ساحل البحر الأحمر إلى النيل في الوادي؟
ونظرا لأن التحف التي جلبتها «حتشبسوت» من بلاد «بونت»، تتشابه إلى حد بعيد مع التحف التي ذكرها الكتاب المقدس، والتي أحضرتها بعثة الملك الإسرائيلي «سليمان» إلى بلاد باسم «أوفير»، فقد ذهب الباحثون إلى احتساب «بونت» هي ذات بلاد «أوفير» المجهولة. وتحت مادة «أوفير» بموسوعة تاريخ العالم، نقرأ تلك الفقرة الموجزة:
أوفير
OPHIR : موقع أوفير التوراتية التي كان الملك سليمان يحصل منها على سفن محملة بالذهب والأحجار الكريمة (سفر ملوك أول، 10: 11) موضع اختلاف كبير دون الوصول إلى حل مقبول. والتخمينات تمتد من الساحل العربي، حتى سيلان أو ساحل مالا بار.
هذا بينما سجل «زينون كاسيدوفسكي» إشكالية «بونت/أوفير» في قوله: «لا يزال الباحثون حتى الآن يختلفون. بعضهم يقول: إن أوفير التوراتية هي الهند. وبعضهم الآخر يعتقد أنها الجزيرة العربية . وفريق ثالث يؤكد أنها مدغشقر. أما المستشرق الأمريكي أولبرايت فيعتقد أنها الصومال. بينما يلفت فريق آخر من العلماء الانتباه إلى اللوحات الجدارية، التي اكتشفت في معابد طيبة؛ حيث وجدوا هناك رسما لملكة سوداء من بلاد تدعى «بونت»، ويفيد النص المثبت أسفل اللوحة أن السفن المصرية كانت تحمل من تلك البلاد الذهب والفضة، والأخشاب السوداء والحمراء، وجلد النمر، والسعادين (القردة) الحية، والعبيد السود. وقد أدى ذلك إلى نشوء افتراض مؤداه: أن بونت هي أوفير التوراتية.»
16
إلا أن المشكلة الحقيقية والمستعصية أمام كل تلك الفروض، هي تكرار القول في النصوص المصرية: «حينما أوجه وجهي إلى مشرق الشمس، فإني أولي وجهي إلى بلاد بونت.»
17
وهو ما دفع باحثين آخرين إلى افتراض مواضع أخرى لبلاد بونت، تتفق وهذه الإشارة. وذلك مثل د. عاطف عوض ، الذي افترض لبلاد بونت بلاد الساحل العماني الحالي، حتى إن سلطنة عمان رأت في نظريته أمرا يستحق الاحتفاء به. فتم تحديد زمن افتراضي لوصول سفن الفرعونة إلى عمان. أقيم بهذه المناسبة احتفال كرنفالي شعبي تمثيلي، يصور وصول البعثة المصرية إلى بلاد عمان. وما زالت هذه النظرية قائمة هناك، كأمر مفروغ من صحته. هذا بينما ذهب د. رمضان عبده علي إلى وقوع بونت في بلاد اليمن. وقد اعتبرت صحيفة الأهرام القاهرية ذلك كشفا جديدا يستحق التسجيل والإعلان (وهو ما فضلنا نقله من الصحيفة بالتصوير كما في الشكل رقم 36). وإن تكرار الإشارة إلى وقوع بونت جهة مشرق الشمس بالنسبة لمصر، أمر لا يجعل بونت تقع أبدا جنوبي مصر. فهي بهذا المعنى يجب أن تقع في منطقة ما شمالي بلاد الحجاز الحالية، أو في سيناء، أو شرقي سيناء. وهو الأمر الذي يؤكده تقرير مسئول حكومي اسمه «خنوم حتب»، عاش خلال الأسرة السادسة الفرعونية يقول إنه قد زار بيبلوس (جبيل الآن جنوبي بيروت بلبنان) وبونت، إحدى عشرة مرة، وذلك بصحبة سيده «خوي» مرة، وبصحبة سيده «تتي» مرة أخرى.
18
وهو الأمر الذي ما كان ممكنا حدوثه في حياة فرد واحد في ذلك الزمان، لو كانت بونت هي الصومال أو اليمن أو الهند، ناهيك عما يوحي به التقرير أن زيارة بيبلوس وبونت كانت تتم في رحلة واحدة، مما يعني وجوب وقوع بونت على الطريق ما بين مصر وبين بيبلوس بلبنان. وهكذا تكتمل دائرة الالتباس، ويستغلق اللغز تماما، إلى حد عدم إمكان تصور واضح يحل مشكلة موقع بلاد بونت. (لوحات تتعلق بالملكة حتشبسوت ورحلتها السلمية إلى بلاد بونت.) (انظر الأشكال رقم «32، 33، 34، 35».)
شكل رقم «32»: رأس حتشبسوت - أسرة 18 - المتحف المصري.
شكل رقم «33»: الدير البحري/معبد حتشبسوت.
شكل رقم «34»: ملك وملكة بونت في لوحات حتشبسوت.
شكل رقم «35»: حاملو الهدايا من أهل بونت (شعب إرم).
شكل رقم «36»: الأهرام 27 / 2 / 1997م.
ولغز بلاد الحور
والألغاز غير المحلولة في التاريخ كثيرة وحاشدة، ونموذجا لتلك الألغاز (لغز بلاد الحور)، وبلاد الحور تلك التي يخبرنا علم التاريخ أنه قد قامت فيها دولة باسم الدولة الحورية، عاصرت زمن الأسرة الثامنة عشرة الفرعونية. وجاء اسم هذه الدولة في نصوص مصر تحت اسم «دولة ميتان» أو «ميتاني»، وأنه في «ميتاني» قد سكن الشعب الحوري. وكان لتلك الدولة تسمية أخرى ترد في النصوص، على التبادل مع تسمية «ميتاني» هي التسمية: «نهارين». ولنطالع ما سجلته موسوعة تاريخ العالم عن بلاد «ميتاني»، تحت مادة «ميتاني»:
أعالي ما بين النهرين «ميتاني»: ربما كان موطن الحوريين في بلاد «النايري»، وهو الاسم الذي أطلقه الآشوريون على الإقليم الواقع إلى الشمال والشرق من بحيرة «فان». تحرك الحوريون من هناك جنوبا في أوائل القرن السابع عشر ق.م. إلى شرق آشور وغربها، وأسسوا عددا من الإمارات اتحدت بعد ذلك تحت حكم ملوك «ميتاني». امتدت مملكة «ميتاني» من قرقميش على الفرات حتى قرب نهر دجلة الأعلى، مشتملة على وديان البلخ والخابور ومقاطعة نصيبين. وفي شرقي دجلة تشتمل أيضا على منطقة «أرابخا/كركوك الحالية»، التي كانت قبل ذلك مملكة حورية منفصلة. وليس من المعروف إذا كانت قد شملت إربيل أيضا. انتشر الحوريون كذلك في أجزاء من آسيا الصغرى، وسورية وفلسطين، دون أن ينظموا ممالك دائمة. ثبت وجودهم حوالي منتصف الألف الثاني في بوغاز كوي عاصمة الحيثيين (الأناضول)، وفي رأس شمرا (أوغاريت على الساحل السوري قرب اللاذقية)، وفي أورشليم وطناخ، وفي بلاد آدم (الحور). وربما اشتملت جموع من الهكسوس على فئات من الحوريين.
موقع بلاد الحوريين إذن غير مؤكد «ربما كان موطن الحوريين في بلاد النايري إلى الشمال والشرق من بحيرة فان»، «وليس من المعروف» إن كان قد شمل مساحات بعينها من الأراضي. لكن دلائل وجودهم تتناثر في «أجزاء من آسيا الصغرى وسورية وفلسطين»، و«في بوغاز كوي، وفي رأس شمرا، وفي أورشليم، وفي بلاد آدم». وقد وصفت الموسوعة بلاد «آدم» تحديدا بأنها بلاد «الحور». ثم «ربما اشتملت جموع من الهكسوس على فئات من الحوريين». إذن ليس هناك شعب في المنطقة أثبت وجوده على تلك المساحة الواسعة. وفي الوقت ذاته ليس من المؤكد، بل وليس من المعروف عنه أشياء كثيرة. و«ربما» التي تتكرر لتؤكد عجزا واضحا عن تحديد موطن واضح لدولة واضحة، اسمها دولة «الحوريين» الميتانية، وهو الموقف من بلاد «بونت» وبلاد «أوفير». ويضيف المؤرخ العراقي «طه باقر»، متحدثا عن بلاد «ميتاني» باسمها الذي يرد معها على التبادل بلاد «نهارين»، فيقول: «من الدويلات الآرامية آرام النهرين، ويعني اسم هذه الدولة: آرام ما بين النهرين، أي الفرات والخابور. وورد ذكرها في المصادر المسمارية باسم «نهارينا». ويبدو أنها اختفت من الوجود في حدود القرن التاسع ق.م. عندما قضى الآشوريون على جميع الدويلات الآرامية تقريبا في تلك المنطقة.
19
ويؤكد لنا ذلك المؤرخ الرصين أن في تلك المنطقة الآرامية عاش ذلك الشعب المعروف بالشعب الحوري، وذلك استنادا إلى نص الملك الآشوري «شلمناصر الأول»، الذي حكم في العصر الآشوري الوسيط حوالي 1274-1245ق.م. والنص يتحدث عن حملات ذلك الملك العسكرية إلى بلاد «أرمينيا» وأرارات، في أقصى شمال العراق، داخل حدود «أرمينيا» الحالية شرقي تركيا، وأنه في طريقه إلى هناك قد غزا موطن الحوريين، الذي لا بد أن يقع في تلك الحال في طريقه إلى «أرمينيا»، ما بين النهرين الأعلى، وأنه قد ورد ذكر إحدى القبائل الآرامية الكبرى هناك، باسم «أحلامو» أو «أخلامو»، ومعناها الأحلاف.
20
أما المصرولوجست «جاردنر»، فيؤكد ذات المذهب، فيقول: «إن الحوريين قد جاءوا إلى منطقتنا قادمين من عند إقليم «بحر قزوين»، وإنهم هم الذين مهدوا الطريق للحيثيين، الذين وفدوا بعدهم إلى منطقتنا قادمين من الأناضول في نهاية عام 1600ق.م. وأن سقوط دولة الحوريين «ميتان» كان على يد الملك الحيثي «شوبيللوليوماش». والمعلوم أن دولة ذلك الملك، قد قامت في تركيا الحالية.»
21
ويذهب الأركيولوجست «جارستانج» ذات المذهب، بحثا عن الموطن الأصلي للحوريين، فيؤكد أنهم قدموا إلى منطقتنا من أرمينيا كموطن أول لهجرتهم، وأنهم قد انحدروا من هناك إلى الفرات الأعلى بينه وبين الخابور؛ ليؤسسوا مملكة ميتاني، التي ورد ذكرها في نصوص مصر والرافدين، وهي مملكة آرية. ولا تنتمي في رأيه إلى مجموعة الشعوب السامية المتاخمة لها، وأن تلك المملكة قد سقطت فريسة للغزو الحيثي، عندما تخلت مصر عن مساعدتها، زمن الفرعون «آمنحتب الرابع/إخناتون»، لتنتهي دولة «ميتاني» من التاريخ وإلى الأبد.
22
وقد خرج «جاردنر» من قراءته لوثائق مصر القديمة، بأن «ميتاني» منذ بداية ظهورها كدولة، قد وقعت تحت الهيمنة المصرية، حيث ترافق ظهورها مع خروج مصر خارج حدودها، وتأسيسها للإمبراطورية المصرية، وحيث أرادت مصر بتلك الهيمنة إيقاف زحف الحيثيين، الذين بدءوا يهاجمون بلاد الشام الواقعة تحت النفوذ المصري، وذلك بغرض تأمين الحدود الشمالية للولايات المصرية في الشام. لكن الحيثيين تمكنوا زمن الفرعون «إخناتون» من القضاء على الدولة الميتانية، وتوسيع حدودهم جنوبا في بلاد الشام، على حساب الإمبراطورية المصرية، التي بدأت تخسر بعض نفوذها هناك، نتيجة لانغماس الفرعون «إخناتون» في فلسفته الدينية، وإهماله للشئون العسكرية والسياسة الخارجية.
23
ونعود لموسوعة تاريخ العالم نتابع سردها الرصين والموضوعي، الذي يسوق المعلومة غير المؤكدة في صيغة الاحتمال والظن، لنستمع إليها وهي تقول: «تعرف اللغة الحورية معرفة غير تامة من خطاب دوشراتا ملك الميتانيين، إلى آمنحتب الثالث الملك المصري والد إخناتون، ومن بضع نصوص من مكتبة بوغاز كوي (عاصمة الحيثيين شمالي الأناضول)، ومن بضع كلمات ذكرت هنا وهناك على اللوحات المسمارية، التي وجدت في نوزي وبالقرب من كركوك. وربما كانت هذه اللغة قريبة من اللغة الفانية والعيلامية، غير أنه لا يمكن إدماجها في أية فصيلة لغوية معروفة. أما صلات الجنس الحوري بأجناس أخرى، فهي غير معروفة. والأسرات الملكية والأمراء الميتانيون من أصل هندوآري؛ إذ كانوا يحلفون بآلهة هندوآرية؛ مثل أندرا وميترا وفارونا وناستيا. وكان أعظم عمل للحوريين، أو على الأصح لقادتهم من الهندوآريين، هو إدخال العربة ذات العجلتين التي تجرها الخيل إلى مصر وغرب آسيا، حيث أصبحت معروفة. وربما كانت النحوت الغائرة المعروفة بالحيثية، التي اكتشفت في شمال سوريا: قرقميش، سنجرلي، تل أحمر، وفي أعالي ما بين النهرين: تل حلف، والتي يرجع تاريخها من منتصف الألف الثاني إلى القرن التاسع ق.م. ربما كانت هذه النحوت حورية في أسلوبها إن لم تكن في أصلها، كما يتضح من مقارنتها بالأختام الحورية. أما أهم آلهة الحورين فهي: تيشوب إله الزوابع، هيبات إلهة الشمس، ولا يعرف عن آلهة أخرى عديدة سوى أسمائها.» وتتابع الموسوعة القول: «إن عاصمة مملكة «ميتاني» قد حملت اسم «واشوكاني»، وأنه في زمن الملك الميتاني أرتاتاما حوالي 1440ق.م. زمن الفرعونة حتشبسوت، سادت علاقات ودية مع مصر، وأنه قد ازدادت عرى الصداقة مع مصر زمن الملك الميتاني التالي «شورتانا» حوالي 1430ق.م. حيث تزوج الفرعون المصري «آمنحتب الثالث»
ابنة «شورتانا»، وكانت تحمل اسم «جيلوخيبا». لكن لتتحول العلاقات إلى حالة عداء واضحة زمن الملك الميتاني «توعي»، ثم يخلفه «دوشراتا» ليعيد التحالف مع «آمنحتب الثالث» ملك مصر. ولا يطول الأمر حتى يلهو «إخناتون» ابن «آمنحتب الثالث» بفلسفته الدينية، ويترك حليفته «ميتاني» تسقط فريسة الغزو الآشوري، زمن «شلمناصر الأول» حوالي 1275ق.م. ليزيلها تماما من على صفحات التاريخ.
أي هذه التزمينات لسقوط دولة «ميتاني/نهارين» نصدق؟! هل سقطت على يد الآشوريين في القرن التاسع/900ق.م. قبل الميلاد، كما أفادنا طه باقر المؤرخ والعراقي الرصين المعروف، والمعتبر بين طبقات المؤرخين المحدثين؟ أم أنها سقطت على يد الآشوريين بالفعل، لكن زمن شلمناصر الأول الآشوري حوالي 1275ق.م. كما قررت موسوعة تاريخ العالم، التي شارك فيها جلة من المتخصصين كما ينبغي أن يكون التخصص؟ أم أنها لم تسقط على يد الآشوريين، بل على يد سكان تركيا القدماء المعروفين «بالحيثيين»، زمن الفرعون المصري إخناتون، أي حوالي 1340ق.م. فيما يؤكده المؤرخ الشهير جارستانج؟ أم أنها سقطت على يد الملك الحيثي شوبيللو ليوماش حوالي 1390ق.م. فيما يصر عليه جاردنر المؤرخ العالي الذكر؟! وهكذا يصبح بيدنا أربعة تزمينات بينها فروق زمنية فادحة، لدينا «900ق.م.، و1275ق.م.، و1340ق.م.، و1390ق.م.»! وهذا فقط ما وقع بأيدينا ناهيك عما لم يصلنا.
وحتى الآن نجد كل ما جاءنا عن «ميتاني»، جاء مدونا في عدد من السجلات، ولم يعثر على تلك السجلات أبدا في الموقع الذي حدده المؤرخون لها بين الفرات والخابور في الفرات الأعلى. وكل معلوماتنا عن «ميتاني» قد جاءت من تلك السجلات التي عثر عليها في مصر، أو آشور، أو أوغاريت، أو العاصمة الحيثية بشمال تركيا، دونما أثر أركيولوجي حقيقي في موطنها، الذي تم التواضع عليه. ذلك الموطن الدولة الذي تم تحديده في ضوء السجلات غير الميتانية، وفق فروض معقدة تم فيها تتبع خط سير الحملات المصرية نحو «ميتاني»، وعبورا على أية مواضع؟ مع دراسة الإشارات التي وردت في الرسائل الميتانية إلى فراعنة مصر، ولم يعثر أبدا على الخطابات المماثلة في موقع أعالي النهرين، مع دراسات مطولة معقدة، انتهت إلى فرض يضع تلك المملكة في الرافدين الأعلى، مع حيرة غير خافية حول ذلك الانتشار والتشظي الواسع للشعب الحوري، بطول المنطقة وعرضها في الأناضول، وفي جميع بوادي الشام، وفي داخل فلسطين. وأما الأشد أهمية فهو التواجد الذي أشار إليه الجميع، وأهمله الجميع، في بلاد باسم آدم حملت أيضا اسم بلاد الحور، وهو الأمر الذي نراه أمرا.
شكل رقم «37»: مساكن بلاد بونت كما صورتها لوحات حتشبسوت.
شكل رقم «38»: الموضع المفترض لبلاد «ميتاني» بأعالي الرافدين. الأسهم تشير إلى هجرات قادمة من وسط آسيا.
آدم أم آدوم؟ «اللغة الكارية» وردت إليها إشارات عدة في المصادر القديمة. وربما كانت أقدم تلك الإشارات إشارة «استرابون» المؤرخ الكلاسيكي اليوناني إلى اللغة الكارية، بوصفها لغة لمن يسميهم «سكان الكهوف». كذلك وردت إشارات بالكتاب المقدس إلى قوم يسكنون الكهوف، لكن على مستوى التاريخ كعلم، ظلت اللغة الكارية لغة مجهولة لشعب مجهول، يسكن كهوفا مجهولة في بلاد مجهولة.
ومع علوم التاريخ الحديثة التي فكت رموز كثير من اللغات القديمة، يعود الحديث عن اللغة الكارية إلى الظهور، بعد أن تم إسقاطها من حسابات البحث العلمي منذ زمن بعيد. فقد بدأت نصوص الحضارات القديمة تفصح عن إشارات إلى اللغة الكارية، فنجد النصوص الأكادية بالرافدين تحدثنا عن لغة باسم «اللغة الحورية»، التي يتحدث بها شعب يعيش في بلاد تحمل اسم أصحاب تلك اللغة، أي الشعب الخوري الذي يعيش في بلاد الخور. ووردت تلك البلاد باسم «بلاد الخور»، كذلك وردت إشارات متكررة في النصوص المصرية القديمة إلى لغة باسم «لغة خارو». وعند فك رموز الهيروغليفية الحيثية بتركيا القديمة، وجدت إشارات عديدة إلى اللغة الحورية، بل وتم العثور على ألواح مكتوبة بتلك اللغة. وهو الكشف الذي ترافق مع اكتشاف سجلات تل العمارنة بمصر، لنجد بالعمارنة رسالة تتكون من ستمائة سطر، مكتوبة بتلك اللغة، موجهة من ملك باسم «دوشراتا» يحكم في بلاد باسم «ميتاني». والرسالة موجهة إلى الفرعون آمنحتب الثالث. وهو الأمر الذي أدى إلى إلقاء اللغتين أو بالأحرى اللغة الوحدة (الحورية/الخورية) في رحم اللغة الكارية؛ إذ سنكتشف بعد قليل أنها جميعا ليست سوى لغة واحدة، والربط بينها وبين البلاد التي ذكرت في تلك الرسائل باسم بلاد ميتاني، واعتبار سكان تلك البلاد هم أصحاب تلك اللغة. ومرة أخرى يعود الاعتبار إلى كلام استرابون والكتاب المقدس، حول اللغة الكارية لغة سكان الكهوف. ذلك الكلام الذي جاء في شكل ومضات سريعة، تشير إلى شعب يسكن الكهوف ويتكلم الكارية، واحتسب لوقت طويل من خيالات استرابون، ومبالغات المحرر التوراتي.
وبمرور الوقت تزايد الكشف عن تواجد تلك اللغة وانتشارها، في ألواح عثر عليها في تل تعنك ، وفي وادي جرزيل بفلسطين. ثم كانت المفاجأة، وهي أن تلك اللغة لم تكن مجرد لغة بدائية مجهولة لشعب مجهول. حيث تم العثور على الأقل على مدينة واحدة من مدن شرقي المتوسط، كان أهلها خليطا من عدة أجناس، ويتحدثون عدة لغات بينها اللغة الحورية، بل وضح أنهم كانوا يستخدمونها في المكاتبات الرسمية. وكانت تلك المدينة هي «أوغاريت» على الساحل السوري قرب اللاذقية، وتحمل الآن اسم «تل شمرا». ثم كان من بين الإشارات التي وردت في أوغاريت، على ساحل المتوسط الشرقي وتل العمارنة بمصر، إشارة أخرى تقول: إن البلاد التي سكنها الشعب الحوري الذي تكلم اللغة الحورية، كانت تعرف أيضا باسم بلاد «آدم»، والتي أطلقت عليها نصوص تل العمارنة اسم بلاد «ميتاني»، وأيضا «نهارين». وهو الاسم الذي اعتادته المصادر الآشورية في الإشارة إلى بلاد الحور.
ووفق الإشارات التي وردت عن بلاد «ميتاني» في نصوص أكاد ومصر وبلاد الحيثيين، وتفسير تلك الإشارات لدى المؤرخين، فقد انتهى هؤلاء إلى وجوب وقوعها بين الفرات والخابور بالفرات الأعلى. ورغم ذلك فإنه أبدا لم يعثر هناك حتى الآن على دلائل واضحة، تشير إلى دولة بذلك الاسم «بلاد ميتاني» أو «بلاد آدم». وليست هناك أية كهوف سكنية تشير إلى أصحابها. فقط عثرنا على مخلفات مدينة تدعى «نوزي»، ربما كانت بعض سجلاتها باللغة الحورية، أو على التدقيق كما ذكرت موسوعة تاريخ العالم «بضع كلمات»، وتلك الكلمات البضع أبدا لم تتحدث عن نفسها، باعتبار أن اللغة المدونة بها هي لغة نوزي، كما لم تفصح لنا عن اسم شعبها، أو دولتها أو هويتها.
وهكذا تم وضع اللغة الحورية وشعبها الحوري شعب آدم الميتاني ساكن الكهوف، في ملف صغير يؤكد أن بلاد الميتاني تقع أعالي الفرات. وربما كانوا هم، احتمالا، أولئك الذين حملوا اسم بلاد آدم الحورية، وتكلموا اللغة الحورية، لكن الملف وضع مرة أخرى بين عدد من الملفات المسجلة، تحت عنوان «غير مؤكد وأقرب للمجهول».
وهنا نمسك من كل ذلك الشتات بطرف خيط، يتمثل في واحد من الأسماء المتعددة لذلك الشعب ، الاسم الذي فضل أن يطلقه على نفسه، «شعب آدم»، الذي ورد له مثيل بالكتاب المقدس لكن باسم «آدوم». وسنحاول الآن تحديد موقع «آدوم التوراتي» الجغرافي؛ للتأكد من مدى التقائه من عدمه، مع شعب آدم الحوري الميتاني (التاريخي). وهذا التحديد سيعتمد بالضرورة على ما جاء بالكتاب المقدس عن الشعب الذي سكن بلاد آدوم، إضافة إلى ما يمكن أن نعثر عليه في نصوص المنطقة إن وجدنا. ثم علينا محاولة التأكد والتيقن إن كان شعب «آدوم» التوراتي فعلا هو المذكور في المدونات التاريخية باسم «آدم/الحور/الميتاني/نهارين»؟ وفي حال الوصول إلى إجابة، سنحاول تقديم القرائن والأدلة الممكنة.
يمكن التعرف على موضع بلاد «آدوم»، التي جاء ذكرها بالكتاب المقدس من عدة مواضع ومتكررات بهذا الكتاب، أبرزها النص الذي يحدثنا عن حدود دولة إسرائيل جغرافيا، وكيف تتماس حدودها الجنوبية مع دولة تجاورها من جنوبها. ويصف موقع تلك الدولة بقوله:
تخم آدوم:
24
برية صين نحو الجنوب، أقصى التيمن.
أقصى بحر الملح من اللسان المتوجه نحو الجنوب. (يشوع، 15: 1-2)
وهو ما يعني أن الحدود الجنوبية للدولة اليهوذية - حسب سياق النص الذي ورد به الاقتباس - كانت على خط حدودي مع بلاد تسمى آدوم، وأن على تلك التخوم (الحدود) تقع برية باسم برية «صين». ومن جانبنا جهدنا بحثا على تلك الحدود في خريطة المنطقة الحالية، حتى وجدنا برية تحمل اليوم اسم برية «تسين»، دون تغيير لساني يذكر عن برية «صين»، وتقع في ذات الموضع الذي حددته التوراة لبرية صين. ثم إن هذه التخوم تقع عند أقصى بحر الملح جنوبا. و«بحر الملح» هو الاسم التوراتي للبحر الميت، وإن تخوم «حدود» آدوم هذه تبدأ عندما ينتهي لسان البحر الميت الممتد جنوبا.
وتقول التوراة: إن سكان تلك المنطقة سموا آدوميين؛ لأسباب صاغتها التوراة على طريقتها. وأهم تلك الأسباب: أن جد الآدوميين البعيد كان يدعى آدوم، وأن آدوم هذا كان شقيقا توءما ليعقوب بن إسحاق بن إبراهيم المعروف باسم إسرائيل. لقد كان المحرر التوراتي يعلم أن هناك لونا من القرابة القبلية، بين سكان بلاد آدوم، وبين الشعب الإسرائيلي، فجعل الآباء الأسطوريين للشعبين أشقاء، بل وتوائم.
ومع استمرار القراءة نفهم أن آدوم لم يكن الاسم الأصلي الأصيل لجد الآدوميين؛ لأنه كان يحمل اسما أولا هو «عيسو»، ثم بعد زمن وبعد أن كبر وأصبح شابا يافعا، اكتسب اسم «آدوم». ومرة أخرى تشرح لنا التوراة على طريقتها لماذا حمل عيسو عندما يفع شابا اسم «آدوم»؟ لتفسر لنا صفة أخرى لهذا الشعب الآدومي، تضيف لمعلوماتنا عنه مزيدا من الرصيد. وفي هذا التفسير يقدم لنا الكتاب المقدس قصة، تتضمن معلومة كان يعرفها المحرر التوراتي عن يقين، تحكي أن عيسو كان ذات يوم جائعا، فلجأ لأخيه التوءم يعقوب ليطعمه، وكان يعقوب قد طبخ عدسا. ويقول النص في ذلك:
فقال عيسو ليعقوب: أطعمني من هذا الأحمر؛ لأني قد أعييت؛ لذلك دعي اسمه آدوم. فباع بكوريته ليعقوب، فأعطى يعقوب عيسو خبزا، وطبيخ عدس. (تكوين ، 25: 30-34)
النص يقول: إن عيسو عندما أكل العدس «الأحمر»، حمل بعدها اسم آدوم. فماذا يعني هذا الكلام الساذج؟ يمكننا أن نجد مزيدا من التوضيح في نص آخر، يحكي لنا قصة ميلاد السلفين الأسطوريين للشعبين الإسرائيلي والآدومي، حيث يقول عن رفقة زوجة إسحاق، وحملها للتوءمين:
فلما أكملت أيامها لتلد؛ إذا في بطنها توءمان. فخرج الأول أحمر كله كفروة شعر، فدعوا اسمه عيسو. وبعد ذلك خرج أخوه ويده قابضة بعقب عيسو، فدعي اسمه يعقوب. (تكوين، 25: 24-26)
مرة أخرى تفسر لنا القصة ذلك الأمر الذي كان يعرفه المحرر التوراتي، وهو أن الشعب الآدومي كان «شعبا أحمر» كما هي عادة التوراة في وضع معان لأسماء الأعلام، مثل بنيامين أي: ابن اليمين. ويعقوب سمي كذلك؛ لأنه كان يمسك بعقب أخيه التوءم عيسو عند ولادته. كذلك سمي عيسو بهذا الاسم؛ لأن اسم عيسو يعني الأحمر، واسمه الثاني آدوم يعني أيضا الأحمر. وكان الترميز إلى اللون الأحمر في الاسم عيسو «فروة شعر»، والترميز إلى اللون الأحمر في الاسم آدوم «طبيخ عدس». أما معنى كلمة «آدوم» في اللغتين العبرية والعربية، فهو الصخر أو التراب «الأحمر». والمقصود هو اللون الأشقر الضارب إلى حمرة، أو الأحمر الضارب إلى غبرة. وهو الأمر الذي يرجح استنتاجات المؤرخين أن الشعب الميتاني - حسب موسوعة تاريخ العالم - من الجنس الهندوآري. وعادة ما يحمل هذا الجنس صفة الشقرة الضاربة إلى حمرة. وهذا أول القطر في محاولة التيقن من تطابق القصة التاريخية، عن شعب آدوم الحوري الميتاني التاريخي، مع الشعب الذي ذكره الكتاب المقدس باسم شعب آدوم.
ومع محاولة البحث عن تطابق، نحاول أيضا تدقيق الموقع الجغرافي لبلاد آدوم التي سكنها الشعب الحوري صاحب اللغة الحورية الكارية. نمسك بتلابيب «آدم» التي رأيناها ذات «آدوم»، لنطالع خريطة المكان الذي حدثنا عنه الكتاب المقدس جنوبي البحر الميت. فنجده امتدادا طوليا على الجهتين الأصليتين الشمال والجنوب، يسير مع امتداد «جبال الشراة أو السراة»، التي تطلق عليها التوراة اسم جبال «سعير»، التي يوازيها من الغرب واد عظيم، يمتد بنفس الطول يسمى «وادي عربة ».
لكن المصادر التاريخية وصفت شعب «آدم/التاريخي» بأنه شعب «حوري»، فهل نجد أية إشارة بالكتاب المقدس تشير إلى أن شعب «آدوم/التوراتي»، بدوره كان يحمل تلك الصفة «حوري»؟ هنا تقفز بين أيدينا نصوص واضحة، ونحن نقلب دفتي المقدس تقول:
وفي سعير سكن قبلا «الحوريون»، فطردهم بنو عيسو، وأبادوهم من قدامهم، وسكنوا مكانهم. (تثنية، 2: 12)
ها قد بدأت الأمور تنجلي بين أيدينا. ولدينا الآن قرينة جديدة، تتمثل في أن شعب «آدم» المزعوم أنه سكن أعالي الفرات، كان يحمل الصفة «حوري»، وهي ذات الصفة التي أكد المقدس على أنها كانت صفة شعب «آدوم»، الواقع على امتداد جبال السراة (سعير)، ووادي عربة جنوبي البحر الميت.
لكن النص هنا حاول القول إن «آدوم» أناس و«الحور» أناس أخر. لكن الحدث حدث في ذات المكان، حيث أباد الآدوميون (بنو عيسو) الحوريين واستوطنوا بلادهم. ونظن أن ذلك يعود إلى سبب تأسيسي. فلما كان الحوريون أشقاء للإسرائيليين، وكان معلوما أنهم هندوآريون وليسوا ساميين. وحتى لا تلحق الهندوآرية بإسرائيل؛ فقد تمت الصياغة بهذا الشكل، لكنها لم تلحق باستنتاجنا أي خلل؛ فنحن ما زلنا في ذات المكان الذي حددته التوراة. وما يشغلنا الآن هو أن ذلك الموضع كان سكنا لشعب الحور الذي نعتقد الآن، أنه ذات شعب آدوم (وهو ما سنقدم عليه قرائن كافية). شعب آدوم الذي سكن جبال عسير/السراة ووادي عربة ذلك الوادي الذي كان سببا في إطلاق اسم العرب أولا على سكان آدم وسيناء وبعض بوادي الشام القريبة. ولم يتم تعميم اسم عرب على سكان المحيط الأوسع في بوادي الشام وجزيرة العرب، إلا بعد ذلك بزمن طويل. فظل العرب هم سكان عرابة/عربة ومحطيها في النصوص الرافدية، التي بدأت ذكرهم حوالي 8ق.م. أو قبله بقليل، حتى زمن المؤرخين الكلاسيك قبل القرن الميلادي الأول، الذين أخذوا يتحدثون عن عرب جزيرة العرب المعروفة الآن. وهو أمر سيأتي تفصيل بيانه في مكانه من هذا العمل.
ونعود نمسك بأول القرائن الدالة والشاهدة «آدم = آدوم = بلاد الحور»، نحاول العثور على مزيد من التحديد الدقيق خاصة الجغرافي. وليس في أيدينا عن البلاد الذي ذكرها علم التاريخ باسم «آدوم» سوى شذرات يسيرة تماما، إضافة إلى ما ورد عنها بالكتاب المقدس. وإن نصا بالمقدس أو نصين كما أوردنا، لا يؤكدان شيئا ولا ينفيان شيئا، إزاء قضية كبرى كتلك التي بين أيدينا، نحاول فيها تحديد موضع مخالف تماما لما تعارف عليه رجال التاريخ، كموطن ومستقر للشعب الحوري الميتاني في منطقة المتوسط الشرقي، الذي أسكنوه أعالي الفرات، دونما دلائل وبيئات حاسمة واضحة كافية مؤكدة، أو حتى شبه مؤكدة.
وعليه نعود للوثيقة التاريخية الكبرى المتاحة، الكتاب المقدس، ننقب فيها بحثا عن مزيد من التأكيد، على أن بلاد «آدم» التاريخية في موقع «بلاد آدوم» التوراتية، وأن ذلك الموقع يتموضع في المساحة الواقعة بطول وادي عربة شرقي سيناء. ونقرأ قصة عن يعقوب بن إسحاق، الذي سبق وذهب في رحلة طويلة إلى الشمال السوري، ثم عاد يريد دخول فلسطين مع أنعامه وعبيده، بالعبور من جنوبي البحر الميت. لكن هذا العبور كان يعني اختراق منطقة شعب أخيه عيسو/آدوم. وهنا نجد يعقوب يضطر إلى دفع رسوم عبور عالية؛ ليتمكن من العبور عبر آدوم، إلى النقب جنوبي فلسطين. وهو ما نفهمه من النص:
وأرسل يعقوب رسلا قدامه إلى عيسو أخيه، إلى أرض سعير بلاد آدوم. وأخذ مما أتى بيده هدية لعيسو أخيه، مائتي عنزة وعشرين تيسا ومائتي نعجة، وعشرين كبشا، وثلاثين ناقة مرضعة، وأولادها. (تكوين، 32: 3، 13، 14)
ومثل تلك الهدية أو ضريبة العبور، تعني أنه كان مع يعقوب مثلها عشر مرات على الأقل، لو افترضنا أنه دفع العشر ضريبة العبور المتوافق عليها في الزمن القديم. وهو ما يفسر لنا عدم تمكنه من عبور نهر الأردن مباشرة إلى فلسطين، واضطراره للدوران من جنوب البحر الميت، بما معه من سوائم؛ لأن عددها سيصل على الأقل إلى ألفي عنزة ومائتي تيس وألفي نعجة، ومائتي كبش وثلاثمائة ناقة وأولادها، وعبوره بذلك كله على بلاد آدوم، التي وضح موضعها الجغرافي هنا كحاجز كبير يفصل شرقي المنطقة في البوادي الشامية شمالي جزيرة العرب، عن غربيها شبه جزيرة سيناء، بحيث لم يكن بإمكان يعقوب أن يجد أي منفذ للعبور، مما يعني أن سيطرة آدوم قد امتدت من جنوبي البحر الميت حتى خليج العقبة، لتغلق المنطقة تماما على أي عبور، وأن تلك البلاد كانت قبائل أو عصابات تقطع الطريق، أو دولة قوية مقتدرة تأخذ رسومها ممن يعبرون أرضها، أو تستولي على ممتلكاتهم.
وهكذا كان المحرر التوراتي يعرف بصلة قوية بين القبائل الآدومية والقبائل الإسرائيلية. وكان يعلم بالتحديد وبالقطع وباليقين، الموضع الدقيق لبلاد آدوم ومساحة سيطرتها، وأن آدوم قد سكنوا جبال سراة سعير، ووادي عربة جميعا، «فسكن عيسو في جبل سعير وعيسو هو آدوم (تكوين، 36: 8)». أما بلاد سعير نفسها فقد اكتسبت اسمها، حسب التخريج التوراتي، من اسم ساكنيها الأوائل «بنو سعير الحوري» (تكوين، 36: 20).
ما زلنا ندعم موقعنا الجغرافي لبلاد «آدم الحورية التاريخية» في بلاد «آدوم الحورية التوراتية» لمزيد من اليقين. ونعمد إلى الكتاب المقدس لنؤكد أن محرري التوراة كانوا يعلمون يقينا معلومة معروفة لديهم، بشكل واضح تماما لا تقبل الالتباس، يعودون إليها كل مرة دون خطأ واحد، مما يشير إلى أنهم بين الأساطير والترميزات كان لديهم طوال الوقت، خريطة واضحة تتأكد دوما. ونموذجا لذلك حكاية جاءت ضمن حكايا التوراة عن خروج بني إسرائيل من مصر عبورا على سيناء، في عدد هائل من البشر تحت قيادة النبي موسى. وتقول الرواية إن النبي موسى بعد أن وصل مع أتباعه حدود فلسطين الجنوبية، كان بالإمكان أن يتعرض من سكانها لرد فعل عسكري قوي، ففضل مفاجأتها بعبور الأردن من شرقيه إلى غربيه، والهبوط الصاعق على أريحا. لكن ذلك كان يعني أولا عبور وادي عربة وجبال سعير؛ كي يصبح في الموضع المطلوب حسب خطته. وبالفعل تم العبور وفق التخطيط المعد له، ولم يخبرنا المقدس إن كان موسى قد دفع رسوم عبور أم لا. لكن الصورة التي تحكيها التوراة تصور ذلك العبور تسللا هادئا ساكنا مرتعبا، رافقته أوامر إلهية بعدم التحرش أبدا بسكان بلاد آدوم، وهو ما جاء في شكل أوامر من يهوه إلى نبيه موسى، قائلا:
أوص الشعب قائلا: أنتم الآن مارون بتحكم إخوتكم بني عيسو الساكنين في سعير، فيخافون منكم فاحترزوا جدا. لا تهجموا عليهم؛ لأني لا أعطيكم أرضهم ولا وطأة قدم؛ لأني لعيسو أعطيت جبل سعير ميراثا. فعبرنا عن إخواننا بني عيسو الساكنين في سعير على طريق العربة (أي وادي عربة [المؤلف]) وعلى أيلة (حاليا ميناء إيلات [المؤلف]) وعلى عصيون جابر (في الجوار الغربي منه [المؤلف]). ثم تحولنا ومررنا في طريق برية موآب. (تثنية، 2: 8، 5، 4)
مرة أخرى يسجل المحرر التوراتي، بشديد الدقة، ذكرياته عن بلاد آدوم، فهي بلاد عيسو الساكنين في سعير، وأن بلادهم تقع في جبال تعرف باسمهم، فهي جبال سعير ووادي عربة. ومن موانيها المشهورة: ميناء أيلة، وكلها تقع في المساحة الواقعة بين البحر الميت وخليج العقبة. ويؤكد هذه الموضعة الجغرافية أن النص يقول إنه بعبور وادي عربة وجبل سعير من غربه إلى شرقه، يصلون إلى طريق برية موآب. وموآب دولة تاريخية معلومة تقع إلى الشرق من البحر الميت في قسمه الجنوبي، أي تلاصق بلاد آدوم المفترضة في هذا الموضع من الشرق، والشمال الشرقي، وهو الأمر الذي يفيد بمدى وضوح الجغرافيا ودقتها عند المحرر التوراتي.
والآن هل نجد في وثائق التاريخ كعلم ما يؤيد ما ذهبنا إليه؟ وهل ثمة إشارة إلى بلاد «آدم» كما نقصدها نحن «آدوم سعير»، في أي مدونات أو وثائق في علم التاريخ؟ وهل نجد في هذه الوثائق أية إفادات، تدعم الموقع الجغرافي الذي حددته التوراة لبلاد آدوم؟
نظن أننا عثرنا على أول تلك الإشارات، وأننا أول من عثر عليها في أكثر من وثيقة حقيقية، أولها ملحمة «كارت ملك صيدون». وتروي تلك الملحمة قصة حملة عسكرية كبرى، يقوم بها (كارت ملك صيدا على الساحل الجنوبي)، على بلاد حددت الملحمة موقعها إلى الجنوب من بلاد صيدا، وليس إلى الشمال منها بين الفرات والخابور. وكان هدف الحملة بلدا يحمل اسم «آدوم الكبرى».
25
وهو الاصطلاح الذي لا يشير لآدوم كمجرد دولة جنوبية، إنما دولة تستحق أن توصف بأنها كبرى.
وتحكي الملحمة، بالأسلوب الرمزي الغنائي الملحمي، قصة تحرك جيوش عظيمة من صيدا، تحت قيادة ملكها الذي حمل اسم كارت، ليتزوج ابنة ملك آدوم. فيما يبدو أنه كان فرضا لاتحاد بالقوة، حيث كان الزواج هو عقد الوحدة والأحلاف بين الأسر الملكية. ولا يفوتنا التنبيه إلى أن اسم «كارت» نفسه يلتقي مع اللغة «الكارية»، ومع اسم مدينة «أوغاريت» التي عثر فيها على تلك الملحمة. فهي مدينة «أو كارت»، وورد اسمها في سجلات العمارنة، بإسقاط الراء المعترضة «أوكات». فالاسم كارت يعني إذن: الكاري، أو الحوري.
ومع البحث نمسك بوثيقة أخرى، تؤكد صدق ما نفترضه هنا، فنقرأ عن حملة قام بها الفرعون «رمسيس الثالث»، اتجهت إلى بلاد يسكنها شعب يسمى بالسعيريين، وجاء النص على لسان الفرعون وهو يقول:
لقد قضيت على «السعيريين» من قبائل «شاسو».
26
ونحن نعلم أن السعيريين تعني سكان جبال سعير، لكن النص هنا لا يحدد لنا مكانا. فقط يقول: «السعيريين من قبائل شاسو». والكلمة «شاسو» كانت تعبيرا مصريا شائعا، يشير إلى بدو شبه جزيرة سيناء، مع اصطلاحات أخرى مثل «عامو» و«ستيو»، التي تطلق على الآسيويين عموما، وعلى الهكسوس خصوصا.
لكن، ألم يكن المصريون القدماء يعلمون ما عرفناه في بحثنا هنا، وهو أن شاسو (سعير) هم الآدوميون؟ وإذا كانوا قد عرفوا ذلك، فهل يمكننا أن نجد نصا مصريا قديما يفيد ذلك؟ نعم هناك نص آخر عثرنا عليه، وقد جاء في تقرير رسمي لموظف من عهد الفرعون مرنبتاح
من الأسرة التاسعة عشرة، حوالي 1224-1214ق.م. يقول فيه:
انتهينا من السماح لقبائل «الشاسو الآدومية» بتخطي قلعة مرنبتاح التي في زيكو، ليظلوا هم وقطعانهم أحياء بفضل إحسان فرعون.
27
هكذا وصف النص قبائل الشاسو بأنهم من الآدوميين. والنص الأسبق يتحدث عن الشاسو بوصفهم من جبال سعير. وهكذا أصبح لدينا قرائن كافية على معرفة المصري القديم أن الشاسو هم الآدوميون الذين يسكنون جبال سعير، مما يدعم رؤيتنا التي تموضع مركز دولة «آدم» الحورية الرئيسي في بلاد آدوم، في وادي عربة وسراة سعير؛ لأنها هي فقط التي تحمل اسم «سعير»، وليس أي مكان آخر. ولكنا نطمح إلى المزيد من القرائن التي يمكن أن ترقى بفرضنا، من مستوى الفرض المحتمل إلى مستوى النظرية، التي تحمل أدلة كافية على صدقها.
وبسبيل ذلك نتذكر النص التوراتي السالف إيراده. ويحدثنا عن ميناء باسم «عصيون جابر»، يقع إلى الجوار من ميناء يدعى «إيله»، وأن كلا الميناءين يقع في بلاد آدوم، حيث عبر موسى برجاله. وإن ما يؤكد لنا أن كلا من المينائين كان يقع على خليج العقبة، وأن «إيلات» الحالية هي بالفعل ميناء يقع بجوار إيلات. والعقبة الحالية هو أن محرري التوراة كانوا يطلقون على البحر الأحمر اسم بحر «سوف»، والشديد الدلالة هنا هو أن محرري التوراة رغم اختلافهم مشربا وزمنا بتعدد الأسفار، فإن الجغرافيا كانت واضحة لديهم؛ لأنها معالم مستقرة وثابتة. وليس هناك أية حاجة واضحة للعب بها لصالح أسطورة الشعب المختار، كما هو دأب الكتاب المقدس. فيقول لنا سفر ملوك أول: «وعمل الملك سليمان سفنا في عصيون جابر، التي بجانب أيلة في أرض آدوم» (ملوك أول، 9: 26). والنص هنا يشير إلى اتساع ملك سليمان - حقيقة أو مبالغة من المحرر التوراتي - على حساب دولة آدوم، حتى إنه اتخذ من الميناء الآدومي «عصيون جابر» ميناء له على البحر الأحمر.
وللمزيد نبحث عن أسماء مواضع وردت في التاريخ ضمن بلاد آدم، وعن أسماء مواضع وردت في الكتاب المقدس، تقع ضمن بلاد آدوم، لنحاول مطابقتها معا، ومع واقع الجغرافيا. لذلك نسير مع الأسفار شوطا بعيدا، إلى ما بعد قيام مملكة إسرائيل الموحدة زمن شاول وداود وسليمان، وانقسامها بموت سليمان إلى إسرائيل في الشمال ويهوذا في الجنوب، لنستمع إلى حديث عن حرب وقعت بين المملكة الجنوبية يهوذا، زمن ملكها المعروف باسم «أمصيا بن يوآش»، وبين مملكة آدوم. يقول ذلك الحديث: «هو (أي أمصيا [المؤلف]) قتل من «آدوم» في وادي الملح عشرة آلاف وأخذ «سالع» بالحرب» (ملوك ثاني 14: 7). والمعنى أن الملك الإسرائيلي أمصيا احتل بلاد آدوم بمجازر، واستولى على عاصمتها سالع. و«سالع» كلمة عبرية كنعانية تعني «الصخرة»، وظلت سالع تعرف بهذا الاسم حتى زمن اليونان الذين أطلقوا عليها اسما جديدا. لكنه يحمل ذات المعنى الذي كان يحمله اسم سالع، فأسموها «بترا» أي الصخرة باليونانية. واستمر ذلك الاسم بعد ذلك زمن الرومان، وحتى الأزمنة الحديثة والمعاصرة، فهي لم تزل تحمل اسم البتراء. ثم نعلم أنه في زمن الرومان كانت بترا هي عاصمة البلاد الواقعة بين البحر الميت وخليج العقبة. وهكذا تكون سالع التي ذكرتها التوراة تقع في الموقع ذاته. وهو ما يؤكد لنا طول الوقت أين تقع بلاد آدوم، التي افترضنا أنها بلاد آدم الحورية (ميتاني) التاريخية، التي موضعها المؤرخون بالفرات الأعلى بين الفرات والخابور.
ويستمر بحثنا على دأبه؛ لتأكيد موقع بلاد آدوم، بين العقبة والبحر الميت، فنجد سفر إشعيا يقول: «وحي من جهة «دومة» صرخ إلي صارخ (من سعير)» (إشعيا، 21: 11).
وعندما كانت التوراة تغضب على شعب؛ لأنه عادى شعب الرب، فإنها كانت تستنزل عليه اللعنات المرتجاة في قابل الأيام. وهو ما حدث في مراحل متأخرة من التاريخ الإسرائيلي، حيث قلبت الأيام العلاقات، وتحولت القرابات والود إلى معارك دموية . ويبدو أن بلاد آدوم كانت صلبة في صراعها مع الإسرائيليين، إلى الحد الذي دفع إشعيا ليجأر بنبوءاته تستنزل على الدمار الإلهي على آدوم:
هوذا على آدوم ينزل، وعلى شعب حرمته للدينونة للرب ذبيحة في بصرة، وذبحا عظيما في أرض آدوم، وتتحول أنهارها زفتا وترابها كبريتا، وتصير أرضها زفتا مشتعلا ليلا ونهارا لا تنطفئ. (إشعيا، 34: 5-10)
كما هو واضح، إشعيا الأريب يلحظ الأرض البركانية في المنطقة، فيتنبأ بأن فناء آدوم سيكون بالزفت المشتعل والكبريت. وطوال الوقت نجد آدوم بلادا لا تقع عند الفرات الأعلى. فالنص يذكر من مدن آدوم مدينة باسم «بصرة». وليس في أعالي الرافدين أي «بصرة»، لكنا نجد حتى الآن بصرى شمالي البتراء في سراة سعير. ثم لا يفوت المدقق أن نص إشعيا يشير إلى أن بلاد آدوم كان بها حتى زمنه أنهار تسقيها، تلك التي يتنبأ أن مياهها ستتحول إلى كبريت.
ومثل النص السالف نجد نصا آخر، يقول بلسان الرب في نبوءة النبي الإسرائيلي حزقيال:
وأمد يدي على آدوم، وأقطع منها الإنسان والحيوان، وأصيرها خرابا من التيمن إلى ددان، وأجعل نقمتي في آدوم بيد شعبي إسرائيل. (حزقيال، 25: 13، 14)
ويضيف النص هنا إلى معلوماتنا الجغرافية، كي نرسم خريطة واضحة لبلاد آدوم، فيقول: إن من مدن بلاد آدوم إضافة إلى «بصرى» مدينتين أخريين، هما «التيمن» و«ددان». وتقع «التيمن» في شرقي جبال سعير شمالي جزيرة العرب. كذلك «ددان» هو الاسم الثابت تاريخيا لبلدة العلا الحالية شمالي السعودية، مما يشير إلى توسع جغرافي نحو الشرق يتبع دولة آدوم، قد يصل بنا إلى تيماء ومدينة العلا، وجميعها كما نرى لا تقع في الرافدين الأعلى. فليس هناك أي موضع باسم «التيمن» ولا باسم «ددان».
وفي الروايات التاريخية نلمس صلات وطيدة بين مصر وبين بلاد آدم الحورية. فنسمع من علم التاريخ عن زيجات تمت بين البلاط المصري وبلاط بلاد آدم الميتاني. وهي ذات الصلات التي نلمسها في روايات الكتاب المقدس عن علاقة آدوم بمصر، وذلك في رواية يرويها محرر الكتاب المقدس حول الصراع الذي دار بين ملك الدولة الإسرائيلية الموحدة: سليمان، وبين جيرانه الآدوميين. فيروي لنا أن الملك داود ومن بعده سليمان قاما بحروب احتلا بها بلاد آدوم، فهرب رجال القصر الآدومي الحاكم بولي العهد الصغير إلى مصر. وكان اسمه «هداد» أو «حداد». ويقول النص:
إن هدد هرب هو ورجال آدوميون من عبيد أبيه معه ليأتوا إلى مصر، وكان هدد غلاما صغيرا. وقاموا من مديان وأتوا إلى فاران، وأخذوا معهم رجالا من فاران إلى مصر إلى فرعون مصر. فأعطاه بيتا، وعين له طعاما وأعطاه أرضا. فوجد هدد نعمة في عيني فرعون جدا وزوجه أخت امرأته، أخت تحفنيس الملكة. فولدت له أخت تحفنيس جنوبث ابنه، وفطمته تحفنيس في وسط بيت فرعون. وكان جنوبث في بيت فرعون بين بني فرعون. (ملوك أول، 11: 17-20)
وتلك الرواية تشي بأكثر من سر؛ فهناك صلة حارة بين ملوك آدوم وبين الفراعنة. وهي الصلة الحارة التي حدثتنا عنها وثائق تل العمارنة، بين الفراعنة وبين الميتانيين في بلاد آدم الحوري. لكن الملحوظة الهامة هي أن التقليد المصري كان يسمح للمصري بالزواج من أجنبية، لكنه لم يكن يحق للمصرية إطلاقا أن تتزوج من غير مصري، فما بالنا والنص هنا يقول إن المصرية التي تزوجت الأجنبي الآدومي كانت أميرة من البيت المالك، بما لها من قداسة دينية وقانونية. إنه أمر لا يجب أن يمر بسرعة نضيفه إلى رصيدنا نحو الكشف المأمول، حيث لم يصلنا من علم التاريخ في الوثائق المصرية، أن هناك أميرة مصرية تزوجت أجنبيا سوى في حالة «ميتاني» فقط. وهو ما تؤكد التوراة أنه قد حدث مع ملك آدوم. أفلا يعني ذلك أن «ميتاني» هي ذات عين آدوم؟
وربما حدث مرة أخرى في حالة زواج سليمان من بنت الفرعون، الذي لم تذكر التوراة اسمه. وربما كان هذا الفرعون هو شيشنق؛ لأن شيشنق هجم على دولة سليمان بعد موت سليمان مباشرة، على أن نقبل رواية التوراة عن هذا الزواج، بتحوط وتحرز، وربما بشك عظيم، فقد تكون كاذبة تماما. أو ربما نصدقها إذا نظرنا إلى زمن شيشنق كبداية لانحطاط القوة المصرية الصلفة، ناهيك عن كون هذا الزمن زمن حكم الشناشقة لم يكن زمن حكم مصري؛ لأن الشناشقة وشيشنق هذا لم يكونوا مصريين بل ليبيون؛ لأن شيشنق الأول هو مؤسس لأسرة ليبية حكمت عرش مصر. ومن هنا يمكن أن نفهم عدم حرصهم على التقاليد المصرية المقدسة.
ونعاود البحث وراء وثائق التاريخ، نبحث عما يؤيدنا، فنجد نصا يمكن أن يعطينا دليلا جديدا، هو نص آمنحتب الثاني
1436-1413ق.م. يسوقه لنا جاردنر مع تعقيباته قائلا: «نفهم من النص أن الفرعون المصري كان في مجلس شراب، فانطلق لسانه بالاحتقار لأعدائه الأجانب، بمن فيهم العجوز رباح وقوم نخسى الذين لا جدوى منهم، وأنه بعد أن عاد جلالته من رتنو العليا، وبعد أن قهر أولئك الذين لم يستشعر حبهم له، وبعد أن مد حدود مصر في حملة النصر الأولى له، عاد جلالته فرح القلب إلى أبيه آمون، ووضعهم مقلوبين على مقدم سفينة جلالته التي كان اسمها: عا خبرع مثبت الأرضين. وقد علق ستة من هؤلاء الأعداء على واجهة سور طيبة، أما السابع فقد أرسل بسفينة إلى النوبة. وهناك علق على جدار سور نبتة ليكون عبرة. ونخسى لا تبعد كثيرا عن قادش على نهر الأورنت، وهي الحملة نفسها التي جاء ذكرها على تمثال لأمنمحات عثر عليه في مدامود، يشير فيه أنه شهد جرأة وإقدام مولاه آمنحتب الثاني، حيث غزا ثلاثين مدينة في ناحية نخسى. ونلتقي بفقرة تصف تدمير مكان يدعى «شمس آدوم»، لا يبعد أكثر من مسيرة يوم عن قطنا. وهي مدينة هامة على بعد أحد عشر ميلا إلى شمال شرقي حمص.»
28
وحتى يمكن فهم النص الذي قدمه جاردنر مصحوبا بوجهة نظره الشخصية، فإن بلاد رتنو العليا اصطلاح مصري يشير إلى بلاد سورية ولبنان الحالية. بينما كان يعبر عن فلسطين ومحيطها الجنوبي باسم رتنو السفلى. ويبدو لنا أن الاسم «رتنو» من «ردن»، ومنه الكلمة «أردن». وهكذا يكون هناك أردن أعلى يقصد به نهر العاصي، الذي يحمل اسم «أورنت»، ويلتقي تماما مع كلمة «أردن» بظاهرة القلب،
29
ويكون هناك رتنو سفلى يقصد به نهر الأردن الحالي ومحيطه.
وحول قراءة أسماء الأعلام في اللغات القديمة، يبدي الباحثون قلقهم «من صعوبات البحث في التاريخ القديم عموما؛ إذ إن كتابة الأسماء القديمة لا تخضع لأية قواعد متعارف عليها. فإذا أخذنا أسماء باللغات التي لها قرابة عائلية مع اللغة العربية، مثل: الأوغاريتية والآرامية والعبرية والأكادية وغيرها، نجد اختلافا في تهجئة أسماء العلم، قد يؤدي إلى فوضى في هوية الأسماء الشخصية وأسماء الأماكن.»
30
ونعود إلى قصة حملة آمنحتب الثاني، الذي اضطر عند عودته من بلاد رتنو إلى تدمير موضع باسم «شمس آدوم». وليس في المناطق الشمالية بين الفرات والخابور، أي آدوم. وليس هناك موضع باسم شمس آدوم. فقط لدينا آدوم التي نتحدث عنها، الواقعة في البلاد في البلاد الصخرية، في محيط جبال سراة ووادي عربة. ومن هنا يجب استبعاد ملاحظة جاردنر التوضيحية، التي ليست بالنص المصري، والتي تقول : إن شمس آدوم تبعد عن «قطنا/حمص» مسيرة يوم. ويجب في ظل ما جمعناه حتى الآن، أن نفهم أن حملة آمنحتب الثاني عند عودتها إلى مصر، هبطت إلى بلاد سعير الحوري في حملة تأديبية، اضطر معها إلى تدمير شمس آدوم، أو عاصمة آدوم. ويدعمنا في ذلك التفسير أنه قد ترافق في النص مع اسم شمس آدوم، اسم لموضع آخر باسم قادش. فبماذا تفيدنا قادش هنا؟
إن الدارس للجغرافيا القديمة للمنطقة، سيكتشف أنه كان هناك أكثر من «قادش». فالكلمة تعني الحرم والمقدس والقدس والقديس (قديش بالعبرية). فهناك واحدة من تلك القوادش في الشمال السوري على نهر العاصي، ثم هناك أخرى في الجليل الفلسطيني تعرف في التوراة باسم قادش نفتالي، ثم لدينا أهم القوادش قادش أورشليم التي استقر اسمها في العربية «القدس». ثم نعلم من التوراة بوجود قادش أخرى تقع في سيناء وجنوبي فلسطين، وردت معرفة مرتين: مرة باسم «قادش برنيع»، ومرة أخرى باسم «قادش عين مشفاط». وورد ذكر قادش سيناء هذه أكثر من مرة في قصة البطرك إبراهيم، وفي قصة الخروج الإسرائيلي من مصر ، حيث كانت محطة كبرى للخارجين من مصر عند آخر حدود سيناء الشرقية. وقد استقروا فيها ثمانية وثلاثين عاما بعد رحيل في سيناء استمر سنتين، وهو ما جعل رحلة التيه تستغرق أربعين عاما.
ووفق الإحداثيات المعطاة لنا بالتوراة حول قادش سيناء، فإنها لا بد أن تكون قد قامت على الحدود الغربية لبلاد آدوم الجنوبية لبلاد فلسطين الشرقية لشبه جزيرة سيناء. ونظنها هي بالتحديد المقصودة قادش الواردة في نص آمنحتب الثاني؛ لترافقها مع شمس آدوم.
شكل رقم «39»: خريطة تبين موقع بلاد آدوم.
وللتبسيط السريع نقتطع بعض الإحداثيات التي أعطانا إياها الكتاب المقدس، وتتعلق بالموضع «قادش» لتأكيد ارتباطها بشمس آدوم، وبلاد آدوم فيما نزعم.
في قصة ميلاد إسماعيل بن إبراهيم يتم طرده هو وأمه هاجر، فيذهبان ليستوطنا في بادية تحمل اسم «برية فاران» (تكوين، 21: 21). وفي موضع آخر بالتوراة نجد قادش سيناء تقع في محيط بريتين، الأولى باسم «برية فاران» (عدد ، 3: 26). والثانية باسم «برية صين» (عدد، 20: 1). وبالبحث علمنا أن برية فاران هي برية «باران» الحالية. التي تقع على حدود سيناء الشرقية، وتتاخم من الغرب بلاد آدوم الحورية. وإلى الشمال من «باران» عند لسان البحر الميت الجنوبي غربا، نجد برية باسم «برية تسين»، وهي ما يطابق «صين» التوراتية. وقد أكد الإصحاح العشرون من سفر العدد أن قادش، كانت تقع في طرف تخوم آدوم الغربية، وبذلك تقع جنوبي فلسطين. ويؤكد ذلك بشكل آخر سفر يشوع، ضمن المدن الواقعة على الحدود الجنوبية لفلسطين:
وكانت المدن القصوى التي لسبط يهوذا إلى تخم آدوم جنوبا: قبصئيل، وعيدر، وياجور وقينة، وديمونة، وعدعدة، وقادش، وحاصور، ويثنان. (يشوع، 15: 21، 22، 23)
وفي تحديده لأرض يهوذا بفلسطين، أوضح الكتاب المقدس أن حدودها الجنوبية «جانب الجنوب يمينا، من تامارا إلى مياه مريبوت قادش النهر إلى البحر الكبير» (حزقيال، 47: 19).
31
بل إن المسافة بين قادش النهر هذه وبين جبال سعير بآدوم، قد تم تحديدها في قول المقدس: «أحد عشر يوما من حوريب على طريق جبل سعير إلى قادش برنيع» (تثنية، 1: 2).
وإعمالا لهذه المعطيات الإحداثية تم تحديد قادش سيناء عند الأركيولوجي «ترامبول»، بموضع «عين قديس» الآن شرقي سيناء. وكان معنى أن يسكنها عدد هائل من البشر الخارجين من مصر تحت قيادة موسى لمدة ثمان وثلاثين سنة، أنها كانت عامرة ومؤهلة طبيعيا بكميات من المياه؛ لإيواء هذا العدد من البشر. وتتكرر إشارة الكتاب المقدس مرة أخرى إلى أنهار بالمنطقة، كانت تجري في هذه المنطقة زمن الأحداث، فهي «قادش النهر» (حزقيال: 47).
وهكذا نرى أن قادش سيناء هي المقصودة في حملة آمنحتب الثاني، حيث يقول بعد تدميره شمس آدوم إنه «عاد» إلى قادش فقدموا له الولاء، وعاد إلى مصر بعدد كبير من الأسرى يصل إلى 15070 من النجاسو.
32
ولا نعرف الآن - ومؤقتا - ماذا تعني كلمة النجاسو، مع ملحوظة لها أهميتها وردت في نص الجملة، وإن كانت غير مقروءة بوضوح تشير إلى «العابيرو»، وهي الكلمة التي كانت تفسر كلما وردت بأنها تعني العبرانيين.
33
وفوق كل ما سلف، فإنك تلمس في قراءتك للمقدس التوراتي إشارات واضحة، إلى أن شعب آدوم لم يكن شعبا عاديا في المنطقة، بل كان شعبا من الكبار الأذكياء الحكماء، وهي صفات تشير إلى كيان هام بالمنطقة، يردد عنه الكتاب المقدس الذكريات بلسان الرب الإسرائيلي مهددا:
ألا أبيد في ذلك اليوم - يقول الرب - الحكماء من آدوم، والفهم من جبل عيسو؟ فيرتاع أبطالك ياتيمان؛ لكي ينقرض كل واحد من جبل عيسو بالقتل، من أجل ظلمك لأخيك يعقوب، يغشاك الخزي وتنقرض للأبد. (عوبيديا، 1: 8، 10، 9)
الفصل الثاني
سالع/البتراء ... ونظرية جديدة
كانت مدينة البتراء الواقعة تقريبا في منتصف المسافة ما بين البحر الميت وبين خليج العقبة، آخر عاصمة لآخر دولة كبرى قامت في تلك البلاد، تلك الدولة التي عرفت باسم دولة الأنباط. وجاءنا ذكر البتراء مع الشعب الذي عاش في تلك المنطقة، زمن الإمبراطورية الرومانية باسم شعب الأنباط. وهي مدينة لا مثيل لها ولا شبيه في العالم أجمع، وتقع على بعد ستين ميلا شمالي العقبة، على تقاطع خط طول 35,26 شرقا مع خط عرض 30,20 شمالا، إلى الغرب مباشرة من معان. وهي معان التاريخية التي كانت محطة ترانزيت كبرى باسم «معان مصران» أي معان المصرية. وترتفع البتراء بحوالي 2700 قدم عن سطح البحر، وتحيط بها سلسلتان من المرتفعات، يفصل بينهما مقدار ميل.
وتقع مدينة البتراء وسط مجموعة جبال هضبية، بعضها أقماع صخرية هائلة، يغلب على صخرها اللون الأحمر، الموشى بكل ألوان قوس قزح، مع الدرجات اللونية الانتقالية بين الألوان الفصيحة.
وتبعد البتراء عن عمان العاصمة الأردنية بحوالي 262كم إلى الجنوب منها. وتحدها من الشمال قرية وادي موسى ذات الينابيع الشهيرة بمياهها المعدنية المتميزة، والتي كانت لا شك أشد تدفقا من الآن في القرون البعيدة الخوالي. وإلى الغرب من «البتراء»، وعلى الحدود مع شبه جزيرة سيناء، يقع وادي عربة بجماله الجليل. وفيه يقع الجبل المعروف باسم هارون، والذي يقول الكتاب المقدس إن اسمه كان أيضا «جبل موسير»، وتزعم أنه حمل اسم «هارون»؛ لأن هارون مات ودفن فيه. لكن رواية المقدس ذاته تقول: إنه كان يحمل اسم جبل هارون، قبل أن يعرفه هارون شقيق موسى. أما إلى جنوبي البتراء، فيقع وادي صبرة وجبل تمناع، الذي تكتبه التوراة جبل «تمنه»، حيث توجد هناك بقايا مناجم النحاس، وأفران قديمة لتصنيعه. وقد سيقت بشأن تلك المناجم والأفران فروض كثيرة، لتحديد زمن إقامتها هناك، فنسبها البعض إلى المصريين، وهناك من نسبها إلى الملك الإسرائيلي سليمان. أما شمال البتراء فهو الامتداد الطبيعي لوادي موسى والبيضا.
وعند زيارتك للبتراء ستكتشف أنك أمام موقع من أشد المواقع المحصنة تحصينا طبيعيا في العالم. في جبالها تتناثر «الكهوف» التي تكشف كل يوم عن آثار تركها لنا أهلوها. لكن ما يعلمه التاريخ الآن عنها بثقة لا يبعد أكثر من القرن الثالث قبل الميلاد، حيث قامت في تلك البوادي مع اتصالها ببادية الشام، دولة كبرى وسعت حدودها جنوبا، حتى بلغت وادي القرى شمالي جزيرة العرب، وشمالا حتى دمشق، وغربا كل سيناء حتى السويس بمصر. ووصلت إلى مجدها القصي في القرن الأول الميلادي، فأصبحت في زمنها دولة تجارية كبرى في العالم آنذاك، وساعدها مركزها الاستراتيجي جغرافيا على الإمساك بعنان تجارة العالم حينها. فما كان ممكنا أن تمر تجارة عبر أي خط من خطوط الجهات الأصلية للعالم القديم، دون المرور على دولة الأنباط. وقد أمسى واضحا أن توسع تلك الدولة حتى دمشق شمالا، كان القصد منه الإحاطة بمساحة الخطوط التجارية جميعا، بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، فتحكمت تماما في طرق التجارة، ووقفت تضغط بمكوسها وجباتها الجمركية الباهظة على عصب حياة الدول المحيطة بها جميعا، فاكتسبت عداءها جميعا.
وكانت منتجات العالم القديم من بخور وعطور ومواد طبية ومنسوجات وحرائر، تجد طريقها أولا - عند العبور - إلى مخازن مدينة البتراء. ومن ثم وجدت روما أن دولة الأنباط قد توسعت على حسابها أكثر مما ينبغي، وحققت ثراء فاحشا قد يغريها بمزيد من الأطماع التوسعية. فدخلت صراعا مريرا مع البتراء، ووقفت فيه البتراء ندا شديد المراس. ولم يجد الرومان من سبيل سوى خطة طويلة النفس، بدأت بإيجاد طرق أخرى فرعية بديلة لطرق التجارة التي تمر ببلاد الأنباط لضربها اقتصاديا. وما إن بدأت بوادر الضعف تظهر على دولة التجار، حتى حان وقت الضربة القاضية، فوجهت روما نحوها حملتها الكبرى، لتحتلها عام 106 ميلادية، وتحولها إلى ولاية رومانية تابعة، ثم عاملتها بإهمال شديد نكاية في مقاومتها السالفة. ولم يأت القرن السابع الميلادي، حتى كان آخر ضوء خافت للبتراء يضيع باهتا في الألوان البارزة لأفق التاريخ. وضاعت معالمها من ذاكرة الإنسانية تماما، وظلت في عزلتها الصخرية، حتى أعاد اكتشافها وتذكير العالم بها، الرحالة السويسري «بوركها ردت».
وإلى الشمال الغربي من عاصمة الأنباط تقع برية «باران» (التي نراها تلك المذكورة في الكتاب المقدس باسم «فاران»). وهي البرية التي تقول الأسطورة: إن هاجر محظية إبراهيم، قد أخذت إليها ولدها إسماعيل، بعدما طردها سيدها إبراهيم هي وولدها بأوامر من زوجته سارة، بدوافع الغيرة والصراع على الميراث، حسبما جاء بالمقدس التوراتي. ونعلم من سلسال النسب التوراتي أن «إسماعيل»، نشأ وربي يافعا في برية «باران/فاران»، وتزوج من العماليق، مما يعني أن العماليق كانوا من سكان تلك المواضع، وأنجب أولادا كان أشهرهم ذلك الذي حمل في التوراة الاسم «نبايوت ». وهو بلا شك ذلك الذي ذكره التأريخ الإسلامي باسم «نابت» ابن اسماعيل. وهنا لا بد أن تبرق في الذهن علاقة نابت الذي سكن غربي البتراء في فاران، والشعب الذي جاءنا ذكره قاطنا للمنطقة ذاتها، باسم «الأنباط» جمع «نابط» أو «نابت»، بالبلاد التي أطلق عليها المصريون اسم «بنط» أو بنت. بالطبع لن تكفينا هنا المطابقات الفونيطيقية وحدها ولا تسعفنا. فقط أردنا التمهيد لغرضنا مؤقتا بهذه الإشارة: هل كانت بلاد بونت هي المملكة الآدومية القديمة، وأنها نفس المكان الذي قامت من بعدها بزمان، مملكة الأنباط المعاصرة للزمن الروماني؟
وكي تدخل مدينة الصخر، فعليك في حال قدومك من الشمال، أن تمر عبر ممر طبيعي شديد الضيق، ينتهي بك مباشرة إلى قلب العاصمة، يطلق عليه سكان المنطقة الآن اسم «السيق». ويبدو أن الاسم تلوين لهجوي على كلمة الشق، فهو بالفعل شق - يثير الرهبة العظيمة - في جبل هائل. ويبلغ عرض السيق في أغلب المناطق مترين، ويتسع في بعضها إلى عشرة أمتار تقريبا. أما بعض مناطقه فربما لا يمكنك أن تدور فيها بحصانك.
ويعتمد الأهلون هناك الآن في معاشهم على السياحة، وأهمها تأجير الخيول للسائحين لعبور السيق. وهو العبور الذي يستغرق حوالي نصف ساعة رهابية، بين حائطين جبليين عظيمين يكادان ينطبقان، ويكادان يخفيان ضوء النهار في ذلك الشق الأخدودي، الذي ترتفع حوائطه الجبلية حوالي مائة متر أو يزيد، حسب تقديراتي الشخصية.
وبعبور السيق تخرج إلى ضوء النهار الفسيح الفصيح مرة أخرى، لتجد في مواجهتك مباشرة ذلك الأثر الهائل الذي يخطف بصرك وعقلك وقلبك معا، ذلك الجمال الأخاذ في تفرده المبهر إلى حد الصدمة. ويطلق عليه أهالي المنطقة اسم الخزنة أو خزنة فرعون. وهو حفر عظيم ونحت هائل في صخور الجبل المواجه لمخرج السيق، يشهد لبناته بالعظمة القادرة، ويعد من بين أروع آثار الدنيا، وأعجب فنون النحت في تاريخ العالم، في صخر ملون يقع في النفس موقع الجليل، لا تملك معه النفس، من الرهبة، سوى أن تسري برجفتها في الجسد تواضعا أمامه.
وعند دخولك الخزنة ستجد نفسك في غرفة كبرى، مساحتها حوالي أربعين قدما مربعا، غير مزخرفة، تفضي بالداخل إلى غرف كثيرة صغيرة، منها غرفتان كثيفتا الزخرف. وعندما يهدأ روعك وتبدأ في متابعة دليلك، ستذهب معه إلى مدرج المسرح الكبير، الذي نحت بدوره في الصخر نحتا. كل شيء هنا منحوت في الصخر، حتى مقاعد المتفرجين الأربعة آلاف قد حفرت على هيئة مدرجات في الصخر، مكونة من ثلاثة وثلاثين صفا من المقاعد المنحوتة. كذلك ضريح الجرة، وهو حفر عميق في الصخر، صنع من المكان قاعة شبه مربعة، يبلغ طول الضلع فيها حوالي عشرين مترا. ولا تملك سوى الانبهار بكم العروق الملونة في الصخر والحجر، الأبيض والأسود والأحمر والأخضر، وما بينهما من درجات لونية. أحجار ليست ككل الأحجار، فهي إعجاز فني، لكنه من فنون الطبيعة البكر.
وبعد المسرح بمسافة قصيرة تصل إلى وادي بترا، وكله معالم آثارية نحتت على الجانبين. فعلى يمينك جدار الخبتة الكثيف، وعلى يسارك سلسلة جبل العطوف. وهناك ممر رملي يستدير حول العطوف متجها نحو الغرب، حتى يصل إلى بداية الشارع المسقوف. وهناك منحدران: الأول يستمر قدما حتى يصل إلى مسافة أبعد نحو الشمال الشرقي، حيث يوقفك في مواجهة قصر «بنت فرعون» أو قصر «البنت»، كما يسميه السكان الآن هناك. وكان فيما يبدو قصر الحكم ومركز الإدارة، أو أن تختار المنحدر الثاني عن يمينك، فيصل بك إلى ما يسمى القبور الملكية. وعند الاقتراب من الشارع المسقوف، لا بد أنك ستصاب بدهشة بالغة، عندما تجد بقايا نافورة عامة كبرى، تقع عند ملتقى وادي موسى بوادي متاهة، وهو الأمر الذي يشير إلى وفرة عظيمة في الماء في ذلك الزمان، وهو ما يعني أيضا وفرة أعظم زمن الدولة الآدومية القديمة.
وبالعودة إلى الطريق الرئيسي الذي ينفتح على الجبال المحيطة بالمدينة، ستجد مساحة واسعة كانت فيما يبدو سوق المدينة في عصور ازدهارها. وينتهي ميدان السوق بشارع تم تمهيده بالصخر وتزيينه بقوس نصر، وعلى يساره يقع قصر ال «بنت» الذي يرتفع سامقا عشرين مترا أو يزيد. أما الأكثر دلالة فهو أن أهل المنطقة يطلقون عليه تبادليا مع اسمه «قصر البنت» اسما آخر هو «قصر الفرعون» ثم اسما ثالثا هو «قصر بنت فرعون». لكن الصيغة المتواترة عند سكان المنطقة هي فقط «قصر البنت»، ولا يفسر علاقة فرعون وابنته بهذا الموضع، في الذاكرة والموروث الشفاهي حتى اليوم، سوى الروايات القديمة عن زواج الملك الآدومي بشقيقة الملكة المصرية تحنفيس.
وإضافة إلى ظاهرة النحت تترافق ظاهرة إقامة المباني عالية فوق أعمدة منحوتة من الصخر. ونموذجا لها قصر البنت هذا، كذلك المبنى المسمى بالدير، وعدد آخر من البيوت المقامة فوق أعمدة، لا تفسير لرفعها هذا عن الأرض، سوى تعرض تلك الأراضي في بعض فترات العام إلى الغمر بمياه السيول المتدفقة من الوديان إلى البتراء، وأن هذه الأعمدة الحجرية كانت التطور الطبيعي للبيوت الكوخية، المرفوعة على أعمدة خشبية زمن دولة آدوم القديمة.
وقد بني قصر «بنت» على مرتفع عظيم من الحجر الملون، مزخرف من الداخل بالجص، ويقف على منصة عالية من أفاريز الأعمدة. ومن هنا يمكنك أن ترى، غير بعيد منك، صخرة الحيس المسماة بالقلعة، والتي لم يتبق من آثار فوقها سوى كسر فخار وبعض الخرائب. وعلى الجانب الشرقي لصخرة الحيس يمكنك الاستمتاع بزيارة معبد قوس قزح، الذي يطابق مسماه واقعه، فهو قطعة فريدة من الجمال اللوني المتمازج.
وفي الجوار قمة شاهقة منيعة، تسمى الآن أم البيارة، اكتشفت عليها كسر خزفية قديمة من زمن الآدوميين، وبقايا قلعة آدومية. وقد ذهب البعض إلى أن أم البيارة، كانت هي عاصمة بلاد آدوم الواردة في التوراة باسم «سالع». وترتفع أم البيارة من زاويتها الشمالية الغربية، نحو 3772 قدما فوق سطح البحر، ومن هنا يمكنك أن تعد حولك على مدى بصرك، ثلاثة عشر مبنى تطل جميعا على العاصمة. ومن حواليك فوق صخرة الحيس ستجد أحواضا ضخمة عميقة، كانت فيما يبدو مخازن للمياه زمن مجد البتراء. ويمكنك ببعض الجهد أن تصل إلى القنوات التي حفرت في الصخر لتجري المياه من خلالها.
ويعد المبنى الذي يطلق عليه الآن اسم الدير، أضخم آثار مملكة الأنباط . ويقع على قمة جبل (إنهم شعب يسكن دوما المرتفعات والعليات)، ويرتفع هذا الجبل حوالي نصف كيلو متر، تصلك به من السفح سلالم صخرية تم نحتها في ذلك الجبل تدرجا نحو القمة. أما الدير نفسه فترتفع مبانيه حوالي خمسة وأربعين مترا، ولا تقل واجهته بحال عن سبعين متر طولا، وهي الواجهة التي تقف بدورها على أعمدة تعلوها التيجان، ومن فوقها الشرفات المنحوتة تذكرنا بنموذج الدير البحري، الذي أقامته حتشبسوت بعد بعثتها إلى بلاد بونت. (انظر الشكل رقم «40».)
شكل رقم «40»: الدير البحري.
أما بقايا آثار الحياة القديمة، التي كانت تضج بها عاصمة الأنباط، فتظهر واضحة في القنوات الجافة المحفورة صناعيا في الصخور، وتمتد حتى وادي موسى، عندما كانت مياه العيون في عنفوان تدفقها تروي جنة البتراء. وحتى الآن تتناثر في المنطقة شجيرات برية، تكاد تكون خاصة بهذه المنطقة، وزهور برية تضفي على المكان مزيدا من الجلال، وحتى الآن لا تزال قرية وادي موسى، تزرع على مياه الينابيع، التي أخذت في الخفوت بعد مرور عشرات القرون، القمح والشعير والبقوليات، مع مزارع كروم ورمان وتفاح و«تين».
ورغم أن زمن الأنباط كان آخر أضواء المنطقة، مما يشير إلى ذبول مماثل قد حدث على الترافق للينابيع المتدفقة هناك، فإن «ديودور الصقلي» قد سجل في القرن الأول الميلادي، أن الأنباط كانوا أغنى أهل زمانهم، وأن ثروتهم الرئيسية جاءتهم من التجارة التي كانوا يحملونها من الجنوب إلى الشمال، وإلى بلاد مصر والشام وإمبراطورية الروم، وأنهم كانوا يتجارون بكل شيء يقع تحت أيديهم، حتى الزفت والقار الطافح على سطح البحر الميت، كانوا يحملونه إلى مصر، باعتباره من مواد التحنيط الرئيسية.
وهنا يتساءل المؤرخون: «كيف تأتى لهم أن يصبحوا أمة زراعية، تعنى بأدق طرق الري ووسائله؟ ومتى أحرزوا تللك القدرة على الفن المعماري؟ ومتى قيض لهم أن يتفوقوا في فن النحت؟ ومن أين ومتى اقتبسوا ذلك النظام الإداري الدقيق، وتلك الديمقراطية الفذة؟ أسئلة كثيرة لا نملك إجابة لها سوى أنها امتداد لحضارة سابقة سامقة، عرفت فنون الزراعة وأتقنتها. ولكن الحقيقة تقف أمامنا ساطعة، وهي أننا إزاء تطور خطير جريء. ويشهد استرابو أن بلادهم كانت غنية بالفواكه، وأن مدينتهم نفسها كانت تشتمل على حدائق. حتى ليقول استرابو: إنهم جد شغوفين بالاحتياز والملك. وأصبحت بترا ملتقى الناس من شتى الأمم، وأصبحت قاعات المحاكم فيها تغوص بالغرباء.»
1
وإذا كان الدلفين من الآلهة الهامة المعبودة في ذلك المكان الصخري، حسب التماثيل الكثيرة التي وجدت هناك للحوت من نوع الدلفين، فهو يشير إلى علاقة واضحة بالبحر، وأن النشاط التجاري هناك لم يقتصر على الرحلات البرية وحدها.
أما الأشد إبهارا، فهو أن تجول عيناك في الجبال حولك، لتطالع تلك الأبنية المقامة على الأعمدة، والتي تتوازى مع فوهات الكهوف التي حفروها في الجبال حفرا، على مدرجات الصخور. وهي الكهوف التي لا شك كانت مساكن لا قبورا كما يقال الآن. مساكن فريدة تتناثر في صفحات واجهة الجبال في الأعالي، كما لو كانت أعشاشا للنحل لمن يراها من بعيد، يصلون إليها بمدرجات صخرية، ثم سلالم خشبية. بينما تنتشر الدرجات الصخرية المؤدية إليها في منحنيات السفوح لتصلك بأعاليها. لكنك دوما، وفي أي موقع، بحاجة إلى سلم خشبي نقال، يضعك في مواجهة فتحة غائرة لكهف من كهوف بيوت الصخر.
والآن يمكننا القول: إن كل هذا العرض لم يكن فقط لمجرد التعرف على المنطقة، التي سبق وقامت فيها حضارة آدوم القديمة، وعاصمتها «سالع»، بل بغرض أشمل من ذلك وأكبر؛ حيث تقوم فرضيتنا الأساسية في هذا الجزء من العمل، على أن بلاد بونت التي جاء ذكرها متكررا في النصوص المصرية. وما جاء بشأن تفاصيلها الدقيقة في لوحات حتشبسوت بالدير البحري، والتي عرفت باسم «أرض الإله»، وكانت بلادا تستحق تجريد الحملات عليها بين حين وآخر، كما تستحق الزيارات الودية للتبادل التجاري في أحيان أخرى، وباعتبارها مع ذلك بلادا ذات صلات حميمة بمصر، للحد الذي لم يرسم فيه المخصص الهيروغليفي للبلاد الأجنبية، عند ورود اسم بونت في المدونات المصرية. إن بونت هذه إطلاقا لم تكن تقع في إفريقيا، ولا على سواحل عمان، ولا في اليمن، ولا على سواحل عسير بجزيرة العرب الغربية، ولا هي فلسطين زمن سليمان كما ذهب «فليكوفسكي»، حيث ارتحل «فليكوفسكي» ذات الرحلة بالحملة من مصر إلى العقبة. لكن كي تزور حتشبسوت الملك سليمان الإسرائيلي في أورشليم بحسبانها هي ملكة سبأ فيما يزعم، ولا هي في بلاد الهند أو أمريكا، إنما هي على وجه التحديد حسبما جمعنا من مادة علمية هائلة كما وكيفا، وما حشدنا من قرائن وبراهين وأدلة ستتتالى في مواضعها من هذا العمل، هي تلك البلاد التي ذكرتها نصوص مصر باسم آخر هو بلاد «ميتاني». وحسب نظريتنا لا تقع «ميتان» بعاصمتها الكبرى في أعالي الرافدين بين الخابور والفرات. إنما تقع تماما في المساحة التي ذكرها الكتاب المقدس باسم آدوم، على الحدود الشرقية لسيناء، حيث عاش الشعب الحوري الغامض، بلغته الغامضة، وتاريخه الغامض، ذلك الشعب الموصوف بأنه شعب أحمر. وفي هذه الحال يكون الميناء الذي استقبل سفن حتشبسوت في بلاد بونت، هو أحد الموانئ القديمة الواقعة على رأس خليج العقبة.
وإذا كانت عاصمة تلك البلاد زمن الآدوميين القديم، قد حملت اسم «سالع»، فإننا نجد لهذا الاسم مطابقا مدهشا في نصوص حتشبسوت التي تحدثت عن مدينة كبرى في بلاد بونت تحمل اسم «أوزالت»
2
أو «أوسالعت»، الذي يتطابق مع اسم سالع تماما. وهي المدينة التي حملت اسم البتراء مع آخر ضوء باهت لها زمن الأنباط. والحقيقة أن كليهما (سالع، والبتراء) يعنيان معنى واحدا يدل على طبيعة المكان ومناعته، فالمعنى هو كما سلف «الصخرة».
وفي قاموس الكتاب المقدس نقرأ تحت مادة «سالع»:
اسم عبراني معناه: «صخرة»، وهي أمنع موقع في أرض آدوم، كان يهرع إليها الآدوميون كقلعة حصينة لا تقهر وقت الحصار الحربي؛ لأنها تقع على قمة جبل. وقد أقام سكانها في الأعالي في شقوق الصخر في القرن الرابع قبل الميلاد انتقلت بترا من الآدوميين إلى العرب النبطيين، الذين جعلوها أفضل البقاع الزراعية، بفضل نظام الري الرائع وخزانات المياه، فعمروا الصحراء، كما استخدموا أفضل الأساليب الحربية المعروفة وقتئذ، وأدخلوا عليها التحسينات. وكانت بلادهم مركز التجارة القادمة من الشمال والجنوب والشرق والغرب، وكانت الأسرة الحاكمة تضم عددا من الملوك باسم الحارث. وقد ورد ذكرهم في: (2 كورنثوس 11: 32).
انتهت مملكة النبطيين سنة 105 بعد المسيح، عندما هاجمها الإمبراطور الروماني تراجان، وصارت مدينة الصحراء العربية الجميلة مقاطعة رومانية. وقد كشف مكانها المستكشف والرائد المشهور بركهاردت عام 1812م، بعد أن أخربت في عام 629م، فتمت فيها نبوءة إرميا (49: 16، 17). ويزور سالع اليوم سياح كثيرون، ويمكن الوصول إليها من جهة الشرق عن طريق جسر اسمه السيق، ويبلغ طوله ميلا واحدا. وهو محاط من جميع نواحيه بصخور ذات ألوان طبيعية رائعة، تختلف من فعل الماء. ويسمى هذا الجسر أيضا بوادي موسى. ويزعم الأعراب الساكنون هناك، أنه تخلف عندما ضرب موسى الصخر بعصاه. ويخترق الوادي طولا نهر صغير اسمه عين موسى. وجدران الوادي من صخور رملية منضدة بألوان قرمزية ونيلية وصفراء وأرجوانية، واسم قلعة سالع اليوم: أم البيارة.
والتعبير «أم البيارة» يشير مرة أخرى إلى تلك الأزمنة الخوالي، عندما كانت العيون المتدفقة بأنهارها تروي جنات آدوم؛ لأن البيارة هي البقعة الخصيبة، فما بالنا وهي «أم البيارة»؟ وبالكتاب المقدس سفر باسم «عوبيديا» كرس نفسه، وقصرها على صب اللعنات على بلاد آدوم. تقول بعض مقاطعه:
رؤيا عوبيديا: هكذا قال السيد الرب عن آدوم: إني قد جعلتك صغيرا بين الأمم. أنت محتقر جدا، تكبر قلبك قد خدعك أيها الساكن في محاجئ الصخر، رفعه مقعده القائل في قلبه: من يحدرني إلى الأرض؟ إن كنت ترتفع كالنسر، وإن كان عشك موضوعا بين النجوم، فمن هناك أحدرك، يقول الرب. (عوبيديا: 1-4)
أما أن ذلك الموضع الفريد، كان من بين أغنى المواضع الخصيبة المزروعة بالمنطقة، فهو ما يمكن استنتاجه من قصة لوط بالتوراة، وهو يرحل بأهل بيته وممتلكاته، ميمما إلى المنطقة الواقعة شمالي آدوم المعروفة بدائرة الأردن، عند جنوبي البحر الميت، ليقيم هناك، شارحا سبب هذا الاختيار في قول النص: ... فرفع لوط عينيه ورأى كل دائرة الأردن، أن جميعها سقى الرب قبلما أخرب سدوم وعمورة، كجنة الرب كأرض مصر، حين تجيء إلى صوغر. (تكوين، 13: 10)
ولم تزل صوغر حتى الآن قائمة باسمها القديم التاريخي جنوبي البحر الميت في بلاد آدوم. أما قول التوراة إنها كانت جنة قبل أن يخربها الإله، فهو ما يستدعي ذكريات قديمة دونها المؤرخ «أورسيوس/هروشيوش» في قوله:
وقد وصف الفلاسفة في كتبهم بلدا كان يقع في أفنية العرب، يدعى في ذلك الزمان «بنطابلس» سكنه قوم من بني كنعان، أحرقته نار نزلت عليه من السماء.
3
والتعبير «بنطابلس» تعبير يوناني يعني المدن الخمس أو الخماسية، لكنه أيضا «بنط - بوليس» الذي يعني أيضا «بلاد بونت». وسنرى أن تلك المنطقة قد اشتملت دوما على بلاد سميت بالأرقام، فأصحابها كان لهم اهتمام خاص بالأرقام؛ لأنهم تجار، مثل مدينة «أربع» وهي حبرون (الخليل حاليا)، ومثل مدينة السبعة أو «بير سبع» ... إلخ. والمعلوم أن المنطقة الخماسية كانت هي بلاد آدوم تحديدا؛ لاشتمالها على خمس مدن ممالك متحالفة، سيأتي تفصيل ذكرها في حينه.
ومثلما كانت بلاد بونت لغزا غير محلول، فإن اسمها نفسه لم يجد حلا، ولم يزل يحير العلماء حتى الآن. وهل كان اسما له معنى؟ وهنا نسوق اجتهادات افتراضية، ربما تكون مصيبة وربما تكون خاطئة، فربما كانت تعني ما تعنيه في اليونانية «البلاد الخماسية». ثم هناك افتراضات أخرى نؤجلها لموضعها من البحث، ونطرح الثاني، وهو أن بونت مؤنث «بون»، والبون هو الحجر القمعي المخروطي. وهو ما تجده في تسمية الحجر الهرمي المقدس في مصر القديمة المسمى «بن - بن»، كما لو كان تيمنا بأرض مقدسة تأخذ هذا الشكل المخروطي (جبال موسى وكاترين كلها أقماع مخروطية)، وعادة ما كانت قمة المسلة ترمز إلى ذلك الحجر. والمقصود أن «بونت» تحمل بذلك شرحا لمعنى وصورة جغرافية صادقة لجبال البتراء الحورية، أي إن «بونت» بدورها ربما - وإلى حد مقبول - كانت تعني الصخرة، واسمها يلتقي مع الأنباط، أي سكان الصخر أو الصخريين، وهم من قلنا إنهم ينتسبون باسمهم إلى نابت أو «نبت» ابن إسماعيل بن إبراهيم، واسمه بالقبل «بنت». وإذا كانت البتراء هي بلاد بونت كما نزعم، فإن ذلك يفسر لنا الحكمة في رحلة حتشبسوت إلى بونت، ومن قبلها فيالق القائد العسكري «حنو»، وكلاهما كانا أهم ما سعى لجلبه من هناك إضافة إلى البخور، أحجار بلاد بونت. وما كان ممكنا إدراك الحكمة في بعثة تسافر عبر المياه وعبر اليابس؛ لتحضر أحجارا، لولا أن أحجار البتراء تحديدا ليست ككل الأحجار؛ لأنها كانت إعجازا طبيعيا فنيا حقيقيا.
لكن التفسير المعتاد لبيوت بلاد بونت في لوحات حتشبسوت، يقول: إن تلك البيوت أكواخ من القش، بنيت فوق أعمدة، وتناثرت في وسط غابات أشجار اللبان. ولأنها أكواخ فقد تطابقت لدى الباحثين مع الأكواخ الأفريقية بالصومال. وحتى لو افترضنا أنها أكواخ، فربما كانت تصويرا لمساكن أحد موانئ العقبة الذي نظنه عصيون جابر الميناء القديم. فلم يزل الأهلون في هذه المناطق يبنون بيوتهم (ويسمونها: عشش) فوق أربعة أعمدة من فلوق النخل غالبا، ويصعدون إليها بالسلم النقال الذي يتم رفعه ليلا؛ تحاشيا لضواري الصحراء وواغشها، وهو الموجود أيضا في محيط نويبع وطوبية والترابين الآن. وربما كان ذلك النوع من السكن هو الأصل الآدومي القديم لبيوت الأعمدة الحجرة في حضارة الأنباط، من بعد أن نضيف توضيحا شارحا للوحات بيوت بلاد بونت في جداريات حتشبسوت، يمكن أن يحيلها إلى البتراء نفسها. وإن عناصر اللوحات جمعت بين الميناء والعاصمة، حيث نجد في اللوحات متكررات مع اسم الزعيم البونتي، للمخصص الهيروغليفي لعلامة الجبال يتكرر عدة مرات. ومن هنا نفترض أن الجبال كانت هي خلفية اللوحات التي نقشت عليها بقية التفاصيل.
ولعل تلك الصورة القديمة لبيوت بونت في لوحات حتشبسوت، هي الأصل القديم الابتدائي للنماذج الفنية الراقية، التي تطورت بعد ذلك حتى بلغت غايتها زمن الأنباط، بتأثير الفنون المصرية والرومانية، لتدخل على الأعمدة القديمة الزخرفة والتيجان. وبالمقارنة بين مشهد مثل مشهد الخزنة في البتراء، وبين مشهد لبيت بونتي في لوحات حتشبسوت، يكشف لنا أن بيوت بونت كانت الخطوط الرئيسية الأولى القديمة لمساكن الآدوميين الحور، والتي ظلت فكرتها قائمة حتى زمن الرومان في النحوت الحالية هناك.
ومن جانبه يفيدنا علم النبات أن اللبان يحتاج في زراعته إلى مواضع جبلية مرتفعة، بحيث يحيطه مناخ ملبد بالسحب والغيوم، مع جفاف نسبي، وهي جميعا الأمور التي تجد نموذجها المثالي في البتراء ومحيطها. وقد اختلف الباحثون حول نوع البخور المستقدم من بونت إلى مصر؛ لذلك سنستخدم كلمة اللبان بشكل عام كلما وردت الإشارة إلى بخور بونت. ويكون تحديدنا بلاد آدوم بأنها هي ذات بلاد بونت، حلا لمشاكل كثيرة غير محلولة، فالآن يمكننا أن نفهم لماذا لم يضع المصريون علامة البلاد الأجنبية على بلاد بونت؛ لأنها كانت آخر الحدود المصرية الشرقية. ثم نفهم لماذا سمح الفرعون بتزويج أميرة من البيت المصري المالك (لملك آدومي اللاجئ إلى مصر)، رغم أن القانون المصري كان لا يسمح بزواج المصرية من أجنبي. فقد كان الملك الآدومي في عرف الاستراتيجية المصرية مصريا يحكم في مقاطعة مصرية. ثم نفهم أيضا لماذا سجل الفنان المصري رحلة الذهاب أولا عبر الصحراء الشرقية المصرية من قفط إلى القصير على البحر الأحمر، ثم سجل الرحلة البحرية من ميناء القصير إلى بلاد بونت، ثم عودته بالرحلة مباشرة بالسفن إلى (طيبة/الأقصر) عاصمة الإمبراطورية المصرية. وقد كان هذا مثار حيرة الباحثين طويلا. أولئك الباحثون الذين ذهبوا بالرحلة عبر البحر الأحمر جنوبا، إلى الصومال وأريتريا واليمن، حيث كان لا بد عند العودة بمر البحر الأحمر، ثم النزول في ميناء القصير مرة أخرى، ثم اتخاذ الطريق البري عبر الصحراء إلى النيل عند بلدة قفط شمالي طيبة مباشرة، وهو ما لم يسجله الفنان المصري. وهنا قيل إن الفنان قد أغفل ذكر الطريق البري في العودة، وهو الأمر غير المقنع إطلاقا مع ذلك التقرير الدقيق الشامل. وظل التساؤل: كيف عادت السفن مباشرة بالنيل إلى طيبة دون المرور بطريق بري؟ وهو ما سبق إلى اكتشافه فليكوفسكي. لكنه قال إن الرحلة كانت لزيارة الملكة حتشبسوت لمملكة سليمان اليهودية. وهو أيضا الأمر الذي دعا الباحث «هيرتزوج
Hrzog » إلى القول إن الرحلة كانت إلى الصومال، بالإبحار في النيل نفسه إلى السودان وليس عبر البحر الأحمر. المهم أن تجاهل الفنان العودة بطريق البر بعد الوصول إلى ميناء القصير على البحر الأحمر ظل لغزا يبحث عن حل. لكن في ضوء احتسابنا لبلاد آدوم بكونها بلاد بونت لن تكون هناك أية مشاكل في العودة بالسفن مباشرة إلى طيبة. فهذه السفن سبق وبنيت في ميناء القصير على البحر الأحمر لرحلة الذهاب البحرية، وانطلقت من القصير إلى بلاد آدوم عند خليج العقبة، ثم عادت بالالتفاف حول مثلث شبه جزيرة سيناء لتدخل خليج السويس. وتستلم أول أطراف النيل الشرقية عبر القناة الفرعونية المشهورة باسم قناة سيزوستريس، التي كانت تربط السويس بالفرع البوبابسطي للنيل، وهو الأمر الذي ناقشناه تفصيلا؛ للتأكيد على وجود قناة سيزوستريس في ذلك الزمن، وأن الفنان المصري لم يتجاهل أمر العودة البرية، بل كان يقدم تقريرا مفصلا وافيا ودقيقا.
ويمكننا الآن أن نفهم السر وراء ذلك التنوع الهائل في المنتجات، التي جاءت بها بعثة حتشبسوت من بلاد بونت؛ فبلاد يقوم اقتصادها على التجارة العالمية، كان هو الممكن الوحيد لتفسير كل هذا التنوع المتضارب، من أشجار لبان البخور المختلفة الأنواع، والأشجار العطرية كالصندل إلى التوابل الهندية، والعطور اليمنية إلى العاج الأفريقي إلى القردة الجبلية، إلى جلود الفهود إلى الزراف إلى الجنس الأحمر من الناس. نحن الآن مع الكاريين الذين كانوا حتى الآن شعبا مجهولا على أرفف مكتبة التاريخ تحت عنوان مجهول. (معالم البتراء.) (انظر الأشكال رقم «41-52».)
شكل رقم «41»: السيق من الداخل.
شكل رقم «42»: بانوراما الخزنة.
شكل رقم «43»: الخزنة صورة للواجهة.
شكل رقم «44»: مساكن آدوم الكهفية.
شكل رقم «45»: صورة عن بعد للمساكن الكهفية.
شكل رقم «46»: صورة عن قرب للمساكن الكهفية.
شكل رقم «47»: المسرح من عهد تراجان.
شكل رقم «48»: قاعة المحكمة.
شكل رقم «49»: قبر القصر.
شكل رقم «50»: بقايا قصر البنت.
شكل رقم «51»: الجمال اللوني بأحجار البتراء.
شكل رقم «52»: أحجار البتراء أحجار كريمة.
شكل رقم «53»: جغرافية حقل الأحداث (من وضع المؤلف وتخريجه).
شكل رقم «54»: خط سير رحلة حتشبسوت السلمية إلى بلاد بونت، حسب نظريتنا.
شكل رقم «55»: مخطط البتراء.
شكل رقم «56»: نخيل بنت في لوحات حتشبسوت.
شكل رقم «57»: نخيل الدوم في العقبة حتى اليوم، يقارن بنخيل بونت في الشكل المجاور، مع ملاحظة تطابق اسم نخيل الدوم مع بلاد آدوم. ويبدو أنه أخذ اسمه منها.
شكل رقم «58»: الكلب سلوقي الأصل للفصيلة السلوقية. والصورة عن وادي رم، وهو ما سجلته رسوم لوحات حتشبسوت.
شكل رقم «59»: البلسم من أشجار التين (الفيكس).
شكل رقم «60»: صمغ شجر البطم النبطي، من أغلى سوائل التبخير وأجودها.
شكل رقم «61»: صمغ «بخور» شجر نبطي لشجرة باقية من الأشجار المهددة بالانقراض.
شكل رقم «62»: شجرة بلسم البحر الميت.
الفصل الثالث
حملة تحتمس الثالث على بلاد الفينيق
طائر الفينيق
في القصيدة الغزلية السالفة الإشارة إليها، يشبه الحبيب حبيبته بجواد الملك، الذي تم اختياره من بين ألف حصان أصيل، كما يشبهها بالطيور المهاجرة من بلاد «بونت». فأي طيور تلك التي عرفها المصري القديم تأتي مصر مهاجرة قادمة من بلاد «بونت»؟
يقول المؤرخ اليوناني «هيرودوت» وهو يتحدث عن مصر:
فأما عقوبة الموت فلا مفر منها لمن يقتل أبا منجل أو باشقا، سواء ارتكب القتل عمدا أو دون عمد. وهناك طائر آخر مقدس يسمى «الفوينكس»، لم أره إلا مصورا؛ إذ إنه يزور البلاد فيما ندر، يزورها كل خمسمائة عام على حد قول أهل هليوبوليس (عين شمس). بعض ريش جناحيه ذهبي وبعضه أحمر. وهو قريب الشبه جدا من النسر في هيئته وحجمه. ويروون أن هذا الطائر يغادر بلاد العرب، حاملا أباه إلى معبد الشمس ليدفنه بهذا المعبد.
1
وهنا نقف في هذا القص الأسطوري مع اسم الطائر القادم من بلاد العرب، بلغة هيرودوت اليونانية «فونكس». وبحذف التصريف الاسمي يصبح الاسم السليم «فون». ومع اختلاط الفاء بالباء بين اللهجات واللغات، فكلاهما حرف شفاتي، فيجب قراءته في أصله الصادق: طائر «بون». ويؤكد ذلك الذي نسوقه أن المصري القديم قد دونه منطوقا باسم طائر «ب. ن. و
B. N. W »، فهو الطائر البوني. وهنا يضيف هيرودوت: «يقطع هذا الطائر المسافة كلها من بلاد العرب إلى مصر، طائلا حاملا أباه داخل قالب من المر».
2
وبلاد العرب ليست في أفريقيا إنما في وادي عربة وسيناء . والمر كما نعلم هو صنف من اللبان. إن رموز الأسطورة تفصح عن معارف زمنها ومعانيها.
والطائر البوني لم يكن طائرا عاديا، بل طائرا مقدسا، طائرا إلهيا؛ فقد خلق نفسه بنفسه من رماد شجرة تحترق، جاء اسمها باليونانية شجرة البيرسيا المقدسة. والاسم يشير إلى معنى الكلمة؛ لأن بيرسيا تعني الفارسية، وهي شجرة التين. ويقول معجم أوكسفورد: «البيرسيا شجرة مقدسة في مصر وفي فارس.»
وهنا نتذكر أن الجنس الحوري سكن بلاد آدوم، وكان من الجنس الآري أي الفارسي الأصل (وسط آسيا عموما آريون). ثم نقرأ بلوتارك؛ إذ يقول: «من بين جميع نبات مصر تقدس شجرة البيرسيا على وجه خاص للإلهة إيزيس؛ لأن ثمرتها تشبه القلب وورقتها اللسان»؟
3
والبيرسيا أو الفيرسيا أو الفارسية أو التين نبات سيناوي مشهور. وأقسم به القرآن وربطه بطور سيناء وقصة موسى،
والتين والزيتون * وطور سينين . ولو أراد استرابون بها شجرة الجميز، لقال ذلك بوضوح، حيث ذهب البعض إلى أن البيرسيا هي شجرة الجميز، حيث يقول استرابون في موضع آخر مفرقا بين الشجرتين: «والسيكامينوس شجرة الجميز، تخرج الثمار المسماة سيكومورس؛ لأنها تشبه السيكوم/التين.»
4
ثم نستدعي هنا ما كتبه «سليم حسن»؛ إذ يقول في معرض سرده لقصة بعثة حتشبسوت إلى بلاد بونت إنها أحضرت من أرض الإله أشجارا بجذورها، وأعادت استزراعها أمام معبد روعة الروائع بالدير البحري. والتي يقول الجميع إنها أشجار الكندر أو اللبان، هكذا دون أي تدقيق. يقول سليم حسن المدقق الفاحص: «وتدل الكشوف الحديثة على أن الأشجار العطرية، التي أتي بها من بلاد بونت، قد غرست فعلا في حفر نقرت في الصخر أمام المعبد، وملئت بالطين الخصيب. وقد عثر على هذه الحفر الحفارون المحدثون في الردهة التي أمام المعبد. وقد وجدوا أن بعضها كان لا يزال محفوظا فيه جذوع الأشجار الجافة، غير أن هذه الأشجار ظهر أنها أشجار بيرسيا.»
5
ومن هنا نفهم أن بعثة حتشبسوت قد جاءت بأشجار التين المقدسة؛ لأن علماء الحملة لا شك كانوا يعلمون باستحالة نمو الكندر أو اللبان الدكر (المر)، على أنواعه في طيبة؛ حيث معبد روعة الروائع. وفي هذا تحديدا علامة واضحة على أن بلاد بونت إطلاقا لم تكن الصومال، كما يصر بعض أساتذة التاريخ المصري القديم، حيث تنمو أشجار (الكندر/اللبان/المر)، بل لم تكن في أفريقيا جميعا.
والكلمة «فونيكس» تنسب الطائر إلى موطنه، فهو الفوني أو البوني كما أسلفنا، منسوبا إلى تلك البلاد الموصوفة بكونها «بلاد العرب»، وأن تلك البلاد العربية هي موطن مقدس، يأتي منه طائر مقدس.
والنصوص المصرية القديمة تشير دوما إلى بلاد بونت بأنها أرض الإله. ومعلوم أيضا أن الكلمة المصرية القديمة المدونة بالشكل «ب. ن. و»، كانت تطلق عموما على فصائل الطير المعروف في مصر الآن باسم «أبي قردان»، وعلى جميع أقاربه من ذات الفصيلة على مختلف الألوان والأحجام. فمنه الكبير الضخم الذي يزور مصر في هجرات فصلية، يتواجد فيها قرب الشهرين، وهو في حجم النسر الضخم فعلا. وينقل معجم أوكسفورد ذات الأسطورة فيقول: «هو في الأسطورة طائر فريد من نوعه، يحرق نفسه بعد أن يحيا خمسة أو ستة قرون في صحراء العرب، ثم ينتفض من الرماد بشباب متجدد، ليعيش دورة أخرى من الزمان. وقد جاء اسمه من اليونانية
، التي تعني: فينيقي وأرجواني. والأرجوان هو اللون الأحمر وهو ما يطير بنا إلى بلاد الصخر الأحمر وأصحابها الحمر، بلاد آدوم أو الصخر الأحمر، بلاد الصخر سالع، البتراء، بونت. أما العربية فقد أطلقت على هذا الطائر اسم «العنقاء» (المصريون أطلقوا عليه أيضا: عنقت). والصفة
بوني، كلمة يونانية تعني «الأحمر». ويذهب «إيفارلسنر» إلى أن الاسم قد أطلق فيما يبدو على أناس ذوي بشرة حمراء.
6
والمعروف أن تلك البلاد جميعا حتى الساحل اللبناني، كان يطلق على شمالها بلاد فينيقيا، وعلى جنوبها بلاد كنعان. والجذر «ك ن ع» بدوره يحمل معنيين: الوديان أو الأرض المنخفضة، واللون الأحمر الأرجواني.
7
وعن أصول الجنس الكنعاني، يروي لنا «هيرودوت» في الفقرة الأولى من الكتاب الأول:
إن هؤلاء القوم جاءوا من سواحل بحر أريترية (الأحمر [المؤلف]) إلى شاطئ بحرنا. سافروا في البحر مدة طويلة، وحالما استقروا في البلاد التي اتخذوها موطنا لهم الآن، طفقوا يتاجرون بالبضائع المصرية والآشورية، بأن ينقلوها إلى عدة أماكن منها.
وفي الفقرة التاسعة والثمانين من الكتاب السابع، يعود «هيرودوت» إلى الفينيقيين فيقول:
والفينيقيون كانوا يسكنون سواحل بحر أريترية (الأحمر [المؤلف])، كما يقولون هم أنفسهم، وعندما اجتازوا من هناك إلى سواحل سوريا قطنوها. وهذا القسم من سورية مع كل البلاد التي تمتد إلى تخوم مصر، «يسمى فلسطين».
وبحر «أريترية» زمن هيرودوت كان اسما يطلق على البحر «الأحمر» الآن (لاحظ الأحمر مرة أخرى). والمدهش أن كلمة أريترية نفسها كلمة يونانية تعني «الحمراء!»؛ لذلك حمل البحر الأريتري بعد ذلك اسم البحر الأحمر. أما صنعة هؤلاء الحمر المهاجرين من الأحمر، فكانت التجارة العالمية. وقد عثر في بيروت على قطعة نقد هللينية، تؤكد أن الجنس الفينيقي هو ذات عين الجنس الكنعاني. فعلى أحد وجهيها توصف مدينة بيروت، بأنها تقع في كنعان، باللغة الفينيقية. وعلى وجهها الآخر توصف مدينة بيروت في أنها تقع في فينيقيا.
8
ولو حاولنا هنا العثور على مؤيد، فإن الحفر اللغوي يجعلنا نعثر على مشابه شديد الشبه لتلك القطعة الهللينية من النقد. فالكلمة «فينيكيان/فينيقي» هي بالضبط «بني كنعان»؛ لاختلاط الفاء الأولى في فينيقي، بالباء في كلمة «بني». ومعلوم أن النصوص المصرية كانت تسميها «باكنعان».
9
وعليه فهي:
با
ك ن ع ا ن «با كنعان» بالمصرية
ب ن ي
ك ن ع ا ن «بني كنعان» بالسامية
ف ن ي
ك ي ا ن «فينيقيان» باليونانية
أما الكتاب المقدس فكان ما زال يصر على تذكيرنا بصفة الأحمر، فيقول: «من ذا الآتي من آدوم بثياب حمر؟» (إشعيا، 63: 1)، بينما كانت النبية «دبورة» ترنم أنشودتها:
يا رب بخروجك من سعير،
بصعودك من صحراء آدوم،
الأرض ارتعدت. (قضاة، 5: 4)
فالرب هنا في صحراء آدوم، إنها صحراء مقدسة، إنها أرض الإله؟ إله عرفه المصريون كإله للمصريين، ثم عبده الإسرائيليون من بعد. ويحمل ذلك المكان المقدس اسم سعير، والسعير هو اللهب الأحمر. أما الاسم آدوم نفسه فهو ما يعني الصخر الأحمر . أما الحمرة واللون الأحمر فهو لون اللهيب.
والعنقاء أو الطائر البوني أو البونتي، ينتفض حيا من لهيب شجرة تحترق. وقد لاحظ العلماء أن طير الغراب وطيور النحام والبشروش تلجأ إلى دخان ما تجده من بقايا نيران؛ لتفرش أجنحتها للدخان، لطرد الطفيليات والحشرات منها. وتكفي هذه اللوحة في نظر البدائي؛ ليبني عليها أسطورة مثل العنقاء، التي تنتفض حية بريشها من بين النيران. وقد ذهب المصرولوجي «بدج» إلى أن شجرة البيرسيا يقصد بها شجرة ضخمة، تعرف في الإنجليزية باسم
SYCAMOR TREE (الجميزة)، وهو شجر معمر يعيش قرونا. ولا شك أن «بدج» هنا قد أخطأ المراد، فهي شجرة التين تحديدا البيرسيا. ويرى «بدج» أن مقابلها الهيروغليفي هو «ن ع ر - ت» أو «ناره»، الذي نطق في القبطية
NIR
وفي اليونانية
NERION . والغريب أن ذات الشجرة تسمى في العربية «ناريون»، والجذر لجميعها من «نور» و«نار». وقد أطلق المؤرخون على بلاد «ميتاني» المزعوم أنها تقع في أعالي الفرات : بلاد «النايري». وهو الاسم الذي أطلقه الآشوريون على ذات الدولة التي ذكرتها نصوص مصر باسم «ميتاني» أو «نهارين» أو «نارين» أي بلاد شجر النايري، بإسقاط الهاء بالتخفيف أو تحويلها إلى ألف، كما في هريق الماء وأريق الماء.
10
ويبدو أنه كانت هناك شجرة مقدسة في بلاد «بونت»، تعيش عليها طيور مقدسة، وأن هذه الشجرة كانت تسمى الشجرة الحمراء أو النارية. ولا شك لدينا أن «ن ه ر ن» أو «ن - ح ر ن» المصرية تتصل في الجذر مع كلمة حوري وحوريين. والحوري أيضا هو الأحمر. أما أشجار الحور فهي الشجرة المعروفة بزهورها الحمراء القرمزية. ويقول المؤرخ «أحمد بدوي»: «إن طائر الفونيكس
هو العنقاء بالعربية. أما اسمه المصري فهو
BNW
من الفعل المصري
WBN ، بمعنى أشرق ولمع، فهو البراق أو اللماع؟ لذلك يتصل بالحجر الهرمي
BNBN ، الذي يرمز به للتل العتيق الذي برز بدوره من الماء الأزلي نون. والطائر يتلألأ فوقه فيملأ «نوره» الكون، ويكون صوته أول دوي في الوجود. وكان كهنة هليوبوليس ينتظرون عودة ذلك الطائر في شوق.»
11
وتقول القصص التوراتية: إن النبي موسى عندما هرب من مصر، بعدما قتل مصريا ظلما، ذهب إلى بلاد تدعى مديان، وتزوج هناك من صفورة ابنة كاهن مديان المدعو باسمين: «رعوئيل/يثرون». والقصص الإسلامي يسمي ذلك الكاهن «شعيب» ويعتبره نبيا. وتقول تلك القصص إنهم كانوا يعبدون شجرة مقدسة سميت «الأيكة»، وأطلقت على السكان هناك اسم «شعب الأيكة»، وتقول إن الله قد أهلك شعب الأيكة؛ لأنهم كانوا تجارا جشعين يطففون في الموازين، كما كانوا قطاع طرق وقراصنة محترفين.
ونعود إلى الطائر البوني الذي يسمي المصريون نوعه الصغير الآن بأبي قردان، لنجد أحد تنويعاته في ذلك الطائر المعروف باسم الفلمنجو. وهو طائر طويل العنق فيه ريشات سوداء، ويغلب عليه اللون الأحمر القرمزي، واسمه الإنجليزي
FLAMINGO
أي الملتهب «بحمرة»، من
FLAME
أي لهب، وهو الفصيلة المعروفة باسم البشروش أو النحام. ويكنى عنه عند العرب «بأبي لهب»، وهو تحديدا الذي لم يزل يزور مصر للآن في هجرته الفصلية.
ويساعد الحفر اللغوي هنا على إلقاء الضوء على موطن هذا الطائر الجغرافي بالنسبة لمصر. فالكلمة الكنعانية التي تعني «أحمر» تكتب «شرق»، أي إن الكلمة الكنعانية «شرق» تعني أحمر. وفي العربية: شرق الشيء شرقا فهو شرق، أي اشتدت حمرته بدم، ومقلوبها بالميتانيز: قشر. والأقشر هو شديد الحمرة. وفي لسان العرب لابن منظور نقرأ: «الشرق طائر، وجمعه شروق. والشرقراق طائر يكون في أرض الحرم في منابت النخيل بقدر الهدهد (وكثيرا ما يترافق طائر بهذا الشبه مع وصول هجرة البشروش إلى مصر حتى اليوم [المؤلف]) مرقط بحمرة.» ومادة شرق والنحام في مادة نحم النحام طائر أحمر على خلقة الإوز، يقال له بالفارسية سرخ آوى، وآوى كلمة فارسية تعني طائر. أما سرخ فهي «الأحمر». ولنا أن نلحظ أن سرخ أيضا تشير إلى معنى الشرق.
هو إذن بالنسبة لمصر: الطائر الشرقي الأحمر. وبلاد «بونت» أو آدوم أو البتراء تقع إلى الشرق من مصر. أما ترنيمة المصري فكانت: «عندما أوجه وجهي نحو الشرق، فإني أولي وجهي إلى بلاد «بونت»، أرض الإله.»
حملة تحتمس الثالث
يقول سليم حسن المؤرخ والمصرولوجست: «إن الرأي السائد الآن، هو أن تحتمس الأول
قد أعقبه على عرش مصر ابنه تحتمس الثاني ، الذي تزوج من أخته من أبيه المسماة «حتشبسوت». وبعد وفاته خلفه ابنه تحتمس الثالث، الذي رزقه من زوجة ثانوية تدعى إيزيس. وقد أصبح ملك مصر رسميا، وهو لا يزال طفلا لم يبلغ الحلم بعد، وقد نصبت حتشبسوت، وعندما قبض على مقاليد الأمور أخذ ينكل بأعدائه، وهم أولئك الذين كانوا في ركاب حتشبسوت أو عاملين في بلاطها، ثم أخذ بعد ذلك في القضاء على كل آثارها بصورة مروعة، يشهد بشناعتها وعنفها ما أحدثه من التدمير والتهشيم في الدير البحري.»
12
ويتابع «سليم حسن» تحت عنوان: «تحتمس الثالث يعلن الحرب على بقايا الهكسوس في آسيا» قوله: «إن بقايا الهكسوس بعد طردهم من مصر، انتشروا في البراري الشرقية للمتوسط». ولما تولت حتشبسوت اتخذوا - على ما يظهر - من هذا الحادث ذريعة لإعلان الثورة، ليتحرروا من ربقة الاستعمار المصري. وقد أعلنت سوريا كلها العصيان على مصر، حتى أصبح لزاما على الفتى الجسور أن يقابل حلفا قويا مؤلفا من قبائل آسيا. والولايات التي وطدت العزم على خلع النير المصري، الذي أثقل على عاتقهم به تحتمس الأول، وسلفاه من قبله، منذ خمسين سنة مضت، كان كل أولئك قد ألفوا حلفا بقيادة ملك قادش، وهي بلدة على نهر الأورنت (نهر العاصي حاليا)، على مسيرة مائة ميل تقريبا شمالي دمشق وسوريا وقتئذ لم تكن مملكة واحدة متحدة الكلمة بطبيعتها، بل كانت مقسمة ولايات صغيرة، يحكم كلا منها أمير أو ملك، وأغناها ملك قادش. وقد أفلح ملكها مؤقتا في أن يضم الولايات الأخرى تحت قيادته.
وتعد موقعة مجدو التي قابل فيها تحتمس الثالث جيوش الحلف السوري، بإمرة حاكم قادش، أول معركة حربية في تاريخ العالم القديم، قد بقي عنها تفصيلات تذكر. ويرجع الفضل في ذلك إلى اليوميات التي خلفها تحتمس على أحد جدران معبد الكرنك، وقد سار بجيشه من قلعة سيلة، وهي القنطرة الحالية، في اليوم الخامس والعشرين من الشهر الرابع، في فصل الشتاء في السنة الثانية والعشرين من حكمه. وهذا التاريخ حسب قول «نلسن» يوافق 19 إبريل سنة 1479ق.م. مخترقا الصحراء التي تقع على الحدود الشرقية لسيناء، والحدود الجنوبية لفلسطين. فوصل غزة بعد مسيرة عشرة أيام، قطع فيها نحو مائة وخمسة وعشرين ميلا، ولم يمكث تحتمس في غزة إلا سواد ليلة. وفي الصباح المبكر سار على رأس جيشه ميمما شطر يحم (يحتمل أن تكون يما الحالية)، وتقع على مسافة ثمانين ميلا من غزة.»
ونطالع الآن معا ما دونه المؤرخ المصري على جدار الكرنك، فنسمعه يطرق بإزميله القصة التالية: «السنة الثالثة والعشرون، الشهر الأول من فصل الصيف، اليوم السادس عشر في بلدة يحم. لقد أمر جلالته أن يعقد مجلس حربي ليتشاور فيه مع رجال جيشه قائلا: إن ذلكم العدو الخاسئ صاحب قادش، قد جاء بجيشه ونصب خيامه فيها، وهو مقيم بها في تلك الآونة، وقد ضم إليه كل أمراء الأقاليم الذين كانوا يدينون بخضوعهم لمصر حتى نهر الفرات، ومعه السوريون وقوم قود، بخيلهم وجنودهم وعشيرتهم، وأنه يقول حسبما وصل إلى مسامعنا: سأقف هنا لمحاربة جلالته في بلدة مجدو. فحدثوني بما يدور بخلدكم في هذا الخطب. فأجابوا جلالته قائلين: كيف يتسنى للمرء أن يسير في هذا المضيق؟ وقد وصلتنا الأخبار بأن العدو على تمام الاستعداد هناك في خارج المدينة، وأن عددهم قد أمسى هائلا، وهل يكون السير مستطاعا إلا إذا سار الجواد إثر الجواد، والجندي إثر الجندي أيضا؟ وهلا ستكون مقدمة الجيش - بهذه الطريقة - في ساحة القتال، في حين أن المؤخرة لا تزال واقفة هنا في عارونا عاجزة عن محاربة العدو؟ على أنه يوجد طريقان أخريان: واحدة ما تؤدي إلى «تاعناخ/أو طناخ». والأخرى تقع في الجهة الشمالية من بلدة زفتى مؤدية إلى شمال مجدو، وبذلك لا نضطر إلى سلوك هذا المضيق الوعر.»
13
وهكذا فضل القواد أحد الطريقين: الطريق المؤدي إلى «تاعناخ»، والطريق الواقع شمال «زفتى»، ويؤدي إلى شمال بلدة «مجدو». واستبعدوا في الوقت نفسه الطريق الثالث؛ لأنه كان طريقا شديد الضيق، محصورا بحيث لا يستطيع الجيش عبوره إلا إذا سار الحصان خلف الحصان، والجندي خلف الجندي. وهو ما قد يؤدي إلى كارثة عسكرية، حيث سيظهر جيش مصر لأعدائه فرادى، بينما بقية الجيش ستكون قد تكومت عند الطرف الخلفي للطريق في عارونا، تنتظر دورها في عبور ذلك المضيق.
وهنا نستكمل المشهد من الراوي المصري على جدار الكرنك، لنستمع إلى الفرعون الشاب وهو يقول: «إني ما دمت حيا، وما دام الإله رع يحبني، وما دام والدي الإله آمون يرعاني، وما دام نفس الحياة ينعشني بالحياة والقوة؛ فلن أسلك إلا هذه الطريق المؤدية إلى عارونا/هارونه. وليذهب منكم من يشاء في إحدى هاتين الطريقتين الأخريين اللتين تحدثتم عنهما، وليتبعني منكم من يريد أن يسلك الطريق التي سيتخذها جلالتي؛ لأن الأعداء الذين يمقتهم رع سيقولون: هل سلك جلالته طريقا آخر؛ لأنه خاف بأسنا وبطشنا؟ وعندئذ أجابوا جلالته قائلين: ليت الإله آمون والدك رب تيجان الأرض ومساكن الكرنك، يرعى شعبك ويتعهده! تأمل: إننا سنكون في ركاب جلالتك حيثما توجهت؛ لأنه من واجب الخادم أن يتبع سيده دائما. وعندئذ أمر جلالته بإصدار منشور لكل الجيش جاء فيه: إن سيدكم المظفر سيكون في طليعتكم لاقتحام ذلك المسلك الوعر الضيق. تأملوا: لقد أقسم جلالته يمينا قائلا: لن أسمح لجيشي المظفر أن يشق طريقه إلا في هذا المكان؛ لأن جلالته عزم على أن يتقدم طليعة جيشه بنفسه. وقد وزعت التعليمات على كل جندي بالأمر بالزحف، على أن يكون الجواد في إثر الجواد، في حين أن جلالته كان يسير في مقدمة جيشه.
وفي السنة الثالثة والعشرين من الشهر الأول من فصل الصيف، اليوم التاسع عشر، استيقظ الفرعون في السرادق الملكي، الذي كان قد ضرب له في «بلدة عارونا» ثم سار جلالته في رعاية الإله آمون رب تيجان الأرضين ليفتح الطريق أمامه. وكان الإله آمون يشد ساعد جلالته. وزحف جلالته على رأس جيشه المنظم فرقا، ولم يجد للعدو أثرا، بل كان قد عسكر بجناحه الأيسر عند بلدة «تاعناخ»، في الوقت الذي كان جناحه الأيمن قد ضرب خيامه، في المنحنى الجنوبي من وادي قنا.
وقد نادى جلالته: أن سيروا في هذا الطريق. فالتقى بالعدو فكسره، وولى العدو الخاسئ الأدبار. فيا أيها الجند مجدوا المليك، وتغنوا بشجاعة جلالته؛ لأن ساعده أشد بأسا من أي ملك. وقد كانت مؤخرة جيش جلالته المظفر لا تزال في بلدة عارونا، في حين كانت مقدمته قد برزت في وادي مجرى قنا، حتى ملئوا فم هذا الوادي.
وبعد ذلك انطلق جلالته في عربته المصنوعة من الذهب النضار، مدججا بدرعه وزرده مثل الإله حور القوي الساعد رب البأس، ومثل الإله منتو إله طيبة، وكذلك كان والده آمون يشد ساعده. وكان جناح جيش جلالته الأيسر يقف على ربوة جنوبي قنا. أما الجناح الأيمن فكان معسكرا في الشمال الغربي من مجدو. وكان جلالته في وسطها يحميه الإله آمون في حومة الوغى، وكانت قوة بأس الإله ست تدب في أعضائه، ففاز جلالته فوزا مبينا، وهو على رأس جيشه. وقد رأى الأعداء جلالته والنصر حليفه؛ لذلك ولوا الأدبار نحو مجدو، بوجوه يغمرها الذعر، تاركين خيلهم وعرباتهم المصنوعة من الذهب والفضة، وتسلقوا أسوار هذه المدينة باستعمال ملابسهم؛ لأن أهل المدينة قد أغلقوا أبوابها. لكنهم دلوا ملابسهم ليجروهم بها إلى داخل المدينة. ولو أن جنود جلالته لم يتهالكوا على نهب متاع العدو، لكان في استطاعتهم الاستيلاء على مجدو وقتئذ، عندما كان عدو قادش الخاسئ وعدو هذه المدينة يجرون متسلقين الأسوار ليدخلوا المدينة هربا؛ لأن الخوف من جلالته كان قد سرى في أجسادهم، وضعفت أسلحتهم؛ لأن الثعبان الذي على جبينه قد طغى عليهم وهزمهم. واستولى جلالته على خيلهم وعرباتهم المصنوعة من الذهب والفضة، غنيمة سهلة. أما صفوف جنودهم فكانوا قد طرحوا أرضا مثل السمك في حبائل شبكة جيش جلالته المنتصر. وقد أخذ كل الجيش بأسباب الفرح، مقدما الثناء لآمون لما وهبه من نصر لابنه في هذا اليوم، وكذلك قدموا الشكر لجلالته مادحين انتصاره، ثم أحضروا الغنيمة التي استولوا عليها.»
14
وينهي الكاتب المصري نقشه بقصة حصار مجدو التي انتهت بسقوطها ثم عودة الملوك المتآمرين إلى بلادهم خاضعين، ونوابا عن فرعون في حكم بلادهم.
15
عندما قفزت الفكرة إلى ذهني، أخذت أبحث عن مؤيدات فروضي، فأعدت قراءة ذلك المدون الجداري «لتحتمس الثالث» عدة مرات، مما أوقفني على عدة أمور؛ فربما تحيل الحملة جميعا إلى شرقي سيناء، حيث بلاد آدوم الحورية. وقام افتراضي على أن دويلات بلاد الشام وممالكه الصغيرة، التي تنوف على الثلاثمائة مملكة، قد تحالفت جميعا للقيام بحملة على مصر، شبيهة بحملة الهكسوس، أو أنهم تحالفوا بعدما رنا إلى علمهم ما ينتويه «تحتمس الثالث» فقرروا استباقه. وانتقوا أشد المواقع تحصينا طبيعيا للقاء الجيوش المصرية على حدود مصر الشرقية. وهو ما يعني وفق هذا التصور الجامح أن المعركة لم تقع عند مجدو (تل المتسلم حاليا) شمال غربي فلسطين، إنما وقعت في محيط البتراء عاصمة وشمس آدوم، وأن ما حدث كان محاولة من تحتمس الثالث لإجبار تلك الدويلات على الخضوع صاغرة، مع رفضه لأسلوب حتشبسوت السلمي الذي اتبعته برحلتها إلى بونت، والذي أدى إلى تمرد ملوك تلك الدويلات، بعدما لمسوه من تراخي القبضة المصرية زمن حتشبسوت.
وربما وجدت وجهة نظري هنا مؤيدا قويا من المصرولوجي «زيته»، الذي وجد في مقدمة تاريخ تحتمس الثالث المهشم ما يعتبره إشارة إلى استقرار حامية هكسوسية، بعد طردهم من مصر في شاروحين جنوبي فلسطين. وترجمة الأستاذ زيته لهذه الفقرة جاءت كالتالي:
السنة الثانية والعشرون، الشهر الرابع من فصل الشتاء، اليوم الخامس والعشرون. مر جلالته بقلعة ثارو أول قلعة مظفرة، ليطرد الذين هاجموا حدود مصر، بشجاعة ونصر وقوة وفوز. وقد مرت مدة طويلة من السنين كان فيها الآسيويون يحكمون البلاد اغتصابا، والكل يخدمون أمام ... (المكان تالف) وقد ... (تالف) في أزمان أخرى ... (تالف) أن الحامية التي كانت هناك كانت في مدينة (شاروحين)، وهم الآن من يرد حتى نهاية الأرض، في استعداد للثورة على جلالته.
16
وقد دفعنا إلى هذا الافتراض دفعا عدد من العناصر، أهمها ما سبق وحددناه كموقع لقادش سيناء غربي البتراء، على تخوم دولة آدوم مباشرة، في الموضع الذي قدر المكتشف «رولاند» عام 1842م، أنه عين قديس الوارد في التوراة باسم «قادش برنيع» «وقادش عين مشفاط»، وأيده فيه بعد حوالي أربعين عاما المكتشف «ترامبول». وعين قديس هو المقابل العربي رسما ومعنى للاسم قادش. وقد علمنا أن زعيم الأحلاف المعادية لمصر كان ملكا على قادش، التي تم افتراض أنها تلك الواقعة على نهر العاص بسوريا. أما من جانبنا فقد فضلنا للموضع المقصود في حملة تحتمس الثالث قادش سيناء أو «عين قديس» الحالية.
أما القرينة الثانية فتتضح في إجابة مجلس أركان حرب الفرعون، حول طرحه الاستشاري للطريق الواجب اتباعه للهبوط على العدو. وحيث تخير الفرعون ذلك الطريق الذي يختبر القوة والبأس، الطريق الخطر الضيق، الموصوف بأن عبوره سيكون فردا فردا. وهو ما يعني ضرورة وجود شخص قوي أو مجموعة أشخاص فدائيين، يخرجون من الممر الضيق لمصاولة العدو وتحجيم هجمته، حتى يسمح بخروج بقية الجند فرادى للمشاركة في المعركة. ويفيد النص بأن الفرعون نفسه هو من أخذ على عاتقه تلك المهمة بمساعدة قواده الذين قرروا اتباعه حتى لو خاض بهم لجاج الموت. والأمر الثالث، أنه إذا كانت «مجدو» قد طوبقت تاريخيا مع تل المتسلم الحالية شمالي فلسطين، فإنه لم يتم العثور هناك حتى تاريخ كتابة هذه السطور على مثل ذلك الطريق، الذي وصفته نقوش النصر المدونة على جدران الأقصر. فقط يمكن أن يكون السيق المؤدي إلى ساحة البتراء العظمى، هو الطريق الأوحد النموذجي المطابق للرواية المصرية.
هذا ناهيك عن تطابق أسماء بعض المواضع، وتطابق مواقعها في محيط بلاد آدوم، ومع أسماء تلك المواقع التي سجلها تقرير تحتمس الثالث لوقعة مجدو. فإضافة إلى قادش، هناك «عارونا» (هارونه) وهو الاسم الذي يلتقي تماما مع جبل «هارون» الموجود الآن إلى الغرب مباشرة من البتراء، ويقع في منطقة وسطى بينهما وبين «قادش» (عين قديس). كذلك يلتقي وادي «قنا» مع الموقع الذي حددته التوراة للحدود الجنوبية لفلسطين، ضمن عدد من المواقع هي آخر البلاد الجنوبية لسبط يهوذا، وذلك باسم «قينة»، في النص:
وكانت المدن القصوى لسبط يهوذا إلى تخم آدوم جنوبا: قبصئيل وعيدر وياجور وقينة وديمونة وعدعدة وقادش وحاصور ويثنان. (يشوع، 15: 23، 22، 21)
كما ورد لدى المؤرخ «اسطفانس» البيزنطي، لدى حديثه عن الحملة الثانية التي قام بها «أنطيوخس الثاني عشر» ضد العرب الأنباط، حوالي 88ق.م. زمن الملك النبطي «رب إيل الأول ابن حارثة الثاني»، حديثا عن انتصار الأنباط على جيوش الرومان، حيث تم قتل «أنطيوخس» وفر جيشه إلى قانا، التي لم يتعرف الدارسون على موقعها حتى الآن، وهلك معظمهم جوعا.
17
كما يلتقي وادي قنا مع ذكريات تاريخية دونها المقدس عن المديانيين، الذين سكنوا في محيط المنطقة حول خليج العقبة، حيث كان المديانيون يدعون أيضا بالقينيين. والقيني هو صانع المعادن أو السباك صانع السبائك، فهو الحداد أو السباك أو النحاس. ويضيف إلى صدق ذلك مزيدا من الدعم، مناجم ومشاغل تصنيع النحاس التي عثر عليها جنوبي البتراء، عند جبل تمناع المذكور في التوراة باسم «تمنة». ولم تزل هناك علامات اسمية شاهدة على تواجد القينيين بهذا المحيط الجغرافي حتى اليوم . ففي جنوب سيناء وعلى خليج العقبة نجد مدينة «قنى». أما وادي قنا فينطلق من عند جبال كاترين تقريبا، ليصب في خليج العقبة قرب مدينة «قنى».
وتبقى المشكلة التي تقف في وجه هذه القرينة - لتأييد فرضنا - لا تتزحزح، وبدون حلها تسقط هذه القرينة تماما. والمشكلة تتحدد في اسم «مجدو» المدينة التي تجمعت عندها الأحلاف السورية. فهل حدث خطأ ما من الكاتب المصري؟ أو من الآثاري الذي قرأ النصوص، فقرأ مدينة الأحلاف باسم «مجدو»، بينما كان يجب قراءتها على نحو آخر؟ هذا وقد عقب «فليكوفسكي» على استغاثات نائب الفرعون «آمنحتب الثالث»، على مجدو الواردة في رسائل تل العمارنة بقوله: «إن الاختلاف البسيط في هجاء الأسماء يعود ليس فقط إلى أسماء الأشخاص وحدها، إنما أيضا لأسماء الأماكن الجغرافية، التي كانت تنطق بطرق عديدة مختلفة. وعلى سبيل المثال: فإن بريديا - وفي إحدى الرسائل كتب اسمه بحيث يقرأ بريدي - أعلن للفرعون أنه يحمي مكيدا أو يدافع عنها، وفي مرة أخرى ذكر أنه يدافع عن ماجيدا، وهناك أمثلة كثيرة أخرى في الرسائل.»
18
في هذه النقطة ربما كان مفيدا العودة إلى نص لرمسيس الثالث، حيث سجلت النقوش أنه قاد حملة تجارية إلى بلاد «بونت» أرض الإله المقدسة؛ لاستجلاب منتجاتها التجارية، بالمبادلة مع المنتجات المصرية. وتذكر النصوص أنه قد أبحر من، أو إلى مكان يقع قرب بحر أو نهر، وأن هذا المكان يحمل اسم «موقيدع» أو «موقيده». وقد ذهب المؤرخون به مذاهب شتى، وصلت في فروضها إلى الخليج العربي ونهر الفرات. كما تذكر نصوص الفرعون «رمسيس الثالث» أنه عندما وصل هناك، أرسل رسله إلى «إقليم «عتيقة
ATIKE » للحصول على النحاس».
19
والكشوف الحديثة قد قدمت لنا اكتشافها لمناجم ومصانع النحاس عند جبل (تمناع/تمنة) في بلاد آدوم، ومن ثم لا بد أن «موقيده» تقع في ذات الجوار. فهل كان يجب أن تقرأ كلمة «مجدو» في نصوص «تحتمس الثالث» بالرسم «موقيدة»؟ وهي ما يتطبق فونيطيقيا مع «مجدو»، ويتطابق جغرافيا مع بلاد آدوم الحورية؟
مجرد احتمالات لا نصر على احتسابها أحد قرائن دعم فروضنا، إنما نسوقها كقرينة تحتمل الخطأ الشديد، لكنها أيضا ربما تحتمل الصدق.
أما ما لا يجب أن ننساه فهو قول «تحتمس الثالث» مبررا إصراره على حصار «مجدو» حتى سقوطها: «إن الاستيلاء عليها يساوي الاستيلاء على ألف مدينة.»
20
وهو الإصرار الذي أراد به الفخار، لمعرفة عالم ذلك الزمان لمعنى كلامه الذي يجب أن نستعيده في صورة سردها لنا قاموس الكتاب المقدس، وهو يقول: «سالع اسم عبراني معناه صخرة، وهي أمنع موقع في أرض آدوم، كان يهرع إليها الآدوميون كقلعة حصينة لا تقهر، وقت الحصار الخارجي؛ لأنها تقع على قمة جبل.»
21
ولكن مع احتمال الخطأ في تفسيرنا لحملة «تحتمس الثالث» على مجدو، ومع ما بذلنا فيها من جهد، نروح عن النفس بتذكر كلام الإله أمون للملكة حتشبسوت، المدون على جدران معبد روعة الروائع؛ إذ يقول لها:
سأجعل جنودك تطأ «بنت» لأني أقودهم بحرا وبرا، وجاعلهم يخترقون مضايق عالية لا يمكن اختراقها. وقد جعلناهم يصلون إلى خمائل البخور وأرض الإله.
22
ويزيد في الاطمئنان أن نعلم أن فرض «تل المتسلم »، كموضع مفترض لمدينة مجدو، إطلاقا لم تقم عليه البيئة الأركيولوجية، حتى قال كمال الصليبي: «إن مجدو التوراتية لم يعثر عليها إطلاقا في فلسطين بهذا الاسم.»
23 (انظر أشكال شارحة وتوضيحية رقم «63، 64».)
شكل رقم «63»: البنو/طائر الفينيق، كما صوره المصري القديم على بردية آني بالمتحف المصري.
شكل رقم «64»: العنقاء/الفينكس/من معبد الأسد المجنح/البتراء.
الخريطة رقم «65»: البحر الأحمر وشبه جزيرة سيناء بالقمر الصناعي.
شكل رقم «66»: شرقي المتوسط زمن الأحداث.
شكل رقم «67»: الفرعون تحتمس الثالث.
شكل رقم «68»: طائر الفينيق، وكاهن متبتل.
شكل رقم «69»: العنقاء تخرج من بيضتها، تصوير فني معاصر.
شكل رقم «70»: خط العرض 30 والذي يمر بمنطقة الهرم، ومع نفس اتجاه وجه أبو الهول، والخط كذلك يمر بوادي عربة ومنطقة آدوم، حيث خط أرض الإله.
الفصل الرابع
لغز بلاد موصرى (؟!)
في منطقة شرقي المتوسط في بوادي الشام والهلال الخصيب، تناثرت جماعات عرقية باسم الحوريين، في شكل مدن ودول. وقد أكد لنا علم التاريخ أن هؤلاء الحوريين قد عرفوا باسم شعب آدم، وأنهم أقاموا لأنفسهم دولة قوية مركزية باسم دولة «ميتاني» وباسم نهارين، وأن الموضع المحتمل لدولة نهارين الميتانية، دولة شعب آدم الحورية، يقع بين الفرات والخابور في أعالي الفرات.
وقد خالفنا ذلك التحديد الجغرافي لدولة الحوريين المركزية، وأكدنا من جانبنا أن «ميتان» وفي المأثور التوراتي أبدا لم تقم بين الفرات والخابور، إنما قامت في الأرض التي جاء اسمها التاريخي «مديان» و«مدين» كما في المأثور الإسلامي العربي، وأنها تموضعت في شبه جزيرة سيناء وسيناء الشرقية، حيث البلاد التي ذكرها لنا الكتاب المقدس باسم آدوم، وأن ميتان هي بالقلب اللغوي مديان، وأنها فيما نرى قد تمركزت في محيط جبال السراة/سعير، ووادي عربة. وقد ذهب فرضنا إلى أن تلك البلاد التي تأخذ هضابها شكل الأقماع، وقد أعطت لعاصمتها اسما من صفتها الجغرافية، فسميت بالصخرة. فهي «سالع» بالعبرية وتعني الصخرة، وهي «بترا» زمن اليونان ثم الرومان، وتعني أيضا الصخرة. وقد ذهبنا إلى ما هو أبعد من ذلك، فاحتسبنا بلاد مديان الحورية هي تلك البلاد ، التي كانت تذكرها النصوص المصرية بأنها «أرض الإله/بونت»، وأن اسم بونت بدوره كان يعني الصخرة حسب تخريجنا. وإليها ينسب حجر «بن بن» المقدس في مصر، كما يعني الحمراء أيضا؛ لأن البوني هو الفوني أو الفينيقي التي تعني بدورها «أحمر»، كما يعني البلاد الخماسية.
وهنا نتابع البحث عما يمكن أن يدعم فرضنا. ويضيف إلى رصيد ما قدمنا من شواهد وقرائن، وبين رتل أكوام المادة العلمية التي جمعناها لعملنا هذا خلال السنوات السوالف، وجدنا في نص الفرعون مرنبتاح (لوح الانتصارات) أو (لوح إسرائيل)، ما يدعم فرضنا، فاللوح يذكر بلسان الفرعون أنه قد احتل بلادا باسم بلاد الحور، ووضعها تحت السيطرة المصرية، أو بنصه جعلها «أرملة لتوميري» (توميري هي مصر). وبمتابعة النص يمكنك أن تجد ما وجدناه، وأن تفهم من النص ما فهمناه. وهو أن بلاد الحور الواردة في لوح مرنبتاح، هي بالضبط بلاد الحوريين التي حددناها في شرقي سيناء حيث مديان/آدوم، وأن بلاد الحور تقع عند وادي عربة، وفي محيط خليج العقبة.
لدينا هنا إذن قرينة جديدة على صدق فروضنا، تتمثل في قصيدة طويلة يعدد فيها الفرعون مرنبتاح بن رمسيس الثاني الذي حكم 1224-1214ق.م. انتصاراته، كما يعدد أهم الشعوب التي انتصر عليها والبلاد التي أخضعها، ويعنينا من تلك القصيدة المطولة فقراتها الختامية التي يقول فيها الفرعون:
يقول الملوك وهم ينطرحون أرضا: السلام. ولم يعد أحد من الأقواس التسعة يرفع رأسه (الأقواس التسعة تعني بلاد البدو [المؤلف]) والتحنو (ليبيا [المؤلف]) قد خربت، وبلاد خاتي (دولة الحيثيين بالأناضول [المؤلف]) أصبحت مسالمة.
وكنعان (القسم الشرقي من فلسطين [المؤلف]) قد أسرت مع كل خبيث. وأزيلت عسقلان، وجازر (مدينة فلسطينية قرب الساحل [المؤلف]) قبض عليها، وينوعام أو (ينو آم وهي مدينة مجهولة [المؤلف]) أصبحت لا شيء، وإسرائيل خربت وليس لها بذر، وحور أصبحت أرملة لتوميري.
الملك المظفر يعدد هنا الشعوب التي أخضعها. ملوك جميع البلاد يسجدون على الأرض يطلبون السلام من جلالته، وجميع البدو المحيطين بمصر لم يعد بإمكانهم أن يرفعوا رءوسهم، فقد تم دحر الليبيين الذين هاجموا مصر. وهو ما نعلمه من نصوص أخرى لذات الزمن والأحداث. ثم ينتقل النص بعد ذلك جغرافيا نحو الشرق إلى دول شرقي المتوسط، بادئا ببلاد (خاتي/دولة الحيثيين) بتركيا القديمة في أقصى الشمال، ويؤكد أن الحيثيين قد أصبحوا مسالمين. ونحن نعلم أن ذلك حدث بعد موقعة قادش الكبرى على نهر العاصي، التي خاضها أبوه رمسيس الثاني ضد الحيثيين، وانتهت بترسيم حدود الولايات بين المصريين والحيثيين، في معاهدة صلح عثر على نسختيها المصرية والحيثية. وقد عثر على النسختين كاملتين موثقتين في مصر وفي حاتوس عاصمة الحيثيين القديمة المعروفة موضعها الآن باسم بوغاز كوي.
ثم نلاحظ أن خط حملة النصر يهبط بنا من تركيا جنوبا نحو كنعان، ثم يتخذ الفرعون طريق الساحل وهو لم يزل ييمم جنوبا، فيدمر على التوالي مدينة عسقلان ثم جازر إلى الجنوب منها، ثم ينحدر شرقا ليهزم إسرائيل ومدنها، ويستمر في مسيره نحو الجنوب حتى يصل إلى مدينة باسم «ينوام». وقد عدت ينوام مدينة مجهولة طوال الوقت؛ لأنهم كانوا يبحثون عنها شمالا، بينما نظن من جانبنا أنها مدينة كانت معلومة في ذلك الزمان، وأنها كانت تقع أقصى جنوبي فلسطين بالنقب على الحدود السينائية، حسب قراءتنا لخط سير حملة مرنبتاح وتفسيره. ونظننا قد عثرنا عليها مع تحديد موقعها في نص بالكتاب المقدس، يعدد أسماء المدن المنتشرة جنوبي دولة يهوذا المتاخمة بحدودها الجنوبية لحدود سيناء وآدوم، فيقول: إن تلك المدن هي:
ينوم وبيت تفوح وأفيقة وحمطة وقرية أربع وهي حبرون وصيعور. تسع مدن مع ضياعها. (يشوع، 15: 54، 53)
لقد كان تفسير خط سير الحملة يذهب بها إلى فلطسين الشمالية وبلاد الشام، ومع سيره المستمر يصل إلى بلاد باسم «حور» و«خارو»، تم افتراض أنها بلاد الحوريين الميتانية، المزعوم أنها تقع بين الفرات والخابور، حيث يفترض أن تقع «ينو عام»، ثم تمت إعادة النظر مرة أخرى حيث تضارب ذلك مع خط السير الواضح بلوح مرنبتاح، ومع معطيات أخرى أسقطت ذلك الاتجاه الشمالي، وأخذت بخط السير من الشمال نحو الجنوب. وحينئذ أصبحت بلاد حور مشكلة تم الانتهاء منها بالقول: إن المصريين منذ زمن مرنبتاح والأسرة التاسعة عشرة، صاروا يطلقون على بلاد فلسطين اسم بلاد حور أو خارو أو حوري (؟!)، وهي آخر خط حملة الانتصارات ليعود إلى مصر بعدها. هذا بينما يوضح فرضنا التأسيسي أن بلادا تقع جنوبي فلسطين، وجنوبي مدينة ينوم التي تقع جنوبي يهوذا، تحمل اسم بلاد مديان وآدوم، هي البلاد الحورية المقصودة في نص مرنبتاح. وإن فرضنا يجعل تفسير لوح مرنبتاح مستقيما ومقبولا في حال بدئه من الشمال واتجاهه جنوبا، ليتناغم لوح مرنبتاح مع منظومتنا تناغما واضحا، ويتحول إلى دليل وقرينة تضاف إلى رصيدنا؛ لأن البلاد الواقعة جنوبا بعد ينوم ستكون خارج دائرة فلسطين، وليس بعدها جنوبا سوى بلاد آدوم/آدوم الحورية. ولم يزل الوادي الواقع جنوبي وادي موسى عند البتراء، يحمل حتى اليوم اسم وادي حور. ويقول الفرعون في نهاية نصه حيث وصل نهاية حملته: «وحور أصبحت أرملة لتوميري.»
وهنا نتذكر شكل مساكن بلاد بونت الكهفية، ثم كهوف سالع البتراء المحفورة في الصخر، في تلك البلاد الحمراء، ثم نقف مع كلمة «حور» نبحث عنها في العبرية القاموسية، فنجدها تبلغنا شديد تأييدها لفروضنا، حيث تحمل الكلمة معنيين: الأول هو «أحمر». أما الثاني فهو «كهف»، فيما يسجل قاموس الكتاب المقدس. وهكذا حفظت لنا اللغة تحديدا واضحا للمكان، بل وصفة هذا المكان القديمة، فهم الجنس الأحمر الذي سكن الكهوف في بلاد آدوم.
ثم ندفع الآن بقرينة أخرى أكثر وضوحا وأشد قوة، تشهد على مدى توفيقنا فيما ذهبنا إليه، نأخذها بدورها من التاريخ المصري القديم، من زمن الفرعون شيشنق من الأسرة الثانية والعشرين، الذي حكم حوالي 945-924ق.م. ومعه نستعيد ذكريات تعيد أمجاد الفراعين العسكرية؛ فقد قام شيشنق الأول بحملة كبرى على دويلات شرقي المتوسط، وضمن جدوله الكبير ... بالكرنك نجد ضالتنا؛ إذ يبدأ مقدمة الجدول بغارته الكبرى، التي شنها على ما أسماه الإقليم الآدومي.»
1
وهي المقدمة التي تقول إنه في الآن ذاته قد أخضع جيوش ميتاني، وهو الأمر الذي يعني أن الفرعون كان يتحدث، عن غارة بعينها على موضع واحد، اعتبره الموضع الأجدر بالتسجيل في مقدمة جدوله الكبير، وأن هذا الموضع كان «الإقليم الآدومي»، وأن هذا الإقليم تعرف جيوشه باسم «جيوش ميتاني».
2
وبعد ذلك يتابع حملاته نحو الشمال.
لكن المؤرخين لهذه المنطقة من العالم، وحسب تقديراتهم لتآريخ وتزمينات قيام وانهيار دول المنطقة، قد أكدوا أن بلاد «ميتاني» التي كانت تقع - في زعمهم - كمملكة بالفرات الأعلى، وقد بلغت قمة ازدهارها إبان القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وأن تلك المملكة قد زالت تماما من الوجود خلال القرن الرابع عشر في أحد التخمينات، أو أن شلمناصر الأول الآشوري أزالها حوالي عام 1275ق.م. أو اختفت على يد الآشوريين في ق 9ق.م. حسبما يفيدنا طه باقر.
3
وهكذا نجدنا إزاء لغز غريب، فمعنى ذلك أن شيشنق كان يتحدث عن غارة على بلاد، زالت قبل زمنه بحوالي خمسة قرون كاملة، أو ثلاثة قرون أو بقرن واحد (لاحظ مدى التضارب).
وكان الحل السهل والبسيط هو القول بأن شيشنق الأول، كان يفاخر كل هذا الفخر بضرب جيوش «ميتاني»، فخرا كاذبا من باب تضخيم حجم آلته العسكرية ومجده الملكي؛ حيث إن مملكة الميتاني حسب وضعها بين الفرات والخابور زمن شيشنق، قد زالت من الوجود، وحلت محلها الدولة الآشورية بالقطع واليقين. والمظنون لديهم أن الآشوريين قد ضموها إلى مملكتهم الكبرى قبل زمن شيشنق بقرون، أو أن الحيثيين هم من قضوا عليها في قول آخر. ويلخص لنا «فراس السواح» ما جاء بشأن «ميتاني» وشيشنق لدى المؤرخين في قوله: «نعترف بوجود نص واحد غامض هو سجل حملة الفرعون شيشنق الأول 945-942ق.م. ومعظمها (يقصد معظم البلاد التي ذكر أنه استولى عليها [المؤلف])، لم يمكن التعرف عليه إلا بشكل تقريبي. يضاف إلى ذلك تناقض معلومات النص مع بعض الحقائق التاريخية؛ فمملكة «ميتاني» التي كان يتباهى الفرعون بإخضاعها، لم تكن قائمة في زمنه.»
4
وهكذا يوقفنا هذا التفسير دهشين من أمر فرعون عظيم وفاتح كبير، يفاخر أهل زمانه أنه قد أخضع دولة زالت قبل زمانه بزمان كان كفيلا بنسيان «ميتاني» واسمها زمن شيشنق. ولا شك أن أهل زمانه إما كانوا لا يعرفون ما هي «ميتاني» أو كانوا يعرفونها، ويعلمون يقينا أنها زالت من صفحة التاريخ منذ قرون. أما الأغرب فهو أن يفاخر الفرعون كاذبا، وهو منتصر انتصارا عظيما أعاد لمصر أمجاد فتوحات التحامسة والرعامسة. لكن لن تكون هناك أية غرابة لو كان فرضنا المؤسس لهذا العمل صحيحا، ذلك الفرض الذي يقول إن بلاد «ميتاني» لم تقع دولتها المركزية على الفرات الأعلى، الذي نعرف أنه كان ذلك الوقت بلادا آشورية بلا منازع، وتحت سيطرة آشور من فجر مطلعها، إنما كانت هي بالتحديد بلاد مديان الحورية الآدومية الواقعة في سيناء الشرقية ووادي عربة وسراة سعير، وأنها هي بلاد بونت (الصخرة/سالع/البتراء)، التي ظلت قائمة حتى زمن الرومان. ولم يكن شيشنق يفاخر كاذبا، بل هاجم بلادا كانت قائمة بالفعل في زمانه، هي بلاد آدوم نهارين، كما ذكر اسمها في مقدمة جدوله الكبير بالكرنك.
أليست تلك بقرينة مبينة؟ لكنا نعلم أننا نقول كلاما جديدا وشديد المخالفة، ولكل جديد دهشة، وما أكثر التقليديين الذين سيرفضون أمرنا هنا! لهذا يستحق فرضنا مزيدا من البحث عن قرائن وبراهين تدعم خراسانته. وإعمالا لذلك نتابع التنقيب في مدونات المنطقة القديمة؛ لنقرأ بين ما عثرنا عليه نصوصا للملك الآشوري «تجلاتبليزر الأول»، فنجد بينها نصا يحدثنا عن فتوحات واسعة، قادها ذلك العاهل الكبير، حتى وصل إلى بلاد «نهارينا» وفتح إقليما باسم «مصرى» في ذات النص، وأنه في إقليم «مصري» هذا دحر القبائل الآرامية؟!
5
ومع الوضع المزعوم لبلاد «ميتاني» (نهارين أو نهارينا بالفرات الأعلى)، كان لا بد أن يقف المؤرخون جميعا يتساءلون ذلك السؤال الغريب المستغرب، عن بلاد «مصرى» التي تقع بالفرات الأعلى. وهو ذات السؤال العجيب المستعجب الذي أورده المؤرخ طه باقر، وهو يقرأ لنا نصوص الملك الآشوري «تجلاتبليزر الأولى»، بينما كان الباحث فراس السواح يلخص لنا ما انتهى إليه علماء التاريخ بشأن إقليم مصري أو موصرى بقوله: «إن موصرى هي مملكة مجهولة حتى الآن.»
6
وهكذا كان لاقتران إقليم «مصرى» مع بلاد «نهارينا» بفتوحات في الرافدين الأعلى، مدعاة لافتراض إقليم «مصرى» إقليما ميتانيا، أي أحد الأقاليم التابعة لبلاد «ميتاني» نهارينا، الواقعة زعما بين الفرات والخابور، لكنه الآن مجهول تماما مثله مثل «ميتاني»، ولا توجد عليه قرينة أركيولوجية واحدة. لكن إطلاقا لم يكن إقليم «مصرى/موصرى» هذا وهما، ولا قراءة ملتبسة ننتظر صلاح الحال لنطقها الصحيح؛ لأنه تكرر في نصوص رافدية أخرى، حدثتنا مرات عديدة وفي إشارات متباينة عن إقليم مصرى، ونتيجة التباين في الإشارات التي أحدثت التباسات في تحديده الجغرافي، فمرة يمكن تفسير النصوص بأنه يقع في منطقة ما جنوبا، ومرة شمالا.
وإعمالا لهذا اقترح الباحثون أحد موضعين لا ثالث لهما لإقليم مصرى، وما أبعدهما عن بعضهما: الموضع الأول في الفرات الأعلى، حيث الموضع المزعوم لبلاد (ميتاني/نهارينا). أما الموضع الثاني وهو الذي يعنينا بشدة، فهو احتمال وقوع إقليم مصرى - حسب قراءات أخرى لنصوص أخرى - في المنطقة المحيطة بخليج العقبة وبعض شبه جزيرة سيناء ، ربما نصفها الشرقي كاملا يقسمها وادي العريش العظيم.
وإطلاقا لا يصح احتساب أن إقليم مصرى هذا، كان يعني مصر الدولة العظمى آنذاك؛ لسبب بسيط، وهو: أن نصوص العمارنة المصرية قد حدثتنا بدورها عن ذات الإقليم «مصرى» في صيغ متعددة، وإشارات تضعه في مكان ما شرقي مصر. وتراوحت تنغيمات نطقه ما بين: مصرى، موصرى، موصر، مسري، مصر، مصارى، مشرى.
7
والمعلوم تاريخيا والمؤكد يقينا أن المصريين أنفسهم لم يعرفوا بلادهم في ذلك الزمان باسم مصر، بعد أن ثبت أن تسمية مصر النيل باسم مصر تسمية متأخرة، فقد أطلق المصريون على بلادهم عدة أسماء، ليس من بينها اسم مصر. ومن تلك الأسماء المعلومة الآن بشكل يقيني الاسم «كيمت
KEM-T » أي الأرض السوداء
BLAC LAND ؛ ليقابلوا بها ما هو عكس واديهم الخصيب من صحراوات وجبال وقفار وبراري، أسموها دوشراتا أو «د. ش. رت»، التي تترجم إلى الأرض الحمراء
RED-LAND ؛ أي الصحارى.
ومن الأسماء الأخرى التي أحب المصريون إطلاقها على بلادهم: الاسم المعروف توميري أو «تء. م ر ى
TA. MERE »، ونطقها الإغريق تيموريس؛ أي: أرض الحقل والفلاحة والحرث، أو الارض الخصيبة. وفي تاريخ مانيتون
MANITHON
المصري، الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد، نجد لمصر أسماء ثلاثة هي: آيريا
AERIA
ومسترايا
MESTRAIA
وباللاتينية آيجبتون
AIGYBTON . والمعروف أن الاسم الأخير كان أكثرها انتشارا، وأصبح الكلمة الدالة على مصر في كل اللغات ذات الأصول اللاتينية، وهو فيما يذهب جلة من الباحثين تحريف للاسم المصري الأصلي للكلمة وهو «حت. ك ء. ب ت ح»، أي بيت عز بتاح، أو بيت مجد الإله بتاح، وهو إله منف منذ أقدم العصور. إلا أن بعض المجتهدين رأى أن اسم «ايجبت» مأخوذ من كلمة «قبط»، التي أطلقها العرب على بلاد مصر، وأن السبب في إطلاق العرب على مصر هذا الاسم، هو أن عرب الجزيرة كانوا يعبرون من جزيرتهم البحر الأحمر إلى مصر، فينزلون أول ما ينزلون عند مدينة عامرة هي «قفط». ومعلوم أن حرفي «ف» و«ب» يتبادلان؛ لذلك تنطق «قبط» أيضا. لكنا هنا نضع احتمالا ثالثا يذهب إلى مدينة «جباتا » الواقعة عند خليج العقبة في بلاد آدوم القديمة، كمعبر أول على الطريق السينائي الذي يصب عند دلتا النيل، فتكون جباتا أول مدينة في طريق مصر السينائي، ويحتمل أنه قد اشتق منها «قبط» ثم «إيجبت» بحسبان عبور عرب الجزيرة للبحر الأحمر؛ للوصول إلى قفط في عمق الصعيد المصري، أمرا مستبعدا في ذلك الزمان.
ثم أخيرا اشتهر من أسماء مصر الاسم «نيلوس
NELOS »، الذي أطلقه على نهرها لأول مرة الكاتب اليوناني الملحمي «هزيود» في القرن الثامن قبل الميلاد. وتعود الكلمة إلى الأصل
NEL
بعد حذف التصريف الاسمي، والكلمة
NEL
تعود بدورها إلى الكلمة
NEHL ، التي هي في الساميات نهر
NEHR
ينطق فيها حرف الراء لاما «نهر ←
نهل» ثم أسقطت الهاء بالتخفيف فأصبحت «نيل
NEL »، وأضيف إليها التصريف الاسمي اليوناني؛ لتنطق «نيلوس
NELOS »، وهكذا فإن اسم النيل هو اسم سامي الأصل من الكلمة «نهر»، أعيد تصديره عبر اليونان فأصبح نيل، ليدل زمنا على مصر، ليقتصر بعد ذلك على نهرها العظيم. وقارئ الكتاب المقدس سيجده إطلاقا لا يذكر نهر مصر باسم النيل إلا في أسفاره المتأخرة الخاتمة التي دونت بعد هزيود اليوناني، لكنه كان طوال أسفاره السابقة يطلق على نيل مصر فقط لفظة «النهر» غفلا من أي تسمية مميزة.
لكن لدينا رأي آخر يقول إن الاسم المتأخر الذي أطلق على مصر: «مصر» رغم وضوح تنغيمه السامي، إلا أنه يعود بدوره إلى أصل مصري من اللفظ الهيروغليفي «مجر»، الذي يعني الحصن أو السور العظيم، أو الحد الفاصل بين دولتين أي الحدود الدولية.
8
وهنا نعود إلى الإقليم «مصرى/موصرى» نطرح الحل البسيط والسهل: إذا كان المؤرخون قد وضعوا لإقليم مصري احتمالين جغرافيين، أحدهما يقع في بلاد آدوم وسيناء، وإذا كانت الكلمة المصرية «مجر» تعني الحدود الدولية، فلا شك أن «مجر» أو «مصرى» لم تكن تعني مصر بلاد النيل، إنما تعني منطقة حدود مصر الدولية، أي إنها كانت بلاد آدوم بالتحديد والتدقيق المبين، ويكون العاهل الآشوري «تجلاتبليزر الأول» قد هاجم بلاد آدوم، عندما قال إنه هاجم بلاد موصرى. ولأنه كان يتحدث عن إقليم موصرى ، ضمن هجوم أشمل على بلاد نهارينا، فإن بلاد نهارينا المقصودة لن تكون بالفرات الأعلى إنما بلاد آدوم. وتصبح الألفاظ الواردة بنصوص تل العمارنة بمصر عن «مشرى، مصر، موصرى، مسرى ... إلخ» تشير إلى حدود مصر الدولية عند بلاد آدوم التي حملت اسم «مصر»، قبل أن تحمله مصر المعروفة الآن. فهي الحد الفاصل بين مصر وبين بادية الشام والبوادي العربية، وهي سور عظيم فعلا؛ لأنها سلسلة جبال منيعة طبيعيا. وهو الأمر الذي يفسر لنا لماذا لم يضع المصريون على لفظة بلاد بونت العلامة الهيروغليفية الدالة على البلاد الأجنبية. وفيما سلف عرضنا فرضنا في أن بلاد بونت هي الاسم المصري الأشهر لبلاد آدوم المديانية، وهو ما يوعز أن المصريين كانوا يعتبرون بلاد «آدوم/بونت» حدا شرقيا فاصلا للحدود المصرية مع البلاد الأجنبية.
وهناك تفاسير أخرى لاسم بونت تناسب هذا المقام أوردها «عبد المنعم عبد الحليم»، لكن دون أن يقصد مقصدنا، فهي ربما تكون الباب، وهو ما يشير إلى الحدود الدولية، بدوره في معنى الباب أو الحد الدولي. وفسرها آخرون بأنها تعني الحصن،
9
وهو ما لا يخرج بدوره عن المعنى الذي طرحناه، فالحصون تكون عادة على الحدود.
وإن كان التاريخ يشي دوما باستقلال واضح لتلك البلاد، عن الوطن الأم في فترات تاريخية متعددة، وأن وجهة نظر المصريين لم تفرض على بلاد آدوم الأمر الواقع بالتبعية، وهو ما كان يستدعي حملات تأديب مصرية متتابعة، يتم تجريدها على سيناء وآدوم، كلما ارتكبت آدوم ما يعتبره الفرعون بحاجة للتأديب والتهذيب. وعليه فإن لفظة مصر بدأ إطلاقها على بلاد آدوم جميعا من جانب سكان المتوسط الشرقي ولسانهم السامي، الذي غلب على المنطقة بعد ذلك، بينما ظل لفظ «قبط» ثابتا في اللسان اللاتيني «إيجبت».
وتضيف اللغة مزيدا من القرائن لنظريتنا التأسيسية؛ لأن الكلمة «مجر» المصرية القديمة المنطوقة في اللسان السامي «مصر»، على اختلاف تنغيماته «مشر، مشارى، مصر، مسرى، مصرى، موسير ... إلخ»، تعني دوما في الساميات معنى واحدا هو: «الحمراء». ونتذكر ما سلف بيانه أن بلاد آدوم وصفت بأنها بلاد حمراء، وأن عيسو آدوم سمي كذلك؛ لأنه كان أحمر اللون، حسبما ورد بالكتاب المقدس. لقد كانت مصر هي بلاد سيناء، في امتدادها حتى آدوم، في زمن كانت فيه مصر المعروفة تحمل أسماء أخرى معلومة هي: كيمت، توميري، آيريا، مسترايا، نيلوس، ولم تكن حمراء بل سوداء.
وإن كنا اليوم لا نجد في بلاد آدوم علما يحمل اسم مصر، فقد حملت واحدة من مدنها اسم «جباتا» ومنه «قبط»، ثم إن الكتاب المقدس يورد لنا اسما قديما علما في بلاد آدوم؛ إذ يحكي قصة موت هارون شقيق موسى ودفنه على حدود آدوم السينائية، يقول النص:
مات هارون ودفن في جبل موسير. (تثنية، 10: 6)
و«موسير» تلوين لهجوي آخر لاسم مصر. أما أن يطلق الرافديون على بلاد «ميتاني» اسم بلاد النايري أو نهارينا. ويطلق المصريون عليها اسم «ن ه ر ي ن
NHRN »، ويعطون الفرد من الشعب الحوري صفة «ن ه ر ي
NHRY »، نسبة إلى «ن ه ر ي ن» بمعنى «رجل من بلاد ن ه ر»، والتي خففت فيها الهاء في النطق الآشوري، فلفظت «ن ي ر ي/نايري». فهو ما أدى إلى التباسات وغموض في أبحاث الباحثين، خاصة أن اللفظ يشير إلى نهر أكدوا أنه الفرات الأعلى. فإننا من جانبنا نرى اللفظ يشير إلى نهر آخر - إذا كان يعني النهر فعلا - وهو ما عثرنا عليه في تعبير التوراة عن قادش سيناء على حدود آدوم الغربية: «قادش النهر». وهو التعبير الذي يتطابق معناه مع جغرافية وادي العريش، الذي يتحول في الشتاء إلى نهر عاصف جبار أطلقت عليه التوراة اسم «نهر مصر» (تكوين، 15: 18). وأكدت أنه كان في محيط هذا النهر كان يعيش الحدادون النحاسون، أو كما أسمتهم التوراة القينيين في (سفر التكوين، 15: 19). ثم يلتقي الاسم نايري من جانب آخر إضافة للنهر مع النار. ومعلوم أن بلاد آدوم التي حملت اسم سعير كانت بلادا للسعير والنار، حيث تفصح الأرض هناك عن نشاط بركاني عظيم قد خمد الآن. ولا ننسى الحمراء صفة تلك البلاد، وشجرة النايري الحمراء التي اشتهروا بها، حتى أسمتهم العربية «شعب الأيكة»، أو شعب الشجرة.
ميتاني ومدياني
حتى زمن ظهور الدعوة الإسلامية في بلاد الحجاز، كان محيط خليج العقبة جميعا يحمل اسم بلاد مديان أو مدين. ويقول «ابن هشام» في السيرة النبوية: إن النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
قد أرسل مولاه زيد بن حارثة في سرية مقاتلة مفاجئة على بلاد باسم مدين فيما نصه: «إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بعث زيدا بن حارثة نحو مدين، فأصاب سبيا من أهالي «ميناء» وهي السواحل، وفيها جماع من الناس.»
10
ورغم أن التوراة قد اصطلحت على تسمية تلك المنطقة ببلاد «عيسو/آدوم»، إلا أن هناك إشارات أخرى عديدة بها، تؤكد أنها قد عرفت ذات الموضع باسم بلاد مديان، نسبة إلى قبيلة كبرى قطنت هناك بهذا الاسم. فنجد في (سفر إرميا، 25: 20) أن بلاد مديان تقع بين مصر وفلسطين (أي شبه جزيرة سيناء). وفي ذات السفر يذكر النبي إرميا بلاد مديان، بحسبانها تقع في طريق المسافر من مصر إلى بابل ، بل وبموضعها في بلاد آدوم (إرميا، 46: 1). وهو الموضع الذي افترضناه موضعا لبلاد بونت، التي عرفت في سجلات المنطقة التاريخية باسم بلاد «ميتاني/نهارين، الحور». وهو ما يجد له صدى بالكتاب المقدس، الذي أكد لنا أن سكان النصف الشرقي لسيناء، قد حمل بعضهم اسم المديانيين؛ ولذلك كانت تطلق على تلك البلاد مجموعة مسميات على التبادل: مديان نسبة لقبائل مديان/ سعير نسبة لجبال سراة سعير/ وهي الحدود التي سميت موصرى/ آدوم نسبة للآدوميين الأوائل/ بلاد الحور، وهو الاسم الثاني للآدوميين/ سالع بالعبرية أي الصخرة، وهو اسم العاصمة/ بترا اليونانية، ويعني الصخرة أيضا/ بونت أي الخماسية باليونانية.
ولمزيد من تدقيق موقع مديان فيما ورد بالكتاب المقدس، نقرأ قصة صراع الملك الإسرائيلي سليمان ومن قبله أبيه داود مع دولة آدوم الجنوبية. وهو الصراع الذي أدى إلى فرار الوريث الملكي الآدومي، بعد هزيمة بلاده إلى مصر. وفي مصر عاش عيشة الأمراء في البلاط الملكي، بل وتزوج أميرة فرعونية، ثم ساعده بعد ذلك الفرعون في استعادة عرشه. وتقول القصة:
وأقام الرب خصما لسليمان هدد الآدومي، كان من نسل الملك في آدوم. وحدث لما كان داود في آدوم عند صعود يوآب رئيس الجيش لدفن القتلى، وضرب كل ذكر في آدوم؛ لأن يوآب وكل إسرائيل أقاموا هناك ستة أشهر، حتى أفنوا كل ذكر في آدوم. إن هدد هرب هو ورجال آدوميون من عبيد أبيه معه؛ ليأتوا مصر. وكان هدد غلاما صغيرا، وقاموا من مديان وأتوا إلى فاران. وأخذوا معهم رجالا من فاران، وأتوا إلى مصر إلى فرعون ملك مصر، فأعطاه بيتا وعين له طعاما وأعطاه أرضا. فوجد هدد نعمة في عيني فرعون جدا وزوجه أخت امرأته، أخت تحفنيس الملكة، فولدت له أخت تحفنيس جنوبث ابنه، وفطمته تحفنيس في وسط بيت فرعون. وكان جنوبث في بيت فرعون بين بني فرعون. فسمع هدد في مصر بأن داود قد اضطجع مع آبائه (أي مات [المؤلف])، وبأن يوآب رئيس الجيش قد مات، فقال هدد لفرعون: أطلقني إلى أرضي. (ملوك أول، 11: 14-21)
وهذا إنما يعني أن منطلق الرحلة كان من مديان «وقاموا من مديان»، وأن مملكة هدد الآدومي كانت هي مملكة مديان. وخط هروب الوريث الآدومي يحدد لنا بدقة أين تقع مديان، فالنص يقول: «وقاموا من مديان وأتوا إلى فاران». وبالبحث سبق ووجدنا برية باسم «باران» قائمة باسمها حتى الآن، تقع إلى الغرب مباشرة من بلاد آدوم، التي حددنا موقعها بين خليج العقبة والبحر الميت. و«باران» بالضبط هي «فاران»، فحرف الباء والفاء يتبادلان. ثم إن «باران» أو «فاران» محطة واضحة على خريطة سيناء، للمتجه غربا من آدوم نحو مصر. وإذا كان هدد الملك الآدومي قد أخذ معه رجالا من فاران كأتباع له، فهو ما يعني أن سلطان آدوم كان يصل تقريبا إلى «نهر مصر» وادي العريش الآن. إن النص يؤكد بلا لبس أن بلاد آدوم هي التي حملت أيضا الاسم التاريخ مديان اسم كبرى القبائل الآدومية.
ثم لمزيد من التأكيد نتابع البحث في نصوص الكتاب المقدس، فنقرأ قصة هروب النبي موسى من مصر، بعد قتله المصري ظلما وعتوا إلى بلاد باسم مديان، وأنه عاش هناك زمنا هاربا من قوانين العدل المصرية، وتزوج هناك من صفورة بنت كاهن مديان، الذي كان يحمل اسمين يردان في المقدس التوراتي على التبادل هما: رعوئيل، ويثرون. ويحدد لنا المؤرخ «فيليب حتى» الموقع الجغرافي لتلك البلاد التي فر إليها موسى بأنها:
مدين التي تضم جنوبي سيناء، والأرض الواقعة إلى الشرق منها. واتخذ موسى لنفسه امرأة غريبة، وهي ابنة كاهن مدين، وأبوها مؤمن بديانة يهوه، فتعلم منه موسى أسرار العبادة الجديدة.
11
ومن جانبهم يفترض المؤرخون الإسلاميون أن «يثرون» هذا هو الذي ورد في القرآن باسم شعيب صاحب شعب الأيكة. والأيكة هي الشجرة الضخمة المعمرة أو الغابة، والأيك هو «العيك» بتبادل الهمزة مع العين في «الساميات». وهو ما يذكرنا بأتيكا أو عتيقة، التي وردت في نصوص مصر بحسبانها موقعا في بلاد آدوم، كما أسلفنا.
ويقول أصحاب قصص الأنبياء عن مدين:
مدين: قيل اسم البلد. وقيل إنه اسم القبيلة؛ بسبب أنهم أولاد مدين ابن إبراهيم. وشعيب قد اختلف في نسبه، وكان أهل مدين قوما عربا يسكنون مدينتهم مدين القريبة من أرض معان من أطراف الشام (لنتذكر أنها معان مصران أو معان المصرية على التخوم الشرقية الجنوبية لآدوم [المؤلف]) وكانوا بعدهم بمدة قريبة. وكانوا كفارا يقطعون السبيل، ويخيفون المارة ويعبدون الأيكة، وهي شكرة من الأيك حولها غيضة ملتفة بها، وكانوا من أسوأ الناس معاملة، يبخسون المكيال ويطففون فيها.
12
وكلام المأثور الإسلامي هنا عن المكيال والميزان، يعبر بوضوح عن صدق فروضنا، التي قلنا فيها إن سكان تلك المنطقة كانوا من طبقة من التجار العسكريين، تمركزوا على عصب طريق قوافل تجارة العالم، في هذه المنطقة الحساسة من العالم المعروف آنذاك.
ويقص علينا الكتاب المقدس في «سفر الخروج»، أن النبي موسى عندما خرج من مصر مع أتباعه، ميمما نحو فلسطين عبر سيناء، اتجه من فوره إلى بلاد مديان، التي سبق وعاش فيها، عندما هرب من جريمة قتله المصري، وارتبط بأهلها بأواصر النسب والسنين، حيث التقى هناك بحماه «يثرون/رعوئيل»، واتخذ من شقيق زوجته حباب المدياني دليلا له في دروب سيناء الشرقية. إلا أن هذا الود لم يبق على حاله الصافي، فلم تلبث التناقضات أن ظهرت بين الفريقين؛ فريق موسى وأتباعه الخارجين من مصر، وفريق المديانيين، لتتصاعد تلك التناقضات إلى صراع دموي، انتهى بأمر إلهي جاء في النص التوراتي يقول:
وكلم الرب موسى قائلا: انتقم نقمة لبني إسرائيل من مديان، فتجندوا على مديان كما أمرهم الرب، واقتلوا كل ذكر، وملوك مديان اقتلوهم فوق قتلاهم: آوى وراقم وصور وحور ورابع، خمسة ملوك مديان، وأحرقوا جميع مدنهم ومساكنهم وجميع حصونهم بالنار وأتوا إلى المحلة إلى عربات موآب. (عدد، 31: 12، 10، 8، 7، 2، 1)
النص هنا يعطينا مزيدا من التأكيد لموقع بلاد مديان، حيث دارت الموقعة العسكرية بين الإسرائيليين والمديانيين، فهو إلى الجوار من «عربات موآب» أي الجزء القريب من دولة موآب من وادي عربة. كما يوضح لنا أن منطقة آدوم المديانية كانت تتقاسمها خمسة ممالك متحدة (بنط بوليس = البلد الخماسية)، وبين أسماء ملوك تلك الممالك، يحتفظ لنا المقدس باسم الملك المدياني «حور»، الذي لم يزل اسمه علما هناك حتى اليوم على وادي حور، في محيط البتراء الجنوبي. وفي موضع آخر بالكتاب المقدس، نجد حديثا عن إبراهيم الخليل وابن أخيه لوط، وحديث عن خمس مدائن كبرى تقع في بلاد آدوم، جاءت أسماؤها على الترتيب، بأسماء ملوكها، في زمن أقدم من زمن موسى كالآتي:
با - رع ملك سدوم، وبر - شاع ملك عمورة، وشن - آب ملك آدمة، وشم - إير ملك صبوييم، وملك بالع التي هي صوغر. (تكوين، 14: 2)
وواضح في تلك الأسماء النغمات المصرية «با - رع»، والنغمات السامية العربية «شم - إير» الذي هو «شمر». وما زالت قبائل عربية كبيرة تحمل هذا الاسم حتى الآن في تلك المناطق تحديدا (الشمريين)، إضافة إلى العموريين أو الأموريين (ولدينا في التوراة مدينة عمورة في بلاد آدوم) والآدوميين أدمة بالتوراة. وبمقارنتنا للوديان المنزرعة التي تتخلل المنطقة الصخرية لبلاد آدوم، والتي تصلح لقيام دول مدن بها، سنجدها الآن وديانا خمسة تلتقي مع المدن الخمس، التي أوردها الكتاب المقدس. وهي بأسمائها الحالية: وادي موسى، ووادي جلواخ، ووادي الصدر، ووادي المقر، ووادي الزرابة، وهي بالتحديد المبين كل وديان المنطقة دون زيادة أو نقصان، وديان خمسة تطابق مدنا خمسة، وهي التي أطلق عليها المؤرخون القدامى مثل هروشيوش «بونتابوليس» (بنط - بوليس) أي البلاد الخماسية.
ولمزيد من التعرف على مديان ومدى مطابقتها لبلاد آدوم، نقرأ في موقع آخر بالكتاب المقدس زمن القضاة ما بين الخروج وبين قيام مملكة داود، عن استمرار الصراع بين الإسرائيليين والمديانيين، وأن الكفة مالت لصالح المديانيين، حتى أخضعوا الإسرائيليين سبع سنوات، وهو ما يعبر عنه نص المقدس بقوله:
وعمل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب، فدفعهم الرب ليد مديان سبع سنين، فاعتزت يد مديان على إسرائيل، بسبب المديانيين عمل بنو إسرائيل لأنفسهم الكهوف التي في الجبال، والمغاوير والحصون. وإذا زرع إسرائيل كان يصعد المديانيون والعمالقة وبنو المشرق، يصعدون عليهم وينزلون عليهم، ويتلفون غلة الأرض إلى مجيئك إلى غزة، ولا يتركون لإسرائيل قوت الحياة، ولا غنما ولا بقرا ولا حميرا؛ لأنهم كانوا يصعدون بمواشيهم وخيامهم، ويجيئون كالجراد في الكثرة، وليس لهم ولجمالهم عدد، ودخلوا الأرض لكي يخربوها.
ويفهم من النص أن المديانيين كانوا يشكلون حلفا قويا مع العمالقة، والعمالقة شعب مجهول إلى حد بعيد. لكن شجرة الأنساب التوراتية تعيد العمالقة إلى أب أسطوري بعيد اسمه «عماليق»، وتقول: إن عماليق هذا من نسب آدومي، فهو حفيد عيسو آدوم، الجد الأسطوري البعيد لشعب آدوم» (انظر: سفر التكوين، 36: 12). وهو ما يفسر لنا وجود العماليق في بلاد آدوم.
وفي التوراة نصوص عديدة يفهم منها أن العمالقة أو العماليق كانوا ينتشرون في سيناء وآدوم، والنقب، والمناطق الجنوبية من فلسطين. أما بنو المشرق فهو اصطلاح معلوم بالكتاب المقدس، يشير إلى القبائل الآرامية. والنص السالف يشير إلى كثرة عددية هائلة في جيوش هذا الحلف «كالجراد في الكثرة»، لكنه يشير إلى أن المديانيين قد دفعوا الإسرائيليين لحفر الكهوف التي في الجبال. وهو كلام ملتبس؛ إذ يبدو لنا أن كاتب هذا الجزء من التوراة، كان قد عرف مساكن بونت آدوم الكهفية المحفورة في الصخور، ورأى عظمتها وعاينها، فنسب فعلها إلى الإسرائيليين. وهو دأب توراتي يعلمه المعتاد على التعامل مع الكتاب المقدس، حيث يحاول المحرر التوراتي دوما أن ينسب الأعمال الكبرى لبني إسرائيل.
ومن إشارات أخرى بالكتاب المقدس، نفهم أن هؤلاء المديانيين قد عرفهم الناس كصناع مهرة للمعادن، فهم قينيون حسبما أطلق عليهم المقدس، أي حدادون. وكان الحداد في ذلك الزمن هو مؤسسة المصانع الحربية. ويقول لنا قاموس الكتاب المقدس تحت مادة قيني:
قينيون: اسم سامي معناه حداد، والقين باللغة العربية معناه الحداد، وبنو القين قبيلة من قبائل العرب والنسبة إليها قيني. ومن (سفر التكوين، 15: 19) نرى أن القينيين كانوا أمة مجاورة للقدمونيين والقنزيين الساكنين في آدوم، وقد تطلع بلعام من مرتفعات بعل موآب، فرأى القينين وشبه موضعهم بالعش في صخرة (سفر العدد 22: 41 و24: 21، 22) ليكن مسكنك متينا، وعشك موضوعا في صخرة.
وهنا نتذكر أن بيوت بلاد بونت قد صورت كأعشاش النحل في الصخور، وأنها ذات عين مساكن الحوريين في بلاد آدوم. وسفر القضاة يقدم لنا تقريرا واضحا، يؤكد أن القينيين هم ذات المديانيين، وأن القيني صفة للمدياني، وذلك في قوله: وبنو القيني حمو موسى (قضاة، 1: 16)، ونحن نعلم أن حمى موسى «يثرون/رعوئيل»، كان مديانيا.
وللمزيد من التأكد من القينيين، وأنهم كانوا ذات عين المديانيين حلفاء العمالقة وبني المشرق، نرحل إلى زمن أول ملوك إسرائيل المعروف باسم شاول، عندما قام بحملة عسكرية على عاصمة العماليق. وطلب من القينيين أن يفكوا حلفهم مع العمالقة؛ كي لا يبيدهم معهم، وأن يهجروا مواطنهم التي سكنوها معهم، أو بالنص:
اذهبوا وحيدوا وانزلوا من وسط العمالقة؛ لئلا أهلككم معهم، وأنتم قد فعلتم معروفا مع جميع بني إسرائيل عند صعودهم من مصر، فحاد القيني من وسط عماليق. (سفر صموئيل أول، 15: 6)
وهو ما يعني أن القيني كان هو المدياني حليف العمالقة وبني المشرق. وعلى مستوى علم التاريخ يحيطنا المؤرخ سليم حسن علما بقوله: «نعلم من الفخار الذي جمعه جلويك من مناجم النحاس في عرابة أنه كانت تقوم هناك أعمال عظيمة في عصر الحديد المبكر، بيد أنه لا يمكن تحديد تاريخ بعينه لذلك. ولما كان إقليم مدين الواقع في الجنوب والجنوب الشرقي في العقبة أغنى بكثير في النحاس؛ فإنه لا يبعد أن يكون أهل موسى قد بدءوا تثميرها، وبخاصة أنه كان بالقرب منهم عملاء ممتازون. ولشراء هذا المعدن، وأعني بذلك «مصر» وكنعان وكانت عشيرة مدين فضلا عن ذلك تنعت بلفظة القينيين أي النحاسين.»
13
ومن جانبه يحيطنا الكتاب المقدس علما أن القيني هو ذلك الصانع الضارب على آلات الحديد والنحاس بتعبير (سفر التكوين، 4: 22). وكان «نيلسون جلويك» الذي أشار إليه سليم حسن من هنيهة، قد اكتشف عام 1937م منجم نحاس هائلا محفورا في الصخر في جنوبي وادي عربة، لكنه ذهب إلى أنه كان منجما للملك سليمان. كما اكتشف جلويك في وقت سابق أنقاض ميناء بلاد آدوم على خليج العقبة، واحتسبه ميناء عصيون جابر الوارد بالتوراة، كميناء لآدوم على خليج العقبة، وذلك تحت طبقة من الرماد على مساحة واسعة من الأرض محاطة بسور حصين، وبداخلها مجموعات ضخمة من أفران صهر النحاس.
14
ومن جانب آخر عثر علماء الدولة الإسرائيلية أثناء وقوع سيناء المصرية تحت الاحتلال بعد هزيمة 1967م، على بقايا ميناء في جزيرة فرعون المصرية المقابلة لميناء إيلات. فذهبوا إلى أن هناك كان موقع ميناء عصيون جابر، الذي استخدمه الملك سليمان قاعدة لأسطوله إبان توسعه على حساب آدوم.
وبعد تحرير سيناء توجهت بعثة من المجلس الأعلى للآثار المصرية؛ للتحقق من صدق ما وصل إليه علماء إسرائيل، حيث عثروا على تحصينات حربية ترجع إلى عهد صلاح الدين الأيوبي. كما عثروا على فرن يستخدم في إسالة المعادن بغرض التصنيع الحربي، مبني من الطوب الحراري، إضافة إلى بعض أبراج المراقبة وخزانات المياه، وأبراج حمام زاجل كانت تستخدم في عمليات الاتصال العسكري والمراسلة. وعندئذ صرح المشرف على البعثة المصرية، أن أهمية كشف تلك المنشآت التي تعود لزمن صلاح الدين الأيوبي، تكمن في دحضه لمزاعم الآثاريين الإسرائيليين. وكان الإسرائيليون قد عثروا على بقايا معدن الحديد المنصهر . ولما كان عصر الحديد في المنطقة قد تم تزمين بدايته بحوالي عام 1000ق.م. فقد تم ربط المكتشفات بزمن سليمان الذي حكم حوالي ذلك الزمن. لكن رئيس البعثة المصرية نفى أن يكون لهذا الحديد علاقة بزمن سليمان، إنما يعود إلى فترة حكم الأيوبيين.
شكل رقم «71»: قلعة صلاح الدين بجزيرة فرعون. (انظر شكل رقم «71».)
وقد عقب على الأمر الباحث أحمد عثمان بقوله: «إن رئيس البعثة المصرية وجد أن أفضل الطرق لدحض المزاعم الإسرائيلية، بخصوص تبعية عصيون جابر للملك سليمان، أن ينفي وجود هذا الميناء كليا، خلال ثلاثين قرنا من الزمان، ويرجع نشأته إلى عصر صلاح الدين الأيوبي في الأزمنة الحديثة. وقد أظهرت الحفريات الأثرية التي تمت في أواخر الستينات (يقصد الحفريات الإسرائيلية) أن أقوام سيناء المديانية المصرية كانت أول من قام ببناء هذا الميناء، في العصور القديمة في جزيرة فرعون الواقعة في خليج العقبة، على بعد 12كم جنوبي ميناء إيلات الحالي، قبل زمن سليمان في القرن العاشر ق.م. بخمسة قرون. بل تبين وجود علاقة قوية بين جزيرة فرعون وميناء عصيون جابر، وبين مواقع المناجم في وادي عربة الممتد جنوب فلسطين إلى البحر الميت. وعند وادي «متانية/تمنا» على بعد عشرين كيلو مترا شمال إيلات، عثر الأثريون على بقايا أدوات صهر النحاس وتشكيله، ترجع إلى عهد الأسرتين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة ... وتم الكشف عن معبد وسط تلك المناجم لمعبودة سيناء حات حور.»
15
وإذا كنا من جانبنا نزعم أن بلاد بونت التي أوفدت إليها الفرعونة حتشبسوت بعثتها هي ذات بلاد آدوم عند العقبة، فإننا لم نجد في نصوص حتشبسوت أي ذكر لا للحديد ولا للنحاس في منتجات بونت. لكن ما لا يصح التغافل عنه ذلك النص الذي تقول فيه الفرعونة: «لقد منحتهم الذهب، فتلقيت منهم الذهب الأخضر من بلاد الأمو». وإذا أخذنا العبارة بظاهرها، فلن يكون مفهوما أن تهدي الفرعونة ذهبا لتتلقى ذهبا، خاصة وأن مصر كانت غنية بالذهب، الذي يأتي من مناجم النوبة بوفرة عظيمة؛ إلا أن الكلمة الإلحاقية التوضيحية بالنص «الذهب الأخضر »، تعطينا معنى يطابق النحاس والحديد مطابقة مدهشة، فكلاهما يأخذ اللون الأخضر مع التأكسد، وأن يقال عن تلك المعادن إنها نوع من الذهب. فلكون الحديد ثم النحاس الممزوج بالقصدير الذي يعطي سبيكة البرونز، كان فاتحة عصر جديد في أساليب الحروب وأسلحتها، فكان أثمن من الذهب في ذلك الزمن.
أما الإشارة في نصوص حتشبسوت إلى أن تلك البلاد، التي كانت تصنع هذا الذهب الأخضر في بلاد بونت هي بلاد الآمو؛ فهو باب آخر يفتحه النص أمام بحثنا هنا؛ لأن كلمة آمو أو عامو هي الاصطلاح المصري المعلوم الذي أطلقه المصريون على غزاة بلادهم باسم الهكسوس، الذين احتلوا مصر في زمن سابق حوالي 1788-1575ق.م. وهو الأمر الذي سنتم معالجته تفصيلا مع السير في العمل بهذا البحث. لكن ما نوضحه هنا في إشارة سريعة، هو أن بلاد بونت وفق هذا المعنى التي هي بلاد العامو كانت موطنا للهكسوس. وإذا كان الهكسوس العامو حسب نص حتشبسوت هم سكان بلاد بونت، فمن المستحيل أن تقع بونت في الصومال أو أثيوبيا أو سواحل اليمن، إنما يجب أن تقع في الشرق من حيث جاء الهكسوس. هذا ناهيك عن كون كثير من المدارس، يرجح أن يكون الهكسوس من شعب قديم عرف باسم العمالقة. وهنا نتذكر فورا نص الكتاب المقدس السالف الذي أحاطنا علما، في قصة حملة الملك الإسرائيلي شاول على العمالقة، بأن المديانيين أو القينيين كانوا يعيشون مع العمالقة بذات المواضع الجغرافية.
وكما سلف في النص المذكور يأمر النبي موسى بقتل ملوك مديان وبينهم ملك باسم «رابع»، وفي موضع آخر بالكتاب المقدس نعلم أن اسم «رابع» هذا اسم كنعاني يعني العدد أربعة، وذكر في مواضع أخرى باسم «أربع» صريحة، مع وصفه بأنه كان أعظم ملوك العماليق. وهنا نتساءل: هل كان رابح ملك بلاد بونت في لوحات حتشبسوت هو رابع هذا؟ كان رابع فيما يبدو اسما متواترا لملوك مديان منذ بارح أو رباح أو رابح في نصوص حتشبسوت، وأنه كان أيضا بارح أو رابح في زمن آمنحتب الثاني، الذي كان يحلو له - كما أسلفنا - التحدث باحتقار عن رابح وقوم نخسى! والمقدس التوراتي يذكر للعماليق اسما آخر يأتي على التبادل مع «عمالقة»، هو الاسم «عناقين» و«بني عناق». وقد سميت مدينة الخليل باسم كنعاني هو «أربع» زعيم العمالقة، قبل أن يتغير اسمها إلى حبرون ثم إلى الخليل انظر: (سفر يشوع، 14: 15، و15: 13). وهو ما يؤكد صدق تحديدنا للمواطن التي اخترناها للمديانايين والعمالقة.
وقد سبق وأشرنا إلى أن لوحات بونت في معبد الدير البحري، قد أشارت إلى اسمين لموضعين أو لمدينتين، يعطيان رؤيتنا هنا مزيدا من الدعم والتأييد. الاسم الأول هو «أو سالعت» أو «أوزلت». ويذهب الباحث عبد المنعم عبد الحليم إلى موضعتها عند ميناء «زيلع» الحالي بجنوبي الصومال، حسب رأيه في وقوع بنط على شواطئ الصومال بأفريقيا.
16
بينما نجد «أو سالعت» من وجهة نظرنا تحيل فورا إلى اسم «سالع» عاصمة آدوم، وليس إلى «زيلع» على ساحل الصومال.
أما الاسم الثاني فهو يبدو كما لو كان وصفا للمكان الذي التقى فيه مصريو بعثة حتشبسوت بالبونتيين، بميناء علي سواحل بلاد بونت، والصيغة كما جاءت هي «حرجسوى واج ور»، وتعني أن المقابلة قد تمت على شاطئ البحر. وهو برأينا تسمية لواقع حال المكان، كعادة المصريين والشعوب القديمة عموما في التسمية على واقع الحال وشكل البيئة. ونعتقد أن «على شاطئ البحر» هو اسم المدينة لوصفها بكونها ميناء، فهي باختصار تعني «الميناء»، التي تلتقي مع ذات التسمية التي أطلقها المأثور الإسلامي في غزوة زيد بن حارثة، زمن الدعوة الإسلامية على بلاد مدين، على المكان الواقع عند العقبة باسم «ميناء»، في النص السالف «إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بعث زيدا بن حارثة نحو مدين ... فأصبا سبيا من أهالي ميناء»، لقد كانت كلمة ميناء المعنى الذي أصبح اسما من كلمة «حرجسوي واج ور»، للميناء الذي استقبل سفن الفرعونة حتشبسوت باسم «ميناء».
ونميل هنا بشدة إلى الاعتقاد أن جزيرة فرعون، هي بالتحديد ذلك الميناء القديم «حرجسوي واج ور»، رغم أنها كجزيرة تبعد الآن عن يابس خليج العقبة باثني عشر كيلو مترا، وهو الأمر الذي يمكننا تفسيره بربطه بما جاء عند جمال حمدان، في قوله بارتفاع مياه البحر في أكثر من منطقة، وأنه قد أدى إلى انفصال مماثل في مدن الساحل المصري الشمالي، وأغرق كثيرا من المدائن الرائعة، كما في آثار كوم الشقافة، وأصبح مكان الفنار القديم على الشاطئ، يقبع الآن بعيدا داخل البحر، كما طغت مياه البحر على دلتا النيل، وأدت إلى توسعة البحيرات الشمالية، مثل بحيرة المنزلة والبرلس وغيرهما، وقد أورد جمال حمدان شهادات قديمة حفظت الحدث، كما جاء في رواية المخزومي عن نشأة بحيرات الدلتا بواسطة طغيان البحر، وكان ذلك عام 961 ميلادية،
17
ونظنه ذات الأمر الذي قضى على آثار عصيون جابر القديمة، التي لا يزال البحث جاريا عنها حتى اليوم، مع احتمالات أنها ربما تكون إيلات وربما تكون العقبة، فالاسم «حرجسوي واج ور»، يتطابق تماما مع محاولة نطق اللسان العبري للاسم المصري «حرجسوي واج ور»، ممثلا في النطق العبري «عصيون جابر».
ويشير جمال حمدان إلى تطابق حديث المخزومي، مع ما جاء عند جرا سبان الأب، عن ارتفاع مستوى سطح البحر منذ القرن الثاني للميلاد، ودلل على ذلك بالأطلال والبقايا الغارقة، التي وجدها في بحيرة البرلس.
18
ويبدو أن ذات الحدث الكوني هو الذي أدى إلى ضياع مدينة تنيس العظيمة، واختفائها من على صفحة التاريخ، فيقول المسعودي والمقريزي من بعده إن المنزلة كانت جزءا من نطاق بري عظيم، لا يضارع أو يناظر في مصر، ظل كذلك إلى ما قبل الفتح الإسلامي لمصر، ونقرأ في مروج الذهب: «إن تنيس كانت أرضا لم يكن بمصر مثلها استواء وطيبة، وكانت نخلا وشجرا ومزارع، وكانت فيها مجاري ماء على ارتفاع من الأرض، ولم ير الناس بلدا أحسن من هذه الأرض، ولا أحسن اتصالا من جناتها وكرمها، ولم يكن بمصر كورة يقال إنها تشبهها إلا الفيوم ... لكن البحر اخترق خط التلال الرملية، التي كانت تعمل كمتاريس طبيعة، وسنة بعد أخرى زحفت مياهه وتوغلت، إلى أن اكتسحت كل الأراضي المنخفضة الوطيئة ببلدانها وقراها، تاركة فقط عدة «جزر عالية» بما فيه الكفاية لتنجو من الخراب.»
19
وربما نبالغ لو استعنا بالمسعودي في رواية أخرى تبدو خيالية، لكنها ترصد لنا مناطق قد غطاها البحر، ولم تكن كذلك فهو يقول: «وكان فيما بين العريش وقبرس طريق مسلوكة إلى قبرس، تسلكه الدواب يبسا، ولم يكن فيما بين العريش وجزيرة قبرس إلا مخاضة.»
20
ويبدو أن ذلك قد ترافق مع ارتفاع تدريجي عبر القرون لدرجة الحرارة عما كان معتادا، مما أدى إلى ذوبان الجليد القطبي الذي أدى بدوره إلى ارتفاع مستوى البحار، حيث وجدنا ما يدعم ذلك عند هروشيوش المؤرخ لتاريخ العالم، إذ يقول: «وفي ذلك الزمان ذكر الفلاسفة في كتبهم، أن الشمس خرجت عن طريقها في أيام القبط، حتى جاوزت حد الإحراق في جميع الدنيا، وكادت أرض الحبشة لا يبقى بها إنسان ولا بهيمة، وقد اعتل بذلك بعض كتاب المجوس الجاحدين لقدرة الله، بأن أنزلوا ذلك من قبل الكوكب الأحمر»،
21
والكوكب الأحمر هو كوكب الزهرة عند العرب.
ومن ثم لا شك أنه قد ضاعت بهذا الفعل الطبيعي معالم كثيرة، كان يمكن أن توفر كثيرا من العناء لحل ألغاز التاريخ، وضمن ذلك لا شك مساكن ومزارع وحياة كاملة، لم يبق منها إلا آثار صهر النحاس في جزيرة فرعون، وبعض المباني التي تشير إلى ضجيج قديم كان يملأ المكان. أما باقي تلك المساكن كالأكواخ التي تقوم على أعمدة، فلا زالت تتناثر في سيناء بمحيط الترابين ونويبع ومواضع أخرى. أكواخ تحملها قوائم يصعد إليها الأهلون هناك بسلالم خشبية، وهو ما يلقي بنا في مرآة زمان بعثة حتشبسوت إلى بلاد بونت، فلم يزل أهل تلك المناطق يستخدمون الأسلوب القديم في بناء المساكن كما هو، وبذات الأسلوب البنائي البدائي.
وهكذا فإن «بلاد بونت/بلاد الصخر» قد عاش فيها شعب يسمى الشعب الحوري، منسوبا إلى جد أسطوري باسم سعير الحوري، حتى جاء الآدوميون «أبناء عيسو/آدوم» فاقتحموا المكان واستوطنوه. وفي ذات المكان استوطن فرعا قبليا من فروعهم، هو الفرع المدياني الذي اشتغل بالحدادة والنحاسة فسمي القيني. وفي ذات المكان وعلى امتداد نحو الشمال الفلسطيني، استوطن بطن نسيب آخر هو الفرع العماليقي أو العناقي، وامتدت المساحة التي شغلتها تلك الممالك أو البطون القبلية المتحالفة، من جبال سراة سعير (موصرى) ووادي عربة حتى عمق سيناء غربا، ربما إلى وادي العريش، مع جزء واسع من بادية شمال جزيرة العرب شرقا، وجنوبا على الساحل الشرقي لخليج العقبة، وإلى الشرق منه، حيث مدن ددان «العلا» ومدائن صالح وتيماء ... (المدن التجارية الواقعة على خط التجارة من الجنوب للشمال، والتي يبدو أنها ذكرت في النصوص المصرية القديمة باسم بونت)، وجمع الحلف والمكان بين ثلاثة عناصر بشرية متمايزة بوضوح: «العنصر الحامي الزنجي الأسود، والعنصر الأحمر الذي نظنه هندوآرى، والعنصر القادم من جنوب جزيرة العرب، ويمكن الاصطلاح على تسميته هنا (الجنوب جزيري)».
وقد رأت التوراة من جانبها أن تجد علاقة بين تلك القبائل الممالك، فوضعت لها شجرة أنساب جعلت فيها اسم القبيلة اسما لسلفها البعيد، وقالت إن بين هؤلاء الأسلاف كانت روابط دم وعلاقات رحم. ومن هؤلاء الأسلاف الأسطوريين السلف الأول لشعوب المنطقة «نوح»، الذي أنجب أبناء ثلاثة هم: «سام أبو الساميين، وحام أبو الحاميين أو الكوشيين الزنج، ويافث أبو الهندوآريين»، وأنه من حام جاء أخلاف هم المصري والكوشي أشقاء، والكوشي هو الزنجي، وأنجب الكوشي سبأ وحويلة وددان. أما الابن الآخر لنوح وكان يحمل اسم سام، فقد أنجب أرام أبو «يقطان/قحطان» وحضرموت وأوفير، ومن نسله جاء البطريرك إبراهيم الخليل، وأنجب إبراهيم عددا من الأولاد منهم إسماعيل، ومن أبناء إسماعيل كان نبايوت «نابت» وقيدار ودوما وتيما، «وكان لإسماعيل أخ يعنينا اسمه هو «مديان»، ثم كان له شقيق آخر هو إسحاق الذي أنجب «عيسو/آدوم»، و«يعقوب/إسرائيل»، ومن عيسو جاء نسل الإخوة تيمان ورعوئيل وعماليق».
ولأن المقدس التوراتي قد رأى أن الكوشي/الزنجي شقيق المصري، فلا شك أنه كان يردد ذكريات ذلك الترابط، مع ربط آخر للمصري بأهل سبأ وددان وحويلة. وقد سبق وعلمنا أن ددان هو الاسم القديم لمدينة العلا الحالية شمالي السعودية، ودادان أو ديدون أو دودون اسم أشهر آلهة النوبة المصرية،
22
وسبأ تروي حولها أساطير كثيرة سنتناولها لاحقا، أما حويلة فقد انتهينا في الجزء الأول من هذا العمل، إلى أنها هي حواريس، عاصمة الهكسوس المصرية التي أصبحت فيما بعد رعمسيس.
المهم أن ذكريات الكتاب المقدس لديها علم بصلة قديمة قوية، بين منطقة سيناء وآدوم وشمالي الجزيرة وبين بلاد مصر النيل، وهو ما يلتقي مع اعتبار المصريين لتلك المنطقة كحد شرقي مصري لبلادهم. كما أن تلك الذكريات كانت تعلم أن هناك صلة وثيقة بين عيسو (آدوم الحوري) وبين المدياني، فجعل المحرر التوراتي عيسو ينجب رعوئيل، الذي عرفناه حمى للنبي موسى، ونعلم أنه كان مديانيا قينيا، كما تجد الابن الثاني لعيسو المسمى تيمان، ذات صلة وثيقة لغويا وجغرافيا بكلمة ميتان أو ميديان! كما ربطت شجرة الأنساب التوراتية تلك بين عيسو/آدوم وبين العمالقة، فجعلت جد العمالقة «عمليق» حفيدا لعيسو/آدوم، ثم أعادت تلك القرابات جميعا إلى إسماعيل بن إبراهيم تارة ، وإلى إبراهيم نفسه تارة أخرى، في محاولة لتفسير التحالف السياسي بين مجموع تلك الممالك الصغيرة بأعدادها الكبيرة معا؛ ربما لأن لغتهم كانت متقاربة، وربما لأن ثقافتهم توحدت بحلفهم، ناهيك عن التطابق المدهش بين ذكريات المحرر التوراتي، وبين نصوص الفرعونة حتشبسوت عن بلاد بونت؛ إذ كان العنصر الزنجي في لوحات حتشبسوت مدعاة طوال الوقت عند المؤرخ التقليدي للذهاب بموقع بلاد بونت إلى أفريقيا، وذكريات التوراة تقول إن الكوشي (الزنجي) كان شقيقا للمصري. لكن نفس الذكريات كانت تقول كلاما شديد الغرابة، وهو أن أبناء كوش كانوا يعيشون في منطقة شرقي مصر وليس جنوبها، وشرقي مصر في سيناء وآدوم، في آسيا وليس في إفريقيا، وأن واحدا من أبناء كوش (الزنجي) نحن على يقين من موضعه الجغرافي، وهو ددان (العلا حاليا) جنوب شرقي آدوم. وسيتضح لنا فيما بعد مدى مصداقية ذلك القول التوراتي العجيب، بشأن وضع الكوشي الزنجي في آدوم ومحيطها وليس في أفريقيا.
وابتداء يمكن القول بهذا الشأن: إن العلاقات التجارية بين آدوم وبين اليمن والساحل الإفريقي الملاصق عبر مضيق المندب، قد استدعت اختلاطا للعناصر، وانتقالا وهجرات، الأمر الذي سمح بوجود العنصر الزنجي في بلاد بونت (آدوم)، أما الذي نعتز بالكشف عنه، فهو أن البلاد التي كانت النصوص المصرية تطلق عليها اسم ميتان (ن ح ر ن) أو بلاد الحوريين، هي ذات بلاد مديان (آدم، النايري، أو النهرية، أو النارية، أو ذات النهارين)، هي ذات بلاد موصرى (مديان) الواقعة في وادي عربة وجبال سراة سعير في حضن الصخور، وأن العاصمة كانت هي الصخرة الكبرى (آدوم الكبرى، شمس آدوم، بونت، سالع، البتراء)، وكلها تعني معنى واحدا هو الصخرة.
وقد سبق وعلمنا أن علماء المصريات قد عثروا ضمن ما عثروا عليه من آثار مكتوبة، تعود إلى دولة «ميتاني» (المزعوم أنها تقع أعالي الفرات) على خطاب ضمن مكتبة تل العمارنة بمصر، مرسل من قبل الملك الميتاني «دوشراتا» إلى صديقه الفرعون «آمنحتب الثالث»، ومع اسم «دوشراتا» هذا نقف هنيهة.
لو افترضنا وجوب البحث عن معنى كلمة دوشراتا في المصرية القديمة فسيكون - كما سلف بيانه - أرض الصحراء، أو الجبال أو الصخور. فهذا الاسم كان الاصطلاح الذي يطلقه المصريون على الصحارى «دشرت»، وكذلك على اللون الأحمر الأمغر، وهو لون صحارى سيناء وآدوم. ولو افترضنا وجوب البحث عن معنى الاسم في الساميات، فيجب قراءة الكلمة «ذو الشرى» الذي ربما كان معناه «صاحب السراة»، ونحن قد وضعنا الملك ومملكته في جبال سراة سعير. وليس في الموضع المزعوم لميتاني بأعالي الرافدين، فهل نجد في بلاد آدوم أي دليل أو أية إفادة بشأن هذا الملك واسمه؟ إن ما نعلمه يقينا أنه «من بين أبرز آلهة آدوم، كان إلها يحمل اسم «ذو الشرى»، ظل يعبد هناك حتى ظهور الإسلام»، وفي الحديث عن نبي الإسلام
صلى الله عليه وسلم : «لا تقوم الساعة حتى تصطك أليات عذارى دوس على ذي الشرى.»
23
ولمزيد من المعرفة بشأن ذي الشرى أو دوشراتا، نجد حكاية لدى المؤرخ «هيروشيوش» عن الزمن الذي مات فيه «إسرائيل» (يعقوب) تقول: «وفي ذلك الزمن مات «شرايس أمير مصر»، الذي زعموا أنه صار من الأوثان»،
24
وهو ما يشير إلى ملك باسم شرايس، حكم مصر، وبعد موته تحول إلى إله معبود، لكنا أبدا لم نجد في قوائم ملوك مصر جميعا فرعونا حكمها باسم «شرايس». ولما كان هرشيوش قد كتب تاريخه باليونانية، فعلينا هنا أن نحذف التصريف الاسمي اليوناني فيصبح «شرى»، أما أين تقع مصر هذه التي كان أميرها يدعى «شرى»، وتم تقديسه وعبادته بعد موته، فهو ما يأتي واضحا في حديث هروشيوش:
وأما «مصر الأقصى» فإنه بلد ممتد إلى ناحية المشرق، وحده في الجوف (الجنوب [المؤلف]) خليج العرب (يقصد خليج السويس [المؤلف]) وفي القبلة (الشمال [المؤلف]) البحر المحيط، وفي الغرب مبتدأ من مصر الأدنى ... وفيه من الأجناس «ثمانية وعشرون جنسا».
25
إنها إذن شبه جزيرة سيناء في امتدادها من خليج السويس «خليج العرب» نحو المشرق، وقد سبق وعلمنا كيف أن صفة خليج العرب، قد أصبحت تطلق على خليج «السويس»، منذ زمن سابق على المؤرخين الكلاسيك. ومصر الأقصى عند هروشيوش تبدأ في غربها من مصر الأدنى «السفلي/الدلتا»، وهو الموقع الذي يتطابق مع تفسيرات المؤرخين للموطن مصرى، الذي ورد في الكتابات الرافدية وكتابات العمارنة، وقلنا إنه هو سيناء وآدوم وجزء من شمالي جزيرة العرب.
والطريف أن ملوك تلك العهود في منطقة الشرق الأوسط، كانوا يعلمون أن تلك المنطقة رغم استقلالها النسبي، كانت تابعة لسلطان الفراعين، فنجد رسائل ملوك بابل وآشور بمكتبة العمارنة بمصر، تخاطب الفرعون عندما تتعرض قوافلهم التجارية في آدوم بقولهم: «إن قومك قد تعرضوا لقوافلنا ونهبوها.»
26
وإذا كانت منطقة وادي عربة هي الأصل الأول والأصيل للعرب والعربية، وإن أصول اللغة العربية وخطها قد أطلقت من عند أنباط وادي عربة، فإن ما يجب ألا يفوتنا هو أن علوم اللغات قد توصلت الآن إلى حقيقة مبهرة، تؤكد تبعية تلك البلاد لمصر حتى في ثقافتها؛ إذ أمسى معلوما أن «اللغة المصرية القديمة كانت أصلا مؤسسا في اللغات السامية وبخاصة العبرية والعربية، بعد أن تم تحقيق أكثر من ثلاثة آلاف كلمة مشتركة بين الهيروغليفية وبين العربية القاموسية مبنى ومعنى، وإن هذا العدد بذاته يعد لغة كاملة بالنسبة لذلك الزمان،
27
وهو الأمر الذي سيثبته نشاطنا الباحث بين اللسانين بطول هذا الكتاب.
أما القاطع في علاقة مديان (آدوم الحورية) بالوطن الأم مصر، فهو ما جاء في رواية المصرولوجيست «نافيل» عن الأساطير المصرية، التي تتناول أصول العنصر المصري، وتؤكد أن المصريين قد جاءوا من بلاد النوبة السوداء إلى مصر، وأنهم انتشروا من هناك حتى وصلوا «إلى مناطق بعيدة شرقي الفرع البيلوزي للنيل». والمناطق البعيدة شرقي الفرع البيلوزي ليست شيئا سوى سيناء وآدوم؛ لأن الفرع البيلوزي كان آخر فروع الدلتا شرقا في التحامها مع البوادي السينائية. وتختم الأسطورة سطورها بقولها إن المصريين كانوا يعبدون من زمن سحيق الإله الصقر حور أو حورس، «وقد أقام رجال حورس (الحوريين [المؤلف]) هناك، وكانوا يسمون الحدادين.»
28
أليست تلك بقرينة شديدة الوضوح والدلالة على صدق كل ما وصلنا إليه حتى الآن؟
ومن المفيد هنا أن نستمع إلى الدكتور عبد المنعم عبد الحليم، وهو يسلم بمسلمة منتهية، رغم تناقضه في أبحاثه مع الحقائق، وهي أن «الإله حور والإله مين والإلهة حتحور، هي مجموعة آلهة ترتبط ببلاد بونت». ورغم أنه من أتباع المدرسة التقليدية التي تذهب ببلاد بونت إلى الصومال، إلا أنه في الوقت ذاته يعيد تلك الآلهة إلى أصول عراقية رافدية قديمة (؟!) وأنها قدمت من الرافدين لتعبد في مصر، منذ زمن مبكر «عبر الطرق الصحراوية الشرقية»، ونحن نعلم أن حتحور ظلت طوال تاريخ مصر القديمة ربة سيناء العظمى، ثم يقول: «إن خط انتقال هذه المؤثرات كان يمر عبر مناطق أفريقية وآسيوية، وعلى هذا فمن المرجح أن انتقال هذه المؤثرات إلى مصر قد تم بواسطة شعب «أو جماعات، كانت تسكن مناطق متوسطة بين مصر والعراق»، وتقوم بدور الوسيط في الاتصالات بين الطرفين، وربما كان هذا الشعب أو الجماعات نوعا من «الوسطاء التجاريين»، ولعلهم كانوا الوسطاء الذين يشتغلون بتجارة البخور الرائجة على السواحل الإفريقية والآسيوية للبحر الأحمر منذ العصور المبكرة، كما يشير إلى ذلك نص من عصر حتشبسوت فيما بعد.
لكن لأن الدكتور عبد الحليم يرى أن بلاد بونت لا بد أن تقع على الساحل الصومالي حيث الكندر أو لبان الدكر، الذي يزعم أنه هو الذي استجلبته بعثة حتشبسوت من الصومال، وأعادت استزراعه أمام ساحة معبدها بالدير البحري، وليس ما ثبت الآن أنه شجر برسيا (التين)، فقد استطرد يقول: دون أن يشعر بأي تناقض «وربما كان الوسطاء من سكان الساحل الإفريقي للبحر الأحمر «بونت»، هم الذين نقلوها مباشرة إلى مصر حيث استقرت في مراكز عبادة الآلهة التي ارتبطت ببونت»،
29
هكذا (؟!)، لقد قام الصوماليون بالسفر من سواحل إفريقيا الشرقية إلى العراق، وعادوا عبر البوادي الشرقية لمصر بهذه الآلهة، هذا ما يقوله عبد الحليم (؟!).
وبالنسبة للتأثير العراقي فإنه سيتضح في الفصول القادمة، أما أن يكون الإله حور قادما من بلاد «الحوريين»، الذين حددنا موضعهم في بلاد آدوم، فهي قرينة أخرى نضعها ضمن رصيدنا الذي تكاثف، وتحول إلى دلائل وبراهين.
وإذا كانت الكلمة «كيميت» في المصرية القديمة تعني مصر، فإنها تعني أيضا: «حامي، أسود، زنجي، أبنوس»،
30
وهو خشب أسود نادر. وفي تاريخ هيرودوت معلومة حول الأثيوبيين تعنينا هنا، فهو يقول إنهم كانوا «يسمون المعمرين»، وإن أثيوبيا كانت مصدرا لرجال يتفوقون على بقية الجنس البشري «بارتفاع قاماتهم»،
31
وهو ما يطابق صفات نعلمها في شعب سكن بلاد آدوم، أطلقت عليه العربية والعبرية اسم العماليق (العناقين)، وهو موضوع آخر يحتاج إلى جهد آخر. (انظر تمثال الإله: ذي الشرى من البتراء: شكل رقم «72».)
شكل رقم «72»: تمثال نبطي للمعبود القديم ذي الشرى.
شكل رقم «73»: نموذج للمناجم القديمة العديدة في آدوم، فوهة منجم قديم بوادي فنان.
الباب الثاني
أحلاف سيناء
الفصل الأول
العمالقة
يفيدنا المؤرخ «هروشيوش» أن المنطقة السينائية الواقعة بين ذراعي البحر الأحمر، أو كما أسماه اليونان البحر الأريتري، أو بحر «سوف» كما أسمته التوراة، مع امتداد هذه البوادي السينائية شرقا إلى شمالي الحجاز، قد سكنها ثمانية وعشرون جنسا، وهي في رأينا بطون وأفخاذ وفروع وأسباط لعدد من الأجناس البشرية الرئيسية، ساعدت ظروف تاريخية على التقائها في هذه المساحة من العالم القديم. وهو الأمر الذي سيتم بحثه تفصيلا في مواضعه من هذا البحث. لكنا حتى الآن قد أمسكنا على الأقل بشعبين منهم، يجمعان بين عدة أسماء نطقته ألسن مختلفة، للدلالة على المكان أحيانا، وللدلالة على الشعب نفسه حينا، وللدلالة على صنعة هذا الشعب طورا، أو صفاته الجسدية طورا آخر، ذلك الشعب الذي حمل اسم «الشعب الحوري» (الآدومي، الأحمر، والشعب المدياني، القيني) الذي يعيش في سراة سعير حول وادي عربة.
والشعب المدياني واحد من أوائل الشعوب، تلك التي سكنت تلك المواضع القديمة، وذكره الكتاب المقدس تفصيلا، وهو ما نقابله أول ما نقابله في قصة السبط يوسف وإخوته الأحد عشر أبناء البطرك يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. وتحكي الأقصوصة أن الأسباط المكرمين قد أرادوا التخلص من أخيهم المتميز فتاك الجمال يوسف، فأخذوه بحجة قضاء يوم مرح في البراري وقد أضمروا له السوء، وتخلصوا منه بأن ألقوه في بئر، وهنا تقول التوراة:
جلسوا ليأكلوا طعاما فرفعوا عيونهم ونظروا، وإذا قافلة إسماعيليين مقبلة من جلعاد، وجمالهم حاملة كثيراء وبلسانا ولادنا، ذاهبين لينزلوا بها إلى مصر. فقال يهوذا لإخوته: ما الفائدة أن نقتل أخانا ونخفي دمه؟ تعالوا فنبيعه للإسماعيليين، ولا تكن أيدينا عليه؛ لأنه أخونا ولحمنا، فسمع له إخوته. واجتاز رجال مديانيون تجار، فسحبوا يوسف وأصعدوه من البئر. (تكوين، 37: 25، 28)
النص واضح وبسيط ومباشر، فالإخوة الكرام من أسباط النبوة، فكروا في التخلص من أخيهم الحالم الحلوم المختال بنفسه، مع تحقيق فوائد إضافية ببيعه لقافلة من قبائل التجار الإسماعيليين، لكن فجأة يختلط الأمر بالنص، فيخبرنا أن قافلة من القبائل المديانية، شاهدت يوسف بالبئر الجاف فسحبوه منه، لكن ليعود الكتاب المقدس، ويقول:
إن إخوته باعوا يوسف للإسماعيليين، فأتوا بيوسف إلى مصر. (تكوين، 37: 28)
ثم لمزيد من إرباك المؤمن والباحث معا وتعميقا للالتباس، تعود قصة التوراة إلى المديانيين فتقول:
وأما المديانيون؛ فباعوه في مصر لفوطيفار رئيس الشرط. (تكوين، 37: 36)
وتكرر التوراة ذهابها ومجيئها بين الإسماعيليين والمديانيين، لتعود فتقول:
وأما يوسف فأنزل به إلى مصر، واشتراه فوطيفار، خصي فرعون رئيس الشرط، رجل مصري من يد «الإسماعيليين». (تكوين، 39: 1)
فهل كان الكاتب التوراتي يحمل هذا الكم من الإرباك والارتباك في نص واحد صغير بالكتاب المقدس؟ الواضح لنا أن المحرر التوراتي لم يكن يشعر بأي تناقض، وهو يروي تلك الرواية؛ لأنه كان يعلم أن الإسماعيليين هم ذاتهم المديانيون، خاصة إذا تذكرنا أن البرية التي سكنت فيها هاجر مع ولدها إسماعيل في قصة طرد إبراهيم لهما، كانت تحمل اسم برية فاران، والتي حددنا نحن موقعها بشرقي سيناء عند وادي باران، إلى الغرب مباشرة من البتراء حيث سكن المديانيون. أما الصفة اللاصقة بالإسماعيلي والمدياني فكانت التجارة، وضمنها تجارة العبيد، بحسبان بيعهم يوسف في مصر.
ولمزيد من التأكيد من صحة زعمنا أن المدياني كان هو ذات عين الإسماعيلي، وأن محرر التوراة كان يعلم ذلك يقينا، نتصفح الكتاب المقدس على أناة، لنجد كثيرا من الشواهد الواضحة التي تؤيد زعمنا هذا، ففي الحروب التي حدثت زمن قضاة إسرائيل، وقفت إسرائيل ضد مديان في معركة شرسة، كان قائد الإسرائيليين فيها يحمل اسم جدعون، وهنا يقول الكتاب المقدس:
فقام جدعون وقتل زبح وصلمناع، وأخذ «الأهلة» التي في أعناق جمالهم. وقال رجال إسرائيليون لجدعون: تسلط علينا أنت وابنك وابن ابنك لأنك خلصتنا من يد مديان ... فقال لهم جدعون: أطلب منكم طلبة، أن تعطوني كل واحد أقراط غنيمته؛ لأنه كان لهم أقراط من ذهب لأنهم إسماعيليون. (قضاة، 8: 24، 22، 21)
النص هنا يعطينا كثيرا من المعلومات التاريخية القديمة، التي حفظتها لنا ذاكرة المحررين التوراتيين، فنفهم أن القبائل الإسماعيلية كان رجالها يتزينون بأقراط ذهبية، مصنوعة على هيئة الهلال، ويزينون جمالهم بها، وهو ما يشير إلى اليسار المادي كما يشير إلى قدسية الهلال. ومعلوم أن الهلال كان دوما كبير أرباب البوادي والبراري، ولم تزل الأهلة (جمع هلال) الذهبية في بلادنا، هي الزينة المستحبة لدى نساء العربان المتبدين على حافة الوادي. وكان شرط جدعون كي يستمر في قيادة الإسرائيليين ضد المديانيين، أن يأخذ مكافأته ونصيبه من الغنيمة، ذلك الذهب المصنوع في شكل أهلة. ثم يوضح النص أن لبس الأهلة كان خاصية إسماعيلية؛ فلماذا يلبسه المديانيون؟ هو ما يجيب عليه النص بوضوح كاشف: «لأنهم إسماعيليون». مرة أخرى نؤكد أن المحرر التوراتي كان يعلم أن كليهما كان واحدا، أو أن المدياني كان بطنا إسماعيليا، وأنهم كانوا معا يتوطنون ذات المنطقة في جبال سراة سعير ووادي عربة.
وعادة ما يلمح الكتاب المقدس إلى حلف كبير، كان يربط بين مجموعة القبائل التي استوطنت جنوبي فلسطين في العربة. وأهم تلك التلميحات المتكررة ما جاء يربط بين المديانيين أو الإسماعيليين، وبين قبائل عاشت في ذات الموطن حملت اسم العمالقة. وقد ذكر العمالقة كجنس باعتبارهم نسلا لآدوم (عيسو الحوري)، فهم آدوميون حوريون بدورهم، وأنهم كثرة عددية هائلة كالرمل الذي على شاطئ البحر أو كالجراد، وأن جمالهم لا عدد لها ولا تحصى. وقد أورد المقدس تكوين هذا الحلف أكثر من مرة، بحسبانه يتكون من المديانيين والعمالقة وبني المشرق. و«بنو المشرق» هو الاصطلاح التوراتي الذي يأتي على التبادل مع اصطلاح «الآرامي»، والآرامي نسبة إلى آرام وإرم، والإرم هو في اللغات السامية كومة من الأحجار المرتفعة، أو هرم، أو هضبة، أو جبل، أو صخرة. وبالطبع يعنينا هنا معنى الصخرة التي نحيلها فورا إلى سالع (البتراء، الصخرة، بونت).
وهنا فقط يمكن أن نلمس امتدادا لهؤلاء في عدد من الممالك المتناثرة بالفرات الأعلى، حيث أنشأ الآراميون في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد عددا من الممالك هناك، يغلب على ظني أنها مما أوعز للمؤرخين بوضع بلاد آدم في ميتاني بأعالي الفرات، لعل أشهرها مملكة بيت جباري التي سميت أيضا «سمعل» و«مملكة بيت أديني»،
1
ومملكة بيت أديني هي مملكة بيت آدون أو عدن أو آتن على مختلف التنغميات، وأديني تعني سيدي أو ربي، أما «سمعل» فكما هو واضح تحيل إلى الاسم «إسماعيل»، وإسماعيل حسب تقسيم الأجناس على الشجرة التوراتية فرع إبراهيمي، شقيق للفرع الإسرائيلي.
والمدهش حقا أنه ما إن يظهر الآراميون «على صفحة التاريخ، حتى يبدأ ذكر القبائل الإسرائيلية على الترافق، مع ذكر لقبائل تحمل اسم العابيرو(الخابيرو ، الأبيرو، العبري)» في نصوص المنطقة، والأكثر انسجاما هو إصرار الكتاب المقدس على تذكير الآباء التوراتيين بأصلهم الجنسي، فيشير دوما إلى ذلك الجنس أو الأب البعيد، والجد السالف بقوله:
آراميا تائها كان أبي. (تثنية، 26: 5)
والمقدس يسفر عن صلات نسب وقربى وأصل واحد بين البيت الإسرائيلي، عبر الفرع الآدومي وبين البيت الإسماعيلي، وأن تلك الصلات الحميمة تمثلت في زيجات متبادلة كما حدث في زواج عيسو آدوم من بنت إسماعيل:
فذهب عيسو إلى إسماعيل، وأخذ محلة بنت إسماعيل بن إبراهيم أخت نبايوت زوجة له على نسائه. (تكوين، 28: 9)
كما تزوج موسى وهو إسرائيلي من مديانية، هي صفورة بنت رعوئيل (يثرون) وهو مدياني، ورغم ذلك فقد بدأت العداوات بين الإسرائيليين والمديانيين مبكرا، كذلك حدث صراع اشتد أوراه زمن قيام مملكة بني إسرائيل في فلسطين، فدخل الإسرائيليون غمار حروب عدة مع أسلافهم الآراميين، الذي انتشروا في المنطقة جميعا، وأسسوا عددا من الممالك في سوريا على تخوم إسرائيل الشمالية، وكانوا دوما شوكة في حلق الإسرائيليين. وفيما يبدو أن عداء الأقارب الإسرائيليين والأراميين كان عريقا، فماذا يقول علم التاريخ عن الآراميين؟
يمثل الآراميون واحدة من بين آخر الموجات المهاجرة، التي تدفقت على منطقة بلاد الشام، ويميل بعض المؤرخين إلى تزمين ظهورهم في التاريخ لأول مرة بحوالي عام 1100ق.م.،
2
وبعضهم يبعد بالآراميين إلى الوراء قليلا، فيحدد ظهورهم بما بين عامي 1400 و1200ق.م.
3
لكن ليس قبل ذلك إطلاقا، ويبدو أن أصل الآراميين ظل مثار تخمينات عديدة، ولم يستقر علم التاريخ على المنطلق الأصلي والوطن الأول لهم، فهم يظهرون فجأة كعنصر جديد في المنطقة، يتدفقون على بوادي الشام ويزيحون منها الأموريين والحيثيين في وادي العاصي ويحتلونه جميعه، ثم يستوطنون الفرات الأعلى، ويقيمون عددا من الممالك، في المواضع المفترض زعما أنها كانت من قبل ذلك مملكة «ميتاني» الحورية في أعالي الفرات. على أنهم أخفقوا في إقامة وحدة سياسية تجمع شتات ممالكهم الصغيرة، ورغم إخفاقهم السياسي فقد انتشر تراثهم اللغوي والثقافي لينتشر في المنطقة، وتصبح لغتهم لغة رئيسية ولغة للحوار الدبلوماسي بين دول المنطقة ، وقد حدث ذلك فيما يقول المؤرخون بعد أن أخذوا الحروف الهجائية الفينيقية، وعن الآراميين أخذ الإسرائيليون خطهم المربع في القرن السادس قبل الميلاد،
4
وتحيطنا المراجع العراقية القديمة علما أن أشهر القبائل الآرامية الأولى، التي ظهرت في المنطقة قد دونت باسم «قبائل الأخلامو» التي تترجم إلى «الأحلاف»، وكان ذكرهم قد جاء في مدونات حداد نيراري الأول الآشوري عام 1300ق.م. حيث سجلت نصوصه أن والده قد حارب قبائل الأخلامو.
5
ومن الممالك التي أسسها الآراميون في بلاد الشام، وتذكرها لنا موسوعة تاريخ العالم ممالك: قرقميش وأرباد وحلب وإنطاكية وقادش العاصي وحماه وتدمر ودمشق، وترى الموسوعة أن هجرتهم التي أدت إلى ظهورهم المفاجئ هذا، ربما كان «نتيجة لطرد الهكسوس من مصر حوالي 1580ق.م.»،
6
وهو ظن يفترض ضمنا أنهم كانوا غزاة مصر الهكسوس.
وهكذا، ورغم اتفاق المؤرخين على عام 1400ق.م. كأبعد زمن يمكن تحديده لظهور الآراميين في المنطقة، فإن هناك ما يشير إلى تواجدهم فيها منذ زمن أبعد مما تواضع عليه المؤرخون، فتقول الموسوعة ذاتها: «إن «نرام سين» شن حملات عسكرية على أرام»، وتعقب الموسوعة «والإشارة إلى أرام في نقوش نرام سين تدعو إلى الحيرة.»
7
أما المؤرخ العراقي طه باقر فيستند إلى رأي يحل المشكلة حلا سهلا فهو يقول: «من المستبعد أن يكون الموضع الوارد بهيئة أرامي
ARAMI
وأسماء بعض الأعلام مثل أرامو
ARAMU
في نصوص العصر الأكدي وسلالة أور الثالثة، لها صلة بالآراميين بالنظر إلى قدم العهد؛ ولذلك فيرجح أن يكون ذلك مجرد تشابه لفظي، ولا يعرف بالتأكيد معنى كلمة آرامي هنا.»
8
هذا ما كان من شأن الآراميين، فهم شعب مجهول الموطن والأصل، «اسمهم يعني الصخرة» أو بالأحرى الصخريين، ظهروا فجأة في انتشار سريع وكثيف في بلاد الشام «بعد طرد الهكسوس من مصر»، لكن هناك نصوص ربما تشير إلى وجودهم قبل ذلك، أربكت المؤرخين، حتى إن تلك النصوص تعود إلى حوالي 2450-2350ق.م. أي قبل أبعد زمن مفترض لوجود الآراميين بالمنطقة بأكثر من ألف عام إلى الوراء، «ثم إن نصوص حتشبسوت قد حدثتنا عن عنصر قائد سيادي في بلاد بونت، وأسمته «إرم» منذ ذلك الزمن القديم؟!»
هذا ما علمناه «أن الآراميين كانوا أصلا لعدد من الشعوب، فكان منهم الأب إبراهيم وبالتبعية الإسماعيليون المديانيون والآدميون والإسرائيليون»، فماذا عن العمالقة؟ وأين استوطنوا؟ التوراة تدخل العمالقة في ذات البطون النسبية، فهم نسل عمليق حفيد عيسو/آدوم. وهم بهذا المعنى كانوا عضوا ضمن أعضاء حلف الأخلامو أو الأحلاف، فأين عاش العمالقة؟ سؤال تأتي عليه إجابة أولى: أنهم قد استوطنوا بلاد آدوم لا شك، بحسبانهم أحفاد الجد الأسطوري البعيد عيسو آدوم. لكن التوراة تعطينا إفادات أخرى، حيث نجدهم ينتشرون في شبه جزيرة سيناء، حيث التقى بهم الإسرائيليون عند خروجهم من مصر في منطقة باسم رفيديم، قرب الجبل المقدس جبل الله حوريب/ جبل موسى وكاترين الآن، وأنه قد دارت بينهم موقعة حربية يشرحها نص الكتاب المقدس؛ إذ يقول:
وأتى عماليق وحارب إسرائيل في رفيديم ... فقال الرب لموسى: اكتب هذا تذكارا في الكتاب ، وضعه تحت مسامع يشوع، فإني سوف أمحو ذكر عماليق من تحت السماء ... وقال: إن اليد على كرسي الرب، للرب حرب مع عماليق من دور إلى دور (أي من جيل إلى جيل [المؤلف]). (خروج، 17: 16، 14، 8)
كما نجدهم - حسب ذات المقدس - في مدينة حبرون (الخليل الحالية) جنوبي فلسطين في التحامها مع امتداد سيناء الشرقي. وتبدو حبرون في القصص التوراتي أحد المعاقل الكبرى للعمالقة، ويحيطنا قاموس الكتاب المقدس علما بشأن حبرون، فيقول تحت مادة «حبرون»: «حبرون» اسم عبري معناه: عصبة، صحبة، رباط، اتحاد ... مدينة في أرض يهوذا الجبلية (يشوع، 15: 48، 54)، ودعيت أصلا مدينة أربع ... (تكوين، 23: 2؛ ويشوع، 20: 7) ... وقد بنيت سبع سنين قبل صوعن في مصر (عدد، 13: 22)، وكانت موجودة من وقت مبكر في أيام إبراهيم الذي سكن بعض الزمن في جوارها تحت بلوطات، أو بطمات ممرا (تكوين، 3: 18؛ 35: 27)، وماتت سارة هناك فاشترى إبراهيم مغارة المكفيلة لتكون قبرا، وقد اشتراها من الحيثيين الذين كانوا يملكون المدينة حينئذ (تكوين، 23: 2-20) ... وزارها جواسيس موسى، ووجدوا العناقين ساكنين فيها (عدد، 13: 22)، وكان ملكها هوهام، أحد أربعة ملوك تحالفوا مع أدوني صادق ضد يشوع ... وعندما احتل الآدوميون جنوب يهوذا، وقعت حبرون ضمن أماكن أخرى في أيديهم ... وحبرون الآن هي مدينة الخليل ... وحبرون واقعة في الوادي وعلى منحدر وتعلو 3040 قدما فوق سطح البحر، وعلى بعد ثلاثة عشر ميلا إلى الجنوب الغربي من أورشليم.
كما انتشر العمالقة الذين يحلمون أيضا اسم بني عناق أو العناقين في النقب، الذي تشير إليه التوراة باسم الجنوب، وهو ما جاء على لسان جواسيس موسى قائلين:
رأينا بني عناق هناك العمالقة، ساكنون في أرض الجنوب ... هناك الجبابرة من بني عناق من الجبابرة. (عدد، 13: 33، 29، 28)
وعند موقع من المواقع المتطرفة في رحلة الخروج على الخط الشرقي لشبه جزيرة سيناء، جاءنا اسمه في التوراة «حرمة»، دارت معركة كبرى بين الإسرائيليين وبين العمالقة، وهو الموضع الذي كان أصلا، فيما يبدو، باسم حمرة أو الحمراء:
فنزل العمالقة والكنعانيون الساكنون في ذلك الجبل وضربوهم وكسروهم إلى حرمة. (عدد، 14: 45)
وموقع حرمة هنا تم تحديده بإحداثيات، تؤكد أنه قرب جبال سعير، فيما بين قادش سيناء (عين قديس حاليا)، وبين عصيون جابر على خليج العقبة، وأنه كان على الحد الغربي لبلاد آدوم بالتدقيق والتحديد. وربما كان في الموقع المعروف الآن باسم وادي حور. ثم لدينا نص آخر يحدد بدقة موقع معركة حرمة على لسان موسى، وهو يخطب في شعبه:
فكلمتكم ولم تسمعوا، بل عصيتم قول الرب، وطغيتم وصعدتم إلى الجبل، فخرج الأموريون الساكنون في ذلك الجبل للقائكم، وطردوكم كما يفعل النحل، وكسروكم في سعير إلى حرمة، فرجعتم ... وقعدتم في قادش أياما كثيرة. (تثنية، 1: 43، 46، 45، 44)
والمعلوم أن هذه الرواية كانت تتحدث عن محاولة اختراق الركب الخارج من مصر مع موسى لبلاد آدوم، متحركا من مستقره السينائي قادش.
ثم نفهم من المقدس أن العمالقة كانوا ينتشرون داخل فلسطين ذاتها، حيث يقول سفر التثنية لشعب إسرائيل، عند عبوره الأردن إلى فلسطين:
اسمع يا إسرائيل: أنت اليوم عابر الأردن؛ لكي تدخل وتمتلك شعوبا أكبر وأعظم منك، ومدنا عظيمة ومحصنة إلى السماء، قوما عظاما وطوالا، بني عناق الذين عرفتهم وسمعت. من يقف في وجه بني عناق؟ فاعلم اليوم أن الرب إلهك هو العابر أمامك نارا آكله، وهو يبيدهم ويذلهم أمامك فتطردهم وتهلكهم سريعا. (تثنية، 9: 1-3)
وكانت وصية الرب لإسرائيل شعبه:
اذكر ما فعله بك عماليق في الطريق عند خروجك من مصر، كيف لاقاك في الطريق، وقطع من مؤخرك كل المستضعفين وراءك، وأنت كليل متعب، ولم يخف الله. فمتى أراحك الرب إلهك من جميع أعدائك حولك، في الأرض التي يعطيك الرب إلهك نصيبا لكي تمتلكها، تمحو ذكر عماليق من تحت السماء، لا تنسى. (تثنية، 25: 17-19)
وقد حرص يشوع الذي قاد رحلة الخروج بعد موت موسى على تعميق العداء للعماليق العناقين، وهو ما يقوله النص:
وجاء يشوع في ذلك الوقت، وقرض العناقين من الجبل؛ من حبرون، ومن دبير، ومن عناب، ومن جميع جبل يهوذا. (يشوع، 11: 21)
وقد سبق وأشرنا إلى أن حبرون التي تعني «الحلف»، كانت مقر الملك الأعظم للعمالقة، وكان يدعى أربع وسميت باسمه، وكانت قبل ذلك تدعى ممرا، وهو ما دونه نص التوراة:
واسم حبرون قبلا قرية أربع، الرجل الأعظم في العناقيين. (يشوع، 14: 15)
وهكذا يبدو واضحا أن العماليق كانوا البطن الأقوى بين بطون الأحلاف أو الأخلامو، وكانوا ينتشرون انتشارا واسعا في سيناء وسعير وفلسطين الجنوبية؛ لذلك نجدهم بحاجة لمزيد من البحث وراءهم؛ لتحديد هويتهم، ودورهم في الأحداث بشكل أكثر تفصيلا.
ويفيدنا الكتاب المقدس أن الإسرائيليين بعد خروجهم من مصر، وغزوهم لبلاد كنعان الفلسطينية، عاشوا حوالي أربعة قرون في ظل نظام بدوي ابتدائي، يعرف بنظام القضاة، حيث يحتكمون في شئونهم إلى قاض أعلى، عادة ما يكون هو الكاهن في الوقت ذاته، ويمثل شئون التقديس والسلطة العليا في المجتمع.
وبعدها تحولوا إلى النظام الملكي، وكان أول ملوكهم الذي حمل اسم شاءول أو شاول، الذي قضى حياة نشطة حافلة بالأحداث، وأهم هذه الأحداث صدامه مع العماليق في معركة كبرى، حدثت فيما يقول الكتاب المقدس بأمر من «يهوه» الرب نفسه، وهو ما يرويه الكتاب المقدس في قوله:
هكذا يقول رب الجنود: إني افتقدت ما عمل عماليق بإسرائيل، حين وقف له في الطريق، عند صعوده من مصر، فالآن اذهب واضرب عماليق، وحرموا (أي: أبيدوا) كل ما له، ولا تعف عنهم، بل اقتل رجلا وامرأة، طفلا ورضيعا، بقرا وغنما، جملا وحمارا، فاستحضر شاول الشعب وعده في طلايم، مائتي ألف راجل، وعشرة آلاف رجل من يهوذا، ثم جاء شاول إلى مدينة عماليق، وكمن في الوادي، وقال شاول للقينيين: اذهبوا وحيدوا وانزلوا من وسط العمالقة؛ لئلا أهلككم معهم، وأنتم قد فعلتم معروفا مع جميع بني إسرائيل عند صعودهم من مصر، فحاد القيني من وسط عماليق، وضرب شاول عماليق من حويلة حتى مجيئك إلى شور التي مقابل مصر. (صموئيل أول، 15: 2-7)
ورغم أنه لم يتم تحديد موضع حويلة، إلا أن المظنون أنها كانت تقع على أطراف سيناء الشرقية، وهو ما يعني أن شاول خاض معركة كبرى في مدينة العمالقة المجهولة بدورها، انتهت بضعفهم تماما، وكانوا حسب النص ينتشرون من حويلة حتى حدود الدلتا، حيث «شور التي مقابل مصر». ويبدو أن هذا الضعف الذي أصاب العماليق قد سمح لسبط إسرائيلي، كان يسكن جنوبي فلسطين هو سبط شمعون، لكي يغزو العماليق في مركزهم الرئيسي، الذي هو جبل سعير في النص التالي:
ومنهم من بني شمعون ذهب إلى جبل سعير خمسمائة رجل، وضربوا بقية المنفلتين من عماليق، وسكنوا هناك إلى هذا اليوم. (أخبار أيام أول، 4: 42، 43)
وإذا كان العماليق قد سكنوا في المساحة الواقعة من حويلة حتى شور على حدود دلتا مصر الشرقية، حسب المتكررات التوراتية، فهو ذات الأمر الذي تقوله التوراة عن الإسماعيليين:
وهذه سنو حياة إسماعيل، مائة وسبع وثلاثون سنة، وأسلم روحه ومات وانضم إلى قومه، وسكنوا من حويلة إلى شور التي أمام مصر. (تكوين، 25: 17، 18)
ويحيطنا المقدس التوراتي علما أن ذلك المكان الذي عاش فيه العماليق كان موضعا مقدسا، أو أشبه ما يكون بأرض إله، وذلك في نص مغرق في الأسطورة والبدائية الفكرية، يحدثنا عن فجر الخليقة وسكن الأرض بالشعوب، فيقول:
وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض، وولد لهم بنات: أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهم حسناوات، فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا ... كان في الأرض طغاة في تلك الأيام، وبعد ذلك أيضا؛ إذ دخل بنو الله على بنات الله، وولدن لهم أولادا، هؤلاء هم الجبابرة، الذين منذ الدهر ذووا اسم. (تكوين، 6: 1، 2، 4)
ولما كنا نعلم أن التوراة تستخدم ثلاث مترادفات على التبادل؛ للدلالة على شعب واحد هي: العمالقة، العناقين، الجبابرة؛ فإن المعنى أن أناس ذلك الزمان قد اعتقدوا أن العمالقة صنف من الناس نصف إلهي ونصف إنساني. أما الموسوعة العربية الميسرة تحت مادة «عمالقة»، تشير بإيجاز إلى وجهة النظر التي تتبناها الكتابات العربية بشأن العمالقة، فتقول:
عمالقة: قدماء العرب، خاصة شمالي الحجاز، مما يلي شبه جزيرة سيناء، فتحوا مصر باسم الشاسو، ويسميهم اليونان هيكسوس، وأصل لفظة العمالقة مجهول، والغالب أنه منحوت من اسم قبيلة عربية، كانت مواطنها بجهات العقبة أو شمالها. كان البابليون يطلقون عليها اسم «ماليق» أو «مالوق»، وأضاف اليهود إليها لفظ «عم» بمعنى شعب، فقالوا: «عم ماليق » أو «عم مالوق»، فقال العرب: «عماليق» أو «عمالقة»، ثم أطلقوه على طائفة كبيرة من العرب القدماء.
كان العمالقة على علاقة بالكنعانيين والآموريين والإسرائيليين، وعلى الرغم من أن علم الإثنولوجيا اليهودي يجعلهم فرعا من الآدوميين، ويربطهم بقبيلة إفرايم، فإنه يصورهم باعتبارهم أعداء للإسرائيليين، نهب العمالقة الشعب اليهودي في أثناء هروبه من مصر، واندمجوا بينه وهاجموه، ولكنه انتصر عليهم بزعامة يشوع، وكان العمالقة جزءا من الجيش الذي جرده أجلون (صحها: عجلون [المؤلف]) ملك موآب لمضايقة إسرائيل.
9
وفي لسان العرب:
العمليق: الجور والظلم. وعملق ماؤهم: قل، والعملاق: الطويل، والجمع: عماليق، وعمالقة. والعمالقة من عاد، وهم بنو عملاق. قال الأزهري: عملاق: أبو العمالقة، وهم الجبابرة الذين بالشام على عهد موسى عليه السلام. قال ابن الأثير: العمالقة: الجبابرة الذين كانوا بالشام، من بقية قوم عام. قال: ويقال لمن يخدع الناس ويخلبهم: عملاق. قال الجوهري: العماليق والعمالقة: قوم من ولد عمليق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح، وهم أمم تفرقوا في البلاد.
وفي المرادف التبادلي لكلمة عمالقة بالتوراة، «عناقين»، نبحث في لسان العرب، فيطالعنا تحت مادة «عنق»:
العنق: طول العنق وغلظه، والأنثى عنقاء. وهضبة معنقة وعنقاء: مرتفعة طويلة. والأعناق الرؤساء. والعنق: الجماعة الكثيرة من الناس. وجاء القوم عنقا عنقا، أي طوائف. قال الأزهري: إذا جاءوا فرقا، كل جماعة منهم عنق. ويقال: جاء القوم عنقا عنقا، أي رسلا رسلا، وقطعا قطعا. وقيل: الأعناق: الرؤساء الكبار. والمعنق: ما صلب وارتفع من الأرض وحوله سهل. وقال الأزهري: العناق: الأنثى من أولاد المعزى إذا أتت عليها سنة.
والعناق: شيء من دواب الأرض كالفهد، وقيل: عناق الأرض: دويبة أصغر من الفهد طويلة الظهر، تصيد كل شيء حتى الطير. قال الأزهري: عناق الأرض: دابة فوق الكلب الصيني، يصيد كما يصيد الفهد، ويأكل اللحم وهو من السباع. يقال: إنه ليس شيء من الدواب يؤبر أي يخفي أثره إذا عدا غيره، وغير الأرنب، وجمعه عنوق، والفرس تسمية سياه كوش. قال: وقد رأيته بالبادية وهو أسود الرأس أبيض سائره. والعنقاء طائر ضخم ليس بالعقاب، وقيل: العنقاء المغرب: كلمة لا أصل لها، يقال إنها طائر عظيم لا ترى إلا في الدهور. وقيل: سميت عنقاء؛ لأنه كان في عنقها بياض كالطوق. قال ابن الكلبي: كان لأهل الرس نبي يقال له حنظلة بن صفوان، وكان بأرضهم جبل يقال له دمخ، مصعده في السماء ميل، فكان ينتابه طائرة كأعظم ما يكون، لها عنق طويل من أحسن الطير، فيها من كل لون، وكانت تقع منقضة، فكانت تنقض على الطير فتأكلها، فجاعت وانقضت على صبي فذهبت به فسميت عنقاء مغربا؛ لأنها تغرب بكل ما أخذته. فشكوا ذلك إلى نبيهم فدعا عليها، فسلط الله عليها آفة فهلكت، فضربتها العرب مثلا في أشعارها. ويقال: ألوت به العنقاء المغرب، وطارت به العنقاء والعقاب، وقيل: طائر لم يبق في أيدي الناس من صفتها غير اسمها، والعنقاء اسم ملك. والأعنق: فحل من خيل العرب معروف، إليه تنسب بنات أعنق من الخيل.
أما مختصر كتاب البلدان للهمداني فيقول:
كانت منازل العماليق في موضع صنعاء اليوم (وهو ما يذكرنا بقول التاريخ الفينيقي بقدومهم من بحر أريتريا).
ثم خرجوا فنزلوا مكة، ولحقت منهم طائفة بالشام ومصر، وتفرقت طائفة في جزيرة العرب والعراق، ويقال إن فراعنة مصر كانوا من العماليق.
10
ومع المرادف التبادلي لكلمة عمالقة «عناقين» من «عنق» و«عنك»، نستقرئ المتشابهات بلسان العرب، فيخبرنا واضحا فصيحا، يقول تحت مادة «عنك» باستبدال القاف كافا:
عنك: وعناك بالنون: الرمل، والعانك الأحمر، يقال دم عانك، وعرق عانك: إذا كان في لونه صفرة. والعانك من الرمل في لونه حمرة. والعيك الشجرة المتلف، لغة في الأيك، واحدته عيكة.
وتنويعات على ذات المادة «علك» تحتها، يقول لسان العرب: «والعلك ضرب من صمغ الشجر كاللبان»، و«علق» وفيها يقول:
علق: العلوق ماء الفحل؛ لأن الإبل إذا علقت وعقدت على الماء انقلبت ألوانها حمراء، والعلقى: شجرة تدوم خضرتها في القيظ، ولها أفنان طوال، والعوالق: الغول، وقيل الكلبة الحريصة.
وقولهم «طويل العوالق»؛ أي: طويل الذنب. والعليق نبات معروف يتعلق بالشجر ويلتوي عليه. وزعموا أنها الشجرة التي أنس موسى عندها النار. وقيل العلق القامة، والمعلاق اللسان البليغ. والعلق: الدم، وهو ما اشتدت حمرته.
والغريب في بابه، بل والمدهش، أن نجد مقابل «عنق» العربية كلمة «عنخ» في المصرية القديمة، وترسم هيرغليفيا بالعلامة الدالة على مفتاح الحياة، تعني أيضا إكليلا من الزهور، وعادة ما كان المصريون يضعون الأكاليل حول العنق، كما كانوا يعلقون بالرقبة «العنخ» نفسه مفتاح الحياة، وهو على هيئة الصليب. وهنا يحكي لنا الأركيولوجست «شيفمان» الباحث في أركيولوجيا أوغاريت (رأس شمراء قرب اللاذقية على الساحل السوري): «تبين المواد الأركيولوجية، التي وجدت في أوغاريت، أنه كان يعيش على تخوم الألف الثالث، الثانية قبل الميلاد، وفي القرن الأول من الألف الثاني قبل الميلاد، شعب أطلق عليه في الأدبيات التاريخية «ذوو الأطواق»، أما الأصل الذي انحدر منه هذا الشعب فغير معروف، وبظهوره يرتبط عصر ازدهار تصنيع البرونز، وظهور ضروب جديدة من الأسلحة، رماح ذات نهايات مسكوبة، الخنجر الثلاثي ذو القبضة، وفئوس ذات شفرة لها ثقبان، ويرتبط بهذا الشعب التمثالان الفضيان ذوا الطوقين الذهبيين، للإله والإلهة اللذين وجدوا إلى الغرب من معبد بعل في أص محاط بالحجارة، ويلفت النظر «شكل الصليب» الموجود على صدر الإله والإلهة، فهو يحمل طابعا مقدسا واضحا، لم يتسن فك رموزه حتى الآن.»
11
لكن الخط السليم لسير التاريخ لا يني يدعمنا بالشرح والتفصيل، فيعيد الأمور إلى نصابها والأطواق إلى مكانها، فيعلمنا إحسان عباس، وهو يتحدث عن البتراء، أن الإله الآدومي «ذو الشرى»، كان ذا علامة مميزة واضحة تخصه، وهي أنه «كثيرا ما يظهر هذا الإله لابسا أطواقا».
12
ومعنا تلتقي كلمة «عنخ» المصرية مع كلمة عنق العربية، وبني عناق العمالقة أو العناقين، ومؤنثها المصري القديم هو «عنخت»، وتشير في مدلول آخر «إلى أنثى الماعز»، وهو ذات المعنى الذي يورده لسان العرب عن الأزهري، وهو يقول: «العناق: الأنثى من أولاد المعزى.» و«عنخت» إلهة مصرية هي زوجة الإله المترجم عن الهيروغليفية إلى الأحرف اللاتينية «خنوم»، الإله الكبش صانع البشر من صلصال كالفخار، والواجب نطقها نطقا صحيحا تماما الإله (خنوف /خروف/«غنم»). والكلمة «غنم» دالة على الخراف والماعز كليهما، ونحن نعلم من قواعد الهيروغليفية أن هناك إبدالا جائزا بين الخاء والزاي، فتصبح عنخ هي عنز، كما يتم ذات الإبدال بين الخاء والقاف، فتصبح عنخ هي عنق.
13
شكل رقم «74»: خنوم/خروف/خنوف/المعبود المصري بتاج الألوهية.
شكل رقم «75»: حتى اليوم خاروف (قائد قطيع) توضع على رأسه زينة لدى بدو البتراء، ذكرى بتاج خنوف المصري.
ومن جانبه يحيطنا إريك هورننج علما أن الإلهة المصرية عنقت
Anukis ، أو عنقة، كانت تعبد في مصر في هيئة بشرية؛ تلبس تاجا من الريش، والريش على الرءوس في نقوش مصر القديمة يشير إلى البدو الرعاة، ويزيدنا علما أنها كونت ثالوثا في جزيرة الفنتين هو «عنقت
Anukis + خنوم أو خنوف أو الخروف
Khnum + سيت
Satis »، والمعلوم أن الفنتين كانت مقر جالية يهودية، عاشت هناك ردحا طويلا من الزمان كما سيأتي بيانه، أما الأكثر دلالة فهو أن الحيوان الرمزي هذه الإلهة عنقة، أو عنقت
Anukis
العنقاء، فكان العنز أو المعز.
14
ومما هو جدير بالذكر أن
Aegyptus
اليونانية التي تطلق على مصر
Egypt ، المأخوذة من جباتا الواقعة في بلاد آدوم على حدود سيناء الشرقية كما أسلفنا الاجتهاد، تعني أيضا في اليونانية «عنز متسلق». ويرى الباحثون أن مادة عنز من الأصل «عز»، العنز في الأوغاريتية عز والأكادية
Azzatu
وبالسريانية عيزا وبالعبرية عز، ومن هذا الفعل جاء معنى العزة والقوة،
15
ومنها أيضا العزيز.
ويقول «علي الشوك» عن المواضع التي حددناها لمجيء هجرات الأحلاف نحو سيناء وآدوم: إنها كانت مواطن العنز، فالعنز أبدا لم يكن حيوانا منتشرا في بقاع الأرض، فقد «أظهرت الحفريات الآثارية أن موطن الماعز، هو جنوب غربي آسيا، وبالتحديد غربي إيران وشمال العراق وجنوب تركيا. والماعز كان معروفا في البيضا جنوبي البحر الميت، والماعز مع الخراف أو بدونها، تم رعيها بمراحل تدريجية عبر سيناء، التي لم تكن صحراء قاحلة بالتأكيد كما هي عليه الآن، بل ليست تلك الصحراء التي يتصورها البعض.»
16
وقد استخدم المصريون للدلالة على بدو آسيا ثلاثة أسماء على التبادل هي: «ستيو»، واتفق على أنها تعني الآسيويين، وهذا فيما نرى خطأ شائع؛ لأن الأصل في نسبتهم - حسبما نرى - إلى رب البوادي والصحارى الإله «سيت»، رمز الشر في مصر القديمة، وتعني ستيو أيضا الجنوبيين بالنسبة لمصر، وربما في عصور لاحقة بعد الدولة القديمة، أخذت كلمة ستيو منحاها للدلالة على عبادة الإله سيت، فصبغت البدو الشرقيين باسمه فأصبحوا السيتين/ستيو، وهو ما يعني أن آسيا اكتسبت اسمها من المصطلح المصري الدال على أتباع الإله سيت.
والاسم الثاني الذي أطلق على بدو آسيا، وهو «شاسو»، فيعني الدائب الحركة دون توقف «خلقت قدماه للارتحال/حسب نصائح مري كارع»، فهي تشير عندنا إلى البدو الرحل، وعادة ما كانت تطلق «شاسو» على بدو سيناء تحديدا. وأخيرا لدينا «عامو» أو «آمو» وكانت الأكثر استخداما للدلالة على غزاة مصر المعروفين بالهكسوس، والكلمة المصرية «ع م و» جمع بالواو لكلمة «عم»، وفي لسان العرب:
العرب تقول للرجل إذا سود: قد عمم، وكانوا إذا سودوا رجلا عمموه عمامة حمراء. والعميم: الطويل من الرجال والنبات، ومنه حديث الرؤيا: فأتينا على روضة معتمة أي وافية النبات طويلة، وكل ما اجتمع وكثر فهو عميم. ويقال: اعتم النبت اعتماما إذا التف وطال. ونخلة عميمة: طويلة. والعمم: عظم الخلق في الناس وغيرهم، فالعمى العام والقصرى الخاص. وعمعم الرجل إذا كثر جيشه بعد قلة. والعم الجماعة، والعماعم الجماعات المتفرقون.
وعم في الثلاثي عنم هي:
العنم: أغصان تنبت في سوق العضاه، رطبة لا تشبه سائر أغصانها، حمر اللون، وقيل: هو ضرب من الشجر له نور أحمر، تشبه به الأصابع المخضوبة. قال ابن الأعرابي: العنم الشجر الأحمر، والعنمي الحسن الوجه المشرب بحمرة. وقال بعضهم: العندم دم الغزال بلحاء الأرطى، يطحنان جميعا حتى ينعقدا، فتختضب به الجواري.
ومن تلك المعطيات نجد العمالقة يحملون لقب الجبابرة، وأنهم كانوا طغاة وهو ما يعني أنهم كانوا حكاما، والمحتمل وفق معطيات الموسوعة العربية الميسرة، أن يكونوا من عرفهم اليونان باسم الهكسوس غزاة مصر، وأنهم كانوا يسكنون العقبة وشمالها، وربما كانوا من العرب القدماء، وهم فرع من الآدوميين، أما لسان العرب فيقول إنهم من قوم عاد، وينتسبون إلى الشخص الأسطوري المعروف باسم إرم ابن سام، الأمر الذي يذكرنا بآيات القرآن عن عاد
إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد .
وإذا أخذنا بالاسم المرادف «عناقين» جمع عناق، فهو أيضا يحمل معنى العملقة، فالهضبة المعنقة هي المرتفعة الطويلة، ويحمل أيضا معلومة حفظها لنا اللسان في كلمة الأعناق وهي: الأعناق أي الرؤساء، إضافة إلى كون الكلمة تحمل معنى الكثرة الشديدة، مما يشير إلى كونهم كانوا شعبا غفير العدد، ناهيك عن كونهم كانوا طوائف، أي مجموعة بشرية، متحدة أحيانا متحالفة أحيانا أخرى، وهو ما يذكرنا بالتعبير الآشوري «أخلامو» أو أحلاف، وأنهم كانوا أصحاب «ماعز»، وفي بلادهم كان يعيش حيوان مفترس في هيئة الكلب الطويل الشبيه بالسلوقي، وتحكى عنهم أساطير؛ فكان يعيش في بلادهم طائر ضخم باسم العنقاء، الذي سبق وعرفناه باسم الفوينيكس أو الطائر البونتي، وتكرر الأسطورة العربية الأسطورتين المصرية واليونانية، فهو يظهر كل دهر وبعد زمان بعيد من ظهوره الأول «طائر عظيم لا يرى إلا في الدهور»، ونسب العرب إلى العناقين الجياد العنقاء، أي الفحول الأصيلة منها، ثم إن منهم كان بعض فراعين مصر، وعلم التاريخ يؤكد لنا أن مصر لم تعرف الخيول طوال تاريخها إلا مع غزو الهكسوس، فالآثار المصرية والنصوص القديمة قبل الغزو الهكسوسي، تخلو تماما من أي ذكر للحصان أو العربة، كما لم توجد أي دفنة لحصان واحد، أو حتى لعظام من حصان في أي من المقابر أو الدفنات أو الطبقات الأركيولوجية قبل الغزو الهكسوسي. كذلك تخلو النقوش والرسوم المصرية قبل الغزو الهكسوسي خلوا تاما من صورة الحصان، رغم أن المصريين قد سجلوا ورسموا صورا لكل حيوانات البيئة المصرية وطيورها ونباتها بشكل إحصائي دقيق، وهو ما يعني أن المصري حتى غزو الهكسوس كان يجهل تماما، أن هناك كائنا من هذا النوع يوجد في العالم.
17
ومن جانب آخر إذا أخذنا بالتسمية المصرية لغزاة بلادهم الهكسوس «عامو»، فيظهر أن لهم علاقة وطيدة باللون الأحمر، وأنهم كانوا قوما عظام الطول، ضخام الجسد. ويفرق لسان العرب بين التسمية المصرية رجل من العامو «رجل عمي»، أي مبتدي صحراوي بدائي، وبين أهل المدر والحضر والخصب، الذين هم سكان القصور «رجل قصري». ويعود اللسان لتذكيرنا أن «عم» هو الجماعة المتشظية، وباسمهم هناك شجرة حمراء لها نور أحمر، وهي شجرة طويلة عظيمة، تستحق اسم «الأيكة».
وهنا نستمع إلى «جاردنر» وهو يحدثنا عن حجر القاهرة المعروف باسم «حجر باليرمو»، وفيه إشارة إلى ما حدث في عهد الملك الثاني من ملوك الأسرة الأولى التأسيسية، وفي هذا الزمن المبكر زمن الملك المدعو «جر»، إشارة إلى ضرب الملك لمناطق «ستية».
18
ثم بعده نقرأ عن ملك باسم «عنخاب»، أنه قد ضرب شعب «الأيونتيو» أو «عنتيو»، والعنتيو هو البخور الأبيض في اللسان المصري القديم، ويعني أيضا عند جاردنر وعبد العزيز صالح «أصحاب العمد»، ومع تعقيب يقول: «وهذا اصطلاح مبهم ربما يشير إلى شعوب قطنت شمال شرقي الدلتا، أو بدو الصحراء الشرقية وسيناء وما وراءهما»،
19
هذا بينما كان عبد المنعم عبد الحليم لم يزل يصر على أن شعب العنتيو/أي اللبان الدكر هم سكان الصومال؟! (انظر أعمدة البتراء (إرم ذات العماد؟!) الشكل رقم «76، 77».)
شكل رقم «76»: مسلات أو أعمدة البتراء.
شكل رقم «77»: أنشأها أصحاب العمد.
ويضيف نجيب ميخائيل على ذات النصوص شارحا من هم العنتيو أصحاب العمد بقوله: «وقد أطلق عليهم سترابو اسم سكان الكهوف، الذين كانوا يعيشون على النهب والسلب والتجارة في قوافل تقطع صحراء العرب»،
20
لقد كان العنتيو هم العماليق ضمن سكان بلاد آدوم ومحيطها، أصحاب البخور، أم يا ترى عنتيو أو أنيتو هي مقلوب «تينو/تين»، تلك الثمرة المقدسة التي أتت بها بعثة حتشبسوت، لتستزرعها أمام معبدها «شجرة البيرسيا المقدسة»؟ ربما! وتشترك «عنتيو» في جذرها الثلاثي مع «عتي» و«عاتي» و«عتو» من القوة والشدة والعملقة. وهنا نقف نستمع إلى ديودور الصقلي يروي قائلا: «بعد أن جعل الملوك في الإسكندرية طريق البحر ميسرة لإبحار تجارتهم، لم يكتف هؤلاء العرب بمهاجمة من تحطمت بهم سفنهم، بل أنزلوا إلى الماء سفن قرصنة تطارد التجار والمسافرين، محاكين بتلك الأعمال الوحشية الجامحة للطائوريين من أهل بنطس.»
21
وهو ما يعني أن عرب وادي عرابة يشبهون في لصوصيتهم سكان بلاد بنطس شرقي البحر الأسود بأرمينيا. لقد أدرك ديودور التشابه لكنه لم يدرك أن من سكان عرابة جنسا قادما من أرمينيا من منطقة بنطس «بنط»، حيث كان يقوم ميناء بونت على البحر الأسود ولم يزل، وإن هؤلاء المهاجرين قد منحوا موطنهم الجديد في عرابة اسم موطنهم القديم «بونت».
ثم يدخل هيرودوت ليعطينا دعما قويا لنظريتنا، فيقول عن حدود مصر الشرقية، حيث المواطن التي عرفها هيرودف ورفاقه من مؤرخين بأنها البلاد العربية.
وتضيق مصر ابتداء من مدينة هيروبوليس جنوبا، فعلى أحد جانبيها تمتد سلسلة الجبال العربية (الهضبة الشرقية الآن [المؤلف]) من الشمال إلى الجنوب ... ويستمر امتدادها حتى البحر المسمى بحر إروتري (هنا يشرح د. أحمد بدوي في الهامش أن بحر إروتري هو البحر الأحمر، وبالتحديد الخليج العربي منه، وهو خليج السويس حاليا)، وهنا توجد مقالع الأحجار (وقد وجدت بالفعل هناك مقالع الأحجار، وبخاصة الفيروز [المؤلف]) ... وأقصى اتساع مسيرة شهرين ... وحدودها الشرقية تنتج البخور.
22 (هيرودوت، 77-78)
إن هيرودوت هنا يحدثنا عن المسافة بين الخليج العربي (السويس) وبين خليج العقبة عبر سيناء، حيث الوصول عبر سيناء يستغرق مسيرة شهرين، وهناك عند خليج العقبة، أو الحدود الشرقية لمصر، منطقة تنتج البخور أو بتعبيره «وحدودها الشرقية تنتج البخور»، ولأنه يريد بالضبط المسافة بين السويس والعقبة، يستمر شارحا اتجاها آخر من خليج السويس، «أو خليج العرب» نحو الجنوب في عمق البحر الأحمر المتجه نحو المندب فيقول:
ويوجد في بلاد العرب غير بعيد عن مصر، خليج يوغل في الداخل من البحر، الذي يسمى ببحر أروتري، وهو خليج طويل وضيق جدا كما سأوضح، إذا بدأ المسافر من جوف الخليج وضرب في عرض البحر، فإنه يستغرق في عبوره طولا أربعين يوما مع استخدام المجاديف.
هنا لا يقول هيرودوت إن المسافة مسيرة، إنما إبحار بالمجاديف يستغرق أربعين يوما، ثم يحدثنا عن عبور الخليج العربي عرضا في أوسع أجزائه بقوله : «في حين أن اجتيازه عرضا في أوسع أجزائه يستغرق إبحار نصف يوم، وبه يحدث مد وجذر كل يوم.»
ولمزيد من تحديد المكان الذي يتحدث عنه يقول: «فمناطق الساحل العربية مأهولة بالسوريين»،
23
وكلمة السوريين للتعبير عن البدو الآسيويين لدى هيرودوت.
لقد عمدنا إلى تفصيل رواية هيرودوت، حتى لا يكون هناك أي لبس بين الإبحار من خليج السويس جنوبا، وبين الاتجاه من خليج السويس شرقا بالسير البري، وهناك، كما قال في أقصى الحدود الشرقية، سنجد الخليج الثاني (العقبة)، حيث أكد هيرودوت أن البلاد كانت هناك «تنتج البخور» أو العنتى. (انظر مفتاح الحياة المصري «العنخ» ولوحة لبدو ساميين من مصر القديمة.) (الشكل رقم «78، 79».)
شكل رقم «78»: مفتاح الحياة المصري «عنخ».
شكل رقم «79»: بدو ساميون في لوحات مصرية من العصر الإهناسي يزورون مصر، بصحبتهم العنز والحمار من ضريح «خنوم حتب». الشخصان في مقدمة الصورة العلوية مصري.
شكل رقم (80): عندما أوجه وجهي نحو الشرق، فإني أولي وجهي إلى بلاد «بونت» أرض الإله.
شكل رقم «81»: سيت، تفصيل علوي.
شكل رقم «82»: لم نتمكن من العثور على لوحة الإله المدياني يلبس أطواقا، لكن لدينا الإله ست المصري يلبس أطواقا، ويطابق بذلك ذي الشرا أو «شرا»، وتشترك «شرا» في جذرها مع فعل ال «شر» صفة ست.
شكل رقم «83»: رسوم العنز القديم في صخور ثمودية في سيق الخزعلي بوادي «رم».
شكل رقم «84»: ماعز، عنز بري، سيناء ووادي عربة.
شكل رقم «85»: عنز مدجن.
الفصل الثاني
سر الملكة السوداء
على جداريات معبد روعة الروائع بالدير البحري بالأقصر، نقش الفنان المصري ضمن تقريره الدقيق رسما لملكة بلاد بونت: سوداء شديدة الامتلاء، ومعها عنصر بشري يبدو أنه ينتمي إلى ذات جنس الملكة: أسود تبدو في ملامحه إفريقية واضحة، كذلك العنصر الأحمر المشار إليه باسم إرم مع عنصر ثالث يشبه المصريين، وتتضح عليه السمات السامية.
ويحدثنا الكتاب المقدس زمن حكم الملك سليمان، المؤسس الحقيقي لمملكة بني إسرائيل في فلسطين، عن زيارة ملكة لم يذكر لنا الكتاب المقدس اسمها، وعرفها فقط بأنها «ملكة سبأ»، في رواية أراد بها الكاتب التوراتي الإشادة بعظمة الملك سليمان، الذي يزعم ذلك المقدس أن حكمته وشهرته قد طبقت الآفاق، وأن ملوك الارض قد سعوا إليه يطلبون مودته، ومع ذلك لا نسمع أية رواية في ذلك المقدس عن زيارة ملكية، حدثت لبلاد سليمان سوى زيارة «ملكة سبأ»، وتقول الرواية:
وسمعت ملكة سبأ بخبر سليمان لمجد الرب، فأتت لتمتحنه بمسائل، فأتت إلى أورشليم بموكب عظيم جدا، بجمال حاملة أطيابا وذهبا كثيرا جدا وحجارة كريمة، وأتت إلى سليمان وكلمته بكل ما كان بقلبها ... وأعطت الملك مائة وعشرين وزنه ذهبا، وأطيابا كثيرة جدا وحجارة كريمة، لم يأت بعد ذلك مثل ذلك الطيب في الكثرة، الذي أعطته ملكة سبأ للملك سليمان، فعمل سليمان خشب الصندل درابزينا لبيت الرب، وبيت الملك، وأعوادا وربابا للمغنين، لم يأت ولم ير مثل خشب الصندل ذلك إلى اليوم. (ملوك أول، 10: 12، 10، 2، 1)
ولنلحظ أن خشب الصندل لا يأتي إلا من جنوب شرقي آسيا وجنوب الهند (وخاصة مع القول: أنه لم يعرف مثل هذا الخشب من قبل)، وفي سفر أيوب، ذلك العبراني الذي كان يعيش على حدود فلسطين الجنوبية في جوار آدوم، نجد ذكرا متكررا لشعب باسم سبأ والسبئيين، ومثال ذلك:
نظرت قوافل تيماء، سيارة سبأ رجوها. (أيوب، 6: 19)
وتيماء في الجوار الشرقي لبلاد آدوم، لكن النص قد يفهم منه خاصة من كلمة «سيارة سبأ» بلاد اليمن، حسبما اعتدنا من معلومات متواترة، تحدثنا عن كون ملكة سبأ عاشت في اليمن، خاصة أنهم في هذا النص التوراتي يظهرون جماعات تاريخية متحركة (سيارة)، وهو ما يذهب بنا فورا إلى اليمن، مع ما نعلمه من التاريخ المتواتر عن مملكة سبأ اليمنية، لكن المشكلة هنا أن الكتاب المقدس لم يذكر لنا إطلاقا أن ملكة سبأ كانت ملكة يمنية، أما اللغز فهو أن إشارات الكتاب المقدس يفهم منها تارة أن سبأ كانت بلادا بعيدة عن فلسطين، وتارة أخرى لا يمكن أن نفهم إلا أن السبئيين كانوا جيرانا مباشرين، بل وملاصقين لجنوب مملكة سليمان في فلسطين، فهناك نص يشير إلى أن السبئيين من ديار بعيدة، ويمثل ذلك في القول:
وأبيع بنيكم وبناتكم بيد بني يهوذا، ليبيعوهم للسبئيين، لأمة بعيدة، لأن الرب قد تكلم. (يوئيل، 3: 8)
بينما هناك نصوص أخرى تؤدي معنى مخالفا تماما، كما في رواية أيوب الذي يحكي كيف هبط عليه مهاجمون استولوا على ثروته، ويقول:
البقر كانت تحرث، والأتن ترعى بجانبها، فسقط عليها السبئيون وأخذوها، وضربوا الغلمان بحد السيف. (أيوب، 1: 14، 15)
وتعبير «سقط» هنا يشير إلى قرب شديد لموقع السبئيين من فلسطين الجنوبية، ويدعمه أن الكتاب القدس كان يربط دوما بين عدد من الشعوب، يعتبرها من نسب واحد وجنس واحد، ونموذجا لذلك قوله:
وبنو حام: كوش ومصرايم وفوط وكنعان، وبنو كوش سبأ وحويلة وسبتة ورعمة وسبتكا، وبنو رعمة شبا وددان. (تكوين، 10: 6، 7)
ويتكرر ذات النسب في موضع آخر يقول:
وبنو كوش: سبأ وحويلة وسبتا ورعما وسبتكا، وبنو رعمة شبا وددان. (أخبار أيام أول، 1: 9)
ولنلحظ هنا أولا ذلك الربط بين المصريين والسبئيين، فالمصري «مصرايم» حامي من بني حام، و«كوش» ويقصد به الجنس الزنجي، وهو أيضا حامي من بني حام، فهما إذن شقيقان، ومن أبناء «كوش» بنو رعمة، ومن أبناء رعمة «شبا» الذي يأتي مقترنا باسم «ددان»، ويتكرر ذلك الاقتران مما يشير إلى تجاور جغرافي، و«ددان» هي «العلا» شرقي «آدوم» الآن.
ويكرر الكتاب المقدس ربطه المستمر بين الجنس الزنجي «الكوشي» وبين السبئيين، فعدا كونه قد اعتبر سبأ ابنا من أبناء كوش، فقد كان الكوشي والسبئي حليفين، كما في النص:
هكذا قال الرب: تعب مصر وتجارة كوش والسبئيون ذوو القامة، إليك يعبرون ولك يكونون، خلفك يمشون، بالقيود يمرون، لك يسجدون، إليك يتضرعون قائلين: فيك وحدك الله وليس آخر إله. (إشعيا، 45: 14)
ولمزيد من التحديد وراء اتساق ذلك المبعثر، نقرأ بالكتاب المقدس:
بكران مديان وعيفة كلها تأتي من شبا، تحمل ذهبا ولبانا وتبشر بتسابيح الرب. (إشعيا، 60: 6)
فهذه جمال مديان بلاد التجار الآدومية، تحمل منتجات نعرف نوعها ومصادرها، منها: الذهب واللبان (البخور)، وربما يكون المقصود أن تجار مديان يأتون بمنتجات سبأ من بلادها البعيدة، أو أن يكون المقصود أن مواطن مديان هي ذات مواطن سبأ (؟!).
وحتى لا يتصور القارئ أن بنا جموحا، لا يستند إلى مقومات تدعمه لمزيد من تأييد مذهبنا، في موطن التجار الميتانيين أصحاب بلاد نهرين الحورية، فإننا لا بد أن نقر بصدق ما وصلنا إليه من كشوف في بلاد اليمن، أكدت قيام مملكة كبرى باسم سبأ في تلك البلاد حوالي عام 900ق.م. وأن تلك الكشوف تملأ المنطقة ولا ينكرها عاقل، ومن ثم سنحاول الإمساك بطرف الخيط للوصول إلى الغرض من أقصر السبل، فنبدأ بقول العالم الأركيولوجي في حضارات الجنوب العربي «فرتزهومل»: «إن الأماكن التي عثر فيها على آثار عربية جنوبية خارج حدودها، وجدت في أقصى الشمال الغربي، أي بلاد مدين القديمة»،
1
أي إنه قد عثر على آثار عربية جنوبية في بلاد مدين القديمة بشرقي سيناء حول العقبة، بعيدة عن بلاد العرب الجنوبية، أصحاب تلك الآثار بمسافات شاسعة من الصحارى الكبرى، ومن ثم يطرح «هومل» سؤالا غريبا مستغربا يستريب في أي المكانين كان هو الموطن الأصلي للحضارات التي اصطلح على تسميتها حضارات الجنوب العربي؟! وكانت تلك الحضارات تتمثل في أربع ممالك هي: قتبان وحضرموت ومعان وسبأ، ثم يخص سبأ بالذكر، فيتساءل عن حضارتها التي قامت في بلد اليمن ويقول: «هل هذه الحضارة قد بلغت هذه الدرجة من النمو والاكتمال في البلاد ذاتها، أو أنها جاءت إلى البلاد من الخارج كاملة ناضجة؟».
2
ثم يجيب على السؤال الذي طرحه باكتشاف جديد تماما، وهو أن الشعب الذي ظهر في بلاد العرب الجنوبية حوالي عام 800ق.م. أو 900ق.م. كان يعيش في منطقة أخرى قبل ذلك بأزمان، وأنه كان له في تلك الفترة تاريخ هام، وأن تلك المنطقة الأخرى كانت بداية التاريخ الحقيقي للسبئيين، وأن هذا الوطن الأول أو الخارجي كان يقع في شمالي بلاد العرب.
ثم استنتج «هومل» أنهم عاشوا في الإقليم العربي الشمالي، الذي كان يطلق عليه الآشوريون: بلاد «عريبي»، وأن لدينا معلومات أخرى عن ذلك الإقليم، من المأثور الآشوري، فالكتابات الآشورية تذكر هذا الإقليم ، مع عدد من الملكات على التوالي، منهن الملكة زبيبي ملكة بلاد عريبي، ومنهن الملكة سمسي حوالي 738ق.م. وذكر لملكة أخرى باسم يتعي أيام الملك سنحاريب الآشوري، وملكة رابعة زمن الملك آسر حدون الآشوري باسم «تبوءه».
وهنا ننقل عن «هومل» نصيا قوله:
ورد مرة لفظ سبأ في نقش معيني، وكان هذا النص يشير إلى أن هذا اللفظ يدل على قبيلة بدوية، كانت تسطو على الطريق التجاري، الممتد بين بلاد العرب الجنوبية، وبين معان الواقعة في شمال بلاد العرب، وكانت تسطو أيضا على القوافل المعينية القادمة إلى مصر، ثم نقرأ القصة التي تحدثنا عن زيارة ملكة سبأ لسليمان، فهذه القصة لا يمكن فهمها جيدا إلا إذا قدرنا أن السبئيين كانوا يقطنون في شمال بلاد العرب، وليس الإنسان في حاجة هنا إلى تأويل، ونستطيع أن نعتقد أن هناك نواة تاريخية لهذه القصة، كذلك مما يؤيد وجود وطن للسبئيين أصلي في شمال بلاد العرب، وورد لفظ سبأ مصحوبا بلفظ ددان في العهد القديم. كذلك من العبارات التي تذكر وطن السبئيين في شمال بلاد العرب، ما جاء في النقوش السبئية ذاتها، حيث نجد سبأ ويهبليج، وكذلك سبأ وبيشان، وما إليها، ولا نجد لفظ سبأ مستقلا؛ وذلك لأن يهبليج هي دقلة في بلاد الجوف في شمال بلاد العرب، وبيشان هو وادي الدواسر.
3
وهكذا وجد هومل إشارات أركيولوجية ونصوصية قديمة، استنتج منها أن السبئيين كانوا خارج بلاد اليمن، في شمالي بلاد العرب، قبل أن يهبطوا جنوبا إلى اليمن، ليبدءوا هناك حضارة جديدة حوالي عام 900ق.م. وأن موطنهم الشمالي الأول هذا، هو المكان الذي أطلقت عليهم نصوص الرافدين «بلاد عريبي» أي «العربية» أو «العربة»، وأن تلك المملكة اشتهرت بحكم النساء لها، ومنهن ملكات شهيرات، وهو الأمر الذي يلتقي مع ما ورد بالكتاب المقدس، عن ملكة سبأ التي زارت سليمان، على أن «فرتز هومل» أبدا لم يحدد لنا مساحة بعينها أو موقع معلوم بعينه، أو تسمية أخرى قديمة لتلك الأرض التي قامت فيها مملكة سبأ الأولى، ولا حدود تلك الأرض.
لكن في نص آخر لعالم آخر متخصص في جنوب الجزيرة، لا يقل شأنا هو «رينيه ديسو»، نفهم أن هناك قبائل عاشت شمال بلاد العرب، جاءت إليها من الجنوب اليمني، وهو ما يقوله نصا: «ومن المحقق أن السكان الذين أقاموا في اللجة ببادية الشام في قرية باسم نجران، قد أتوا من جنوب الجزيرة العربية؛ لأن اسم هذه القرية يذكرنا باسم المدينة المشهورة في جزيرة العرب، أما قرية بوريكة
Bourke
التي توجد أيضا في اللجة، فقد كان الرومان يطلقون عليها اسم
βορελα θξα∂αυ
أي بوريكة السبئيين».
4
وهذا يعني أن السبئيين جاءوا من الجنوب إلى الشمال من زمن بعيد، وأقاموا لهم ممالك في الشمال إذا أخذنا بالقولين، ثم جدت أحداث اضطرتهم إلى العودة مرة أخرى إلى مواطنهم الأولى في اليمن، حوالي عام 900ق.م.
ثم تستوقفنا لفظة «بوريكه» أو «بوليكة» لنجد لها صدى في لسان العرب؛ إذ يقول تحت مادة أيك:
في التهذيب: في قوله تعالى:
كذب أصحاب الأيكة المرسلين ، وقرئ أصحاب ليكة، وجاء التفسير أن اسم مدينتهم كان ليكة.
ولو صرفنا الاسم «بو - ليكة» بإضافة
US ، فستصبح «بوليكيس» أو «بلقيس »، ذلك الاسم الذي تواتر في المأثور الإخباري العربي بحسبانه اسم ملكة سبأ زمن الملك سليمان.
وهنا نقف مع «هومل» نتأمل:
البلاد باسم بلاد عريبي، والوادي الممتد بين العقبة والبحر الميت منذ وصلنا اسمه مدونا، يحمل اسم وادي عربة، ويقع في شمالي غربي جزيرة العرب، وهومل يقول: إن بلاد عريبي لا شك تقع شمالي جزيرة العرب.
فهل نجازف ونقول: إن الموقع الذي اخترناه للأحداث منذ بداية هذا البحث، هو الموقع الذي كان لا بد أن يبحث عنه هومل؛ حتى يجد بلاد عريبي، حيث قامت سبأ الشمالية بعيدا عن اليمن؟ ثم نرجح مع المرجحين الآن أن الملكة العربية، التي ذكرتها أخبار العرب وأشعارهم وأساطيرهم باسم الزباء، ليست زنوبيا ملكة تدمر زمن الرومان، خاصة أن هومل نفسه يقول إنه جاءنا اسم لملكة من ملكات بلاد عريبي باسم زبيبي في نصوص رافدية حوالي عام 738ق.م. وهو تاريخ قريب من تاريخ قيام دولة سبأ اليمنية من بعده، وربما كان هناك خطأ بسيط في الحسابات التاريخية، فإذا كان ذلك كذلك، فإن الملكة زبيبي كانت ضمن الخط الأخير لملكات سبأ الشمالية، وربما كان اسم زبيبي اسما متواترا في مسميات ملكات سبأ الشمالية، ويبدو أن واحدة من سلسلة الملكات «الزباء»، قد اكتسبت شهرة لأسباب لم تزل مجهولة لدينا، فذكرتها أساطير العرب وأخبارهم.
ولنلاحظ أن اسم «الزباء» أو «زباء» العربي، يتطابق لسانيا مع اسم المملكة والشعب المعروف باسم «سبأ»، وهو الأمر الذي يعني أن المجد الذي حققته الملكة الزباء، جعل الإشارة بعد ذلك إلى بلادها باسمها وإلى شعبها منسوبا إليها، بلاد الزباء أو بلاد الملكة سبأ.
وربما كانت «زباء» التي قيل إنها من ملكات سبأ، كانت هي ملكة سبأ التي زارت سليمان، وأغفل الكتاب المقدس ذكر اسمها دون سبب واضح، اللهم إلا إذا كانت الترجمة قد حولتها من «الملكة زباء» إلى «ملكة سبأ»، وهو الفرض الذي يجد تأييده في فراسة «فليكوفسكي»، الذي قضى شطرا من عمره يدرس التلمود، ليخرج ضمن ما خرج به بالقول: «إن الراي الواضح في التلمود كله، أن سبأ في تسمية ملكة سبأ، ليست تسمية جغرافية تعود إلى مكان معين، بل إنه اسم شخص، حتى المخطوطات العديدة عن جنوب شبه الجزيرة العربية، أغفلت أي ذكر لملكة سبأ هذه، عدا الكثيرين من الرحالة والباحثين، الذي قلبوا كل حجر في جنوب شبه الجزيرة، بأمل العثور على أي دليل، ولكن بلا أدنى أي نجاح يذكر في الكشف عن هذا اللغز.»
5
أما أصحاب الأخبار العرب، فقد رووا نتفا عارضة عن الزباء، فهي عند ابن قتيبة ابنة ملك الجزيرة، وأنها قتلت زوجها جذيمة الأبرش.
6
وإن ذهبت الأغلبية منهم إلى أن الزباء من العمالقة، ويلخصه القول إن: «العمالقة من ملوك حمير كانوا بالشام، ومنهم الزباء قاتلة جذيمة الأبرش الملك الأزدي، وهم من ولد عمليق بن السميدع بن الصوار بن عبد شمس، والعماليق من ولد عملاق بن لاوذ بن سام، منهم الفراعنة ملوك مصر.»
7
أما المؤرخ «ابن العبري» فيقدم لنا تعريفا بالملكة، التي زارت سليمان بقوله: «وأتته ملكة التيمن، وقدمت له مائة وعشرين قنطارا من الذهب، وطيبا وجواهر ثمينة»،
8
والتيمن ليس اليمن إنما هو واحدة من كور بلاد آدوم، وقبل «الملكة سبأ» ومملكة سبأ، نجد ذكرا لحضارة جنوبية تجارية كبرى باسم معين، وأنها أقامت لها محطات تجارية كبرى، وأنها قامت في الجنوب، وامتدت حتى حدود الجزيرة الشمالية عند معان المصرية، والظن أن معان المصرية اكتسبت اسمها من كونها أصلا محطة معينية، ثم نعتت بموضعها في جوار مصر الأقصى «آدوم وسيناء»، فسميت معان المصرية «معان مصران»، أما النص المعيني أو المعاني الذي جاء به «هومل» من بلاد اليمن، واكتفى بترجمته، دون أن يخبرنا بدلالته، فهو القائل: إن القوافل التجارية المعينية كانت تذهب بتجارتها إلى غزة ومصر (بالنص) وذلك:
عبر نهران وآدوم؟!
إن وصول التجارة المعينية إلى مصر المعروفة، كان يمر أولا مخترقا منطقة تحمل اسم نهران، وما زلنا نذكر نهارين/ميتاني/مديان، ثم منطقة آدوم في الجوار، وفي النقش رقم «535» الذي جاء به من الزمن الأركيولوجي «هليفي»، نجد حديثا يترجم بلا معنى بدوره، يتكلم عن علاقات تجارية لمعين اليمنية مع مصر وآشور، وأن الطريق التجاري كان يمر:
عبر نهران.
التي يترجمها:
أرض النهر.
ويضيف: لا بد أنها غزة (؟!) ثم لا يعطينا تفسير لماذا غزة؟! أما الأغرب فإنه ضمن نقوش «هليفي»، وبالتحديد في النقش رقم «501»، نجد في بلاد مدين عند العقبة ملكا معينيا، والمفترض أن معين باليمن (؟!)، وأن هذا الملك يحمل اسم «وقهي إيل نبط»،
9
وهو ما يذكرنا باسم تلك البلاد الذي افترضناه بلاد «بونت»، التي عرفت بعد ذلك باسم «النبط» أو «الأنباط»، ثم نجد المؤرخين المسلمين من الإخباريين القدامى، يذكرون لنا «يثرون» كاهن مديان نسيب موسى باسم «شعيب»، وأن «شعيب النبي من حمير».
10
أليست تلك بقرائن مبينة؟ وأن زمان المعينيين كان يعرف بلاد «آدوم/مدين» بأنها «نهرن» أو «أرض النهر»، وأن العلاقات بين الشمال والجنوب وصلت حد الالتحام، حتى حكم بلاد «مديان/آدوم» ملك معيني؟ وعاش فيها «شعيب» الحميري، وشعيب مدياني كما نعلم، مما يعني أن بعض سكان مدين كانوا من اليمن، ونتذكر أن هيرودوت جاء بالكنعانيين الفينيقيين من جنوب البحر الأحمر.
ومما يثري رصيدنا هنا ذلك النص الآشوري، الذي وردنا من زمن الملك «سنحاريب»، ويذكر فيه الجزية التي دفعها له ملك سبأ «كرب إيلو»، وهي الجزية التي تتكون من منتجات العطور والأحجار، كانت تليق ببناء مطعم بالذهب والفضة والأحجار النادرة، فقد كانت لبيت الإله أكيتو في بلاد آشور، أو كما يقول النص مؤكدا على أن الأحجار، تلك الأحجار التي لا شك لم تكن ككل الأحجار، لكنها أحجار تليق ببلاد آدوم:
عند وضع الأساس لبيت أكيتو، قدمت الهدية التي أمر ملك سبأ بإحضارها، وهي عبارة عن أحجار كريمة وروائح وأحجار، ومن هذه الهدية وضعت أنا الأحجار والروائح في بيت أكيتو ... فضة وذهبا، وحجر أوكنو، وحجر ساندو، وحجر خلالو، وحجر مشجر، وحجر أورس، وحجر أودشش، وسكبت ماء النهر.
11
ويعنينا هنا أن نورد مقطعا من المؤرخ اليمني محمد عبد القادر بافقيه، يشير فيه إلى أن الدكتور فرتز هومل يقول:
إن الفترة السابقة لتاريخ سبأ الحقيقي، بدأت خارج اليمن، ويرجح أن هذا الوطن الخارجي كان في الأصل شمال بلاد العرب، ومثل هذا سبق أن أوصى به سترابو، حين ربط بين الأنباط والسبئيين؛ لكونهم أول من سكن العربية السعيدة، وتمشيا مع هذا الرأي اقترح الأستاذ و. ف. ألبرايت، تاريخا لهجرتهم من الشمال إلى الجنوب اليمني حوالي 1200ق.م. ذاهبا في نفس الوقت إلى أن هجرتهم تلك، تأتي بعد هجرة القبائل الأخرى «معين وحضرموت وقتبان»، والتي حدثت في تقديره حوالي 1500ق.م. ولكننا لا نستطيع أن نقطع برأي في هذه القضية الشائكة، التي يكتنفها الظلام من كل جانب.
وقد ورد اسم سبأ بكثير من التفخيم في الكتابات الكلاسيكية ومنهم بليني، بأنهم أشهر من عرف من قبائل البلاد العربية، وأفرد لهم سترابو فقرة مطولة نقلا عن أرتميدوس، وصف فيها بلادهم، وذكر فيها أنهم شعب كبير التعداد، وأن بلادهم شديدة الخصوبة، تنبت المر واللبان، وأنواعا أخرى من الأعشاب الذكية الرائحة، وزعم أن لها أفاعي حمراء داكنة، طول الواحدة منها شبر، تقفز إلى خصر الإنسان، وأنها إذا لدغت فإن لدغتها غير قابلة للشفاء.
12
أما الكتاب المقدس؛ فكان يذكر على الدوام الكوشيين بالترافق مع السبئيين، والكوشيون هم الجنس الزنجي الأسود، أما الغريب حقا ويلتقي مع أطروحتنا التقاء مدهشا، فهو أن سفر التكوين بالكتاب المقدس يجعل الكوشي أخا للمصري وللكنعاني. لقد كان الكوشي أو السبئي يعيش على الحدود المصرية في بلاد آدوم، وعلى حدود فلسطين «بلاد كنعان» الجنوبية، وقد وجدت لغة الكتاب المقدس تعبيرها عن تلك العلاقة الجغرافية، بقولها إن الكوشي أخو المصري والكنعاني ساكن فلسطين، خاصة إذا لم ننس أن على تلك الحدود كانت تقع مصر الأقصى، حسبما أخبرنا هروشيوش، ويصبح مفهوما لنا نص التوراة، الذي كان شديد الغموض يقول:
بكران مديان وعيفة كلها تأتي من شبا. (إشعيا، 60: 6)
وهل التواصل الغريب بين الجنوب والشمال لجزيرة العرب، يمكن ملاحظته في تشابه أسماء الأعلام؟ وما يعنينا منها ذلك الاسم الذي تم العثور عليه في حفائر بابل، وذلك في قبر لعربي جنوبي يمني، كان يدعى «هنتشر بن عيسو »،
13
وعيسو كما عرفنا هو «آدوم الحوري» في الشمال.
وفي نصوص تجلات بلاسر الثالث الآشوري، نقع على جدول بالجزية التي وصلت عاصمته، والبلاد التي أرسلتها وأسماء ملوكها، وفي آخر ذلك الجدول نقرأ بترتيب جغرافي الجزى التي وصلته من ملوك متجاورين كالآتي:
سابينو بعل ملك بيت عمون، وسلمانو ملك موآب، وميتني ملك عسقلان، وأحاز ملك يهوذا، وكوش ماليكو ملك أيدوم، وملك غزة.
14
وكلها في ذات الموقع؛ لأن عمون وموآب تلاصقان شرقي البحر الميت وعسقلان على الساحل الفلسطيني، ويهوذا جنوبي فلسطين ملاصقة لآدوم، ثم آدوم الممتدة من البحر الميت إلى خليج العقبة، وملكها اسمه الأسود أو الزنجي «كوش»، وغزة على المتوسط في ذات الجوار.
وفي زمن آسر حادون ابن سمحاريب الآشوري 680-669ق.م. تجري حرب مع عدد من الملوك منهم «كوس جبري ملك إيدوم».
15
ولعله من الواضح هنا أن بعض ملوك آدوم، حتى هذا الزمن المتأخر كانوا يحملون صفة «كوش»، وفي النص الأول يمكن أن نرى فيه صيغة «الملك الكوشي»، وفي الثاني صيغة من معنى جبار وجبروت «كوش جبري»، فهو الكوشي الجبار، أو جبري الكوشي.
والنصان يرددان نظريتنا المتواضعة بكل فصاحة بشأن العمالقة، فقد قلنا إن من ألقابهم الجبابرة، وعم لاق أو عملاك، وهنا يأتي كوشي الزنجي مرة بكونه «ماليكو»، وهي بزيادة عم تصبح «عملاقي»، ثم مرة بكونه «جبري» أو جبار.
والكتاب المقدس، وهو يسجل قرابات الشعوب وأصولها، يجعل الكوشي أخا للمصري، يسكن إلى جواره، ونسل ذلك الكوشي الذي سميت بأسمائهم مواضع جغرافية، يمكنك أن تجده جميعا في حدود سيناء الشرقية، مثل سبأ وددان وحويلة حسب شجرة الأنساب التوراتية، وأنهم كانوا أبناء عمومة للكنعانيين بمدنهم الواردة بأسماء أشخاص كأبناء لكنعان بن حام، مثل صيدون (صيدا) ويبوس (أورشليم)، والأموريين الذين عاشوا في بلاد الشام ... إلخ.
ويفرق الكتاب المقدس بين جنسين من الشعوب، هما الجنس السامي والجنس الحامي، لكنه يجعلهما أخوين، ثم يذهب بنسل سام جميعه، مع خلط شديد إلى فلسطين وجنوبها، وإلى جنوب جزيرة العرب في الوقت ذاته، وكل هؤلاء الساميين عنده إخوة لأب واحد أو فروع لجنس واحد، فمن نسل سام جاء عابر، الذي أنجب يقطان (قحطان)، ومنه جاء حضرموت ودقله وأوفير وشبا، وكلها أسماء لمواضع تقع جنوبي الجزيرة،
16
ومن عابر أيضا جاء إبراهيم ونسله الإسرائيلي والآدومي والإسماعيلي، وكلها أسماء لمواضع تقع شمال غربي الجزيرة على الحدود السينائية.
ومع تذكرنا لما ورد في تاريخ «هيرودوت»، عن قدوم العنصر الفينيقي الكنعاني من البحر الأريتري، إلى المواضع التي استقر فيها على سواحل المتوسط الشرقية، نجد أنفسنا في حيرة والتباس، لا يحله إلا افتراض أن المملكة التجارية التي قامت في بلاد آدوم، كانت على تواصل مع منابع تجارتها في الجنوب اليمني والإفريقي طوال الوقت، الأمر الذي أدى إلى هجرات وتداخل بين شعوب المنطقة، وكان طبيعيا تماما أن نجد العنصر الزنجي الأسود، حيث العاج والذهب والقردة وجلد الفهود، أحد العناصر الأساسية للشعوب التي وصلت بلاد آدوم شمالا عند العقبة واستوطنتها، وربما من ذلك العنصر كانت «الملكة زباء» أو الملكة «سبأ». ولا يفوتنا الإشارة هنا أنه لا يوجد مسمى لتلك الملكة بالاسم الشائع «بلقيس» داخل المقدس التوراتي أو القرآني، إنما ورد هذا الاسم في روايات شارحة لحقت بالنصوص المقدسة، أما الثابت فهو أن «حبشتان» بلغة الجنوب العربي، وتعني «الأحباش»، كانوا يسكنون حسبما ذكر «أورانيوس» على شاطئ البخور،
17
وأن أول ملك لسبأ اليمنية حسبما يخبرنا به نقش «جلازر» رقم «1447»، كان يحمل اسم «سمو هو عليا» أو «شوموهو عليا» كما كتبه هومل،
18
ويترجمه المؤرخ فؤاد حسنين «سمه علي» الذي يتحدث عن نفس النقش، ويقول: «إن سمه علي يتحدث فيه عن تقديمه البخور والمر إلى الإله السبئي القومي المقه، باسمه ونيابه عن قبيلته التي قادها في الفيافي والقفار إلى الأرض السعيدة، التي تفيض لبنا وعسلا.»
19
وهنا يجب ألا يفوتنا أن «سمه علي» هو بالنطق الصحيح دون أية تجاوزات لغوية، يمكن نطقه «سماعيل» أو«إسماعيل». ويستمر فؤاد حسنين ليذهب أبعد من «هومل»، فيرى أن كل حضارات الجنوب، قتبان ومعين وحضرموت وسبأ، إنما قدمت إلى الجنوب مع أهلها، في هجرة قادمة من الشمال، وذلك في قوله: «إن هجرة القبائل السينية - التي تمتاز باستخدام السين في صيغة السببية وضمير الغائب، وهي القتبانية والمعينية والحضرمية - من الشمال إلى مواطنها التاريخية قبل عام 1500ق.م. أما هجرة القبائل الهائية، وتمتاز لهجتها باستخدام الهاء في صيغة السببية وضمير الغائب، وهي السبئية، من الشمال قبل عام 1200ق.م. ...»
20
وعليه فإذا تحدثنا عن سبأ، فإنه يمكن نطقها «هبا» أو سبا فكلاهما صحيح، وكانت «هبات»، كما سبق وأسلفنا، إلهة ميتانية معبودة، واعتبر المؤرخون أن مقر عبادتهما كان بالرافدين الأعلى، حيث بلاد ميتاني المزعومة، و«هبات» هي مؤنث «هبا» أو «سبا»، وإلى «هبا» هذا انتسبت الأميرة الميتانية «جيلوهبا»، التي يكتبها البعض «جيلوخيبا» والبعض «جيلوهيبا» والبعض «يلوكابا»، وهي التي تزوجها الملك المصري «آمنحتب الثالث» عاقدا بها صداقته الحميمة، مع سكان البلاد التي عرفت باسم ميتان، التي تصورها المؤرخون واقعة في الرافدين الأعلى باسم «ميتاني»، ولا ننسى أن زوجة عمران العبراني والد النبي «موسى» وأم هذا النبي، كان اسمها «يوكابد» أو «يوكابا» حسبما جاء بالتوراة.
وقد لاحظ «لويس عوض» أن حرف السين يتم تبادله مع حرف «ه» ما بين اللغتين السامية والحامية، فالعربي يقول مثلا: سأذهب، سأعمل. والمصري يقولها نفسها: هأذهب، هأعمل.
21
وهنا يفيدنا «فرتز هومل» أن سكان سبأ في الجنوب العربي مع انتشارهم الواسع، كانوا ينقسمون إلى طبقات حسب وظائفهم، ومن هذه الطوائف تلك الطائفة التي حملت اسم «ا. د. و. م. ت»،
22
فهل كانت «أدومت» طائفة وظيفية كما قال؟ أم أنها يجب أن تحيلنا إلى بلاد «آدوم»؟ والأكثر غرابة أنه قد وجد لقب «قين»، ينتشر في بلاد سبأ الجنوبية، واعتبره أيضا لقبا لطائفة وظيفية (؟!)
23
ونحن نعلم مما سبق أن القيني هو المدياني، صانع الحديد والنحاس، كما يضيف لقبا آخر يعتبره لقب الشيوخ الكهنوتيين، هو «خليل»،
24
ويقول إنه اقتصر على أحد أفخاذ سبأ، و«خليل» هو لقب البطرق «إبراهيم» كما نعلم، خاصة وأنه يقول: إن ذلك الفخذ كان من أسرة قرأ اسمها في النقوش «حذفر»،
25
وهو في رأينا ما يلتقي مع الاسم «آذر» أبي إبراهيم كما ورد بالقرآن الكريم.
وبدون أن يقيم «هومل» أية علاقة مما نجازف نحن به هنا، أراد التأكيد على تواصل الجنوب بالشمال، عند مدين تحديدا زمن الدولة المعينية، فقال: «وفي تلك البلاد ظهر موسى واحتضنته بلاد مدين المعينية.»
26
وبين قوائم الملوك المكاربة لسبأ، ممن حكموا باليمن من حوالي 815ق.م. حتى 510ق.م. نقف مع أسماء لا يصح إغفالها، وهي أسماء مركبة، من قبيل أسماء الملوك «أنمارم يهو أمين» و«نشمي كرب يهو أمين» و«كرب إيل وتريهونعم»،
27
ولنا هنا أن نرتاح لاستنتاج «هومل»، وهو يقول إن الاسم «يهو» الوارد في تركيب تلك الأسماء، يشير إلى الإله الإسرائيلي «يهوه»، ونحن نعلم أن يهوه كان إلها سينائيا مديانيا قابله موسى في عليقة مشتعلة بسيناء، أما الطريف حقا، فهو أن بين الأسماء التي عددها لنا «ديتلف نيلسن» لآلهة الجنوب اليمني ، يطالعنا منتصبا ذلك الإله الذي تكرره ذكره في النصوص باسم «ذو شرى».
28
وهكذا يمكننا أن نستنتج أن السبئيين قد هاجروا إلى الشمال عند آدوم في زمن قديم، ثم عادوا جنوبا حوالي عام 900ق.م. إلى مواطنهم الأصلية، ولم يأتوا اليمن مهاجرين من أصول جنسية بعيدة، إنما كانوا فيها وعادوا إليها، وقد ترافق تاريخ قيام دولتهم في الجنوب قبل ظهور مملكة سليمان في فلسطين، مما يعني أنهم كانوا موجودين في بلاد آدوم، منذ زمن طويل قبل قيام مملكة سليمان، وأنهم كانوا متواجدين في آدوم زمن الأحداث الكبرى، التي ترويها التوراة عند دخول بني إسرائيل إلى مصر وخروجهم منها، وأنهم كانوا يعبدون إله مديان «يهوه»، الذي اكتشفه موسى في نبات مضيء في بلاد مديان السينائية، وكذلك الإله ذو الشرى. أما أسباب ذلك الرحيل جنوبا للسبئيين، فيجد صداه في تل المعارك التي دارت بين الأقارب في شرقي سيناء، مع التفكك الذي أصاب الأحلاف، عند خروج الهكسوس ثم الإسرائيليين من مصر، وازداد أواره عند قيام مملكة إسرائيل على يد منشئها الأول شاول، الذي تركها لداود وولده سليمان، وفي زمن شاول نقرأ بالكتاب المقدس:
وقال صموئيل لشاول: إياي أرسل الرب لمسحك ملكا على شعبه إسرائيل، والآن فاسمع صوت كلام الرب، هكذا يقول رب الجنود: إني قد افتقدت ما عمل عماليق بإسرائيل، حين وقف له في الطريق عند صعوده من مصر، فالآن اذهب واضرب عماليق، وحرموا كل ماله، ولا تعف عنهم بل اقتل رجلا وامرأة، طفلا ورضيعا، بقرا وغنما، جملا وحمارا، فاستحضر شاول الشعب وعده في طلايم مائتي ألف رجل، وعشرة آلاف رجل من يهوذا، ثم جاء شاول إلى مدينة عماليق وكمن في الوادي، وقال شاول للقينيين: اذهبوا حيدوا، وانزلوا من وسط العمالقة، لئلا أهلككم معهم، وأنتم قد فعلتم معروفا مع جميع بني إسرائيل عند صعودهم من مصر، فحاد القيني من وسط عماليق، وضرب شاول عماليق من حويلة، حتى مجيئك إلى شور التي مقابل مصر. (صموئيل أول، 15: 1-7)
وإذا كان الكتاب المقدس قد وصف العمالقة، بأنهم جبابرة طوال القامة، فإنه هو نفسه يصف السبئيين بقوله: «السبئيون ذوو القامة» (إشعيا، 45: 14)، كما أن قاموس الكتاب المقدس يقول لنا تحت مادة سبئيون: «أهل سبأ وهم المذكورون في سفر (أيوب، 1: 5) وهم شعب طويل القامة، وكانوا يغيرون على البلاد، ويسلبون ساكنيها كما فعلوا مع أيوب، وهم يتنقلون من بلد إلى بلد (أيوب، 6: 19)، وكانوا يتاجرون في العبيد (يوئيل، 3: 8). ويعتقد دلمان أنهم فرع من الكوشيين، وكانوا أهل حضارة، ويشتغلون بالتجارة، فتاجروا في الذهب والعطور، ولم تقتصر تجارتهم على حاصلاتهم المحلية، بل امتدت إلى حاصلات الهند والحبشة، وانتشر أهل سبأ في الأراضي، حتى وصلوا إلى شمال غربي بلاد العرب، ووصلوا إلى شمال الصحراء مع النبطيين، كما امتزجوا بالقبائل الأخرى عن طريق الزواج والارتباطات السياسية، وكان من تأثير ذلك أن اختلطت سلاسل أنسابهم». ويضيف تحت مادة «شبا» أنهم كانوا مشهورين بأنهم تجار ذهب وتوابل وأحجار كريمة، وهم أيضا تجار رقيق (يوئيل، 3: 8)، ورغم أن الكتاب المقدس لم يقل أبدا بمملكة سبئية شمالية جوار فلسطين، فإن قاموس الكتاب المقدس قد لاحظ أن السبئيين كانوا «حراس صحراء» (أيوب، 1: 15 و6: 19)، وأيوب كان يعيش جنوبي فلسطين في النقب، على حدود بلاد آدوم، مما يعني أن السبئيين كانوا في ذات الجوار.
وفي الحديث النبوي أن رسول الله محمد
صلى الله عليه وسلم
قد سأل عن سبأ، فأجابه رجل من نسابة العرب بقوله إنه كان رجلا «أولد عشرا، تيامن منهم ستة (أي سكنوا اليمن [المؤلف])، هم حمير وكندة وهمدان ومذحج والأشاعر وأنمار، وتشاءم منهم أربعة (أي سكنوا الشام [المؤلف])، هم جذام ولخم وعاملة والأزد.»
29
وهنا لا تفوت العين المدققة أن النبي موسى كان قد تزوج «صفورة» بنت الكاهن المدياني «يثرون» أو «رعوئيل»، ولا نعلم عنها أكثر من ذلك، حتى يفاجئنا الكتاب المقدس، دون أي تفسير، أن تلك الزوجة كانت سوداء زنجية «كوشية»، وهو ما يعني أن المديانيين كانوا جنسا أسود، وهو ما تفيدنا به قصة الخلاف بين الأشقاء هارون ومريم في جانب، وموسى في جانب آخر:
وتكلمت مريم وهارون على موسى بسبب المرأة الكوشية التي اتخذها؛ لأنه كان قد اتخذ امرأة كوشية. (عدد، 12: 1)
ويبقى السؤال: هل عرفت نصوص مصر سكانا قطنوا شرقي سيناء باسم سبأ؟ الحقيقة أننا لم نعثر على ذلك الاسم دالا على شعب ما، لكنا وجدنا الاسم بذات الرسم مكتوبا «س ب ء» ، فتقول نصوص الأهرام: «إن الأفعى في السماء «س ب ء»، «ح و ر» على الأرض»،
30
فماذا تعني «سبأحور»؟
يمكن الاستنتاج أن سبأحور إشارة إلى «سبأ»، التي عاشت في وادي حور في بلاد آدوم الحورية، على أن النص هنا يتحدث عن ثعبان باسم «سبأ»، يعبد في عين شمس كتعويذة ضمن الحيوانات الضارة وأعداء الأرباب، وألحقت عبادته بمقابر الموتى، واعتبر أحد تجليات أوزيريس إله الموتى، وهو عين الأمر الذي يحيطنا به علما «بدج» في معجمه؛ حيث يقول إن «س. ب
SP »، تعني دودة كما تعني أفعى، و«س ب ء» الإله الأفعى رئيس الأرواح السبعة، التي تحرس أوزيريس، و«س ب ء - و ر» اسم الإله و«س ب ء - ح ر» معبود قبيح الوجه، ويمكن أن نلمس في الاسم «س ب ء - و ر» تشابها يكاد يصل حد التطابق مع اسم زوجة موسى المديانية «صفورة».
س ب ء
و ر
س ف
و ر ه
وإذا رجعنا إلى العربية وجدناه في صيغة «سف»، وإن كان لسان العرب قد خصصها في مادة سفف بنوع من الحيات في قوله: «السف حية تطير في الهواء»، وأنشد الليث:
وحتى لو ان السف ذا الريش عضني
لما ضرني من فيه ناب ولا ثعر
و«الثعر» هو السم، أما «صفورة» زوجة موسى؛ فقد كتبتها اللغة العربية «صفية»، التي يجب أن تقارن مع «سف»، والغريب في بابه أن هيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد أثناء حديثه عن بلاد العرب وبخورها العطري، يقول في الكتاب الثالث فقرة (107-113): «وهم لكي يجمعوا اللبان يحرقون تحت أشجاره نوعا من الصمغ، يدعى ستيراكس
Styrax
أي الميعة؛ لكي يطردوا أسرابا كثيرة من الحيات الطائرة المختلفة الأنواع، التي تحرس أشجار اللبان، فتتجه تلك الحيات بمجموعها شطر مصر.»
31
وفي تاريخ هيرودوت يسجل عن زيارته لشرقي دلتا مصر على الحدود السينائية، أن هناك تبدأ بلاد العرب، ثم يردف: «ويوجد في بلاد العرب مكان يقع تقريبا تجاه مدينة بوطو، وقد ذهبت إلى هذا المكان في أثناء بحثي عن الحيات ذات الأجنحة، ولما وصلت رأيت كميات تفوق الوصف من عظام الحيات ومن أعمدتها الفقرية.» ثم يشرح لنا شكل ذلك المكان بقوله: «وهو عبارة عن ممر ضيق بين الجبال، ينتهي بسهل فسيح، ذلك السهل يتاخم حدود مصر، ويقال إن الحيات ذات الأجنحة تطير عند بدء الربيع من بلاد العرب إلى مصر، وأن أبا منجل يتصدى للقائها عند مدخل هذا الممر، ولا يسمح لها بدخول مصر، بل يهلكها ... أما الحيات ذات الأجنحة؛ فتشبه في شكلها حيات الماء، أجنحتها بغير ريش، تشبه على وجه التقريب أجنحة الخفافيش.»
32
لقد كانت الحية المعروفة باسم «سفا» أو «سبأ»، أحد أنواع الحيات الطائرة، وهو النوع الذي يطير كالسهم ليرشق بجسد فريسته، ويفلطح جلد بطنه ليتحول إلى ما يشبه الأجنحة التي تساعد على الطيران. وكان محل تواجدها بلاد العرب عند واد ضيق بين جبال، يفضي إلى واد فسيح، وأن في هذا المكان مدينة تدعى «بوطو»، التي عرفناها في الجزء الأول من هذا العمل مدينة «بو تو» أو «بي توم» أو «فيثوم» شرقي الدلتا المصرية.
ثم نتابع هيرودوت؛ إذ يقول: إنه كان هناك طائر من نوع أبي منجل، يتصدى للحيات الطائرة السبئية على حدود مصر، ليمنعها من الدخول، وأبو منجل طائر يقع ضمن فصيلة طيور، سبق وعرفناها باسم طائر الفينيق، أو الطائر البوني أو البونتي.
ويسوق لنا «بلوتارك» معلومة، كانت تتواتر عند شعوب زمانه وما قبل زمانه، عن طائر عدو للحيات القاتلة، وأنه قد تم تقديسه لهذا السبب تحديدا، في أكثر من موطن وفي أكثر من بلد، يقول بلوتارك: «إن الطائر أبو منجل هو الذي يقضي على الزواحف الخطيرة.»
33
لهذا «يكرم أهل تساليا اللقلق؛ لأن هذا الطائر يظهر عندما تخرج الأرض من جوفها أسرابا من الثعابين، فيبيدها عن بكرة أبيها، ومن أجل ذلك سنوا قانونا يحكم على كل من يقتل لقلقا بالنفي من البلاد.» بينما سبق المصريون إلى سن قانون بقتل من يقتل طائر أبي قردان «بنو».
34
وتأكيدا لرأينا في العلاقة الوطيدة الرابطة بين موطن طائر الفونيكس وبين البونتيين/ الفينيقيين/الكنعانيين/شرقي مصر، نقرأ عند «عبد المنعم عبد الحليم» قوله عن نفسه أنه قد «بدأ بدراسة النشاط البونتي وعلاقته بمصر، وناقش الآراء التي تربط الفينيقيين والبونتيين، وتنسبهما إلى مناطق البحر الأحمر، وأنه درس الأسماء المصرية والإغريقية للبونتيين والفينيقيين واشتقاقاتها ومعانيها، وخاصة المعاني المختلفة للاسم الإغريقي
والاسم المصري «بنو»، والمسميات الأخرى التي تشير إلى اللون الأحمر، أو تشير إلى المناطق الصحراوية، وقد لاحظ الباحث (أي عبد المنعم بعد الحليم) أن الاسم «بنو»، وهو الاسم المصري للطائر الخرافي المسمى في الإغريقية
، يطلق على المقاطعات المصرية الواقعة شرقي النيل، التي تنتهي عندها الطرق الصحراوية القادمة من البحر الأحمر والصحراء الشرقية، وبمقارنة هذا الاسم بالكلمة المصرية «وبن» بمعنى يشرق، رجح الباحث (أي عبد المنعم عبد الحليم) أن المصريين ربما أطلقوا الاسم «بنو»، أو اسما مشتقا منه، على الجماعات التي كانت تفد إلى مصر من المناطق الشرقية ومنهم البونتيين، وأنهم ربما أطلقوا هذا الاسم على سائر المناطق الواقعة إلى الشرق من مصر ومن بينها بلاد العرب، وأن هذا الاسم قد تحول في العصر البطلمي إلى كلمة تعني «رجلا من بلاد البخور»، وأن هذه التسمية ربما كانت الأصل في الرواية، التي رددها هيرودوت بشأن العلاقة بين طائر الفنكس، وهو طائر البنو في المصرية، وبين بلاد العرب.»
35
ولكن لأن «عبد المنعم عبد الحليم» من أنصار النظرية التي تضع بونت على الساحل الصومالي، فإنه أبدا لم ينتبه إلى كل الشواهد المتراكمة المتزاحمة، التي أوردها بقلمه في هذا النص الصغير، والتي لو دقق النظر فيها لذهبت به إلى اكتشاف بلاد بونت في بلاد العرب في وادي عربة. وحيث كان اصطلاح العرب آنذاك قاصرا على وادي عربة وسيناء وبعض شمالي الجزيرة الحالية فقط. المهم أنه يتابع فيقول: «وبالنسبة للتشابه الملفت للنظر بين نشاط البونتيين ونشاط الفينيقيين في البحر الأحمر، والآراء التي تعتبر الفينيقيين أحفادا أو حلفاء للبونتيين، وكذلك الروايات الكلاسيكية التي تنسب الفينيقيين إلى البحر الأريتري، الذي كان يشمل البحر الأحمر مثل رواية هيرودوت، فإن الباحث (أي: عبد المنعم عبد الحليم) يرى أن الشواهد الكثيرة ترجح ذلك، لكن نتيجة عدم وجود أدلة حاسمة حتى الآن على هذه الصلة، فإنه من الممكن افتراض أن الفينيقيين بوصفهم إحدى الجماعات التي خرجت مع الهجرة الكنعانية من شبه الجزيرة العربية، عندما لاحظوا أوجها كثيرة للتشابه بينهم وبين البونتيين، الذين يرجعون في أصولهم البعيدة إلى الجزيرة العربية أيضا، فربما دفعتهم حاستهم التجارية إلى الاستفادة من ذلك التشابه، فنسبوا أنفسهم إلى البحر الأريتري كما جاء في رواية هيرودوت، حتى يكتسبوا حقوقا في استغلال تجارته الرائجة إزاء الشعوب الأخرى، التي كانت تنافسهم في هذا الاستغلال.»
36
وهكذا، وبسبيل تمسكه برأيه، يلقي عبد الحليم في المهملات كل ما لاحظه من تشابه بين البونتي والفينيقي، ويضع تخريجا لطيفا سريعا على عادة مؤرخينا، يقول إن الفينيقيين أرادوا الشهرة التجارية، فنسبوا أنفسهم إلى التجار القدماء المشهورين بالبونتيين؟ هكذا بكل بساطة؟! هذا بينما نرى نحن بعد كل ما قدمنا، ومع كل المقبل في بحثنا هذا، أن الفينيقيين الذين ظهروا متأخرين على الساحل السوري اللبناني، هم أحفاد البونتيين الذين سكنوا وادي عربة، وكانوا ضمن الهكسوس الذين شتتهم ملوك التحرير المصريون، وذهبت بطون أخرى جنوبا مثل سبأ، وأنهم أبدا لم يظهروا على الساحل السوري، إلا بعد طرد الهكسوس من مصر، وما أجراه ملوك التحرير من عمليات قمع منظم على بلاد التجار في وادي عربة، وأدى إلى تفكك وضح للأحلاف أو «الأخلامو»، فذهب بعضهم جنوبا نحو اليمن، وبضعهم شمالا نحو الساحل السوري.
ونعود للكاتب التوراتي، وطيد الصلة بالمنطقة الآدومية السينائية، لنجده يحدثنا عن ذكريات شعوب المنطقة القديمة، حول الكثير من دواب سيناء والنقب وآدوم فيقول:
وحي من جهة بهائم الجنوب:
في أرض شديدة وضيقة، منها اللبؤة والأسد، الأفعى والثعبان السام الطيار، يحملون على أكتاف الحمير ثروتهم، وعلى أسنمة الجمال كنوزهم، إلى شعب لا ينفع، فإن مصر تعين باطلا وعبثا؛ لذلك دعوتها رهب الجلوس. (إشعيا، 30: 6، 7)
لقد كانت تلك الأحداث تجري في بلاد آدم وبلاد الحيات، التي عرفها المصري القديم باسم حيات سبأ، حيث تقع البلاد التي حددناها باعتبارها تلك التي عرفها المصريون باسم بونت، أرض الإله والعطور والبخور والتين والمواد العلاجية، وكان محررو التوراة يعلمون بصلة قوية بين تلك البلاد ومصر، وأن مصر تعينهم وتساعدهم، فهل يا ترى قد عرف العرب بلادهم القديمة آدوم باسم: بونت؟ على اختلاف نطقها؟ فهي تنطق عند جاردنر عن الهيروغليفية «بويني» وعند إرمان «بونة»؟ مثلا.
يقول ابن منظور في لسان العرب تحت مادة بون:
البون موضع. قال الجوهري: ألبان ضرب من الشجر، واحدتها بانة، وشعب بوان من أطيب بقاع الأرض وأحسن أماكنها، وإياه عنى أبو الطيب المتنبي بقوله:
يقول بشعب بوان حصاني
أعن هذا يسار إلى الطعان؟
أبوكم آدم سن المعاصي
وعلمكم مفارقة الجنان
والبونة هي البنت الصغيرة.
وشجر البان اسمه باللاتينية
Tamarisk Orientals
أي الطرفاء الشرقية، ويؤخذ من حبه دهن طيب الرائحة، ومن أسمائه العربية البر واليسار والشوع والسياع.
37
ويقول لسان العرب تحت مادة «بين»، ومادة «لبن»:
غراب البين هو الأحمر المنقار والرجلين، والبائن: المفرط طولا، الذي بعد عن قد الرجال الطوال، ونخلة بائنة: فاتت كبائسها الكوافير، وامتدت عراجينها وطالت. قال الجوهري: أبين اسم رجل ينسب إليه عدن، يقال: رجل أبين، والبان شجر يسمو ويطول في استواء، مثل نبات الأثل، وورقه أيضا هدب كهدب الأثل، وليس لخشبه صلابة، شديد الخضرة، وينبت في الهضب، وثمرته تشبه قرون اللوبياء؛ إلا أن خضرتها شديدة، ولها حب، ومن ذلك الحب يستخرج دهن اللبان، وفي التهذيب: البانة شجرة لها ثمرة تربرب بأفاوية الطيب، ثم يعتصر دهنها طيبا، وجمعها ألبان، ولاستواء نبتها ونبات أفنانها بها وطولها ونعمتها، شبه الشعراء الجارية الناعمة ذات الشطاط بها، فقيل كأنها بانة، وكأنها غصن بان، ولبيني اسم ابنة إبليس، واسم ابنة لقيس.
وهكذا احتفظ اللسان العربي بأصل كلمة «لبان»، منسوبة إلى بوان أو بونت، تلك الشجرة العملاقة ذات الأهداب التي لا تنبت إلا في الهضاب؛ ولأن «اللبان» هو ذات عين «المر»، نجد لسان العرب يقول تحت مادة «مرر»:
المرمر هو الرخام، وأبو مرة كنية إبليس. قال المدائني: بلغنا أن أول من كتب بالعربية مرامر بن مروة من أهل الحيرة. وقال سمرة بن جندب: نظرت في كتاب العربية فإذا هو قد مر بالأنبار، قبل أن يمر بالحيرة، ويقال: سئل المهاجرون: من أين تعلمتم الخط، فقالوا: من الحيرة.
والحيرة - كما هو معلوم - هي الإمارة التي قامت قبل الإسلام إلى الشرق من ذلك المكان، الذي قامت فيه من قبل دولة الأنباط في بلاد بونت، ونحن نعلم وكما سيأتي بيانه، أن اللغة العربية والخط العربي قد تطورا أصلا عن الخط النبطي، وهو ما يتفق مع ذكريات اللسان العربي عن «مرامر»، الذي من الحيرة أول من كتب. ولا يفوتنا أنه من بلاد المر أو اللبان يأتي اسم الحجر الجميل المعروف بالرخام، لكن تحت اسم المرمر، منسوبا إلى بلاد المر، بلاد شجر اللبان الضخم الكثيف، بلاد الأيك، التي يشرح لسان العرب بشأنها، فيقول تحت مادة «أيك»:
الأيكة: الشجر الكثيف الملتف. وقيل: الأيكة جماعة الآراك، على أن الأصل: الأيكة، فألقيت الهمزة فقيل اليكة، ثم حذفت الألف، فقيل: ليكه. قال الجوهري: من قرأ: كذب أصحاب الأيكة المرسلين، فهي الغيضة، ومن قرأ ليكه؛ فهي اسم القرية.
وفي العبرية مجموعة الأشجار هي أيلون
Ailon ، وعادة ما تخص البلوط، ومن البلوط تستخرج مواد عطرية علاجية، أهمها زيت التربنتين، وهو أحد أشهر العلاجات القديمة. ومعلوم أن البلوط كان أهم أشجار منطقة النقب في محيط آدوم، ويقول علي الشوك بصدد تلك الأشجار (إيلون): «وإيلون اسم مدينة فلسطينية قديما، واسم رجل أيضا، وهناك مدينة إيلات على خليج العقبة الشرقي، وهي مدينة آدومية، يعتقد أن اسمها مشتق من أيلون وتعني: أشجار، أيكة، وقد سماها بطلميوس إيلانا، كما سماها يوسفيوس المؤرخ اليهودي إيلانه، واسمها عند العرب آيلة.»
38
فهلا يثبت لنا ذلك أن الموضع الذي اخترناه، كان يغص بغابات من أنواع مواد التبخير لبانا وبلسانا ومرا، إضافة إلى أشجار التين/البيرسيا؟
ومع الزمن الطويل الذي قضيناه في بحثنا، كنا نعثر طوال الوقت على علامات مضيئة وكاشفة، مثل تلك التي وردت في العقائد الأوغاريتية (رأس شمرا قرب اللاذقية) عن اعتقاد في إلهة عظمى مبجلة هي الشجرة العالمية المقدسة، بيد أن الباحث «شيفمان» يعتبر عقيدة الشجرة العالمية أصلا لجميع العبادات، التي انتشرت في حوض المتوسط الشرقي، وكانت تقام لها طقوس عبادة عند الأشجار، التي تنبت على الجبال العالية، وسميت مقار تلك العبادة «المرتفعات» و«العليات» المقدسة،
39
وقد مارس الإسرائيليون هذه العبادة، وأشار إليها الكتاب المقدس مئات المرات، كما لا تفوتنا المتكررات الدائمة في بلاد الرافدين، التي تشير إلى شجرة عالمية مقدسة، وهو ذات الاعتقاد الذي نجده في عقائد مصر القديمة.
هنا لا بد من تلامس سريع مع موسى وربه (نار العليقة)، وقديما لاحظ الفيلسوف اليوناني «أرسطو»، أن بعض جذوع النبات تصدر ضوءا،
40
أما شجر المانجروف وشجر اللبان، فكان كثيرا ما يجذب مخلوقات متألقة تعرف باسم
Luminescen ، أشهرها الخنافس/الحباحب المعروفة باسم
fireflies
أي الفراشات النارية، وعلى التخصيص إناثها المعروفة باسم
أي الوهاجة، ومثل تلك الكائنات المضيئة المتعددة، نشأ بخصوصها علم خاص باسم علم
Luminosity
أي علم السطوع، بينما الظاهرة نفسها أصبحت معروفة تماما لعلماء الطبيعة تحت اسم «ظاهرة التألق الحيوي
Bioluminescence »، وتحيط إناث الخنافس أو الأيك بهالة ضوئية، هي إشارات لجذب الذكور إلى الشجرة.
ويشرح البروفيسور «جون بوك»، من المعهد الأمريكي القومي للصحة، ميكانيزم الضوء الحيوي الذي تصدره مثل تلك الكائنات، بأن الجزيء يندفع إلى مستوى طاقة أعلى، وغير مستقرة في آن واحد، وعندما يعود إلى وضعه الطبيعي يصدر فوتونا أي جسيما ضوئيا، وأن ذلك يحدث بوسائل كيميائية وفيزيائية معقدة، ليس هنا مجال تفصيلها لشدة تخصصها. وقد أطلق العلماء على الجزيء الكيميائي الذي يقوم بهذا الدور اسم
Luciferin
أي حامل الضوء، وعندما يتحد اللوسفرين مع الأوكسجين، بوجود إنزيم يعرف باسم لوسيفريز
Luciferase
وجزيئات أخرى تختلف تبعا للنوع المشمول، ينتج عن الاتحاد جزئ يحمل طاقة أعلى تكفي لإصدار الضوء .
41
وهنا نقف دهشين من قدرة اللغة على حمل كل هذه المعاني، وكل تلك الذكريات القديمة؛ لأن لوسيفر
Lucifer
حامل الضياء، كان لقب الملاك الذي عصى الله، وكان يسمى لوسيفر لقربه من الله، إلى الحد الذي كان يعكس ضياء الله على وجهه، وهو الذي تحول بعد الغضب الإلهي عليه لعصيانه، إلى شيطان باسم إبليس.
42
وهنا لا بد أن تتداعى مضامين لسان العرب، وهو يتحدث عن أيك اللبان أو المر، إذ يقول: «ولبيني اسم ابنة إبليس»، ثم يقول عن اللبان باسم المر: «وأبو مرة هو كنية إبليس»، أما الحباحب الضوئية فكانت تحيل أيكة اللبان إلى شجرة مضيئة متوجهة، كما لو كانت تشتعل، ولو لم تمسسها نار، وهو الأمر الذي كان كفيلا لدى إنسان تلك العصور الخوالي، بإحاطتها بالأساطير والتبجيل والعبادة، ناهيك عن كون عصارتها تستخدم في أجل الشئون، فكانت تحرق ليتصاعد دخانها العطري إلى أنوف الآلهة، فقد كانت بخور المعابد وهياكل الآلهة. ولم يزل تبخيرها حتى اليوم يطرد الأرواح الشريرة، ويفتح أبواب الرزق في المعتقدات الشعبية، أما الأهم فهو أنها كانت المادة العلاجية الطبية الأولى في ذلك الزمان، وعندما نربط بين شجر اللبان «الأيك» وبين الحيات التي تعيش في غياضه ، تلوح فورا صورة الكيمياء العلاجية «الصيدلة»، ورمزها الذي يتمثل في حية تلتف حول كأس الدواء.
أما الخنفساء السوداء الأنثى المضيئة، فتعرف باسم «الملكة السوداء» لأنها تفعل فعل أنثى العنكبوت، فتبدأ في التهام الذكر وهو منهمك في تلقيحها، ثم تأتي عليه بعد أن ينهي مهمته، وهو عاجز عن الدفاع عن نفسه.
ويبدو أن تلك البلاد الآدومية التي تموج وتزخر بثراء هائل للشعوب والسلع كانت مصدرا لأشياء مضيئة متنوعة، وربما كان ذلك هو السر وراء الانبهار بها وتقديسها كأرض للآلهة، ناهيك عن جمال طبيعتها المبهر، ويضيء ذلك أمامنا نصا في تقرير بعثة حتشبسوت إلى بلاد بونت، كان مستعصيا على الفهم تماما، وهو النص الذي يقول: إن حتشبسوت قد استوردت من هناك مادة اسمها «السام»، وأن تلك المادة تضيء بنفسها كما لو كانت نوعا من الفوسفور ، وأن الملكة قد دهنت أو رصعت جسدها جميعه بتلك المادة، فأضاءت، والنص هو:
وكانت جلالتها تعمل بيديها، فوضعت أحسن العطور على أعضائها، حتى إن عبيرها كان كالأنفاس القدسية، وانتشر شذاها حتى اختلط بشذى أرض بونت، وكان جسمها مرصعا بالسام، يسطع كالنجوم في قبة السماء، على مرأى من كل الأرض.
43
ويتكرر ذكر مادة «السام» في متون مصرية أخرى كما في النص «وأن كل الأواني التي أعدت لها، كانت من السام والذهب وكل حجر ثمين»،
44
ولم يلتفت سادتنا المؤرخون إلى نص آخر، يأتي بمادة السام من بلاد سوريا، وليس من بلاد الصومال (والمقصود بسوريا كل الشرق السامي بدءا من سيناء)، وهو الذي يعدد أشكال الجزية القادمة من سوريا، وأهمها مادة «السام».
45
أما شعر المتنبي الذي أورده لسان العرب، فيبدو لنا أنه كان يدور حول بلاد بونت في مغرب أيامها، فالأبيات تقول:
يقول: بشعب «بوان» حصاني
أعن هذا يسار إلى الطعان
أبوكم آدم سن «المعاصي»
وعلمكم «مفارقة الجنان»
فالرجل هنا يستحضر ذكريات قوم أصحاب خيول، عاشوا في مضيق أو شعب باسم «بوان»، ارتكبوا المعصية، فكتب عليهم مفارقة بلادهم التي كانت جنات، وهي عين الذكريات التي تجد صداها في القرآن الكريم بعد ذلك، حيث يقول واضحا فصيحا بليغا، مسجلا تلك الذكريات الخوالي، التي تلتقي التقاء مدهشا، وتنضبط مع ما قدمناه في عملنا هذا:
لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور * فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل * ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور * وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين * فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور * ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين (سبأ: 15-20).
ولا شك أن السؤال الذي بات يلح الآن: أي إله تقصد النصوص المصرية القديمة، عندما كانت تصف بلاد بونت بأنها أرض الإله؟ ولماذا لم تسم تلك النصوص ذلك الإله باسمه الواضح؟ وما علاقته بالشيطان إبليس ذلك المتكرر دوما والمصاحب دوما لبلاد الأيك؟
إذا كانت فروضنا حتى الآن صحيحة، وإذا كانت بلاد بونت هي بلاد آدوم، الواقعة شرقي مصر على امتداد الحد الشرقي لسيناء ما بين البحر الميت شمالا وخليج العقبة جنوبا، حيث البوادي والجبال الشاهقة، والصخور الملونة، وأشجار الأيك المضيئة، والثعابين الطائرة، وطائر الفينيق. فعلينا إذن العودة إلى نصوص مصر القديمة، نستنطقها سر إله اعتقد فيه المصريون القدماء، وكان على علاقة بشرقي مصر وبالصحارى، وبالجبال وباللون الأحمر رمز الشر المستطير. (لوحات من البتراء كشواهد وأدلة على نظريتنا، وأشكال أخرى داعمة لنا.) (انظر الأشكال رقم «86-96».)
شكل رقم «86»: دير كاترين (صورة من الفضاء).
شكل رقم «87»: أحجار بلاد بونت أو بلاد آدوم، من البتراء، توضح قيمتها وندرتها وبهاءها اللوني، وتستحق التصنيف إلى حجر أوكنو وحجر ساندو وحجر خلالو وحجر مشجر وحجر أوراس ... إلخ.
شكل رقم «88»: التداخلات اللونية من كل لون في أحجار آدوم.
شكل رقم «89»: هكذا أحجار البتراء.
شكل رقم «90»: من كل ألوان الطيف (أحجار بلاد الكهوف).
شكل رقم «91»: بين كل هذا البهاء سكن الآدوميون.
شكل رقم «92»: الكهوف بكل الألوان.
شكل رقم «93»: التصور المصري للحيات الطائرة.
شكل رقم «94»: صمغ/بخور البطم في وادي عربة.
شكل رقم «95»: الشجرة الإلهية المقدسة في مصر القديمة، وهي كما هو واضح شجرة تين.
شكل رقم «96»: الربة الشجرة مرسومة على عمود في غرفة الدفن بمقبرة تحتمس الثالث، وهي تقدم ثديها للملك المتوفى، ونقرأ العلامة الهيروغليفية من خبر رع اسم العرش لتحتمس الثالث.
شكل رقم «97»: وديان سيناء.
شكل رقم «98»: وادي فيران، من وديان سيناء.
شكل رقم «99»: تمثال عثر عليه في المعبد اللحياني، العلا.
شكل رقم «100»: تمثال للمقارنة، الكاهن الأعلى الأسرة الخامسة، مصر القديمة.
شكل رقم «101»: شجر البان (البلسم) لم تزل حتى الآن على شاطئ البحر الميت.
شكل رقم «102»: ثمرة شجر البان تشبه قرون اللوبيا، ولها حب يستخرج منه دهن اللبان ، ويعتق دهنها طيبا، من وادي موسى.
شكل رقم «103»: عصارة شجر البلسم للعلاج والتبخير، من وادي عربة.
شكل رقم «104»: صمغ/بخور البطم في وادي عربة.
الفصل الثالث
الرب الأحمر
نحن نبحث إذن عن إله بلاد بونت الذي قدسه المصريون، وحتى نصل إلى ذلك لا بد من هذا السرد الذي سيلقي بنا في النهاية بحرم ذلك الإله.
في مصر القديمة أسطورة من أشهر وأهم الأساطير العالمية في التاريخ الديني، هي تلك المعروفة بأسطورة «أوزير/أوزيريس» رب الزرع والخضرة والخصب والنماء والخير والضياء، الذي يمثل أرض النيل الخصيبة، ويرمز للخير في الأسطورة، وحتى يتم تفسير دورة فصلي الخصب والجدب، الصيف والشتاء، قالت الأسطورة: إنه كان لأوزير أخ شرير اسمه «سيت»، وإن هذا الشرير كان يغار من حب الناس لأخيه الطيب، حتى دفعه شره إلى مؤامرة انتهت بقتل «أوزير»، وتمزيق جسده قطعا دفنت في مواطن متفرقة من أرض مصر، لكن لتعلن الأسطورة من بعد عن قيامة الحياة الخصيبة من الأرض بعد انتهاء فصل الجدب، ذلك الفصل الذي حدث بموت أوزير رب الزرع على يد أخيه الشرير، رمز الشر والموت والفقر والجوع والصحراء.
ومن هنا كان موت رب الخير موتا مؤقتا؛ لأن الخير وإن تراجع أو اختفى فهو قائم كائن عائد؛ لأنه مثلما تدفن الحبوب في أرض موات، فإنها تعود إلى الحياة بالقيام من الموت في حياة جديدة زاهية خضراء، كذلك الشهيد «أوزير» قام من بين الأموات جسدا حيا في قيامة مجيدة، بعد موته بأيام ثلاثة، مما استدعى في مصر عيدا سنويا كرنفاليا احتفالا بتلك العودة، وهو العيد الذي ترسمت خطاه طقوسا من بعد العقيدة المسيحية في احتفالها الكرنفالي بعيد القيامة المجيد.
ومن ثم كان احتفال المصريين بقيامة أوزير فرحا رسميا وشعبيا، يعبر عن الإيمان بعودة الخير رغم الشرور، والقيامة من الموت رغم أنف رب الموت الشرير سيت، فتعم الفرحة البلاد يوم المنقلب الربيعي للشمس، إيذانا بعودة الحياة الخضراء إلى الأرض، ومن هنا جاء اعتقاد المصريين أنهم من الموت سيقومون كما قام «أوزير»، وأنهم من بعد الموت لن يذهبوا إلى فناء، لكن إلى حياة متجددة تحت الأرض، حيث يعيشون هناك تحت رعاية رب الخير «أوزير».
ومن هنا أمسى الإله «سيت» رمزا لكل ما هو قبيح سيئ شرير، ورمزا للجدب والفناء والموت، رمزا للصحارى والجفاف، وفي الوقت ذاته فإن سيت هو الإله الوحيد في الأسطورة، الذي يتسم بغموض شديد، فطورا نفهم أنه كان إلها لجنوب مصر «العليا»، قبل اندماج مصر شمالا وجنوبا في دولة مركزية متحدة، وكان المصريون يطلقون على جنوب مصر «ط ء. س ت ي» أي الأرض «ط ء» الستية «س ت ي»، نسبة إلى الإله «سيت»، وطورا آخر نجده إلها للصحارى، وبخاصة الصحراء الشرقية السينائية؛ إذ يبدو هنا ربا للبدو والقفار، وقد تم تعليل ذلك بحسبان الإله «سيت» ربا لكل ما هو قاحل وغير خصيب، وكان جنوب مصر يحوز أقل المساحات الزراعية بالنسبة إلى الشمال المصري، وكانت تلك المساحات لا تقارن بأراضي الوجه البحري والدلتا الخصيبة ولم تزل، نتيجة لضيق وادي النيل جنوبا، واقتراب الهضبتين الصحراويتين الشرقية والغربية من بعضهما، إلى الحد الذي لا يسمح بزراعة سوى شريط ضيق على ضفتي النهر، ولا يسمح بأي توسع زراعي كما في الشمال .
ويقول المصرلوجست «ياروسلاف»: «أما الرمز الحيواني للمعبود سيت
Setekh
فكان يمثل حيوانا يشبه الحمار، ويبدو أن المصريين الأوائل حوروا ذلك الرمز من الدولة القديمة على الأقل، إلى شكل حيواني غريب، أقرب إلى كلب رابض، بعنق طويل وآذان مربعة، ومقدمة وجه طويلة مقوسة وذيل قائم. ولم يكن من المستغرب أن فشلت جهود علماء المصريات في تمييز أصله.»
1
ويلخص لنا الباحث «سامي سعيد» أمر الإله «سيت» في قوله: «الإله ستخ أو سيت أو سيثوس، هو أخو الإله أوزيريس والإلهة إيزيس، وطابقه اليونانيون مع الإله اليوناني تيفون، واعتقد المصريون أن الخنزير والحمار وفرس الماء وغزلان المها في الصحراء، هي حيوانات ستخ، وقد صوروه بشكل رشيق فهو بجسم إنسان ورأس كلب سلوقي، وذيل ملتو وأذنين طويلتين، وجعلوا اللون الأحمر خاصا به، وقرنوه بالعاصفة والعنف والشر، وجعلوه قاتل أخيه أوزيريس، والذي انتقم له حورس فأخصى ستخ، واعتقدوا أنه طعن الوحش أبوفيس برمحه؛ لتخليص الشمس من شره، وطابقه الهكسوس في خلال مدة احتلالهم مصر، مع الإله السامي بعل، وكان رمسيس الثاني من أنصاره.»
2
أما العالم الكبير «علي فهمي خشيم»؛ فقد أوضح موقف العلماء من سيت في قوله: «إن المصريين القدماء، قد مثلوا سيت بحيوان حارت البرية فيه، وداخ علماء المصريات في رمز سيت الحيواني، فقال جاردنر: هو حيوان لعله نوع من الخنازير، وقال شورتر: هو حيوان غير محقق النوع قد يماثل الكلب بشكل ما، ذو فرطوسة طويلة وأذنين منتصبتين، وقد يشبه الخنزير. واحتار بدج، حتى قال: إنه يشبه الجمل، أو لعله حيوان انقرض لكثرة ما صيد؛ لكونه رمز سيت المكروه، فقضى عليه قضاء مبرما، أما لوركر؛ فعنده أنه كلب أو وعل أو لعله حمار، ثم جعله حيوانا يدعى أرفاك. وجعله مرة أخرى يشبه حيوانا يسمى الأوكابي. فكأن المصريين تخيلوا حيوانا غير موجود أصلا؛ للدلالة على الشيطان.»
3
وللمزيد حول الإله «سيت»، نستمع للمصرولوجست «سليم حسن» وهو يقول: «لقد برهن الأستاذ يونكر
JANKER
على أن الإله سيت، كان الإله المحلي لبلدة سيترت
STRT ، وهي ستيرويت
SETHROITE
في العهد الإغريقي، الواقعة في الشمال الشرقي من الدلتا، كما يعتقد يونكر، وأن سيت كان هو المعبود المحلي للبقعة، التي أقام فيها الهكسوس تحصينات عاصمتهم العظيمة، التي اتخذوها بمثابة نقطة الاتصال بين أجزاء دولتهم الضخمة. وهي التي كانت تضم بين جوانبها مصر وفلسطين وسوريا، وأن الهكسوس على ما يظهر كانوا خليطا من أجناس متباينة. ونعلم أن كلا من الإلهين بعل وتشوب قد وحدا بالإله سيت.»
4
ويؤكد ذات المعاني «محمد بيومي مهران» وهو يقول: «حين أراد الهكسوس إقامة ديانة رسمية على طراز الديانة المصرية، اختاروا معبودا ذا مظهر غريب، لا يشير إلى أي حيوان موجود، ترجع عبادته في شرقي الدلتا إلى أقدم العصور. وربما بدأت هناك في مكان يقال له سزرت منذ أيام الأسرة الرابعة. أما ترجمة الهكسوس لمنطوق الكلمة ست التي تكتب بالبابلية وكأنما تنطق سوتخ، فكانت من غير شك آسيوية في مظهرها».
5
ويضيف هيس تأكيده أن مظهر سيت كان واضحا في جعران هكسوسي على هيئة آسيوية بلا لبس.
6
وأدلة ذلك رداؤه ورأسه التي تجعله مشابها للإله بعل السامي، وتشوب الحيثي.
إلا أن المشكلة التي واجهت الجميع لتضيف مزيدا من الغموض على الإله «سيت»، هي أن مقاطعة «سيترويت» المنسوبة إلى سيت أو «الستية»، والتي يعتقد أنها كانت مقر عاصمة زمن الهكسوس، لم يتم التعرف على موقعها حتى تاريخنا هذا. كل ما في الأمر أنها لا بد كانت على الأطراف الشرقية للدلتا، في اتصالها مع الصحراء السينائية.
وفي مؤلف آخر يضيف «سليم حسن»: «وكان سيت في عهد الرعامسة، أو بعبارة أخرى: في عهد الدولة الحديثة، يعتبر إله الحرب والقوة. وقد تبددت بمضي الزمن شهرته السيئة الماضية، وكان كذلك يعتبر إله البلاد الأجنبية؛ ولذلك أوصت الإلهة نيت بأن يزوج من الإلهتين الساميتين: عنات وعشتار، وهما إلهتان آسيويتان. ونرى في آخر الأمر أن رع إله الشمس، رغب في أن يتخذه ابنا، يعيش معه، ويكون إله الرعد في السماء. وفي ذلك ما يشير إلى أن رع قد انحاز إلى جانب سيت في النهاية، حتى بعد أن غلب على أمره؛ لأنه كان عدو أوزيريس، الذي كانت له السيادة والكلمة العليا في ذلك الوقت. وبذلك أصبح سيت يسكن مع رع في السماء، وتركا العالم السفلي لأوزير، يحكم فيه كيف شاء.»
7
ويكون المعنى أن سيت كان إلها لعالم الموت السفلي التحت أرضي، ثم تركه وصعد؛ ليعيش مع الإله الأكبر «رع» في السماء.
شكل رقم «105»: سيث.
وهكذا فنحن هنا مع إله شديد الالتباس، بدأ إلها للموت، ثم صعد إلى السماء تاركا مملكة الموت لأوزيريس، الذي أصبح إلها للحساب من بعد الموت. وبدأت تجليات سيت المصورة في هيئة الحمار، ثم دخلت عليه تعديلات جعلته أشبه بالكلب، لكنه ليس بكلب؛ لأن رسومه التي وصلتنا في النقوش صورته في هيئة حيوانية غير معروفة لدينا الآن، مما أدى إلى حيرة واضحة في تحديد أمره لدى علماء المصريات، فانقسموا حوله شتى. ورآه اليونانيون صورة من إلههم «تيفون» أو «طيفون» الوحش الأسطوري الضخم، الذي حدثنا عنه المؤرخ «بلوتارك» فقال: إن تيفون قد تمرد على كبير آلهة اليونان «زيوس»، ودخل معه في صراع انتهى بأن هزمه زيوس ودفنه تحت جبل أتنا بصقلية. وجاءت الأسطورة بذلك؛ لتفسر سر دمدمات بركان جبل أتنا وانفجاراته، التي لم تكن سوى صوت الإله تيفون الحبيس الغاضب.
8
وكان تيفون ربا للرعد والأعاصير والزلازل والكسوف والخسوف، وكل مظاهر الاضطراب في الطبيعة، وكل مسببات الموت والهلاك.
9
ونستمر في البحث وراء «سيت»، لنقرأ ما كتبه «عبد المجيد عابدين» شارحا: «إن المصريين قد كرهوا الأرض الحمراء أي الصحراء، واعتبروا سيت رمزا لها، وتصوروا فيه القسوة والغلظة، وأن له صيحات منكرة هي الرعد، وهو الذي يهز الأرض بالزلازل، وتصدر عنه أعمال كريهة حمراء، وله بشرة ذات لون أحمر أمغر.»
ويواصل «عابدين» قائلا:
ولم يقف المصريون عند تصوره كسبب للجدب والفناء والعواصف، بل عدوه حاميا للأعداء ووليا للقبائل الآسيوية. وفي بعض جوانب الأسطورة القديمة نجده خصما للشمس، وممثلا للظلام، وشيطانا بين الآلهة. ثم انتهى الأمر بإخراجه من بين المعبودات المصرية، فبطلت عبادته ومحي اسمه وصورته أنى وجد. ولما وقف الإغريق الأقدمون على قصته ، قرنوه بإله الشر عندهم: تيفون، العدو الخرافي لزيوس.
10
ولما كانت صورته الأولى هي صورة الحمار، فيبدو أن المصريين قد رأوا بينهما صفات مشتركة، كالشهوة وغلظ الحس وفجاجة الصوت وحمرة اللون. وكان اللون الأحمر هو الشائع لهذا الحيوان في بلاد الشرق القديم، وقلما عرف أهلها الحمير السود أو البيض.
ولفظ «حمار» في الساميات، له صلة اشتقاق باللون الأحمر. ويقال في لغة العرب: الجأب: الحمار الغليظ، والجأب أيضا: المغرة أو الطين الأحمر. ومن هنا كره المصريون كل ذوي البشرة الغراء أو الحمراء من الناس، ولم يحبوا الاختلاط بهم. وأفادنا «بلوتارك» أن المصريين كانوا يحاولون تهدئة شره واستدرار عطفه بتقديم الضحايا. وتارة أخرى كانوا يسبونه في احتفالات بعينها، ويضطهدون ذوي البشرة الحمراء، ويدهورون حمارا من قمة جبل، وهو ما كان يفعله أهل قفط. أما أهل بوزيريس ولوكوبوليس فكانوا يحرمون استخدام البوق؛ لأنه يصدر صوتا شبهها بصوت الحمار، ومن ثم اعتقدوا أن الحمار حيوان دنس. أما قرابينه فكانت من العجول المغر، الحمراء في صفرة، بشرط ألا توجد أي شية بها، أي يجب أن تكون مغراء أو صفراء فاقعا لونها تسر الناظرين.
11
وقد عثر الأركيولوجست إتيين دريتون على دفنات للحمير المعبودة في مدينة إنشاص.
12
وإنشاص كلمة من أصل هيروغليفي هو «عا إن شاسو»؛ أي مكان عبادة الشاسو للحمار، والشاسو هم بدو سيناء. ولم يزل الفلاح المصري حتى اليوم يزجر حماره بنداء يطابق «عا إن شاسو» فهو «حا - شي». و«عا» أو «حا» = «الحمار»، و«شي» من «شاسو» في فعل الأمر «إمشي» أي: إمشي يا حمار. والشاسو في المصرية القديمة هم المشاءون أو الجوابون دوما أو البدو.
وفي اشتقاقات اللسان العربي، نجد الصحراء في أصله لفظا يدل على الصحرة، والصحرة هي الحمرة التي تضرب إلى غبرة. فيقال: رجل أصحر وامرأة صحراء في لونها. والأصحر الذي في رأسه شقرة. وأصحر النبات أخذت فيه حمرة ليست بخالصة، ثم هاج فاصفر. ويقال: حمار أصحر اللون، والصحير هو النهيق هو صوت الحمير. وقد فعلت اللغة العربية فعل المصرية، فقسمت الناس إلى جنسين: الجنس الأحمر والجنس الأسود، واشتقت اسم الصحراء من الصحرة أي اللون الأشقر. وأطلقت لفظ السواد على الخضرة والعمران. فالسواد جماعة من الشجر والنخل، وفي حديث النبي محمد
صلى الله عليه وسلم : «بعثت إلى الأحمر والأسود من الناس.»
ويقول العالم الكوفي «ثعلب»: «إن العرب لا تقول رجل أبيض من بياض اللون؛ لأن الأبيض هو الطاهر النقي من العيوب، فإذا أرادوا الأبيض من اللون قالوا: أحمر.» وكما ارتبطت الحمرة في المصرية القديمة بالجفاف والفناء، كذلك كانت في العربية، أي إن من أراد الحسن صبر على أشياء يكرهها. وسمي الرجل الذي عقر ناقة صالح، فأهلك الله فعله ثمود: «أحمر ثمود». وضرب المثل بشؤمه فقيل: أشأم من أحمر ثمود. وسجلت الروايات العربية في أساطيرها ما جاء ذكره عند الجاحظ في قوله: ومن لا علم عنده ، يروي أن إبليس قد دخل جوف الحمار مرة. وذلك أن نوحا لما دخل السفينة، تمنع الحمار بعسره ونكده، وكان إبليس قد أخذ بذيله. وقال آخرون: بل كان في جوفه. فلما قال نوح للحمار: ادخل يا ملعون، دخل الحمار ودخل إبليس معه؛ إذ كان في جوفه. ومنها ما روي في شرح هذه الأمثال: «أكفر من حمار»، «تركه جوف حمار»، «أخرب من جوف حمار»، «أخلى من جوف حمار».»
13
أما الطريف حقا فهو أن صحارى شرقي مصر، تقع جميعها في محيط البحر الأحمر، الذي حمل ذات المعنى في اسمه اليوناني «البحر الأريتري»، نسبة إلى أريتريا. وأريتريا اسم له معنى، فهي الحمراء. أما الشعب الذي سكن جنوبي الجزيرة، على ساحل البحر الأحمر، وأقام هناك حضارات متعددة امتدت شمالا حتى وادي عربة، على تنوع دوله؛ فقد أطلقت عليه الكتابات التأريخية العربية اسما عاما شاملا هو: حضارة حمير. أما أهلها فكانوا الحميريين.
ونعود نسعى وراء أخبار الإله «سيت»، فنجده يكتب مصريا «س. ت
SET »، ثم يكتب زمن الهكسوس مع تصريفه اسميا، فيأتي هكذا:
SETESH
و
SUTEKH ، وذلك في وقت أصبح فيه سيدا لجميع الأرباب، بحكم سيادة أتباعه الحكام الهكسوس.
وبعد طرد الهكسوس من مصر، زمن الأسرة الثامنة عشرة المصرية، احتفظ الإله سيت بمكانته. وعندما جاءت الأسرة التاسعة عشرة، وهي أسرة محاربة، تم تكريس «سيت» كإله من الآلهة الكبرى، بحسبانه إله حرب ودمار. ويبدو أن «سيت» كان في البداية إلها محبوبا ضمن آلهة مصر القديمة، حتى نشب الخلاف بينه وبين «أوزير» في الأسطورة المعروفة. فتحول «سيت» إلى رمز لكل قوى الشر ضد قوى الخير، وإلها للظلام والنار والطوفان والريح الحارق العقيم وللصحارى ولليل المخيف وسيدا لعالم الشرور جميعا، إلها أحمر ملتهبا، ينفث دخانه الناري وينشر الموت في كل مكان. أما الواضح لدينا هو أن كل تلك الصفات قد لحقته بعد غزو الهكسوس لمصر، وتكريسهم للإله «سيت» كإله رسمي لحكومتهم، فاقترن بهم في نظر المصريين، ولحقته كراهيتهم للهكسوس، فأصبح رمزا لكل ما هو شرير وضار.
وقد لاحظ «علي فهمي خشيم» أن تلك الرحلة التطورية التي مر بها الإله «سيت»، تطابق ما وصلنا عن أسطورة الشيطان الذي كان ملاكا ثم صار راعيا للشرور. ويقول: إن ذات الواقعة نجدها في جميع الديانات، وتتحدث عن التحول من النورانية إلى النارية. ولنتذكر هنا لقب إبليس في لسان العرب «أبو مرة»، وأنه يرتبط بشجرة اللبان/المر، لنجد أشهر ألقاب «سيت» في مصر القديمة هو «مر
MR »، وتعني الملعون حسب ترجمة معجم بدج،
14
أما مقابلة اليوناني «تيفون»؛ فترجع إليه كلمات مثل
Typhoid
أي الحمى المعوية (التيفود) المحرقة. ولو رجعنا إلى اللسان العربي لوجدنا لطيفون معاني عديدة في مادة «طوف»، أهمها: المرض المهلك، الحمى، الإغراق، الموت.
وفي المصرية القديمة نجد من أسماء «سيت» الاسم «جب». وفي القرآن يتردد اسم غريب ليدلل على الشيطان، وهو ما يرد باسم «الجبت والطاغوت».
وفي القرآن عدد من الآيات تتعلق بالطوف (ولا ننسى طيفون) كما في النماذج:
فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع (الأعراف: 133).
فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون (القلم: 19).
والآية الأولى تحديدا تحدثنا عن قدرات رب إسرائيل زمن موسى النبي، وتذكر بما قاله سفر الخروج بالكتاب المقدس، حول قرار الرب تأديب المصريين بضربات متلاحقة، فأرسل على مصر الجراد والقمل والضفادع. لكن قصة التوراة لم تقل أبدا إنه أرسل عليهم الطوفان، لكن في المقابل نجد تفسير الطوفان في تأكيد التوراة أن الرب قد قرر قتل كل بكر من أبكار المصريين ليلة الخروج الإسرائيلي من مصر، بيد ما سمي في التوراة باسم «المهلك». وعلى هذا النحو يلتقي الطوفان كما في الآيات، أو طيفون، مع المهلك التوراتي الذي طاف على أبكار المصريين وهم نائمون. ثم تأتي الآية:
إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا (الأعراف: 201)، ليطلب منا «خشيم» ملاحظة ربط الآية بين «طائف» وبين «الشيطان». و«طائف» تأتي من مادة: طيف، وخيال، وشبح.
15
وكما أسلفنا فقد ذهب «بدج» في حديثه عن «سيت»، إلى أنه كان رب الجنوب المصري. والجنوب بالمصرية القديمة هو «س و ت
SUT »، ومنها في رأيه جاء اسم الإله «سيت»، وفي الهيروغليفية تسمى بلاد «الكوشيين» بلاد السوت أو بلاد السود جنوبي مصر عند النوبة: «ط ء. س ت ى
TA-STY » أي أرض الجنوب. ويسمى أهلها «س ت ي و» أي الجنوبيون. وهو ما نراه أصلا لكلمة السود واللون الأسود، والجنوب هو البلاد الحارة، وللحر في اللغة العربية تسميات من الجذر الثنائي «شط» هي: «ست» شاط، شوط، شيط، شياط، شواط، يشوط، تشويطا، شوظ، شواظ.
16
وفي القرآن:
يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران (الرحمن: 35).
وفي معجم فولكنر نجد معاني «س و ت
SWT » المصرية: قوة الريح
Force of Wind .
17
وهنا نجد المقابل العربي سوط:
فصب عليهم ربك سوط عذاب (الفجر: 13). وفي آيات أخرى كان سوط العذاب هو ريح عظيم تخرج من تحت الأرض. ومقلوبها سطو وسطوة، وهو ما يفيد السلطان والقوة والملك. أما المدهش فهو أن كلمة «س و ت
SWT » «س ت ت
STT »، فتعني ملك وملكي، وفي السبئية فإن «و ص ت
WST » تعني حرق، وإحراق. أما في المصرية فتتعدد كلمة «س ت» فهي:
س ت ي
STI
أوقد النار، أشعل، شيط.
س ت ى
STY
حدق، برق، نظر بحرارة أو غيظ.
س ت ء
STA
حرارة، شياط، شوظ.
س ت ء ت
STAT
مصباح، موقد نار، سطح .
18
أما كلمة شيطان، فهي في لسان العرب: «الشيطان حية له عرف، والشاطن الخبيث.» وهي من شاط أي احترق. ومنها جاءت عبارة «استشاط غضبا»، ومادة شيط تقلب شوط، منها مشتقات تدور جميعا حول النار والحرق، والهلاك وسفك الدماء والذبح، وأمراض الحمى وغبار الصحارى. وتعود جميعا إلى الجذر الثنائي «شط»، الذي هو ببساطة «شيت أو سيت»، الإله المصري الشرير نصير الهكسوس وربهم المبرز.
ويفصل لنا «خشيم» الأمر فيقول: إن اسم سيت يكتب في الهيروغليفية محددا بصورة إوزة، ويقرأ ذلك الرمز أي الإوزة
ST
و
ZT
و
ZA
وتعني «ابن»، وتدخل تلك الصورة باعتبارها محددا في كلمات مثل «ح ت م
HTM »، وتقابلها في العربية «حطم»، وفي كلمة «س ن ح م
SNHM » أي جراد، وهو ما يؤكد صلتها بمعنى الدمار والهلاك، وحسب التصور العربي فقد خرج إبليس من بيضة. والمدهش أن الخط المصري الهيروغليفي، عندما تطور نحو مزيد من التجريد إلى خط هيراطيقي، اختزل صورة الإوزة في جسدها البيضاوي فقط، دون بقية الأطراف. وهو ما نجده في دلالة المصرية
ZA
التي تعادلها في العربية «زأأ»، وفيها معاني الخوف والغرق، وهي مقلوب «أزز» ومنه الأزيز، الغليان، الالتهاب، الرعد، الهياج. وهي صفات سيت التي تلتقي مع الشيطان في القرآن حيث تقول الآيات:
ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم (مريم: 83).
ومن الثنائي «ست» نجد في اللسان الثلاثي «سنت»، مادة دون تحتها: «أسنت فهو مسنت إذا أجدب. ويقال: تسنت فلان كريمة آل فلان إذا تزوجها سنة القحط ... والسنتة والمسنتة: الأرض التي لم يصبها مطر فلم تنبت ... ورجل سنوت: سيئ الخلق». وفي مادة الثلاثي «شأت»: «شأت شئيت استشت وتشتت إذا انتشر ... وقيل يجمع ناسا ليسوا من قبيلة واحدة ... والشت هو المتفرق.» وفي مادة الثلاثي «شرت»: «شرت، الشرنتي طائر.» وفي مادة الثلاثي «شيت»: «الشيتان من الجراد.» وكلها تشمل معاني تشير إلى قبائل متفرقة من أماكن صحراوية مجدبة، قد تعاقدت وتحالفت في مكان واحد، مع معاني الشر والهلاك في نفس الآن.»
19
تحول إذن إله الشر المصري «سيت» عن رمز الحمار إلى رمز تصويري محير، فقيل إنه ربما كان ذئبا أو كلبا، وربما غير موجود الآن، بعدما انقرض لكثرة ما صاده المصريون القدماء كراهية له باعتباره رمزا للشر؛ ولأنهم اعتقدوا أنه كان رب الموت بذاته، وهو بذلك يختلف عن أوزير إله الموتى في العالم الآخر؛ لأن «سيت» بدأ أشبه بما نعرفه اليوم عن ملاك الموت، فأوزير رب حياة؛ لأنه يحيي الموتى ويحاسبهم على أعمالهم، أما «سيت» فكان ملك الموتى وراعي المرض والهلاك. وقد جعل المصريون للموت عددا من الرموز الحيوانية، كلها من فصيلة ابن آوى، الذي كان ينتشر في مصر القديمة ولم يزل. وهو حيوان معروف باغتذائه على الجثث والجيف، فهو من الحيوانات المعروفة بالحيوانات الرمامة، فهو لا يأنف الموت، ويسير في جماعات يقودها زعيم يتشمم المواضع، لينادي رفاقه لدى شعوره برائحة الموت؛ ولأنه كان ينبش القبور بحثا عن غذائه الجديد، فكان طبيعيا أن يتكاثر في الجبانات، ليلحظه المصريون هناك دوما، فيحتسبونه رب الموت ذاته.
وقد أطلق المصريون على ابن آوى ملك الموت اسم «أنوبيس» الذي يلحد الموتى، وتم تصويره في جسد آدمي برأس ابن آوى، وأحيانا بشكل ابن آوى الحيواني كاملا. وبالرجوع إلى كتاب مفتاح اللغة المصرية القديمة، وجدنا أن الياء والسين في اسم «أنوبيس» تصريفا اسميا يونانيا، أما اسمه المصري فهو «أنبو»،
20
الذي ربما كان يحمل في طيات حروفه تعبير ال «بوني» نسبة إلى «بونت»، ومثله كان رب الجبانات الملقب بفاتح الطريق «و ب و ا ت»، وينطق أيضا «و ف و ت»، وهو ما يعادل في العربية كلمة «وفاة» أي موت. وهو من فصيل الذئاب بدوره. والمعلوم أو الشائع أن مصر لم تعرف الذئاب الكبيرة، لكن مرحت في أحراشها وحقولها وبواديها، كل أنواع الذئاب الصغيرة من فصيلة ابن آوى، ومنها كان الفصيل الذي دون المصري القديم اسمه «آش» أيضا، ويحيطنا فهمي خشيم علما أن آش
ASH
كان يقرن عادة بالإله سيت، وكان آش أحد رموز الموت، وارتبط بالصحراء والجدب مثل سيت، ويعلمنا إريك هورنونج علما أن آش كان يرسم عادة برأس الحيوان الخاص بالإله سيت،
21
ويعد آش ربا للرماد وبقايا النيران، ونظنه رماد البخور تحديدا، الذي كان يحرق للموتى عند المقابر وفي المعابد والتبخير البيتي، لطرد إله الموت الشرير.
ويقول ابن منظور في لسان العرب: إن الآس هو بقية الرماد في الأثافي. بينما يحيطنا المصرولوجست بدج علما أن سيت كان نوعا من الذئاب، انقرض لكثرة ما صاده المصريون. وعند ابن منظور ثروة أخرى، فهو يقول: إن الأوس هو الذئب ومصغره أويس، وكذلك آس هو القبر. وفي الإنجليزية آش
ASH
تعني رمادا،
22
كما تعني أيضا: قبرا، شجرة دائمة الخضرة هي النورية أو «ناريون»،
23
أو كما عرفناها نحن في نظريتنا المطروحة بهذا البحث، بأنها شجرة نهارين: أيكة مديان. والجميل في شأن حفظ اللغة لمحتواها عبر الأزمان، أن نجد الآس أيضا اسما لشجرة؟! شجرة الآس التي يعالج بزيتها، وربما اشتقت منها كلمة النتاسي أو النطاسي في الساميات، وفي العربية أي الطبيب المداوي (نطاسي = نيتر + آسي = إله معالج (طبيب)، أي الرب الشافي)، وفيما بعد أصبحت الطبيب الروحاني، أو النبي الذي يصلح علل النفوس، ثم أصبحت تطلق على الطبيب الماهر، ويبدو أن لها علاقة بالكلمة السومرية التي تطلق على الطبيب وهي
A-ZU ، ولكن معناها الحرفي هي: خبير بالزيت (كانت الزيوت مواد علاجية)، وتعني أيضا نبي، والزيت المقصود هو زيت النباتات العطرية والطبية.
وفي دراسته للموسيقى يقول الباحث «علي الشوك»: «إن أقدم رمز استعمله السومريون للدلالة على الموسيقى هو رأس ابن آوى ... واسم هذا الحيوان - ابن آوى - واحد في كل اللغات السامية، فهو في العبرية إى وهي ترخيم لكلمة إوى من الجذر آوى، وكلمة عوى الآرامية تعني يعوي ويصرخ، ويقال بالعربية: ما سمعت إلا وعوعة الذئاب ووأوأة الكلاب، ووأوأ هي عوى، ووهو وهوه في صوته: ردده حزنا وجزعا، والمناحة بالعبرية يقال لها: أوى، وهي تذكرنا بصوت ابن آوى أيضا، ويعتقد أن هذا الحيوان سمي كذلك من صراخه في الليل الذي يشبه عويل أو صراخ طفل الإنسان، وإذا علمنا أن موسيقى وادي الرافدين القديمة والحديثة مغرقة في نكهتها الحزينة ... أدركنا لماذا استعار السومريون رأس ابن آوى لهذا الفن.»
24
وهنا لا يفوت لبيب أن ابن آوى ذلك الفصيل الذئبي، كان يصدر صوتا هو ال «وهوه»، وهو ما يستدعي على الفور اسم الرب الإسرائيلي «يهوه»، ثم نستحضر بقوة ما سبق وأوردناه عن لسان ابن منظور تحت مادة «عناق»، إبان حديثنا عن العناقين العمالقة حيث يقول: «والعناق: شيء من دواب الأرض كالفهد، وقيل عناق الأرض: دويبة أصغر من الفهد طويلة الظهر، تصيد كل شيء حتى الطير. قال الأزهري: عناق الأرض دابة فوق الكلب الصيني، يصيد كما يصيد الفهد ويأكل اللحم.»
لقد كان «سيت» رب الشر المصري، الذي أصبح رب الهكسوس الأعظم، يصور في هيئة حيوان من فصيلة الذئاب، لكن شكله حير العلماء طويلا، ولم يتح للعلماء التعرف عليه بين حيوانات البيئة المصرية المعروفة، ولا نظنه إلا العناق البونتي الآدومي، الذي عاش في الصحارى الشرقية وسيناء وبلاد آدوم، ويبدو أنه كان أكثر انتشارا في آدوم البلاد الحمراء النارية، يعيش في أحراش المر وأيك اللبان، وكان ربا للصحارى كما كان ربا للهكسوس، وهو ما جاء مرسوما في نقوش رحلة حتشبسوت إلى بلاد بونت، على جداريات معبد روعة الروائع بالدير البحري. لكن قيل في تفسيرها أنها كانت كلابا سلوقية؛ لأنها أطول فصائل الكلاب عنقا فهي كلاب معنقة، وكان لذلك الإله علاقة بالموت والموتى والدمار والهلاك والنار الجهنمية ورماد البخور، كما كان له علاقة بالإله الذي التقى بموسى في شجرة نارية لا تحترق ببلاد مديان/آدوم، المعروف باسم «يهوه».
وأتذكر هنا إبان تلمذتي صغيرا في مسقط رأسي مدينة الواسطى من أعمال محافظة بني سويف أول محافظات صعيد مصر - وكان ذلك حوالي عام 1961م ولي من العمر أربعة عشر عاما - أن شاعت في البلدة قصة عن حيوان مفترس نزل البلدة من مكان مجهول، وأنه يهاجم الإنسان كما يهاجم الحيوان، وسريع سرعة مذهلة. وكانت تلك شهادة الشباب الذين وجدوا في مطاردة الوحش متعة ومغامرة، تكسر رتابة البلدة الريفية ومللها، وأجمعوا على رؤيته مرات عدة، كما أجمعوا على أنه يقفز قفزات هائلة سريعة متتابعة، يختفي بها على الفور عن الأنظار، وبالغ بعضهم، فقال: إنه يطير، ثم هذى بعضهم، فأقسم أنه قد رأى له أجنحة، فقد رآه يقفز طائرا وراء حمامة ليقتنصها. ولا أعلم لماذا أطلق الناس عليه حينذاك اسم «السلعوة». كما أذكر أن صحيفة الأخبار القاهرية قد نزلت البلدة ممثلة في اثنين من الصحافيين، وسجلت الحدث وسعت مع المطاردات، لكن لم يظفروا بشيء سوى الحالات التي كانت تظهر بين يوم وآخر، لأناس هاجمتهم السلعوة، وكانت البلدة جميعا تبيت ساهرة الجفون، بعد أن تغلق أبوابها قبل مغرب الشمس، ولا يدور في شوارعها إلا رجال البوليس وطلاب المغامرة والقنص، ولم تطمئن البلدة ويهدأ روعها، إلا بعد أن تم وضع السم في تيس مذبوح، وترك في الشوارع، وبعدها تم العثور على حيوان ميت قيل إنه السلعوة، وأثبت طبيب البلدة البيطري، والذي لم يعد يحمل من علم الجامعة غير الذكرى، أنه نوع غريب من الذئاب طويلة العنق، وانتهى الأمر ونامت البلدة، ومر الحدث بليدا على علمائنا الطيبين.
وقد عدت إلى الإضافة لهذا الفصل مجددا، بعد أن طالعتنا مجلة روز اليوسف القاهرية إبان كتابتي لهذا الفصل من العمل، بتحقيق صحفي جديد تحت عنوان: «الوحش المجهول الذي يهدد الصعايدة.»، وقد كتب الموضوع تحت عناوين أساسية ذات دلالة وإيحاءات فهي:
أرجله الخلفية أطول، وقفزته عشرة أمتار، ويتمتع بصفات الثعلب والكلب.
الفيضان ودق الطرق وتفجيرات الجبال دفعته للهروب للقرى.
ظهر في الستينات في طرة والمقطم.
ومن التحقيق نقتطع بعض الفقرات، التي تعين على تحديد مواصفات «السلعوة»، كما في قوله: «يظل هذا الحيوان الغريب مهددا لعدد هائل من المواطنين، فرض عليهم حظر التجول الإرادي ليلا؛ خشية التعرض لهجوم من سلعوة، والتفسير القاهري للاسم الغريب هو أن هذا الاسم أطلق على الحيوانات الشرسة البرية منذ الستينات في منطقة جبال المقطم وطرة، بعد ظهورها وتعديها على الأطفال والمواطنين في تلك المناطق، التي كانت تضم معسكرات للجيش هجرت، فانتشرت هذه الحيوانات ولم يستطع أحد اصطيادها أو السيطرة عليه، واستمرت الظاهرة وقتها أكثر من أربعة أشهر، ثم اختفت بعدها نهائيا ...»
ثم في موضع آخر يقول التحقيق: «المفاجأة العلمية الثانية بعد العودة إلى قنا كانت على لسان الدكتور، مدير عام الحياة البرية في مصر، الذي قال إنه لا يستطيع أن يحدد اسم هذا الحيوان أو فصيلته إلا بعد دراسة شاملة له. وقال: إن هذه النتائج سوف تظهر عقب عودة البعثة من قنا.»
وفي موضع ثالث نقرأ: «تسبب السلعوة في مقتل أربعة أشخاص هم ... (يسميهم) فضلا عن إصابة 26 شخصا بجروح وأمراض خطيرة، وتكمن المشكلة في أن البعض أصيب منذ أكثر من 40 يوما وما زال في حالة خطرة، ولم تستطع الأمصال المضادة لسعار الكلب شفاءه من مرضه، بالإضافة إلى نفوق 28 رأسا من الماشية نتيجة إصابتها بهجوم الحيوان المفترس عليها، بل إن كلاب الحراسة التي كانت تحمي الحقول، قتل عدد كبير منها بهجوم من هذا الحيوان المخيف، الذي أطلق عليه الأهالي اسم سلعوة.»
ويقابل الصحفي أهالي القرية بعد مقتل واحد من تلك السلعوات، ويستمع من بينهم لأحد كبار السن يقول: «إن اسم السلعوة يعود لاسم فرعوني قديم، تخيله المصريون القدماء كشيء لا يطيقه الإنسان، ولا يستطيع أن يتغلب عليه، ثم صار لقبا يخيف أي شخص، دون أن يدري أية معلومة عن صاحبه، ورآه الحاج ويقول عنه: بعد صيده وجدت شكله يختلف عن الكلب وعن الذئب، فهو حيوان ساقاه الخلفيتان أعلى وأطول من الأماميتين، سريع في قفزاته، لا يستطيع أحد اللحاق به.»
25
ونستعيد ما قال ابن منظور عن عناق الأرض، الذي يصيد كل شيء حتى الطير، لنتابع الاستماع إليه يقول: «إنه ليس شيئا من الدواب يؤبر - أي يخفي أثره - إذا عدا، غيره وغير الأرنب.»
وفي ضوء تلك المعلومات ألا يكون محتملا أن السلعوة هي البقية النادرة لذلك الحيوان القديم عناق/سيت؟ ثم نتذكر أن عاصمة بلاد آدوم كان اسمها سالع، ونتساءل في دهشة: هل اسم السلعوة هذا بقية مأثورة لذكريات غامضة، كانت تنسب هذا الحيوان لموطنه الأشهر سالع/سالعوة/سلعوة؟
وعن معبودات مصر القديمة يحدثنا فرانسوا دوماس عن بعض الآلهة غير محدودة المعالم، منها مثلان: «نون» المحيط الأزلي الأول الذي كان موجودا قبل خلق العالم، و«ماعت» ربة العدالة والصدق وكل المعاني الرفيعة. و«سيا» الذي هو مجرد تصور عقلي، أي هو رب الأفكار؛ لذلك هو فكرة بدوره، واسمه يعني التصور الذهني المطلق والمجرد للإله. ثم يعبر دوماس عبر كتابه المحتشد بمئات الآلهة في سطر واحد على إله كان يحمل اسم «هو
Hou »،
26
وهو ما يستدعي على الفور «هبا» زوج «هبات» أو «هفا» أو «هوى». كذلك جاء ذكر هذا الإله باسم «هو» عند ياروسلاف،
27
بنفس الإشارة السريعة التي توعز بعدم وجود معلومات كافية عنه.
ويشرح إريك هورنونج عن «هو» قائلا إنه: «تجسيد للنطق الخلاق الذي دعا به الإله الخالق كل الأشياء إلى الوجود، وهو أحد القوى الخلاقة الثلاثة مع حكا
Hike
وسيا
Sia
التي تصاحب إله الشمس دائما، والإله «هو» ليس له عبادة في المعبد»،
28
وهو الأمر الغريب والمدهش إذا علمنا أن «يهوه» رب الإسرائيليين، كان الإله الوحيد، على تعدد أديان المنطقة، الذي كان إلها بريا ليس له معبد، ولم يقم له المعبد بعد ذلك إلا على يد الملك داود ثم سليمان، لأسباب سياسية لتدعيم المركزية الحاكمة.
ومعنى أن يكون «هو» عند المصري القديم إلها يرمز إلى النطق الذي دعا به الإله الخالق الأشياء للوجود، فهو ما يستدعي فكرة الخلق بالكلمة «كن - فيكون»، فالإله «هو» ينطق مثل ما فعل الكينونة
TO BE ، وسنرى كيف أن الإله العبري يهوه كان بدوره فعل كينونة «يكون».
وفي نصوص مصر القديمة نجد حكاية بعنوان قصة الرياح الأربع، عبر فيها المصري عن اسم أحد آلهته، نظنه الإله «هو» تحديدا، بنقش كريش وعصافير تطير، تؤدي كلها المؤدى الصوتي ي ه و ى
IAUEE ، وتم تصوير الحرف الأخير من تلك الكتابة التصويرية في شكل مروحتين من ريش، متعارضتي الاتجاه تعبيرا عن شهيق ذلك الإله وزفيره للهواء.
29
وأسماء الإله التوراتية تعطينا تنغيمات مختلفة، كعزف متعدد على نوتة أصلية، فهو ياو، ياهوه، ياه، إهيه، يهوه، جاهوفاه، يهوى، ويعطيك النغم صوت الريح، خاصة لو أخذنا بنصح «لودز» في صحة نطق الاسم، فهو ينبهنا إلى وجوب نطق الاسم جاهوفاه بفتح ثم مد فسجول طويل،
30
ويرى «شتاده
STADE » أن معنى الاسم هو المسقط، أي الذي يسقط البروق على الأعداء؛ لأن هوى بمعنى سقط،
31
بينما يذهب «فلهاوزن
Wallhaesen » إلى أن الاسم «يهوه» من هوى العربية بمعنى الهواء فمعناه يهب، أي إنه كان إلها للريح والعاصفة،
32
وهو ما نراه يتصل بعبادة القمر البدوية كما سنرى.
ومعلوم في الدراسات الميثولوجية أن القمر كان في نظر الأقدمين معبودا، وكان معلوما أيضا أنه جرم كبير كالشمس، لكنه غير مستقر الأحوال، فسلوكه «هوائي». وحتى اليوم نقول عن الشخص المتقلب أنه هوائي.
ومع قيام الدولة الأكادية السامية في الرافدين القديم، يبرز بين الآلهة السومرية القديمة الإله «إنليل»، واسمه مركب من ملصقين «آن = سيد أورب» + «ليل = الليل أو الهواء»، وقد اعتبر رب الليل وانتمى الناس إليه بالعبودية حتى زمن الدعوة الإسلامية، كما يأتينا في اسم «عبد ياليل»،
33
ولم يزل المطرب الشعبي في بلادنا، يغني لهذا الرب بمواله: يا ليل يا عين، وعين هنا هي عين الليل، القمر. أما أهم صفات «إنليل» التي وصلتنا؛ فهي أنه كان رب الريح والعاصفة. ولما كان الأقدمون يرسمون للكواكب والنجوم خرائط تخيلية، تحددها لتسهل مقاربتها؛ ولأن التجريد الخطي لم يكن قد نضج بعد، فقد جعلوا خرائط الفلك على أشكال الحيوانات، وكان حظ القمر من تلك الخرائط رمز الحيوانات ذات القرون؛ لأن القرنين يشبهان الهلال، فقاموا يرسمون تحت الهلال رمزه الأرضي: الثور والتيس والخروف. لكن الصورة التي حازت الانتشار كانت صورة الثور؛ لأنه على الجانب الآخر كان يمثل قوة الخصوبة في الطبيعة، لفحولة الثور الجنسية. وهنا ما علينا سوى أن نتبع نصح «لودز» في نطق يهوه «جاهوفاه»، بفتح فسجول طويل لنستمع لأنفسنا نخور خوار ثور فصيح. إنه بدوره صوت الريح، ولا ننسى أن من معاني كلمة سوت
Swt
إحدى مشتقات سيت في معجم فولكنر 215: معنى قوة الريح. وكثيرا ما قيل في الأساطير الإسلامية القديمة، أن الريح الإعصاري يخرج من منخار ثور أسطوري (متكررات: انظر ذلك قصص الأنبياء للثعلبي النيسابوري مثلا).
لكن المدهش حقا - وسر الدهشة سينجلي بعد قليل - أن نجد المصري القديم يدون لنا عن ذلك الإله المذكور في هيئة مراوح من ريش تزفر الهواء، تنبيها يقول: «إنه الإله الذي يحرم النطق باسمه.»
34
وهو ما ترك صداه في الأساطير الدينية حول اسم الإله العظيم أو اسم الإله الخفي، وهو الاسم الذي إذا عرفه شخص تقي أو محظوظ، يمكنه أن يكتسب قدرات الفعل الإلهي، ويكسر به قوانين الطبيعة ويفعل المعجزات، وقد شرح المصريون، وبعدهم علماء المصريات، السر في تحريم النطق باسم هذا الإله، والمتمثل في كونه ليس كائنا بل هو نطق. هو الكلمة الخالقة، هو فعل وليس كيانا ماديا؛ لذلك استخدمت في التعبير عنه حركات الريح (المراوح والريش)، زيادة في تجريده عن المحسوس. وهو ما يلتقي مع الاسم «هفا» أو «هوا» زوج ربة الشمس «هبات» في بلاد الحوريين المديانية، وإليه انتسبت باسمها الأميرة الميتانية، التي تزوجها آمنحتب الثالث، وعرفت باسم «جيلوخيبا» أو «إيلوهوا»، وترجمتها «الإله الهواء»، وهي الإلهة التي عبدت في مصر باسم «هيبات».
ولو أمكننا الاطمئنان الكامل لكلام «برستد»، حيث لم نجد هذا الكلام إلا عنده، لأمكن القول أن «هوا» أو «هفا» هو نطق لاسم نفس الإله «يهوه»؛ لأنهما كانا يعبدان في ذات المكان وذات الزمان، فهو يقول: إن أهل مديان قبل موسى، كانوا يدينون بديانة إله وثني باسم «يهوه»،
35
وهذا كله إنما يلتقي مع صفة عناق الآدومي شديد السرعة كالريح، وبقيت عنه ذكريات جاءت في لسان العرب، وهو يقول:
إنه ليس شيئا من الدواب يؤبر - أي يخفي أثره - إذا عدا، غيره وغير الأرنب، وجمعه عنوق، والفرس تسميه: سيا كوش.
ثم نجد لدينا قطعة أدبية كهنوتية مصرية، تعود إلى زمن من الأسرة التاسعة عشرة ربما من زمن رمسيس الثاني، معنونة بعنوان شديد الدلالة هو «الإله واسم قوته الخفي»، تروي كيف كان للإله عدد من القوى، ولكل قوة اسم مقدس معبود، وبين تلك الأسماء كان ذلك الاسم، الذي لا يعرفه أحد وهو سر قوته العظمى.
36 (الإلهة هيبات: انظر الشكل رقم «106».)
شكل رقم «106»: الإلهة هيبات المصرية.
هذا بينما على الجانب الآخر نجد «موسكاتي» يقول: «كان إله إسرائيل يظهر وسط السحاب، ويبدي قوته في البرق والعاصفة.»
37
وكان «سيجموند فرويد» يؤكد: «أن الإله يهوه هو الذي أهداه موسى المدياني شعبا جديدا لم يكن كائنا أعلى، بل كان إلها محليا محدودا وشرسا، عنيفا ودمويا.»
38
إن فرويد كان مثل «جيمس برستد» يعتقد جازما أن يهوه كان إلها مديانيا سيناويا آدوميا. أما الذي يجب إبرازه هنا أن المصري القديم، كان دائما يتحدث عن أرض الإله أي بلاد بونت، لكنه أبدا لم يذكر لنا اسم هذا الإله ولا مرة واحدة، ونفهم الآن السبب الواضح؛ لأن هذا الإله كان فعلا، لم يكن اسما وليس له اسم، إنه فقط «هو» يشار إليه بالغائب؛ لحرمة النطق باسمه.
ويشرح «كمال الصليبي» معنى اسم الإله الإسرائيلي «يهوه» فيقول: «يهوه: قد تعتبر هذه الكلمة بالعبرية على أنها الاسم الذي تطلقه التوراة على الله ... وهو اسم لا يلفظ في القراءة إجلالا، بل يكنى عنه بكلمة الرب، وهكذا يترجم إلى العبرية. ويعتبر علماء اللغة أن يهوه هي صيغة مضارع لفعل هيه بمعنى كان، والمضارع من هذا الفعل هو عادة يهيه، كلمة يهوه إذن قد تعني: الرب وقد تعني: يكون.»
39
وللباحث نفسه كتاب آخر يعقب فيه على نص التوراة، الذي يحكي عن لقاء موسى لربه في نبات مضيء بسيناء «فناداه الرب يهوه من وسط العليقة، وعرفه بنفسه قائلا: ء هيه ءشر ءهيه، أي أكون الذي أكون، أو بمعنى آخر: أنا من أنا، وطلب منه أن يسميه باسم أهيه أي أكون. والاسم هذا من الناحية اللغوية هو اشتقاق من هيه، بمعنى: كان، أو بأي معنى آخر. والجذر نفسه يرد أيضا في العبرية التوراتية بشكل يهوه، والواضح على كل حال أن الاسم ءهوه هو ذاته اسم الرب يهوه.»
40
بينما الترجمة العربية للتوراة الصادرة عن الكنيسة الكاثوليكية، تسجل نص خطاب الرب لموسى هكذا: «أنا هو الكائن، قل لبني إسرائيل الكائن أرسلني إليكم.» ويعقب «أنيس فريحة » على ذلك بقوله: «إن كلمة يهوه هي اسم الإله، وهو فعل مضارع من هوى.»
41
وفي مصر القديمة إله للهواء أو للهوى معلوم مشهور، هو المعروف باسم «شو
SHU »، الذي يحمل قبة السماء، ويقول لنا «فهمي خشيم» أن المقابل العربي لهذا الاسم بالجذر الثاني ينطق «هو» أو «هواء»، رب الهواء ويرسم بشكل ريشة. وقد صور المصري القديم ذلك الإله برجل على رأسه ريشة، ومجموعة من الريش للدلالة على الهواء. ونحن نعلم أن الريشة كانت علامة الملوكية عند البدو، الذين يضعون الريش على رءوسهم علامة السيادة،
42
تيمنا برب الهواء والمالكين باسمه ورمزه «الريش».
وهكذا فإن الإله «سيت» كان في نظر المصريين راعيا للموت وربا له، وكان له عدد من التجليات فارتبط بنوعين من الحيوان: الحمار؛ لأن لونه أحمر، وبالحيوان البونتي الآدومي «عناق». وربما ارتبط بكائنات مصاحبة عاشت في المنطقة، وكانت من علاماتها الدالة، مثل «حية السف الطائرة»، كما ارتبط بطائر صياد للحيات، هو طائر الفينيق، وكان عند المصريين ربا لذوي البشرة السوداء أو الكوشيين؛ لذلك رأوه ربا للجنس الأسود الزنجي، الذي كان يعيش جنوب الوادي، وكان يطلق على تلك المنطقة الجغرافية اسم بلاد كوش، كما كان إلها للجنس الأسود «الكوشيين»، الذي عاش على حدود مصر الشرقية في سيناء وآدوم.
والكتاب المقدس يروي لنا في سفر الخروج رواية شديدة الدلالة؛ إذ يقول إن يهوه رب إسرائيل بعد أن ضرب مصر بكثير من الضربات المهلكة، وجعلها بلادا قحطا قفرا، كتحويل مياه النيل إلى دم نتن، وإرسال الريح المحملة بالبرد والنار على البلاد، مما قضى على الزرع والناس والحيوان، وتسليطه الحشرات كالجراد على المزارع، والأوبئة التيفودية الفتاكة على الحيوان والإنسان. قرر في الليلة الأخيرة قبل خروج بني إسرائيل من مصر في الصباح، قتل كل بكر في مصر سواء كان إنسانا أو حيوانا، ونستمع معا لهذا المقطع التوراتي، الذي يوعز بأن ذلك القتل كان عنيفا صاحبته إسالة دماء هؤلاء الأطفال، كما لو كان قد تم تمزيقهم إربا، يقول هذا المقطع:
فدعا موسى جميع شيوخ إسرائيل وقال لهم : اسحبوا وخذوا لكم غنما بحسب عشائركم واذبحوا للفصح، وخذوا باقة زوفا واغمسوها في الدم، الذي في الطست ومسوا العتبة العليا والقائمتين بالدم الذي في الطست. وأنتم لا يخرج أحد منكم من باب بيته حتى الصباح، فإن الرب يجتاز ليضرب المصريين، فحين يرى الدم على العتبة العليا والقائمتين يعبر الرب عن الباب، ولا يدع (المهلك) يدخل بيوتكم ليضرب ... فحدث في نصف الليل أن الرب ضرب كل بكر في أرض مصر، من بكر الفرعون الجالس على كرسيه إلى بكر الأسير الذي في السجن وكل بكر بهيمة. فقام فرعون ليلا هو وكل عبيده وجميع المصريين، وكان صراخ عظيم في أرض مصر؛ لأنه لم يكن بيت ليس فيه ميت. (خروج، 12: 29، 23، 22، 21)
لقد كان المحرر التوراتي يعلم بالتباس الإله يهوه بكائن اسمه «المهلك» أي المفترس، وحاول الفصل بينهما لكنه لم يتمكن من ذلك تماما فظهرا كائنا واحدا، وهو ما يذكرنا بالإله «سيت» المصري رب الموت، المعروف لدى الإغريق باسم «طيفون» سيد عالم الأوبئة والدمار، الذي زعمناه «عناق» وفضلنا وصفه بعناق البونتي؛ لتبقى عنه ذكريات حفرية انتقلت عبر الأجيال حتى زمن دعوة الإسلام، ليعبر عنها القرآن في قوله:
فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون (القلم: 19)، ومن المدهش أن يفلت من المحرر التوراتي تصور واضح لهيئة ذلك المهلك الإلهي اليهوي طيفون الطائف، فيتابع سرد كيف أهلك المهلك أبكار المصريين في قوله:
وقال موسى: هكذا يقول الرب: إني نحو منتصف الليل أخرج في وسط مصر، فيموت كل بكر في أرض مصر، من بكر الفرعون الجالس على كرسيه إلى بكر الجارية التي خلف الرحى وكل بكر بهيمة. ويكون صراخ عظيم في كل أرض مصر لم يكن مثله ولا يكون مثله أيضا، ولكن جميع بني إسرائيل لا يسنن كلب لسانه إليهم لا إلى الناس ولا إلى البهائم، لكي تعلموا أن الرب يميز بين المصريين وإسرائيل. (خروج، 11: 4-7)
إذن فالمهلك التوراتي من الفصيلة الكلبية، ونحن نعلم أن أحد سلالة يهوذا بن يعقوب، قد حمل اسم تلك الفصيلة، فهو «كالب بن يفنة» أبو قبيلة الكلبيين، ويحيطنا علي الشوك علما في عبارة سريعة غير مشغولة بموضوعنا، لكنها تعني لنا الكثير، تقول: «إن الكالبيين هم الآدميون حلفاء اليهود.»
43
وفي نص مصري ورد لأول مرة في نصوص ترجع إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد فيما يسمى نصوص اللعنات، التي كانت تكتب على جرار فخارية تسجل أسماء أعداء مصر وبلادهم وحكامهم، ثم يتم تحطيمها في طقس سحري تماثلي يفترض فيه أن الشبيه ينتج الشبيه، لجلب الأذى على أصحاب تلك الأسماء، والنص الذي نقصده يعدد ملوكا وبلادا، نقف مع اسم أحدهم دهشين، لكن مطمئنين به إلى فروضنا، إذ يذكر النص اسم ملك لبلاد تشغلنا فيقول:
وإيدوم حاكم إي عناق وجميع بطانته
ويقرب آمو حاكم أورشليم وجميع بطانته.
ويستمر سجل الأعداء المطلوب إنزال اللعنة عليهم بالطقس السحري، فيذكر إثنى عشر ملكا ببلادهم،
44
إلا أن الملحوظة الهامة على نص اللعنة المذكور هنا، أنه قد حدثت فيه حالة تبادل ما بين اسم الملك واسم البلاد الآدومية، فحمل الملك اسم «إيدوم» أو «آدوم» وكان يحكم في «إي - عناق»، والكلمة «إي» كلمة سومرية هندوآرية، ورثتها الساميات عن السومرية، وترد على التبادل مع كلمة «بيت
BIT »، التي تحمل ذات الرسم والمعنى في اللغة العربية، فبلاد آدوم كانت «بيت عناق» ومقره. (انظر أشكال أنوبيس المصري والسالعوة رقم «107، 108، 109، 110».)
شكل رقم «107»: أنوبيس/المتحف المصري، لاحظ مدى اشتراكه في هيئته الجالسة وأذنيه المرتفعتين مع الإله سيت، ولاحظ الطوق الذهبي حول العنق.
شكل رقم «108»: بروفيل أنوبيس رب الموت في مصر القديمة.
شكل رقم «109»: أنوبيس ابن آوى يلحد الموتى في مقبرة سبتاح. التعويذة رقم 151 من كتاب الموتى.
شكل رقم «110»: أحدث عثور وقتل لحيوان السلعوة بأسوان (مصر في شهر إبريل 2010م).
شكل رقم «111»: رب الشر سيت يلبس تاج القطرين.
شكل رقم «112»: سيت تفصيل علوي.
شكل رقم «113»: سيت يلبس أطواقا؟! مدياني؟!
شكل رقم «114»: السلعوة في الأخبار القاهرية بتاريخ 6 / 4 / 1997م، لاحظ الآذان وقارن مع سيت، والوجه الأقرب إلى الحمار.
شكل رقم «115»: أخبار السلعوة «أو المنسوبة إلى سالع» في صحيفة الأخبار القاهرية بتاريخ 7 / 4 / 1997م.
الفصل الرابع
معان المصرية
تقيم التوراة في شجرة أنسابها وتقسيمها للأجناس، علاقات قرابة ونسب ما بين الجنس العربي والجنس العبري، فتجعلهم من أصل واحد، وتعيدهم دوما إلى سلف واحد مشترك. وأدرجوا تحت هذا السلف المشترك: العبريين، والعرب الشمالية والجنوبية، بإرجاعهم جميعا إلى أب بعيد واحد هو «عابر». والواضح على المستوى اللساني بالقلب اللغوي «الميتاتيز» أن عبري مقلوبها عربي.
ومن هنا يمكن الظن أن هذا المزج يعود إلى ذكريات تاريخية، إلى زمن هجرات وتحالفات وحروب وتداخلات، حدثت بين مجموعة شعوب في المنطقة. وأصرت التوراة من جانبها على ربطها جميعا بصلات قرابية؛ لتميز من بينهم شعبها المختار «إسرائيل». ومن جهتنا نعتبر ذلك ترديدا لكشفنا للمملكة التجارية الكبرى، التي قامت في بلاد آدوم، بين حلفاء من أجناس مختلفة وألسن متباينة. واقتضت مصلحتها إقامة كونفودرالية، شكلت لونا من قومية المصالح، التي اقتضت تنظيرا قبليا، قام المقدس برتقها ببعضها باعتبارها بطونا وأفخاذا لأصل واحد، امتد من حدود الدلتا الشرقية المتصلة بسيناء حتى الرافدين والخليج الفارسي شرقا. ومن الشمال السوري والرافدي حتى اليمن جنوبا، إضافة إلى جزر المتوسط الشرقية.
وغني عن البيان أن ما حدث في آدوم قد وجد صداه في عود تاريخي يكاد يطابق ما حدث في بلاد آدوم بعد ذلك بقرون طوال، عندما قامت مكة في بلاد الحجاز بدور الوسيط التجاري لعالم الإمبراطوريات، حين توفرت لها الظروف القديمة، والتي أهلتها لتقود القبائل المتفرقة نحو دولة قبائل كونفودرالية اتحادية، لتكرر ذات ما حدث في بلاد آدوم. فحين استوت لها أسباب القوة تحولت عن قبض عشور التجارة، إلى التجارة بأموالها الخاصة، ثم إلى توحد الشركاء في منظومة واحدة، ثم احتلال دول المحيط احتلالا مباشرا واستيطانيا، هاجرت فيه القبائل العربية لتسكن البلاد المفتوحة، وتحكمها حكما مباشرا في ولايات. بالضبط كما حدث زمن الهكسوس وتكوينهم إمبراطورية تجارية كبرى، توزعت فيها الولايات على القبائل الكبرى داخل الحلف الواحد. حتى إن مكة قد ضمت مدن الخط التجاري القديم القادم من اليمن حتى مصب ذلك الخط في دول المتوسط الشرقي، كما ضمت في عضويتها أجناسا متعددة، يأتينا ذكرها في صحابة نبي الإسلام أنفسهم، ما بين الزنجي الكوشي بلال، وبين الهندوآري الرومي صهيب، وما بين الفارسي سلمان.
شكل رقم «116»: حقل الأحداث زمن إمبراطورية الهكسوس حسب تخريجات المؤلف.
وفي المأثور العربي ترديد متكرر ومتواتر، لأمر كان يحتفظ به قدامى العرب من ذكريات الأزمنة الخوالي، وهو أن جزيرة العرب كان يعيش فيها من فجرها جنس أطلقوا عليه العرب العاربة، أي العرب الأصيلة الراسخة في العروبية، والمتجذرة فيها من فجرها القديم. وهم من حظوا بلقب العرب القحطانية، وهم المفترض أن يكونوا سلسلة من الأخلاف لشخصية وردت في شجرة الأنساب التوراتية باسم «يقطان». وتقول لنا المصادر الإخبارية العربية إنه قد وفد على جزيرة العرب من بوابتها الشمالية جنس آخر وافد، هبط إليها هبوطا غير منطقي لأسباب مجهولة. هجر مناطق الخصب في بلاد حوض المتوسط الشرقي لينزل إلى صحارى شمالي جزيرة العرب ومنطقة الحجاز، وكانت أشبه بهجرة استيطانية حمل أصحابها اسم العرب المستعربة، أي العرب غير الأصلاء أو الدخلاء، الذين اكتسبوا العروبية ولم يكونوا من أبنائها. وقد اصطلح على تسميتهم العرب العدنانية نسبة إلى سلف بعيد باسم عدنان، وهنا يخالف النسابة العرب شجرة الأنساب التوراتية، حيث لا نجد «عدنان» هذا في تلك الشجرة التوراتية. لكن أخبار العرب تلتقي مع أخبار العبر في اسم آخر، أطلقه المؤرخون العرب على العرب العدنانية، فهم إسماعيلية يعودون إلى إسماعيل ابن الخليل إبراهيم، والإسماعيلية هو الاسم الذي فضلته التوراة للعرب الشمالية المستعربة العدنانية.
وهكذا نفهم أن هناك ارتباطا، يشير إليه كلا المأثورين العربي والعبري، بين عرب الحجاز وبين الجنس الإسرائيلي عبر الخط الإسماعيلي، وأن الفرع الإسماعيلي أو العدناني للعرب قد هاجر من مواطنه في الفترة الهكسوسية حول بلاد آدوم والنقب ومحيطها، ليهبط بلاد نجد والحجاز؛ نتيجة ربما لخلافات قبلية أو تناقضات مصلحية حدثت داخل البطن الإبراهيمي حسب رواية التوراة، التي وافقتها الرواية الإسلامية، في ترميزات أسطورية لوقائع قديمة وأحداث تغيب عنا الآن تفاصيلها الدقيقة. ومن ثم انفصل الفرع الإسماعيلي وترك الفرع الإسرائيلي في فلسطين.
شكل رقم «117»: شجرة الأنساب التوراتية حسب الكتاب المقدس (من وضع المؤلف).
ورغم أن التوراة من جانبها لم تذكر أية معلومات واضحة، عن هبوط الفرع الإسماعيلي إلى بلاد الحجاز، فإنها أكدت عروبة هذا الفرع عندما دونت ذكرياتها التاريخية عن سكنى الإسماعيليين لبلاد آدوم ووادي عربة، وأن «عيسو/آدوم» كان من أنسباء الإسماعيليين لزواجه من محلة بنت إسماعيل شقيقة «نبايوت/نابت» ابن إسماعيل. ويقول لنا «المسعودي»: «وإن إسماعيل بن إبراهيم إنما تكلم العربية حين نشأ في العماليق ... ولا خلاف أيضا أن إبراهيم لم يكن عربيا ولا إسحاق ابنه، وأن ابنه إسماعيل أول من نطق بالعربية.»
1
والمأثور العربي يجعل أول من تولى أمر الكعبة المكية هو «نابت» ابن إسماعيل ونسله من بعده، ليربط بين العقيدة الدينية في مكة وبين أصولها الواردة من الشمال مع نابت بن إسماعيل، مع العرب الشمالية العدنانية المستعربة. والتوراة من جانبها تحيطنا علما بأن البطرك إبراهيم كان أرومة كل من الإسرائيليين والإسماعيليين، الذين اعتبرهم التأريخ الإسلامي عربا مستعربة. وهنا يجب أن نتذكر أن على خط الممالك الأخير في غسق الممالك الآدومية، كانت مملكة الأنباط التي تحيل إلى الاسم «نابت» إحالة قوية، مع دعم آخر لتلك الإحالة، إذ تحيطنا علوم اللغات القديمة، معرفة بأن الخط العربي هو تطوير للخط النبطي، الذي تطور بدوره عن الخط الآرامي، وهي جميعا الإشارات التي تشير إلى أن العرب المستعربة العدنانية الإسماعيلية الحجازية، يعودون بأصولهم التاريخية إلى محيط بلاد آدوم وسيناء وجنوبي فلسطين، وأنهم قد هبطوا جنوبا ليشكلوا هناك فرعا عربيا جديدا باسم المستعربة، نتيجة لأسباب لم تزل حتى الآن ضمن أرشيف التاريخ أسبابا مجهولة.
شكل رقم «118»: العرب القحطانية، شجرة كهلان شقيق حمير بن سبأ.
ويبدو أن منطقة آدوم القديمة ومحيطها، وضمن ذلك المحيط جزيرة سيناء جميعا، بل والبراري الملاصقة لدلتا النيل الشرقية، بما فيها من مدن مصرية، قد سكنتها أجناس عرفت بأنها «عربية»، وأن اسم عرابة الذي كان يخص الوادي الممتد من البحر الميت إلى العقبة، قد اتسع ليشمل كل تلك المساحة، ويضم معها مناطق الحجر وشمالي الحجاز، ومن هنا نفهم لماذا أطلق المؤرخون الكلاسيكيون مع مطلع العصر الإغريقي على إقليم شرقي الدلتا المصري اسم «الإقليم العربي»، كما أطلقوا على خليج السويس من البحر الأحمر «الخليج العربي من البحر الأريتري»، حتى إن عاصمة ذلك الإقليم الدلتاوي المصري أسماها اليونان «المدينة العربية باتومي»، أو باسم «بوتو» كما وردت عند المؤرخ اليوناني الأشهر «هيرودوت». ويؤكد هذا المعنى ليصبح حقيقة تاريخية، ما ذكرته التوراة عن استعباد الإسرائيليين في مصر في بناء مدينتين: واحدة باسم رعمسيس والثانية التي تعنينا هنا باسم فيثوم، التي تمت إعادتها لنطقها المصري لدى المصرولوجيين باسم «بر - ثوم» التي حرفت «بي - توم» التي هي «باتومي» عند هيرودوت، ومعناها في المصرية القديمة: «مقر الإله أتوم أو مسكنه». هذا إضافة إلى أن هذا الإقليم جميعا أسمته التوراة «إقليم جاسان» أو «غسان» «جاشان» أو «جشم»، وهو ما يستدعي «الطاسة النذرية» التي عثر عليها بوادي طميلات في ذلك الإقليم شرقي الدلتا، مهداة للآلهة من الملك الآدومي «جشم بن قينو». ثم يستدعي قبيلة «غسان» التي ظهرت بعد ذلك بزمن أيام الرومان، لتقيم دولة في ذات المكان عند خليج العقبة، مرددة في اسمها اسم «جسان» أو «جاسان»، ذلك المكان الذي كان يقع شرقي مصر على حدود الدلتا الشرقية، وقالت التوراة إنه كان موطنا سكنه الإسرائيليون عند دخولهم مصر، ومنه خرجوا إلى بوادي سيناء. ويبدو أن هذا الاسم قد حفر لنفسه طريقا عبر التاريخ، وامتد لتحمله قبائل سكنت في مناطق آدوم القديمة، مكان «جشم بن قينو» لتقيم دولة الغساسنة زمن الرومان، ولاحظ «جاسان = جشم = غسان».
ورغم أن المؤرخ «رينيه ديسو» لم يذهب إطلاقا إلى ما ذهبنا إليه نحن حتى الآن، فإنه يلقي بقول عابر يلتقي تماما مع ما وصلنا إليه؛ إذ يقول: «إن النبطيين كانوا يتكلمون الآرامية ... وأقاموا في جنوب فلسطين، حيث كانت مدينة سالع
هي العاصمة، ثم أصبحوا مهيمنين على الطرق التجارية.»
2
شكل رقم «119»: شجرة أنساب العرب العدنانية.
هذا بينما كان «إحسان عباس» يعبر عن دهشته، وهو يؤرخ لمدينة البتراء زمن الأنباط بقوله: «بين الأنباط وأهل اليمن عنصر هام مشترك، وهو طرق تخزين المياه وأساليب الري والمهارة الزراعية بعامة»، ثم يحاول البحث عن الأسباب وراء ذلك الاستقرار الحضاري في المنطقة الآدومية فيستطرد: «إن السؤال عن السبب الذي حداهم لسكنى تلك المنطقة ... نفترض أن حاجة قطعانهم إلى المرعى والماء، هدتهم إلى ذلك المكان، ورويدا رويدا وجدوا في الاستقرار وفي طبيعة المكان نفسه، حماية لأنفسهم وقطعانهم، ثم اكتشفوا بعد ذلك صلاحية المكان للتجارة ولاستقبال السلع من جهات مختلفة. وتفتحت عيونهم على بريق الثراء، وحين أحرزوا كل ذلك لم يطلبوا عن ذلك المكان تحولا، ثم إنهم لما بدءوا هم أنفسهم يتاجرون، ولم يعودوا إلى نقله لمتاجر غيرهم مقابل أجر معلوم، اكتشفوا حاجتهم الماسة إلى الكتابة ... فكتبوا بالآرامية ... لكن العربية الشمالية لم تكن يومئذ لغة مكتوبة، أعني لم تكن قد اشتقت لها أبجدية محددة الرموز، إذ يكاد الباحثون يتفقون على أن الحرف العربي اشتق من الحرب النبطي ... وبدءوا يكتبون العربية بحروف آرامية.»
3
والمعلوم أن أهم أعمدة تلك التجارة كانت المواد العطرية، وعمودها مواد التبخير من الزيوت واللبان بأنواعه؛ لذلك تساءل المؤرخون طويلا عن السر العجيب وراء رواج مادة اللبان، وكل تلك الأهمية التي تحملها للعالم القديم، ومن ثم نرى أنه إضافة إلى السبب الواضح في قدسيتها؛ لأهميتها التعبدية للتبخير للأرباب، يمكن الركون إلى سبب أكثر وضوحا وراء غلاء تلك المادة والطلب العالمي عليها، كمادة من المواد الثمينة. وهو أن علم الطب في مراحله الابتدائية، وفي كافة المدونات الطبية وعلوم الصيدلة القديمة، قد اعتمد اعتمادا كليا على عنصر أساسي مشترك، هو اللبان/المر/العلك، باعتباره المشترك في أي تركيب علاجي، وبخاصة للجروح، وهي الحدث الدائم في حياة الإنسان أيام شظف عيشه القديم، حيث كان الجرح قاتلا لصاحبه إذا تلوث، واستمر في النزف، فكان عزله باللبان بعد معالجته الكيميائية مع التسخين، مانعا للتلوث والنزف، وقد استمر هذا العلاج حتى زمن متأخر حتى أيام المسيح، وحتى اليوم نجد في الطب الشعبي مادة اللبان/العلك/العيك/مادة أساسية لعلاج الأمراض الصدرية والمعوية وأمراض الدم، فيشرب مغليا مع إضافات نوعية حسب نوع المرض، فهو مادة أساس حاملة لبقية صيدلية ذلك الزمان، وهنا نقرأ لسان العرب يحدثنا تحت مادة نبط:
النبط: جمع أنباط، ونبط الماء نبط، والنبط ما يتحلب من الجبل كأنه عرق يخرج من أعراض الصخر. وشاة نبطاء: بيضاء الشاكلة محورة، فإذا كانت بيضاء فهي نبطاء بسواد، وإذا كانت سوداء فهي نبطاء ببياض. وفي حديث ابن عباس: نحن معاشر قريش من النبط من أهل كوثي وربا (لاحظ أن كوثي بجنوبي العراق [المؤلف])، وقيل إن إبراهيم الخليل ولد بها، وكان النبط سكانها. وعلك الأنباط هو الكامان المذاب يجعل لزوقا للجروح.
ويوضح العالم الجليل «فهمي خشيم»: أن علك الأنباط ربما كان هو ما نسميه اليوم الصمغ العربي، أما اسمه الكامان، فهو أصلا من المصرية «ق م إي ت
qmiyt » أي صمغ، ومن «ق م إي
qmiy » وهو سائل من مواد الصمغ، و«ق م إي. ت. ن ت. ع ن ت ى
qmiy. t. nt. anty » أي صمغ شجرة المر، و«ق ء م إي
qamiy » أي نبات زيتي و«ق م إي
qamiy » أي دهان. وهو في معجم المصرولوجست «بدج» نوع من اللزوق، وجذره «ق م أو ج م» الذي أخذته اليونانية بالكاف «كومي
Kommi » وكذلك اللاتينية
qummi . ومن هنا نعلم لماذا كان المطاط في الفرنسية القديمة هو
gomme ، وفي الإنجليزية «
gum = صمغ = علك = مطاط»، وقد أبدلت
q
و
g
من العربية «ك»، فهي في العربية من المصرية «كم»، ومنها جاء اسم الكامان علك الأنباط. ولا يفوتنا التأكيد على أن اللبان أو الكامان «ع. ن. ت. ي» في المصرية، جاء هنا غير منسوب لا للصومال في أفريقيا ولا لليمن ولا للهند، إنما للأنباط، لبلاد آدوم. وهي الوراثة اللغوية لواقع أحداث بعيد، يؤكد على الرباط بين اللبان والأنباط، ويؤكد ما نقوله من بداية هذا العمل حتى الآن. ولا نستطيع هنا أن نمنع الذهن من تداعياته، وهو يتذكر المملكة التي قامت جنوبي مصر حوالي 1600ق.م. واستمرت حتى 308ق.م. وحملت اسم مملكة «نباتا
Nabata »، والتساؤل الملحاح يقفز طوال الوقت عن علاقة الجنس الأسود، باسم نابت ونبايوت ونباتا ونبط وبلاد بونط، خاصة أن مملكة نباتا قامت في منطقة النوبة، التي كانت تكتب وتنطق بفتح التاء الأخيرة/الهاء، «نوبت» التي حملت أيضا الاسم المصري «ا ء ح س
iahs »، واسما ثالثا «ك ش ت
kst » أي كاسي، واسما رابعا «إك ش
iks » أي كوشي،
4
وهي ذات المملكة التي كانت تنتظر رسالة من ملك الهكسوس الأخير «أبو فيس» أو «أسيس»، يأمر فيها ملك كوش بالهجوم على طيبة من الجنوب، بينما يهاجمها الهكسوس من الشمال، ويناديه في رسالته بلقب «ولدي»، ومعلوم أن الجند المصرية قد قبضت على هذا الرسول، عندما كان قادما من حواريس عاصمة الهكسوس بالدلتا الشرقية، متجها نحو الجنوب عبر الصحراء، ومع بداية الألف الأخير قبل الميلاد نجد الجنوب اليمني، قد بدأ يفصح عن حضارة تمثلها أربع ممالك، هي معان وسبأ وقتبان وحضرموت، التي لفتها جميعا الصبغة الحميرية، وورثتها جميعا بعد ذلك دولة حملت اسم حمير.
وعن المرحلة المتعددة الممالك في بلاد اليمن، ذهبت مدارس إلى اعتبارها بالفعل ممالك متعددة، لكن ليست متجاورة زمانيا؛ لأن تجاورهم جميعا في تلك المساحة الضئيلة كممالك مستقلة، أمر يصعب قبوله تماما، لكن في ضوء فروضنا وما نطرحه يمكن قبول تزامن تلك الممالك، مع التحالف، خاصة أن منها ما وجدنا له امتدادا شماليا أصيلا وأولا، مثل معان، ومثل سبأ التي هبطت من الشمال إلى اليمن، ومن هنا نميل إلى رأي المدارس التي تقول بتزامن تلك الممالك، ونراها معبرة عن ذلك الحلف العظيم، وهنا ننقل عن مظفر نادوثي قوله: «إن العلماء الذين يرون أن المعنيين والسبئيين كانوا يعاصرون بعضهم بعضا، يبنون هذه النظرية على نقش معيني، هو (جلاسر رقم 1155، وهاليفي رقم 535)، الذي يقول إن المعينيين كانوا يتبادلون تجارة الكندر/اللبان الذكر، مع الآشوريين عبر نهرين، وقد أدى ذلك إلى قيام حرب بين المادهي ومصر ... وفرتز هومل يرى أن لفظة
Madhi
تقوم مقام المديانيين
Midiantes
أو المانتي
Manti ؛ لأن بدو سيناء كانوا يعرفون بهذا الاسم.»
5
ولنا أن نرى نحن من جهتنا في لفظ «مانتي» تحريفا للفظ «مديان»، حيث هو اللفظ الذي يلتقي مع الكلمة التي تكررت في نصوص مصر القديمة «مونتيو»، على النسبة إلى مانتي «ميتان/مديان» أو «مونت/بونت».
وإذا كنا قد انتهينا إلى أن مملكة الهكسوس قد مثل السادة الحاكمين فيها، سادة من قبائل أو أجناس متحالفة في منطقة آدوم، التي كانت تابعة لمصر من بدايتها باعتبارها حد مصر الشرقي، وأن شأنها قد تضخم إلى حد التسلط على الوطن الأم، وأن في بلاد آدوم ومحيطها كانت معان المصرية ومديان؛ فإن «بلليني» يقول في خطاب شارد «إن المعينيين كما يتضح من اسمهم يرجعون إلى ملينوس ملك كريت.»
6
وبلليني هنا يريد إرجاع أصل ذلك الشعب الشرقي إلى أصول يونانية، وهو لن يقول بذلك إلا إذا كان ذلك الشعب جديرا بالانتساب إلى أصول حضارية راقية؛ ولذلك فمعان تعود عنده إلى الحضارة المينوية الكريتية، وأنهم من نسل الملك الأسطوري مينوس، وهكذا قلب الرجل الأوضاع، لكن ليعطينا معلومة تؤكد أن الإمبراطورية الهكسوسية، قد حملت شعوبا من مواضعها، ونقلتها بين أفلاك إمبراطوريتها، لتفكيك عراها القبلية لتكون أسهل انقيادا. وهي سياسة معلومة قديمة مارستها إمبراطوريات العالم القديم لتهجين شعوبها، وتذويبها في بعضها وتقليم أظافر الشعوب القوية. ومن ثم فإن كريت المينونة يمكن أن تعود إلى أجناس أخرى، خاصة أن تلك الحضارة نفسها قد دونت عن نفسها، أن حضارتها وأصولها تعود إلى ملك أسطوري يدعى مينوس، قد جاءها مهاجرا من بلاد الشرق، من مصر تحديدا، ويعتقد البعض أنه ربما كان هو الملك مينا مؤسس الأسرات المصرية، والدولة المركزية الموحدة.
ويقول «صمويل لانج» في كتابه أصل البشر: «ومن بين النقوش التي عرفت ما يدل على أن سلطة بعض الملوك المعينيين، لم تكن تقتصر على مقر ملكهم الأصلي في الجنوب، لكنها كانت تمتد إلى كل البلاد العربية وإلى حدود مصر وسوريا.»
7
وقد كشفت التنقيبات الأركيولوجية في جنوب جزيرة العرب عن لوحة نذرية، جاءت ترجمتها عند «نادوثي»، في حالة من الخلط مع ترجمة تالية إلى العربية، زادت الأمر سوءا، مما أجهدنا وقتا لتحقيق هذا النص المهم على أصوله. لوحة شكر مقدمة إلى الإله «عستر»، الذي ساعد مقدميها على العودة إلى بلادهم مرة أخرى سالمين، وهم يصفون أنفسهم بأنهم رعية الملك المعيني «أبي ياداياتي
Abi-Yada-yathi » أو أبي عاطي في ترجمات أخرى. أما الغريب أن هؤلاء العائدين يقررون أنهم قدموا، من حيث كانوا يعيشون حكاما على بلاد باسم «شور ونهرين».
8
ولأول وهلة يمكن للمطالع أن يتصور قدومهم من بلاد «آشور»، ويغفل عن أنها جاءت بدون همز «شور»، وربما يذهب به ذلك إلى آشور المملكة الكبرى، التي تموضعت بين النهرين دجلة والفرات. لكن قراءة أخرى وفق ما قلناه حتى الآن، يجب أن تذهب بنا إلى بلاد آدوم/نهرين، حيث عرفنا أن «شور» كانت الحد الشرقي لمصر، حيث تموضعت عاصمة الهكسوس، خاصة أنه في ذات اللوحة نجد إشارة إلى مدينة «غزة»، وإلى حرب نشبت بين المادهي
Madhi
التي ترجمها فرتز هومل «مديان» وبين المصريين. إن هذه اللوحة في رأينا تسجيل فصيح بطرد الهكسوس من مصر، وعودة بعض عناصر الهكسوس إلى مواطنهم التاريخية، وندعم ذلك فورا بما ذكره بللييني الذي عاش حوالي 799ق.م. أي في زمن قريب من الأحداث، حيث قال: «إن السبئيين كانوا سادة ما بين الخليج الفارسي والبحر الأحمر.»
9
وقد ظل كلام بلليني لونا من المبالغة، وتعرض لسوء الفهم لزمن طويل، لكن مع بحثنا هذا يتضح أن الرجل كان يسجل حقائق تاريخية بالفعل.
ونتذكر الآن النص الذي سقناه عن حملة «زيد بن حارثة» زمن النبي محمد إلى بلاد مديان على العقبة، وأن كتب السيرة قد ذكرتها باسم «أهالي ميناء» أيضا، وهو ما حيرنا بعض الوقت، لكن بالرجوع إلى النصوص اليونانية التاريخية نمسك بمفاتيح الفهم، حيث كانت «معين» تكتب
Minai ، وهو كما هو واضح تلوين لهجوي لقبائل تهمل العين، بالضبط كما كتبها اليونان «ميناي» أو بالعربية «ميناء».
وفي دائرة المعارف البريطانية كتب فرتز هومل، عما جاء في النقوش البابلية بصدد بلاد تحمل اسم «مجان
Magan »، ويحكمها ملك باسم «مانيئوم».
10
كذلك عقب المصرولوجست بدج على أرض مجان، بكونها تحديدا مناجم حجر الديوريت الفاخر في سيناء.
ولما كانت العربية في لهجاتها كأي لغة سامية بلهجاتها، تخلط بين أو تستبدل الحرفين «ج» و«ي» مثل «جاهوفاه = يهوه»، وبين القبائل العربية اليوم بالجزيرة قبائل تقول «سجادة»، بينما تنطقها القبائل الشرقية «سيادة»، ومثلها فإن «مجان» في نطق، تصبح «ميان» في نطق آخر، التي هي عندنا معان/معين/مينا/ميناء.
أما اسم الملك مانيئوم أو «ماني أوم»، فيجب أن يكون «معاني أوم»، والأوم هو العمود وجمعه أوام، وهو الاسم القديم لبلدة يمنية قديمة تحوي آثارا عديدة، أهمها الأعمدة أصبحت تحمل اليوم اسم «العمايد»،
11
وكل ما حدث هو استخدام مفردة جديدة تدل على ذات المعنى القديم، وعليه فإن «معاني أوم» ليس اسما للملك، بقدر ما هو وصف له أو لقب فهو «عمود معان»، والعمود كما علمنا أحد صفات العمالقة ودلالة الملوكية، كما استنتجنا من لسان العرب في الفصول السالفة.
ومما يؤكد رأينا في كون الساميين قد عرفوا سيناء وحدودها الشرقية باسم مصر، بينما مصر كانت تحمل اسما آخر «كيميت/توميري»، وأن الاسم السامي لبلاد النيل هو الذي ساد وانتشر، حتى أصبح دالا على مصر الوادي جميعا «باسم مصر»، إن ذلك قد أدى إلى التباسات في تفسير أحداث التاريخ. ونموذجا له ما جاء عند المصرولوجت «سايس»، وعقب عليه المؤرخ المصري «عبد العزيز صالح» بقوله: «وهناك رأي غريب وبعيد عن المنطق الزمني والمنطق التاريخي، اعتمد على ما سجله نارام سين عن أحداث عصره، وروى فيه أنه قبض بنفسه على «مانو دانو» ملك «مجان»، وفسرت طائفة من المؤرخين ذلك بأنه قبض على الفرعون مينا مؤسس الأسرات وأول ملوك مصر.»
12
وهكذا نجد نظريتنا تعيد الأمور إلى صحيحها ونصابها، حيث كانت «مجان» هي «معان/معين» شرقي سيناء وبلاد آدوم، وأنها كانت تعني آنذاك «مصر»، بلاد «موصرى». وعليه فإن الملك الرافدي «نرام سين» يكون قد هزم «مانو دانو» ملك مصر الآدومية، وليس مصر «كيميت/ توميري» المعروفة في وادي النيل.
وما يؤكد ذلك بشدة أن الكلمة «مجان» تعود إلى الجذر السومري
MA
بمعنى الماء وبمعنى الميناء وأرض السفن، وهو ما يشير إلى شهرة أهل «مجان» في ركوب البحر، وتشهد عليه تماثيل الدلفين المنتشرة في فنون الأنباط، وقد دعم تلك الترجمة نص من أيام الملك «دونجي» ملك «أور» الرافدية حوالي 2450ق.م. يتحدث فيه عن صناع السفن في بلاد مجان. إنه يتحدث هنا عن بلاد بونت القديمة/آدوم في وادي عربة قبل زمن الأنباط الرومي.
أما الأشد إضاءة، فهو أن تصف النصوص السومرية بلاد «مجان» بأنها: جبل النحاس وأرض الدولريت وبلاد الماعز،
13
وكلها تحيل إلى بلاد آدوم المديانية، حيث مناجم ومصانع النحاس، والأحجار المتميزة عن أحجار الدنيا، وماعز الهكسوس الذي شرحنا بشأنه طويلا، وهو الماعز الذي تنتسب إليه قبائل عربية، كالقبيلة التي لم تزل تحمل اسم عنزة إلى اليوم، والنسبة إليها «عنزي»، ونجد أفراد قبيلة قديمة باسم معزة تعمل مرتزقة في جيش الرعامسة مع أفراد من بلاد النايري، وهو ما نجده في قول حماد:
وفي عهد الرعامسة الأول نجد أن الفرقة كانت مكونة من 1900 مجند مصري، يعاونهم 3100 من المساعدين المتطوعين، وهؤلاء كانوا من الآسيويين من النيارين
Nearin ، وأصيل اسمهم مشتق من اللفظة السامية نار
Naar
أي شباب، وكذلك بدو من بدو الصحراء. ومن النوبيين من قبيلة ميزا
Meza
معزة، ويرى حماد أنهم نوبيون لأنهم سود (ونحن نراهم كوشيي آدوم [المؤلف])، وكانوا يشكلون فرقة الشرطة منذ أقدم العصور ... والجنود المساعدون أو المتطوعون مثل الميزاي
Mizay ، فكانوا تحت قيادة ضباط من شعوبهم.
14
لقد كانوا المعزيين أو العنزيين، وكانوا في آدوم وليس في الصومال في أفريقيا.
الفصل الخامس
أين تقع حويلة التوراتية
والسؤال الأول هنا: ولماذا البحث وراء أسماء توراتية مثل حويلة؟ ما الغرض من تحديد موضعها الجغرافي؟
الإجابة تتمثل في عنصرين أساسيين؛ الأول هو أن تحديد مكان حويلة سيساعد في تأكيد مذهبنا حول المواضع التي عاش فيها الإسماعيليون المديانيون وحلفاؤهم؛ لأنها دوما ترد كإحداثية جغرافية يضعها المحرر التوراتي، كإحدى العلامات لمواطن معيشة هؤلاء.
أما العنصر الثاني فهو أن هناك التباسا شديدا حول موضع حويلة التوراتية، أدى لكم غفير من الأخطاء في استنتاجات زملائنا من باحثين . وقد وجدنا في محاولة التحديد تلك فائدة بحد ذاتها، يمكنها أن تقدم للباحثين تحديدا دقيقا يؤدي إلى نتائج بحثية دقيقة.
هذا إضافة إلى اعتقادنا أن هناك أكثر من مدينة حملت هذا الاسم، أدت إلى تلك الالتباسات، وأن أهم هذه الحويلات ثلاث حويلات: الأولى في أقصى شمال فلسطين، وأعطت اسمها لبحيرة الحويلة. والثانية هي المتواترة في الكتاب المقدس، وهي مدينة عماليقية على حدود فلسطين الجنوبية بشبه جزيرة سيناء كما سنرى. ومدينة أخرى هي الأهم، وهي تلك التي عرفناها عاصمة للهكسوس في مصر باسم حواريس بالتبادل بين اللام والراء «حويلة = حويرة»، ويموضعها المؤرخون في مكان ما غير متفق عليه شرقي الدلتا المصرية.
ونبدأ بالسؤال الملحاح الذي لم يجد حتى الآن إجابة قاطعة بين مبعثرات التاريخ القديم وشظاياه : أين تقع المدينة التي اتخذها الهكسوس مركزا عسكريا وإداريا في مصر؟ وجاءنا ذكرها عبر المؤرخ المصري «مانيتون ق 3ق.م.» باسم «حواريس» أو «أواريس» بالنطق اليوناني، أو «حواعرة» أو «هوارة» بالنطق المصري. وهو السؤال الذي أجبنا عليه في الجزء الأول، وعلمنا أن حويلة هي حوير هي حواعرة هي أواريس، هي أفاريس، تل المسخوطة أو الخشبي الآن، والتي أعطاها رمسيس الثاني اسمه، واستعبد في بنائها الإسرائيليون فيما يزعم المقدس التوراتي.
وكثيرا ما ربطت التوراة بين مدينة الهكسوس الكبرى في جنوبي فلسطين (حبرون/الخليل)، وبين حواريس المصرية. والتوراة تذكر حواريس باسمين يردان على التبادل، الأول والقديم هو «صوعن»، والثاني الأحدث هو مدينة «رعمسيس». وتشير في تواتر متعدد، وفي مناطق متفرقة بالتوراة، إلى أن «صوعن» قد بنيت بعد «حبرون» بسبع سنين. ويبدو أنها الفارق الزمني بين استيلاء الهكسوس تماما على حبرون/الخليل/جنوبي فلسطين عند تحولهم من دولة تجارية إلى دولة توسعية إمبراطورية، وبين دخولهم مصر وإقامتهم في صوعن/رعمسيس/حواريس. لكن الإضافة هنا أنه كان هناك حواريس أصلية أقرب إلى المركز الرئيسي للهكسوس، نظنه هو ذات المركز الذي جاء اسمه في التوراة باسم «حويلة».
الواضح لدينا على المستوى اللساني وحده «الآن»، أن «حويلة» التي تكررت في الكتاب المقدس ، أنها بالتبادل بين حرف اللام والراء باعتبارها حروف سقف حلقية، فإن «حويلة» ستكون «حويرة»، وبهذا يصبح معناها «الحورية». وهي المسمى التي يلتقي تماما مع اسم عاصمة الهكسوس «حواريس»، بعد حذف التصريف الاسمي فتصبح «حوار». وفي المعركة التي قادها أول ملك إسرائيلي، الملك «شاول» ضد العماليق العناقين، يؤكد لنا الكتاب المقدس نتيجة المعركة بقوله: «وضرب شاول عماليق من حويلة حتى مجيئك إلى شور التي مقابل مصر (صموئيل أول، 15: 7)». وهذه النتيجة تعني أن شاول بضربه مدينة العماليق امتد تأثير تلك الضربة على العمالقة، بطول المنطقة الممتدة من «حويلة» إلى «شور» التي أمام مصر. وحتى الآن لم يتم تحديد أين تقع «حويلة» التوراتية على الإطلاق، إنما ذهب الجميع إلى تحديد «شور» بأنها على حدود الدلتا الشرقية مباشرة ، حتى تكون أمام مصر، استنادا إلى مجموعة إحداثيات أعطتها لنا التوراة، حيث يتكرر ذكر «شور» مرات متعددة. وأول الإحداثيات وأوضحها تأتي في حدث عبور البحر بالعصا المعجزة، حديث نجد، أول موضع ينزل به الإسرائيليون بعد عبور البحر من الدلتا المصرية إلى سيناء، هو برية باسم شور: «ثم ارتحل موسى بإسرائيل من بحر سوف، وخرجوا إلى برية شور» (خروج، 15: 22)، مما يعني أنها على الحدود مباشرة مع المدن المصرية العامرة في شرق الدلتا، والتي كان أهمها «صوعن» أو «رعمسيس» مدينة الفرعون التي يزعم الإسرائيليون أنهم اضطهدوا في بنائها، وعبروا من جوارها البحر في قصة العصا الحية. ويبدو أن هناك طريقا كان يبدأ من الموضع شور حتى يصل إلى شرقي سيناء نحو فلسطين، أطلقت عليه العبرية «درك شور»، وجاء في الترجمة العربية «طريق شور» (تكوين، 16: 17)، ومن المتكررات التي تذكر الوضع «شور» بالتوراة ذلك النص الذي يحدد موطن سكنى الإسماعيليين، ويضعه في ذات الموضع الذي سبق للتوراة وحددته موطنا لسكنى العمالقة، والذي ذكرناه من هنيهة في نص الملك شاول، والنص الجديد هنا لسكنى الإسماعيليين، يؤكدان أنهم قد «سكنوا من حويلة إلى شور التي أمام مصر» (تكوين، 25: 18)، وهو ما يضيف قرينة جديدة إلى ما سبق وذهبنا إليه في كون الإسماعيليين عمالقة ، أو أنهما بطنان لقبيلة واحدة. ثم لدينا إشارة أخرى تتحدث عن المواطن التي أقام بها البطرك إبراهيم إبان ارتحالاته بالمنطقة، والإشارة تقول: إنه قد «سكن بين قادش (عين قديس [المؤلف]) وشور، وتغرب في جرار» (تكوين، 20: 1).
وإذا كان قد تم تحديد «قادش» بأنها «عين قديس» في أقصى الطرف الشرقي بسيناء على الحدود الآدومية الغربية، وأنه إذا كانت شور في أقصى الطرف الغربي لسيناء على حدودها مع شرقي الدلتا المصرية، فإنه يجب البحث عن «حويلة» التوراتية بجوار قادش سيناء في أقصى الطرف الشرقي لسيناء، وبالتحديد عند طرف الطريق القديم الذي أسمته التوراة «درك شور»، واكتسب اسمه من وقوع «شور» على طرفه الغربي. وبذلك تكون المسافة الواقعة بين «حويلة» شرقي سيناء و«شور» غربي سيناء، هي المسافة الكبرى التي سكنها العماليق والإسماعيليون، وتكون «مدينة عماليق» التي ضربها شاول بعد حصارها، هي ذات عين «حواريس» أو «حويلة» التوراتية، وليست حويلة/حواريس الموجودة شرقي الدلتا المصرية باسم رمسيس. وفي هذه الحالة يجب البحث عن حويلة التوراتية في مكان ما شرقي سيناء في جوار قادش (عين قديس)، وعلى حدود آدوم الغربية وحدود فلسطين الجنوبية.
وحتى يمكن الوصول إلى تحديد دقيق، يلاحظ أن الإسماعيليين رغم انتشارهم في سيناء جميعا، من حويلة التي نبحث عنها شرقا حتى شور غربا، فإن أول استقرار إسماعيلي ألمحت إليه التوراة، كان في ترميزها القصصي الذي أكد أن هاجر وابنها إسماعيل بعد طردهما من بيت إبراهيم، هبطا من فلسطين جنوبا ليسكنا في برية فاران (تكوين: 21)، التي افترضناها باران الحالية، أي قرب قادش؛ وذلك لأن هناك نصا توراتيا آخر يحدد لنا موقع «قادش»، بأنها تقع بدورها في برية فاران (عدد، 13: 26)، وأن في محيط برية فاران برية أخرى، دعتها التوراة برية صين. فالتوراة تقول إن قادش رغم وقوعها في محيط برية فاران، فإنها تقع في محيط برية أخرى باسم «صين» (وذلك في عدد، 20: 1)، وقد اتفقنا على أن برية «صين» هي «تسين» الحالية في الجوار ذاته إلى الشمال قليلا من «باران».
أما ما يؤكد لنا صدق تلك الإحداثيات، وأن موطن سكنى إسماعيل وأمه كان في برية «فاران» و«صين»، قرب «قادش» على حدود سيناء الشرقية التي هي حدود آدوم الغربية، وأن هذه المنطقة كانت الطرف الشرقي أودرك «شور»، يؤكد كل ذلك قول التوراة إن ملاك الرب قابل «هاجر»، وأن ذلك اللقاء قد تم في موضع تحدده التوراة بقولها: «فوجدها ملاك الرب على العين التي في طريق شور» (تكوين، 16: 6، 7). أما «قادش» نفسها فقد حددت التوراة موضعها بقولها: «قادش على تخوم آدوم» (عدد: 20). وبذلك تقع قادش سيناء أيضا جنوبي فلسطين أو مملكة إسرائيل القديمة، وهو ما جاء في نص توراتي يرسم الحدود الجنوبية لأرض تلك المملكة. «وجانب الجنوب يمينا من ثامارا إلى مياه مريبوت قادش النهر إلى البحر الكبير» (حزقيال: 47).
الآن أمكننا حصر منطقة أضيق للبحث فيها عن «حويلة»، فأي موضع في هذا الصقع الممتد من غربي آدوم إلى جنوبي فلسطين، يحتمل أن يكون هو موقع حويلة التوراتية، تلك التي حارت فيها الأفهام؟
بالبحث لا يمكنك أن تجد موضعا يحمل في سماته اللسانية اسم حويلة أو حويرة أو حواريس، ويقع في تلك المساحة أو تحديدا، على الطرف الشرقي لطريق قديم في سيناء يربط شرقها بغربها، سوى مدينة العريش الحالية، التي تلتقي التقاء مدهشا مع المعطيات التي لدينا، على المستوى اللساني، وعلى مستوى الإحداثيات الجغرافية.
وفي هذه الحال، يجب أن تكون مقاطعة سترويت المنسوبة إلى الإله «سيت» أي «الستية»، وكما علمنا غير موجودة بالمرة في الجداول المصرية لمقاطعات مصر القديمة، هي منطقة نفوذ إله الصحارى، هو شبه جزيرة سيناء المتصلة بالدلتا المصرية الشرقية.
وإعمالا لذلك سبق ووضحنا حلنا الافتراضي، وهي أن تكون شبه جزيرة سيناء هي التي عرفت في أعمال المؤرخين الكلاسيكيين، باسم مقاطعة «سيترويت» نسبة للإله «سيت»، وهنا علينا أن نلحظ أن «سيترويت» هي المقلوب اللساني للكلمة المصرية «دوسريت» أو «دوشريت»، الدالة على الصحارى الشاسعة.
وقد أفادتنا المصادر المتخصصة في الساميات، أن «سيناء» قد حملت اسم «سيناء»، نسبة إلى إله القمر المنطوق باللسان السامي «سين» أو «زين»، وأنه كان ينطق مختصرا «سي» بإمالة السين إمالة طويلة، و«سي» وحدها دلالة اسمية على السائمة من الحيوانات ذات القرون، ومنها جاءت كلمة «ساة» أو «شاة». وقد اقترنت السوائم المقرنة بإله القمر خاصة في حالة الهلال، بعد أن قرن الإنسان القديم بين قرني السوائم وبين قرني الهلال، فاعتبر القمر ثورا أو تيسا أو خروفا سماويا، وسنعلم لاحقا كيف اقترن الإله ست بالإله القمر رب الصحارى والبداوة والبوادي، وهو ما يرجح أن يكون اسم «سين للقمر»، جاء أصلا من المفرد. «س» في «سيت»، مضافا إليه أداة التعريف السامية الجنوبية «ن»، التي كانت تلحق بآخر الكلمة للتعريف، كما في «رحمن» التي كتبتها نصوص المستند اليمني «رحمن - ن»، ويبدو لنا أن «ن» لحقت أولا بالثنائي «ست»، فأصبحت «ستن » التي ستصبح بعد ذلك الشيطان كما سلف، وكما سيأتي بيانه، وهي صفات الإله «سيت» المصري، إلا أن ما يهمنا هنا هو أن سيناء اسم منسوبة للإله المصري «سيت» في إحدى تجلياته وتمثلاته، وهو هنا التجلي القمري لقربه من حال سيناء البدوي، تصبح «سيناء» أو «سيترويت» كليهما وعلى اختلاف نطقهما منسوبة إلى الإله «سيت» المصري.
وهنا نتذكر ما جاء في حديث التلمود عن الشيطان، وأنه كان يطلع بين قرني ثور، والثور هنا هو قمر هلالي لتجلي سيت ... والثور في السامية القديمة وبخاصة البابلية كان ينطق «شيد» وهي ببساطة «سيت». أما التوراة فقد جاءت بكلمة «شيد» بمعنى عفريت، والعوام حتى اليوم يقولون عن العفاريت «الأسياد»، وهي تسمية تشير إلى أصحاب «سيت»، باعتبارهم أصحاب سيادة/هكسوس كما سلف البيان، والكلمة «سيت» نفسها تنطق أيضا «سيد»، وتحمل معنى السيادة. أما الرب التوراتي زمن النبي إبراهيم فقد جاء في التوراة العربية باسم «الرب القدير»، وتلك ترجمة عن الأصل العبري المازوري لذات الكلمة بالعبرية «إيل شداي». وهي كلمة تتركب من ملصقين: الأول «إيل» أي رب، والثاني «شداي»، وشداي تحيلنا إلى «سيت» مرة أخرى «سيت/ شيت/شيتاي/شيد/شيداي». وقد أشرنا في كتابنا «قصة الخلق» إلى علاقة واضحة بين «شداي» هذا وبين «الشذى » أو الريح، وكلها تلتقي مع ما جمعناه من معطيات حتى الآن بشأن ذلك الإله، وتتناغم معنا تناغما بينا واضحا.
أما المصريون فقد كانوا يتقربون إلى الإله «سيت»؛ اتقاء لشريته الصحراوية بتقديم القرابين إليه من الثيران والأبقار الحمراء أو المغراء، التي لاشية فيها، ولو وجدوا فيه شعرة واحدة من لون مخالف لعدوه غير صالح للقربان، الأمر الذي يربطه بالبلاد الحمراء في آدوم، فكان قربان سيت ثورا أو بقرة «شيد» صفراء فاقعا لونها.
1
ولم يزل الفلاح المصري يخاطب السوائم ويحثها على السير والحرث باسمها القديم، والجذر اللغوي الأصيل «سي»، مع إمالته إمالة طويلة منطوقة «شي». ويتبادل مع لفظ الحث هذا لفظ آخر خصص فقط للحمير هو «حا»، وقد علمنا أن بداية ست في الرسوم التخطيطية كانت تصوره حمارا. والمبهر هنا أن «حا» هو اسم القمر في حالة الهلال باللسان المصري القديم،
2
وقد انتسب للإله القمر «حا» فراعنة مرموقون مثل الذي ننطقه اعتباطيا «أحمس»، بينما يجب نطقه صحيحا «حا - مس» أي ابن القمر، وهو بالترجمة الدقيقة «حا أعطي ابنا»؛ ولأنه كان قائد تحرير مصر من الهكسوس، وكان عسكريا مظفرا، فيبدو أنه قد ترك أثره اسما واضحا في اللسان العربي «الحماسة».
ولأن المصادر التاريخية تضن علينا بأية إضافات يمكن التعامل معها بشأن أواريس الهكسوسية، التي قامت داخل الحدود المصرية في الدلتا الشرقية، فسنعمد الآن - وإلى حين فقط - إلى حواريس أخرى، هي حويلة التوراتية التي حددنا موضعها بالعريش شرقي سيناء، بحسبانها «حواريس» متقدمة، للإشراف على أرجاء الإمبراطورية الهكسوسية، وفي بلاد الشام وجزر المتوسط ومصر نفسها. أما الأهم فهو قربها من المركز الرئيسي لانطلاق الهكسوس، الذي انعقدت عنده أحلافهم في آدوم.
وهنا نفتح قاموس الكتاب المقدس في مادة «حويلة»، فيطالعنا بوجوب قراءتها بفتح الحاء، فهي «حويلة»، وهو ما يلتقي مع فتح الحاء في «حواريس»، ثم يقول بأن يؤكد كل ما وصلنا إليه حتى الآن:
حويلة: اسم سامي معناه رملية ... هو اسم لرجل من بني كوش (تكوين، 10: 7)، واسم لرجل من بني يقطان (تكوين، 10: 29)، واسم لمقاطعة من بلاد العرب يسكن بعضها الكوشيون، ويسكن البعض الآخر اليقطانيون، وهم شعب سامي، (تكوين، 10: 7 و29؛ وأخبار أيام أول، 1: 9 و23). والصلة بين حويلة وحضرموت وأماكن أخرى، تشير إلى موقعها في وسط البلاد العربية، أو في جنوبها وفي حويلة نهر فيشون، والمنطقة غنية بالذهب والمقل، وهو صمغ عطري طبي، والأحجار الكريمة (تكوين، 2: 12، 11). ويفضل البعض أن يحققها بمنطقة خولان، في القسم الغربي من بلاد العرب شمالي اليمن، ولا يعرف إلى أي حد كانت تمتد الحويلة شمالا، ومن قصة محاربة شاول مع العمالقة، قد نستنتج أن قسما من الصحراء العربية، يمتد عدة مئات من الأميال شمال اليمامة، ويحمل اسم حويلة (صموئيل أول، 7: 15؛ وتكوين، 25: 18).
إذن ووفق ما ساقه لنا قاموس الكتاب المقدس، الذي اشترك في إعداده جلة محترمة من علماء الكتاب المقدس، فإن كلمة «حويلة» تعني «الرمل»، فحويلة تقع في منطقة صحراوية، وكذلك العريش، وعلى عادة المقدس التوراتي في تصنيف المواضع والأجناس، منسوبة إلى أشخاص قدامى أسطوريين، آباء لأقوام وشعوب، فإنه يقول: إن حويلة كان اسما لرجل (كوشي)، أي من الجنس الأسود الزنجي، وقد قلنا إن هناك عنصرا زنجيا قد سكن المنطقة، ورفض المؤرخون، بل ولم يتصوروا وجود عنصر زنجي في هذه المنطقة، رغم ما جاء في المدونات التاريخية الكلاسيكية والكتاب المقدس، وأسقطها الباحثون دوما من حساباتهم؛ لذلك نحن أول المفسرين بلا منازع ينازعنا، ثم إن الاسم كان في الوقت ذاته اسما لرجل من نسل «عابر» العبري هو «يقطان»، وبالعربية هو قحطان. ونحن نعلم أن قحطان جنوب جزيري سكن الجنوب اليمني، لكنه وفق نظريتنا جاء من الجنوب إلى الشمال، يرتحل إلى آدوم تاجرا ومقاتلا. ثم إن القاموس المقدس يضيف لحويلة معنى ثالثا، فهو اسم لمقاطعة يسكنها العرب والزنوج، ويصفها بأنها عربية. ونحن نعلم مما أوردناه أن المؤرخين الكلاسيكيين قد أطلقوا على المنطقة جميعا من آدوم حتى الدلتا الشرقية اسم العربية، أو المقاطعة العربية. أما الأشد فصاحة لأمرنا هنا، فهو القول أن تلك المقاطعة كانت تنتج المر/البخور/اللبان/الصمغ العربي العطري، ولكن لأن القاموس وأصحابه لم يصلوا إلى ما وصلنا إليه حتى الآن في بحثنا؛ فقد ذهبوا يضعون حويلة في شبيهها اللساني «خولان» غربي جزيرة العرب عند اليمن. ويكون شاول الملك بذلك قد قام بأكبر حملة في التاريخ، حملة أسطورية اكتسح بها فيافي الجزيرة من فلسطين حتى اليمن، ويأتينا الخلل الجغرافي الشديد وفق هذا الرأي، فأين خولان من شور التي أمام مصر؟ المهم أن القاموس يستمر فيؤكد لنا مذهبنا، فحويلة بها الأحجار الكريمة والذهب.
ونستفيد هنا من الجليل علي فهمي خشيم الذي يبحث في شأن آخر بعيد عن شأننا هنا؛ إذ يتحدث عن «حواريس» الهكسوسية بمصر، فيقول إن المقابل السبئي لها هو في مادة «ح و ر»، وتفيد معنيين نقيضين، فهي بمعنى ذهب، وبمعنى قعد واستقر (أليست تلك حال أولئك موضوع بحثنا حتى الآن، بل وألا تنطبق إلا عليهم؟)
ولنلحظ أن ذهب هنا بمعنى المشي دوما، وهو ما يذكرنا بتفسيرنا للكلمة المصرية التي كانت تشير إليهم «الشاسو». ويقارن خشيم «ح و ر» بالآية القرآنية
ظن أن لن يحور (الانشقاق: 14)، أي لن يعود. وبالأثيوبية حورا
Hora
أي يذهب، والأصل فيها من التردد والدوران، أي الحيرة. وهنا يجب علينا التذكير بالنص التوراتي «آراميا تائها كان أبي»، ما معنى الاستقرار، فقد جاء من «حور» بمعنى أحاط وشمل، إذ تبنى المدينة فتحاط بسور يحورها، وهو ما يلتقي مع الأسوار ذات النمط الخاص جدا، الذي كانت تبنى به مدن الهكسوس. والتي يشابهها تماما وبشكل مذهل، ذلك الخط العسكري الذي أقامته إسرائيل بعد الهزيمة العربية على قنال السويس، والذي عرف باسم «خط بارلييف». ويمكن قرن كلمة «ح و ر» بكلمة «حارة» و«ح ي ط» أو «حائط»، ومثلا لها المصرية «ح ت، و ع ر، ت
HT. WR.T » عاصمة إقليم «إم ن. ت
MN.T »، ومعناها حائط أو قلعة إقليم منت، وتقترن باليوانية ثيولوجيا أو أرين أو أفارين، أي أوارين المقدسة.
3
ومن ثم فالاسم حواريس يضم عددا من المعاني، فهي مدينة كبرى مقدسة مسورة، سكانها من البدو المرتحلين الذين استقروا مؤقتا، أو استقروا ثم عادوا فتشتتوا، زيادة على كونها مركزا رئاسيا إداريا.
وفي سفر التكوين نص يرد فيه ذكر الموضع «حويلة»، يقول:
وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقا، ووضع هناك آدم الذي جبله، وأنبت الرب الإله من الأرض كل شجرة شهية للنظر وجيدة للأكل، وشجرة الحياة في وسط الجنة، وشجرة معرفة الخير والشر، وكان نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة، ومن هناك ينقسم فيصيران أربعة رءوس، اسم الواحد فيشون وهو المحيط بجميع أرض الحويلة حيث الذهب، وذهب تلك الأرض جيد، هناك المقل وحجر الجزع، واسم النهر الثاني جيحون، وهو المحيط بجميع أرض كوش، واسم النهر الثالث حداقل، وهو الجاري شرقي آشور، والنهر الرابع الفرات. (تكوين، 2: 7-14)
الأسطورة هنا تحكي عن خلق آدم ووضعه في جنة باسم عدن، وهذه الجنة تقع على هذه الأرض. ونظرا لأن العلم بجغرافية الأرض لم يكن قد اتسع بعد، فقد رددت الأسطورة تصورا متواترا لدى الشعوب القديمة، يعتقد أن الأنهار جميعا تنبع من منبع واحد على اختلاف مواضعها، وأن ذلك المنبع لا شك عند مقر الآلهة؛ نظرا لتشابه الظواهر النهرية وكائناتها على اختلاف مواضعها. وضمن تلك التصورات ذلك التصور الذي وضعه سكان منطقة الشرق الأوسط، وتبنته التوراة، فتقول إنه في تلك الجنة سكن آدم أو آدوم أبو البشرية، وفي هذه الجنة نهر أول هو منبع وأساس، تتفرع منه الأنهار الكبرى الأربعة، وأول تلك الأربعة نهر باسم فيشون، وهو المحيط بجميع أرض حويلة. ووفق ما طرحناه، فإن هذا النهر سيكون هو نهر وادي العريش، وقد اعتادت التوراة على تسميته «نهر مصر». خاصة إذا ربطنا ذلك بما سبق وقلناه، إن سيناء وآدوم هي التي كانت تحمل مصر، قبل أن تنسحب التسمية على مصر المعروفة الآن، وأنها كانت تسمى على التنغيم مصري وموسري ومصري وموسير ومشري، وكان هذا النهر هو آخر الحدود الغربية الجنوبية لدولة إسرائيل الموحدة القديمة حسب زعم التوراة، وأبزر النصوص التوراتية لتحديد تلك الحدود، ما جاء في الوعد لإبراهيم بالنص القائل: «لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات» (تكوين، 15: 18).
كما تم تحديد وادي مصر هذا أو نهر مصر، مع تحديد التوراة لآخر النقاط الحدودية الجنوبية - لسبط يهوذا - مع مصر، في النص «أشدود وقراها وضياعها إلى وادي مصر والبحر الكبير وتخومه» (يقصد البحر الأبيض [المؤلف]) (يشوع، 15: 47).
وفي عبقرية المكان الجغرافي المصري، يقول لنا «جمال حمدان»: «وادي العريش ليس فقط أكبر الأودية الصحراوية طولا وتشعبا ومساحة في حوض سيناء وحدها، لكنه أكبر ما في مصر كلها ... كان يسمى منذ أقدم العصور نهر مصر، ولعله المقصود بنهر مصر في التوراة ... ورغم أنه جاف معظم السنة؛ فهو سيلي بالشتاء. أما في موسم فيضانه فيكاد يبدو نهرا جليل القدر عظيم الخطر، يزحف كالسيل مقتلعا المباني والمزارع.»
4
أما النهر الثاني فهو المحيط بأرض كوش (الجنس الأسود) واسمح جيحون، حسب رؤيتنا هنا هو ذلك الذي يحمل اليوم اسم النيل، حيث كان في جنوب مصر دولة تابعة لمصر باسم بلاد كوش، وكان يحكمها وال من قبل الفرعون منوبا عنه بلقب «ابن الفرعون في بلاد كوش». أما النهر الثالث «حداقل» الذي اتفقت عليه الترجمات بكونه نهر «دجلة» أحد الرافدين؛ لأن النص التوراتي يضعه شرقي دولة آشور الرافدية القديمة؛ لذلك فإن النهر الرابع منطقيا يجب أن يكون «الفرات».
وفي المأثور الإسلامي يأتينا نفس التصور مع تحريف بسيط في بعض الأسماء، كما في الحديث عن أبي هريرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم : «فجرت أربعة أنهار من الجنة؛ الفرات والنيل وسيحان وجيحان.»
5
أما الكتاب المقدس فيصر على تأكيد معنى الجنة، فكان نموذجه وهو يصف منطقة وادي عربة بأنها «كجنة الرب كأرض مصر» (تكوين، 13: 10).
ثم تأتينا القرينة المبينة، وتتمثل فيما رواه سترابو
STRABO
عن قرار الإمبراطور الروماني عام 25ق.م. بإرساله حملة رومانية إلى جزيرة العرب للاستيلاء على محطات التجارة الكبرى وموانيها، وكلف بذلك إيليوس جالوس
AELIUS GALLUS
قائدا للحملة، انطلاقا من العقبة مستعينا بملك الأنباط العربي (أبو دعس الثاني
OBODAS II )، لكن الملك النبطي ضلل الحملة وساقها إلى عمق الصحارى، حيث تاه الجنود وماتوا عطشا. إلا أن روما لم تخرج صفر اليدين، فاستولت على ميناء عربي شمالي «كانت التجارة الآتية إليه تنقل من هناك برا في القوافل إلى البتراء»، وهو ميناء غير محقق المكان الآن عند الباحثين، أما اسمه حسبما جاء بلسان سكان المنطقة، ودونته المراجع الرومانية فكان «حوارة».
6
وكما لدينا «حويلة» التي تقع عند قادش سيناء، التي قلنا إنها العريش، فإن هناك حويلة أخرى باسم «حواريس»، وهي التي انتهينا إلى أنها رعمسيس الواقعة شرقي الدلتا المصرية، وحويلة ثالثة عند البحيرة التي حملت اسمها شمالي فلسطين «الحولة». ومعلوم أن هناك أكثر من موضع في التاريخ التوراتي، والتاريخ القديم عموما حمل اسما واحدا مثل قادش، ومثل دان، ومثل حاصور، فهناك أكثر من دان وأكثر من حاصور، لكن يبدو لنا أن «حويلة» سيناء التي حققناها بموضع العريش الآن، هي ذات المدينة التي ذكرتها التوراة باسم آخر هو «حصرون» و«حاصور» التي تقع جنوبي فلسطين. فالنص يعدد لنا مدن يهوذا الحدودية الجنوبية مع بلاد آدوم في قوله:
هذا نصيب سبط يهوذا حسب عشائرهم، وكانت المدن القصوى التي لسبط بني يهوذا إلى تخم آدوم جنوبا: قبصئيل وعيدر وياجور وقينة وديمونة وعدعدة وقادش وحاصور ويثنان، وزيف وطالم وبعلوت، وحاصور وحدته وقريوت، وحصرون هي حاصور. (يشوع، 15: 20-25)
وفي هذا النص تختفي حويلة من تعداد المدن، لتظهر بدلا منها حاصور، ويقول قاموس الكتاب المقدس تحت مادة «حاصور»: إن حاصور كانت تتبعها قرية باسم «حاصور وحدته» بالجوار، وإن «حاصور» كانت مقاطعة في الصحراء العربية. ويدل على أنها كانت مدينة عظيمة ذات شأن، أنها كانت محل طمع العاهل البابلي نبوخذ نصر، الذي هاجمها ونهبها (انظر سفر إرميا، 49: 28-33)، ثم يضيف القاموس نصيا: «ويذكر بيروسوس أن نبوخذ نصر قد هز العربية، وربما يكون الاسم اسم مجموعة.»
في الوقت الذي دون فيه هذا الكلام، كان الجنس العربي قد أخذ بالتحدد في جزيرته ونطاقها الشمالي، أما البلاد التي عدت عربية في كتابات المؤرخين الكلاسيك، فهي آدوم ومحيطها من شمالي الجزيرة إضافة إلى سيناء. أما البليغ هنا فهو المعلومة التي تواترت حتى وصلت محرري الكتاب المقدس، ليسجلوا في قاموسهم إن «العربية» ربما يكون اسما لمجموعة، أي لحلف بين مجموعات بشرية، وهو الأمر الذي انتهينا من تقريره بقرائن وأدلة وافية.
وزيادة في البلاغ المبين يقول الكتاب المقدس، الذي اهتم بشئون تسميات المواضع، فقد أفرد لمدينة حاصور التي نظنها اسما ثانيا لمدينة حويلة، تقريرا يعطيها شأنا خاصا يقول:
حاصور كانت قبلا رأس جميع الممالك. (يشوع، 11: 13)
وهو ما يفيد أن حاصور كانت مدينة رئيسية بين ممالك المنطقة الآدومية في النقب، وهكذا كان أيضا شأن حواريس عاصمة الهكسوس الأحلاف في شرقي دلتا مصر. وحاصور في حال الاستبدال السهل بين الحاء والعين تصبح ببساطة «عريش». وإذا كنا نعلم أن كلمة «عريش» بالعربية تعني الحظيرة، فإن الكتاب المقدس القاموسي يعلمنا تحت مادة حاصور بمعناها، قائلا تحت مادة حاصور: «حاصور: اسم عبري معناه حظيرة.»
الفصل السادس
بعل صفون: لغز آخر!
في القصة التوراتية لخروج بني إسرائيل من مصر، نجد إشارات إلى موضع حدودي مصري باسم «بعل صافون» يقع على الحدود الشرقية للدلتا المصرية مع البحر الذي عبره الإسرائيليون في أسطورة شق البحر. ومن المفترض حسب القصة أن تكون تلك الحدود حدودا صحراوية ملاصقة لمناطق الخصب الدلتاوية. ويقول الكتاب المقدس إن ذلك الخروج أو عبور البحر، قد تم عند نقطة اسمها «فم الحيروث»، وهي بالعبرية «بي - ه حيروت» أي «فم الحيروت»، والمقدس التوراتي يفيدنا بموضع كان يقع إلى الجوار من فم الحيروت مباشرة، يحمل ذلك الاسم الغريب على اللسان المصري «بعل صافون».
فما هو بعل صافون؟
بالبحث وراء بعل صافون وجدناه اسما يرد في الملاحم التي عثر عليها بمكتبة أوغاريت «تل شمرا اللاذقية الآن بسوريا»، بحسبانه اسما لإله من أشهر الآلهة الكنعانية، فكيف أصبح علما على موضع جغرافي بالبلاد المصرية؟
ونحن نعلم من الملاحم الدينية للبلاد الشامية، أن البعل تعني السيد عموما أو الرب، وعادة ما تشير إلى رب بعينه، ارتبطت به تلك الصفة «بعل»، بحيث إذا وردت وحدها دون ذكره، نعرف أنها تشير إليه. هو رب الحرب والسلام والخصب والدمار والأوبئة معا، الإله «هدد» أو «هد» بتشديد حرف الدال، وينطق أيضا «حد» و«حدو» و«حداد» و«أد» و«أدد» وأيضا «ود»، وكلها اختلافات لهجوية باختلاف ألسنة قبائل المنطقة، لكنه دوما كان بعل صافون، وصافون هنا صيغة نسبة لمكان جغرافي، حيث يقع معبد أو هيكل ذلك الإله، فهو «رب صافون» أو إله الموضع صافون.
وتحيطنا ملحمتان على الأقل من الملاحم الأوغاريتية علما بشأن السيد البعل «بعل صافون» هما: ملحمة البعل، وملحمة كارت ملك صيدون، والملحمة الأولى (ملحمة البعل) تحكي لنا قصة هذا الإله، فهو رب الصاعقة والمطر والحرب والوباء، وقد ترك عابدوه لنا نقوشا له، يمسك بصاعقة ذات ثلاثة شعب، تشبه المذراة أو الشوكة، في شكل أداة حرب حديدية. مما يشير إلى أنه ربما كان أيضا ربا لصناعة الحديد والمسبوكات المعدنية ، وهو ما يطابق اسمه «حداد» أي صانع الحديد أو الفيتي. وهذا الاجتهاد من جانبنا لا يتعارض مع ما استنتجه الباحثون، من كونه رب خصب لشعوب متبدية تستوطن الجبال والبراري، وتعتمد على المطر وبرقه ورعده في زراعتها، لكن مثل هذا الإله في بلد مثل مصر سيغدو إله نقمة وليس رحمة، فهي تعتمد بالكامل في ريها على نيلها الهادئ اللطيف المنضبط، وشهور المطر فيها هي شهور الشتاء، والشتاء في مصر فصل جدب ومرض للبنات وموت للخضرة؛ لذلك عادة ما قرن حداد أو هدد البعل عند المصريين برب الصحارى الشرير «سيت»، قاتل أخيه أوزويريس رب الخصب والزرع، وهو تناقض بين حالين طبيعيين في المنطقة، أدى إلى تناقض مماثل في تصور الآلهة ووظائفها. وهكذا فالبعل في الأسطورة السامية إله خصب يحمل اسم حداد، أما صافون فهو المكان الذي ورد بالأسطورة كمقر لهيكل البعل وكمسكن له، وللبحث عن الموضع الشامي للإله صافون، نرجع إلى ملحمة البعل نقتطع منها المقاطع التالية:
رفعت «شمش» صوتها تقول: اسمع يا «عشتر» «ثور إيل» أبوك
يميل إلى «يم»،
يؤثر «القاضي نهر».
إذا سمعت «إيل»
يغضب، يزيل عرشك، يحطم صولجانك.
أجاب «عشتر»:
لا هيكل لي كما لسائر الآلهة، لا قصر لي كما لسائر أبناء القدس. ***
لكن «إيل» ثبت سلطان «يم » قائلا: لا زوجة لك يا «عشتر» أنت قاصر لا تصلح للملك، ونادى «إيل» «كاسروخاسس» وقال له: هيا ابن هيكلا ل «يم»، هيا ابن قصرا ل «القاضي نهر».
أرسل «يم» رسلا إلى «إيل» أبي السنين قائلا لهم:
اذهبوا إلى مقام «إيل» عند نبع النهرين قرب أفقا، أما «إيل» تسجدون، تقولون ... (تلف بالنص). *** «البعل» لا هيكل له كما لأبناء «أشيرة» ربة البحر.
هيا سيري يا «عناة» إلى «أشيرة» ربة البحر، توسلي إلى خالقة الآلهة أن تذهب إلى «إيل» تستعطفه، فيسمح ببناء هيكل لي. ***
ها «كاسروخاسس» قد هيأ كيره أخذ الملاقط بيده، ها هو يعد الفضة، يرقق ألواح الذهب. ***
أسرج مهرا ياغلام.
ضع سرجا غنيا بالحلي يا «قادش»،
سر بنا إلى مقام «إيل» عند نبع النهرين بالقرب من أفقا.
سار «قادش» أمام المهر.
أضاء لها الطريق كوكب
بلغت حمى «إيل»، دخلت هيكل أبي السنين، أمامه انحنت،
وسجدت بإجلال.
رفع «إيل» بصره، ورأى «أشيرة» ... وأجاب:
ليكن له بيت أيها الإله «إيل»،
فيرسل المطر في حينه.
تمطر السماء زيتا، وتسيل الأودية عسلا عندما يرسل صوته
رعدا وضياءه برقا.
فليكن للبعل بيت كما لسائر الآلهة.
سيكون لك بيت كما لإخوتك.
هيكل كما لسائر بنات «أشيرة».
ادع البنائين إلى بيتك.
الجبال ستخرج لك أجود فضتها والتلال خير ذهبها.
أسرع يا «كاسر» في بناء الهيكل، ستبنيه في أعالي جبل صافون، بالفضة والذهب سترفع بنيانه، جاء الحطابون بأرز لبنان اتجهوا نحو سريون.
الأرز أجمله في سريون، أجوده في لبنان. ***
ها إنني قد بنيت بيتي من فضة.
من ذهب خالص شيدته.
راح البعل يطوف البلاد،
ضم إلى ملكه ستين مدينة، بل ضم إليه ثمانين، تسعين ...
اسمع يا «جفنة» يا رسولي الأمين
اسمع يا «حقلة» يا رسولي الأمين
قبل طلوع الفجر تتوجهان إلى طور غزى وشور ماجي الجبلين
المحيطين بأقصى الشمال ... (تلف بالنص) ***
الآن وقد قتلت الحية الملتوية
الحية المعلونة ذات الرءوس السبعة ... لواياثان
صعد البعل إلى مسكنه في أعالي جبل صافون،
على قمة جبل الشمال،
في جبل «إيل» سكناي.
في جبل الله سكناي.
1
تذكر ملحمة البعل كما رأينا عددا من الأسماء، يمكن الاستعانة بها لتحديد المواقع الجغرافية للملحمة الأسطورية، ونظرا للحديث عن جبل صافون بوصفه في ترجمة النص الملحمي جبل الشمال، فقد افترض الباحثون أن يكون هو الجبل الأقرع الآن في أقصى الشمال السوري؛ خاصة أن التسمية «جبل صافون» أو «سابون» أو «جبل سابان» - ولا خلاف - كانت تأتي في الأساطير الأوغارينية على التبادل مع التسمية «جبل أقرع».
ويوجز لنا «شيفمان» ما وصل إليه الباحثون بشأن التحديد الجغرافي لموضع جبل صافون، وأسماء صافون المتشابهة لدى شعوب مختلفة فيقول: «وإلى الجنوب من المسير الأدنى لنهر العاصي يتموضع جبل القصير الذي يتراوح ارتفاعه بين 470-490 مترا، وتتصل معه من جهة الغرب قمة جبل سابانو/صافون في التوراة، وخازي في اللغة الأكادية، وكاسي عند اليونان والرومان، وهو ما نسميه اليوم جبل أقرع.»
2
ثم يحدثنا «شيفمان» عن أوليمب الآلهة الأوغاريتية، فيشير إلى مكان مماثل للبلاد التي فيها جنة عدن التوراتية، «أما المكان الذي اختاره بعلو الجبار لسكناه؛ فهو جبل سابانو، وهو جبل موجود فعلا فهو جبل الأقرع حاليا، ويقع على مسافة قريبة من أوغاريت ... لكن في نص آخر يوجد بعلو في جبل سابانو الذي في السموات.»
3
ووفق منظومة بحثنا هذا سيجد قارئنا في فصوله السالفة واللاحقة، ما يؤكد أن التسمية الأكادية «خازي» واليونانية «كاسي» هي هي التسمية التوراتية والمصرية «كوشي». وفي بلاد الرافدين والشام الأعلى كان اسم الكاسيين علما على القبائل التي غزت بلاد بابل ضمن الموجة الهكسوسية التي احتلت مصر حوالي ذات الزمان تقريبا، وهم لدينا عين الكوشيين، حيث أكدنا ونؤكد أن الكوشيين/الزنج كانوا عنصرا ضمن عناصر الهكسوس، ومن العناصر المتقدمة في بلاد آدوم/بونت/مديان، وأنهم كانوا رفاق العنصر السبئي أو هم ذاته، واقترنوا في وادي عربة وجبال سراة سعير مع العنصر الآري الهابط من الشمال، وبذلك يكون جبل صافون/خازي/كاسي هو الجبل الكوشي أيضا، جبل الإله البعل حداد/هدد/ود.
وفي الملحمة وردت أسماء آلهة منها الإله «يم» ويعني البحر، والإله «القاضي نهر» ويكتب «أور - دان» أي قاضي المدينة «دان من يدين»، أو قاضي النهر والنهر القاضي،
4
ويبدو أن النهر كان موضعا لاختبار الخاطئين بجريمة الزنا بشكل خاص، باعتبار النهر هو سائل الخصب الذي يروي الأرض فتنبت، كسائل الخصب البشري الذي يروي الفرج فيلد، ويقول «جيمس فريزر» إن القضاء النهري كان ينتشر انتشارا واسعا لدى الشعوب القديمة. وكان يمارس وظيفته بوضع الطفل المشكوك في شرعيته في سفط وتركه للنهر وقتا محددا، فإن نجا كان طفلا شرعيا، وإن غرق كان نغلا،
5
لكن هذا القاضي نهر بالملحمة يشير إلى نهر بعينه، أصبح يحمل اسم القاضي «دان» من «يدين»، و«أدان» هو نهر «أوردان» أو «الأردن»، ونهر الأردن كما نعلم في الجنوب وليس في الشمال كما تحدد الملحمة مواضع أحداثها. إضافة إلى علامات أخرى تشككنا في ذلك الشمال، فالعبارة «أبناء القدس» في الملحمة يجب إعادتها إلى أصلها «أبناء قادش». ونعتقد أن قادش سيناء أو عين قديس الآن الملاصقة لبلاد آدوم هي قادش المقصودة. خاصة أنها جاءت مرتبطة في الملحمة بموضع آخر هو «طور غزى»، والطور هو أي جبل مزروع، وقد تم تمييزه بنسبته إلى مدينة غزة، ثم إنه يقع بالقرب من موضع «شور - ماجي»، الذي يحمل في تركيبه شقا معلوما هو «شور»، الحد الشرقي للدلتا مع سيناء، أو كما تقول التوراة متكررات حول شور التي أمام مصر.
أما الإشارة إلى أن ذلك الجبل بأنه جبل إيل وجبل الله، فهو ما يذكرنا بالوصف التوراتي الدائم لجبل سيناء، بأنه جبل الله حوريب كما في النص:
وأما موسى فكان يرعى غنم يثرون حمية كاهن مديان فساق الغنم إلى ما وراء البرية وجاء إلى جبل الله حوريب. (خروج، 3: 1)
ثم يذكرنا «جبل الله حوبيب» أيضا بالوصف المصري لبلاد بونت - التي زعمنا أنها بلاد آدوم - بأنها أرض الإله، و«حوريب» أو «هوريب» ببساطة هي «هو الرب».
والآن ليلحظ معنا قارئنا أن الأسطورة الملحمية قد أوردت أبياتا، تشير إلى إله باسم «كاسروخاسي»، وأن هذا الإله مهمته صناعة المعادن. فهو ينفخ الكير ويعد الملاقط ويطرق الفضة، ويرقق ألواح الذهب لصناعة عرش الإله بعل صافون، وإن كان شيفمان يفضل ترجمة اسم «كاسروخاسيس» إلى «كوثروخاسيس»، وحرف الواو هو حرف إلحاق فهو كاسر أو كوثر: الكاسي، وأصلها الأوغاريتي جاء هكذا
KTR-W-HSS ، لكن من جانبنا نذهب إلى وجوب ترجمته وقراءته سوكار أو شوكار الكاسي. فنحن نعلم أن سوكار أوسوكاريس هو الإله الصقري رب مدينة منف المصرية، الذي أعطى اسمه لها فأصبحت سكارة أو سقارة، وأنه رمز الإله المصري أوزيريس. ويدعمنا في هذا المذهب ما جاء عن «كوثروخاسيس» عند «شيفمان»، حيث يقول: «هو الإله الحرفي ومقره في خيكوبتا/ممفيس ... ونشاطه الأساسي يتركز في صناعة السلاح.» والواضح أن خيكوبتا هي «ايجبت/مصر» في اللسان الأوغاريتي، وهو ما يفيدنا به «شيفمان »،
6
إذ يقول: إن كوثر الكاسي كان يعيش في منف في اعتقاد أهل أوغاريت، ويفيدنا إريك هور نونج علما في حديثه عن آلهة مصر القديمة أن سوكر
Sokar
كان: «إله الحرفية والموتى وعبد في منف.»
7
شكل رقم «120»: موقع كاسيوس.
وهكذا، كما مزج الهكسوس بين الإله سبت والإله بعل حداد، أخذوا أيضا إله سقارة/منف، المنسوبة إلى ربها سوكر، ثم نسبوه للكوشيين، فأصبح كوثر الكاسي، لكنه في ملحمة البعل أصبح تابعا لسيت أو للبعل بعكس القصة المصرية.
شكل رقم «121»: نصب من رأس شمرا يمثل الإله الأوغاريتي بعل هداد مع الرمح/الصاعقة/ودبوس القتال/متحف اللوفر/باريس (لاحظ أنه يلبس تاجا عاليا له قرنان، مع شرائط تتدلى خلف رأسه) حيث سنقارن هذا التاج فيما بعد بتاج آخر أكثر أهمية، لشخصية تاريخية عظمى.
وما لا يفوت عين فاحصة إشارة الملحمة، إلى أن بعل ما إن تمكن من بناء مركز سيادي له رمزا للسيادة الهكسوسية، فإنه قام بضم مئات المدن إلى ملكه؛ تعبيرا عما فعله الهكسوس لإقامة إمبراطوريتهم.
وإذا كنا قد قلنا إن المركز الرئيسي، الذي تجمعت فيه عزمات الهكسوس كان هو بلاد آدوم، التي زعمنا أنها ذات بلاد بونت في النصوص المصرية؛ فإننا نجد في الكشوف الأوغاريتية دعما واضحا لما قلنا، حيث نجد البعل في الملاحم الأوغاريتية ينجب ولدا مقدسا يحمل اسما فصيحا، هو «الإله بونت» على ساحل المتوسط الشامي وليس في الصومال.
8
وأن «بونت» أنجب الإله «صيدون» الاسم المعلوم للمدينة الرائدة على الساحل المعروفة باسم صيدا. وتاريخ ديانات المنطقة يفيدنا بأن أسماء المدن أسماء معبودات تعود إلى آلهة أسطورية أسستها، ولعل أشهرها عبادة مدينة «بيت إيل» في فلسطين؛ فقد عبد الآراميون والإسرائيليون إلها باسم «بيت إيل»،
9
كما عبدوا إيل نفسه رب المدينة، مما يشير إلى تقديس لبعض المواضع، ورفعها إلى رتبة القداسة، وتتم عبادتها كآلهة. وهو ما يفسر تقديس المصريين لبلاد بونت، ووصفها بأنها أرض الإله. وفي «تدمر» كان يكنى عن اسم الإله «بونت»، ولا يلفظ اسمه ويشار إليه بأنه «ذلك الذي اسمه ممجد إلى الأبد»،
10
وهو تقليد مصري بالأساس؛ حيث كان المصريون لا يذكرون الإله أوزيريس باسمه بل بالإشارة إليه، ولا يبيحون نطق اسمه إجلالا له، كذلك الإله سيت كانوا لا يذكرون اسمه؛ دفعا لشريته ولحضوره السحري، وحتى اليوم يشير المصري إلى الشخص الشرير ب «المخفي»، و«اللي ما يتسماش»، ويكني عن المرض والموت بالقول: «الشر بره وبعيد»، إبعادا لحضوره بعملية إقصاء لفظي سحري، وهو الأمر الذي تكرر بعد ذلك في العقيدة اليهودية، التي كانت تشير لربها بفعل الكينونة «يكون» أو الإشارة بضمير الغائب المذكر «هو» أو «يهوه». أما الأشد دلالة هنا؛ فهو أن نعثر في أوغاريت على الإله باسم «المهلك».
11
وهو ما يذكرنا بالمهلك الإلهي الإسرائيلي لأبكار مصر ليلة الخروج، ثم يستدعي ذلك وصف التوراة لربها بذات صفات الإله طيفون/سيت رب الأوبئة؛ إذ تقول: «قدامه ذهب الوباء وعند رجليه خرجت الحمى» (حبقوق، 3: 5)، ويبدو لنا أن المهلك هذا كان البعل حداد على التحديد، حيث تنسب إليه نصوص رافدية ذات الوظائف، التي مارسها المهلك يهوه التوراتي في مصر، من تدمير للزرع والخضرة وكل مظاهر الخصب. وهو ما نقرؤه في نصوص الملك الآشوري «أدد نيراري الأول/ق 13ق.م.» يستدعي قدرات أدد على أعدائه قائلا:
ليقهره أدد «حداد/هدد» بشؤبوب مدمر، ولتستمر في أرضه الفيضانات والعاصفة والتشوش والاضطراب، والحاجة والعوز والجفاف والجوع، وليأت على أرضه مثل الطوفان، جاعلا منها خرائب وأنقاضا، وليخرب أدد أرضه بالبرق المدمر، وليسلط عليه الجوع.
12
وكما كان بعل حداد يوصف بأنه إله رعد وريح وبرق وصاعقة، ووصف في الملاحم الأوغاريتية باللغة الحورية الكارية بأنه «راكب السحب»، وأنه «يعطي رعده ويرسل ضياءه إلى الأرض بروقا»؛
13
فإن يهوه العبري يوصف في الكتاب المقدس بأنه «الجاعل السحب مركبته، الماشي على أجنحة الريح» (مزامير، 3: 104).
شكل رقم «122»: تيشوب من تل برسيب 1000ق.م. متحف حلب، نموذج بعلي حيثي (لاحظ الأساور على العضد وذات حركة بعل يحمل الصاعقة بيد، ودبوس القتال باليد الأخرى مع التاج العالي والقرنين والشرائط.)
ويقول لنا المهتمون بالمصريات القديمة، إنه في عصر الدولة الحديثة المعروفة بدولة الإمبراطورية، انتشرت في مصر عبادات سامية الأصل. فمثلا تم تكريس الحي الشرقي من مدينة رعمسيس للإلهة السامية عشتروت، حسبما علمنا من قصيدة تصف تلك المدينة (سبق ذكرها بالجزء الأول)، كما شيد للبعل عدة معابد. وكان رمسيس الثاني عابدا متبتلا للإلهة السامية «عناة»، زوجة البعل ولقبها بعلات. وكذلك أنشأ معبدا للإلهة «أشيرة». أما «بعلات صافون» زوجة «بعل صافون» فقد حازت على شعبية واسعة، ووصلت من حدود الدلتا لتعبد في منف، إلى جوار آلهتها المصرية العريقة.
14
شكل رقم «123»: تمثال من البرونز والفضة والذهب للإله بعل هداد، وجد في رأس شمرا/أوغاريت.
وهنا نستمع إلى عالم المصريات «ياروسلاف» وهو يقول: «إن المصريين قد رأوا في الآلهة المشابهة ذات الطابع الحربي أو القتالي (وهي صفات بعل وزوجته عناة [المؤلف]) في فلسطين وسوريا إلههم ست ... وهناك رواية أعطيت فيها الأرض السوداء أي مصر إلى حورس، بينما أعطيت الأرض الحمراء أي البلاد الأجنبية إلى ست ... وفي عصر الدولة الحديثة تعرفوا على عدد عظيم من آلهة وإلهات المدن المسماة بعل
Ba’al - سيد في اللغة السامية - وبعلات
Ba’ala
أي سيدة. ومن المناطق التي أخضعت جلب العديد من الأسرى إلى مصر، واستقروا بها كرقيق. وأتبع ذلك التدفق الاختياري للمهاجرين والصناع والجنود. جلبوا معهم جميعا عبادات آلهتهم المحلية ... ولقد أضحى ضربا من المودة عند المصريين تقليد النمط الآسيوي في العادات؛ فالكلمات السامية تطرقت إلى اللغة المصرية، ومع هذه الكلمات عقائد الآلهة الأجنبية للوافدين الجدد، من بعل وبعلاتوميكال
MIKAL
ورشب
RESHEP
أو إرشوب
ERSHOP
وعبادة الإلهات عشتار
ASTARTE
وعناة
ANAT
و قادش
KADESH
وكسرت
KESRET
وأخريات. وفي رأس الشمراء - أوغاريت - بسوريا كرست لوحة من ميمي
MIMI
إلى بعل زيفون
BA’AL ZEPHON
أو بعل الشمال. ولقد كان مركز عبادة الآلهة السورية في مصر هي منطقة منف؛ ففي الأسرة الثامنة عشرة كان حي من المدينة يسمى حي الحيثيين، وربما كان ذلك الحي هو الذي ذكره هيرودوت فيما بعد تحت اسم معسكر التيرانيين
CAMP OF THE TYRIANS ، باعتبار أنه مستقر أو مقر الإلهة إفروديت الأجنبية أي عشتار غير المصرية. وهناك بردية مصرية تعدد أسماء بعلات وقادش وعنات وبعل وزيفون. ويبدو أن رمسيس الثاني كان متعبدا متحمسا لعناة، فضلا عن أنه أطلق اسم عناة على فرسه، وكذلك أطلق على ابنته المفضلة اسم بنت عناة
BINT-ANAT ، وكان رمسيس الثاني محبوب حورون
BE LOVEED OF HAURON ، وهو إله سامي نعلم القليل جدا عنه، حتى في موطنه الأصلي بآسيا.»
15
ومن جانبه يحيطنا «شيفمان» علما أنه «كانت عبادة الإله الكنعاني الآموري بعل صفون، وهو الأوغاريتي بعلو الجبار، منتشرة في مصر في منتصف الألف الأول قبل الميلاد. وهذا ما تؤكده التوراة (تكوين، 14: 2-9؛ والعدد، 33: 7)، والبردي الفينيقي الذي وصلنا من مصر. ويعود تاريخه إلى القرن السادس قبل الميلاد.»
16
ثم يضيف «وإلى زمن متأخر أكثر - بداية حكم الأسرة التاسعة عشرة أي بداية من القرن الثالث عشر قبل الميلاد - يعود الرسم النافر للكاتب المصري «مايمي» (سبق ذكره عند ياروسلاف باسم ميمي [المؤلف])، الذي وجد مشوها جدا في معبد بعلو. وكان مايمي هذا رئيس الخزانة لدى الملك المصري، ولعب في أوغاريت دور ممثل الإدارة المصرية. وتحوي الكتابة التي ترافق النصب إياه إهداء إلى الإله المحلي، الأرجح إلى بعلو ... لقد نفذ هذا الرسم الكاتب في وضعية المصلي رافعا يديه، أمام إله واقف يرتدي قلنسوة عالية فوق رأسه ... أما صورة الإله؛ فهي تقابل الرسم المصري للإله السوري سيت بعلو.»
17
وهنا يجب ألا ننسى مسألة الحي الحيثي في منف، حيث ستكشف لنا الفصول المقبلة أنه كان بقايا لجالية هكسوسية، وأن نتذكر قلنسوة من يسمى «مايمي أو ميمي» العالية، فلها دور شارح لغوامض ستأتي في مكانها من هذا البحث. أما دمج شيفمان للإلهين سيت وبعل معا في التعبير «سيت بعلو»، فهو ما يعني أن المصريين والسوريين قد تكونت لدى كليهما فكرة واحدة عن إله واحد، أسماه السوريون بعلا وأسماه المصريون ست، وبينما رأى فيه السوريون ربا للخصب، فقد ركز المصريون على جوانبه السلبية كرب للحرب والدمار، وسعيا وراء التيقن من هذا الدمج بين سيت وحداد بعل صافون، نقرأ المعاهدة التي تمت بين المصريين والحيثيين زمن رعمسيس الثاني، لنجد الابتهالات تقدم إلى «سيت السماء» و«سيت حاتي »، أي سيت بلاد الحيثيين أي بعل الحيثي، وإلى «سيت حلب» أي إلى بعل حلب، مع طائفة ألقاب تتفق مع ألقاب الحيثيين لرب العاصفة.
ثم نجد ذات الدمج في قصيدة تخلد انتصار الفرعون رمسيس الثاني في موقعة قادشن؛ إذ نجد بيتا من الشعر يقول:
يهتف أعداء الفرعون
ليس إنسانا هذا الذي بيننا
بل هو سيت عظيم القوة
أو بعل بذاته.
18
والغريب أن الحيثيين الذين عاشوا في بلاد تركيا القديمة، كانوا قريبين في تصورهم لرب العاصفة تيشوب/بعل/ست من تصورات المصريين؛ فمعظم النصب الحيثية تصور إله العاصفة بمظاهر قتالية متسلحا بهراوة أو فأس راكبا عربة حربية، وقليلا ما تشير إلى أية صفات إخصابية.
19
وهو ما يعني لدينا تأثرا أكثر من جانب الحيثيين بالتصورات المصرية، رغم هذا البعد الشاسع جغرافيا، وهو ما سيجد مبرراته في الفصول القادمة التي تتحدث عن الحيثيين تفصيلا.
ومعلوم أن أكمل القصص التي وصلتنا عن إله الشر المصري سيت، قد جاءت ضمن رواية بلوتارك اليوناني لأسطورة أوزيريس رب الخير، وصراعه مع سيت رب الشر. وبعد مقتل أوزيريس على يد ست، يستمر الصراع يقوده حور أو حورس ابن أوزيريس، انتقاما لأبيه من عمه الشرير سيت، لينتهي الصراع بهزيمة سيت الشرير على يد حور، يقول بلوتارك:
وبعد أن هزمه حورس ... هرب ست من المعركة راكبا على حمار، واستغرقت رحلته سبعة أيام على ظهر الحمار ... فكان لاستعمال ست للحمار ولغباء الحمير ولونهم الأحمر، أن انتسب الحمير إلى تيفون (تيفون الاسم اليوناني للإله سيت [المؤلف]) وكان ذلك سببا في كره المصريين لهم في عقيدتهم؛ لذلك لقبوا أوخوس أقسى ملوك الفرس وأشرهم (هو أرتكسيركسيس الثالث [المؤلف])، لتعسفه وشدة ظلمه بالحمار، فكان رده على المصريين: إن هذا الحمار سيحتفل بأكل عجلكم. أما القائلون بأن رحلة ست في هربه كانت سبعة أيام على ظهر حمار ونجاته، وأنه أصبح أبا لهيروسوليموس
HIEROSOLYMOS
ويودابوس
JUDAEOS ، فهؤلاء كانوا يريدون أن يدخلوا التقاليد الإسرائيلية في الخرافة المصرية ... فالواقع إذن أن المصريين بعد أن عرفوا بني إسرائيل ... ألحقوهم بأبناء من أب هو ست إله الشر والشيطان، الإله العدو في عقيدتهم ... وأصبح بنو إسرائيل في مصر أولادا للإله ست، الذي يسميه اليونانيون تيفون.
أي إنهم ينحدرون من أصل شرير. جعل منه المصريون رمزا لكل الحيوانات والنباتات الضارة والبحر المالح والحوادث المفجعة ... وهيروسوليموس وياهو دايوس هما آباء العبرانيين اليهود.
20
وهكذا ردد بلوتارك ما يؤيد ما قلناه حول أحد صور التجلي للإله سيت في هيئة الحمار واللون الأحمر، وكان اللون الأحمر رمزا على الجدب، كما كان علامة على بلاد آدوم وسيناء وسكانهما، ونسبة الإسرائيليين إلى ذلك الإله تشير إلى لون من القرابة تربطهم بقبائل آدوم، وسبق لنا أن شرحناها وأكدناها. ولعله من الواضح هذا أن هيروسوليموس هي «أورشليم»، وأن «ياهودايوس» هي اليهودية أو يهوذا، مما يؤدي إلى التباس الإسرائيلي بالهكسوسي، وهو ما يتأكد دوما بشكل مستمر منذ بداية هذا البحث، فنجد الإسرائيليين هنا أبناء للشرير ست الذي سبق واختاره الهكسوس ربا خاصا لهم إبان احتلالهم لمصر.
هنا يفيدنا شيفمان المتخصص في أركيولوجيا أوغاريت أن بعلو الجبار الذي هو حداد/هدد وهو زوج الإلهة «هبات»
21
ربة العاصفة التي تهب، والتي سبق وأشرنا إليها كربة في بلاد آدوم من الاسم «هفا» أي «هوا» أو الهواء في صيغة المؤنث «هبات»، وكانت تعبد في مصر باسم «هيبات»، ثم نعلم من جانب آخر أن الإله الحيثي «تيشوب» كانت له زوجة تحمل ذات الاسم «هبات» أو «حبات»،
22
وتيشوب هو رب العاصفة بدوره، هو البعل. وفي وثيقة معاهدة الصلح المصرية الحيثية نجد الابتهال إلى «ست حلب» و«هبا حلب»،
23
و«هبا» هنا مذكر «هبات»، وست حلب هو بعل حلب، مما يعني أن ست/تيشوب/بعل حداد طيفون/رب العاصفة أو «الهوا» هو «هبا» زوج «هبات» أو «هوا» زوج «هوات»، وعلى ذات التنغيم يأتينا اسم الرب الإسرائيلي «يهوه»، الذي فسره فلهاوزن بأنه يعني «يهب» من هبوب الهواء والريح؛ إضافة للتفسير الآخر أنه من فعل الكينونة «يكون».
أما اسم ذلك الإله الأشهر حداد أو هداد أو هدد، فنجده اسما لأحد أبناء إسماعيل (الكتاب المقدس ، سفر أخبار الأيام الأول، 1: 30)، ثم الأكثر إدهاشا والتقاء مع كشوفنا، أن نجد اسم ذلك الإله قد تسمى به ملوك بلاد آدوم تيمنا، ولدينا منهم على الأقل ثلاثة: الأول هو هداد بن بداد (تكوين، 26: 35)، والثاني هو هداد الذي عاصر زمن جدعون الإسرائيلي (تكوين، 26: 29)، وأما الثالث فهو هدد وريث العرش الآدومي الذي هرب إلى مصر وتزوج أخت الملكة تحفنيس، عندما احتل الملك الإسرائيلي سليمان بلاده، في قصة سبق وأسلفناها (انظر سفر ملوك أول، 11: 14).
شكل رقم «124»: تمثال مصري للإله سيت في هيئة البعل وحركته برأس خنوم/خنوف.
وملمح آخر يؤكد التطابق بين يهوه وبين رب العاصفة، فنحن نجد وصفا اعتياديا للإله في التوراة، بأنه رب الجنود/ إيل صبأوت في العبرية (سفر الخروج، 15: 3؛ وصموئيل أول، 17: 45) مع وصف آخر يقول: «الرب رجل حرب»، وهي صفات البعل حداد/سيت/تيشوب/هفا، لكنا نعثر على ما يكاد يكون تطابقا نصيا في نص جاء بمكتبة أوغاريت عن الإله رشب، وهو بدوره تسمية بعلية لرب العاصفة، ويقول النص حسب ترجمة شيفمان: «إله الحرب صاحب السهام راشابو الجنود.»
24
ولا معنى لهذا الكلام إلا إذا كان حرف الشين زيادة في اسم الإله المحارب «راشابو»، تم إهمالها في النطق بعد ذلك ليصبح النص تماما توراتيا؛ لأنه سيصبح «إله الحرب صاحب السهام رب الجنود ».
وحول اسم رب البحار الإله «يم» أو «يمو»، وهو أحد أبطال ملحمة البعل الأوغاريتية، يعقب شيفمان بالقول: «إن يمو سمي أيضا يافو، الذي يقارنه بعضهم باسم الإله البيروتي يفو والتوراتي يهو.»
25
وفي بحثه عن خط سير رحلة الخروج الإسرائيلي من مصر، يقول «بيير مونتييه» إن اسم الموقع الوارد في التوراة باسم بعل صافون بمصر، كان يقع عند قمة جبل مونس كاسيوس، على شاطئ المتوسط إلى الشرق من الفرما، وهي تسمية إغريقية للجبل، تحمل اسم إله يوناني، أدمج بالإله بعل صافون هو كاسيوس ومعناه «الكاسي»، وأن موضع بعل صافون يقع تحديدا عند قمة ساحل بحيرة البردويل الآن بشبه جزيرة سيناء.
26
الفصل السابع
لغز أرام النحاسية
لكنا حتى الآن لم نجب إجابة دقيقة على السؤال: من هم شعب إرم الوارد في لوحات حتشبسوت، كاسم لشعب كان يعيش في بلاد بونت؟ إن محاولة الإجابة على هذا السؤال بحد ذاتها، ستعطينا دليلا آخر وداعما آخر لكل دقائق وتفاصيل بلاد بونت، التي لم تصبح الآن بلادا غامضة، بل نظن أننا قد تمكنا من رسم لوحة كبيرة واضحة التفاصيل والدقائق، جمعناها من شوارد شتى لنؤكد بها صحة نظريتنا، التي ستزداد مع البحث عن شعب إرم استقامة وثباتا ورسوخا.
وإبان ذلك سيتأكد لنا أن العرب قد عاشوا بهذا الاسم (عرب) في محيط سيناء وشمالي الحجاز في أزمنتهم الغابرة، قبل ظهور مملكة أحفادهم الأنباط في البتراء بأزمان، وأنه من تلك المنطقة هبط أولئك الذين أعطوا شبه الجزيرة اسمها «العربية»، وهو ما ستفصح عنه أكثر الفصول المقبلة، كما سنرى اللغة العربية وهي تولد أيضا هناك، لتأخذ خط تطورها الخطي مع «شعب إرم» ثم الأنباط من بعد.
أما الذي سيضيف إلى رصيدنا في البحث وراء شعب إرم البونتي، فهو مزيد من التوضيح والإضاءة لوجود شعب زنجي في هذه المنطقة من العالم، ذلك الشعب الذي كان ظهوره في لوحات حتشبسوت، مدعاة للمدارس التقليدية لوضع بلاد بونت على الساحل الصومالي.
ونعود إلى «الأخلامو» أو «الأحلاف»، وهو الاصطلاح الذي أطلقه سكان الرافدين على ذلك الشعب المعروف بالشعب الآرامي، وقد ذهب المؤرخون إلى أن الأراميين قد ظهروا في بوادي الشام حوالي 1100ق.م. وبعضهم أعمق في التاريخ قرنا آخر، فقالوا بظهورهم حوالي 1200ق.م. ومن تهور قال بظهورهم حوالي 1400ق.م. لكن ليس قبل ذلك مطلقا. وقد علمنا ببداية تواجدهم من بقايا المدن التي أنشئوها، وأعادها الباحثون إلى تلك التآريخ، والتي انتشرت في بلاد الشام حتى أقصاه الشمالي. ومنها ممالك أصبحنا نعرف أسمائها مثل: مملكة بيت جباري أو سمعل وبيت أديني وقرقميش وأرباد، وأنطاكية وحلب وقادش العاصي وحماة وتدمر ودمشق. هذا إضافة لمدن أخرى ذكرها المقدس التوراتي، ولم تفصح الأرض بعد عن آثارها، مثل فدان آرام معكة وأرام نهرين وأرام صوبه، والأخيرتان تأتيان عادة على التبادل، مما يشير إلى احتمال أنهما كانتا مملكة واحدة.
ويقول لنا المؤرخون: إنهم عند ظهورهم في المنطقة، أزاحوا منها جنسا عريقا قديما، كان يستوطن تلك الأماكن منذ الألف الثالث قبل الميلاد. وهو الجنس الذي عرف التاريخ أصحابه باسم الأموريين، وبعد أن أزاحوا الأموريين استوطنوا أماكنهم في وادي العاصي والفرات الأعلى، رغم أن الأراميين ظلوا ممالك صغيرة متشظية، وأخفقوا في إقامة أي وحدة بينهم فيما يذهب المؤرخون، والأغرب أن التراث اللغوي والثقافي الآرامي الوافد الجديد، قد ساد المنطقة (كيف؟ لا يقولون لنا؟!) بل وتجاوز الأمر ذلك إلى أن لغتهم أصبحت فجأة ودون إنذار هي اللغة السائدة في المنطقة، بل ونجدها دون مقدمات هي لغة التخاطب الدبلوماسي بين عواصم الدول الكبرى في المنطقة، ذات الحضارات العريقة السامقة، مثل مصر وآشور وبابل وبلاد تركيا الحيثية ودول المدن في فلسطين والشام (كيف؟ أيضا لا يقولون لنا أية إجابة، وعلينا أن نستسلم ونسلم فقط: هذا ما أمكن معرفته، وفقط هذا ما قد حدث؟!)
ونستمر نتابع أهل التاريخ، فيقولون لنا إن اللغة الآرامية، تطورت عنها لغات أخرى في خطوط فرعية أهمها الكنعانية (رغم أن الكنعانية وفق حساباتهم هي الأقدم لتزمينهم وصول الكنعانيين فلسطين في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد) والنبطية، وأن الآرامية ربما سبقت وربما لحقت اللغة الكارية الحورية، فبينهما تشابه أصيل يشير إلى وحدة قديمة، وعن الآراميين أخذ الإسرائيليون خطهم المربع، أما النبطية فقد تطورت حتى أصبحت خط اللغة العربية، التي نعرفها في خط شمالي الجزيرة ولغة قريش وخطها بعد ذلك.
وتلخص لنا موسوعة تاريخ العالم أمر اللغة الآرامية وأصحابها الآراميين في قولها:
أصبح الآراميون هم التجار الدوليين في العالم، منذ القرن العاشر حتى القرن الرابع ق.م. وأصبحت لغتهم هي اللغة الدولية في غرب آسيا ... ومعظم الآداب الدينية اليهودية والمسيحية «السريانية» مكتوبة باللغة الآرامية.
ومن جانب آخر نقف نستمع للباحث «فليكوفسكي» يقول: «إن العلماء قدروا أن وصول الحوريين للمنطقة، كان فجرا لحضارة جديدة، وأنهم كانوا قوة هائلة ومنتشرة انتشارا واسعا، ما بين أرمينيا حتى جنوبي فلسطين والمتوسط، وشرقا حتى فارس.» ثم يعقب يائسا: «واللغة الحورية تبدو كلغة بلا شعب، فلا هي سامية ولا هي هندوآرية.»
1
أما نحن فقد قلنا وأعدنا وزدنا حول الاندماج الجنوب جزيري مع الحامي مع الكوشي مع الهندوآري في وادي عربة، والذي لا ريب قد أنتج هذه اللغة التي حيرت الأفهام، لغة الحوريين الكارية، اللغة الأم للساميات فيما نريد تأكيده.
إلا أن الموسوعة تلمح من طرف خفي وحذر، إلى أن ظهورهم المفاجئ جاء نتيجة طرد الهكسوس من مصر سنة 1580ق.م. لكنها تلتوي ولا تقول صراحة ولو بصيغة الاحتمال والظن: إن الآراميين الذين ظهروا في النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد في بوادي الشام، ربما كانوا من الهكسوس الذين طردوا من مصر، إنها متشككة فتسوق قولا، يحتمل الالتباس المقصود نتيجة عدم اليقين.
لكن الكل يغمض عينيه تماما عما جاء في نصوص سرجون الأكدي حوالي 2450-2350ق.م. من إشارات واضحة لآرام، والتي لم تكن الإشارات الوحيدة اليتيمة حتى يمكن التغاضي عنها، بل تكررت مثل هذه الإشارات، لكن لأن التاريخ علم مهيب رزين لا يعرف المجازفات، فقد عقب المؤرخ العراقي المرموق «طه باقر» يقول: «من المستبعد أن يكون للموضع الوارد بهيئة أرامي
ARAMI ، وأسماء بعض الأعلام على هيئة أرامو
ARAMU ، صلة بالآراميين، بالنظر إلى قدم العهد؛ لذلك يرجح أن يكون ذلك مجرد تشابه لفظي، ولا يعرف على وجه التأكيد معنى الكلمة أرامي، على أنه قيل في أرام وإرم - ولعل الكلمة الواردة في القرآن (يقصد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد [المؤلف]) لها صلة بالآراميين - أنها تعني النجد أو الهضبة.»
2
ورغم أن معنى النجد أو الهضبة يدخل في معنى الصخرة، ورغم أن معنى إرم في الآرامية هو الصخرة على وجه التدقيق، فإن «باقر» لم يلمح حتى إليه، ربما لأنه رآه بلا معنى (فماذا تعني الصخرة؟!) لأنه لم يكن يعلم ما كشفناه عن علاقة الآراميين بالبتراء، لكن قارئي يرى الآن أي معنى معناه؟
ومثل «باقر» عقبت موسوعة تاريخ العالم على ورود إشارات للآراميين في ذلك العهد البعيد القدم بقولها:
حوالي 2450-2350 قاد سرجون ملك أكاد، ونارام سين، حملات حربية إلى شمال سورية، والإشارة إلى أرام في نقوش هذين الملكين تدعو إلى الحيرة.
أما حسب منظومتنا التي ننسجها هنا يكون مفهوما أن تتحدث نصوص سرجون ونرام سين عن الآراميين قبل الألف الثاني للميلاد؛ لأنهم إذا كانوا هم الهكسوس كما ألمحت الموسوعة، فلا شك أنهم لم يسقطوا على مصر من السماء، إنما كانوا موجودين بالمنطقة قبل دخولهم مصر، وأنهم قضوا فترة زمنية كافية تسمح لهم بتكوين قوة مقتدرة، تمكنهم من احتلال كبرى دول المنطقة.
وفي نص بسفر صموئيل حكاية تعني ما نحاول قوله هنا وإيضاحه بل وإثباته، والنص حكاية عن الأسلاب التي غنمها الملك الإسرائيلي داود، بعد أن هاجم جميع الدول التي تجاوره من الشرق ومن الجنوب، يقول النص:
وهذه أيضا قدسها الملك داود للرب من الفضة والذهب الذي قدسه، من جميع الشعوب الذين أخضعهم؛ من أرام ومن مؤاب ومن بني عمون ومن الفلسطينيين ومن عماليق. (صموئيل الثاني، 8: 11، 12)
وعجبنا هنا من عدم ذكر آدوم في نص يعدد بالحصر جيران مملكة داوود من الشرق والجنوب، وعدنا نقلب صفحات المقدس نبحث عن تعليل، فوجدنا ذات الإشارة تتكرر بعد ذلك في سفر أخبار الأيام الأول، بل بذات الكلمات لم يتغير غير كلمة واحدة ، لم يلتفت الكاتب إلى اختلافها عن النص الأول، بحسبان أنه كان يعلمهما كلمة واحدة ومعنى واحدا وإن اختلفتا، والنص يقول:
هذه أيضا قدسها الملك داود للرب مع الفضة والذهب الذي أخذه من كل الأمم، من آدوم ومن مؤاب ومن بني عمون ومن الفلسطينيين ومن عماليق. (أخبار الأيام الأول، 18: 11)
وهنا جاءت آدوم بديلا عن أرام، بل وفي ذات مكانها من النص، مع عدم تغيير يذكر فيما عدا ذلك، ولمزيد من التأكيد نستنطق المحرر التوراتي: هل كان يعلم أن أرام بالفعل هي آدوم، أو حتى إن الآدومي هو بطن من البطون الآرامية، ومرات ومرات كدأبنا طوال بحثنا نقلب أسفار الكتاب المقدس، فنعثر على نصين آخرين حدث معهما ذات ما حدث مع النصين السالفين. محرر كتب هذا ومحرر كتب ذاك، لكنهما كانا يتفقان على أن ما اختلف بينهما من أسماء، ليس إلا أسماء لشعب واحد، يقول النص الأول:
ونصب داود تذكارا عند رجوعه من ضربه ثمانية عشر ألفا من أرام في وادي الملح، وجعل في آدوم محافظين، ووضع محافظين في آدوم كلها، وكان جميع الآدوميين عبيدا لداود. (صموئيل الثاني، 8: 13، 14)
أما النص الثاني الذي دونه محرر أخبار الأيام، فيغير فقط كلمة واحدة هي «آرام» الواردة في أول النص، ويستبدلها بكلمة آدوم، انظر:
ضرب من آدوم في وادي الملح ثمانية عشر ألفا، وجعل في آدوم محافظين، فصار جميع الآدوميين عبيدا لداود. (أخبار أيام أول، 18: 12، 13)
واضح إذن أن التوراة تتحدث عن أرام باعتبارها آدوم، ولمزيد من حسن الطالع لنا، أن التوراة تذكر الموضع الجغرافي لأرام في النص الأول، فهي تقع في وادي الملح، الذي يقع جنوبي بحر الملح «البحر الميت» حيث تقوم دولة آدوم.
هل يمكن أن نجد المزيد لتدعيم معمارنا هذا؟
في الكتاب المقدس نص آخر لا يحمل لبسا، يؤدي إلى المعنى الذي نقوله هنا، والنص يؤكد أن ميناء «أيلة» الآدومي على العقبة كان ميناء أراميا، والنص يحكي عن تعاصر الملك اليهوذي «أحاز» مع الملك «رصين» ملك آرام دون تحديد أي أرام يقصدها، بين مدن كثيرة عددها لنا عند حديثه عن أرام فيما سبق، كقوله أرام معكة وأرام بيت رحوب وأرام صوبا وفدان أرام ... إلخ. يبدو لنا أنه قصد بالفعل أرام بعينها لا تحتاج تحديدا، يكفي أن يقال بشأنها أرام، أرام مركزية لا تحتاج توضيحا، ثم يحكي النص أن رصين هذا قد تحالف مع مملكة إسرائيل الشمالية، مع ملكها فقح بن رمليا، ضد أحاز ملك يهوذا، فالنص يقول:
كان أحاز ابن عشرين سنة حين ملك، وملك ستة عشرة سنة في أورشليم، ولم يعمل المستقيم في عيني الرب ... حينئذ صعد رصين ملك أرام وفقح بن رمليا ملك إسرائيل إلى أورشليم للمحاربة، فحاصروا أحاز ولم يقدروا أن يغلبوه، في ذلك الوقت أرجع رصين ملك أرام أيلة للأراميين وطرد اليهود من أيلة. (ملوك ثاني، 16: 2، 6، 5)
رصين ملك أرام غير المحددة ولا المعرفة، استرجع مدينة أيلة - الواقعة على خليج العقبة الآن باسم إيلات - من يد مملكة يهوذا الجنوبية، حيث يبدو أن إيلة خضعت ليهوذا منذ زمن سليمان، لكنه هنا لم يسترجعها لآدوم بل للآراميين، الواقع أن رصين كان ملكا آدوميا تتبعه ميناء أيلة، التي كانت مستلبة من بلاده منذ زمن، فتمكن من استعادتها لآدوم أو أرام، النص كما هو واضح لا يرى هنا أي فرق بين الآدوميين والآراميين.
لكنا هنا ندفع بالأمر دفعة أخرى، فنتابع أرام هذه المعلومة والمعروفة ولا تحتاج تعريفا، تلك التي وردت في مواضع أخرى بالكتاب المقدس باسم «أرام صوبا»، التي لم يتم التعرف في علم التاريخ على مكانها حتى الآن، رغم علمنا باسمها من مصادر أخرى غير الكتاب المقدس. فيفيدنا «طه باقر» - مشكورا - أنها لا بد واقعة في الأنحاء الجنوبية من بلاد الشام، وقد خرج بهذه النتيجة من دراسة النصوص الرافدية القديمة، التي تحدثت عن أرام صوبة، لكن أقصى جنوب وصل إليه هو البقاع جنوبي زحلة بلبنان، فموضعها هناك.
3
معقبا بالقول: «والمرجح أن مدينة صوبا هي المذكورة في المصادر الكلاسيكية الرومانية باسم خلسيس.»
4
وبهذا الشأن يقول الباحث الفارس «فراس السواح»: «فيما يتعلق بمملكة صوبا، احتار الباحثون بشأن موقعها وحدودها، وخرجوا باستنتاجات واهية، من شأنها خلق صورة مضخمة عن هذه المملكة، والباحث هاليفي يقول: إن صوبة هي تحريف لكلمة صهوبة، التي تعني بريق الذهب أو النحاس ... ومن المرجح أن صوبة كانت تشمل الأراضي الممتدة إلى الشمال الغربي من دمشق ... وقد سار بقية الباحثين على منوال هليفي، ويقول واين بيتار في كتابه «دمشق في العصور القديمة» ما يلي: في أيام داود كانت مملكة صوبة أقوى وأهم دولة في وسط وجنوب سوريا، وخصما عنيدا للمملكة الإسرائيلية الجديدة. أما عن موقع هذه الدولة وحدودها، فإن معظم الباحثين يضعونها اليوم في البقاع الشمالي، مع امتدادات نحو الشرق تصل إلى سهول حمص وتتجاوزها حتى البادية.»
ويتابع السواح: «لقد ورد اسم صوبة لأول مرة في سفر صموئيل الأول، الذي يذكر أن الملك شاول قد ضرب ملوك صوبة، وحارب جميع أعدائه حواليه، موآب وعمون وآدوم وملوك صوبة والفلسطينيين (صموئيل أول، 14: 47)، وهذا يعني أن صوبة منطقة جغرافية، وليست مملكة، وأن الملوك المذكورين هنا ليسوا سوى مشايخ قبائل، نظرا للإشارة إليهم بصيغة الجمع، ولكننا في عصر داود نجد صوبة، فجأة وبعد عدة سنوات، عبارة عن مملكة يحكمها ملك واحد اسمه حدد عزر.»
ثم يضيف: «ولم تتوفر لدينا من منطقة البقاع الشمالي حتى الآن أية لقى أثرية، يمكن أن تشير إلى وجود هذه المملكة أو عاصمتها.»
ويستمر مشيرا إلى ما جاء في الكتاب المقدس في عبارة مبهمة وملتبسة تقول: «فجاء أرام دمشق لنجدة هدد عزر»، ويعقب عليها بالقول: «ويستنتج المؤرخون من هذه الإشارة أن مدينة دمشق كانت في ذلك الوقت تابعة لهدد عزر ملك صوبة»، «وفي المعركة مع أرام صوبه يقول النص: إن «هدد عزر قد أبرز أرام الذي في عبر النهر، فأتوا إلى حيلام وأمامهم سوبك رئيس جيش هدد عزر، ويبني المؤرخون على هذا الخبر أن ملك صوبة كانت له سلطة غير مباشرة على الدويلات الآرامية القائمة عند الفرات.»
5
الأمر بهذا الشكل لا يلتقي أبدا مع مملكة تقع في البقاع الشمالي، إنما يلتقي مع بلاد آدوم التقاء واضحا؛ لأن «خلسيس» التي أطلقها المؤرخون اليونان على مملكة صوبا هي «كلسيس»، التي أطلقها المؤرخون اليونان على مملكة صوبا، تلتقي مع بلاد آدوم التقاء واضحا؛ لأن «خلسيس» هي «كلسيس» و«كلسيس» تعني «النحاس». والكلمة صوبة نفسها هي صهوبة هي بريق النحاس، كما أفادنا السواح منذ قليل، وهو ما يستدعي مناجم نحاس تمنة في آدوم. أما صوبة فلا نشك أنها بقايا باهتة من المملكة الآودمية الكبرى، في حالة نزعها الأخير بين المد والجزر، وإن «صوبا» ليست سوى تنويع لهجوي للكلمة «سبأ»، فأرام صوبا هي «أرام سبأ» على التخصيص. وإذا كانت النصوص التوراتية قد أطلقت على الجنس الأسود اسم «كوش»، فإن النصوص المصرية أطلقت عليه ذات الاسم مع اسم آخر هو «نحاسي»، وكان الحد الذي أقامه سنوسرت الثالث لمنع سكان الجنوب المصري السود الكوشيين من عبور الحدود المصرية الجنوبية، قد ذكر كالتالي: «الحد الجنوبي الذي أقيم في العام الثامن ... لمنع أي «نحاسي» من المرور شمالا.»
6
أما الذي يلتقي معنا هنا، وما أكثر ما التقانا، فهو أن نجد لقب «نحاسي» في بردية تورين، لقبا لأسرة من الأسرات الهكسوسية إبان الاحتلال «النحاسيون».
7
ثم لا يغيب عنا معبد روعة الروائع طوال الوقت، فتستوقفنا في تقريره عبارة تؤكد أن رئيس بعثة حتشبسوت إلى بلاد بونت حمل لقبا أو اسما أو صفة هي «نحاسي»؟! ... لقد أرسلت حتشبسوت في رئاسة بعثتها ترجمانا من ذات الجنس، يعرف لغة البلاد التي ارتحل إليها.
أما البليغ فهو التعقيب الهيروغليفي المكتوب أمام رسوم الصف الأول في لوحات حتشبسوت، وفي الصف الأول في بلاد بونت يقف الملك، ويقول الشرح المكتوب: «عظيم عظماء إرم».
8
ثم لا يدهشنا أبدا قول جيمس العابر، الذي لا يعبر علينا دون تدقيق، وهو يقول: «لما أصبحت مصر تحت حكم الهكسوس لم يبق لها قوة في النوبة، وانتهزت بعض القبائل المغيرة الفرصة وتسربت إلى النوبة، وكانت تجمع بين الجنس الحامي والجنس الزنجي ... واستطاعت تلك القبائل أن تكون دولة مستقلة عاصمتها بوهن ... وعقدوا حلفا مع الهكسوس ... ويعزز هذا التقارب رسالة الملك الهسكوسي أبوفيس إلى الملك الكوشي جنوبا، حيث يبدأ رسالته بلفظة: ولدي.»
9
وإذا كانت الكلمة «ن ح س و
NEHSU »، تعني الزنوج السود، فإن جذرها «نحس» والنحاس في العربية بفتح النون هو: ضرب من الصفر والآنية شديدة الحمرة، وهو بضم النون دخان أسود لا لهب فيه، ومنها نحش في العبرية، وهي حنش أي ثعبان في العربية! ... لقد جمعت لنا كلمة واحدة في اللغة، حفريات معاني قديمة عن الجنسين الأسود والأحمر من الناس، وثعبان شجر البخور.
والإله المصري القديم «أبيب»، وينطق بالتصريف اليوناني «أبو فيس»، تسمى باسمه بعض ملوك الهكسوس القادمين من بلاد التين والبخور، وكان المصريون يرسمون أبيب في صورة حية متلوية، تحمل في كل طية من جسمها مدية ماضية، وتصوروها تكمن لإله الشمس مع شياطينها عند المغيب، وقد وصفت النصوص المصرية تلك الشياطين التابعة للحية بأنها «شياطين سوداء وحمراء».
10
وهو إشارة واضحة لسكان آدوم من الجنسين الأسود والأحمر، كذلك نجد كلمة «النوبة» التي أطلقها المصريون على بلاد كوش الجنوبية تحمل عددا من المعاني، من الجذر «ن ب»، فهو في المصرية القديمة يدل على عدد من المعاني: كل ما ارتفع من الأرض وهو صفة بلاد آدوم، كما يعني أيضا الذهب، واللهب الأحمر، وفي العربية تتبادل اللام والذال المعجمة، التي تنطق في ذهب «دهب» لتصبح لهب.
وفي العربية تلتقي نحاس ونحاسي، والنحس والنحاس أصلا في المصرية القديمة، هو العبد الأسود «الزنجي/الكوشي»، ثم تطورت لتصبح النخاس الدالة على تاجر العبيد.
وتعود العين لتجول في مدون «تجلات بليزر الأول»، ملك آشور الذي سبق وأوردناه، ويتحدث فيه عن غزوه لإقليم باسم مصري، الذي عرفناه إقليم أدوم وسيناء، لنقرأ المدون مدققين فنجده يقول: إنه قد «دحر هناك القبائل الآرامية.»
11
ثم نقلب مرة أخرى ما سبق وسجلناه للفرعون «آمنحتب الثاني»، وتدميره لشمس آدوم، وعودته من تلك الحملة بعدد 15070 من الأسرة النجاسو،
12
وقد اعتبرت كلمة النجاسو ذات دلالة غير معلومة لنا الآن، على شعب مجهول، أو طائفة بعينها لا نعلمها، فهل يمكن الآن القول إننا نعلم من هم النجاسو، في ضوء غزوة أخرى لذات الموضع الذي عاش فيه النحاسو؟ ثم يورد لنا طه باقر أهم المنتجات التي وصلت الملك الآشوري (آشور ناصر بال الثاني 883-859ق.م.)، بعد أن اكتسح البلاد الآرامية والآمورية، حتى وصل «البحر العظيم بحر الأموريين»، وهو إما البحر الأبيض أو البحر الأحمر، وقد عددت سجلات هذا العاهل الآشوري أهم السلع التي وصلته من ذلك المكان كالتالي:
تضمنت الجزية الذهب والفضة والقصدير والنحاس وأنسجة الكتان ... وقردة صغيرة وكبيرة، والعاج والأخشاب النفيسة مثل الأبنوس والبقس ... إضافة إلى ذلك الحيوانات الوحشية ... والنباتات الغريبة ...
13
ولا تعقيب لدينا هنا سوى سؤال: أليست تلك ذات صادرات بلاد بونت في لوحات حتشبسوت؟ لا يني تقرير بعثة حتشبسوت يضيء المنطقة أمامنا، وتنفك ألغازها مع ترميزاته في خطو بحثنا، فنعرف شعبا من بين شعبين مجهولين، وشعوب أخرى، كانوا يعيشون في بلاد بونت، أحدهما أحمر والآخر أسود، لنسمع سليم حسن يردد فقرة من تقرير علماء حملة حتشبسوت في نقش يقول:
السياحة إلى الوطن والوصول بسلام، إن السياحة إلى طيبة قد قام بها بقلب فرح جنود رب الأرضيين، ورؤساء هذه الأرض بونت، وقد أحضروا معهم أشياء لم يحضرها من قبل أي ملك.
ثم يقرأ سليم حسن أسماء الشعوب هناك ليقول لنا تعقيبا على الرسوم:
ويلي هذا مشاهدة رئيس أرام ورئيس نميو، وهما قبيلتان غير معروفتين من بلاد بونت.
14
لكنا نعتقد أننا قد أصبحنا نعرف القبيلة الحمراء الآدومية التي تعود إلى أصول آرامية، وكانت تعرف باسمها «أرام» منذ زمن قديم؛ بدليل وروده في سجلات رحلة حتشبسوت إلى بلاد بونت الآدومية الآرامية. كذلك أصبحنا نعرف شعب «نميو»، فالواو جمع ومفردها «ن. م. ى»، وهي بالقلب ي. م. ن، فشعب «نميو» هو القادم إلى بلاد آدوم/بونت من جنوبي الجزيرة، نميو/اليمن.
ولمزيد من التأكد حول كون مملكة سبأ في آدوم هي المملكة، التي جاءت إليها إشارات التوراة باسم مملكة صوبة، نتابع المؤرخين وهم يحصون الدويلات الآرامية، التي تأسست على أطراف كنعان/فلسطين في القول: «إن الدويلات الآرامية التي تأسست على أطراف كنعان ... هي موآب والعمونيين وآدوم وملوك صوبة.»
15
وتأتي صوبة هنا ملحقة بآدوم على التجاور مع موآب وعمون، الواقعتين شرقي البحر الميت ونهر الأردن، ونعلم من مصدر آخر أن تلك الإمارات الآرامية الجنوبية، قد تحالفت مع إمارات شمالية مثل مملكتي صور وصيدا، لمواجهة هجوم آشوري محتمل، وضد عميل الآشوريين في المنطقة، وهو ملك دويلة يهوذا، وأن هذا التحالف قد ضم «سمس ملكة العرب ... وآدوم انضمت للتحالف، وبقيت يهوذا وحدها غير راغبة في الانضمام.» المهم هنا ألا تفوتنا الإشارة إلى «سمس» ملكة العرب، لنربطها بأصول العرب جميعا التي تعود إلى النابتيين أو الأنباط، سكان وادي عربة الذي غطى باسمه مساحات شاسعة للجنس ، الذي حمل بعد ذلك اسم العرب.
16
ويسوق «فهمي خشمي» رأيا للأستاذ «عبد الحق فاضل»، ويصفه بأنه «رأي لطيف» حول كلمة عربي وكلمة أرمي، وأنهما كلمة واحدة سواء في الدلالة التي تشير إلى بلاد صخرية، وفي اللفظ حيث يمكن تبادل العين في «عربي» والهمزة في «أرمي»، كذلك الباء والميم من جهة أخرى، وهو ما يعني أن كلمة «عربي» كانت في فجرها تنطق «أرمي»، وباختصار فالعربي هو الأرمي، ويضرب لذلك مثالا بتبادل الباء والميم في كلمة «مكة»، التي أوردها القرآن بلفظها هذا، ثم أوردها أيضا «بكة».
17
ثم يحدثنا «مراد كامل» و«محمد البكري» عن أول ظهور عربي صريح لمملكة عربية في تدمر، التي تقع إلى الشمال الشرقي من بلاد آدوم، ونعتبرها من جانبنا الامتداد الطبيعي للمملكة التجارية الآدومية، فيقول:
ظهرت تدمر بهذا الاسم في بداية الألف الثاني ق.م. وكان أهلها في البداية من الكنعانيين، ثم سكنها جماعة من البدو من أشراف الأراميين، ... تمر بها طرق التجارة ... وقد قضى أورليان على استقلالها عام 273م في عهد زنوبية زوجة أذينة ... خلف التدمريون العديد من الآثار منها معبد بعل، ووجدت في هذا المعبد أشكال لنساء محجبات ... وكانت اللغة المستخدمة في تدمر هي الآرامية، أما القرارات العامة فدونت باليونانية والآرامية ... أما عن مملكة النبط فقد شملت الرقعة التي شغلتها بعض الممالك، التي ظهرت قديما منذ القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وهي آدوم وموآب وعمون وجلعاد، وكانت هذه كلها كنعانية وآرامية، وأول ظهور الأنباط كان في القرن السادس ق.م. كقبائل بدوية عربية، وكان ملوكهم بني الحارث، وأكثر أسماء الأعلام الواردة في نقوشهم عربية، مثل حارثة ومالك ومليكة وجذيمة وكليب ووائل ومغير وقصي وعدي وعميرة ويعمر وكعب ومغن وسعد ومسعود ووهب الله وتيم الله.»
18
ونستكمل من مصدر آخر يقول: «واتخذوا البتراء عاصمة لهم ... وتدخلت روما في شئون هذه الدولة حتى قضى عليها عام 106م القائد الروماني كورلينوس بالما نائب تراجان في سوريا ... واستخدم الأنباط اللغة الآرامية، وفي منتصف القرن الأول ق.م. أصبح للأنباط خط مميز ذو شكل معروف، حتى إن الأحرف العربية أخذت من الحروف النبطية، ومن الآلهة التي عبدها الأنباط ذو الشرى واللات ومناة والعزى وهبل واتراجاتيس وعبادة الأفعى.
19
ويتابع العبقري الفذ اللمعة «علي فهمي خشيم» دراسته المتميزة في المقارنة اللغوية بين الهيروغليفية والعربية، لتصلنا منه الكلمة المصرية القديمة «إ أب
IAB » وتعني الشرق، كما تعني اليسار؛ لأن المصري كان يوجه وجهه عند تحديد الاتجاهات الأصلية إلى منبع النيل مصدر الحياة (الجنوب)، ومن ثم فإلى اليسار يكون الشرق وإلى اليمين يكون الغرب، ويرى أن الهمزة الأولى من إأب مبدلة من العين، وذلك مثل «ك أب = كعب، إن ق = عنق، ج م أ = جمع»، وهو ما أحاطنا به إمبير
EMPER ، ثم إن العربية أيضا تبدل العين همزة كما في أربان وعربان «اللسان مادة أرب». أما الهمزة الثانية فهي مبدلة من الراء، فالأستاذ إمبير يقدم لنا معجما لمفردات طويلة أبدلت فيها الهمزة المصرية براء عربية، وذلك مثل: ب أ ك = برك، ش أ ع = شرع، ح أ م = حرم، وأ ح = ورخ (القمر)، ع أ ب = عرب، ومن ثم فإن إ = ع، أ = ر ومعنا باء أصيلة، وهو ما يعني أن إ أب
IAB = عرب، وهي كلمة تفيد الشرق.
20
وهذا يعني من وجهة نظرنا الإشارة إلى وادي عربة تحديدا الذي يقع شرقي مصر، أما التوراة فاعتادت إطلاق تسمية «بني المشرق» على العرب.
وهنا ننبه بوضوح أن كلمة عرب، التي كانت تعني عند المصري القديم الشرق، لا تؤدي المعنى الذي نفهمه منها اليوم عن الجنس والقومية؛ لأن الحس القومي لم يبرز عند قبائل الجزيرة إلا عشية ظهور الإسلام، أما قبل ذلك فكان فيما يؤكده لنا «جواد علي» هو: البداوة والقفر والجفاف، ويستمر قائلا: «بمعنى البداوة والأعرابية إذن وردت لفظة العرب في اللغة العبرية ولغات سامية أخرى، مثلما هو الحال في سفر إشعيا وسفر إرميا من العهد القديم، وقد وجد الباحثون أول نص ذكر فيه العرب، هو نص آشوري من أيام شلمنا صر الثالث أو الثاني ملك آشور، والمقصود باللفظة إمارة أو مشيخة يتزعمها رجل بلقب ملك اسمه «جنديبو .../جندب ...». واختلف العلماء في قراءة الاسم الثاني لهذا الملك، وكان واضحا أنه لقب له هذا ما بين
ARIBI, ARBI, URBI, ARABU, ARIBU
التي تعني بوضوح الكلمة «العربي».
وقد وردت في الكتابات البابلية كلمة ماتوأربي
MATU-A-RABI
أي أرض العرب، وفي نقش برستون لدار الأكبر بالإخمينية جاءت لفظة أربايا «عربية
ARABAYA »، كذلك جاءت في العيلامية، وفي المواقع الأرامة كان هناك موضع باسم بيت عرباية
BETH ARABAYA ، وأول مرة ورد فيها ذكر العرب لدى الكتاب اليونانيين كانت عند إسخليوس 525-456ق.م. ثم هيرودوت 484-425ق.م.
وكان معنى البداوة هو المقصود عند الحديث عن العرب ... ويذكر استرابون أن كلمة أرمبي
EREMBI
تعني عربا عند البعض، ولعلها تحريف لكلمة
ARABI .
21
أما نحن فنتساءل: هل كانت كلمة أرمبي تحريفا لكلمة عربي، أم أنها كانت حفرية لغوية تعيش حتى زمن استرابون منذ كان العربي أرمي أو أرامي؟ لكن ما لا يفوت فطن أنه إلى الشرق من بلاد آدوم، قامت بعد تلك الأحداث إمارة عربية استمدت اسمها من التاريخ القديم هي مملكة «الحيرة» الحورية، وفي موسوعة تاريخ العالم نجد محاولة لحصر الممالك الآرامية في أعالي الرافدين، فتذكر لنا: بيت معكة وبيت أدين أو أديني (أي بيت عدن [المؤلف])، وجوزان (تل حلف الآن) وجرجوم (مرعش حاليا)، وسامعل التي كانت تحمل قبل ذلك اسما هو: ياودي، ثم أعيد تسميتها باسم سمعل أو بيت جباري نسبة لمنشئها، وتقول الموسوعة إن مكانها الحالي هو سنجرلي، وكان من ملوكها حيان بن جبار وشاءول أو ساولم، ونلاحظ أن مواضع تلك الممالك جميعا تقع في محيط المنطقة المزعومة، كمكان موضعوا فيه بلاد ميتاني الحورية المركزية.
الملاحظة الأولى أن اسم حيان بن جبار الذي ملك على مملكة سامعل أو ياودي، يحيل إحالة قوية إلى أشهر ملوك إمبراطورية الهكسوس الذي عرفناه باسم «خيان».
الأمر الثاني والهام والغريب، أن الكتاب المقدس رغم زيادته وتكراره وتعديده للدويلات الآرامية، بحيث ذكر دولا لم يتم الكشف عنها إلى الآن، فإنه لم يعرف مدنا آرامية كشفت عنها الآثار. نعم ذكر بعض المدن التي كشفت عنها الآثار مثل بيت أديني أو بيت عدن كما في قوله: «وأقطع الساكن في بقعة آون وماسك القضيب من بيت عدن وينفي شعب أرام إلى قير» (عاموس، 1: 4، 5)، لكنه لم يذكر مدينة شديدة الأهمية، جاء ذكرها في المصادر الرافدية باسم «سمعل»، وهي ذاتها التي ذكرت على التبادل مع اسم آخر هو «ياودي»، وأن من ملوكها كان «شاءول» الذي يرد على التبادل مع «ساولم»؛ فهل حقا لم تعرف التوراة مملكة سامعل أو ياودي وملكها شاءول أو ساولم؟
إن ما يبدو لنا أن مملكة سامعل هذه قد قصد بها جماعة بشرية بعينها، لكن هذه الجماعة لم تعش أبدا في شمالي الرافدين عند سنجرلي، إنما جنوبا في دولة أرام صوبا أو أرام سبأ الآدومية، وأنها كانت تمتد لتتصل بمملكة أخرى تقع إلى الشمال منها، جاء اسمها ياودي مشيرا بوضوح إلى اسم اليهودية أي مملكة يهوذا، خاصة أن تلك المملكة قد جاء ذكرها مصحوبا باسم شاءول وساولم، وهما في رأينا اسمان يستقل كل منهما عن الآخر؛ فالأول هو شاول أول ملك لمملكة إسرائيل الموحدة، أما الثاني فهو أشهر ملوك تلك المملكة ساولم/سليمان. وإن الخلط الذي حدث بين اليهودية وسامعل، أو الإسرائيليين والإسماعيليين له تبريره التاريخي فيما أسلفنا، وفيما سيأتي ناصعا في حينه وفي موضعه من هذا البحث.
وتشير المادة التاريخية المكتشفة في المدونات الرافدية إلى إقليم وصف بأنه آرامي، وأنه كان يحمل اسم لاق، وأنه كان تابعا لمملكة بيت عدن،
22
وهو ما يستدعي اسم العمالقة واحتمالا آخر للتسمية، فبإضافة «عم» بمعنى شعب أو أبناء إلى «لاق» تصبح «عملاق».
هكذا يمكن استنتاج أن الآراميين هم الشعب الذي حمل صفة الجنس الأحمر في بلاد آدوم، بكافة بطونه المذكورة آنفا، فكان هو الأم الجامعة، وهو الشعب الذي ظهر في نقوش رحلة حتشبسوت إلى بلاد بونت، إلى جوار جنس آخر يختلف عنه تماما، جنسا زنجيا نحاسيا، وموطنه معلوم بالمستودع الأفريقي على الساحل الأفريقي المقابل لليمن، والذي وصل آدوم بصحبة القادمين من جنوب الجزيرة إلى الشمال، في شكل مستعمرات تجارية استقرت شمال غربي جزيرة العرب.
وكان طبيعيا أن تتزاوج الثقافات كما تزاوجت الأجناس، فتظهر اللغة الحورية التي ظلت مشكلة ولغزا بلا حل، في أصلها، وأصحابها، وأنها لغة تحمل سمات مشتركة بين السامية والهندوآرية والحامية، وهي الإشكاليات التي انسحبت على جنس الهكسوس، وانقسام علم التاريخ حوله إلى رأيين يرفض كل منهما التنازل الآخر. الأول يقول إن أصلهم سامي من جزيرة العرب، والثاني يرى أن أصلهم هندوآري بلا جدال، وكل لديه حججه وبراهينه. أما المشكل حقا الذي ظل مستعصيا على الفهم ناهيك عن الحل، فهو إشارات الكتاب المقدس إلى وجود الجنس الزنجي الكوشي بكثافة ضخمة في مناطق جنوبي إسرائيل بالنقب وسيناء وآدوم. كذلك أشارت إليه الكتابات التاريخية الإغريقية الكلاسيكية باعتباره من سكان شرقي المتوسط، وقالت إن
Kissians
يسكنون شرقي المتوسط، وتعني الكوشيين، ثم جاء بطلميوس المؤرخ ليؤكد من جانبه أن
Kossaeans
كانوا يتموضعون في تلك المنطقة، وتم إهمال تلك الإشارات لاستحالتها التاريخية. لقد كان وجود الأفارقة بكثافة كجنس يسكن مواضع ما شرقي المتوسط مشكلة إما مهملة أو لغزا يطلب حلا.
ومثال للحلول المتسرعة والسهلة ذلك الحل الذي اعتمد على أن الكتابات التاريخية والدينية، التي كانت تتحدث عن منطقة شرقي سيناء وجنوب فلسطين، كانت تبدأ الحديث عن العمالقة لتنتهي إلى الكوشيين، فاعتبرت العمالقة هم الكوشيين، لكن ذلك الربط السريع وقف حائرا ما بين الأصل السامي والأصل الهندوآري، بذلك رأت تلك الحلول العجلى أن هناك عمالقة كاسيين أو كاشيين جاءوا من الشمال الأسيوي، من عند أعالي الرافدين، وأن هناك عمالقة كوشيين زنوجا جنوبيين، ذاك هندوآري وهذا سامي، وذلك كما في قول «غطاس الخشبة»: «والأصل في الجبابرة: العمالقة من الناس ... طائفتان: العمالقة الكوشيون وكانوا يقطنون أعالي دجلة والفرات بين النهرين، وهم من نسل نمرود ابن كوش بن حام بن نوح، وهؤلاء كان البابليون القدماء يسمونهم ماليق، ثم تفرقوا في أنحاء العراق وجزيرة العرب، ثم العمالقة السوريون من نسل عوص بن أرام بن سام بن نوح، وهؤلاء هم الأخص عند العرب باسم العماليق، وكانوا يقطنون أرض قادش جنوب فلسطين.»
23
وفي هيرودوت خبر يذكر حادثة إرسال قمبيز الفارسي رسلا إلى أثيوبيا، وعودة هؤلاء الرسل بالوصف التالي للشعب الأثيوبي:
إن الأثيوبيين الذين ذهب إليهم أولئك السفراء، أطول الناس في العالم كله وأكثرهم أناقة، كما أنهم يختلفون عن سائر البشر في عاداتهم خصوصا الطريقة التي يختارون بها ملوكهم، فهم يبحثون عن أطول رجل بين جميع المواطنين، على شرط أن تتناسب قوته مع طوله، ثم يعينونه ملكا يحكم عليهم.»
24
والغريب أن ذلك المبدأ ذاته هو ما عملت به مملكة إسرائيل الموحدة من بعد، انظر مثلا تولية أول ملك إسرائيل باسم «شاول»، وسر اختياره ملكا «شاول شاب وحسن، ولم يكن في بني إسرائيل أحسن منه، من كتفه فما فوق كان أطول من كل الشعب». (صموئيل أول، 9: 2)
أما أن نجد في الآثار الهكسوسية مفردات لغوية حامية، ومفردات من أصول هندوآرية، ومفردات سامية، ثم أسماء أعلام من تلك اللغات المتباعدة، فكان بدوره مشكلة مؤرقة مستمرة غير محلولة؛ لذلك رأى فريق أن الهكسوس جاءوا من براري آسيا استنادا إلى الهندوآرية، وأن محطتهم الأولى كانت حول محيط بحر قزوين، ومن هناك انحدروا جنوبا على الشرق الأوسط، أما الفريق الآخر فيراهم عربا أقحاحا قدموا من هجرة كبرى من جزيرة العرب، حتى أصبح الساميون أنفسهم كعرق وكلغة محل تضارب شديد، فتأتي بهم جلة محترمة من المؤرخين، من المستودع الصحراوي الكبير في جزيرة العرب، بينما تأتي بهم جماعة أخرى من المؤرخين، لا تقل احتراما من بلاد أرمينيا حول بحر قزوين.
وإعمالا لذلك نجد لدينا مذهبا يرى شبه جزيرة العرب مهدا أولا لكل الشعوب السامية، ويمثله شبرنجر
Sprenger
وشرادر
Schrader ،
25
والعلامة كيتاني
Coetani
الذي يرى أن كل حضارات الهلال الخصيب من العراق إلى الشام الكبير إلى ساحل المتوسط الشرقي حضارات سامية، حدثت نتيجة نزوح الفائض من بدو جزيرة العرب إلى الشام، ويؤيد كيتاني في مذهبه العلامة موسكاتي. وبعض أصحاب هذا المذهب يفترض أن جزيرة العرب كانت في زمن موغل في القدم أكثر خصوبة ثم أصابها الجفاف، مما أدى إلى هجرة سكانها إلى وديان الأنهار والسهول الشمالية في الشام والعراق، إلا أن موسكاتي نفسه يرفض مثل تلك التعقيدات التي ليس عليها شواهد علمية، بل إن تلك الشواهد تؤكد أنه إذا كانت مثل هذه التغيرات الطبيعية الكبرى قد حدثت، فكانت قبل فجر التاريخ بقرون طويلة، وربما تعود إلى أبعد من عشرين ألف عام قبل الميلاد. وتأسيسا عليه فإن مثل تلك الافتراضات خاطئة تماما، بمقاييس الأنثروبولوجيا الطبيعية والجغرافيا الجنسية.
26
وعلى الخط الآخر النقيض تماما نجد اتجاها آخر، يأتي بالجنس السامي من أرمينيا بالاستناد إلى ترميزات الكتاب المقدس، الذي يعيد الأصول البشرية السامية إلى أرفكشاد
Arpachsad (تكوين، 10: 22-24)، وهو اللقب التاريخي لبلدة
Arrapachitis
المسماة اليوم البك
Albak
بأرمينيا الحالية، مع ترميزات أخرى تشير بالكتاب المقدس إلى بداية الأصول البشرية من نوح، والترميزة هنا تقول إن السفينة النوحية قد رست على جبل باسم أرارات، وما زال هذا الجبل بنفس الاسم يقع بأرمينيا عند بحيرة فان بالمحيط الجنوبي لبحر قزوين ... وهو ما يعني مجيء السامي والهندوآري من موطن واحد، هو بلاد أرمينيا القديمة.
27
وقد انسحب ذلك التناقض حول الأصول على الشعب الآرامي، فرغم الأصل الاسمي الواضح للآراميين، حيث أرم = أرب التي تحيل إلى «أرب - خيتيس» أو أرابخيتيس في أرمينيا، وحيث عثر هناك على كتابات باللغة الآرامية القديمة، وحيث لم تزل توجد جماعات هناك تتكلم الآرامية القديمة حتى اليوم، ناهيك عن اسم أرمينيا نفسه كشاهد على موطن الآراميين، فإننا نجد عالما حجة مثل كريلنج يلتبس عليه الاختلاط الجنسي الناتج حسب نظريتنا عن التقاء شعوب آدوم في أحلاف أو أخلامو، وما نتج عنه من اختلاط ثقافات ولغات، فيؤكد سامية الشعب الآرامي حتى إنه يعيدهم إلى بلاد نجد بجزيرة العرب، ويأخذ من المدونات التاريخية اسمهم القبلي الذي اشتهروا به وهو سوتي، وهو ما رأيناه ليس دلالة مكانية جغرافية، إنما نسبة للإله «سيت» المصري.
28
أما «دي بنسومير
Du Pont-Sommer » فيرى أنه ليس هناك أي دليل وثائقي حقيقي، يقطع بموطن الآراميين الأصلي.
29
والمعلوم أن منطقة فلسطين ومحيطها عموما ومنطقة آدوم بشكل خاص وبلاد الشام بشكل أعم، قد تعايشت فيها أجناس عديدة ولغات مختلفة، لم تنصهر معا إلا بعد مرور وقت كاف، وانتهينا إلى القول بسيادة اللغة الكارية بسيادة الآرامية المتطورة، وهو الأمر الذي كثيرا ما حدث في التاريخ، وقد نبه لويس عوض إلى مثل ذلك بقوله: «إنه في الشعوب المستقرة تتعايش اللغات داخل القومية الواحدة، وتتعايش الأجناس والسلالات داخل القومية الواحدة، بل وتتعايش الأديان داخل القومية الواحدة.»
30
والقومية الواحدة في حال نضوجها تصاحبها دولة مركزية واحدة، وهو بالضبط ما نظنه قد حدث في آدوم ومدينتها الرائدة (الصخرة)، وأنها لم تكن فقط مجرد دولة مركزية، بل كانت مركزا رئيسيا لإمبراطورية عظمى، امتدت من المحيط الهندي جنوبا حتى تركيا شمالا، ومن العراق شرقا حتى حدود مصر الليبية غربا، وشملت ضمن ما شملت جزر البحر المتوسط، وهي الإمبراطورية التي أطلق المصريون على زعمائها اسم الهكسوس، وكما يفسر لنا كيف خضعت مصر لسيادتهم، فهم لم يكووا شراذم بدوية كما يصورهم علم التاريخ، بقدر ما كانوا قوة لها مركزها التأسيسي الجغرافي، لقد كانوا إمبراطورية تجارية كبرى، تليق باحتلال بلد عظيم كمصر.
ووفق هذا الطرح يمكن تفسير السر في التضارب الهائل في إثنيات سكان فلسطين وآدوم وسيناء وتعدد أعراقهم ولغاتهم، ذلك التضارب الذي نعلمه من وثائق علم التاريخ ومن الكتاب المقدس معا، وهو التضارب الذي لحق بمحاولة البحث عن الأصول الآرامية، فالآراميين عند البعض قادمون من الشمال الأرميني ، وعند البعض الآخر أنهم جاءوا من جزيرة العرب، لكن ما نعلمه الآن بعدما قدمنا وأعدنا وزدنا، أن المنطقة قد حوت عددا من الأجناس، أبرزه الأسود الزنجي القادم عبر مضيق باب المندب والبحر الأحمر، بادئا بالتواصل مع سكان جنوب الجزيرة «سبأ»، ثم ممتدا معهم حتى معان المصرية، ليلتقي في وادي عربة بالآري القادم من الشمال الآرامي ممثلا في الآراميين الهندوآريين، لتقوى المملكة التجارية ويستفحل شأنها في حلف الأخلامو، وتنضم إليها ممالك المنطقة تكسبا، أو تخضع لها بالقوة، ليصلوا أوج قوتهم في جيوش هائلة في أحلاف تكتسح المنطقة وتقيم فيها إمبراطورية كبرى، حتى وصل الائتلاف حدا تعلم معه أنه قد تم تنصيب أحد مشايخ أو ملوك تلك الأحلاف، حاكما على بلاد بابل يعرف باسم «نمرود»، وأن نمرود هذا كان كوشيا زنجيا أسود.
31
لقد بدأت آدوم مركزا لتجمع شراذم من الشمال ومن الجنوب طلبا للرزق التجاري، عبر تواصل المركز مع محطات الأطراف، في المساحة الشاسعة الواقعة ما بين أرارات شمالا واليمن جنوبا، لتتوحد في النهاية في بلاد آدوم، وتشكل تيارا جارفا، يضم تحت جناحيه المنطقة جميعا في الإمبراطورية التي أسمى المصريون أصحابها بالهكسوس.
وإن ترتيبنا للأحداث على هذا النحو يفسر لنا سر الاعتقاد الطريف، لكنه الراسخ لدى الأحباش الزنوج اليوم، فهم يعتقدون جازمين، وهو اعتقاد يدخل في عداد الإيمان الديني، أنهم أبناء لرجل أبيض هو منليك، ومنليك هو ابن الملك الإسرائيلي سليمان، نتيجة علاقة جسدية له مع ملكة سبأ، وقد كانت تلك القصة تدخل في عداد الأساطير، لعدم إمكان هذا التواصل أصلا، حيث كان معقتدا أن سبأ قامت فقط في الجنوب اليمني، ثم تم رفض تحقيق القصة تماما؛ لأنه ما العلاقة بين فلسطين والإسرائيليين وبين الجنس الحبشي الأسود؟ لكن في ضوء ما قدمنا تصبح القصة مفهومة، فلا يفرق الأحباش بين أصولهم البعيدة وبين سبأ في الجوار عبر المندب. كانا حلفا متوحدا قطن شمالا عند العقبة بجوار مملكة سليمان، وهناك كان بالإمكان حدوث لقاء أو تحالف تاريخي، تم الترميز له بعلاقة سليمان بالملكة «سبأ ». وتقول القصة الحبشية أن منليك هذا، قد أصبح السلف البعيد لسلسلة من الأباطرة الأكابر، حكموا إمبراطورية كبرى، ثم تضاءل ملكهم مع الأيام حتى اقتصر على بلاد الحبشة، وأنه من هذا النسل العظيم كان الإمبراطور هيلاسلاسي آخر أباطرة الحبشة، الذي لقب نفسه بلقب ينسبه إلى جنسه الأبيض البعيد، فحمل لقب «أسد يهوذا». لقد حملت القصة في ترميزها أصولا كشفنا عنها في تزاوج النحسي الكوشي والقحطاني أو اليقطاني اليمني الجنوب جزيري مع الشعب الهندوآري القادم من أرمينيا، وتقيم الشعوب الثلاث مع التهجين المصري الحامي في بلاد صخرة الشرق الإمبراطوري في آدوم، ليترك اجتماعها بصمته في التوراة، وهي تؤكد أن أجناس البشر الأوائل كانوا ثلاثا: «حام وسام ويافث»، وأنهم كانوا يجتمعون في مكان واحد تفرقوا منه بعد ذلك على سطح البسيطة.
ومن جانبها كانت التوراة تؤكد طوال الوقت على الأصل الآرامي للقبيلة الإبراهيمية، ممثلة في آبائها الأوائل الأباعد، وتردد: «آراميا تائها كان أبي»، لكنها وضعت في مصهر التاريخ الجنسين العربي والعبري، فأعادت كليهما إلى أب واحد هو عابر، حتى حملت الأسماء ذلك التلازم على الوجهين بالتبادل الميتانيزي؛ لأن عبري بالقلب هي عربي، وبذلك وضعتهما في بوتقة واحدة، كان سببه ومكانه الدولة المركزية الكبرى في بلاد آدوم، الملتقى التجاري والجغرافي للجهات الأصلية الأربع.
ثم تأتي الكشوف الأركيولوجية لتؤكد صلة الشعب الإسرائيلي الإبراهيمي العبري بالقبائل الآرامية، في النصوص التي اكتشفت في مدينة ماري الآرامية القديمة، فيقول لنا كاسيدوفسكي: «إن أسماء المدن المذكورة في النصوص تلك: ناحور، تارحي، ساروج، تاليكي، تتشابه مع أسماء أقارب إبراهيم، زد على ذلك أن هذه النصوص تتحدث عن قبائل أبام رام، ويعقوب إربل، وعن قبيلة تدعى بنيامين ... ومما لا ريب فيه أن إبراهيم نفسه وحفيده يعقوب وأصغر أبناء هذا الأخير بنيامين، لهم علاقة مباشرة بأسماء هذه القبائل.»
32
وفي زمن أحدث، حدثت هجرات يهوذية إلى مصر، إبان الحروب التي خاضتها دولة يهوذا مع جيرانها، وأقام المهاجرون لأنفسهم جيتو خاصا في ألفنتين عند أسوان بجنوبي مصر، وهنا يعقب باحث مهتم على الوثائق التي تركتها الجالية اليهودية في جنوبي مصر بقوله:
من العسير معرفة الآرامي من اليهوذي، فبعض الأشخاص اعتبروا أنفسهم تارة آراميين وتارة أخرى يهوذيين، وخاصة في البرديات المدونة في عصر مبكر، ومن هؤلاء محيسة بن يدينة، فقد ذكر في بعض البرديات أنه آرامي من أسوان، وفي برديات أخرى أنه يهوذي من ألفنتين (ألفنتين جزيرة بأسوان [المؤلف])، كذلك مسلم بن زكور، ذكر في بعض البرديات أنه آرامي من أسوان، وفي برديات أخرى أنه يهوذي من ألفنتين، وأيضا عنتي بن حجي بن مسلم، ذكر في إحدى الوثائق أنه آرامي من ألفنتين، وفي وثيقة أخرى أنه يهوذي.
33
وهنا نستعيد أبيات المتنبي عن «شعب بوان » مرة أخرى وهي تقول:
يقول بشعب بوان حصاني
أعن هذا يسار إلى الطعان
أبوكم آدم سن المعاصي
وعلمكم مفارقة الجنان
وقد قيل في تفسير تلك الأبيات، أنه كان يصف موضعا في بلاد فارس، باسم «شعب بوان»، ونحن نعلم أن بلاد بوان أو بونت/آدوم، قد جمعت في دولتها الهندوآري فارسي الأصل مع الكوشي الزنجي المنبت مع الجنوب جزيري. ثم لنتذكر المناسبة الخاصة التي قال فيها المتنبي شعره هذا؛ فقد غضب من سيف الدولة الحمداني عندما أهمل قدره، فتركه مغاضبا، وذهب إلى مصر يمتدح حاكمها آنذاك كافور الإخشيدي، لكنه لقي هناك ما هو أسوأ، فخرج من مصر عائدا إلى الشام مصالحا سيف الدولة ومغاضبا لكافور، وألقى بين يدي سيف الدولة تلك القصيدة التي يذكر فيها موضعا مر عليه في رحلته من مصر إلى الشام، موضعا تلتقي فيه بقايا ألسن قديمة متعددة مختلفة، وبقايا أجناس متباعدة، تعبر عنها أبيات أخرى بالقصيدة تقول:
مغاني الشعب طيبا في المغاني
بمنزلة الربيع من الزمان
ولكن الفتى العربي فيها
غريب الوجه واليد واللسان
ملاعب جنة لو سار فيها
سليمان لسار بترجمان
وألقى الشرق منها في ثيابي
دنانيرا تفر من البنان
وقصد بالدنانير التي تفر من البنان، ضوء الشمس المتسلل داخل أيك شعب بوان، ليطبع على ثيابه ما يشبه الدنانير، لكنها تفر من اليد، وهو ما دفع سيف الدولة ليقول له مع عطائه إعجابا بشعره: «والله لأقرنها في يدك؛ يقصد الدنانير.»
34
إن ما يمكن فهمه من هذا أن شعب بوان حتى زمن المتنبي كان جنة، كان لم يزل أيكا وغيضا، وكان يحمل اسمه القديم بوان أو بونت، وكان ما زال يجمع بقايا الأخلامو الذين لو سار فيهم سليمان، على قدرته الأسطورية في فهم اللغات، ومحادثة كل الكائنات، لاحتاج هناك إلى ترجمان، هذا إذا لم نكن قد أخطأنا في تحديد موقع شعب «بوان». وعلى أية حال فهو قرينة واحدة، ضمن مئات من القرائن التي قدمناها، فإن فرت من بين أيدينا فرار الدنانير، فلا أسف عليها ولا تثريب علينا . (انظر مقر الجالية اليهودية الآرامية في أسوان بمصر الشكل رقم «125».)
شكل رقم «125»: في الجوار من هذا المعبد (معبد إيزيس) بجزيرة فيلة (الفنتين بأسوان) عاشت الجالية اليهودية الآرامية.
الباب الثالث
من الألغاز إلى الحلول
الفصل الأول
العامو أو العموريون: اسم الأحلاف الجامع
في حديث ملتبس يقول لنا المؤرخون: «لقد بينت الدراسات اللغوية للنصوص المسمارية التي اكتشفت في أرشيف ملك ماري، أن منشأ اليهود قريب من الأموريين، ففي الزمن الغابر اندفعت من منطقة الخليج العربي باتجاه الشمال موجة عارمة من القبائل الأمورية المهاجرة؛ حيث طردت السومريين وشغلت منطقة ما بين النهرين كلها تقريبا. ولقد أقام الأموريون على أطلال الدولة الصغيرة التي أخضعوها دولهم البعيدة التي ما لبثت أن توحدت كلها في دولة كبرى واحدة، كان حمورابي أعظم ملوكها، وفي زمن متأخر غزت بلاد الرافدين في الشمال قبائل غير سامية الأصل. واضطرت القبائل المطرودة أمامها أن تنزع إلى الجنوب الغربي (أي باتجاه فلسطين وآدوم [المؤلف]) وأثناء هذه الهجرة الجديدة استوطن الآراميون سورية، وسكن الموآبيون والعمونيون والآدوميون في جنوب وشرق أرض غزة، وبعد فترة جاءت إلى هنا قبيلة الإبراهيميين.
1
ثم نجد تقاربا في زمن ظهور الكنعاني والأموري وتنطق أيضا عموري، في القول التاريخي «إن الكنعانيين والأموريين الذين ينتسبون إلى ربهم أمورو قد هاجروا من شبه جزيرة العرب إلى الشام عام 2500ق.م. واستقر الكنعانيون في الساحل ، بينما استقر الأموريون في الداخل.»
2
ولما كانت الدراسات اللغوية تفيدنا بأن الرافدي وبخاصة الآشوري، كان ينطق حرف «ع» أقرب إلى الهندوآرية «أ»، فإن الإله «أمورو» هو في السامية الغربية «عمورو» أو «حمورو»، أي الحمار، والأحمر. وإليه كإله انتسب الملك البابلي باسمه «حمورو - أبي» أي «الحمار أبي» أو «الأحمر أبي»، فلا فرق.
والأهم هنا ذلك الاتجاه الذي ينزع إلى تنسيب الإسرائيلي للعنصر الأموري أو العموري أو الحموري. ويبدو أن حرف «م» قد أهملت بالتخفيف في «حموري» لتصبح «حوري»، وظلت الكلمة حوري تحمل معنى كلمة حموري، فهما بمعنى واحد هو الأحمر والحمار (وربما كانت لكلمة حوري علاقة بكلمة حوذي أي سائس الحمير/ الإشارة من المراجع الدكتور سميح عيد)، وقد ورد في رسائل تل العمارنة إشارات إلى جنوبي بلاد الشام «فلسطين» باسم
KHAKHNI
وهي ما تعني الصبغ الأحمر القرمزي بدورها، ثم وردت في ذات الرسائل الإشارات إلى القسم الشمالي من بلاد سوريا باسم بلاد «آمورو».
3
ومن جانب آخر نعرف في مختلف الكتابات التاريخية، والكتابات المقدسة التوراتية أن منطقة الشمال السوري كانت بالتأكيد بلادا آرامية، ومع ذلك تشير إليها الكتابات المصرية باسم «آمورو»، أي أنها كانت بلادا أمورية أيضا.
ولا نندهش أبدا عندما نجد التاريخ ينقسم برجاله على نفسه، فبعد أن قال لنا بعضهم منذ قليل إن الأموريين قد قدموا من جزيرة العرب، فإن البعض الآخر يقول: «إنهم قد وصلوا حوالي 2600ق.م. مما وراء القوقاز، كما تدل على ذلك أواني الخزف ذات الطابع الجديد، والتي عثر عليها في خربة كرك (بالرافدين [المؤلف]) ... وكانت أقوى موجات هذه الغزوات هي موجة الأموريين ... وعلى الرغم من أن الملك شوسن
SHU SIN
2048-2039ق.م. كان قد بنى خط دفاع عن بلاد، فإن إحدى الرسائل الموجهة إلى خلفه إبي سين
IBBI-SIN
2039-2015، تعلمنا أن الأموريين = مارتو
MAR-TU
بقضهم وقضيضهم قد اخترقوا البلاد واستولوا على قلاعها الكبرى واحدة تلو الأخرى، إن نصوص هذا العصر تترجم هذا الرعب الذي ساد المنطقة أمام أناس لم يكونوا يعرفون زراعة القمح ولا المنازل ولا المدن، وتصف لنا أسطورة زواج أمورو - الإله الذي سمي باسمه الأموريون - الذي ينبش الأرض بحثا عن الكمأ في سفوح الجبال، ولا يعرف كيف يثني ركبتيه، ولا يملك بيتا طيلة حياته ولا يدفن بعد موته، ولم يكن الذعر بأقل من ذلك على الطرف الآخر من الهلال الخصيب، ففي مصر شيد الفرعون أمنمحات الأول 1991-1962ق.م. خطا من القلاع الحصينة، هو حائط الأمير الذي يصد (أو حائط الحاكم كما ورد في مصادر أخرى).»
ويحيطنا هؤلاء علما أن كلمة «أموري» تعني عند أهل الرافدين عدة معان منها «الغرب»، فالأموريون بالنسبة للعراقيين هم أهل الغرب.
4
وهنا نسمع «كوبر» يحدثنا فيقول: إن تلك القبائل الأمورية اشتهرت في رسائل مدينة ماري باسم
SUTIUM ، التي ترجمناها من جانبنا السيتيين نسبة إلى الإله سيت، وأنهم عنصر سامي غربي بالنسبة لأهل العراق الساميين الشرقيين، وأن هؤلاء السيتيين قد عبدوا آلهة أهمها: رب الحنطة، داجون ويشكر، أو كما قرأناه نحن إله الحرف المصري «سوكر» أو «شوكاريس» إله موتى مدينة منف، كما عبدوا إلها باسم «سومو»، والمحتمل لدينا أنه يشير إلى السلف البعيد المعبود «سام»، كما عبدوا الإله البعل باسمه «حداد».
5
أما مدينة ماري؛ فقد جاء في رسائلها ما يفيد أن هناك معارك طاحنة كانت تدور بين ملك حلب، وبين قوم ذكرهم باسم «بني يمين»،
6
ولا يفوتنا هنا التنبيه إلى أن «بني يمين» اسم يلتقي تماما مع اسم السبط الإسرائيلي «بنيامين».
و«بني يمين» تعني في التوراة، كما تعني بالضبط في نصوص ماري: سكان الجنوب، والجنوب هو النقب، وكلمة جنوب تستخدم في الكتاب المقدس للدلالة على النقب تحديدا، حيث كان المركز الرئاسي للأخلامو/الأحلاف حسب فروضنا، ويرى الباحث «غطاس الخشبة» أن الأموري والحموري لفظ واحد متعدد المعاني، ومن تلك المعاني «الشديد»،
7
والشدة هي العملقة والقوة والجبروت، وكان الإله الإسرائيلي زمن البطرك إبراهيم يحمل لقب «إيل شداي»، أي الإله شداي، وبتخفيف حرف «د» في شداي يصبح «إيل - ستاي» أي الإله ستاي، أو كما ذهبنا نحن: الإله ست.
أما السور الذي بناه «شو - سين» لصد الهجوم الأموري فقد سمي «مورق تدنم»، أي السور الذي يصد الأموريين، وكان طوله 26 بيزو أي في حدود 275كم، لصد سكان بوادي الشام وسمي سكانها الغربيين أو الأموريين،
8
هذا في الوقت ذاته الذي كان المصريون يقيمون على حدودهم الشرقية عند بوادي الدلتا، سورا مماثلا باسم «سور الأمير الذي يصد الآسيويين وعابري الرمال».
هذا من جانب، ومن جانب آخر نجد الكتاب المقدس يحدثنا عن الأموريين، باعتبارهم قوما ينتشرون في فلسطين غربي نهر الأردن وشرقيه في بوادي الشام، بل في آدوم وفي سيناء، وفي إشارات كثيرة ومتعددة، نقتطع بعضها هنا، يصف الكتاب المقدس بلاد فلسطين جميعا كأرض موعودة لبني إسرائيل، يقول الرب لشعبه:
وأنا أصعدتكم من أرض مصر، وسرت بكم في البرية أربعين سنة، لترثوا أرض الأموري. (عاموس، 2: 10)
ثم يفيدنا أن جبال سينا وآدوم وفلسطين كانت جبالا أمورية، وذلك في قوله على لسان موسى، وهو يخاطب شعبه في قادش سيناء:
ثم ارتحلنا من حوريب (اسم للجبل المقدس في شبه جزيرة سيناء [المؤلف])، وسلكنا كل ذلك القفر العظيم المخوف، الذي رأيتم في طريق جبل الأموريين كما أمرنا الرب وجئنا إلى قادش برنيع. (تثنية، 1: 19)
وقد سبق وعلمنا أن قادش برنيع تقع أقصى شرقي سيناء على حدود آدوم (عين قديس حاليا)، وها هو المقدس يعود ليصف جبال تلك المنطقة السينائية بأنها «جبل الأموريين». وسنجد الكتاب المقدس يصر على ذلك في عدد آخر من النصوص، كما في حديثه عن العبور على جبال آدوم، فوردت مرة باسم جبال آدوم كما أسلفنا في نصوص توراتية عديدة، وذات الجبال تأتي هنا مرة أخرى باسم جبال الأموريين، انظر معي إلى موسى يقول لشعبه:
الرب إلهنا كلمنا في حوريب قائلا: كفاكم قعودا في هذا الجبل، تحولوا وارتحلوا وادخلوا جبل الأموريين، وكل ما يليه من العربة (أي وادي عربة [المؤلف]). (تثنية، 1: 6)
هذا عدا نصوص عديدة تشير إلى جبال آدوم وفلسطين باعتبارها مسكنا للأموريين، وعادة ما ذكرت حديثها حول سكن الأموريين الجبال كما في النص:
جميع ملوك الأموريين الساكنين في الجبل. (يشوع، 10: 6)
ولتحديد موضع ذلك الجبل الذي يسكنه الأموريون نقرأ عن تمرد الإسرائيليين على قائدهم موسى في سيناء بعد الخروج من مصر، وكيف وقف يقول لهم موسى في قادش سيناء:
وقلتم: الرب بسبب بغضه لنا قد أخرجنا من أرض مصر، ليدفعنا إلى أيدي الأموريين لكي يهلكنا. إلى أين نحن صاعدون؟ قد أذاب إخواننا قلوبنا قائلين: شعب أعظم وأطول منا، مدن عظيمة محصنة إلى السماء، وأيضا رأينا بني عناق هناك. (تثنية، 1: 27، 28)
النص كما هو واضح - مع النصوص السابقة - يفصح عن الأموريين كشعب يسكن جبال جنوبي فلسطين، وأنه شعب طويل القامة عظيمها، ومدنه محصنة ترتفع نحو السماء، وأن في هذا الجبل يسكن بنو عناق العناقين العمالقة.
ويتكرر النص الذي يحكي عن الموقعة ذاتها في موضع آخر من التوراة، لكنه يستبدل العمالقة باسم آخر؛ إذ يقول موسى وهو يتذكر ويذكر شعبه عند استقرارهم الطويل في محطة قادش سيناء، على تخوم آدوم، محددا موقع الموقعة على حدود جبال سعير الآدومية:
فكلمتكم ولم تسمعوا، بل عصيتم قول الرب وطغيتم وصعدتم الجبل، فخرج الأموريون الساكنون في ذلك الجبل للقائكم، وطردوكم كما يفعل النحل، وكسروكم في سعير إلى حرمة، فرجعتم ... وقعدتم في قادش أياما كثيرة كالأيام التي قعدتم فيها. (تثنية، 1: 43-46)
وفي زمن الفرعون المصري ستي الأول، نشاهد ضمن المنحوتات البارزة في معبد الكرنك (في طيبة/الأقصر حاليا)، مشهدا يصور حصاره لمدينة قادش العاصي، ويشير إليها باسم البلاد الأمورية حيث دون تحت النقش نصا يقول: «صعود الفرعون لتدمير قادش وبلاد أمورو»، وقد تم العثور هناك على حجر تذكاري للفرعون سيتي يؤكد صدق المدون الطيبي.
9
وسيرا على خطنا نعود إلى لغة العرب، نستنطق لسانها ما حواه من ذكريات الماضي وحفائر المعاني الدارس منها والباقي، حول شأن بلاد آدوم الحورية الكوشية الآرامية الأمورية (أو العمورية أو بني عمرو) السوداء الحمراء البيضاء، بلاد المعز والخيل، ومدينتها الثانية حويلة العريشة، ومدينتها الأولى المنبسطة في سهل تحرسه أعلام سعير باسم الصخرة، بأيكها المضيء وثعابينها الطائرة وطيورها العنقاء ووحشها المعبود عناق البونتي، الذي انتسب إليه عمالقتها بالنسب والبنوة، فنجد في لسان العرب، ونحن نبحث عن الحوريين تحت مادة حرر:
الحرة: هي التي أعلاها سود وأسفلها بيض، والحر: حية. وزعموا أنه الأبيض من الحيات. والحر: طائر. وحر: زجر للمعز.
وتحت مادة حور نقرأ:
الحور: أن يشتد بياض العين وسواد سوادها، والحور: شدة سواد المقلة في شدة بياضها. وقال كراع: الحور أن يكون البياض محدقا بالسواد. والأحوري: الأبيض الناعم. والحور: الأديم المصبوغ بحمرة. وقال الجوهري: الحور جلود حمر. والحائر المكان المطمئن يجتمع فيه الماء، فيتحير فلا يخرج منه. وتحيرت الأرض بالماء: إذا امتلأت. وطريق مستحير يأخذ في عرضه مسافة لا يدري أين منفذه. والحارة: كل محلة دنت منازلهم فهم أهل حارة. والحير بالفتح: شبه الحظيرة.
هكذا تحمل كلمة «حور» في طيات حفرياتها الدلالية ذكريات أيام أوائل، ونحن نعلم أن العربية تطورت عن النبطية التي تطورت بدورها عن الآرامية، وأنها جميعا تداخلت مع لغات المنطقة وبخاصة المصرية؛ لذلك نجد مادة حور تعطينا الأحمر أو الأبيض مع الأسود دوما، ثم الحور هو الأديم، والأديم هو تراب الأرض الأحمر، ومنها جاء اسم بلاد آدوم، والحائر هو مكان البحيرات الناتجة عن عيون، ونلاحظ أن بحر وبحيرة ذات علاقة واضحة بالحر وبالحور، ثم الحير هو الحظيرة أو العشيش أو العريش.
ووراء آدوم موطن الأحلاف الذين توافقوا واتفقوا ما بين زنجي وأحمر وأسمر عند شجر الأيك في جبل عظيم هو سعير بجواره واد عظيم هو عربة، موطن الآرامي والعموري أو بني عمرو، نتابع البحث في لجج وثراء اللسان العربي، فيفصح تحت مادة أدم:
الأدمة: القرابة، وقيل الأدمة: الخلط، وقيل: الموافقة، والأدم: الألفة والاتفاق. قال الكسائي: يؤدم بينكما؛ يعني: أن تكون بينهما المحبة والاتفاق. والأديم: الأحمر. وأديم النهار: بياضه. والأدمة: السمرة. قال ابن سيده: الأدمة في الإبل لون مشرب سوادا وبياضا. والأدمة في الإبل: البياض مع سواد المقلتين، قال: وهي في الناس السمرة الشديدة. والآدم من الظباء: بيض تعلوهن حدد فيهن غبرة. فإن كانت خالصة البياض؛ فهي الأرام. والأدمة هو الأبيض والأسود المقلتين. والإدمان شجرة. الإيدامة: الأرض الصلبة. قال ساعدة بن جؤية:
كأن بني عمرو يراد بدارهم
بنعمان راع في أديمة معزب
يقول: كأنهم في امتناعهم على من أرادهم، في جبل، وإن كانوا في السهل.
شكل رقم «126»: خريطة فلسطين وفق التقسيم التوراتي.
وهكذا أصبحت أدوم تاريخا يشتق منه معاني اختلاط الناس ببعضهم، وموافقتهم واتفاقهم وقرابتهم، وأن الأديم يعني الأحمر والأبيض والأسود، لكنا نرتكز على اللسان وهو يمنحنا تأكيده أن البيض بين هؤلاء كانوا الآراميين لقوله: «فإن كانت خالصة البياض فهي الأرام»، وهو ما سنحاول التيقن منه لاحقا. أما بنو عمرو العموريون؛ فقوم أشد منعة من بقية الناس؛ لأنهم يسكنون في سهل يمتنع بالجبال.
ووراء الأموري نبحث في اللسان تحت مادة أمر فيقول:
الأمر معروف، نقيض النهي. والأمير: ذو الأمر، والأمير: الآمر. قال أبو عبيدة في قوله «مهرة مأمورة»: أنها كثيرة النتاج والنسل. يقولون: أمر الله المهرة؛ أي: كثر ولدها وأمر القوم أي كثروا. والأمر: الصغير من الحملان. والأنثى إمره، وقيل: هما الصغيران من أولاد المعز. قال ثعلب: رجل إمر قال يشبه بالجدي، والأمر الحجارة واحدتها أمرة. والأمر بالتحريك: جمع أمرة، وهي العلم. والأمرة: الرابية. قال ابن شميل: الأمرة مثل المنارة فوق الجبل، عريض مثل البيت وأعظم، طوله في السماء أربعون قامة، صنعت على عهد عاد وإرم. والتامورة عريشة الأسد، وقيل أصل هذه الكلمة سريانية.
وهكذا ورثت لغة العرب اقتران السيادة بالأموريين، والتي احتسبناها سيادة هكسوسية في إمبراطورية عظمى، وأن من معاني الأموري كثرة النسل، وأنه له علاقة بالماعز والجدي، وأنها تعني الحجارة، ولمزيد من الإيضاح يذكر العرب أثرا فوق علم (جبل) عريض كالبيت، يرتفع في السماء أربعين قامة (فهل يكون ذلك مطابقا لأم البيارة في البتراء؟)، وأن ذلك الأثر صنع منذ عهد عاد وإرم، ثم يكرر أن من معانيها العريش، وأن أصل الكلمة سريانية، أي آرامية.
ولأن الأموري هو العموري، نقرأ تحت مادة «عمر»:
عمري الشجرة القديمة: وقيل: هو العبري من السدر، والميم بدل، قال الأصمعي: العمري والعبري من السدر القديم. يقال للسدر العظيم النابت على الأنهار: عمري وعبري على التعاقب. والعمار والعمارة كل شيء على الرأس من عمامة أو قلنسوة أو تاج، والعمار الآس. وقيل: كل ريحان عمار. والعمارة: القبلية والعشيرة. والعوامر: الحيات. والعومرة: الاختلاط. واليعمور: الجدي. والعمر: ضرب من النخيل هو السحوق الطويل. وأم عمرو وأم عامر هي: الضبع. يقال للضبع أم عامر، كأن ولدها عامر.
وهكذا يصل ثراء ما تحفظه مورثات جينات اللغة حدا، احتوت معه أسماء بطون القرابات، فالعموري هو العمري؛ ولأن الميم تختلط بالباء فهو العبري «والعبريون - حسب التوراة - هم قبيلة إسرائيل»، وأن لهؤلاء العموريين ميزة التاج أو السيادة والقلنسوة. وسنرى فيما بعد أهمية تلك القلنسوة الأمورية، ثم إن لهم علاقة بالآس، ولعلنا لم ننس بعد الآس والإله آش، ثم إن من معاني الاسم «عموري» اختلاط الناس ببعضهم أحلافا، وأن لهم علاقة بالجدي والماعز، وبالعملقة لأن العمر نخل طويل، وأم عمرو هي الضبع، وهو ما يستدعي عناق البونتي ذا الوجه الضبعي، وأن العموريين ينتسبون إليه كأنهم أولاده، فالعموريون يعبدون ربا أشبه بالضباع تسموا باسمه.
وللمزيد يفيدنا «ابن قتيبة» بقوله عن سلف قبيلة سبأ المعروف باسم سبأ، وعرفناه نحن أنثى اسمها الزباء أو الملكة سبأ، فيقول: «واسم سبأ عامر».
10
وفي مادة ضبع يقول لسان العرب:
ضبعت أسرعت، وفرس ضابع شديد الجري، والضبع الجور، وفلان يضبع أي يجور. والضبع: ضرب من السباع أنثى. وفي قصة إبراهيم عليه السلام وشفاعته في أبيه، فيمسخه الله ضبعانا أمدر، والضبعان ذكر الضباع. وجار الضبع المطر الشديد.
ولنلحظ هنا عبارة «شديد الجري»؛ لأنها ترتبط بفصل آت عن الشاسو، أما الأهم فهو أن يظهر لنا إبراهيم الآرامي العبري، من نسل رجل مسخ ضبعا فهو ابن الضبع، أو هو من نسل عناق البونتي.
ولنتأمل الآن صورة الإله ست التي رسمها المصري القديم، ولا ننسى أن عم تعني قوم، وبالنسبة إلى عناق يصبح المنتسب إليه ابن عناق أو عناقيا، وقد عرفنا أن العناقيين هم العمالقة.
وفي التوراة نجد الجبل الذي عبره الخارجون من مصر تحت قيادة موسى يسمى جبل الأموريين، وفي مواضع أخرى بالتوراة يسمى هو ذاته جبل العمالقة، ففي رحلة الخروج يقف موسى في قادش بسيناء يخطب في رجاله قائلا:
ثم ارتحلنا من حوريب، وسلكنا كل ذلك القفر العظيم المخوف، الذي رأيتم في طريق جبل الأموريين ... وقلتم الرب بسبب بغضه لنا أخرجنا من أرض مصر، ليدفعنا إلى أيدي الأموريين ليهلكنا. (تثنية، 1: 19، 27)
وفي قاموس الكتاب المقدس تحت مادة عمالقة نقرأ:
وكان العماليق يتجولون من مكان لآخر، وكان مجال تجولهم وسيعا، من حدود مصر إلى شمال العربية إلى بادية فلسطين (صموئيل أول، 15: 7 و27: 8) ... وآخر ذكر لهم كان أيام حزقيا الذي طارد دخولهم من جبل سعير (أخبار أيام أول، 4: 43).
وتحت مادة جبل العمالقة يقول القاموس:
جبل العمالقة كان من نصيب إفرايم، وقد حمل اسمه نسبة إلى العمالقة الذين سكنوه (قضاة 5: 12، 15).
لكن عنصرا من بينهم وصف بالعملقة، لا شك أنه كان القادم من إفريقيا السوداء، أو هجينا منهم ومن أهل جنوب الجزيرة.
لقد كانت بلاد آدوم كما قلنا وأكدنا وزدنا وأعدنا، موئلا لجماعات وعناصر جنسية متباعدة، فكان فيها الكوشي العملاق الزنجي، ثم كان فيها الحامي المصري القادم بالضرورة عبر سيناء في صلات دائمة، ثم كان فيها الآرامي القادم من شمال الرافدين وبلاد أرمينيا عند أرارات، وهو الشعب الذي أولد بني إسرائيل من بعد، ثم ذلك القادم من جنوبي الجزيرة الحميري، والذي ربما اختص باسم العامو أو العموريين العمالقة، قبل أن يصبح اسما عاما يطلق على جماعة الأحلاف. (انظر الشجرة الربة الإلهية في مصر القديمة، الشكل رقم «95، 96».)
ملحق
إبان مراجعة بروفات الطبعة الأولى من هذا الكتاب، وكانت بروفة هذا الفصل بين يدي أضفت هذه الفقرات، بعد أن طالعت بصحيفة الأهرام القاهرية بتاريخ 1997/11/12م الخبر التالي، وقد رأيت أن أضعه كما هو «بالتصوير»:
شكل رقم «127»: والخبر إذ يؤكد ما قلنا حتى الآن، فإن القول بمجيء الإسرائيليين الآراميين من أرمينيا، قد سبق ووصلنا إليه في كتابنا «النبي إبراهيم والتاريخ المجهول» المنشور في طبعته الأولى بتاريخ 1990م عن دار سيناء بالقاهرة، قبل أن تكتشفه تلك الدراسة الفرنسية بسبع سنين.
الفصل الثاني
الشاسو والكاشو والحاثو
في مواضع متعددة من النصوص المصرية القديمة، نجد اصطلاحات متعددة للدلالة على البدو الشرقيين الآسيويين، منها «ستتيو» الوارد في لوح كارنارفون، و«مونتيو - ستت» الواردتين في نقش أحمس بن أبانا،
1
وعرفنا أن الاسم هنا منسوب إلى الإله «ست»، وباختلاط الحرفين الشفهيين الباء والميم؛ فإن «مونتيو» هي «بونتيو» أي البونتيون، إضافة إلى اصطلاحات أشيع استخداما هي «شاسو» و«عامو»، وبالنسبة للاحتلال الذي عانت منه مصر في نهاية الدولة الوسطى، فقد أطلق المصريون على أصحابه اسما مكروها هو الطاعون، بينما وصلنا اسمهم في وثائق متأخرة زمن يوسفيوس والمؤرخين اليونان الكلاسيك بالصيغة «هكسوس».
وهنا يقول لنا المؤرخ والمصرولوجست المصري الحجة سليم حسن:
عندما يطرح السؤال: من هم الهكسوس؟ فإنه لا يسعنا إلا الاعتراف بالجهل التام!
2
ورغم هذا التواضع العلمي الراقي الصريح الواضح المباشر، فإن ذلك لم يمنع الباحثين من وضع افتراضات حول أصل محتلي مصر، في محاولات متعددة لكنها متضاربة للبحث عن منطلقهم المكاني وأصلهم العرقي، فهناك من ذهب إلى أنهم من الجنس السامي، لكن أصحاب هذا المذهب اختلفوا حول أي نوع من الساميين كانوا؟ فقال بعضهم: إنهم كانوا بابليين، وذهب آخرون إلى أنهم كانوا كنعانيين، بينما أكد فريق ثالث أنهم جاءوا من عمق بوادي جزيرة العرب.
3
وعلى الجانب الآخر وقف باحثون لا يقلون علما وقدرا، يؤكدون أنهم أبدا لم يأتوا من فلسطين ولا العراق ولا جزيرة العرب؛ لأن المنبع البشري الذي تدفقوا منه على الشرق القديم، كان المستودع الكبير المعروف في عصر الهجرات الكبرى في محيط بحر قزوين وبحر الأورال، والبحر الأسود وبحيرة فان، وجبال أرارات، وهو الجبل الذي زعمت التوراة أنه كان مرسى السفينة النوحية، في ترميزة أسطورية حفظتها الذاكرة الإنسانية، لتشير إلى المنبع الأصيل لتلك الهجرات،
4
وهو أيضا الذي يعرف علم التاريخ أنه كان موطنا لقبائل متبربرة أسماها «سكيث». ولنتذكر من الآن وبشدة هؤلاء ال «سكيث»؛ لأن لهم في الفصول المقبلة دورا عظيما.
وكان تعبير «العامو» كما يقول «خشيم» هو الأكثر شيوعا في الكتابات المصرية، للدلالة على غزاة بلادهم، وقد وردت «ع أم و
A M U » في صورة «ع م و
A M W » ومفردها «ع م
A M »، لتشير إلى سكان شرقي وادي النيل حيث الهضبة المتصلة مباشرة بصحراء سيناء، وترجمها معجم فولكنر إلى «آسيوي» و«رجل آسيوي» وجمعها «ساميون
SEMITES » ومؤنثها «ع ء م ت، أي امرأة آسيوية.»
وفي معجم بدج نجد الكلمة تعني: رعاة، بدوا رحلا، ويترجم «ع ء م ي ت
AMYT » إلى امرأة آسيوية، والعميت هو العبيط بخلط الميم بالباء، والعبيط في لسان العرب هو العملاق القوي قوة عمياء؛ لذلك نجد «ع ء م
AM » تعني «حيوان أو سائمة أو بهيمة». وفي معاني «عامو» نجد اللغة تحمل في جيناتها إشارة إلى الجهة الأصلية التي وفدوا منها على مصر؛ لأن « أ م و
AMW » تعني أيضا إلهة الفجر، وهو ما يشير إلى الشرق حيث تشرق شمس الفجر. ويرى أمبير أن إبدالا قد حدث بين الراء والهمزة وبين الباء والميم، بين المصرية والسامية في كلمتي «ع ء م
AM » و«عرب»، وتفيد معنى البداوة والارتحال والمشي مطلقا، ولا تدل على جنس بعينه.
5
وعند بروغش أن كلمة هكسوس كانت التسمية الشعبية لكلمة العامو (زمن البطالمة [المؤلف])، وأنهم كانوا آدوميين،
6
لكن دون أن يتكرم بروغش بأي جهد واضح يؤكد به هذا الرأي السليم فعلا، فقط رأى أنهم آدوميون استنادا لنص مصري واحد لا علاقة له بالأمر برمته، ثم أصدر قراره. وحتى قوله هذا قول غير دقيق؛ لأنهم وإن كانوا يعودون بمركزهم الرئيسي إلى بلاد آدوم، فإنهم كانوا أخلاطا من البشر، كانوا أخلامو أو أحلافا.
ويذهب فهمي خشيم إلى أن الهمزة في «ع ء م» مزيدة، والأصل هو «ع م»، وضرب المثل لذلك أمثلة عديدة منها: «و ء ح ت = واحة، ح ء ت = حيط، خ ء ب ء س = قبس، خ ء ر = خار (صوت الثور)، س ء ب = صب»، وقد احتج لذلك بأن الهمزة العربية نفسها قد تهمز ما لا يهمز عادة، وقد تفعل العكس فتحذف الهمزة، فنقول عن البئر «بير» والفأس «فاس» والذئب «ذيب». وإعمالا لذلك فإن «ع ء م» هي في العربية «عم»، و «عم» إذا ثلثت دلت على العملقة والقوة، فنجد «عمت» أي قسر، و«العمثل» هو الضخم الثقيل، و«العميثل» الضخم الشديد العريض، و«عمد» طال منها العماد والعمود، و«اليعملة» الناقة الفارهة القوية، و«العامل» هو الوالي أو الحاكم.
وفي معجم بدج نجد الكلمة المصرية «إ ء م ت
I A M T » تعني النخلة، وجاء في الحديث النبوي «أكرموا عمتكم النخلة.»
7
ونتذكر قول ابن منظور في لسان العرب: عم إذا طول، وعم إذا طال، والعم شقيق الأب وأصله المساند القوي، والعمامة ما يوضع على الرأس، وهي تيجان العرب، وتؤدي إلى طول لابسها، وكل ما اجتمع وكثر فهو عميم، والعمم عظم الخلقة. فالجذر عم والثلاثي عمم ورباعيه عملق، ومنه العملاق الطويل والجمع عماليق وعمالق، والعمالقة عند ابن منظور من عاد وهم بنو عملاق. قال الأزهري: عملاق أبو العمالقة، وهم الجبابرة الذين كانوا بالشام على عهد موسى عليه السلام.
ومن العامة يأتي معنى الكثرة الوافرة، ومفردها بصيغة النسبة عامي وتجمع عوام، ومن عامي تطورت الدلالة إلى معنى الجهل وعدم المعرفة، ومنها أمي الذي يجهل القراءة والكتابة في مواجهة الخاصة. وهنا نتذكر أن فترة حكم الهكسوس في مصر كانت مظلمة تماما من حيث المدونات، فلم يتركوا شيئا مدونا بلغتهم، وما وجدناه كتبه لهم المصريون باللغة المصرية، وهو نادر ندرة شديدة إلى جوار ما هو معتاد في مصر القديمة. ولم نعلم بمدونات حقيقية إلا بعد خروجهم من مصر، وانتشار اللغة الآرامية كلغة للمراسلات الدولية، بعد أن أخذت الآرامية الطريقة الرافدية في الكتابة بالمسمار على الطين، هو الخط البابلي، وكتبته بالكارية أو الحورية.
أما «عم» فهي تعني في لغة جزيرة العرب «أبناء» أو «شعب»، وهي كذلك في الكنعانية، وهي ذاتها «ع م» أي أناس، وينتهي فهمي خشيم إلى أن كلمة «ع م» تؤدي إلى «الأميين»، كاسم علم بمعنى الأقوياء الجبابرة العماليق من الجذر «أم» و«أمم»، وهو ذات لجذر «عم» و«عمم» وفيه معنى الكثرة الغالبة.
8
وفي الجزء الأول من هذا العمل سبق وأشرنا إلى أن المؤرخ اليهودي «يوسفيوس فلافيوس» الذي نقل عن المؤرخ المصري «مانيتو»، قد كرس من وقته زمنا؛ ليثبت أن الهكسوس كانوا هم ذات الإسرائيليين، وضمن شواهده ترجمته لكلمة «هيك - سوس» بحسبانها تعني «الأسرى - الرعاة»؛ لأن بني إسرائيل قد تم أسرهم بمصر بعد ثورة المصريين على حكمهم، إلا أن «وادل» يحيطنا هنا علما: أن يوسفيوس قد تلاعب بكلمة هكسوس التي تتركب من ملصقين: المقطع الأول فيها «هيك»، وقد قرأه يوسفيوس وكتبه «ح أ ق
haq » التي تعني: يقبض على، يأسر، أسر، بينما كتابتها وقراءتها الصحيحة هي «ح ق
hq » وتعني معنى نقيضا تماما، فهي: من الفعل الماضي حكم، وجه ، قاد، تسلط، ويفيدنا «مارسيل كوهين» أن تلك الكلمة هي بالضبط الكلمة العربية حق. وهي
Legalite
أي شرعية الحكم. أما المقطع الثاني الذي جاء في صورة
SôS ، فيعني عند «مانيتو المصري»: «راع» أو «رعاة»، ورأى «وادل» أنها من القبطية
Shôs
أي راع، وأنها من الأصل «ش أس و» أي بدو. وهنا اختلف «بدج» مع الجميع وأكد أن معنى «سوس» هو: المشي، السعي، السفر، ومنها البدو الرحل. ويدعم ذلك «إمبير
Ember » إذ يقابل الكلمة المصرية بالإثيوبية
Sosawa
أسرع في المشي، هرول، وبالعبرية
SIS
التي تعني «حصان»، وهي جميعا المعاني التي تفيد المشي والحركة الثابتة دون استقرار، وفي معجم المصرية «س س م
SSM » وتعني زوجا من الخيل، ومنها في معجم بدج كلمة «س س م ت
SSMT » أي فرس.
ويعقب هنا فهمي خشيم بقوله: «وعلى هذا الأساس ترجمت هكسوس إلى الملوك الرعاة ... لكننا عرفنا أن الجذر س س يعني الحصان، ومن المسلم به تاريخيا أن وادي النيل لم يعرف أهله استخدام الحصان قبل هجرة الهكسوس إليه.»
ومما هو جدير بالذكر هنا أن مدينة الهكسوس «حواريس» التي هي في الأصل المصري «حوارة» أو «هوارة»، لم تزل تطلق على كثير من المدن الصحراوية المتطرفة المتاخمة للصحراء، فنجد الهوارة في صعيد مصر وفي الفيوم والحدود الشرقية، كذلك تحمله قبائل من أصول عربية تمصرت.
وينقل ابن خلدون عن الصولي البكري أن قبائل الهوارة تنتسب إلى «حمير بن سبأ»، ويزعمون الانتساب إلى قبائل كندة ، وبالتحديد إلى قبيلة «السكاسك»، وهو ما يلتقي مع كلام الصولي البكري حول أصولهم الحميرية السبئية؛ لأن لسان العرب يقول:
سكسك بن أشرس من أقيال اليمن، والسكاسك والسكاسكة حي من اليمن، أبوهم ذلك الرجل، والسكاسك أبو قبيلة من اليمن، وهو السكاسك بن وائلة بن حمير بن سبأ، والنسبة إليهم سكسكي.
ومن جانبه، ينسبهم ابن خلدون إلى «هوار بن أوريغ بن حمير بن سبأ»، وعليه يرى فهمي خشيم أن الكلمة سكاسك ربما كانت تحريفا للكلمة اليونانية هكسوس، التي كانت بدورها تحريفا للكلمة المصرية «ح ق. س س».
9
وعن أصل بربر أفريقيا يقول ابن خلدون: «إنهم من أبناء إبراهيم وأوزاع اليمن»، والخلط هنا واضح بين جنسين متباعدين: جنس إبراهيم الآرامي الشمالي وجنس الجنوب اليمني، ثم يقول: «فلما وصلوا إلى مصر منعهم ملوك مصر من النزول، فعبروا النيل وانتشروا في البلاد، وهم من ولد النعمان بن حمير بن سبأ.» ثم في إشارة فصيحة يقول: إنهم «تلاقوا بالشام واستجاشهم أفريقش لفتح أفريقية.»
فالهكسوس في الذكريات العربية ينتسبون من جانب إلى عرق شمالي يعود إلى إبراهيم الآرامي، وعرق جنوبي يعود إلى سبأ وإلى حمير الحموري أو العموري أو الأموري، وأن هؤلاء الجنوبيين من قبائل يمنية كانت تحمل اسم السكاسك، وهو فيما نرى يفسر لنا اسم أحد مواضع تكثف الوجود الهكسوسي في مصر؛ فهو لم يزل يحمل في طياته اسم السكاسك؛ لأنه حتى الآن (الزقازيق) عاصمة محافظة الشرقية.
10
ويدعم ذلك التفسير ما جاء في أزمنة سوالف على دبوس قتال الفرعون المعروف بالملك العقرب، حيث وردت إشارات إلى صراع خاضه العقرب مع البدو، وقد أطلق عليهم اسم «قوم الزقزاق/ السكاسك». و«الزقزاق» اسم لطائر تم تصويره بأعلى دبوس الملك العقرب، وقد وردت قصص مصرية قديمة عن ذلك الطائر، باعتبار أنه كان غذاء لبحارة مصريين ضلوا الطريق ونفد طعامهم، فعاشوا على الاغتذاء بهذا الطائر المهاجر الذي كان يحط في طريقهم،
11
وهو ما سنعرفه بعد ذلك في التوراة باسم السلوى، ونعرفه اليوم في مصر باسم السمان، وطعمه شبيه بطعم الحمام ، وهو ما عرفناه في بحثنا باسم السقساق أو الزقزاق. وهو طائر مهاجر تعد شبه جزيرة سيناء محطته الكبرى في رحلته الفصلية الكبرى، ولم يزل حتى الآن يصدر إلى الوطن الأم بعدما يفيض عن حاجة السكان في سيناء.
شكل رقم «128»: مجموعة من طيور الزقزاق معلقة على رأس دبوس قتال الملك العقرب، وهو المعروف بطائر السمان اليوم.
شكل رقم «129»: طائر الزقزاق يأكل المن العسلي (المن والسلوى؟!).
وفي لسان العرب نبحث عن السكاسك في مادة «سكك»، فنجده يعطينا مضامين تطابق كل ما علمناه حتى الآن عن الهكسوس، بحسبانهم كانوا يعيشون في بلاد أيك تين وبخور وغياض ملتفة، وكانوا أصحاب صناعة الحديد والنحاس؛ لذلك لقبوا بالقينيين، وأهم حديد كان السيف وسكة المحراث، ولاحظ «سكة» وأيضا «سك» من ضرب المعدن وصنعه، كما نقول: سك النقود وصانعه هو السكاك، وتسهيلا للنطق هو سكاسك للفصل بين كافين ثقيلين، وأنهم كانوا تجار الطيوب والبخور، يقول ابن منظور في اللسان: ... استك النبت أي التف. ... السك تضبيب الباب أو الخشب بالحديد. ويروى السكي بالكسر. وقيل: هو المسمار. وسكة الحراث حديدة الفدان. والسكاكة من الرجال هو المستبد. والسك ضرب من الطيب.
ومدينة الزقازيق تقع ضمن مقاطعات شرقي الدلتا على تخوم الصحراء السينائية مباشرة، وقد سبق وكشفنا في الجزء الأول عن اسم مدينة الاضطهاد وموضع خروج الإسرائيليين قرب الزقازيق.
المهم أن لدينا الآن مزيدا لتدعيم ما قلناه حول السكاسك والزقازيق، فقد جاء في الآثار المصرية أنه بين مقاطعات الدلتا الشرقية، كان يوجد إقليم باسم «عنزتي
Anzti »، نسبة إلى إله قديم بذات الاسم، وهو من الجذر «ع ن ز
Anz »، وهي كلمة تعني عند «بدج» في معجمه: ملك، قوي، مضيء، شديد، ثابت، مشرق، قادم من الشرق. وكلها كلمات تحيل إلى الملوكية القادمة من الشرق، والثنائي من الكلمة «ع ز
AZ »، وتعني: الكون في حالة طيبة، ولو زدناها «ت ي
Ti » فإن معناها يصبح الحامي أو المانع أي
، وهي المطابق المصري للكلمة العربية بذات الصوت والمعنى «عز».
12
وفي مادة «عزز» يقول اللسان معاني أهمها: «العزيز، الممتنع الذي لا يغلبه شيء، القوي الغالب، الشدة، الرفعة»، وبزيادة «م» تصبح «معز»، «والمعز هو الشدة، أما العنز فهي أنثى المعز، والعزيز من أسماء الله، وعنزة اسم قبيلة عربية.» وفي الحديث القدسي يقسم الإله في الإسلام «وعزتي وجلالي»، ثم نتذكر ما قلناه عن الحموري والأموري الذي يعني «الشديد»، وأن اسم إله البطرك إبراهيم كان «إيل شداي»، وأن كلمة «حر» زجر للمعز، وأن العناق هو الأنثى من أولاد المعز، وأن عنخ المصرية هي عنز العربية، وأن عنخت زوجة الإله خنوم المصري صانع البشر من صلصال الفخار، الذي هو خنوف أو خروف وهو من الغنم، وكلها معان تشير إلى بدو رحل رعاة عنز، شاسو، لا يستقرون أبدا، أما مسكنهم فهو ما نحتسبه موصوفا في لسان العرب تحت مادة شسأ:
شسأ: مكان شئس: الخشن من الحجارة. الشس والشسوس: الأرض الصلبة الغليظة اليابسة التي كأنها حجر واحد.
يكاد ابن منظور يقول كل ما يحمل اسم عاصمة آدوم/ الصخرة من معان كشفنا عنها، أما الشاسو؛ فهي برأينا أصل كلمة سوس في المركب «هيك - سوس»، وسوس هي شاس أو شاسو في كشكشة الكاف في سكاسك، وتعني البدو الرحل من أصحاب المعز من قبائل السكاسك السبئية العمورية أو الحميرية، والقبائل الآرامية الإبراهيمية، أما «هيك»؛ فهي كما سبق القول تعني «حق» أو الحكم بالحق الشرعي، وتشير إلى الملك؛ لذلك فالكلمة هيكسوس تعني لدينا الحكام الشاسو أو الحكام البدو، أو بشكل أكثر تدقيقا شيوخ القبائل البدوية.
وإبان رصده لسلسلة أنساب اليمن، يحيطنا ابن قتيبة علما بأن «سبأ» لقب؛ لأن اسم الشخص الحقيقي كان «عامر».
13
وعامر يمكننا أن ننسب إليه ببساطة العامريين أو العموريين، وهو ما يدعم رؤيتنا في قدوم العموريين/الأموريين السبئيين من الجنوب. ويضيف ابن قتيبة أن سبأ قد أنجب «حمير» أو الأحمر، وأن من أحفاد حمير كان «بنو القين»
14
أي أبناء القيني، أي «الحدادين/السباكين/السكاكين/السكاسك/النحاسين». وضمن هذا النسب عند ابن قتيبة يأتي شخص باسم سعد هزيم، كان عبدا حبشيا زنجيا احتضن عامر فنسب إليه، وهو ما يشير إلى ما قلنا عن احتضان شعب لآخر، زنجي، وجنوب جزيري عموري (نقصد المعروف بجنوب الجزيرة الآن)، أو التوحد معه في خلف «جنوب جزيري + زنجي».
وقد انفرد الزنجي بحديث لدى ابن قتيبة له لدينا دلالة، فهو شقيق أفريقيش الذي فتح مصر وأفريقيا، وبه سميت أفريقيا، وهذا الزنجي هو المعروف باسم «العبد أبرهة»، وكلمة العبد في الكتابات العربية تساوي كلمة الكوشي في التوراة، والعبد أو الكوشي أو الزنجي أبرهة غير أبرهة المعروف في التاريخ الإسلامي بغزوة الفيل؛ لأن ذلك الأخير متأخر عن الأول بقرون طوال. وهذا الزنجي الكوشي العبد أبرهة قد حاز عند ابن قتيبة لقب «ذو الأذعار، وسمي بذلك؛ لأنه كان غزا بلاد النسنناس، فذعر الناس منه؛ فسمي ذو الأذعار». وبلاد النسناس هي بلاد القردة، ولعلنا لم نزل نذكر بلاد البابون في بونت بلوحات حتشبسوت، ثم ملك بعده حداد بن شرحبيل بن عمرو بن الرانش، وهو أبو بلقيس صاحبة سليمان عليه السلام».
15
ومن نسل حمير جاء السكاسك بن وائلة، ثم من السكاسك جاء «قيدار»، فيما قدر ابن قتيبة.
16
وقيدار جماعة عربية سكنت بدورها وادي عربة في أزمنة متأخرة، ثم من قيدار جاء غسان أو جاسان أبو الغساسنة، الذين سكنوا ذات المنطقة.
17
وهكذا كان بين الهكسوس عناصر وأجناس، خلطت بينهم أقدار التاريخ وشطحات الحراك الإنساني المهاجر، وتركت اسما دالا عليهم؛ فهم «الأحلاف» أو «الأخلامو»، والأكثر دلالة أنهم أطلقوا على أنفسهم اسما يشر إلى تحالفهم، وذلك إبان احتلالهم مصر، فقد أطلق مشايخ أو ملوك الهكسوس على أنفسهم اسم «الملوك الإخوة»؛
18
مما يشير إلى أكثر من ملك يحكم في نفس الوقت، وهو ما يؤكد ما قلناه حتى الآن عن إمبراطورية واسعة، يحكم كل إقليم منها ملكا معينا مختارا من قبل مجلس أحلاف الملوك الإخوة.
والآن ننتقل نقلة أخرى لمزيد من تضفير استنتاجاتنا، فنحن نعلم أن «الكشكشة» في اللسان العربي، تعني أن هناك عربا ينطقون الكاف «تش» أو «ش». ولو افترضنا أن ذلك قد حدث للكلمة «شاسو»، فأصلها سيكون «كاسو» أو «كاشو»، وهو ما يطابق اسم الهكسوس، فسيكون «هيك كاسو» بدلا من «هيك شاسو»، أو بالأحرى «هيكاسو» أو «هيكاسي»، وهو ما يفتح أمامنا بابا آخر لمعرفة أصل الهكسوس، وهو الباب الذي سيصادق تماما على ما وصلنا إليه حتى الآن، أما هذا الفرض فسيظهر الآن صحيحا تماما.
يقول «سليم حسن»:
عدت كل من هجرة الهكسوس وهجرة الكاسيين مشهدين من هجرة عظيمة جدا، وفدت إلى الشرق الأدنى في باكورة الألف الثاني قبل الميلاد. وأول ظهور معروف للكاسيين في بابل كان في خلال حكم الملك حمورابي 1947-1905ق.م. والظاهر أنهم كانوا في هذه الفترة سكانا مسالمين في هذه البلاد ، وعلى إثر موت حمورابي انتقل عرش الملك لابنه سامسو إيلونا، الذي صد في السنة التاسعة من حكمه غارات الكاسيين، الذين انقضوا عليه من الجبال. وعلى إثر غارة الخيتا على بابل، أضحت البلاد تحت سيطرة الأسرة الكاسية 1749ق.م.
19
وتقول الموسوعة الأثرية العالمية:
الكاشيون
Kassite
ترجع أهمية هذه القبيلة بخاصة إلى الدور الذي لعبته في تاريخ بابل، ويعتقد أن الكاشيين هم الكوشيون
Kossaeans ، الذين ذكرهم بطليموس المؤرخ، والكيشيون
Kissianas
الذين ذكرهم الكتاب الإغريقي الأقدم منه، وقد ذكرت السجلات أنهم هاجموا بلاد بابل في عام 1780ق.م. استولوا عليها وأسسوا فيها أسرة حاكمة استمرت أكثر من 570 عاما. ومن المحتمل أن الكاشيين أدخلوا الحصان حيوانهم المقدس في بلاد الرافدين.
20
ويتحدث «كارلتون كون» عن استعمال الأسلحة البرونزية والعجلات التي تجرها الخيول فيقول:
واستخدمتها أقوام غازية هاجمت البلاد (يقصد الشام) من مكان ما في الشمال في نحو 1700ق.م. وفي هذا الوقت غزا الهكسوس مصر وتولوا حكمها ... وغزا الكشيون وهم من الشعوب المتكلمة بلغة هندو أوروبية أرض العراق.
21
ويضيف «إيفار لسنر»:
ولم يلبث تتابع الملوك البابليين أن توقف عندما سيطر عليها الكاشيون
Kassires ، وهم شعب بربري من أصل غير سامي بعد موت حمورابي، وتوالى منهم على السلطة في عاصمة الفرات ستة وثلاثون ملكا بلغت مدة حكمهم 577 عاما.
22
أما التدقيق فمع المؤرخ العراقي الرصين «طه باقر»، وهو يخبرنا عن هؤلاء الكاسيين أو الكاشيين، الذين هاجموا بلاده واحتلوها، وفي الوقت ذاته - أو قريب منه - احتل الهكسوس مصر، حيث يقول:
انتهى حكم سلالة بابل الثانية الأولى على إثر غزو الحيثيين بلاد بابل في حدود 1594ق.م. وجاء الكشيون إلى بابل، وأقاموا سلالة حاكمة في البلاد عرفت باسم سلالة بابل الثالثة، التي دام حكمها زهاء أربعة قرون 1595-1162ق.م. واسم هؤلاء القوم الجدد من الكلمة البابلية كشو التي لا يعلم أصل اشتقاقها بالضبط. أما موطنهم الذي نزحوا منه؛ فيرجح أنه كان في مكان ما من الأجزاء الوسطى من جبال زاجروس الفاصلة بين العراق وإيران. والمرجح أن يكونوا هم القبائل الجبلية الذين ورد ذكرهم في المصادر الكلاسيكية باسم كوساي
Kossaioi . لم يخلفوا لنا من بعد حكمهم في العراق شيئا مدونا بلغتهم، بل إنهم اتخذوا اللغة البابلية. ولما برزوا في التاريخ بصفتهم قوة عسكرية في عهد سلالة بابل الأولى، اتجهوا في توسعهم - لعله بسبب ضغط أقوام أخرى إلى وادي الرافدين، ولكن خلفاء حمورابي ولاسيما سمسو إيلونا وأبي يشوخ استطاعوا أن يصدوهم، فاتجهوا عبر نهر ديالي ودجلة إلى الجهات الشمالية الغربية، وتمركزوا في منطقة الفرات الأوسط، أي في منطقة خانة القديمة. وأخيرا حانت الفرصة المواتية على إثر غزو الحيثيين لبابل، وهناك مشكلة تاريخية تعترض المؤرخ عن بدء الحكم الكشي في العراق، وعلاقتهم بالحيثين الذين غزوا بابل، فأولا أن بداية حكمهم لا تنطبق مع نهاية سلالة بابل الأولى؛ ولذلك فينبغي أن يكون الملوك السبعة الأوائل من السلالة الكشية، ابتداء من كنداش المعاصر لملك بابل سمسو إيلونا، قد حكموا خارج بلاد بابل، وأن السلالة الكشية بدأ حكمها في بلاد بابل؛ ابتداء من الملك الكشي المسمى آكوم الثاني/آكوم كا كريمه
Agum kakrime ، وأن هذا الملك هو الذي انتهز فرصة الغزو الحثي، فزحف على بابل في حدود 1595ق.م. لكن ماذا كانت علاقة هذا الملك الكشي بالملك الحثي مورشيليس؟ ... هل تحالف مع الملك الحثي، فكانت حملة عسكرية مشتركة على بابل؟ لعل التساؤل أقرب إلى الواقع التاريخي؛ لأنه يفسر لنا سبب انسحاب الحيثيين من بابل. إن الملوك الكشيين حكموا مملكة واحدة، من أقصى الجنوب إلى حدود بلاد آشور في الشمال ... وكان الكشيون أقلية حاكمة بالمقارنة مع الأغلبية من سكان البلاد. وأهم ما يميز العهد الكشي الطويل الأمد قلة ما وقع من أثنائه في اصطدامات حربية مهمة، سواء كان ذلك مع الآشوريين المجاورين أم مع دولة الشرق الأدنى المعاصرة، مثل دولة «ميتاني» في شمالي ما بين النهرين أم مع الدولة المصرية. اتخذ الملوك الأوائل من السلالة الكشية مدينة بابل عاصمة لحكمهم، لكنهم أسسوا في منتصف عهدهم تقريبا مدينة جديدة ضخمة، أطلق عليها اسم دور كوريكالزو، وتعرف بقاياها الآن باسم عقر قوف على بعد نحو 20 ميلا غرب مركز بغداد. ويشير اسم هذه المدينة الذي يعني حصن أو مدينة كوريكالزو إلى أن مؤسسها أحد ثلاثة ملوك سموا باسم كاريكالزو، شيدت في زمن قديم من العصر الكشي، يرجع إلى ما بين القرن الخامس عشر والرابع عشر ق.م. والملك كوريكالزو الثاني يرجح أن يكون هو الذي شيد برج المدينة «الزقورة». وبرج المدينة بقي من ارتفاعه الآن زهاء ستة وخمسن مترا (تعرفه الأساطير الدينية باسم برج بابل حيث بلبلت الألسن [المؤلف]). وقد تميزت جدران العهد الكشي بالضخامة المفرطة، فجدران قصر عقرقوف وجدران معابدها بلغ معدل سمكها ثلاثة أمتار، مشيدة باللبن الكبير الحجم. والاسم الجغرافي الجديد الذي أطلقوه على بابل هو كار دنياش؛ أي بلاد أو قطر دنياش وهو اسم أحد آلهتهم (ودونياش بدون التصرف الاسمي هو دون أو تون أو أدون [المؤلف]).
ويرى جمهور المؤرخين أن الكشيين هم الذين أدخلوا استعمال الخيل في بلاد وادي الرافدين، الأمر الذي أحدث تبدلات جوهرية في أساليب الحرب والقتال وسرعة المواصلات. وما قبل العهد الكشي لم تكن الخيول شائعة الاستعمال في العراق. جاء ذكرها في النصوص المسمارية، ولا سيما في عهد سلالة أور الثالثة 2112-2004ق.م. وقد دعيت في هذه النصوص
Anshu-Kar-Ra
أي حمار الجبل أو حمار البلد الأجنبي، ويرادف ذلك في اللغة الأكادية سيسو
Sisu . الكشيون استبدلوا طريقة التأريخ بالحوادث المشهورة المتبعة في العصور السابقة للعصر الكشي، بطريقة أسهل في تأريخ الحوادث وتقويمها هي التأريخ بسنى الملوك، فصاروا يؤرخون من السنة الأولى التي تعقب تتويج الملك الجديد. وشاع في العهد الكشي استعمال ما يسمى بأحجار الحدود، واسمها باللغة الأكدية كودورو
Kudurru
وانتشرت في العصر الكشي اللغة البابلية بخطها المسماري؛ بحيث اتخذت من هذه اللغة لغة للمراسلات الدولية الدبلوماسية بين ملوك الشرق الأدنى وحكامه، كما تدل على ذلك رسائل تل العمارنة الخاصة بفراعنة مصر في القرن الرابع عشر ق.م. حيث كان الفراعنة في أوج قوتهم واتساع ملكهم، فلا يمكن تفسير اتخاذ اللغة البابلية من جانبهم بتسلط أو نفوذ من الملوك الكشيين، وانتشر مع استعمال اللغة البابلية أدب وحضارة وادي الرافدين، وترجمت جملة قطع أدبية مشهورة مثل ملحمة جلجامش إلى اللغة الحثية والحورية.
23
وهنا يجدر التنبيه أن الأستاذ طه باقر، أكد أن تلك المكاتبات البابلية كانت فعلا بالخط المسماري، لكنها كانت باللغة الكارية أو الحورية حقا وصدقا.
ثم يقول لنا علم التاريخ إن هناك خطأ قديما تم إصلاحه في مؤلفات المؤرخين، حيث كان يطلق على ممالك بلاد الشام اسم الممالك الحثية الحديثة، لكن مع مزيد من الكشوف تأكد أنها كانت ممالك آرامية، تأثرت بشدة في فنونها بالتقاليد الفنية الحثية.
24
إذن الهكاشي أو الكشيون أو الكاشيون أو الكاسيون أو الكاشو، قبائل متبربرة هبطت على العراق القديم، وقضت على أسرة بابل الأولى، وحكموا البلاد 433 عاما، وليس معلوما لدى المؤرخين معنى اسمهم أو أصله. لكن المؤكد لديهم أنهم كانوا هجرة هندو آرية، وأنهم لم يدونوا شيئا بلغتهم الأصلية، واتخذوا من لغة بابل المكتوبة لغة لهم، وكان غزوهم بابل بعد غارة حيثية مفاجئة قدمت من الأناضول، قام بها الملك الحيثي «مورشيليش»، الذي هاجم البلاد وأسقط أسرتها الحاكمة، ليتركها للكوشيين أو الكاسيين دون أسباب مفهومة أو واضحة. أما الأكثر غرابة فهو أن بدء الحكم الكاشي لا ينطبق مع نهاية سلالة بابل الأولى، التي أسقطها «مورشيليس» الحيثي، مما أدى إلى استنتاج أن هناك سبعة ملوك كشيين حكموا في مكان ما خارج الرافدين قبل أن يحتلوه. والجديد هنا أن الملوك الكاشيين قد حكموا القطر جميعه موحدا، بينما كانوا أقلية حاكمة، ولم يتصادموا في معارك واضحة مع جيرانهم في منطقة المتوسط الشرقي، بل كانوا على وئام معهم، وإن أحد ملوكهم المعروف باسم «كوريكالزو الثاني» هو الذي شيد الزقورة أو البرج المشهور في بابل، وبقي منه بعد أن تهدم حوالي ستين مترا، وقد أطلقوا على بلاد الرافدين اسم «كار دويناش» أي قطر «دونياش»، وهو اسم إله لهم. ومن المرجح أنهم هم من جاءوا بآلة عسكرية جديدة على المنطقة، هي العربة العسكرية التي تجرها الخيول، حتى إن الخيول لم تكن معروفة في المنطقة قبل ذلك ، وكان الأكاديون في الرافدين يتحدثون عن رؤيتهم للكائن المعروف بالحصان، بحسبانه كائنا خاصا ببلاد أجنبية اسمه «سيسو»، وأسموه
Anshu Kar Ra
أي الحمار الجبلي، كما ابتدعوا تقويما جديدا يعتمد على التأريخ بسنى حكم الملوك، وأن الكاسيين أو الكاشيين قد أخذوا الخط المسماري واللغة البابلية وطوروها واستخدموها. ولأسباب غير معلومة أصبحت تلك اللغة لغة عالمية. ويرفض «طه باقر» وجلة المؤرخين أن يكون ذلك بسبب قوة وتسلط أو نفوذ للكاشيين خارج الرافدين، وأن هناك آدابا بابلية مكتوبة بالخط المسماري، قد وجدت خارج الرافدين (كما في تل العمارنة بمصر)، ولكن باللغة الحورية.
وهنا عدة مسائل بحاجة إلى توضيح وحلول، تتمثل في تساؤلات بسيطة لكنها إشكالية في التاريخ أهمها:
من هم «الكاشيون/الكاسيون/الهكاشيون» الذين احتلوا الرافدين ما يزيد على أربعة قرون؟
ما هي علاقتهم بالحيثيين والملك الحيثي مورشيليش؟ وما هو السر الذي دفع الملك الحيثي لفتح بابل، وتركها ببساطة للحكام الكاشيين الذين أصبحوا قلة حاكمة في بلاد الرافدين.
لماذا لم يدونوا شيئا بخطهم وأخذوا الخط واللغة البابلية وطوروهما، وكتبوا بهما اللغة الحورية؟ فهل لم يكن لهم خط أصلا ولم يعرفوا الكتابة؟
كيف نفسر الفجوة الزمنية بين ما دونته المراجع الكوشية عن بدء حكمهم، والفارق الزمني بين هذه البداية وبين نهاية حكم الأسرة البابلية الأولى؟ وإذا كان الملوك السبعة الأول قد حكموا خارج البلاد؛ فأين كان حكمهم هذا؟
معلوم أن بلاد بابل لم تقم دولة مركزية مستقرة متماسكة، للقطر جميعه إلا في حالات نادرة وقصيرة، لكن زمن الكاشيين كان القطر كله وحدة مركزية واحدة، فكيف نفسر ذلك؟
ومعلوم أن العراق القديم كان دوما مفتوحا على جيرانه في معارك هجومية أو دفاعية طوال الوقت، وهو مال لم يحدث زمن الحكم الكاشي، لماذا؟
نعلم من المأثور الديني الإسرائيلي والإسلامي، أن باني برج بابل هو المعروف باسم نمروذ بن كوش، ونعلم من التاريخ أن بانيه هو كوريكا لزو الثاني، فهل كانا شخصا واحدا؟
من أين جاء الكاشيون بحمار الجبل «سيسو» أو الحصان؟
وسبق وافترضنا أن الشاسو المذكورين في المدونات المصرية ، هم الكاشو أو الكوشيون الذين تموضعوا في بلاد آدوم، فهل ثمة علاقة بين هؤلاء الكاشو أو الكاشيين وبين محتلي بلاد الرافدين، باسم الكاسو أو الكاشو أو الكاشيين؟
مجموعة من التساؤلات لا إجابة واضحة عليها، إلا بمزيد من البحث وراء تلك الهجرات التي غمرت المنطقة، نضيف إليها الآن مزيدا من التساؤلات الإشكالية التي تتمثل في العنصر الحليف للعنصر الكوشي، أقصد: الحيثيين، وهو ما سيزيد من البلبلة، لكنه واسطة العقد لحل كثير من الإشكاليات.
في الوعد المعروف بالكتاب المقدس، الذي قطعه الرب على نفسه لخليله إبراهيم يقول النص:
في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقا قائلا: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات: القينيين والقنزيين والقدموينين والحيثين والفرزيين، والرفائيين والأموريين والكنعانيين والجرجاشيين واليبوسيين. (تكوين، 15: 18-21)
من بين الشعوب والقبائل التي يعددها المقدس التوراتي، لسكان المنطقة الممنوحة لإبراهيم ونسله، نجد ذلك الاسم (الحيثيين)، ثم تتواتر النصوص المقدسة لتؤكد أن العنصر الحيثي كان عنصرا قائما ومستقرا في أرض فلسطين، بل كانوا ملاكا للأراضي، لكنهم في الوقت نفسه يظهرون كما لو كانوا عنصرا غير أصيل بالمنطقة؛ لأن أرض فلسطين كانت تخصص بكونها أرض كنعان تحديدا.
والملاحظة المهمة بشأن الحيثيين، في النصوص التوراتية، هو الهيئة السيادية التي يتخذها الحيثيون هناك، التي أوجبت على البطرك إبراهيم السجود لأشخاص عاديين من بينهم، وهو يطلب منهم شراء مغارة بفلسطين، ليدفن فيها جسد زوجته سارة، والنص يقول:
وماتت سارة في قرية أربع التي هي حبرون في أرض كنعان ... وقام إبراهيم ... وكلم بني حث قائلا: أنا غريب ونزيل عندكم، أعطوني ملك قبر معكم لأدفن ميتي ....
فقام إبراهيم وسجد لشعب الأرض لبني حث ... وبعد ذلك دفن إبراهيم سارة في مغارة حقل المكفيلة، أمام ممرا التي هي حبرون في أرض كنعان، فوجب الحقل والمغارة التي فيه لإبراهيم ملك قبر من عند بني حث. (تكوين، 23: 20، 19، 7، 4، 3، 2)
والواضح في التوراة من البدء أنها تنسب أرض فلسطين إلى الكنعانيين دوما، وإلى الأموريين أحيانا، لكنها تجعل الحيثيين عنصرا أصيلا فيها، فشجرة الأنساب التوراتية تجعل الحيثيين أبناء كنعان بن سام بن نوح، فتنسب لكنعان بن سام ابنا اسمه «حثا» (تكوين،10: 15)، مع إشارة أخرى تجعل أورشليم رمزيا بنت سفاح لأم حيثية من رجل أموري.
قال السيد الرب لأورشليم: مخرجك ومولدك من أرض كنعان أبوك أموري وأمك حيثية. (حزقيال، 16: 3)
وقد قصد النص إيضاح أن أورشليم رمز الشعب الإسرائيلي نفسه، هجين من شعبين متباعدين: الأب أموري وعرفناه حموري عموري قادما من جنوب الجزيرة والأم حيثية.
وظل الحيثيون يتواجدون كعنصر هام وبارز في فلسطين، حسبما جاء بالكتاب المقدس، إلى زمن يبعد إلى ما بعد ملك سليمان، وكان أبرز قواد جيش داود من العنصر الحيثي «أوريا الحيثي مثلا»، كما تزوج ولده سليمان من نساء حيثيات (ملوك أول، 11: 1)، والأموريون كما قلنا كانوا عنصرا جنوب جزيري قادما برفقة الكوشيين، بينما الحيثيون من أصول شمالية هندوآرية فصيحة.
وقد سبق وأوردنا نصا يوزع عناصر سكان فلسطين على خريطتها (سفر العدد، 13: 27-32)، ويجعل الحيثيين من سكان جبال فلسطين، ولدينا هنا نص آخر يجعلهم يشغلون جميع المساحة الشمالية الواقعة بين جبال لبنان ونهر الفرات، وجبال لبنان في التوراة كان اسما يطلق على جبال فلسطين، بدءا من الكرمل وصولا إلى جبال لبنان الشمالية، والنص يقول ليشوع خليفة موسى بلسان الرب:
قم واعبر هذا الأردن أنت وكل الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لهم ... من البرية ولبنان هذا إلى النهر الكبير نهر الفرات، جميع أرض الحيثيين، وإلى البحر نحو مغرب الشمس يكون تخمكم. (يشوع، 1: 2، 4)
وهذا إنما يعني احتلال الحيثيين لجبال فلسطين، التي تعد امتدادا جنوبيا طبيعيا لجبال لبنان، وإننا كلما اتجهنا شمالا اتسعت الرقعة التي يشغلونها بالمنطقة، نحو نهر الفرات ونحو البحر المتوسط. لكن المثير للاضطراب والدهشة معا، أننا نجد نصوصا أخرى لا تشير إلى الحيثيين باعتبارهم يعيشون فقط خارج فلسطين، بل إن لهم ممالك ودولا، وهو ما نجد التوراة تقوله في أزمنة تالية أحدث، حول استيراد سليمان للخيل من مصر، والتجارة بها مع «ملوك الحيثيين وملوك آرام» (أخبار الأيام الثاني، 1: 17)، وهو الأمر الذي يتكرر في نص آخر يقول: «وكان مخرج الخيل التي لسليمان من مصر ... وكانت المركبة تصعد وتخرج من مصر بستمائة شاقل من الفضة، والفرس بمائة وخمسين، وهكذا لجميع ملوك الحيثيين وملوك آرام» (ملوك أول، 10: 29)، ثم بعد زمن سليمان أيام ملوك مملكة اليهود المنقسمة إلى إسرائيل شمالا ويهوذا جنوبا، نجد نصا يؤكد ذات المعنى، جاء في معرض الحديث عن حرب جرت بين الملك الآرامي بنهدد وبين مملكة إسرائيل الشمالية، عندما فر الجيش الآرامي من المعركة هاربا، لما سمع جنوده ضجيجا هائلا لسلاح وعربات وخيول، وقال أفراده بعضهم لبعض: «ها هو ذا ملك إسرائيل؛ فقد استأجر ضدنا ملوك الحيثيين، وملوك المصريين ... فقاموا وهربوا في غبش الليل» (ملوك ثاني، 7: 6، 7).
الحيثيون بهذا الشكل مشكلة، فهم ملوك على دولة تقع خارج فلسطين، بل وملوك أقوياء يثيرون الفزع، وهو لغز كبير لا يمكن فهمه، في ضوء احتساب التوراة في أسفار أخرى، أن العنصر الحيثي عنصر يعيش في فلسطين الكنعانية، ويتناثر في أنحاء أخرى حولها.
هذا ما كان عن نصوص المقدس التوراتي، أما علم التاريخ فيروي لنا رواية أخرى مبهرة، لكنها للأسف ستزيد الأمر غموضا واضطرابا وإلغازا، فقد جاء في نصوص مصر القديمة، ما يشير إلى علاقات وطيدة لملوك مصر مع ملوك دولة، تسمى «خيتا» التي ترجمت أيضا إلى الحيثيين، وهناك أيضا نصوص مشهورة لمعاهدة سلام جرت بين الفرعون «رمسيس الثاني» وبين الملك الحيثي «حاتوشيليش» بعد معركة قادش الشهيرة. وقبل ذلك بسنوات، في الأسرة الثامنة عشرة، تقدم الفاتح الأعظم في تاريخ الشرق القديم «تحتمس الثالث» 1490-1436ق.م. شمالا متجاوزا سوريا، ليعبر الفرات الأعلى في هضبة الأناضول خلال القرن الخامس عشر قبل الميلاد، ليضرب قوما جاء اسمهم في مدوناته «أهل خيتا».
وقبل ذلك بقرون، حوالي عام 2200ق.م. حارب «نرام سين» رابع ملوك أسرة أكد
Akkad
الرافدية، حلفا مكونا نم سبع عشرة ملكا، بينهم ملك باسم بامبا
Bamba ، وصفته نصوص الرافدين بأنه ملك حاتي، وضمن الحلف ملك آخر، لكنه آموري اسمه «حوار واس
Huwruwas »، وهو الاسم الذي يعبر لدينا عن أصل حوري واضح. وبعد ذلك بما يزيد على ألف عام، أي حوالي 1100ق.م. نجد في نصوص الملك الآشوري تجلاتيبليزر الأول، أن سوريا الشمالية العليا تظهر باسم خاتي، وأن عاصمتها زمن تجلاتيبليزر كانت مدينة قرقميش داخل الحدود التركية الحالية، وهي ذات العاصمة التي اجتاحها قبل ذلك تحتمس الثالث زمن فتوحاته الكبرى.
25
واضح إذن أن المادة المتجمعة لدينا حول العنصر الحيثي تتفجر بالتناقضات الحادة، فالكتاب المقدس يظهر الحيثيين كعنصر كنعاني يسكن فلسطين مرة، ومرة أخرى يظهرهم كقوة كبرى لها ملوك أقوياء خارج فلسطين. وعلم التاريخ يوضح لنا أنهم كانوا سكان الأناضول التركي ولا علاقة لهم بفلسطين، بل يجب استبعاد هذه العلاقة تماما؛ لأن الوثائق الحيثية المكتشفة حتى الآن، لم نجد بها ما يشير إلى هبوط الجيوش الحيثية جنوبا، في أوج عظمة المجد الحيثي، لأبعد من دمشق جنوبا، ولا نجد إشارة واحدة لدخولهم فلسطين إطلاقا. وحتى المنطقة التي خضعت للحيثيين من بلاد الشام، فكانت على حساب التوسع الحيثي الحدودي الجنوبي، واقتصرت على المنطقة الواقعة شمالي قادش على نهر العاصي. ويقول المؤرخون إنه بعد انهيار دولة الحيثيين وتفككها إلى دويلات، لم نجد بين تلك الدويلات الحيثية دويلة واحدة تقع إلى جنوب حماة السورية، وقد شكلت مملكة دمشق الآرامية الناهضة حينذاك، حاجزا بين الدويلات الحيثية شمالها وبين فلسطين جنوبها، حتى صرح «جرني» أهم باحث في تاريخ الحيثيين بقنوط بالغ: «إن وجود الحيثيين في فلسطين قبل غزو إسرائيل لها (يقصد قبل خروجهم من مصر وغزوهم فلسطين [المؤلف]) يثير مشكلة عجيبة. وتجمع المعلومات المتزايدة عن أهل حاتي لم يوضحها، وإنما جعلها أكثر تعقيدا.»
26
ومن هنا أخذ «جرني» - حلا للمشكلة - بالفرض الذي قدمه زميله «فورر»، واعتبره جرني حلا بارعا؛ إذ يرجع «فورر» إلى سكان الأناضول قبل الحيثيين والمصطلح على تسميتهم «بروتوحيثيين» أحيانا و«الحاثيين
Hattians » أحيانا أخرى، وأن لغتهم التي تكلموها أطلق عليها الحيثيون من بعدهم اسم لغة خاثيلي أو حاتيلي
Hattili ، وينطلق «فورر» من ذلك إلى افتراض أن تلك اللغة كانت في وقت ما وسيلة تخاطب في منطقة واسعة جدا شملت فلسطين، وربما كان يقصد ما أشرنا إليه حول اللغة الكارية الحورية، وأن الحيثيين الذين رحل بعضهم من الأناضول جنوبا وسكنوا فلسطين زمن الخروج حسبما نفهم من التوراة، إنما كانوا بروتو حيثيين يتكلمون اللغة الخاتيلية، وأدت ظروف لا نعلمها لاستمرار بقائهم في فلسطين، فأسماهم المأثور التوراتي باسم لغتهم، وهي اللغة التي استخدمها الحيثيون، فأصبحوا بذلك حيثيين يسكنون فلسطين في التاريخ التوراتي.
27 (لاحظ هذا نموذج حل المشاكل السريع لدى المؤرخين المتخصصين).
وتدلنا رسائل تل العمارنة المصرية المحفوظة في مدينة إخناتون، على أن العالم في ذلك الوقت حوالي «1370ق.م. زمن آمنحتب الثالث وولده إخناتون»، كانت تتقاسمه أربع دول كبرى هي: «مصر» التي امتدت سيطرتها إلى فلسطين وسوريا، و«بابل» التي حملت في ذلك الزمن اسم كاردونياش، و«ميتاني» المملكة الحورية الخورية التي تواضع المؤرخون على وضعها على حوض الفرات الأعلى بين الفرات والخابور، وكانت تحكمها طبقة أرستقراطية من أصل هندوأوروبي، ثم المملكة «الحيثية» في بلاد الأناضول.
وقد ظل أمر مملكة الأناضول الحيثية مجهولا، فقط كنا نعرف أن هناك شعبا اسمه الشعب الحيثي يعيش بفلسطين، وذلك من الكتاب المقدس، حتى تم اكتشاف رسائل تل العمارنة عام 1887م، وتحوي رسائل دبلوماسية وإدارية واردة إلى الملك آمنحتب الثالث وولده إخناتون، وتغطي الفترة ما بين 1370 و1348ق.م. ورسائل كتبها ولاة مصر في سوريا وفلسطين، وقد جاءت في تلك الرسائل إشارات متعددة لملك على دولة اسمها «حاتي»، وإلى تحركات جيوش حاتي. كما تم العثور على خطاب كتبه الملك الحيثي «شوبيلو ليوماش»، يهنئ فيه «إخناتون» لتوليه العرش، لكن شوبيلو ليوماش ظل ملكا مجهولا لدولة مجهولة حتى عام 1872م، حين تمكن «وليم رايت» من نقل خمسة أحجار كانت ضمن أحجار منازل مبنية في حماة السورية وفي حلب، بعد أن اكتشف عليها هيروغليفية شبيهة بالمصرية، لكنها ليست مصرية، فأطلق عليها اسم الخط الحاماتي
Hamathit
نسبة إلى حماة؛ حيث عثر على الأحجار. ولم يمض غير بضع سنوات حتى تم اكتشاف نقش صخري عظيم، على ترعة إفريز
Ivriz
في جبال طوروس مدون بالخط الحاماتي، وهو ما وجه الاهتمام إلى آثار وأطلال ونقوش كانت مهملة، وتقع عند بوغاز كوي
Boghaz Koy
والجاهويوك
Alaja Huyuk
عند منحنى نهر الهاليس
Halys
المعروف الآن باسم «قيصل يرموق» في شمال تركيا الحالية.
لفتت أنظار الباحثين بوابة حجرية كبرى، يقف على جانبيها تمثالان لأبي الهول، فبدأت حفائر المتحف البريطاني عام 1879م لتكشف عن كثير من النقوش الهيروغليفية الحاماتية، حتى تمكن «هوجو فنكلر
Hugo Winckler » من الحصول على تصريح بالحفر سنة 1906م في بوغاز كوي ليكتشف كشفه الهائل، حيث عثر على حوالي 10000 لوح مسماري مكتوبة بلغة غامضة، تشبه ما عثر عليه في مكتبة رسائل تل العمارنة.
وبالبحث الدءوب أعلن أن تلك الثروة الهائلة، ترجع إلى عاصمة لمملكة عظمى كان مقر عاصمتها، حيث عثر على تلك الألواح، أي في بوغاز كوي التي اكتشف أنها عاصمة تلك المملكة - وكانت تحمل اسم خاتوشاش
Hattusas
أو «حاتوسا»، وأن تلك المملكة كانت تعرف في زمانها بمملكة الحيثيين، وأنها استخدمت في الكتابة خطها الهيروغليفي. أما العجيب فهو أن الألواح الهائلة العدد، فقد تم التأكد أنها كتبت بخط آخر، وباللغة الحورية التي كتبت بها ألواح العمارنة في مصر. وكان المؤرخون يعلمون أن هناك دولة مجهولة، دفعت الجزية للملك رمسيس الثاني كانت تحمل اسم «خيتا العظمى»، لكنهم افترضوا لها موقعا في بلاد سوريا إلى جوار «ميتاني» المزعومة، حتى أعاد ذلك الاكتشاف العظيم الأمور إلى نصابها، ثم تتالت الاكتشافات المبهرة في العاصمة «خاتوشاش» الواقعة على مبعده مائة ميل شرقي أنقرة الحالية. ولما كان قد وضح أن الحيثيين يصرفون الأسماء بحرف «ش
SH » و«تش
CH » تلحق بنهاية الاسم، فإن اسم العاصمة دون تصريف يصبح «خاتوشا» أو «حاتوسا»، وهو اسم يحمل في طياته اسم الحيثيين.
ومن الرسوم والنقوش وبقايا جماجم هؤلاء القوم، أمكن تكوين فكرة واضحة عن سماتهم الجسدية، فهم قوم مكتنزون، عظام أوجههم بارزة، أنوفهم طويلة قليلا وأشبه بمنقار الببغاء، ذقونهم قصيرة.
واكتشف أنه في ذات المكان وقبل ظهور الحيثيين أو مجيئهم من مكان ما في الشرق، كان يعيش قوم يتحدثون لغة باسم الحاتيلية ويطلقون على أنفسهم عبارات: رجال حاتي، نساء حاتي، أبناء حاتي، ويرى «إيفارلسنر» أنه من هنا جاء اسم الحيثيين، الذي أطلق على الأقوام الجديدة التي احتلت الأناضول، وتركت لنا هذا التراث العظيم. ويرى «مورتمارت» و«زومر» أن ثقافة الحيثيين جميعا تعود إلى أبناء حاتي الأصليين، مما يشير إلى أن الحيثيين حين وفدوا على الأناضول كانوا بلا ثقافة محددة تقريبا، فأخذوا بثقافة البلاد التي احتلوها. وقد أكد ذلك «بيتل» الذي عاش سنوات في خاتوشا يبحث، ليكتشف أن الحيثيين الذين سيطروا هناك كانوا متخلفين ثقافيا عن السكان الأصليين، وبعد ذلك اكتسبوا حضارة الحاتيين وتشربوها.
28
ويحيطنا «وليم كون» بخبر شديد الأهمية لعملنا هذا، فيقول: إن الحيثيين كانوا أول أمة عرفت خام الحديد واستخرجته وصنعته، وأنهم كانوا يتكلمون لغة هندوآرية. ويبدو أن معرفة تعدين هذا المعدن، كانت كشفا خاصا بهم عرفوه من قبل في وطنهم الأصلي الذي هاجروا منه بوسط آسيا. أما السمة الأخرى التي لا تفوتنا، فهي أن الخيل لم يظهر في المنطقة الشرق أوسطية، وكذلك العربة التي يجرها الخيل، قبل ظهور الحيثيين فيها. ويبدو لنا أن إشارات أهل الرافدين إلى حمار البلد الأجنبي أنشوكرا
Ansha-Kar-Ra ، كانت نتيجة مشاهداتهم له في بلاد جيرانهم الجدد في شمالهم التركي. وقد ثبت أنهم أقدم أمة عرفت الحديد وتصنيعه، من رسالة وجهها الملك الحيثي حتوشيليش إلى ملك من أصدقائه، يعتذر له عن تلبية طلبه؛ لأن موسم إنتاج الحديد ذلك العام كان رديئا، مع وعد بإرسال المطلوب إلى أخيه الملك، حالما ينتهي الصناع من ذلك.
29
وفي الموسوعة الأثرية العالمية نجد تحت مادة عصر الحديد
Iron Age ، إشارة إلى خطاب وصل الفرعون رمسيس الثاني من الملك الحيثي، يقول إنه قد أرسل إليه خنجرا حديديا يليق بالملك، وتشير الموسوعة إلى أن الحديد وصل بلاد اليونان قادما من منطقة تقع في محيط بحيرة فان وبحيرة قزوين، وأنه حول ذلك الوقت عرفت المملكة الحورية المجاورة للحيثيين صناعة الحديد منهم (الموسوعة تذهب مع الفرض المعتاد في وضع المملكة الحورية «ميتاني» بأعالي الرافدين بين الفرات والخابور، بجوار الحيثيين جنوبا منهم مباشرة)، وأن من منتجات الحديد الميتاني ذلك الخنجر المحلى بالذهب والأحجار الكريمة، الذي تم العثور عليه في مقبرة «توت عنخ آمون».
30
وقد عبد الحيثيون إلها يظهر في هيئة رب جنود، في نقش يؤكد معرفتهم المبكرة للعجلة والحديد، فهو يركب عجلة قتال ممسكا ببلطة حديدية في يد، وبالصاعقة في يد أخرى يركض بها على قمم الجبال،
31
فهو إله رعد وبرق مثل البعل، ويرمز له بدوره بالثور، ثم تنسب له الأساطير الحيثية أنه هو الذي قتل التنين المتعدد الرءوس المعروف باسم لواياثان،
32
وهو ذات الفعل التأسيسي الذي قام به الإله في الديانة الكنعانية، عندما قتل تنينا بنفس الصفات وبذات الاسم، في ملحمة البعل التي عثر عليها في أوغاريت/رأس شمرا، ثم كرر الإله يهوه ذات البطولة بقتلة لواياثان الحية المتعددة الرءوس بالكتاب المقدس (للمزيد ارجع لكتابنا: الأسطورة والتراث).
ومع دراسة الوثائق الحيثية أمكن معرفة أنهم كانوا يحبون الرجوع إلى أصل ملكي مع أول ملك لهم باسم لابارناس
Labarnas ؛ لذلك يبدأ المؤرخون به تاريخ الحيثيين، ويقولون إنه في عهد خليفته خاتوشيليس الأول
Hattusilisi ، تم نقل العاصمة من مدينة باسم كوسارا إلى خاتوشا أو حاتوسا (بوغاز كوي)، وبعده بدأت المملكة تتسع، وتخرج جيوش مملكة حيثي من خلف الحواجز الجبلية في طوروس نحو الجنوب، اصطدمت بداية بمملكة يمخد
Yamhad
الغنية، وكانت عاصمتها حلب
Aleppo
الحالية، وذكرها الحيثيون باسم خالاب
Khalap ، وفي عهد الملك الحيثي مورشليش قام الحيثيون بغزوة على مملكة بابل، وأسقطوا دولة بابل الثانية، حيث نجد في آثارها نصا يؤكد تلك الغزوة يقول: «إلى شمشو ديتانا زحف رجال حاتي، وزحفوا إلى بلاد أكد.» وقد ربط ذلك الحدث بين ثبت التاريخ البابلي وثبت التاريخ الحيثي،
33
وبدأ تأريخ الحيثيين من ذلك العام أي حوالي عام 1594ق.م. لكن الغريب الذي يشكل لغزا غير مفهوم، هو انسحاب الحيثيين من بابل بعد فتحها، ليتركوها فريسة لغزاة عرفهم التاريخ الرافدي باسم الكاسيين، فاحتلوا بابل عام 1595م في إثر الغارة الحيثية مباشرة، وسيطروا عليها أربعة قرون متصلة، حتى عام 1162ق.م.
34
ولمزيد من الدهشة لا يأتي عام 1400ق.م. حتى نجد الثقافة الحورية واضحة تماما من بلاد الأناضول شمالا حتى العقبة جنوبا عند آدوم.
35
وفي عهد متأخر زمن الملك الحيثي «تود خالياش الرابع» ثم «آرندوانداس الرابع»، تظهر في غربي الأناضول قوة جديدة حول الجزر اليونانية «الفريجيون»، في موجة هجرة كاسحة نحو الشرق والأناضول، قادمة من جزر بحر إيجة وكريت وسردينيا، وتهاجم مصر في نفس الوقت لكنها تنكسر هناك،
36
ولا تستطيع الدخول وتتالى الضربات على الدول الحيثية، بينما في ذات الزمن تقص علينا سجلات «رمسيس الثالث»، كيف أن الجزر اليونانية اضطربت، وكيف غزت تلك الجزر الأناضول وهرب الحيثيون وشعوب أخرى إلى الجنوب السوري، ليصبح الفريجيون سادة الأناضول بعد الحيثيين، لتنتهي الدولة الحديثة، وتبقى ثقافتها في المقاطعات الجنوبية السورية ضياء غسق باهت، استمر حوالي خمسة قرون. بينما استمرت وثائق آشور تشير لسوريا وطوروس باسم بلاد حاتي، التي سقطت بعد ذلك بزمان في قبضة الآشوريين، لينتهي ذكر الحيثيين وثقافتهم من التاريخ، وينسى عالم الإنسان ذلك الشعب وتلك الإمبراطورية، ويظل ذكرهم في الكتاب المقدس حكاية أسطورية لا معنى لها. واحتسبوا في أحيان أخرى مجرد قبائل كأي قبائل، كانت تعيش في منطقة فلسطين وجنوبها، وعندما توغل الرحالة الإغريق بعد ذلك في بقاع تركيا، وجدوا هناك مقاطعات آشورية فحسب، لا وجود لاسم حاتي والحيثيين،
37
وظل ذكرهم في الكتاب المقدس يثير سؤالا محيرا لزمن طويل: من هم الحيثيون؟ وحتى بعد اكتشاف دولة الحيثيين ووثائقها، ظل وجود الحيثيين بفلسطين مشكلة تستعصي على الحل، حيث لم يقدم لنا التاريخ كعلم ما، يفيد بأن الحيثيين قد دخلوا فلسطين أو ضموها لإمبراطوريتهم يوما ، ولم يبق مفهوما بالكتاب المقدس، تلك النصوص التي وردت في سفر ملوك ثاني (7: 6) وأخبار أيام الثاني (1: 17)، وتتحدث عن ملوك الحيثيين وحيث إن زمن ملوك إسرائيل يقع بعد عام 1000ق.م. فهو ما يعني أن المقدس التوراتي كان يحدثنا عن مماليك حيثية، بينما لم تكن هذه المماليك موجودة حينذاك، وهي الإشارة التي رآها عالم الحيثيات «جرني»، تتحدث عن مقاطعات سورية ظلت حيثية الثقافة واللغة، بعد سقوط دولة الحيثيين بخمسة قرون تقريبا ، وقتما كانت الوثائق الآشورية تشير لتلك المقاطعات السورية الشمالية باسم «حاتي»،
38
وهو بدوره ما لا يفسر وجود الحيثيين داخل فلسطين كعنصر ضمن عناصر الشعوب المقيمة فيها.
وإضافة لمشكلة وجود الحيثيين كعنصر مستوطن أصيل بفلسطين، فإن هناك أمرا آخر يشكل لغزا، فحيث سجلت المصادر الحيثية أن دولتها القديمة التي أسسها «لابرناس» كانت دولة إمبراطورية، ولا نجد شيئا واضحا في مدونات المنطقة الأخرى، عن توسع الحيثيين فيما عدا وصوله سوريا، وإسقاط الملك الحيثي مورشيليش لدولة بابل الثانية، ثم انسحابه دون سبب واحد واضح، ليتركها طواعية لغزو آخر مجهول الشأن يستولي عليها، جاء ذكر أصحابه باسم العنصر الكاسي أو الكوشي، هذا ناهيك عما ذكرته النصوص الحيثية، أن جزيرة ألاشيا/قبرص كانت تابعة للحيثيين، وهو ما يراه «جرني» أمرا غير مفهوم؛ لأننا لو صدقناه فذلك يعني خروج الحيثيين من وراء جبال آسيا الصغرى،
39
ومعنى ذلك أنهم قد بدءوا تكوين إمبراطورية لم تزل التفاصيل بشأنها مجهولة تماما.
هنا يمكن العثور على طرف الخيط في شبكة الخيوط المعقدة، التي أدت إلى تضارب شديد في تحديد الأصل الجنسي للهكسوس، وهو ما سيساعد بعد قليل في تفسير وجود المفردات والصياغات الهندو الآرية إلى جوار السامية فيما تركه الهكسوس من آثار قليلة، كما يمكن أن يساعد في حل مشكلة الموطن الأصلي للهكسوس، والتي تأرجحت بدورها بين جنوبي جزيرة العرب وبين محيط قزوين في أرمينيا، ثم تفسير مذهب بعض المؤرخين القائل بأصول إفريقية للساميين، استنادا لمقاربات لغوية مقنعة. فكما قلنا ذهب فريق كبير إلى أن جزيرة العرب كانت أصلا منشأ الساميين ، ثم خالفهم فريقان: الأول يقول بمجيء الساميين من بلاد أرمينيا، والثاني فريق يتوارى في الظل، ذهب إلى أن الوطن الأصلي للساميين هو شمال شرقي أفريقيا (سيناء)، حيث عثر على أدلة لغوية بالكتابة المعروفة بالسينائية، وأن تلك الكتابة تجمع سمات سامية مع سمات مصرية قديمة في اللفظ وفي المعنى، وأن تشابه السامية مع المصرية بعد ذلك يمتد إلى اللغة القبطية ولغات البربر والكوشيين والصومال وأثيوبيا. كما أن العنصرين السامي والحامي يتشابهان في الصفات الجسدية، خاصة إذا ما نظرنا إلى جنوبي بلاد العرب وبلاد أثيوبيا، حيث لم تكن الحبشة منفصلة عن اليمن، وكانتا تحسبان دولة واحدة رغم مضيق المندب بينهما، وأطلق اليونان عليهما معا اسما واحدا هو «أثيوبيا».
40
أما الحيرة الناتجة عن الحلف الهكسوسي العظيم؛ فقد تجلت في قول صموئيل لانج: «من الأمور التي يحوم حولها قدر كبير من الشك معرفة أصل هؤلاء الغزاة الذين عرفوا بالهكسوس أو ملوك الرعاة، وقد كانوا يتألفون على الأرجح من قبائل بدوية من الكنعانيين والعرب وعناصر سامية أخرى، لكن يبدو أن الحيثيين الطورانيين، كانوا على صلة بهم، وأن قادتهم (أي قادة الحلف الهكسوسي [المؤلف]) كانوا من الطورانيين «سكان الأناضول [المؤلف]»، إذا حكمنا بما نشاهد من صور وتماثيل ملكين من آخر أسرة من الهكسوس، كشفهما حديثا نافيل
Naville
في بوباسطة، وتدل دلالة قاطعة على أنها طورانية الملامح بل أصيلة.»
41
وهي الحيرة ذاتها التي تضاعفت بعد كشف مدينة أوغاريت في رأس شمرا بجوار اللاذقية، «فقد كشفت الألواح أن شعب أوغاريت الصغير هذا، قد تمازج فيه أكثر من شعب وعنصر؛ فقد كانت فيه في وقت واحد قبائل وجماعات أكادية وحيثية ومينوية ومصرية وعمورية، لكن الجماعة الأكثر عددا كانت جماعة الحوريين.»
42
ويقول الأركيولوجي «شيفمان»: «وكان التخاطب في أوغاريت يتم بلغتين محليتين هما: السامية التي يسميها علم الساميات المعاصر بالأوغاريتية وبالحورية. أما اللغة الثانية فهي الأكادية التي اقتبست عن بلاد الرافدين، وقامت بدور الوسيط العام كوسيلة للتخاطب المكتوب بين الدولة الأوغاريتية وبقية الدول، وبين الجماعات الإثنية، وكذلك كانت لغة الشئون العملية والمراسلات .» ثم يعود إلى اللغة الحورية ليقول: «كانت اللغة الحورية نسيبة اللغة الأوغاريتية وعدد آخر من لغات شمال القفقاس المعاصر.»
43
وهكذا بعد أن أكد لنا شيفمان أن الحورية لغة سامية، يعود ليقول إنها نسيبة لغة شمال القفقاس، وهي لغة هندو آرية (؟!)، دون أن يشعر بأي اختلال (؟!)
وما يعضد أمرنا من وثائق أوغاريت (تل شمرا الآن على الساحل السوري)، ذلك النص الذي يشير إلى خضوع المدينة مكرهة لمحتل غريب الشأن، هو مزيج من الكوشيين والحوريين والحيثيين والقبارصة، وأنهم ينتمون إلى مدينة جامعية واحدة، والنص يتحدث عن قربان يتقدم به شعب أوغاريت للإله. والنص يقول:
ويقدمون ضحية حمارا ويغني ابن أوغاريت الأغاني، ويزينون أطراف الجدران في أوغاريت، ويتزين «بامعان» ويتزين «عروماتو» ويتزين ... (تلف بالنص) ويتزين «نقمد».
وقبائل الحوريين
وقبائل الحيثيين
وقبائل الآلاشين (آلاشيا هي قبرص [المؤلف])
والقبائل المكروهة، القبائل التي نهبتكم، القبائل التي أذلتكم.
قبائل المدينة المتسلطة
ها نحن نقدم قربانا ونذبح ذبيحة، فليعلو هذا الحمار إلى قبيلة أبناء «إيلو».
44 (أبناء إيلو أي أبناء الله [المؤلف])
ثم نتابع السعي وراء كل ما يؤيدنا، فنجد وثائق مدينة دولة «إيبلا»، التي تعود بتاريخها إلى نهاية الألف الثالث قبل الميلاد، تحدثنا عن مجتمع باسم ديتانو بالكتابة «ديدانو»، ويقول «شيفمان»: إن هذا الاسم أطلقه أهل إيبلا على جبال باسم «آمور». ويلحظ شيفمان أن اسم ديدانو يتطابق مع اسم ددان شرقي آدوم، وأن اسم جبال آمور ويتطابق مع اسم جبال الأموريين، لكنه لا يرى وجوب مخالفة الرأي السائد فيقول: «ويبدو أن تطابق هذا الاسم مع اسم أحد مجتمعات شمال شبه جزيرة العرب ... مجرد مصادفة؟!
45
هكذا (؟!)
ثم يقف «شيفمان» مع اصطلاح «رباتي
RP. THT »، الذي يرد بكثرة في الألواح الأوغاريتية، وهو ذات اصطلاح «رفائي» و«رفائيين»، الذي يرد بكثرة في التوراة للإشارة إلى الشعب الطويل العملاق، ويكتشف شيفمان في نصوص أوغاريت أن الرباتيين قد اتحدوا مع شعب ديدانو، وشكلوا جماعة واحدة ينتمي إليها جميع أهل منطقة «ددان» جنوب شرقي آدوم، وأن هذا الاتحاد جاء تفصيله وتعداد أعضائه في سفر التكوين (15: 19-21)، وقد رجعنا من جانبنا نبحث وراء هذا النص، الذي أشار إليه «شيفمان»، فوجدناه فعلا يعدد أطراف ذلك الحلف كالآتي:
القينيين والقنزيين والقدمونيين والحيثيين والفرزيين والرفائيين والأموريين والكنعانيين والجرجاشيين واليبوسيين.
ثم يضيف شيفمان أن الرباتين وصفوا في وثائق أوغاريت بأنهم «شعب عظيم كثير العدد طويل القامة»، وهو ذات وصف التوراة للعمالقة بالنص كما سلف إيراده.
46
أما الأشد تلاقيا مع فروضنا فهو التصور الأوغاريتي عن الرباتيين، باعتبارهم جنسا متميزا هجينا ينتمي من جانب لجنس البشر، لكنه من جانب آخر ينتمي إلى عنصر الآلهة.
47
وهو ما يذكرنا بالأسطورة التوراتية عن الجبابرة، الذين كانوا نسلا مميزا من أبناء الله وبنات الناس، الذين اصطلح التاريخ على تسميتهم بالعمالقة.
ومن الطيب فعلا ثراء تاريخنا العربي، الذي سجل ذكريات تاريخية قديمة عن انتشار العماليق في المنطقة، والمناطق التي حكموها، وأن بني حام (المصريين) قد طردوهم من تلك المناطق، وقد تم ذلك التسجيل مع بعض الالتباسات، التي عادة ما شابت الكتابات التاريخية العربية، ونموذجا لذلك ما جاء عند ابن قتيبة الدينوري في كتاب المعارف؛ إذ يقول:
وكان من بينهم العرب العمالقة، الذين كانوا يتألفون من قبائل مختلفة، والذين انتشروا في بلاد متعددة، ومن بينهم ملوك مصر وبابل.
وما جاء عند ابن خلدون عالم الاجتماع العربي في كتاب «العبر وديوان المبتدأ والخبر»؛ إذ يقول:
إن عادا والعمالقة حكموا العراق، ويقال إنه لما طردهم أبناء حام هاجروا من بابل إلى بلاد العرب.
48
وما جاء عند اليعقوبي وهو شرح أن ملك العمالقة على مصر كان طارئا عليها، وحدث لأسباب آنية حينذاك، فيقول:
ولما اتخذ المصريون النساء ملكات عليهم، طمع العمالقة ملوك سوريا (سوريا هنا تعني بر الشام جميعا [المؤلف]) في غزو مصر، ومن ثم عاث الوليد بن دومة فيها فسادا، وأجبر المصريين على الاعتراف به ملكا عليهم، وقد حكم مصر مدة طويلة، وخلفه بعد موته ملك آخر من العمالقة هو ريان بن الوليد الذي عاصر يوسف.
وهو ما يعني أن دخول بني إسرائيل مصر زمن يوسف، قد حدث بينما كانت مصر واقعة تحت احتلال العماليق بمدة طويلة.
وهنا يورد لنا ابن خلدون سببا آخر لاحتلال العمالقة مصر؛ لأنه لم يقتنع بسوء حكم النساء، فيقول:
وقد طلب بعض الملوك القبط في مصر المعونة من أحد ملوك العمالقة في عصرهم، فاستجاب لرغبته لكنه احتل مصر لنفسه.
هذا بينما يؤكد ياقوت الحموي:
إن فراعنة مصر كانوا من العمالقة، وكذلك كان فرعون إبراهيم وفرعون يوسف وفرعون موسى.
49
وفي كتب الأنساب نجد أن:
العمالقة من ملوك حمير كانوا بالشام، منهم الزباء قاتلة جذيمة الأبرش، والعماليق من ولد عملق بن لاوذ بن سام، منهم الفراعنة ملوك مصر ... والعنقاء «العناقين = العماليق»، لقب ثعلبة بن عمرو بن عامر الأزدي.
50
ومن المدهش حقا أن يطلق المؤرخون العرب، على أول ملك هكسوسي لمصر هو فاتحها اسم «شداد»، وهو الأكثر تداولا في الكتابات العربية، كأول ملك عماليقي على مصر، وليس الوليد بن دوما، وهو ما يلتقي تماما مع اسم أول ملك هكسوسي، حدثنا عنه مانيتون المؤرخ المصري، وكذلك بردية تورين باسم «شلات»، أو مع التصريف اليوناني «شلاتيس» أو «شلاد»، وهو ما لا يلتقي معه مبنى فقط، بل في المعنى أيضا، فكلمة شداد تعني القوي الشديد، وكذلك تعني ذات المعنى كلمة
Sallat
في اللغات السامية، ومنها «شلات»، ومنها أيضا سلطنة وسلطان وسلطة.
شكل رقم «130»: بلاد الحيثيين/الأناضول/تركيا اليوم.
ويلخص لنا «جارستانج» أمر الحيثيين، فنراهم مجموعة أجناس وأحلاف، وذلك في قوله إن «القبائل الحيثية كانت تتكلم بما لا يقل عن ست لغات مختلفة، إلا أنه يتضح بعد إلى أي حد يدل اختلاف طرق الكلام ولغات هذه القبائل، على وجود تباين حقيقي بين أجناس الناطقين بها. وقد أظهرتها الرسوم المصرية المتأخرة على أربع أو خمس سلالات (هل ما زلنا نذكر المدينة الخماسية والحلف الخماسي؟) من الفصائل التي حاربت فرعون، بل إن آسيا الصغرى (تركيا [المؤلف]) ما برحت حتى اليوم آهلة بأقوام غير متجانسة، منها الجركس والأرمن والأكراد واليونان يحتفظون بجنسياتهن، ويتكلمون لغتهم الخاصة. وكانوا يجنحون أول ما ظهروا إلى الاندماج في حلف سياسي يؤلف بينهم.
شكل رقم «131»: الفينيق الرفائي/الرفاعي/صاحب العصي الحيات يبارك الملك الفرعون.
وخضعوا بصفة عامة لسلطان قبيلة خيتي»،
51
لكن جارستانج يذهب مع الجميع إلى موضعة «ميتاني» في أعالي الرافدين بجوار الجانب الشرقي للحيثيين، فيقول: إن الملك الحيثي سبليوليوماس «استغل اتفاقه مع الحريين فأخذ يرسم خططه على نطاق عسكري أوسع أفقا، فها هو ذا يعبر الفرات عند منابعه العليا، ولعل ذلك كان عند ملطية، فيجتاح أرض عيسووه المقابلة، التي كانت لا تزال تعترف بنفوذ دوشراتا على ما يظهر، فأذل أهلها وأمن بإذلالهم على سلامة هذا الطريق البالغ الأهمية، وأنجز استعداداته فعبر الفرات بكامل قوته، ثم انتهى به الزحف إلى مشارفواشوكاني
Wassukkanni
عاصمة الميتانيين نفسها، وهي التي يظن أنها كانت واقعة عند منابع نهر الخابور.»
52
أما نحن فلا نرى في ذلك إلا مزيدا من الدعم لنظريتنا، فأرض عيسووه التي أشارت إليها نصوص سبليوليوماس الملك الحيثي، باعتبارها بلادا يحكمها دوشراتا، وأن فيها عاصمة الميتانيين، ولا تقع عند منابع نهر الخابور، فليس هناك أي «عيسووه» بعد بحث وتقص دقيق، استغرق وحده من بحثنا وجهدنا زمنا، إنما تقع بين البحر الميت وخليج العقبة في بلاد مديان الآدومية في بلاد عيسو/آدوم. أما الطريق البالغ الأهمية فهو طريق التجارة العالمي الذي كانت تمسك بعنقه بونت/سالع البتراء.
وهكذا نعرف كيف حدث التوحد قياسا على هذا النموذج المتأخر، فهو توحيد ثان قاده ملوك الحيثيين، أما الأول فقد حدث بنفس الطريقة النموذج، فهبط الحيثيون واستولوا على عنق الطريق التجاري، وضموا تحت جناحهم تلك العناصر والشعوب، وقادوها لفتح دول الجوار الكبرى، فيما عرفه البابليون بالكاسيين، وعرفه المصريون بالهكسوس. وهناك، إلى الشرق من تركيا على البحر الأسود، يقع الميناء المعروف حتى الآن باسم بونت من حيث هجرتهم الأولى، ثم منح الحيثيون سلسلة الجبال الكبرى شمالي الهلال الخصيب أسماء جبال بونتس ربونت بدورها، ومن هناك هبطوا جنوبا مبكرين، ربما قبل أن تصل بقية الهجرات الكثيفة بأزمان، ليمنحوا منطقة العقبة ووادي عربة أسماء بلادهم القديمة، وهو الأمر الذي يعضد نظريتنا في تحديد هذه المنطقة القديمة بحسبانها هي بلاد بونت التاريخية، وجاء الاسم «بونت» مع الحيثيين الوافدين من بلاد بونت عند البحر الأسود إلى شرقي سيناء/آدوم، وهو الفرع الهندوآري في الحلف التجاري العظيم.
أما أتباع مدرسة جارستانج ورفاقه، فما زالوا يبحثون عن عاصمة بلاد الميتاني عند نهر الخابور في الفرات الأعلى.
أما نحن فقد علمنا أن المصريين قد عرفوا محتلي بلادهم (الهكسوس) باسم الشاسو، وأن الشاسو مزيج هجين من الكوشيين (الكاشو) الزنوج والسبئيين القادمين من الجنوب، وعلى رأسهم قادة من العموريين، ومن الحاثو (الحيثيين) الحوريين القادمين من الشمال، وهم قادة الجنس الهندوآري، وبين هذا وذاك تناثرت البطون والأفخاذ الشمالية والجنوبية، عمورية جنوبية عملاقة وآرامية شمالية حمراء، وكثير من العناصر المزيج، شكلوا ما يزيد على ثمانية وعشرين جنسا، فيما أخبر المؤرخ «هورشيوش»، ليتمركزوا في بلاد آدوم، ويتوحدوا في خمس ممالك، تحت قيادة قوية تعمل بشكل بدائي من الديموقراطية، مركزها سالع البتراء، ثم ينطلقون منها لتكوين إمبراطورية تشمل المحيط جميعه، وهو الأمر الذي سيزداد تأكيدا ووضوحا في الصفحات التالية من هذا العمل.
الفصل الثالث
عاد وثمود
يفهم من المادة التي قدمها لنا «سليم حسن» أن مدونات الملوك الحيثيين، قد ورد بها ذكر الحوريين مرات عديدة، كما جاء في ذات المدونات حديثا عن الخابيرو. ويقول «سليم حسن»: إن تلك المدونات تفصح عن علاقات قوية ومتينة، بين أولئك الذين حملوا في تلك المدونات اسم «الحوريين»، وبين أولئك الذين حملوا اسم «الخابيرو»، وهكذا يبدو سليم حسن ميالا إلى ربط الخابيرو بالحوريين، أو التأكيد على أن المدونات الحيثية هي التي ترى ذلك، ومع ذلك يؤكد سليم حسن من جانبه، أن الخابيرو كانوا من العنصر السامي، بينما الحوريون من عنصر مخالف تماما هو الهندوآري.
1
وفي موضع آخر، وفي إشارة عابرة، يبدي ذلك المؤرخ الكبير دهشته من الانتشار الواسع للمواد الحورية، بطول حوض المتوسط الشرقي وعرضه، دون سبب واضح، خاصة أنه ينظر إليهم كبقية المؤرخين، بوصفهم شعبا منكور الشأن ينزوي على استحياء بين شعوب المنطقة. ويجد أن فنون الفخار الحوري تتطابق في كل المنطقة، فهي في فلسطين كما في أعالي الرافدين، كما في مصر كما في قبرص، يضاف إلى ذلك أن مصر بداية من عهد الدولة الحديثة، قد أخذت تشير إلى فلسطين باسم بلاد حور/حوري، مما يفيد بغلبة هذا العنصر على منطقة شرقي المتوسط،
2
بل وصل مد الآثار الحورية حتى وجدناه ضمن آثار الحيثيين بشمالي الأناضول.
3
إن ذلك جميعه يؤكد نظريتنا حول الإمبراطورية، التي قامت بذرتها في بلاد آدوم، ثم توسعت لتضم المنطقة جميعا، فيما عرفه التاريخ باسم إمبراطورية الهكسوس ... ونستعيد المشاهد الأولى لدخول الهكسوس مصر في حديث «كاسيدوفسكي»، وهو يؤرخ قائلا:
في حوالي 1780ق.م. اجتاحت بلاد مصر أحداث ثورية عاصفة هزتها هزا عنيفا ... واهتزت القوة المصرية بشدة عانت فيها مصر من انهيار سياسي حقيقي، حلت بالبلاد كارثة رهيبة، فقد اندفعت من الشرق جحافل لا حصر لها من الجنود الأغراب، واجتاحت مصر كسيل جارف، وكان هؤلاء الجنود يركبون عجلات سريعة، تجرها الخيول ويحملون سيوفا طويلة، ويلبسون دروعا من حديد.
4
ويضيف «سليم حسن» أن معدن البرونز المصنوع من سبيكة خليط من القصدير والنحاس، والذي ظهر في مصر مع الهكسوس، كان معروفا في الأناضول منذ عام 2500ق.م. وأن ذلك يعد في علم التاريخ من الحقائق الثابتة. مع ملاحظات عدة أخرى، تؤكد أن الهكسوس قد أتقنوا في موطنهم الأصلي فن صناعة المعادن القوية بشكل لم تعرفه مصر من قبل.
5
ويجد المؤرخون تبريرا معقولا لسقوط مصر بحجمها المعلوم أمام ما كان مظنونا أنه شراذم بدوية، بكون هؤلاء كانوا - فيما تقول جوليا سامسون - «يتسلحون بأسلحة صنعت من الحديد، وهذه النوعية من التسليح لم تكن معروفة بعد في مصر. هذا إضافة إلى الصلافة والشراسة التي طبع عليها الهكسوس، من طول الحياة البدائية التي قضوها في الصحراء.»
6
وعن الحوريين تقول موسوعة تاريخ العالم: إنه «كان أعظم عمل للحوريين، هو إدخال العربة ذات العجلتين التي تجرها الخيل إلى مصر وغربي آسيا، حيث أصبحت معروفة بعد عام 1600ق.م. عثر الباحثون في سجلات بوغاز كوي (عاصمة الحيثيين [المؤلف]) على كتاب في تدريب الخيول، كتبه أحد الحوريين المعروف باسم كيوكولي، ويحتوي الكتاب على كثير من التعبيرات الفنية الهندية.»
والمعلوم من علم التاريخ أنه «لم يظهر الحصان في مصر حتى عصر الهكسوس، عندما أدخل من آسيا لجر العربات أصلا.»
7
ويؤكد «بتري» أن الحصان قد ذكر في لوح كارنافون باسم «حترو»، وهي كلمة حورية أصلا وليست مصرية، تنبهنا إلى الأصل الحوري للحصان.
8
وعن الحصان يحدثنا تشيلد: «إن الحصان له علاقة أصيلة بالأقوام الآرية، والظاهر أنه يمكن اقتفاء أثر الكلمة المصرية والسامية الدالة على لفظ الحصان إلى اللغة الآرية، وهي «أسوا» من السنسكريتية (آسفا). ومن الواضح أن الكلمة المصرية «سسمت
Ssmt » مشتقة من اسم الجمع العبري «سوسيم»، وكلمة سسمت لا تمثل إلا الحروف الساكنة للاسم، وحرف التاء فيها للتأنيث. وعلى أية حال، فإن وجود وسيط سامي في نقل الكلمة إلى المصرية، يجعلنا نظن بعض الشيء أن الجنس الآري يحتمل أنه اختلط بعنصر سامي من بين الهكسوس. ولدينا كلمة أخرى هي مرين، ومعناها خيال وسائق عربة، والظاهر أنها تنتسب إلى الكلمة الميتانية مارينا، وهذه الكلمة الأخيرة قرئت بالكلمة السنسكريتية ماريا، ومعناها الرجل الفتي الشاب.»
9
هكذا تجمع الدلائل إلى درجة القطع واليقين، على أن الهكسوس هم أول من أدخل إلى منطقة شرقي المتوسط، فن صناعة المعادن الثقيلة كالحديد، وأن معدن البرونز تحديدا كان معروفا في بلاد الحيثيين بالأناضول منذ وقت مبكر. ولعلنا نتذكر الآن رسالة الملك الحيثي حتوشيليش الثالث، لملك صديق يعتذر عن الوفاء بطلباته؛ لأن موسم الحديد كان رديئا.
10
ثم نلمس علاقات قوية بين الكوشيين الذين احتلوا بابل (الكاسيين) وبين الحيثيين، وصلت حد التضامن الكامل. فتضرب جيوش حيثي بلاد بابل لتتركها فريسة سهلة للكوشيين، مع علاقة أخرى طوال الوقت تجمع الحيثيين بالحوريين.
وإن نسبة الخيل والعربة العسكرية والحديد إلى الحوريين مرة، وإلى الحيثيين مرة أخرى، لا يشكل سوى مشكلة ظاهرية؛ لأن الحوريين الذين ظهروا في فلسطين وآدوم، يعودون بأصولهم إلى هجرة قدمت من منطقة أرمينيا ومحيط بحر قزوين، بينما تموضع الحيثيون إلى الغرب منهم مباشرة في الأناضول، وهناك رواية تاريخية تقول إن الحوريين قد سبق لهم التموضع في الأناضول، حتى ظهر الحيثيون وأزاحوهم من هناك ودفعوهم جنوبا، لكن الواضح ويجب استنتاجه دون جهد، هو أن هناك حلفا قد قام بين كليهما، وأن كلا الشعبين: الحوري والحيثي قد تسربا جنوبا عبر نسيج هذا الحلف وخيوطه الرابطة، بحيث نجدهم بالكتاب المقدس كشعبين من شعوب فلسطين وبلاد آدوم.
وهكذا يظهر بالتدريج أن منطقة آدوم التجارية، قد استوعبت في شريط ضيق لكنه طويل وهائل، كل هذا التداخل التدريجي لشعوب هندوآرية (آرامية) قادمة في بلاد أرمينيا، عنصره آري (فارسي)، ومكوناته حوري وحيثي، في حلف امتد على الخط التجاري العالمي القادم من أعلى بوادي الشام عند الرافدين الأعلى، ممتدا عبر بوادي الشام وبلاد آدوم، مستمرا في امتداده عبر بلاد الحجر والخط التجاري الحجازي الواصل إلى اليمن، ليلتقي في وادي عربة وجبال سعير حلفاء الشمال الآراميين بحلفاء الجنوب من شعوب (عمورية)، قادمة من الجزيرة العربية بصحبة العنصر الزنجي، الذي عبر المندب إلى الجزيرة ببضائعه الإفريقية.
وحتى يتضح سر هذا التضارب علينا الآن العودة إلى مشكلة أصل الساميين، فقد نشأ القول بأن هناك أصلا واحدا للمتكلمين باللغات الأكادية (بابلية وآشورية)، وبالكنعانية والعبرية والفينيقية والآرامية والحبشية والنبطية والعربية، بحساب المشتركات اللغوية التي تجمع بين لغات هذه الشعوب. فجذور الأفعال فيها جميعا ثلاثية، وتتطابق فيها جميعا الألفاظ الدالة على القرابة والعلاقات الاجتماعية. وهو ما يشير إلى مشترك أول جمع بينهم جميعا في تنظيم المعاملات وبخاصة التجارية، وهو ما أدى جميعه بالعالم النمساوي لودفيج شلوتسر عام 1781م، إلى إعلان عام أن الشعوب التي تتكلم هذه اللغات، تنحدر من أصل واحد أطلق عليها اصطلاح الساميين، وأنهم لا شك بهذا المعنى قد جاءوا من أصل وطني قديم واحد هو وطن الساميين الأم.
لكن ما حدث هو أن الباحثين تضاربوا تضاربا هائلا، عند محاولة تحديد هذا الوطن الأم الأصلي للعنصر السامي، الذي انتشر في حوض المتوسط الشرقي بدءا من شرقي الدلتا المصرية وسيناء وآدوم وفلسطين وبوادي الشام، وصولا إلى تركيا في أقصى الشمال واليمن في أقصى الجنوب، فذهب فريق كبير إلى أنهم قدموا من جزيرة العرب في هجرات كبرى، ويمثل هذا الفريق الجانب الأعظم من العلماء الذين اهتموا بتلك المشكلة. ومنهم دي جوييه
De Goege
وشرادر
Shradar
وونكلر
Wincklr
وتيلي
Tiele
وماير
Mayer
وروبرتسون سميث
Robertson Smith
ولانج
Samuel Lang
وسايس
Wright Sayce
وروجرز
R. W. Rogers .
وخلاصة ما توصل إليه أصحاب هذا الرأي، هو أن شبه جزيرة العرب لم تكن منطقة صحراوية جافة في كل عصورها القديمة؛ فقد تعرضت لهطول أمطار غزيرة طوال عصر البلايستوسين (آخر العصور الجيولوجية)، شأنها في ذلك شأن بقية المناطق المدارية، ونتيجة ذلك غطتها الغابات والنباتات التي تسكنها المجموعات البشرية. وانتهى عصر البلايستوسين بأمطاره حوالي سنة 10000ق.م. وبدأ الجفاف يزحف على المنطقة لتحل الصحراء محل الغابات، إلا حيث نحتت الأنهار لها مجرى كنهر النيل ودجلة والفرات.
نتيجة لذلك بدأت تتضاءل إمكانيات الحياة، واضطر الناس إلى النزوح منها كلما زحف الجفاف والإجداب، وهو ما أدى إلى موجات متتالية من الهجرات من شبه الجزيرة إلى المناطق الخصبة على تخومها، وكانت آخر تلك الهجرات تلك التي جاءت مع الفتوح الإسلامية في القرن السابع الميلادي، وقد حملت هذه الهجرات لغتها معها، وهو ما أدى إلى تعدد في الشعوب السامية وتقارب في اللغة، سواء في الألفاظ أو في التراكيب أو في التصريف.
وقد رتب أصحاب هذا الرأي هذه الهجرات، استنادا إلى ما استنتجوه من شواهد تاريخية، على النحو التالي:
الأكديون وقد استقروا في وادي الرافدين في الألف الثالث والرابع قبل الميلاد.
الكنعانيون بما فيهم الفينيقيون والأموريون، وقد استقروا في المنطقة السورية ووادي الرافدين خلال الألفين الثالثة والثانية قبل الميلاد.
الآراميون وقد استقروا في كل مناطق الهلال الخصيب، والعبرانيون الذين استقروا في المنطقة السورية في النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد.
الأنباط وبعض القبائل العربية الجاهلية، وقد استقروا في منطقة الهلال الخصيب بين القرن الثاني والقرن السادس قبل الميلاد.
العرب المسلمون وقد استقروا في منطقة الهلال الخصيب وشمال إفريقيا منذ القرن السابع الميلادي.
ويدعم هؤلاء نظريتهم بالقواقع الحجرية التي عثر عليها في شبه الجزيرة، وهي لا تعيش إلا في الماء، وبقايا عظام متحجرة وأدوات حجرية، تشير إلى وجود الماء والحياة فيما قبل التاريخ، إضافة إلى عدد من الوديان الجافة الآن، مثل وادي الدواسر ووادي الرمة ووادي السرحان التي يحتمل أنها كانت أنهارا عظيمة، هذا مع حيوانات وأشجار كانت معروفة في جزيرة العرب أيام الكتاب الكلاسيك يونانا ورومانا 500ق.م.-500ب.م. أو الكتاب العرب. وقد اندثر بعضها الآن مما يشير لاستمرار زيادة الجفاف والتصحر.
لكن أصحاب النظرية اختلفوا حول أي موطن في الجزيرة الواسعة كالقارة، كان يعيش الساميون؟ بعضهم رأى أنه من اليمن، وأنه من الخط المسند اشتقت سائر الخطوط التي كتبت بها الشعوب السامية. وبعضهم رأى ذلك الموطن هو شرقي الجزيرة على ساحل الخليج، أما البعض الثالث فرأى أن موطن الساميين هو حافة شبه الجزيرة الشمالية الغربية، وهو ما يعني محيط بلاد آدوم وسيناء.
11
أما الفريق الآخر من علماء الأجناس فقد نحى منحى مخالفا، ويعتمد أصحابه على أدلة لغوية تربط ما بين السامية وبين الأحباش، للقول أن الجنس السامي جاء من أفريقيا الشرقية عبر باب المندب والبحر الأحمر، وأن أفريقيا هي أصل الساميين والحاميين معا، الساميون عبروا مضيق باب المندب إلى جزيرة العرب، والحاميون عبروا شمالا نحو مصر ثم عبورا لسيناء إلى آسيا.
12
أما الفريق الثالث؛ فيذهب بعيدا تماما ليأتي بالجنس السامي من أرمينيا، والقادم أصلا من هضبة آسيا الوسطى، الوطن الأصلي للجمل، وقد جاء الجمل من هناك مع الساميين المهاجرين من جنوبي شرقي وجنوب بحر قزوين مرورا بإيران.
13
وقد رأى الباحثون المحدثون أن افتراض فكرة موطن أصلي واحد، ليس ضروريا لتفسير التشابه والتقارب بين اللغات؛ فليس ضروريا أن تنتمي الشعوب التي تتقارب لغاتها إلى عنصر واحد ووطن واحد؛ لأن هناك احتكاكا دائما بين الشعوب خاصة في تلك المنطقة المتوسطة من العالم، وهي منطقة مفتوحة طوال تاريخها، كما أن الاختلاط وتشابك المصالح غالبا ما يؤدي إلى ازدواج لغوي.
14
ولأننا نعتقد أن ظهور الشعوب السامية لم يكن كما صورت النظريات الدينية تنحدر من أسلاف يعودون إلى أب واحد، تفرقت منه البشرية إلى زنجي حامي وأسمر سامي وأحمر يافثي، بل نعتقد أن ما حدث هو العكس تماما، وهو الموافق لروح العلم، حيث تلاقت أجناس متفرقة وتلاقحت في مساحة جغرافية أفرزت عنصرا جديدا، وأن ذلك تكرر في جهات متفرقة من العالم، وبين الشعوب التي ظهرت نتيجة التلاقح الجنسي، كان ذلك الشعب السامي الشمالي، الذي حمل في جيناته أصولا حامية زنجية ومصرية مع أصول هندوآرية ، وحملت لغته أصول لغات تلك الشعوب، وأن ذلك قد حدث في سيناء وآدوم وبوادي الشام. ويبدو أن هذا التلاقي والتلاقح قد بدأ مبكر جدا، وأقصى ما يمكن قوله هنا أن عنصرا زنجيا، كان عبوره المندب بالمنتجات الأفريقية، امتدادا طبيعيا للطريق التجاري الكبير، ليصبح عضوا بعد ذلك في الحلف الهكسوسي العظيم، عندما يلتقي في بلاد آدوم بالعنصر الهندوآري القادم من براري آسيا. وهو ما يفسر لنا كيف كان باني زقورة بابل، ملكا حكم في بابل باسم نمرود، ونمرود في المأثور التوراتي والتاريخ الإسلامي، زنجي أسود من أبناء كوش. أما الوثائق التاريخية فتدون لنا اسم باني البرج، حاملا فيه حامية زنجية واضحة؛ فهو «كاريكالزو»، وكان ضمن سلسلة حكام تأكد تاريخيا أنهم كانوا أقلية حاكمة على بلاد بابل وفدت غازية.
ثم تفسر لنا تلك الرؤية انتشار العنصر الحوري الآرامي بطول المنطقة من الفرات الأعلى من أرابخا في الشمال، حتى المملكة الحورية في آدوم، كما يفسر لنا انتشار العنصر الحيثي في فلسطين، يحمل فيها سمات سيادية واضحة، كما يظهر من قصة شراء إبراهيم مغارة المكفيلة منهم وسجوده لهم. ولا يفوت فطنا أن اسم المملكة الشمالية «أرابخا»، بلسان هندوآري ينطق عربيا دون التباس (العربية)، ثم إن المنطقة التي هبط منها العنصر الهندوآري تسمى الآن «البك»، لكن اسمها التاريخي كان «آراب - خيتيس
Arrapa-chitis »،
15
وهي كلمة تحمل تصريفا اسميا حاتيليا حوريا، يشبه ما نراه في نطق اسم الإله سيت باسم سيتتش أو سوتخ، فالكلمة أرابخيتيس هي «أراب» أو «عرب»!
وقد نسبت التوراة الشعب العبري إلى جد بعيد باسم «أرفكشد» أو «أربكسد»، وأعادت موطن هذا الجد إلى منطقة أرارات بأرمينيا، بحسبانه من أحفاد نوح حيث رست السفينة الأسطورية، وفي سلسلة أنسابها تؤكد التوراة أن هذا المكان مرموز له باسم «أربكسد» أو «أراب خيتيس»، هو أصل لسلسلة من الأنساب العبرية والعربية في نفس الآن (ولنلحظ أن عربي هي عبرى بالميتانيز). ويحيطنا «آرثركيت
Sir Arther Keith » أستاذ علم الأجناس - وفق المنهج الأنثروبولوجي - أنه قد «ظلت القوقاز وميديا (شمالي فارس [المؤلف]) وعامة منطقة بحر قزوين حتى العصور التاريخية القريبة نسبيا 1000-500ق.م. مجتمعات رعاة في المقام الأول، رغم معرفتها بالزراعة.» وقد أسفرت حفائر «ليونارد وولي
Leonard Woolley » و«لانجدون
Langdon » و«دي مورجان
De Morgan » عن نتائج أساسية، هي أن الرعاة وليس الفلاحين هم من نزلوا من بحر قزوين في كل اتجاه بالمنطقة، لامتلاكهم وسائل النقل السريع كالخيل والجمال، لأسباب ديموغرافية كالانفجارات السكانية أو بسبب كوارث طبيعية كالجفاف، أو بسبب السيول كما سجلتها التوراة رمزيا في قصة الطوفان.»
16
أما المؤكد عند «آرثركيت» فهو أن الجنس العربي المعروف الآن، كان من أصول قوقازية تتكلم السامية، مما يعني اختلاطا شديدا بين السامي والآري في العنصر الجنسي وفي اللغة. وهو ما يمكنك ملاحظته في مأثور التوراة وذكريات المحررين عن الجنس الآري، مرموزا له بيافث بن نوح والجنس السامي مرموزا له بسام بن نوح، فتقول: «ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام.» (تكوين، 9: 27) لكن ما يجب التنبيه عليه هنا هو أن هؤلاء الذين هبطوا من الشمال الأرميني إلى بلاد آدوم، قد حملوا من أصل مواطنهم إشارات لتسمية تلك الأصول «آرامية»، ومنهم من كان أولئك القائلون «آراميا تائها كان أبي» (بني إسرائيل)، ومنهم من كان سكان وادي عربة، الذين أعطوا للعرب اسمهم، وهنا يفيدنا زياد منى بأن المراجع العربية القديمة، تعيد اسم العرب إلى نشأتهم في وادي عربة فنسبوا إلى بلادهم.
17
وذات المعنى يؤكده مظفر نادوثي؛ إذ يقول عن اسم العرب وأصله البعيد: «نعرف أن هذه الكلمة أطلقت بادئ ذي بدء على شمال جزيرة العرب، وليس على جنوبها. ويبدو أن ما ذهب إليه الجغرافيون من أن أول اسم سميت به بلاد العرب هو عرابة صحيح، وقد أصاب هذا الاسم التحريف على مر الزمن، فأصبح بلاد العرب، وتبع ذلك أن سمي الشعب باسم العرب، نسبة إلى بلادهم، وتعني كلمة عرابة في كل اللغات السامية صحراء. ومعنى هذا اللفظ في العبرية حقل أو غابة.»
18
وهو ما يصادق على ما قلنا، ويشهد على أن بلاد الغابة أو الأيكة، كانت وسط الصحارى الصخرية في بلاد وادي عربة.
ولما كنا قد قلنا إن تجمع الأحلاف كان في وادي عربة، وأن الحصان والعجلة قد جاءا إلى المنطقة مع الهكسوس، فإن ذلك يفسر لنا لماذا تسمى العجلة حتى اليوم عربة، ولماذا يسميها المصريون عربية، وهنا نستمع لزياد منى يؤكد أن اصطلاح عرب واصطلاح عبر (عربي/عبري)، بمعنى واحد هو البدو المرتحلون دوما،
19
أو كما قاله المصريون القدماء «شاسو»، وأسموا الحيوان القادم معهم «ساسو» أي الحصان. وهكذا أعطى سكان عرابة لجنس العرب اسمه، بينما سكان جزيرة العرب أنفسهم، كانوا لا ينظرون لسكان عرابة على أنهم أصلاء، بدليل أنهم أصروا على توضيح ذلك، وتسجيله بالتفريق بين عرب أصلاء سكنوا جنوبي الجزيرة هم العرب العاربة، أي الراسخة في العروبية بتعبير ابن خلدون، وبين عرب دخلاء اكتسبوا العروبية اكتسابا عندما سكنوا بين العرب، واستحقوا اسم العرب المستعربة، أي التي استعربت ولم تكن كذلك، ومقصود ذلك هو عروبة مكانية، عروبة الجزيرة، مقصود يرى الجزيرة موطنا للجنس العربي على امتداد تاريخه، ولم تكن كذلك أبدا كما هو واضح حتى الآن.
ويقول المأثور التاريخي العربي إن العرب المستعربة، أي القادمين من عرابة، كانوا يتكلمون السريانية المتفرعة عن الآرامية الأرمينية، وفي الزمن الذي لم يكن العرب بلغتهم كعنصر مميز قد ظهر في جزيرة العرب، كانت إشارات المؤرخين الكلاسيك عن العرب تشير فقط إلى وادي عربة، ثم اتسع المدلول بالتدريج ليشمل عرب سيناء والشام، ولم يتسع بمفهوم المكان الجغرافي العربي، ليشمل جزيرة العرب المعروفة الآن إلا زمن الرومان.
20
ولكن قبل ذلك، عندما لم يكن عرب آرام/أرمينيا قد توراوا تاريخيا من أرمينيا، نقرأ عن إسخيليوس المسرحي اليوناني في مسرحية
السطر 420 عبارة شديدة الدلالة، تؤكد أن معنى كلمة عرب أطلق في مبدأ الأمر، على أهل البراري والخيول في براري أسيا (آرمينيا) قبل أن يمنحه مهاجروها لوادي عربة. ولنقرأ هذه العبارة البليغة تقول: «زهرة شباب
Arabia
يحمون بأسلحتهم الحصن المنيع على حدود القوقاز.»
21
وهنا نقرأ ما ورد عن عبيدة بن شرية أن أحد أبناء سام بن نوح، أنجب ولدين أحدهما، هو إرم الذي ينتسب العرب المستعربة إلى بنيه.
22
ومن جانبه يحيطنا فراس السواح نقلا عن طومسون قوله: «أما عن جزيرة العرب فيبدو أن اللغة العربية السامية، قد جاءتها عن طريق فلسطين وسوريا الجنوبية، في أواخر عصر البرونز المبكر وأوائل عصر البرونز الوسيط، أي حوالي عام 2000ق.م.»
23
أما التاريخ العربي نفسه فقد أعطى لسكان جزيرة العرب، قبل أن تكون عربية وقبل أن تتكلم العربية، اسم القحطانيين؛ نسبة لجد بعيد هو قحطان باليمن، أما العرب الشمالية مع انفتاح الجزيرة الواسع، دون حدود جغرافية مانعة حتى الأناضول، فقد حملوا اسم العرب العدنانية نسبة إلى جد باسم عدنان، يبدو أنه ترميز لأصولهم غير الجزيرية العائدة إلى أصول أسطورية توراتية، في مكان أول لهم على الأرض، كان منطلق البشرية باسم جنة عدن.
24
وهكذا تفسر لنا نظرية الحلف التجاري الكبير كثيرا من الغوامض والألغاز، مثل إصرار التوراة طوال الوقت على وجود عنصر زنجي كوشي في محيط جنوبي فلسطين، دون منطق واضح كاشف يبرر هذا التواجد هناك. فالكوشيون هم في التوراة الأحباش الزنوج سكان أفريقيا السوداء تحديدا، لكنهم في التوراة يظهرون جنوبي فلسطين، كشعب له جيوشه. وقد ذهب مرجليوث لتفسير نص التوراة، الذي يقول إن الفلسطينيين والعرب الذين بقرب الكوشيين، قد هاجموا جنوبي مملكة يهوذا، بأن المقصود بالعرب هنا عرب اليمن، الذين بجوار الحبشة عبر مضيق باب المندب (؟!) ... هكذا ... بينما ذهب موسيل
Musil
إلى أن المقصود هم عرب سيناء، الذين بجوار المصريين باعتبار المصريين حاميين من أبناء حام، الذي أنجب مصرايم وكوش، فهم المقصودون بالكوشيين.
25
أما نحن فتفسيرنا هو هذا الكتاب جميعه.
كذلك تفسر لنا ذلك نظرية الحلف التجاري حكم الكوشيين لبابل، وأنهم لم يدخلوا في معارك مع جيرانهم كعادة سكان الرافدين المفتوحة على محيطها، مما كان يخلق دوما توترا عسكريا لحماية الحدود، وكان حكم الكاسيين أو الكوشيين في الرافدين على اتصال حميم ودائم مع الجيران بالمنطقة، مما يشير إلى أن زمن حكمهم لبابل كان هو ذات حكم الحلف لبقية المنطقة، كان هو ذات زمن الإمبراطورية، بعد أن بلغ الأحلاف من القوة ما يسمح لهم بالخروج عن الشريط التجاري الطويل لاحتلال دول المحيط شرقا وغربا.
وكذلك تفسر نظريتنا انتشار التعدين في أقصى جنوبي آدوم، بينما أصوله الابتداعية كانت في أقصى الشمال الحيثي، كما يفسر لنا مجيء الخيل والعربة العسكرية مع أسماء سامية وأسماء هندوآرية، حيرت الباحثين الذين اعتبروا جزيرة العرب مهد الشعوب السامية، والإشكال أن طبيعة جزيرة العرب لا يمكن أن تكون مهدا للحصان؛ لأن الحصان والعربة فرز لا يصلح لفيافي الرمال، بقدر ما هو فرز مسطحات صخرية وجبلية صلبة، كما في الشمال الحيثي الحوري وكما في بلاد آدوم الصخرية، حتى إن أهل الرافدين أطلقوا عليه اسم «آنشوكرا» أي حمار الجبل، ولم يطلقوا عليه حمار الصحراء.
ثم يفسر لنا الحلف ذلك التوافق العجيب، الذي أفرز في النهاية لغة آرامية مشتقة من البابلية، مكتوبة بالمسمارية كلغة عامية في المنطقة ولغة مكاتبات رسمية، فقد كانت لغة الأخلاف التي تم التوافق عليها بينهم، فبدأت بابلية ثم تطورت إلى كارية/حورية، عرفت بعد ذلك بالآرامية. أما الأعجب الذي أصبح مفسرا الآن وفق عملنا هذا، فهو الرصد الذي قام به لويس عوض، ليكتشف أن اللغة العربية في كثير من مفرادتها وتراكيبها، تعود إلى أصول هندوآرية. أما الأكثر عبقرية فهو أن تكشف لنا علوم اللغات كشوفا حديثة تؤكد ما قلناه، فالجنوب الحميري أو الجنوب الجزيري الذي تدفق محتضنا زنج أفريقيا نحو الشمال بصحبة تجارته، كان عنصرا له لغة تختلف تماما عن اللغة العربية، التي جاءت مع عنصر وافد هبط جزيرة العرب من آدوم. وقبلها كان مجيئه إلى آدوم من أرمينيا، وهم العرب المعروفة باسم المستعربة القيسية العدنانية . والباحثون يؤكدون لنا الآن «أن اللغة الحميرية شيء واللغة العربية شيء آخر، وأن الحميرية أقرب إلى الحبشية القديمة منها إلى العربية.»
26
ثم نعلم إلى أي حد تأثرت أطراف المنطقة بحدث الهكسوس، عندما نكتشف مدى العلائق والمشتركات التي حدثت، بين اللغة المصرية القديمة وبين اللغات السامية وبخاصة العربية، فذات الباحثين يقولون: «إن اللغة المصرية القديمة كانت تشترك مع اللغات السامية في العديد من التركيبات الجوهرية، وإن كان بها بعض التشابه أيضا مع لغات أفريقية، مثل الصومالية في الشرق والبربرية في الشمال، فالمصرية تشترك مع السامية في خاصتها الأساسية، التي تجعل كلماتها تستخدم مصدرا واحدا غالبا ما يتكون من ثلاثة أحرف، كما تشتمل على كلمات مشتركة عديدة ... وتحتوي اللغة المصرية القديمة على أصوات اللغات السامية الأساسية، مثل الحاء والعين والضاد، لكنها لا تعرف حروف الثاء والذال والظاء مثلها في هذا مثل العامية المصرية الحالية.»
27
ومن ثم تتأكد لنا علاقة اللغة المصرية القديمة باللغة العربية (القاموسية)، التي ظهرت واضحة طوال عملنا هذا، ويتم تفسير وجود ألفاظ مصرية أحصاها بعض الباحثين ب 3000 مفردة مصرية قديمة دخلت إلى العربية، ناهيك عن الألفاظ الهندوآرية الموجودة بالعربية، وكذلك المفردات التي تعود إلى لغات ساحل إفريقيا القادمة مع العنصر الزنجي.
وعليه فإن اللغة العربية الحالية لم تكن لغة جزيرة العرب؛ لأن تلك الجزيرة كانت لها لغاتها التي عرفناها بخط المسند بالجنوب اليمني، هي غير العربية الشمالية التي جاءت جزيرة العرب، مع العرب العدنانية المستعربة المتأثرة إلى حد بعيد بالمصرية القديمة، حتى تكاد تكون في 60٪ منها لغة مصرية قديمة. وإن العرب العدنانية هم من منح جزيرة العرب صفة العرب، أما قبل ذلك وإن أردنا لغة الجزيرة حقا، قبل أن تأتيها عربية الشمال (مصرية + هندوآرية + اللغة الجغرافية القادمة مع الزنوج)، فإن تلك اللغة القديمة للجزيرة كانت لغة اليمن أو لغات اليمن أو اللغة الجنوب جزيرية، أما العربية الشمالية القاموسية فالظل المصري يغطي أكثر من نصفها، حتى إننا لو بحثنا اليوم عن اللغة المصرية القديمة، فسنجدها تغطي العالم «العربي»، أما لو بحثنا عن اللغة القديمة لسكان الجزيرة، فهي تلك التي كانت في الجنوب اليمني، وانقرضت وأصبحت من مهام علماء الحفائر والأركيولوجيا.
كذلك تحل فرضية الحلف الإمبراطوري لغز وصول الحيثيين إلى «ألاشيا/قبرص»؛ لأنها ببساطة كانت تابعة ضمن مجموعة جزر المتوسط للإمبراطورية الهكسوسية. وفي ذات الجزر عثر على آثار للملك الهكسوسي خيان ملك مصر آنذاك، الذي يبدو أن زمن حكمه كان زمن أكبر توسع قوي للأحلاف الهكسوس، فيقول «سليم حسن»: «كان الملك خيان الذي جاء ذكره في قائمة مانيتون وعلى الآثار، أعظم ملوك الهكسوس الذين حكموا مصر، وقد ورد اسمه في قائمة مانيتو، على ما يظهر باسم يناس
Jannas ، وآثاره منتشرة في جهات مختلفة، وقد عثر على جعارين عدة وأختام باسمه، ومنها نعلم أنه كان يحمل الألقاب التالية: حاكم البلاد الأجنبية خيان، الإله الطيب خيان، الإله الطيب سوسرن رع، حاكم المجندين خيان، ابن الشمس سوسرن رع، ابن الشمس خيان ... وأهم ظاهرة في حكم خيان، هي وجود آثار له خارج القطر المصري في جهات نائية بعيدة جدا، لدرجة أن بعض المؤرخين ظن أن مملكته قد مدت أطرافها إلى تلك البقاع؛ فقد وجدت له آثار في سوريا وفلسطين من جهة، وفي بغداد وكريت من جهة أخرى. أما عن وجود جعارين باسم هذا الملك في سوريا وفلسطين فلا غرابة فيها؛ لأننا نرى أن هذين القطرين كانا ضمن البلاد، التي يسيطر عليها الهكسوس أيام عظمة مجدهم.»
28
وفي كريت كشف الأثري إيفانز في أثناء الحفر بقصر كونسوس على غطاء آنية مرمرية باسم خيان.
29
ثم لعلنا نذكر أن المصريين قد بنوا حائط الأمير/أو حائط الحاكم الذي يصد الآسيويين وعابري الرمال، في الوقت ذاته الذي بنى البابليون سورا عظيما مماثلا باسم «مورق تدنم»، أي الحائط الذي يصد الأموريين، مما يشير إلى تزامن في انتشار الوافد الجديد بقوة.
والمؤرخ اليهودي «يوسفيوس» لم يعلم أن الإسرائيليين بطن آرامي صغير، وظنهم ذات عين الهكسوس الذين حكموا مصر، وقال إنهم بقوا في مصر مدة زمنية تصل إلى 450 عاما، والجميل في هذا الشأن أنها ذات المدة التي أقرها علم التاريخ لحكم العنصر الكاسي/الكوشي لبلاد بابل (؟!)
ويحكي لنا الكتاب المقدس عن زواج البطرك إبراهيم بعد موت زوجته سارة من امرأة في النقب في محيط آدوم بقوله: «وعاد إبراهيم وأخذ زوجة اسمها قطورة» (تكوين، 25: 1) وأنجب منها شعب مديان، ترميزا لعلاقات واضحة بالمديانيين.
ثم يحكي لنا أيضا عن هروب موسى من مصر بعد قتله المصري وزواجه من صفورة المديانية بنت كاهن مديان رعوئيل/يثرون.
ثم يأتي المؤرخ ابن العبري فيلخص لنا الحدثين في عبارات كانت غير مفهومة بالمرة حتى تاريخه، لكنها تصبح واضحة في بحثنا هذا، جمع فيها ابن العبري ذكرات ذلك التاريخ المتناثرة، ليقول في نص شديد الأهمية لنا رغم أنه كان من المهملات تماما:
فهرب موسى إلى أرض العرب، وتزوج صافورا الزنجية ابنة يثرون بن رعويل المدياني ابن ددان بن يقش بن إبراهيم من زوجته قطورا التركية.
30
هل أصبحت شهادة ابن العبري إذن ليست من تهريفات القدماء كما توصف عادة؟ ونحن نعلم أن الأرض التي هرب إليها موسى كانت بلاد مديان/آدوم في سيناء الشرقية عند وادي عروبة، وهي ما يسميها ابن العبري «أرض العرب»، مصادقا على كل ما قلنا، وفي هذه الأرض العربية اجتمع ابراهيم العبري الآرامي مع الدداني مع المدياني مع - وهناك كان الغريب غير المفهوم - الزنج والأتراك، وهكذا لا يصح أن نندهش لاسم ددان بشمالي جزيرة العرب، وهو اسم إله مصري لبلاد النوبة وما والاها من جنوب وهي بلاد الزنج، ولا لمعرفة أن كلمة تركي في العربية تعني الجوال أو المشاء أو غير المستقر أبدا، هو «الشاسو».
وهكذا عرف المصريون محتلي بلادهم وبلاد بابل باسم الشاسو وهم الكاشو أو الكاشين، وكان هؤلاء الهكسوس عناصر خليط من شعوب متعددة، تضافرت بطونه في ثلاثة أعراق واضحة، استظلت جميعا بالثقافة واللغة المصرية: هي «النحسي الزنجي الكوشي الكاسي»، و«العموري السبئي القادم من جنوب الجزيرة» و«الهندوآري الأرميني وتفاصيله في العبري والحوري والحيثي، القادم من براري محيط بحر قزوين»، اجتمعت في دولتها المؤسسية التجارية ببلاد آدوم، وانطلقت عزماتها من بونت سالع البتراء عاصمتها الكبرى، وحملوا في بابل اسم الكاسيين، وحملوا في مصر اسم الهكسوس الذي ترجم إلى الحكام الرعاة ومرة إلى الملوك الرعاة، ومرة إلى الرعاة الأسرى ومرة إلى شيوخ البدو، وفي رأينا أن أصدق ترجمة هي الحكام الشاسو أو الكاشو من «حق = حاكم بالحق الإلهي = ملك» + «شاسو = كاشو = كوشي» فهم الملوك الكوشيون. ولما كانت كاشو وشاسو تعني المتحرك دوما إشارة للبدو، فهو ما يؤدي إلى ترجمتها «شيوخ القبائل البدوية».
وتشير المدونات القديمة وتفاسير المؤرخين، أنه كان في ذلك الحكم الهكسوسي طبقتان: طبقة دنيا من الجند المرتزقة من عناصر وقبائل شتى، وطبقة عليا هي الحاكم الفعلي المسيطر، وكانوا في معظمهم من العنصر الهندوآري، ويؤكد لنا «جاردنر» أن اصطلاح حق شاسو أو حق كاشو، أو كما دونه «حيق خاسه» يعني رئيس البلد الجبلية، وأن الاصطلاح يشير فقط إلى الحكام وحدهم، وليس كما ظن يوسفيوس أنه يشير إلى الهكسوس جميعا.
31
هذا بينما اختلط في نسيج الطبقة الدنيا الزنجي بالجنوب جزيري بالهندوآري.
ويؤكد ذات المعنى «زينون كاسيدوفسكي» في قوله: «إن الهكسوس أنفسهم لم يشكلوا سوى فئة قليلة العدد كانت على رأس المقاتلين، أما الجمهرة الرئيسية من هؤلاء فقد تألفت من شذاذ الآفاق الذين كانوا يقطنون الصحارى والمغامرين والمتشردين. وقد أظهرت التنقيبات الأثرية في مدينة أريحا، أن الهكسوس شغلوا هذه المدينة القديمة لوقت ما. وهكذا يجوز لنا أن نفترض أن مستعبدي مصر، كانوا يسيطرون على فلسطين أيضا. ويتوقع أن تكون عشيرة يعقوب قد جاءت مصر مع زحف الهكسوس أو بعد أن أقاموا سيطرتهم فيها. وقد استقبل يعقوب ومن معه استقبالا طيبا في مصر؛ لأنهم كانوا أقرباء المحتلين. ومن جهة أخرى ليس من الصعب أن نتوقع أن الفراعنة الهكسوس لم يثقوا بالمصريين، وكانوا يثقون بأنسبائهم الآسيويين الذين يجمعهم معا المنشأ واللغة.»
32
وعليه نفهم تقسيم السيادة بين بقية عناصر سادة الإمبراطورية، فبينما تركت بابل للسيادة الكوشية، وضعت مصر تحت سيادة النخبة الحيثية، التي ربما كانت الجنس القائد للإمبراطورية.
ويؤكد ما ذهب إليه كاسيدوفسكي، أن التوراة تكشف عن علاقة حميمة بين سكان المنطقة السامية، وبين قيادة الهكسوس التي احتسبناها حيثية، حيث تقول التوراة بترميزها عن عيسو/آدوم: «ولما كان عيسو ابن أربعين سنة اتخذ زوجة، يهوديت ابنة بيري الحيثي وبسمة ابنة إيلون الحثي» (تكوين، 26: 34). ثم تتأكد علاقة الحثي بالإسرائيلي، فتفصح عنها الزوجة الأولى لعيسو/آدوم، وكان اسمها «يهوديت»؛ فهي حيثية تنتسب باسمها إلى رب إسرائيل يهوه.
وعلى ذكر مدينة أريحا يمكننا أن نأخذها، كنموذج نموذج واحد فقط، يدلنا على عدد القبائل المتعددة التي توحدت في أخلامو الهكسوس، فيقول الكتاب المقدس عن المساحة، التي أعطاها الرب بني إسرائيل بعد وفاة موسى، وذلك في حديثه ليشوع:
من البرية ولبنان هذا إلى النهر الكبير نهر الفرات، جميع أرض الحيثيين. (يشوع، 1: 4)
ثم يعدد لنا سكان أريحا على أصولهم، فيقول:
أصحاب أريحا: الأموريون والفرزيون والكنعانيون والحيثيون والجرجاشيون والحويون واليبوسيون. (يشوع، 24: 11)
أما أقرب مصرولوجيست إلى ما قلناه حتى الآن، فهو مارييت
Mariette
الذي قال عبارة عابرة لم يكررها، أو يستفيض فيها في صدفة عبقرية:
إن قبائل الهكسوس كانوا أخلاطا من العرب وأهل الشام، وأكثرهم من الكنعانيين كما ذكر مانيتون، وكانت أكبر قبيلة حاكمة عليهم تسمى بالقلم الهرمسي خيتا، وفي التوراة هم الحيثيون، وفي التواريخ العربية العمالقة.
33
ولا يغرب على عين فاحصة أن تلحظ منقار الببغاء الأنفي، أو الأنف الببغائي المقوس القادم من الشمال الأرميني الحوري الحيثي، في سمات العنصر الإسرائيلي وفي الآدوميين وعرب الحجاز الشمالي المستعرب حتى الآن. وكان هبوط هذا الأنف إلى الحجاز في رأينا قد جاء بعد تشتيت قوة الهكسوس على يد أحمس وملوك مصر الذين خلفوه، فتشرذمت قواهم ليهبط بعضها الحجاز، ويبقى بعضهم في البلاد الحيثية والبابلية متماسكا، ليستمروا هناك زمنا أطول وصل إلى ما يزيد على أربعة قرون. ويدعم رؤيتنا حديث التاريخ عن عدم توافق بداية الحكم الكوشي في الرافدين مع نهاية الأسرة البابلية الأولى، واحتمال أن يكون الحكام الكاسيين السبعة الأوائل قد حكموا خارج بلاد بابل؛ لأن ذلك يلتقي مع ستة ملوك هكسوس حكموا مصر خلال 108 سنة على التوالي، فيما يقول لنا علم المصريات الحديث. ويبدو أن الهكسوس قد نقلوا عاصمة الإمبراطورية إلى مصر إبان احتلالها وقبل طردهم منها. ويزيدنا دعما أنه بعد التحرير تأتينا من مصر أخبار: أن آمنحتب الثاني واجه عصيانا في بلاد الشام، وكان رؤساء ذلك العصيان يحملون أسماء حورية.
34
لقد كان الهكسوس الحوريون ما زالوا حتى زمن آمنحتب الثاني سادة في الهلال الخصيب، بعد سقوط سيادتهم على مصر بعد ثورة أحمس.
وتحمل العجلة التي تجرها الخيل القادمة من براري قزوين، لتتمركز ردحا في وادي عربة تسمى «عربة»، أو في اللسان المصري الحديث (عربية)، بدلالة لا تحمل لبسا فيما وصلنا إليه من نتائج، حول مركز تجمع قوى الهكسوس مركزيا في وادي عربة، حيث من هناك هبط جنوبا فرع آرامي أرميني، هو الفرع الإسماعيلي ليسكن الحجاز ويستعرب، كما ظن المؤرخون العرب أنه استعرب، بينما هو منح الجزيرة عربيته ولغته العربية، التي تقبع في ثناياها اللغة المصرية القديمة فصيحة. بينما كانت ذكريات المنطقة تتواتر في مدونات التأريخ العربية، فيقول برهان الدين الحلبي راوي السيرة: «إن إسماعيل عليه السلام أول من ركب الخيل. وقد قال النبي
صلى الله عليه وسلم : اركبوا الخيل؛ فإنها ميراث أبيكم إسماعيل.»
35
وهنا ينبه «لويس عوض» في قراءته لتاريخ الهكسوس، إلى أن اصطلاح «حق - كاش» الذي يقرؤه «حكا خاز
Heqa-Khase » يرتبط فونيطقيا باسم الحجاز بجزيرة العرب، ويرى أن «الهكسوس لم يأتوا إلى مصر من الحجاز ومن شبه جزيرة العرب، وإنما استقروا فيها بعد طردهم من مصر، أما المنبع البشري الذي تدفقوا منه على الشرق القديم، ثم عبرو إلى مصر سواء على مرحلة واحدة أو دفعة واحدة، فهو حول بحر قزوين. وربما كان هذا المنبع ذاته مجرد محطة وسطى، استقروا فيها زمنا منذ هجرتهم من وسط آسيا، شأن كافة القبائل التي كانت تسمى آرية وطورانية وسامية. والهكسوس إذن ليسوا بني إسرائيل، إنما بنو إسرائيل على الأرجح قبائل دخلت كنفهم، ثم طردت من مصر بعد رحيل الهكسوس بقرون. ولعل بني إسرائيل هم العمو
Ammou ، التي كثيرا ما يرد ذكرها مع الخازو
Khasou
أو الهكسوس في النقوش المصرية القديمة، وكانت متمركزة معهم في شرق الدلتا بصفة أساسية.»
36
ورغم بعض الخلط عند الدكتور عوض، فإن التقاطه تطابق الهكسوس مع اسم الحجاز، وأن الحجاز قد اكتسب اسمه من الشراذم المطرودة من مصر، وهبوط بعضهم إلى شمالي الجزيرة، هي لقطة شديدة الإضاءة والتميز. ثم نتذكر فرع «سمعل» أو «إسماعيل » الآرامي ومملكة بيت عدن أو أدنى أو آدون أو عدن، والإله الذي كان ينتشر شرقي المتوسط باسم عدن أو أدن أو أدونيس، ويعني الرب أو السيد مرادف البعل. ونجد الإسرائيلي ينادي ربه بالتوراة: أدوناي أي يا سيدي، ولم تزل أدون بمعنى سيد في العبرية من الأصل عدن، أو السيد الرب الذي تنسب إليه قصة جنة عدن، التي تتحدث عن ذكريات عالم سعيد عاش فيه الأسلاف تحت رعاية ذلك السيد، قبل أن يغضب عليهم فيشتتهم من جنته الرباعية الأنهار، وهي الجنة التي لو دققنا في مواصفاتها الجغرافية بالتوراة، لأعطتنا مساحة الإمبراطورية الهكسوسية من دجلة والفرات إلى نهر النيل بالضبط وبكامل الموضوع.
وربما كان سيجموند فرويد محقا، وهو يربط الاسم الإلهي آدون باسم الإله، الذي تبناه أخناتون وعرف باسم «آتون»، والذي يلتقي مع اسم بلاد «آدوم»، قياسا على استخدام التوراة كما في عمران وعمرام. كما تلتقي مع الذكريات الأسطورية للإنسان الأول في جنة السيد الرب المعروف باسم «آدم»، وهي تسمية الجنوب اليمني لسكان بلاد آدوم، كما أسلفنا التوضيح، ومن ثم كانت بلاد آدوم هي بلاد آدون أو بلاد آتون أو بلاد عدن أو جنات عدن. وكانت تقع شرقي مصر حيث تشرق منها الشمس على مصر كل يوم؛ لذلك استحقت أن ينعتها المصريون باسم أرض الإله؛ لأن «آتون» في المصرية القديمة كانت تعني قرص الشمس، وتنسب تلك الأرض أيضا للإله ست، الذي يمنع أبوفيس في الأسطورة المصرية من ابتلاع الشمس فهي سيترويت، المقاطعة المصرية غير الموجودة في جدول المقاطعات المصرية، فهي مصرية شبه مستقلة، كذلك لم يتم تدوينها بتلك الجداول.
وبين سكان تلك البلاد الآدومية أو الآتونية أو العدنانية، كان العنصر القادم من بلاد أرابخيتيس أو بلاد «عرب»، الذين هبطوا وسكنوا الحجاز مستعربين، وفق رأي يرى جزيرة العرب هي موطن العرب، وأن من دخلها واستوطنها استعرب. لكن ما نراه قد حدث هو العكس، حيث منح هؤلاء اسمهم أولا لوادي عربة، ثم منحوه لجزيرة العرب عندما استوطنوها. ومن هنا احتسب الرأي العربي في كتاباته التاريخية، أن العرب الأقحاح هم عرب الجنوب، أما عرب الشمال الوافدة فهي ليست من أصول عربية إنما استعربت. رغم أن امتداد الجزيرة مستمر، من بحر العرب والمحيط الهندي جنوبا، حتى بلاد الأناضول شمالا دون عوائق جغرافية، حتى إن اصطلاح جزيرة العرب جغرافيا، يدل على المنطقة من المحيط الهندي حتى جبال زاجروس شمالا حتى اليوم.
وقام النسابة العرب ينسبون المستعربة إلى جد أسطوري بعيد، باسم عدنان على وزن فعلان من «عدن»، والكلمة عدن معرفة بلسان الجنوب، بأداة تعريف هي «ن» تلحق بآخر الكلمة، كما في «رحمن» و«رحمنن»، فالكلمة عدن في أصلها غير المعروف هي «عد» و«أد» و«حد»، والإله حداد هو أدد أيضا، ويمكن أيضا ببساطة أن تكون «ود» دون خلل، ونحن نذكر الإله البعل حداد أو هداد أو أد، كما لا شك نعرف الإله «ود» الذي عبد في بلاد آدوم وجزيرة العرب، على نطاق واسع حتى ظهور الإسلام، حيث ذكره القرآن ضمن أرباب العرب، وهو ذات الإله البعل حدد أو عد أو عدن.
وهو ما يستدعي آيات القرآن الكريم، التي كانت تحدثنا عن مدينة كبرى، اشتهر أمرها في العصور الخوالي، في دولة مركزية كبرى أطلقت عليها الآيات اسم «عاد إرم ذات العماد». ويؤيدنا تماما هنا أن «عاد» عند ابن قتيبة الدينوري، هو اسم علم لأب قبلي، يعطينا اسمه موافقا لكل ما قلناه، فهو عنده «عاد بن عوص بن إرم»، فعاد هنا قبيلة من نسل عيسو، وعيسو من نسل إرم، وإرم تلقي بنا في عمق التاريخ مع الآراميين القادمين من أرمينيا، ومع الإرم بمعنى الصخرة والصخرة عاصمة آدوم.
وبشأن عاد والعماد نقرأ لسان العرب، فيطالعنا تحت مادة «عدد»:
العد هو الكثرة. عادهم الشيء: تساهموه بينهم فساواهم. والعدائد: الشراكة. ويعني ابن الأعرابي بالشراكة جمع شريك، أن يقتسموها. والعديد الذي يعد من أهلك وليس معهم (لاحظ هذا وضع بلاد آدوم الستروي بالنسبة لمصر، فهي من أهلها، ليست معها [المؤلف]) والعد ماء الأرض الغزير. وعدان: الشباب والملك. ومعد أبو العرب وهو معد بن عدنان.
ثم نستطلعه كلمة العماد، فتأتينا في مادة عمد في قوله:
العماد الأبنية الرفيعة. وفي قوله تعالى: إرم ذات العماد قيل معناه أي ذات الطول. ورجل طويل العماد إذا كان معمدا أي طويلا. وعميد القوم وعمودهم: سيدهم. والعمود: القضيب الحديد. والمعمد: العمد والعمدان. والعمداني: الشاب الممتلئ شبابا. وقيل: هو الضخم الطويل.
والرباعي منه عمرد، والعمرود والعمرد: الطويل، يقال: ذئب عمرد. ويقال العمرد: الشرس السيئ الخلق. والعمرد: الذئب الخبيث. والعمرد: السير السريع الشديد.
والثلاثي منه عود: وعاد قبيلة وهم قوم هود. قال الليث: وعاد الأولى هم عاد بن عاديا بن سام بن نوح الذين أهلكهم الله. أما عاد الأخيرة فهم بنو تميم ينزلون رمال عالج، عصوا الله فمسخوا نسناسا. والعيدية ضرب من الغنم، والعيدانة النخلة الطويلة، والعيدانة شجرة صلبة قديمة.
وهي جميعا المعاني التي جمعت فأوعت قصة أولئك الذين تحالفوا، ولم يكونوا على قرابات أصيلة، مع صورة واضحة للمكان وللبشر. وما يلفت النظر تكرار صفة الشباب الممتلئ شبابا لدى العاديين، وهي ما يلتقي مع تلك الصفة فيهم، والتي سجلها عنهم التاريخ، عندما قال إن قواد الخيول الآرامية يسمون ماريانو أو مرين.
37
لذلك نعود إلى اللسان نقرأ تحت مادة مرن:
مرن: لين في صلابة. قال ابن بري: صوابه معك بالكاف، يقال رجل معك أي مماطل (نتذكر هنا أرام معكة الآرامية، وصفة تجار شعب الأيكة المماطل [المؤلف]). ومرنه عليه فتمرن: دربه فتدرب. والمرن الأديم الملين المدلوك (نتذكر أن الأديم هو التراب الأحمر صفة بلاد آدوم [المؤلف]). والمارن: الأنف، وقيل طرفه، وقيل المارن: ما لان من الأنف منحدرا عن العظم، وفضل عن القصبة . وبنو مرينا: هم قوم من الحيرة، وليس مرينا بكلمة عربية.
ويقترن الحديث في الآيات عن إرم ذات العماد وقومها عاد، بالحديث عن الذين جابوا الصخر بالواد، والذين «جابوا» أي الذين حفروا، ففي لسان العرب «جاب = حفر» في صخر الوادي، وهو ما يحيل إلى بلاد آدوم، وربما أحالت إحالة قوية إلى الجوبان أي الارتحال، وهو ما يذكرنا بقول التوراة: «آراميا تائها كان أبي»، لكن الغريب هنا أن تقترن قصة عاد إرم في الآيات بفرعون الطاغية، وهو ما انتهى بكارثة قضت على قوم عاد أو العاديين أو «عدن». وهو ما يستدعي ما جاء في تاريخ هروشيوش، عن النار التي أحرقت بنط بوليس أو بلاد بونت أو البلاد الخماسية؛ لأن «بنت» أيضا تعني باليونانية رقم خمسة، ومنها جاءت تسمية التوراة بالأسفار الخمسة «بنتاتك
»، ثم نجد تفسير معنى بونت/الخماسية في الكتاب المقدس، الذي يفيدنا أن مدائن بلاد آدوم في وادي عربة، كانت خمس ممالك هي سدوم وعمورة وأدومة وصبوييم وبالع، وتحمل بالع أحيانا اسما آخر هو صوغر (سفر التكوين، 14: 8)، وتقع صوغر باسمها هذا حتى الآن جنوبي البحر الميت، وتطل عليه مباشرة، وهي الآن «صغر».
ونستعيد الاسم الذي أطلقه الكاسيون على بلاد بابل عندما احتلوها، فهو «كاردونياش»، أي قطر «كار» الإله «دون» مع التصريف الاسمي «ياش»، وبدون هذا التصريف تصبح «دون» أو آدون، أو عدن أو أدن أو آتون أو «دان»، أي الإله السيد القاضي.
وإذا كان معنى «عد» في اللسان، هو كثرة يتساهمون في شركة يتقاسمونها، فقد كان معناها أيضا الشباب والملك والسيادة، ومن الكلمة جاء اسم معد بن عدنان أبو العرب. وكلها من الأصل الثنائي «عد»، مما يحيل إحالة قوية إلى أن الاسم «عدن» هو من الأصل «عد» بعد حذف أداة التعريف الجنوبية «ن». وعليه فقبائل عاد هي قبائل عد أو الإله عد، أو ود، أو آدون، أو عدن. القرآن الكريم إذن يقرن عادا بإرم فتكون عاد إرما، أو «أدإرم». وذكر الجغرافيون الإغريق هذا الشعب تحت اسم «أدرميتاي»، وقد ظن البعض أن تلك الكلمة اليونانية
Adramitae
تعني حضرموت، وهو التباس وخطأ واضح، حيث إن حضرموت كانت تكتب باليونانية
Chataramotitae ، وهي غير أدراميتاي التي تتركب من مقاطع هي على الترتيب:
Ad
عاد
Ram
إرم
Tae
شعب أو قبيلة = قبيلة عاد إرم
وفي إشارة عابرة لا تحمل كل ما قدمنا من جهد، يقول المؤرخ الفرنسي سدل
Sadles
على محمل الظن والصدفة في كتابه «تاريخ بلاد العرب»:
إن عادا قد امتلكت مصر وبابل سنة 2000ق.م. وقد عرفوا حينئذ بالهكسوس.
38
ثم نلحظ أن كلمة «عاد» في العبرية تعني: مرتفع، وشهير، وهو ذات معنى كلمة إرم وكلمة سام في العربية، فهي الصخرة والتل المرتفع الشهير، وقد وصف الجغرافيون اليونانية موضع سكنى هؤلاء، فقالوا إنه كان على خليج العقبة، وأطلقوا عليهم اختصارا اسم
Oaditae
أي العاديين، وبعدهم جاء بطليموس ليقول في زمانه (أي بعد عودتهم جنوبا نحو اليمين) أن العاديين قد أصبحوا سكان بلاد اليمن.
39
وإعمالا لكل ذلك؛ فقد وفد إلى وادي عربة القادمون من آراب خيتيس وهم آريون، مع القادمين من الجزيرة التي عرفت بعد ذلك بجزيرة العرب. وفي وادي عربة يلتقون بالكوشيين القادمين من ساحل أفريقيا الشرقي. ويفيدنا سميث أن أول ما ذكر اسم العرب ذكر منسوبا إلى وادي عربة، وسكان هذا الوادي المعروف باسم عرابة، وهي الكلمة التي تحمل معنى صحراء في كل اللغات السامية، إلا في العبرية فمعناها غابة.
40
وهو ما يعني أن العبريين كانوا يعرفون أنها أيكة. وبهبوط شراذم من هذا النسيج إلى جزيرة العرب، أعطى الجزيرة اسمها فانقسم أهلها إلى أصيل ووافد: عرب قحطانية وعرب عدنانية مستعربة، أو عرب يمنية وعرب قيسية والقيسية هي المستعربة، وقيل فيهم قيسية نسبة إلى جد بعيد باسم قيس، وخلال التاريخ بطوله نجد تنافسا شديدا داخل جزيرة العرب، وصراعات طويلة بين اليمني والقيسي يمتد حتى اليوم، فالكلمة يمن تعني الجهة الجغرافية الجنوبية، وقيس تعني شمال. ولا شك أننا لم ننس أن هؤلاء القيسيين الشماليين، كانوا يحملون في منظومة الأخلامو اسم الكاسيين أو القيسيين الذين احتلوا بلاد بابل.
وهنا أسجل إضافة هامة؛ فقد زارني في بيتي بالهرم يوم الخميس 7 / 3 / 1996م العالم الجليل الأستاذ المبرز، علي فهمي خشيم إبان زيارته لمصر، وهو رجل قد تخصص ببراعة تستحق الإكبار في كثير من اللغات القديمة، وبخاصة المصرية القديمة. وقد اعتمد كتابنا هنا كثيرا من تخريجاته المبهرة، وتحادثنا طويلا وجرنا الحديث إلى ما أكتبه الآن بين يدي قارئي، وجاء ذكر لغز الملكة بلقيس. ذلك الاسم المتواتر في كتب التراث باعتباره اسم الملكة التي زارت سليمان. رغم أنه لم يذكر أبدا لا بالكتاب المقدس ولا بالقرآن الكريم. وطرح الدكتور خشيم في هذا اللقاء الذي أعتز به فهما جديدا لاسم بلقيس، فاقترح أن يكون كلمة مركبة من ملصقين: الأول هو بعلة أي سيدة أو ربة أو ملكة. والملصق الثاني هو قيس فهي بعلة قيس، وبالتخفيف سقطت العين لتصبح لقيس. وهو التخريج الذي يلتقي بشدة مع كل ما وصلنا إليه في تناغم مدهش رائع.
وهكذا كان سقوط كثير من المعلومات التاريخية في مصر، إبان الفترة غير الكتابية زمن إمبراطورية الهكسوس، قبل أن يأخذوا الخط البابلي ويطوروه إلى الآرامية، الذي تطور بعد ذلك إلى نبطية، مدعاة لألغاز كبرى في التاريخ، يمثلها تأريخ «إحسان عباس» في كتابه عن الأنباط، سكان جبل سعير السراة ووادي عربة؛ إذ يقول:
مع أن الأنباط عاشوا على المشارف الشمالية من الحجاز، فليس لهم أي ذكر في مصادرنا العربية، عرف العرب من يدعون النبط بأنهم أهل سواد العراق، أو السكان الأصليون في الشام والعراق. وعرفوا بأنهم حاذقون في الزراعة وعمارة الأرضين، وفي استنباط المياه واستخراج المعادن، وأن لهم لغة خاصة بهم هي النبطية، أي الآرامية والسريانية، وكل هذه الخصائص التي ذكرت تنطبق على أنباط بترا. ولعل العرب عرفوها باسم آخر. إن عرب الجنوب أنفسهم الحريصين على التدوين، لم يذكروا اسم النبط في رقمهم المنقوشة، مع أن الأنباط كانوا على الدوام يعاملونهم تجاريا. نعم عرف العرب الجنوبيون ن. ب. ط لقبا لشخص، ون. ب. ط/ك. ر. ب علما على آخر، أو ن. ب. ط. م اسما لعلم أيضا، ولكنهم لم يعرفوا قوما بهذا الاسم، مما قد يرجح الافتراض بأن يكون أنباط بترا، قد عرفوا باسم آخر ترجيحا قويا. ومن الباحثين من ربط بينها وبين لفظة نبايوت. ومنهم من قرنها بلفظة النبياتيين والنبأيتي، التي وردت في مدونات تجلاتبلاسر الثالث، وفي مدونات أسر حادون، ومن بعد لدى آشور بانيبال. ويبدو أن اللفظة كانت تشير إلى قبيلة آرامية، كانت تعيش في القرن الثامن ق.م. ويقرن بالأنباط عادة شعبان هما: الإيدوميون أو الآدوميون وبنو قيدار، وقد كانت بلاد الآيدوميين منطقة يمثل حدها الشرقي - على وجه التقريب - خطا ما أصبح يسمى طريق الحج من دمشق إلى مكة، وربما كان وادي العريش هو حدها الغربي، أما جنوبا فقد كانت المنطقة تمتد حتى رأس خليج العقبة، ويقف حدها الشمالي عند النهير المعروف اليوم بوادي الإحسي، وهو يجري إلى الشمال الغربي مخترقا غور الصافية/الصافي، ويصب في الطرف الجنوبي من البحر الميت.
41
وهنا علينا أن نقدم اجتهادا واضحا، يفسر السر وراء ذلك التحول الكبير لمنطقة بلاد آدوم، ونشوء ذلك الخط التجاري العظيم في المنطقة، وأننا نعتقد أن ذلك قد حدث تحديدا مع هبوط العنصر الآرامي الحيثي الحوري القادم من الشمال، والذي جاء معه بثلاثة أعمدة كانت أساس ذلك التحول نحو إمبراطورية تجارية مركزية. العمود الأول منها هو الجمل ذلك الحيوان الذي حل مشكلة النقل التجاري من أطراف المحيط الهندي جنوبا حتى تركيا شمالا، حيث لم تعرف بلاد الشرق المتوسطية الجمل إطلاقا قبل ظهور الهكسوس في المنطقة، وكان مجيء الجمل إيذانا بنقل تجاري أسهل وأقل مخاطرة من الإبحار في البحر الأحمر. ذلك البحر المليء بنتوآته الصخرية وشعابه المرجانية مع سفن بدائية، وكان مجيء الجمل عوضا حميدا عن تلك المخاطر، فالجمل الواحد يمكنه حمل أربعة قناطير (أي ما يقرب من حمولة سفينة كاملة حينذاك) يقطع بها ستين ميلا في اليوم في الصحراء (وبذلك يكون أسرع من أي سفينة بحرية)، زد على ذلك أنه بإمكانه أن يسافر عشرين يوما بدون ماء في درجات حرارة عالية (وهو غير متوفر بالسفن البحرية)، ثم يمكنه أن يسافر أكثر من ذلك، إذا أعطي شيئا من الكلأ الأخضر، ويمكنه أن يواصل السفر لخمسة أيام أخرى بدون كلأ أو ماء قبل أن يموت.
42
وعليه فقد صدق التعبير «الجمل سفينة الصحراء»، الذي لا شك لم يأت من فراغ بل من مقارنته بالسفن فعلا وقولا، فأنشأ خطا تجاريا آمنا عبر الصحراء، أدى إلى اجتذاب التجارة إلى مركزها الرئيسي في سالع البتراء. وكان لا بد أن يجذب هذا النشاط التجاري العالمي مجاميع وصنوفا من البشر، سيطرت عليها القوة الأكبر «الحيثيون»، الذين تحولوا بالطريق التجاري إلى إمبراطورية كبرى.
أما العمود الثاني فهو الحصان، الذي ارتبط بالعمود الثالث وهو المعدن القوي من البرونز، أو الحديد الأكثر تطورا من البرونز، حيث أصبح بالإمكان صناعة عجلات قتالية حديدية قوية، وخفيفة في الوقت نفسه تعمل بالبرامق (مثل عجلات الدراجة الهوائية الآن)، وتحتمل الصعاب، لتشكل مع الحصان والسيف الحديدي تحولا هائلا في عالم تسليح ذلك الزمان. والمتفق عليه أن الحديد جاء تحديدا مع الحيثيين الذين تدفقوا في البداية كعناصر متاجرة، وكجند لحماية القوافل، وشركاء في التجارة، ثم بعد ذلك في المكان. ويبدو أنهم قد أقاموا معامل التعدين في جبال تمناع عند العقبة. وبعضهم حمل اسم القيني أي الحداد. وبعد فترة وجدوا في أنفسهم من القوة ما يمكنهم من السيطرة الفعلية على المنطقة حولهم، في وقت كانت المنطقة نفسها مهيئة لذلك، فمصر تمر بصراعات داخلية وثورات مزقتها تمزيقا وهيأتها للغزو المرتقب، بعد أن كانت القوة الكبرى في المنطقة التي عليها العول والمعتمد من بقية دول حوض المتوسط الشرقي.
وهنا نستمع إلى عبد المنعم أبو بكر يربط بين الميتانيين الحوريين (بعضهم بالفرات الأعلى كالعادة/وهم مديانيون سيناويون في رأينا)، وبين الحيثين والهكسوس جميعا دفعة واحدة فيقول: «تعرض العالم القديم منذ القرن العشرين قبل الميلاد لهجرات متعددة قامت بها قبائل جبلية غير متمدنة تسكن المناطق الوسطى من آسيا، وتعرف في التاريخ باسم القبائل الهندو أوروبية ... كانت فلول منهم عرفها التاريخ باسم القبائل الكاشية، قد وصلت إلى أوسط العراق، وهاجمت مدينة بابل بعد موت حمورابي بثماني سنوات، فقضت على الأسرة الملكية، وتولت فئة منهم الحكم في بابل لفترة من الزمن، كما نزل البعض الآخر إلى المناطق الشمالية من العراق، واستقروا في وادي الفرات الأعلى، وكونوا هناك دولة الميتاني التي امتدت حتى قاربت حدود الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط، وهؤلاء من عرفهم التاريخ تحت اسم الحوريين، وهناك القبائل التي استمرت في هجرتها نحو الغرب، ووصلت آسيا الصغرى (تركيا)، واستقرت فيها وظهرت في التاريخ باسم الحيثيين، ومنها أخيرا تلك الفلول التي استمرت في هجرتها البطيئة نحو الجنوب، ووصلت إلى مناطق سوريا فلسطين. وبعد أن استقرت فيها بعض الوقت وامتزجت بأهلها، عاودت التحرك نحو مصر التي كانت تعاني من التفكك والاحتلال في عصر الأسرة الثالثة عشرة، فدخلت الدلتا حوالي عام 1788ق.م. واستقرت فيها، ومدت سلطانها على البلاد حتى أسيوط جنوبا، وعرفهم التاريخ باسم الهكسوس.»
43
ومن التلاقح الذي حدث بين الجنس الجنوب جزيري وبين الجنس الزنجي الكوشي الحامي، وبين الجنس الهندوآري، ظهر على صفحة التاريخ جنس أحدث نسبيا هو الجنس السامي في بلاد سيناء/آدوم وبوادي الشام، وما زلنا نذكر النظريات الثلاث حول أصل الجنس السامي، ومن بينها النظرية التي تعيده إلى شمال شرقي أفريقيا في التقائه مع آسيا عبر سيناء، وهو كلام بعض المؤرخين قد ألقوه، كان قد تم القاؤه إلقاءا، رغم صحته الشديدة التي برهنت عليه نظريتنا حتى الآن.
وقد حدثنا القرآن عن قوم «عاد»، وأنهم كانوا يسكنون الأحقاف ببلاد اليمن، لكن المؤرخين الكلاسيكيين حدثونا عن زياراتهم لدراسة البلاد القابعة عند خليج العقبة، وأن اسمها كان «عاد» لكنهم لم يحدثونا عن سكنى عاد لليمن، وفي آيات أخرى من القرآن الكريم نجد موطنهم ليس في الجنوب، إنما في الشمال بالقسم الشمالي الغربي للجزيرة عند العقبة، وسط غابة من الكتابات الثمودية، التي تنتشر في تلك المنطقة بآلاف النماذج، وهو الأمر الذي أدى إلى القول بعادين يمثلان مرحلتين زمنيتين في مكانين مختلفين لقوم عاد، فهناك عاد الأولى التي كانت في أحقاف اليمن، وأرسل الله لهم رسولا هو النبي «هود»، ثم عاد الثانية التي أقامت عند العقبة، وقد أشار القرآن الكريم لمساكن عاد، لكن ليس في اليمن، إنما حول خليج العقبة، فتحدث عن آثارهم الباقية في مساكن منحوتة بالجبال.
وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين * فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين * وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم .... (العنكبوت: 35-38)
وإلى ثمود أخاهم صالحا قال ... واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا . (الأعراف: 73، 74)
وظل ذكر قوم عاد حتى وقت متأخر، فهم يظهرون في خرائط الجغرافي المصري اليوناني بطليموس كلاوديوس
121-151ق.م. المعروف عند العرب ب «القلوذي»، تحت اسم
Oaditae
العاديون عند العقبة بالتحديد.
وقد أوجز «لطفي عبد الوهاب» ما جاء بالقرآن بوجودين في مكانين متباعدين لعاد، على مرحلتين زمنيتين هي عاد الأولى وعاد الثانية بقوله: «أما عن وجود مكانين مختلفين لعاد الأولى والثانية، فتفسير ذلك هو الهجرات التي عرفها عرب الجنوب إلى شمالي شبه الجزيرة. إن هجرات قد تمت من الجنوب إلى الشمال بشكل أو بآخر، وإن بعض هذه الهجرات اتخذ شكل مستوطنات أقامها التجار أو الحكام الجنوبيون في شمال شبه الجزيرة لمحطات تجارية لقوافلهم في البداية، لكن هذه المستوطنات لم تلبث أن تحولت إلى كيانات قائمة بذاتها ... وقد كان بعض هذه المستوطنات يتخذ اسم القوم أو البلد الذي جاء منها لمستوطنين في البداية ...»
44
وتذكر عاد وثمود في القرآن الكريم متلازمتين بشكل متكرر ومتواتر، وهو ما يشير إلى تجاور مكاني، ويتحدث عن أرض الثموديين باعتبارها جنات وعيونا وزروعا ونخيلا (147، 148 الشعراء)، وإذا كنا لم نتأكد من موضع عاد الأولى، فإن الواضح رفقتها وملازمتها المكانية والزمانية لثمود، التي نحن على يقين من موضعها في شمال غربي الجزيرة؛ لما تركوه من مخربشات كدليل أركيولوجي تام الوضوح، ولدينا إضافة لذلك قش آشوري منذ حكم الملك سرجون يظهرهم يقطنون شمال الجزيرة في القرن الثامن ق.م. كذلك نجدهم في كتابات بلينوس أواسط القرن الأول الميلادي، وأنهم ما زالوا موجودين هناك تحت اسم ثموادي
Tamudaei ، وفي النصف الأول من القرن الميلادي الثاني نجد بطليموس القلوذي يرسمهم على خريطته شرقي العقبة باسم
Thamydeni ، على التعامد مع قوم عاد الذين وضعهم القلوذي إلى الشمال منهم على الخط التجاري العالمي، وظل الثموديون في مواضعهم حتى كتب عنهم يوسابيوس
Eusebois
حوالي 260-340ق.م. وظلوا مذكورين حتى تاريخ بروكبيوس
المؤرخ الروماني الذي توفي في 565ق.م.
45
لكن الباحثين يتضاربون جميعا حول تزمين سيادة القبائل التي سادت وحكمت وأعطت اسمها لحضارات متأخرة في الغسق الأخير لأضواء منطقة العقبة، فيشيرون إلى سيادة قبائل توصف بأنها قبائل عربية باسم قيدار، وقيدار هو اسم الابن الثاني لإسماعيل بن إبراهيم في خريطة الأجناس التوراتية، وقبائل باسم الأنباط وتنتسب إلى نابت بن إسماعيل الابن الأول والأكبر، إلا أننا نعتقد من جانبنا بتعاصر قبائل ثمود مع زمن قيام الحلف الكبير، وأنها كانت في مواطنها بمنطقة الحجر المعروفة بمدائن صالح الآن، نسبة إلى نبي حدثنا عنه القرآن باسم صالح، وأنه ضمن تلك القبائل كانت قبائل قيدار أيضا. فعلى امتداد بلاد آدوم الجنوبي وعلى الخط التجاري العالمي قرب ساحل البحر الأحمر الشرقي، قامت محطة كبرى للتجارة في منطقة الحجر قطنتها قبائل ثمود، التي يزعم المؤرخون أنها ظهرت متأخرة إلى حد بعيد عن زمن الأحداث، التي نحكي عنها زمن الهكسوس/الأخلامو، فيعيدونهم في أبعد تزمين إلى ق 9ق.م. ثم يقولون لنا إنه مع ثمود ظهرت قبائل عربية باسم قيدار، التي نراها من جانبنا ذات قبائل ثمود، كما نعتقد أنه في ذات الزمن أيضا كان الأنباط النابتيون. كل ما في الأمر أنه بعد سقوط الحلف، وتشتته بعد ضربه من قبل المصريين في ثورة التحرير، التي طردت الهكسوس، ثم طاردت فلله في آسيا في حملات متتالية. وبعد فشل عدة محاولات جدية لإعادته فقد توالى أخلاف القبائل ذلك الحلف بعد ذلك - أو من بقي منهم بعيدا عن الشتات - على زعامة المنطقة، فظهر حكم الثموديين والقيداريين والأنباط ... إلخ. لكن ذلك لم يكن أول ظهور لهم، بل كانوا قائمين وموجودين طوال الوقت منذ زمن الأخلامو، وحتى آخر دولتهم التي ظهرت في المنطقة «اللحيانيين» و«الغساسنة» و«الصفائيين»، لينتهي بهم خط تاريخ تلك البلاد إلى ظلام السكون، حتى جاء الرحالة بوركهاردت ليعيد اكتشاف بلاد آدوم مرة أخرى.
وأول القرائن الواضحة التي تؤكد أن ثمود التي سكنت بلاد الحجر، كانت امتدادا للحلف الكبير على الطريق التجاري في زمنه البعيد، أن المشاهد لمنطقة مدائن صالح/الحجر، سيجد نفسه أمام نسخة أخرى من البتراء، من حيث النحت في الصخر، والسكن في الكهوف الصخرية، التي تشبه أعشاش النحل، ناهيك عن كون الحجر كان في محيط السيطرة المباشرة لسالع/بونت/البتراء. وتقع الحجر ضمن دائرة مدن كانت من أعمال العاصمة الكبرى، فمعها مدن سبقت الإشارة إليها كامتداد للعاصمة، ففي محيطها الشرقي مباشرة نجد تيماء، ثم دومة الجندل التي حملت في أسمائها «تيماء، دومة»، ترديدا لاسم البلاد الأم آدوم، وكذلك وادي القرى.
وبسبيل التأكد من صدق ما نعتقد نستمع إلى المؤرخ الدءوب مظفر نادوثي يقول: «إن للإسماعيليين تسمية أخرى هي الهاجريين، وقد أشير إليهم في العهد القديم بهذا الاسم. وقد أشارت التوراة إلى عشيرتين من الإسماعيليين في قولها: قطعان قيدار وخراف نبايوت. وهناك قبيلة أخرى أشير إليها باسم ماعون، وهي التي أطلق عليها العرب اسم معين.»
46
الإشارات هنا واضحة، فالقيداريون يعاصرون النابتيين الأنباط يعاصرون معين أو معان، ومن جانبها أشارت التوراة بما يفصح عن تحالف تلك المنطقة، مرموزا لها بأسماء أشخاص ربطتهم التوراة بصلة قرابة الدم، فالتوراة تؤكد في خريطة الأجناس أن «تيما» أو «تيماء»، بدوره كان ابنا لإسماعيل (تكوين، 25: 15؛ وسفر أيام الأول، 1: 29-30)، والمبهر أنها ذكرته بالترافق مع سبأ التي تأكدنا من وجودها شمالا بذات المنطقة (سفر أيوب، 6: 19؛ وحزقيال، 27: 21-22)، ثم بالترافق مع مدينة العلا/ددان (سفر إشعيا، 21: 13، 14؛ وإرميا، 25: 23)، ويلخص حزقيال تلك العلاقات لهذه المدن بدولة يهوذا، بقوله:
ددان تاجرتك بطنافس للركوب، العرب وكل رؤساء قيدار هم تجار يدك، بالخرفان والكباش والأعتدة. في هذه كانوا تجارك، شبا ورعمة هم تجارك، بأفخر أنواع الطيب وبكل حجر كريم وبالذهب أقاموا أسواقك. (حزقيال، 20: 22)
أما إشعيا فكان يتنبأ بضرب إسرائيل لقوم يأتي ذكرهم في قوله:
وحي من جهة بلاد العرب، في الوعر في بلاد العرب تبيتين يا قوافل الددانيين، هاتوا ماء لملاقاة العطشان، يا سكان أرض تيماء وافوا الهارب بخبزه، فإنهم من قدام السيوف قد هربوا، يفنى كل مجد قيدار؛ لأن الرب إله إسرائيل قد تكلم. (إشعيا، 21: 13-17)
واضح أن شمال الجزيرة الآن قد أخذ يكتسب اسم بلاد العرب، وأن التوراة تتحدث هنا في زمن متأخر، بعد هبوط العرب المستعربة الشمالية العدنانية الإسماعيلية إلى الجزيرة ليمنحوها اسمها «جزيرة العرب». ويتواتر في ذلك الزمن ظهور اسم العرب لوصف سكان الجزء الشمالي من الجزيرة، ونجد في نقوش الملك الآشوري «شلمناصر الثالث 858-824ق.م.» ذكرا لانتصاره على تحالف ملوك أرام ضده، ويطابق شلمناصر بنقوشه ما وصلنا إليه بوضوح كاشف ومضيء، فهو يعدد لنا أعضاء هذا الحلف الآرامي، لنجد منهم «جنديبو» الموصوف في نقوش شلمناصر بالعربي، وجماعة توصف بأنها عربية بدورها باسم «أدوماتو» وهي «آدوم» بوضوح.
ثم نجد في نقوش الملك الآشوري «آشور بانيبال 626ق.م.» تعدادا لحلف عربي يعدد أعضاءه، فيقول إنه مكون من قبائل هي: السبئي والتمئي والثمودي والعاديد والمارسمانو والنبط وقيدار، الذين هم: سبأ، تيماء، ثمود، عاد، مارسمانو، (لم نعرف المقصود بمارسمانو بالتحديد)، الأنباط، القيداريون.
ونفهم من نصوص آشوربانيبال أن هؤلاء الأحلاف كانوا تجارا، وأن تجارتهم كانت في التعدين الذي برعوا فيه: الذهب والقصدير والحديد، والملابس المصبوغة باللون الأرجواني الأحمر، والطيوب من بخور مر ولبان، والعاج، بل وتاجروا في حيوانات لا يمكن أن يجمعها سوى مركز تجاري كبير ممتد حتى جنوب البحر الأحمر عند المندب، فمن تلك الحيوانات كان الفيل، وهو حيوان إفريقي أو هندي، ولكن نصوص آشوربانيبال تؤكد وجوده في آدوم، ثم تاجروا بحيوانات أصبحت من حيوانات المنطقة بعد مجيئها من الشمال الأرميني، واستيطانها في بلاد العرب الأولى «آدوم وسيناء». ومن هذه الحيوانات الجمال والخيول، فهل نستغرب بعد ذلك وجود الزراف في واردات بلاد بونت مع بعثة حتشبسوت؟
والزائر لمدينة العلا/ددان سيجد نفسه أمام نقوش وكتابات ددانية ومعينية وثمودية ونبطية معا،
47
مما يشير إلى تعاصر وتعاضد وتحالف، أما مدينة الحجر فتكتظ بألوف الكتابات الثمودية المتناثرة على الصخور، ويسميها المؤرخون مخربشات لقيمتها التاريخية المحدودة، فهي فقط تحوي أسماء أفراد وأدعية للآلهة وحسابات تجارية وعوائد. وقد عثر بالحجر على أختام تجارية على شكل أسطوانات ومربعات ودوائر . وتكاد تلك الأختام خاصة تلك التي عثر عليها في ددان/العلا، أن تكون نسخة أخرى من الأختام الرافدية القديمة، مما يشير إلى أن تلك المنطقة الجغرافية كانت رقعة واحدة في زمن مضى.
48
وفي محيط الحجر/مدائن صالح يقع عدد من المستوطنات، أهمها القرية التي اشتهرت بكهوفها المنحوتة بالجبال، وبآثار كثيرة وفخار أعادها المكتشفون إلى الحضارة المعينية، وأعادوا بعضها الآخر إلى زمن سيطرة الأنباط،
49
وبدراسة مخربشات تبوك والعلا ومدائن صالح وتيماء ووادي السرحان وحائل وجبل رقم الثمودية، تم اتفاق العلماء مؤخرا على أنها تعود إلى زمن موغل في القدم، يصل إلى الألف الثالث قبل الميلاد. ومن آثار تيماء قصر زلوم المعروف بالأبلق الذي اشتهر في أساطير العرب باسم قصر السموأل.
50
والسموأل بالعبرية شموئيل وصموئيل، والثلاثة يتجمعون عند الاسم العربي لصاحب ذلك القصر، الذي لا شك حكم منه يوما وهو اسم «إسماعيل»، ويظهر لنا عند العرب اسم غريب هو «الرقيم»، ظهر قبلهم عند المؤرخ اليهودي يوسفيوس، وقد رجح الباحثون أنه التسمية العربية لمدينة البتراء أو لمدينة الحجر أو لكليهما. وأورد إحسان عباس رأيا يقول: إن الرقيم هي المدينة التي وردت في المصادر الصينية باسم «لي - قن» من «ري - قم»، مما يشير إلى مساحة التوسع في التواصل التجاري العالمي، الذي لا يمكن القيام به إلا لإمبراطورية قوية كبرى، ثم ورد اسم الرقيم في رسالة سريانية تحدثت عن زلزال دمر الرقيم، ونحن نعلم أن هناك زلزالا قد دمر البتراء عام 363م.
51
وهو ما يذكرنا بهروشيوش المؤرخ، الذي قال إن بلاد بونت أو الدولة الخماسية المدن أو الخماسية الحلف «بنط بوليس»، الواقعة بين العقبة والبحر الميت حسب تحديده، قد نزلت عليها نار من السماء فدمرتها . وأشهر تلك المدن التي تم تدميرها سدوم وعموره. والمعلوم أن المنطقة تقع على خط زلزالي ساخن، فوق امتداد الأخدود الإفريقي العظيم. وقد ذكر القرآن الكريم بدوره دمارا أصاب عادا وثمود، التي هي في رأينا ذات سدوم وعمورة؛ لأن سدوم هي بالقلب سمود أو ثمود، ويبقى أن تكون عاد هي عمورة ، ولا ننسى أن العاديين أو أهل عاد كانوا من العموريين، التي تنتسب إليهم عمورة أو ينتسبون إليها، ويؤكد هذا المعنى أن ترتيب المدن الخمسة يبدأ من الجنوب إلى الشمال بمدينة سدوم ثم مدينة عمورة، وتصبح سدوم بهذا التخريج هي ثمود/مدائن صالح، وتليها شمالا عمورة (عاد/إرم ذات العماد/بونت/سالع/الصخرة/البتراء).
ومن القبائل الإسماعيلية المشهورة كان النابتيون أو الأنباط المنتسبون رمزيا إلى الابن الأكبر لإسماعيل «نابت أو نبايوت»، ثم القيداريون نسبة إلى الابن الثاني لإسماعيل «قيدار». وفي المقدس التوراتي ذكر لملك عربي باسم جشم (سفر نحميا 2: 19)، الذي يبدو صيغة من «جاسم». وقد تطابق هذا الاسم مع اسم عثر عليه في نقش على طاسة في تل المسخوطة بوادي طميلات قرب الإسماعيلية بمصر، في أقصى شرقي الدلتا على الحدود السينائية، ويقول النقش المكتوب بالآرامية: «نذر إلى هاب - إيلات من قينو بن جشم ملك قيدار».
52
مما يعني أن جشم الوارد في سفر نحميا كان ملكا على قيدار. أما قينو فهي القيني/الحداد، وما يؤكد لنا أن القيداريين كانوا من سكان سالع/البتراء ما جاء في سفر إشعيا يقول:
لترفع البرية ومدنها صوتها، الديار التي سكنها قيدار، لتترنم سكان سالع من رءوس الجبال، ليهتفوا. (إشعيا، 42: 11)
ويدعم لنا أن القيداريين هؤلاء كانوا من سكان الجنوب، الذي هاجر شمالا للتجارة بصحبة معين وسبأ وزنج أثيوبيا، في رحلة عمورية عماليقية تدريجية، استوطنت حتى استفحلت وتضخمت في حلف كبير، هو أن قاموس الكتاب المقدس يقول لنا تحت مادة قيدار: إنه اسم سامي يعني الصفة اللونية «الأسود» أو «الزنجي».
لقد كانت قيدار من ثمود من العموريين القادمين من الجنوب، لكن الكتاب المقدس أصر على أنها من الجنس الآرامي القادم من أرمينيا، فنسبتهم بالبنوة إلى إسماعيل بن البطرق إبراهيم الآرامي لتأكيد معنى الحلف، حيث يرى الباحثون - دون أن يذهبوا مذهبنا لا في كله ولا في تفاصيله الدقيقة - إنه «في وقت لم يكن فيه سكان شبه الجزيرة قد عرفوا التكتل حول أيديولوجيات سياسية، كان التصور الوارد هو التكتل حول العصبية، التي تقوم على أساس من رابطة العرق أو رابطة الدم، والانتماء إلى أصل واحد سواء كان حقيقيا أو موهوما.»
53
وهنا يتأكد ظننا في تعاصر الجميع زمن الحلف الكبير من «فراس السواح»، الذي يستنتج من المادة التاريخية: «أن الأنباط لم يكونوا سوى فريق قيداري أقام في سالع بصفة دائمة، وتحول اسمها إلى بتراء فيما بعد. واسم بتراء باليونانية يعني الصخر، وكذلك اسم سالع بالكنعانية.»
54
أما امتداد مدينة الصخر الجنوبي، فقد حمل ذات المعنى في مدينة مدائن صالح، التي كانت تحمل اسم الصخر في اسمها (الحجر). بل إن إحسان عباس يقول: «وتحولت المنشأة النبطية في مدائن صالح الحجر إلى مدينة كبيرة، وتكاد القبور المنحوتة في الصخر هناك تضاهي الآثار المنحوتة في الصخور في بترا نفسها.»
55
ثم يتساءل: «هل يمكن أن نوحد بين بني قيدار وأصحاب الحجر الذين ذكرهم القرآن الكريم؟ يصح هذا لو استطعنا أن نثبت أن بني قيدار هم أنفسهم ثمود، الذين ورد ذكرهم في القرآن. وهنا يجب أن نعرف أن اسم عاقر ناقة صالح كان اسمه لدى المفسرين قدار.»
56
ولمتابعة مطلب «إحسان عباس» عدنا إلى التاريخ العربي، نقرأ عند ابن قتيبة قوله:
إن الله بعث صالحا إلى قومه، وكان رجلا أحمر إلى البياض. وهو صالح بن عبيد بن عابر بن إرم. وكانت منازل قومه بالحجر، وعاقر الناقة هو أحمر ثمود الذي يضرب به المثل في الشؤم، واسمه قدار بن سالف، وكان أحمر أشقر، وكان صالح رجلا تاجرا.
واضح هنا التداخل الذي حدث عند الحجر بين الجنسين الأسود والأحمر، ولو في ذكريات ذلك الماضي البعيد، فقيدار في الرواية العربية يصبح هو الأحمر كذلك صالح، ويذهب ابن قتيبة بهم إلى الموطن الشمالي الآرامي عبر نسبتهم لأرام.
ثم يستمر شارحا:
تزوج إسماعيل بنت مضاض بن عمرو الجرهمي، فولدت لإسماعيل اثني عشر بطنا، منهم قيدار ونبت. وكان نبت بكر إسماعيل، وعاش إسماعيل مائة وسبعا وثلاثين سنة، ودفن في الحجر، وفيه دفنت أمه هاجر.
57
وقد ورد في نقش بمدينة بترا بخط وسط بين الآرامي والنبطي، يتكلم عن ضرورة إكمال النقوش في غرفة العبادة عند بداية السيق، مع اسم لرجل وصف بالصلاح والورع اسمه «أصلح»، وأن أصلح هذا ربما كان كاهنا كبيرا أو حاكما؛ لأنه طلب تكريس تلك الغرفة للإله ذي الشرى.
58
وهو الأمر الذي ظل ذكريات بعيدة تتماوج في تداخل مع روايات أخرى عن ذكريات أخرى، حتى وصلنا صالح في القرآن الكريم نبيا مرسلا إلى ثمود. فإذا كانت الآيات تردد ذكريات عن أصلح الموجود بنقش بترا بداخل السيق، فستكون بترا مسكنا لثمود، وليس فقط مدينة الحجر، مما يشير إلى تداخل واضح بين مختلف فئات الحلف.
لكن القرآن الكريم يؤخر ظهور الثموديين إلى ما بعد انتهاء زمن عاد، فيقول:
واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا . (الأعراف: 74)
والقرآن الكريم يختلط فيه الوعظ والترهيب، والترغيب بالأمثلة من ذكريات تاريخية تمت قراءتها على طريقة القرآن الكريم المعتادة بهذا الشأن، فيقول إن «عاد إرم» قد عصت ربها، فأرسل الله إليها نبيا باسم «هود». وما يؤكد فرضنا في أن عاد كانت البتراء أو مدينة في محيط آدوم، بل إنها آدومية الزمن وليست جنوبية يمنية، أن ابن قتيبة يذكر لنا نسب «هود» مرفوعا إلى «عيسو آدوم»، فيقول:
هو هود بن عبد الله بن رباح بن حارث بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح. وكانت عاد ثلاث عشرة قبيلة ينزلون الرمل وبلادهم أخصب البلاد.
لكن أهل عاد الآدوميين/الآداميين لا يؤمنون بما جاء به هود، فيغضب عليهم ربهم فيدمرهم فيرثهم الثموديون، أي إن ثمود هي امتداد في زمن تال لعاد الآرامية. وأفسد الثموديون بدورهم في الأرض، فأرسل لهم ربهم النبي صالحا، وكأسلافهم كذب الثموديون صالح فدمرهم الله بدورهم.
ويشرح المسعودي بشأن الآراميين/الأرمان بقوله، موجزا تاريخا رأيناه قد حدث في هذا المكان:
وقيل إن الأرمان إنما سموا بذلك؛ لأن عادا لما هلكت قيل: ثمود إرم. فلما هلكت ثمود قيل لبقايا إرم أرمان، وهم النبطيون الأرمانيون.
وكانت بلاد الكلدانيين العراق وديار ربيعة وديار مضر والشام وبلاد العرب اليوم، وبرها ومدرها، اليمن وتهامة، والحجاز واليمامة والعروض والبحرين والشحر وحضرموت وعمان، وبرها الذي يلي العراق، وبرها الذي يلي الشام. كانت جميعا مملكة واحدة يملكها ملك واحد، ولسانها واحد سرياني (آرامي [المؤلف]).
59
وحول عناصر من ذلك الحلف يشرح الكتاب المقدس، كيف جاء الرب بكل شعب من موطنه في قوله:
ألستم لي كبني الكوشيين يا بني إسرائيل؟ يقول الرب: ألم أصعد إسرائيل من أرض مصر والفلسطينيين من كفتور والآراميين من قير. (عاموس، 9: 8)
ويحتمل أن تكون قير الأصلية تلك محطة بعيدة من محطات هجرة الآراميين الشمالية، وربما كانت الأصل في اسم منطقة قرقيزيا.
60
والنبي محمد كتب لبني جعال بن ربيعة الجذاميين، الذين سكنوا العقبة زمن الدعوة الإسلامية يقول لهم فيه: «إن لهم إرما لا يحلها أحد غيرهم لغلبهم عليهم، ولا يحاقهم أحد، فمن حاقهم فلا حق له.» لقد كان العرب حتى زمن الدعوة الإسلامية، يعرفون بلاد العقبة بكونها آرامية.
أما الذي يتأكد طوال الوقت، فهو وجود الجنس الكوشي الزنجي بالمنطقة، بينما كانت نصوص التوراة التي تذكر الكوشيين بجوار دولة يهوذا وإسرائيل، تصنع ارتباكا حادا لدى المؤرخين. يقول الكتاب المقدس مثلا:
وأهاج الرب على يهورام (ملك يهوذا [المؤلف]) روح الفلسطينيين والعرب بجانب الكوشيين، فصعدوا إلى يهوذا وافتتحوها، وسلبوا كل الأموال الموجودة في بيت الملك مع بنيه ونسائه أيضا. (أخبار أيام ثاني، 21: 16-17)
لقد ظل تعبير «العرب الذين بجانب الكوشيين» لغزا غير محلول، يتمثل في سؤال: كيف يكون الزنوج بجوار العرب، وكان الظن هو التجاور على البحر الأحمر، فالعربي شرقية والزنجي غربية، لكن اللغز ظل لغزا؛ لأن النص ونصوصا أخرى كثيرة، تضعهم جنوبي دولة يهوذا مباشرة، وهنا نقف مع فراس السواح، وهو يحدثنا عن أحدث الكشوف، فيما يتعلق بتصنيف اللغات إلى سامية وحامية، وأن العلماء لم يعودوا يركزون على ما يسمى باللغة السامية الأصلية، ثم يقول: «يقوم العلماء الآن بتلمس خيط يربط بين اللغات السامية باللغة المصرية وبقية لغات شمال أفريقيا، وهم يرون أن الأقرب إلى الواقع هو وجود لغة أفروسامية، تفرعت فيما بعد إلى سامية وإفريقية عند نقطة معينة من التاريخ.»
61
ومن هؤلاء العالم الألماني
والروسي
Diakonoff .
أليس هذا بكلام يلتقي التقاء عبقريا مع ما وصلنا إليه، حول التقاء العناصر التأسيسية في بلاد آدوم، وما نتج عنه بعد ذلك على مستوى اللغات والأجناس؟ أما الأكثر إلماعا وإشراقا، فهو أن نعلم أن تلك النقطة المعينة في التاريخ، التي افترضها الألماني بهرنس والروسي دياكونوف، كانت هي زمن قيام إمبراطورية الهكسوس الذي ظل منطقة مظلمة في التاريخ حتى كتابة بحثنا هذا، بل وإن مكانها كان ذات المكان الذي حددناه في بلاد مديان الآدومية العربية في شبه جزيرة سيناء تحديدا وتدقيقا. فقد عثر الآثاري البريطاني فلاندر بتري عام 1905م عند سرابيط الخادم بسيناء على كتابات منقوشة على الصخور، أصبحت تعرف الآن علميا باسم الكتابات البروتو سيناتيك، قرب مناجم النحاس والفيروز. وقد تبين أن البروتو سيناتيك أقدم كتابة تستخدم الأبجدية في التاريخ حتى الآن، وقد وجد بتري اكتشافه هذا على بقايا أثرية تم بناؤها زمن الفاتح العظيم تحتمس الثالث خلال النصف الأول من القرن الخامس عشر. وبعد اكتشاف بتري تم العثور على المزيد من كتابات البروتوسيناتيك، بعد أن عثرت بعثة فنلندية عام 1929م على نماذج جديدة، واتبعتها بعثة جامعة هارفارد الأمريكية؛ لتكتشف ذات الكتابات في مواضع أخرى، حتى بلغ ما تم العثور عليه حتى الآن خمسة وعشرين نصا.
62
تتحدث عن أعمال استخراج حجر الفيروز من جنوبي سيناء، وتقديم قرابين «تسمى هنا طاعة» إلى بعلات حات حور، وبعلات لقب سامي هو السيدة مؤنث بعل/السيد أو الرب، بينما حتحتور إلهة مصرية معلومة الشأن، مما يشير إلى تمازج مصري سامي في تلك المنطقة، استمر منذ تمازج الإلهين سيت وبعل، وهي تقع إلى الغرب مباشرة من جبال كاثرين، التي اتجه إليها موسى برجاله عند الخروج من مصر كموقع مقدس. وقد أخبرنا الكتاب المقدس أن تلك المنطقة كانت أراضي مديانية، وقد أكدنا من جانبنا أن المدياني هو الإسماعيلي، وتأتينا من كتابات «أو مخربشات» سيناء
Sinaite Inscriptions ، نصوص تؤكد مذهبنا، فنجد نصا يقول:
شمعا ما رب عبدم.
ومعناه إسماعيل صبي رئيس العاملين.
63
أو إسماعيل «شمعاما» عبد «عبدم» السيد «رب».
فالكتبة هنا يحملون ثقافة مصرية سامية مشتركة، وكتبوها بذات اللغة التي عثر عليها في نصوص تل العمارنة (الكارية)، بأبجدية سينائية هي الأصل الأصيل للأبجدية، الفينيقية التي ظهرت بعد ذلك، وانتقلت إلى بلاد اليونان ثم العالم. ويعتبر الباحثان نيلسون وسيث أن اللغة الثمودية المنتشرة بطول ساحل البحر الأحمر الشرقي هي تطوير بسيط للبرتوسيناتيك
64
كما استطاع وينت أن يثبت انقسام الثمودية إلى أشكال مختلفة، تمثل مراحل تطورها خلال مدة زمنية طويلة.
65
وهو ما يعني عراقة ثمود وقدمها منذ أيام الحلف الكبير.
كذلك تم العثور على كتابات سينائية في موقع الكنتلة، على الطريق الذي يصل طابا على خليج العقبة برفح على البحر المتوسط، على بعد خمسة كيلومترات من الحدود الإسرائيلية، وكذلك في عين القديرات بالقرب منه. والمعتقد أن هذه الكتابات قد نقشها الخارجون من مصر برفقة موسى في رحلة الخروج. وقد قال الإسرائيليون: إن تلك الكتابات عبرية، لكن الحقيقة أن العبرية نفسها هي لغو وخط كنعاني كتب بحروف آرامية. ولم يحدث أن عرف وكتب إلا بعد القرن العاشر قبل الميلاد، أي بعد أربعة قرون تقريبا على حدث الخروج؛ لذلك لا تخرج تلك الكتابات بدورها عن البروتوسيناتيك، التي يبدو أنها كانت أصلا للعبرية المكتوبة بالآرامية، بعد أن أصبحت الآرامية الوسيلة الأمثل والأيسر للكتابة. وهو ما يعني أن الخط الآرامي نفسه قد تطور عن البروتوستاتيك، التي هي في رأينا الكتابة أو الخط الحوري الكاري، خاصة بعد ثبوت تطابقه مع الكتابات الحورية في مكتبة العمارنة. ويعتبر أولبرايت أن البروتوسيناتيك هي الأصل الأصيل للكتابات الأبجدية بعد ذلك وصولا إلى اللغة العربية التي ظهرت في سيناء.
66
وعندما قامت دولة الفرس حوالي 600ق.م. اتخذت من الآرامية لغة رسمية لها، مما يشير إلى مدى حميمية القرابة بين تلك الكتابة الأم للأبجدية وبين الهندوآريين. أما العربية فقد تطورت عن النبطية المكتوبة بالحرف الآرامي في سيناء وآدوم. ومع ذلك لم يزل علماء اللغة المهتمون بهذا الأمر، لا يلتفتون إلى العوامل الموضوعية التي أدت لظهور الكارية بالخط السينائي، ولم يزل قولهم: «منذ القرن الرابع عشر قبل الميلاد ظهرت لغة سامية مشتركة بين شعوب ممالك الهلال الخصيب ومصر. لم تكن هي لغة الكلام لأي من شعوب هذه المنطقة، وإنما استخدمت في الكتابات الأدبية فقط.»
67 «وأنها تطورت وأصبحت تمثل لغة أدبية خاصة، تختلف عن لغة كلام الأكاديين والكنعانيين والمصريين، فهي لغة أدبية خاصة لا يستخدمها أي قوم في الكلام.»
68
ومع ذلك فإن «العربية الفصحى قد جاءت نتيجة لتطور هذه اللغة المكتوبة، وأنها كانت خليطا من لهجات القبائل العربية.»
69
بينما نحن قد كشفنا عن التقاء وحلف ولغة كهوف اسمها الكارية أو الحورية، تعددت ما بين ددانية وثمودية ونبطية وآرامية وعبرية، لكنها جميعا كانت تعزف على نوتات متشابهة متقاربة، انصهرت معا جميعا بعد ذلك في اللغتين العبرية والعربية، وأن نوتتها الأصلية كانت مزيجا من المصرية.
وهكذا امتدت المساحة المركزية لدولة التجار من البتراء إلى الحجر جنوبا، وتيماء شرقا وتبوك، والبدع جنوب غربي تبوك، حيث تجد هناك مغاير وكهوفا أطلق عليها الناس بحكم ذكريات العصور الخوالي «مغاير شعيب». وأطلقوا على بئر هناك اسم بئر موسى ترديدا لذكريات تاريخية مختلطة. ويقول صاحب معجم البلدان أنه في جبال السراة/سعير تقع البلقاء، التي حدثت فيها أسطورة أصحاب الكهف، والتي ترد في القرآن الكريم مقرونة بالرقيم، وأن العماليق قد نزلوا البلقاء وكانوا ملوكها.
70
وتغطي الكتابات الثمودية آثار تيماء التي تقع على خط 38,30 طولا و27,40 عرضا، وتتميز تيماء بتربة حمراء، وتؤكد البحوث الجيولوجية أنها كانت مغمورة بالمياه إلى زمن قريب جدا، لدرجة أن أخبار ذلك الماء جاء في أخبار عرب الجاهلية الأخيرة.
71
أما مدينة الحجر نفسها؛ فتقع على خط 37.45 طولا و26.46 عرضا، وقال فيها القرآن الكريم:
ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين * وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين * وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين * فأخذتهم الصيحة مصبحين * فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون (الحجر: 80-84).
والزائر للمنطقة يمكنه ببعض المشقة الوصول إلى تلك البيوت الصخرية، لكنه لن يجد سوى غرف مربعة أو مستطيلة، تحوي عظاما بشرية، وبها أرفف حجرية على عدة طبقات، تطابق مثيلاتها في البتراء، وفي تدمر التي كانت بدورها امتدادا طبيعيا للطريق التجاري، وبالضرورة للحلف العظيم. وهناك يمكنك أن ترى تماثيل لعناق البونتي فوق أحد الكهوف، ذهبت فيه الآراء إلى أنه حيوان ربما كان لبؤة صغيرة، لكن ذيله المعقوف مثل ذيل الكلب، يشير لحيوان غريب مجهول، وعلى كهف آخر ستشاهد تماثيل أبي الهول المصري، وعلى كهف ثالث يمكنك مشاهدة طائر الفينيق ناشرا جناحيه.
أما الأفصح والأبين والأكثر إعلانا عن هوية المكان، فأنك تجد هناك بناء يحمل الاسم الذي أطلق على مثيله الضخم في البتراء، اسمه قصر ال «بنت». هذا بينما يكرر لنا القرآن الكريم ذكريات العرب عن القرون الخوالي، أيام كانت تلك المنطقة من الجنات الوارفة في قوله:
كذبت ثمود المرسلين * إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين * أتتركون في ما هاهنا آمنين * في جنات وعيون * وزروع ونخل طلعها هضيم * وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين * فاتقوا الله وأطيعون (الشعراء: 141-150).
ويؤكد لنا الإخباريون العرب أن العرب المستعربة من أبناء إسماعيل، هم من قالت الآيات بشأنهم:
ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين (الحجر: 80). ويقول آخرون: «كانت ثمود تقيم في جنوب شبه الجزيرة العربية، ولكنها انتقلت إلى شمال غرب الجزيرة العربية في غرب خليج العقبة. وجاء في الأعلام لخير الدين الزركلي: أن ثمود بن عابر بن إرم من بني سام بن نوح. كانت إقامته في بابل ورحل عنها بعشيرته إلى الحجر. ثم انتشروا بين الشام والحجاز، وفيها من أعجب الآثار بيوت منقورة في الصخور.»
72
ويضيف «حمود القثامي» جامعا أخبار الأولين بقوله: «واختلف في أصل ثمود؛ فقيل: هم من بقايا عاد؛ لأن القرآن الكريم ذكرهم مرادفين لعاد، وقيل إنهم من العمالقة الذين شيدوا لهم مملكة في مدين والبتراء ووادي موسى، ولكنهم في الثابت كانوا بعد قوم نوح وعاد. قال تعالى:
ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات (التوبة: 70). وتعتبر مدائن صالح من أهم وأغنى المناطق آثارا في جزيرة العرب.»
73
ثم يتساءل مع المتسائلين من أصحاب الدراسات الأركيولوجية في المنطقة قائلا: «لا يزال واضعو الدراسات العلمية حول نقوش الثموديين في حيرة من أمرهم، وما زالوا يتناقضون فيما بينهم. فالنقوش الثمودية تطالعنا في المنطقة الواقعة على امتداد الجزء الغربي من شبه الجزيرة العربية، من جوار مدينة البتراء حتى اليمن، لكن هذه المنطقة أوسع بكثير من المنطقة التي يسكنها الثموديون، كما هو في كتب التاريخ العربي.»
74
وعلى الامتداد نفسه من البتراء قرب العقبة نصل إلى واد لم يزل يحمل الاسم الآرامي «رم»، وقد وصفه لورانس بقوله: «صخوره الشاهقة كأنها بنايات ضخمة عملاقة، تقع على جانبي شارع طويل، تبدو القمم العالية التي تكتنفها الضخمة، وكأنها الأعشاش (ولا بد أن نتذكر هنا قباب مساكن بونت التي تظهر كالأعشاش [المؤلف])، يشاهد الزائر اللوحات الصخرية، المتناثرة في مختلف الأماكن من وادي رم، مكتوبا عليها باللغة الثمودية: إنه من روائع جمال الطبيعة العذراء، وبقعة لا مثيل لها في بقاع العالم، فمن خلال الأشكال والألوان يحس الإنسان أنه في أجمل بقعة من العالم.»
75
ثم يتساءل «قثامي» حول هذا الانتشار الهائل للمخربشات الثمودية من البتراء حتى اليمن، بينما المفترض أن ثمود قد سكنت فقط منطقة الحجر بقوله: «إذن من هم مؤلفو الثلاثة عشر ألفا أو الأربعة عشر ألفا من النقوش الثمودية، التي باتت الآن معروفة لنا، بالإضافة إلى الألفي نقش، التي وجدت في شمال شبه الجزيرة العربية، والتي اكتشفها بييرفان دن براندان ... يقول بعضهم: «إن تلك النقوش تعود إلى أصحاب القوافل، التي كانت تعبر الصحراء، حاملة التجارة عبر الطرق الصحراوية، ومن الغريب أن يكون بعض هذه النقوش من صنع أصحاب القوافل أنفسهم، والأغرب من ذلك أن حقيقة وجود أعداد كبيرة من هذه النقوش في قمم الجبال العالية، حيث يصعب على أصحاب القوافل الوصول إليها.»
76
إن مثل تلك النقوش فيما نرى كانت بحاجة إلى وقت وزمن وارتباط بها، لقد كانت لأناس يقيمون هناك في محطات دائمة على الخط التجاري للإمبراطورية التجارية.
وإذا كنا قد عثرنا هناك على التأكيد الواضح - في اسم قصر البنت - على ما ذهبنا إليه حتى الآن، وعثرنا على عناق البونتي والطائر البوني، فإننا نجد أيضا الرفائيين/ الرباتيين، في اسم معبد الروافة النبطي «والفاء تنطق أيضا باء» الواقع إلى الغرب من تبوك على خط طول 36,5 طولا و27,45 عرضا. وقد ذكره ديودورس الصقلي باعتباره مكانا مقدسا لقبيلة عربية، وذكره أيضا الدكتور جواد علي، ووجد على حجر هناك نقوشا يونانية قصيرة، تذكر أن البناء يعود إلى
Hierontouto ، وأنه قد بني في أرض الرباتيين أو كما كتبها النص راباتي
Rabathai ، وهو ما يدفع إلى اعتبار اسم الروافة الحالي من الأصل رفائي ورباتي.
ويذهب المفسرون المسلمون إلى أن الآيات
واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر (الأعراف: 163)، و
فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين (البقرة: 65)، إنما تعني مدينة إيلات/أيلة أو ربما العقبة، ولكنها في رأينا ميناء عصيون جابر التوراتي، الذي تحول إلى جزيرة فرعون بجوار ميناء أيلة. ويحكي القرآن ذكريات العربان عمن أبادتهم الحدثان، فيربط بين الحوت/الدلفين، الذي تتناثر تماثيله في المنطقة، وبين المدينة والبحر وبين الشعب الإسرائيلي وشرائعه، فيقول:
واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون * وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون * فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون * فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين (الأعراف: 163-166). ولا يبقى سوى أن تكون حاضرة البحر، تلك التي هي استقبلت سفائن الفرعونة حتشبسوت «عصيون جابر»؛ لأن اسمها المصري بذات النطق فهو «حرج سوى واي ور».
ويتابع «حمود القثامي» ليقول عن شعب مدين: «وقد بقيت آثارهم حتى الآن، وهي عبارة عن بيوت نحتت داخل الحجر، أي إن البيوت حفرت حفرا داخل الصخور، فتكونت بيوت من الصخور، وداخل هذه البيوت غرف فصلت تفصيلا دقيقا، بطريقة فنية تشير إلى المستوى الحضاري والفني، الذي كان عليه هؤلاء الأقوام. ويظهر من مقابرهم أنهم طوال القامة.»
77
ويسجل عن قائد سلاح الحدود في منطقة مقنا على خليج العقبة، وصفه لها في قوله: «إن مقنا منطقة أثرية عظيمة، فقد عثر على كثير من الجماجم الغريبة الشكل في طولها، بحيث تدل على أنها لقوم عماليق في الحقيقة؛ لأن الجماجم أكبر بكثير من جماجم الناس العاديين.»
78
ولنتذكر من الآن هذه الجماجم الطويلة، فسيكون لها شأن عظيم في حل غوامض تاريخية منغلقة، ستأتي في مواضعها من أجزاء بحثنا هذا.
وعلى صلاية الملك نعرمر مؤسس الأسرة الأولى المصرية، نجد أول ذكر لأول معارك مع البدو الساميين، وهو رأي يخالف ما استقر عليه التفسير لهذه الصلاية ونقوشها، بكونها إشارات لتوحيد نارمر للقطرين المصريين الشمالي والجنوبي، أما حسب قراءتنا نحن للنقوش، فسنجد على أحد وجهي الصلاية الملك يقبض على بدوي من رأسه ويضربه بدبوس قتال، وفي كلا القطرين المصريين ليس هناك بدو بالشكل الآسيوي المرسوم بالصلاية، ونلاحظ أن الملك الجليل كان يقف حافيا، ولا يتركنا الفنان نتوهم أن المصري القديم لم يعرف النعال، فقد نقش خلف الملك صورة لواحد من أتباع الملك، يحمل نعلي الملك بشكل واضح، فهل كانت هناك قاعدة ضرورية تلزم صاحب الجلالة بخلع نعليه؛ لأنه يقف بأرض أو بواد مقدس مثلا، أو بأرض إله؟
وعلى الوجه الآخر نشهد نقشا لحيوانين يوصفان في كتابات المؤرخين بأنهما كائنات أسطورية خرافية، فالرأس أقرب إلى اللبوءة، والعنق شديد الطول كما لو كان الفنان قد بالغ في إطالة الرقبة لتأكيد تعريفنا بهذا العناق، ويمسك برقبتي العناقين رجلان من أتباع الملك، رمزا لانتصاره على تلك البلاد وسيطرته عليها، ممثلة في سيطرته وترويضه لأشهر أعلامها (التفسير التقليدي لعلماء التاريخ يرى الصلاية والوحشين، رمزا لتوحيد نعرمر لوجهي مصر العليا والسفلي).
أما ذيل الحيوان فكان معقوفا، وهو الشكل الذي يطابق مشهدا لذات الحيوان، عثر عليه فوق الكهوف الثمودية، وقال الباحثون في وصفه: «ربما كان لبؤة صغيرة، لكن ذيله المعقوف مثل ذيل الكلب.»
ويدعم تفسيرنا أو قراءتنا هذه لصلاية نعرمر، أن على رأس الصلاية نقش الفنان نقشا آخر، ليؤكد به الموطن الذي ذهبت إليه جيوش نعرمر، فصور طائر الزقزاق بشكل واضح لا لبس فيه، وهو طائر غير موجود في القطرين، وعلى الجانبين رأس الإلهة حتحور، وهي ربة سيناء الشهيرة عند المصريين.
أما أن يلبس تاج الوجه القبلي على أحد وجهي الصلاية، ويلبس تاج القطرين على الوجه الآخر، هو المؤدي لتفسير اللوحة بتخليد توحيد القطرين المصريين، فإنه ليس كافيا وليس بقدر الشواهد التي سقناها، فليس في مصر بدو يضربهم الفرعون، وربة الصلاية هي حتحور السيناوية، ناهيك عن كون لبس الفرعون تاج الوجه القبلي، تأكيدا على قدسية وأهمية الوجه القبلي مقر الفراعين، وتأكيد اعتزاز الفرعون بهذا التاج، والوجه القبلي هو الوجه الذي تمكن من ضم الوجه الآخر (البحري)، فكان لبس الفرعون تاج الجنوب هو تأكيدا لسيادة هذا الجنوب، ولبسه تاج القطرين على الوجه الآخر، يعني تأكيد السيادة عليهما معا، ولا يحمل النقش عدا ذلك أي دلالات يمكن الذهاب بها، إلى فكرة أن الصلاية هي تخليد توحيد القطرين.
ونتذكر الآن أن كثيرا من المؤرخين ذهب لأسباب وجيهة، أن الملكة المصرية «تي» أم الفرعون إخناتون، كانت من بلاد ميتاني التي يفترض أنها كانت تقع في أعالي الرافدين، والتي افترضناها مديان في سيناء ووادي عربة ومحيط خليج العقبة جميعا، ولو تطلعنا إلى إخناتون سنجده شخصا عملاقا، يحمل رأسا غريبا، فهو رأس مستطيل وكبير، وهو ما أورثه أيضا لبناته في النقوش التي تركتها فنون العمارنة، وهو الشأن الذي ستطول بنا متعته الكشفية في الجزء الأخير من هذا العمل. (انظر الشكل رقم «132، 133».)
شكل رقم «132»: الثموديون: مدائن صالح/الحفر في الصخر
ينحتون من الجبال بيوتا (قرآن كريم).
شكل رقم «133»: الثموديون: المساكن الكهفية القديمة بخرائب ددان «مدائن العلا حاليا».
شكل رقم «134»: صورة من خريطة بطلميوس الأصلية.
شكل رقم «135»: مناطق العاديين والثموديين.
شكل رقم «136»: جزيرة العرب/طرق القوافل التجارية.
شكل رقم «137»: نقش ثمودي تيماني من جبل غنيم (شمال غربي شبه الجزيرة) بالتيمن.
شكل رقم «138»: منظر عام لضريح أو بيت منحوت في الصخر في خربة العلا (لاحظ المشهد كأعشاش النحل).
شكل رقم «139»: صلاية نارمر الوجه الأول.
شكل رقم «140»: ربة سيناء حتحتور أعلى الصلاية وتحتها سفينة تشير إلى وسيلة الوصول، وبجوارها طائر الزقزاق يشير إلى شعب الأرض المقصود التعبير عنها.
شكل رقم «141»: حامل نعلي الملك، بينما الملك يسير حافيا.
شكل رقم «142»: صلاية نارمر الوجه الثاني الملك حافيا على آسيوي ويضربه بدبوس القتال، وخلفه حامل الحذاء الملكي، مع ملاحظة أن الأسير ليس مصريا بالمرة!
شكل رقم «143»: أعداء الملك يهربون وخلفهم رمز موطنهم (كهف) لاحظ أن أشكالهم سامية لا مصرية.
الفصل الرابع
إسحاق و«الإله الضحاك»
إبان بحثنا بدت لنا بعض الغوامض التي يمكن بحلها أن تلتقي نتائجها مع ما قلنا حتى الآن وتؤكده؛ ناهيك عن كون هذا الحل يفسر لنا علاقة بني إسرائيل بالهكسوس بتوضيح أكثر إضاءة وإدهاشا. كما أن بعض الغوامض التي سنتناولها ستعطينا مزيدا من الأدلة على مدى تغلغل العقائد المصرية في العقائد الإسرائيلية من بعد، مع غرض رئيسي من هذه المباحثات يهدف إلى ربط كل ما وصلنا إليه بما هو آت، خاصة ما تعلق بعلاقة النبي موسى والخروج الإسرائيلي من مصر، بكل هذا الرتل من تلول معلوماتية، جهدنا وراءها زمنا طويلا حتى الآن.
وبين أبرز هذه الألغاز المطلوب حلها، هو ما ترويه لنا التوراة حول البطرك إبراهيم، الذي شاخ هو وزوجته سارة، لكن إرادة الله كانت أن ينجبا ولدا يكون أبا لنسل كثير، ذلك النسل الذي سيأتي من يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، ويعقوب هو الذي أسماه الله إسرائيل، ونسله هم «بنو إسرائيل».
ولتحقيق الخطة الإلهية ذهب الرب ليقابل إبراهيم، ويشكو له مما وصل إليه شعب يعيش في مدينتين من المدن الخمس (بنط بوليس) لبلاد آدوم من تدن خلقي، إذ يأتون الرجال دون النساء شهوة، ويتعشقون الصبية المرد، وينفرون من الغيد الحسان. وإبان الحوار الذي دار بين الرب وخليله، حول رغبة الرب في القضاء المبرم على مدينتي عاد وثمود أو عمورة وسدوم الآدوميتين، يخبر الرب خليله بقرار الميلاد العجيب لإسحاق بن إبراهيم: حين يقول الرب لإبراهيم:
أين سارة امرأتك؟ فقال: ها هي داخل الخيمة، فقال: إني أرجع لك نحو زمان الحياة ويكون لسارة امرأتك ابن، وكانت سارة سامعة في باب الخيمة وهو وراءه، وكان إبراهيم وسارة شيخين متقدمين في الأيام، وقد انقطع أن يكون لسارة عادة (حيض [المؤلف]) كالنساء، فضحكت سارة في باطنها قائلة: أبعد فنائي يكون لي تنعم؟ وسيدي قد شاخ؟ (أي إبراهيم [المؤلف])، فقال الرب لإبراهيم: لماذا ضحكت سارة قائلة: أفبالحقيقة ألد وأنا قد شخت؟ هل يستحيل على الرب شيء؟ في الميعاد أرجع إليك نحو زمان الحياة، ويكون لسارة ابن، فأنكرت سارة قائلة: لم أضحك لأنها خافت، فقال: لا! بل ضحكت. (تكوين، 18: 9-15)
ومع استمرار القراءة يخبرنا الكتاب المقدس أن سارة قد ولدت في شيخوختها طفلا:
ودعا إبراهيم ابنه المولود له الذي ولدته له سارة: إسحاق. وكان إبراهيم ابن مائة سنة حين ولد له إسحاق ابنه، وقالت سارة: قد صنع إلي الله ضحكا، كل من يسمع يضحك لي. (تكوين، 21: 3-6)
وهنا ننقل السمع إلى مصادر أخرى، فننصت إلى روايات المسلمين من أصحاب السير والأخبار وقصص الرسل والأنبياء، يحيطوننا علما نافعا يقول:
قال السدي: قالت سارة لجبريل عليه السلام (استبلدت الرواية الإسلامية الإله بجبريل [المؤلف]) لما بشرها بالولد على حالة الكبر: ما آية ذلك؟ فأخذ بيده عودا يابسا، فلواه بين أصابعه فاهتز أخضر. وقال مجاهد وعكرمة: فضحكت أي حاضت في الوقت. وتقول العرب: ضحكت الأرنب على الصفا إذا حاضت. وقال السدي وابن يسار وغيرهما من أهل الأخبار: فحملت سارة بإسحاق.
1
والعارف بالتوراة لا شك يعلم دأبها على ربط أسماء المواليد (خاصة في العصر البطريركي من إبراهيم إلى موسى)، بأسماء مواضع جغرافية ومدن، أو أن يحمل اسم المولود دلالة على حدث هام أو نادر قد حدث إبان ولادته أو ما أشبه ، فيعقوب سمي يعقوب؛ لأنه ولد ممسكا بعقب شقيقه التوءم عيسو، وسمي يعقوب عندما كبر باسم إسرائيل؛ لأنه صارع الله (إيل)، وعيسو حمل اسما ثانيا بدوره هو آدوم؛ لأن لون عيسو وشعره كان بلون الأدمة، أي لون الأرض الحمراء، أي لون الدم أو الشقرة. وفي الأدمة شق تركيبي موروث هو «دم». وبنيامين بن يعقوب سمي كذلك؛ لأنه ابن اليمين أي الجنوب، فكان الناس يتوجهون لمشرق الشمس لتحديد الجهات الأصلية، فيكون الجنوب إلى يمينهم.
ورواية التوراة هنا تحاول أن تبلغنا بسر تسمية إسحاق ومعنى هذا الاسم، لكن على سرعة وعجل يتسم بالغموض، فيأتي أهل الأخبار من مؤرخي الإسلام؛ ليجلوا لنا المعنى ويوضحوه. فقد كانت سارة عجوزا قد انقطع حيضها، فلما أراد الله لها الحبل ضحكت؛ أي حاضت على الفور، تهيئة لقبول أعضائها لممارسة عملية الحمل والولادة.
فالضحك هو ضحك الفم والأسنان، لكنه أيضا ضحك الفرج أي انفتاحه، فالفم والفرج ينفتح كلاهما عند فعل الضحك أو الحيض. ولأمر معلوم لدى دارسي الأساطير القديمة لا بد أن يحيل هذا الإله إلى أرباب الخصب والخضرة؛ فقد كانت آلهة الخصب القديمة هي المسئولة عن نمو المحصول وعن الري، أي عن ولادة الأرض، وعن خصب الحيوان وزيادة نسله كذلك الإنسان. وتحفظ لنا القصة الإسلامية رمز ذلك الإله المخصب في العود اليابس، الذي تحول في القصة إلى عود أخضر، كلون من الإعلان الواضح عن الفعل المطلوب، وهو ممارسة خصبية تؤدي إلى ميلاد إسحاق، الذي ارتبط اسمه بالخصب والضحك ودم الحيض.
وكان معلوما في تلك الأيام الغوابر أن الدم هو المكون الأساسي والمادة الخام للحياة وخصبها لتكوين الجنين؛ إذ لاحظ الإنسان الابتدائي اختفاء دم الحيض مع الحمل، فربط بين اختفاء الدم والولادة، واعتبر احتباس دم الحيض؛ لأنه يشكل ويبني الجنين، واعتبر الدم معامل الحياة المشترك لكل شيء؛ لذلك كان اختفاؤه النهائي يعني توقف الخصب، وامتناع المرأة عن منح الحياة والولادة.
وفي الفصول السابقة سبق وحددنا إلها يعد أهم آلهة الأقوام السامية، ومنهم الهكسوس والإسرائيليون الذين تمركزوا شرقي الدلتا المصرية ، هو سيت المصري المتحد ببعل رب الخصب السامي. وقد شهدنا له عدة تجليات، كما في الحية وطائر الفينيق وفي حيوان عناق البونتي، وهنا يكشف الإله عن تجل جديد، سيرتبط وشيكا بعد فقرات بإسحاق.
وتقول لنا الأساطير المصرية: إنه من راس سيت - والرأس محل الحكمة والعقل - انبثق الإله تحوت، الذي ينبغي أن ينطق سليما (ضحوت
Tcheuti ) إله مدينة الأشمونين عاصمة الإقليم الثامن بمصر الوسطى. ويبدو أنه كان إلها حديثا بالإقليم؛ لأنه اندمج هناك عند ظهوره برب قديم للإقليم يحمل اسم «ح ض - و ر»، وكان «حضور» يمثل في رمزين: الأول طائر البلشون/الفينيق
IBIS
أبي قردان، والثاني هو قرد البابون، لكن هذه الآلهة نفسها رغم صعيديتها؛ فهي ذات منشأ دلتاوي.
2
وما يعنينا هنا هو أن أهم رموز وتجليات الإله «ض ح - و ت» كان القمر، فهو رب القمر، لكنه أيضا كان ربا شمسيا؛ لذلك لقبه المصريون القدماء بلقب «سيد الزمان وحاصي السنين»، كذلك كان حامي الكتاب والمفكرين، باعتباره مخترع الكتابة في الأساطير. وقد ربط اليونان بينه وبين معبودهم «هرمس
Hermes » أو «إرمس» الذي يعود للإسم «إرم» أي الإرمي، واعتبروا ضحوت هو الصورة المصرية للإله هرمس الأرمي، وقد صور المصريون ضحوت إما في صورة رجل برأس أبي قردان (الأيبس)، أو بصورة أبي قردان الكاملة، أو بصورة قرد يضع فوق رأسه قرص القمر في حالة الهلال، يضم بداخله صورة قرص الشمس، مما يؤكد قمرية ضحوت وشمسيته معا.
شكل رقم «144»: ضحوت الضحاك إله شمسي قمري يحمل الهلال والشمس فوق رأسه مع طائر الأبيس أو الفينيق.
وكما اعتدنا في عملنا هنا، نعود إلى لسان العرب نبحث عما تركه الزمان متضمنا داخل معاني المفردات، فنجد الجذر «ضحا» في العربية، هو من طلوع الشمس وارتفاع النهار ، لكن الكلمة تقال أيضا عن القمر وطلوعه؛ إذ يقول العرب: ليلة ضحياء وإضحيانة أي ليلة مقمرة لا غيم فيها، كما سميت الضحية كذلك؛ لأنها تذبح عند الضحى. وفي القرآن الكريم آيات تقسم بظواهر الكون ومنها:
والضحى * والليل إذا سجى ، حيث قرنت الآيات بين الليل والضحى، مما يشير إلى أن الضحى المقصود هنا هو القمر، وبالقلب تصبح «وضح» والثنائي منها «و ض» و«وضأ». و«الوضح» في لغة العرب هو بياض القمر كما هو بياض الصبح.
3
وللمزيد من أجل جمع معان تزيدنا إيضاحا ووضوحا، نجد قرد البابون على وجه التحديد هو الرمز المصري القديم للإله ضحوت، دون بقية أنواع الفصيلة القردية. ويسمى في الإنجليزية الوسيطة
Babewin
والفرنسية القديمة
Babuin
من اللاتينية الوسيطة
Babewynus ، لكن المعجم هنا يقدم لنا تقريرا حول الكلمة موجزا يقول: وأصل هذه الكلمة مجهول. هنا يذهب الباحث علي خشيم ببراعة نادرة إلى أن تلك الكلمة لها أصل واضح في العربية، فهي مأخوذة من مأمون/ميمون. ويدعم هذا التخريج أن مونتجومري وات يقول: إن معنى
Baboon
هو سعيد أو محظوظ
Lucky . الميمون في العربية هو المبارك أو المحظوظ. وفي العربية نجد الشق الأول من اسم الإله القردي بابون القمري «ضحوت» هو «ض ح»، وهو مقلوب الشق الأول من الإله الذي اندمج معه «ح ض. و ر»، والشق «ح ض» هو بلا خلاف «ح ظ» والحظ يعني السعد واليمن، ثم إن العربية تسمي قرد البابون «سعدان» من السعد، وميمونا من اليمن التي تلتقي مع بلاد اليمن بلاد السعد، أو كما سميت «العربية السعيدة». ولم تزل بلاد اليمن إلى يومنا موئلا للقرد أو سعدان البابون، الذي ينتشر فيها انتشارا واسعا، كما لم يزل ينتشر من مواطن ثقيف بالطائف حتى اليمن جنوبا.
والاصطلاح العلمي الذي يطلق على هذا القرد كتبته اللاتينية:
Cyno-Cephauls Hamedryas ، وعلى الفور تلحظ أن المقطع الأول
Cyno
في اليونانية
Kuno
أي كلب، ثم المقطع الثاني من الكلمة
Cephalus
وتعني رأسا، لتصبح الكلمة جميعا تعني: القرد الكلبي الرأس، وهي الصفة التي تطابق تماما قرد البابون، فرأسه أقرب إلى رأس الكلب ، أو ربما الضبع.
ويزداد ترابط هذا المعبود الكلبي الرأس بالكلب، عندما نتذكر ملحوظة استرابون عند زياراته لمصر؛ إذ لاحظ أن في مدينة مصرية اسمها اليوناني كينوبوليس، أي مدينة الكلب، كانت تتم عبادة الإله أنوبيس رب الموتى الكلبي، وأنه كانت تقام هناك مأدبة مقدسة للكلاب ، كما لاحظ أن أهل بابليون (منطقة جنوب شرقي القاهرة [المؤلف])، في زمانه كانوا يعظمون الكيبوس وهو القينوقفالس
Cyno-Cephalus /القرد الكلبي الرأس.
4
والطريف أن نجد قرد البابون/ ضحوت رب الحكمة، يرتبط تماما بمعبود البوادي السامية «ست»، فهو قد خرج من رأسه، ثم نستمع إلى بلوتارك يقول: «ويسمى توفون «الاسم اليوناني لرب الشر المصري سيت» سيت بابون
Bebon
وسمو
Smu
وفوق ذلك يسمون الحديد عظم توفون كما ذكر مانيتون.»
5
وهكذا فإن الإله المتعدد الأسماء «سيت/تيفون/بعل حداد/بعل صافون»، يأخذ لقب «سيت بابون»، أي سيت القرد البابوني، وكان له لقب آخر هو «سموه» علامة على السيادة والسلطان. أما الأكثر إضاءة فهو ربط هذا المعبود في عبارة بلوتارك العابرة بموطنه في بلاد مديان، حيث كان القينيون صناع الحديد، الذي هو في الأسطورة عظام سيت/تيفون. والطريف أن نصوص مصر القديمة كانت تشير إلى الطوائف السامية من الخابيرو/العبيرو بالكلاب،
6
أما العابيرو فكان يصفون أنفسهم بها، وهو ما يرجح أنها كانت صفة مستحبة تيمنا بالمعبود،
7
لكننا نجد اسم الإله المصري القردي ح ض. و ر
Hd. Wr
لقبا أكثر منه اسما، وهو ما يفضي إلى ما نقصده مع الإله الضحاك، فالكلمة ح ض. و ر تترجم على التدقيق بالأبيض العظيم «ح ض = أبيض + و ر = عظيم»، فهل يمكن أن يسعفنا لسان العرب في فهم سر تلك التسمية الغريبة تماما؟ إن مادة «حضأ» تقول: «حضأت النار التهبت، وحضأت النار سعرتها، وحضو النار تحريك جمرها»، وهو ما يشير إلى طبيعة البابون الشرسة الحادة، خلافا لبقية الفصيلة القردية كالشمبانزي والنسناس مثلا.
8
والكلمة «ح ض» أي الأبيض تطابق العربية «ح ي ض» «حيض» دون التباس، لكنها بالقلب تصبح «ض ح» لتشكل الشق الأول من اسم ضحوت، والثلاثي من الثنائي ض ح هو ضحك، أما ضحوت نفسها فهي كلمة واحدة متكاملة، هي ضحوك، أو هي الضحاك، وتحت مادة «ضحك» نقرأ في لسان العرب:
ضحك: الضحك معروف. ضحك يضحك ضحكا. وفي الحديث يبعث الله السحاب فيضحك أحسن الضحك. وضحكت الأرض: إذا أخرجت نباتها وزهرها . والضاحكة كل سنة من مقدم الأضراس مما يند عند الضحك. والضاحكة السن التي بين الأنياب والأضراس وهي أربع ضواحك. والضواحك الأسنان التي تظهر عند التبسم. والضحك الثغر الأبيض. والضحك الثلج، والضحك أيضا طلح النخل حين ينشق، وقال ثعلب: هو ما في جوف الطلحة. وضحكت النخلة وأضحكت أخرجت الضحك. وضحكت المرأة إذا حاضت، وبه فسر بعضهم قوله تعالى:
فضحكت فبشرناها بإسحاق ، وأنشد تأبط شرا:
تضحك الضبع لقتلى هذيل
وترى الذئب بها يستهل
قال أبو العباس: تضحك هنا تكشر، وذلك أن الذئب ينازعها على القتيل، فتكشر في وجهه وعيدا. قال ابن سيدة: وضحكت الأرنب إذا حاضت، قال:
وضحك الأرنب فوق الصفا
كمثل دم الجوف يوم اللقا
يعني الحيض فيما زعم بعضهم. وقال ابن الأعرابي في قول تأبط شرا: تضحك الضبع لقتلى هذيل؛ أي إن الضبع إذا أكلت لحوم الناس أو شربت دماءهم طمثت. وقد أضحكها «أي أطمثها الدم»، وقال الكميت:
وأضحكت الضباع سيوف سعد
لقتلى ما دفن ولا ودينا
أراد الشاعر أنها تكشر لأكل اللحوم. وقيل: معناه أنها تستبشر بالقتلى إذا أكلتهم فيهر بعضها على بعض، فجعل هريرها ضحكا، وقيل: أراد أنها تسر بهم، فجعل السرور ضحكا.
وقال الأخطل فيه بمعنى الحيض:
تضحك الضبع من دماء سليم
إذ رأتها على الحداب تمور
والضحوك من الطرق: ما وضح واستبان. والضاحك: حجر أبيض يبدو في الجبل، والضحوك: الطريق الواسع. ويقال: إن القرد يضحك إذ صوت. والضحاك بن عدنان، زعم ابن دأب المدني أنه هو الذي ملك الأرض.
وعليه فإن الضحك هو الجلاء والوضوح والبيان، وظهور الثنايا من الفرح واتساع الطريق، وله علاقة وطيدة بخصب الأرض والزرع والحيوان كالأرنب والضبع، وكذلك بخصوبة الإنسان، والقرد يضحك إذا كشر عن أنيابه هياجا أو سرورا، ولقب القرد في مصر القديمة «ح ض»، وتعني الحضاء أو البسام، وتضاف لها «ور = كبير»، فيصبح: الضحاك الكبير. وهو بالضبط ما تعنيه عبارة «الأبيض الكبير»؛ لأن الضحك يكشف عن بياض الأسنان ويبين عنها، واتساع الطريق يشير إلى اتساع أعضاء المرأة عند الحيض.
ونموذجا لذلك كمثال آخر نجد ضمن آلهة مصر القديمة، إله السمك «سمك» أو «سبك» وهو التمساح، ونجد اليوم قرية من أعمال المنوفية لم تزل تحمل اسمه؛ فهي «سبك الضحاك»، مما يشير إلى أنه قد حمل صفة الضحاك؛ لأن التمساح يفتح فمه ساعات طويلة؛ ليفصح عن أسنانه البيضاء.
وهكذا نجد نظريتنا تتدعم بجديد، يؤكد صحة ما وصلنا إليه في الفصول السابقة، فاللغة العربية أكثر ما خصت الضبع بالضحك وبالحيض، ولعلنا لم نزل نذكر عناق البونتي الشبيه بالضباع، وكيف قرنه لسان العرب بتصويت القرد «ضحوت»، وضحوت هو البابون ذو الرأس الضبعي، كما لو كان قردا قد مسخ ضبعا أو العكس، ناهيك عن الشبه الواضح للقرد بالإنسان. وهو ما انعكس في اعتقاد عن مسخ آخر هو مسخ البشر إلى قردة. ونتذكر أيضا طائر الفينيق آكل الحيات القادم من بلاد العنز العربية؛ لأن الأبيس أبا قردان المصري يسمى في الأقطار العربية «أبو حنش، أبو منجل، حارس، عنز»، واللاتينية تسميه
Ibis religiosa
أو
Sacred Ibis
أي أبيس المقدس. وهذه الفصيلة بالتحديد من نوع طيور أبي منجل «أي أبي قردان»، قد أطلقت عليه المصرية القديمة الاسم «ه ب
H B »، وأخذتها اليونانية وصرفتها اسميا، فاسمه «ه ب ي س» أو «أبيس»، وهنا لا بد أن نتذكر أيضا إله الريح «هبا» وزوجته «هيبات». وأبو منجل طائر يسابق الريح، ولونه أبيض واضح، و«هب» تعني ما يعنيه اسم ضحوت (البياض)؛ لأن من كلمة هب تأتي كلمة «هبهب»، والهبهبة هي البياض والصفاء والبيان، ويقال في لسان العرب: هب النجم إذا طلع (ه ب)، وهي على النسبة
Hby . والطريف أن المصري لا يسمي صوت الكلب نباحا، ولم يزل حتى اليوم يربط «هب» بالفصيلة الكلبية، مبقيا على الصيغة المصرية القديمة، فهو يطلق على نباح الكلاب «هبهبة» الكلاب.
هكذا يمكننا أن نفهم السر وراء اعتبار المصري للقرد البابون وطائر أبي قردان معا، رغم تباعدهما النوعي بين الأحياء، رمزين للإله ضحوت.
شكل رقم «145»: الأبيس ضحوت/هبني/أبو قردان/الفينيق.
شكل رقم «146»: ضحوت من تل العمارنة زمن إخناتون، وأمامه الكاتب جالس القرفصاء ؛ تعبيرا عن كونه رب الحكمة والكتابة/المتحف المصري.
ولمزيد من الفهم سنجد أن الكلمة المصرية القديمة
HBY ، قد أدت إلى «ه ب ن ي
Hbny » و«ه ب ي ن
Hbyn » كما عند بدج، ونقلتها اليونانية إلى لغتها في الاسم أبينوس أو هبينوس
Ebenos
أي أبنوس، وهو الخشب الأسود الصلب. وبهذا الشكل يكون بالمسألة خلل؛ لأن الأبنوس أسود بينما أصل الكلمة المصرية يعني الأبيض الناصع. هنا يقول معجم أوكسفورد: إن الكلمة الإنجليزية
ebony
تعني أبنوس. لكن المعجم يستمر شارحا، فيقول: إنها ربما كانت تحريفا للكلمة
Evory
أي عاج، والعاج/سن الفيل، ناصع البياض، لكن هذا بالتحديد يشكل دليلا على نظريتنا، نضيفه إلى رصيد أدلتنا، إذ يتضح مجيء النقيضين من مركز تصدير واحد، مع الأبيض والأسود من الناس، فحملت اللغة السامية وهي تتطور هناك في بلاد آدوم جينات وراثية، تشير إلى المنابت والأصول. لقد اشتقت اليونانية كلمة
Ebenos
الدالة على الخشب الأسود، من الكلمة المصرية
Hbny
طائر ضحوت أبي قردان شقيق زميله البونتي «ب ن و»، رمز الشروق والضياء القادم من أرض الإله في الشرق، كما سبق وحدثنا المصري القديم.
وللطرافة ولمزيد من التأكيد، نجد الكلمة العبرية سن الفيل هي «شن ه بين
Shen habbin »، أي العاج الأبيض الناصع، لكن «ه بين» وحدها تعني أبنوس. لقد حملت الكلمات أيضا تداخلات عناصر وأجناس الأحلاف الأخلامو ما بين البيض والسود.
وطائر «هبني» يسميه المصريون اليوم «أبو قردان»، وهي التسمية التي جمعت بين اسم ضحوت ورمزية القرد مع طائر الأيبس، فهي من مقطعين: «أبو = ه ب ى
hby + المقطع الثاني وهو تفعيل لكلمة قرد/قردان»، بل إن اسم قردان يعود بدوره إلى المصرية القديمة الواضحة باللفظ والفوناتيك؛ لأن المصري القديم كان يطلق على جميع أنواع القردة الاسم «ق. ن. د».
وقد ورد بلسان العرب كما قلنا من هنيهة أن الضحاك أيضا هو اسم لشخص محدد هو الضحاك بن عدنان، وعدنان هو أبو العرب الشمالية المستعربة، ثم ساق اللسان زعما يقول: إن الضحاك هذا هو الذي ملك على الأرض جميعا، وكان مقر حكمه في بابل، محتفظا في الذكرى بإمبراطورية كبرى، كان لعرب الشمال «وادي عربة» نصيب فيها.
وهناك أسطورة فارسية معروفة حدثتنا عن ملك باسم الضحاك، حكم من عاصمته في الرافدين القديم، وكانت الرافدين تحسب فارسية حتى الفتح الإسلامي العربي لها، فيروي لنا الفردوسي في رائعته المعروفة بالشاهنامه أن الكتاب الزرادشتي المقدس قد ذكر الضحاك باسم «إس - ت - حاك» أو «إزي - د - ه ا ك ه»، وكتب الأخبار الإسلامية تقول: إن الضحاك كان ملكا من ملوك النبط، لكنه كان كلدانيا حكم في بلاد الكلدانيين/الرافدين القديمة (؟!) والأنباط كما عرفنا هم السلالة الأخيرة في التطور نحو الجنس العربي واللغة العربية؟! قبل ظهور العرب الصرحاء والعربية الصريحة، وأنهم سكنوا بلاد العرب أو وادي عربة في آدوم. والطبري يرى أن النمرود الزنجي كان منوبا على حكم الرافدين من قبل ملك العالم الضحاك، وأن الأصل الوطني للضحاك هو بلاد اليمن، وأنه هجرها واستقر في بيت المقدس/أورشليم، تلك التي قال لنا يوسفيوس إنها المدينة التي بناها، واستقر فيها الهكسوس بعد طردهم من مصر.
وهنا نقتطع من «مظفر نادوثي» فقرة شاردة، لم يقصد بها شيئا محددا، لكنها تعني لنا هنا الشيء الكثير، فهو يقول:
يؤكد الفرس أن العرب كانوا حكام العراق وبابل الأقدمين، وأنه بعد جامشيد
Gumshid
الذي كان معاصرا لسام بن نوح، احتل دهاق
Dahak
العربي هذه البلاد، ويؤكد العرب أنفسهم ذلك؛ إذ يقول الطبري المؤرخ العربي المشهور: يدعي أهل اليمن أن الملك دهاق بن علوان ينتمي إليهم، كما يقال أيضا إن الدهاق هو النمرود، الذي ولد في عهده سيدنا إبراهيم، وأنه هو الذي أمر بإحراقه، وقد وصف الفردوسي أكبر الثقات من المؤرخين الفارسيين مملكة الدهاق، التي استمرت ألف سنة في شاهنامته.
9
ثم يضيف:
ويرى المؤرخ الألماني الشهير دنكر
Duncher ، أن كلمة كوش
Cuch
المستعملة في سفر التكوين، تشمل جميع الأمم التي عاشت في الأراضي الجنوبية كالأثيوبيين والنوبيين. أما قبائل جنوب العرب فيقصد بهم سلالة كوش الذين أسسوا بابل، والذين استقروا على الخليج الفارسي أيضا.
10
وبغض النظر عن تزمين حكم الكوشيين أو الكاشيين، الذين أسسوا بابل بألف عام، ممثلة ترميزا في شخصية الضحاك، لترمز إلى رب بعينه لجمهرة حاكمة بذاتها. فإن هناك تزمينا آخر ينقله «نادوثي» عن المؤرخ البابلي «بيرسوس
Brushes »، الذي عاش في بابل سنة 400ق.م. وأرخ لبلاده، وتسربت من كتبه المفقودة إلى المؤرخين الكلاسيك واليهود، وما ينقله نادوثي يعنينا منه فقرة يقول فيها بيروسوس:
كان عدد ملوك بابل العرب تسعة، بلغت مدة حكمهم نحوا من 225 عاما.
11
ومدة 225 سنة سنكتشف في الفصول المقبلة، أنها كانت الزمن الذي أمكننا تدقيقه لوجود الهكسوس في مصر، على سدة حكم مصر بدورها (كما سلف وكما سيأتي مزيد يؤيده).
ونعود للشهنامه لنجدها تحوك أسطورة حول الضحاك، تقول: إنه نبتت في كتفه حيتان، لا تهدآن إلا بالاغتذاء على أمخاخ البشر، فكان رمزه الثعبان، أو كان قرينا لثعبان أسطوري معبود.
12
ومن جهتهم يصر المؤرخون العرب القدامى، على أن الضحاك كان ملكا على بلاد الرافدين القديم، لكنه كان يمنيا، فما أبعد الشقة، وما أقربها في ضوء حدوث ذلك زمن إمبراطورية كبرى من حلفاء كبار! لذلك يعقب المسعودي بقوله: «إن اليمانية من العرب تدعي الضحاك (أي تنسبه لليمن [المؤلف])، وتزعم أنه من الأزد. وقد ذهب كثير من ذوي المعرفة بأخبار الأمم السالفة وملوكها، إلى أن الضحاك كان من أول أوائل ملوك الكلدانيين النبط.»
13
ونعود للشهنامة التي تخبرنا أن ملك الضحاك، قد سقط على يد رمز الخير في الأسطورة «إفريدون»، الذي اعتقل الضحاك وسجنه في مغارة مظلمة، في شعب يقع بين جبلين متناطحين، يضيق ما بينهما حتى يرى في النهار الشامس كالليل الدامس.
وإفريدون في الشهامة هو أول طبيب، فقد أنزلت إليه عشرة آلاف من الأعشاب الشافية، كانت تلتف في غيضة حول شجرة هوم البيضاء.
14
والأبيض هو اللبان، واللبن واللبان من جذر لغوي واحد، يشير إلى الإبانة والوضح والجلاء؛ لذلك يكون منطقيا أن من هزم الثعبان طبيب؛ لأن المرض عادة ما كان يعزى لسم الثعبان ونفثاته، لكن منها أيضا تؤخذ العقاقير العلاجية، ولم يزل رمز الدواء ثعبانا ينفث سمه في كأس. والمدهش أن الشهنامة تقول إن إفريدون رزق بحفيد أسماه مناجهر، ومعناه عندما تترجمه من الفارسية إلى العربية، يلتقي تماما مع المعاني المصرية القديمة فهو «الأبيض الضاحك». وحتى تكتمل اللوحة نقرأ المراجع الإخبارية العربية، فتفيدنا خبرا نافعا هو: إن هذا الأبيض الضاحك أو «الضحاك»، كان حفيدا لإسحاق بن إبراهيم، إسحاق دون غيره، وبالذات؛ فلماذا لا يكون هو إسحاق بالتحديد (؟!) إذن بذلك نكون قد حققنا اسم إسحاق بحسبانه هو ذات عين اسم الضحاك معنى ومبنى، بل وفيما تضمنته جينات اللغة الحاملة للصفات الوراثية عبر تطورها التاريخي الطويل.
وننتقل نقلة أخرى، فنربط بين اسم إسحاق بالضحك، وبالضحاك الذي ملك على الأرض جميعا، (وهو ما يعبر عن سيادته على إمبراطورية كبرى) وبخصب الأرض والحيض والنبت والولادة، وبين اسم الملك الهكسوسي الذي حكم على إمبراطورية عظمى مترامية الأطراف، وهو ما انتهينا إليه في الفصول السابقة، الملك الهكسوسي الثاني على مصر، والذي جاءنا اسمه عند مانيتون (بنون
Benon )، ونقله عنه يوليوس الإغريقي ويوسفيوس (بيبون)، وهو ما لا بد أن يذكرنا بميمون/البابون، وأن الملك بنون جاء اسمه في بردية تورين باسم «بنيم»، ووصلنا اسمه على الآثار المصرية بالرسم «سكا»، والسكة هي حديدة المحراث. والسكة عادة ما ترمز للقضيب الذكوري، ويكنى بها عن القضيب؛ لأنها تشق تربة الأرض كما يشق القضيب الفرج فيدمى. فالسكة هي التي تجعل الأرض تحيض وتلد، تجعلها تضحك، فسكا هو صانع الحيض أو صانع الضحك، هو الضحاك. ويدعمنا بشدة هنا أن الكتابة الهيروغليفية التصويرية، تكتب أول حروف اسم سكا من اليمين، حرفا على هيئة رجل يمسك محراثا ، وبإهمال الحاء المخففة في اسم إسحاق/سحق يصبح سك، وهنا فورا نتذكر عنصرا هسكوسيا في مصر، كان يحمل اسم «السكاسك»، ومنه فيما نرى جاء اسم مدينة الزقازيق. ثم علينا ألا ننسى أن حكام الهكسوس كانوا بالأصل في الأغلب عبدة للقمر، ومع هبوطهم مناطق الخصب عبدوا الشمس أيضا، وتسمى ملوكهم في مصر بأسماء تنتسب إلى رب الشمس المصري القديم «رع»، لقد كان سكا شمسيا وقمريا في ذات الوقت كما هو «ضحوت».
وهذا بالطبع لا يعني أن إسحاق المقصود، هو إسحاق التوراة بن إبراهيم تحديدا، وكل ما نعنيه أن جميعهم كانوا ذوي قرابات وأسماء متقاربة، وأن الحاكم الهكسوسي «البابون/ميمون/سكا/الضحاك» كان ملكا هكسوسيا، حكم في إمبراطورية كبرى، وربما كان هو أصل الأساطير العربية، عن عظيم من اليمن باسم الضحاك، الذي جمع صفة الشكل الآدمي مع الضبع عناق البونتي.
ونقف نعجب من اللغة المصرية القديمة، وهي تطلق على قرد البابون الأسود القاتم اسم الأبيض الكبير، وما في معناها الضحاك العظيم، وأن يقال في العاج الناصع البياض أبنوس وهو شديد السواد، وأن تكنى العربية عن الصفة المعيبة بعكسها، فتقول عن الأعمى «أبو بصير» و«الشواف» وعن الكسيح «أبو سريع». وإذا تصورنا فعلا أن الملك النمرود ربما هو الضحاك، فهي الصفة العكسية لعلمنا لماذا حمل هذا الاسم؛ لأن كتبنا التراثية تصوره زنجيا شديد القبح حتى شبهته بالقرود. (وكانت آدوم موئلا لقردة البابون بكثرة).
ولا يفوتنا التنبيه إلى أن لسان العرب نسب الضحاك إلى عدنان، فقال الضحاك بن عدنان، وعدنان هو أبو العرب المستعربة، ثم هذا كله يفسر بقايا ذكريات ربطت بين الجنس الإسرائيلي وبين جنس القردة، وتواتر ذلك عبر الأزمنة، حتى جاء عنهم في القرآن:
فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين (البقرة: 65)
فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين (الأعراف: 166)
من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة (المائدة: 60)
وفي موضع آخر بالشاهنامه رواية أسطورية تتحدث عن العنقاء، التي كانت - في الرواية المصرية - تسافر من بلاد العرب حاملة أبيها إلى منف، لكن الشاهنامه هنا تحدثنا عن شخص باسم «سام»، أنجب ولدا شعره أبيض (مما يذكرنا بعيسو آدوم في الرواية التوراتية)، فألقاه أبوه على جبل العنقاء، فقامت العنقاء بتربية الطفل بين صغارها، ثم حملته بعد أن شب صبيا إلى أبيه، ليصير ملكا من بعده، وأعطته ريشا من جناحها يمكنه أن يستدعيها بحرق ريشة منه إذا حزبه أمر.
15
والرواية هنا قريبة مما روي عن رحيل الفينيق لأداء رسالة مشابهة. والترميز يربط بين موطن العنقاء وموطن الوليد الأحمر، وبين كليهما وبين مصر، في رمز واضح يشير إلى أن ابن العنقاء بالتبني، ابن الفينيق، ابن الأيبس، ابن ضحوت، ابن القرد، الضحاك، قد صار ملكا عظيما.
وقد أصبح الآن لدينا عدد من التجليات لرب سيناء وآدوم، ومنها ذلك القرد القمري ضحوت، الذي حمل وجه سيت عناق البونتي، ونلاحظ أن البابون في نقوش رحلة حتشبسوت إلى بونت، كان يتربع على صواري السفن، والشق «بي» و«بو» المصرية القديمة تعني «فم»، فهو «بي - بون» أو الفم البونتي. وهو الفم المعلوم الأمر للمصري القديم؛ لأنه فم عناق البونتي. ومن هنا لا يكون أصل كلمة بابون مجهولا، إنما كان معلوما في مصر وآدوم، ولم يزل ملاعبو القرود المتسولون في مصر حتى الآن، يقفون في المناطق الشعبية يلاعبون قردتهم بالنداء: «العب يا ميمون.»
وقد سبق وقدمنا محاولة تفسير لاسم بلاد بونت عند المصريين القدماء، فقلنا إنه الحجر، استنادا إلى اسم الحجر الهرمي بن بن، وأنه البلاد الخماسية. وهنا اقتراح آخر لتفسير اسم بونت، فربما جاء منسوبا إلى الفم البوني (البابون). ثم نعلم أن مشروب القهوة/البن كان منتوجا من جنوبي الجزيرة/يمنيا. ولا شك أنه قد وجد طريقة مع التجار إلى بلاد آدوم، التي كانت تصدره كمادة عطرية ومادة علاجية، ويدخل البن في معظم التركيبات العلاجية الشعبية، ولم يزل يستخدم في قرى مصر كمجلط للدم وحابس للنزيف. وربما حمل هذا النبات اسم البن؛ لعلاقته بالفم البوني/البابون، وربما كان قرد البابون وراء اسم بونت، خاصة إذا علمنا أن الكلمة اللاتينية، التي تدل على البن هي «كوفي» و«كافي»، وهي اختصار بالأحرف الأولى لاسم البابون
Ceno-Cephalus ، ثم إنها بالضبط «قهوة» العربية لتبادل الفاء مع الواو؛ فالقهوة هي الكوفي هي القهفة/الكهفة، فهل ثمة علاقة بين هذا الاسم وبين الكهف والكهوف مساكن آدوم القديمة؟ ومن قهوة لدينا مدينة «قها» في مصر. والعجيب أن تدهشك اللغة بقدرتها على حمل كل تلك الذكريات؛ لأن قها كانت أحد أهم مقار عبادة الإله الضحاك ضحوت. والأغرب أن تبقى الذكريات بشكل لا واعي، ويحفظ العامة اليوم مأثورا عن علاقة «قها» بفعل الضحك، فيطلقون على البلدة من باب التفكه «بلد النصف ضحكة»، باحتساب الضحكة الكاملة هي قهاقها.
والدارس للأساطير يعلم أن رب القمر كان على علاقة وطيدة بالمرأة، حتى عدته بعض الأساطير إلهة أنثى، وذلك لتناغم تقلب أوجهه مع إيقاعات المرأة البيولوجية في دورتها الشهرية الحيضية، وكان ربا للهواء والريح، وهو ما يستدعي «هوا» رب الريح و«يهوه» كأرباب خصوبة، وهو ما يفسر لنا الضحك باعتباره حيضا؛ لأن الضحاك الكبير ضحوت، كان هو القمر قرين الحيض الأنثوي. ومع حيض نقرأ تحت مادة حضض باللسان:
حضض: الحض ضرب من الحث في السير. وهو عقار مكي ومنه هندي، وهو عصارة شجر معروف. وقال ابن دريد: الحضض صمغ من نحو الصنوبر والمر. وأحمر حضي: شديد الحرمة، قال ابن خالويه: يقال حاضت ونفست ودرست وطمثت وضحكت وكادت وأكبرت وصامت، قال المبرد: سمي الحيض حيضا من قولهم حاض السيل إذا فاض. وقيل: الحيض الدم نفسه.
وهكذا أجملت اللفظة معانيها فأوعبتها، فالحيض الذي هو فعل الضحك، الذي يسببه الضحاك الكبير القمر، رب الخصب والطريق الوسيع، فهو يفتح الأرض لتنجب، ويفتح فرج الأنثى فتحيض وتلد، ويفتح شجرة المر فتنتج لبانها، واللبان والصمغ والمر كلها تسيل، كالحيض من جرح في الشجرة ينفلق تلقائيا. وبين معاني حاضت: درست، والدرس هو استخدام السكة في شق الأرض. وكان الفرعون الهكسوسي الثاني على مصر يحمل اسم سكا، وللتأكيد تم تدوين نفسه اسمه برمز فلاح يحرث الأرض بسكته.
وفي القصص الإسلامي حكايات عن النبي موسى لم تعرفها التوراة على الإطلاق، ويبدو أنها كانت مأثورا تاريخيا شفاهيا، لم يجد طريقه إلى التدوين بالكتاب المقدس، استمر متواترا حتى زمن الدعوة الإسلامية، حيث أعلمنا به القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة. ومن نماذج تلك الحكايا قصة التقاء موسى، في موضع يسمى مفرق البحرين، بشخصية تراثية باسم الخضر، الذي صورته الآيات بحسبانه حكيما عظيما يعلم الغيب، كما أضافت إليه الشروح صفات تفسر اسمه بشكل يشير إلى أنه كان في الأصل ربا للخضرة والزرع؛ فقد كان إذا جلس على فروة بيضاء اخضرت، وأن الأرض تخضر تحت قدميه بالنبات عند مسيره، وأنه حي غائب، حي خالد في هذه الحياة الدنيا، لكنه مختف عنا، فقط يظهر كل حين لتحقيق غرض قدسي محدد كلقائه بموسى.
ونحن نعلم أن أوزيريس المصري كان ربا للخضرة والزرع والنيل، وربا أيضا للحكمة، يمكنه اتخاذ هيئة ضحوت الضحاك رب الحكمة في أي وقت. كما نعلم أنه قد مات شهيدا، لكنه قام حيا من بين الأموات في اليوم الثالث، يوم القيامة المجيدة، ونعلم أنه خالد في هذه الدنيا؛ لأنه يحكم في عالمه التحت أرضي، لكنه كان على استعداد للعودة إلى الأرض دوما، لتخصيبها بمائه المخصب ولإنقاذ المصريين من الخطوب.
ويبدو الخضر في الروايات الإسلامية ربا أيضا للسمك، فهو يركب على ظهر حوت، وكان الحوت دليل موسى إليه ليلقاه، وكان أوزيريس بدوره حوتا أو ربا للسمك وكل كائن مائي حي، كذلك كان ذو الشرى المعبود الآدومي، الذي كان يصوره في هيئة رجل نصفه الأعلى إنسان ونصفه الأسفل سمكة، كذلك داجون الذي عبد في فلسطين في عسقلان، والغريب أن جميع هذه الآلهة كانت أربابا أيضا للحنطة رمز الشبع والخير والخصب، حتى داجون نفسه من اسم الحنطة «دجن».
وكان بإمكان أوزير كرب للحكمة، أن يتحد بالإله ضحوت الضحاك إسحاق، الذي هو المختص بالحكمة، وساعتها سيحمل اسمه الثاني حضور، والحضور ظهور النبت هو الخضور هو الخضرة هو الخضر.
لكن المصريين من جانبهم رأوا في الحاكم الهكسوسي الأعظم رأيا آخر، فقد أطلقوا عليه اسم الشيطان «أبوفيس» الحية، والكتاب المقدس وكتب الأخبار الإسلامية، ترى الشيطان متجسدا في الحية. ولو رجعنا إلى يوليوس الإفريقي سنجده يقول لنا إن الملك الهكسوسي الملقب بلقب «أبوفيس» هذا كان يحمل اسم «ستان» أو الشيطان، بينما يوسفيوس يسجل لنا اسمه «سكا»، والسكة تعني الحارث. ولو فتحنا لسان العرب لطالعنا بذات المعاني؛ لأن الحارث اسم من أسماء الشيطان! ومن أسماء أبي قردان في البلدان العربية، كما سبقت الإشارة «أبو حنش، أبو منجل، حارس، عنز». وفي الأساطير المصرية أن ضحوت خرج من رأس ست، الذي يمثل الشيطان أو هو ذاته.
الفصل الخامس
تجليات الرب السينائي
عند خروج الإسرائيليين من مصر بقيادة موسى عبر سيناء، تم تكريس هارون وأبنائه ونسله كهنة للإله «يهوه»، وهارون وموسى هما أبناء السبط لاوي بن يعقوب؛ لذلك أصبح الكهنة جميعا فيما بعد من اللاويين نسل هارون، أو الليفيين. وهنا يحيطنا «زينون كاسيدوفسكي» علما، يوضح لنا احتمال أن يكون اللاويون كهنة مديانيين من منطقة قادش سيناء، ونظنهم من جانبنا مصريين من سكان براري الدلتا الشرقية وحدود سيناء الغربية، أو هم نصف مصريين نصف ساميين.
ولما كنا نعلم من قصة التوراة أن موسى قد عاد إلى مصر من بلاد مديان بالعصا الحية، وأنه قد صاهر كاهن مديان بسيناء (رعوئيل/يثرون)، فإنه يمكن فهم «كاسيدوفسكي»؛ إذ يقول: «يرى بعض العلماء أن اللاويين لم يكونوا قبيلة من قبائل إسرائيل، بل هم فئة الكهنة في قادش، حيث أكدت الكتابات العربية التي اكتشفت في منطقة العول، التي تقع إلى الشرق من المنطقة التي كانت تسمى أرض مديان، أن كاهنات الإله «ود» كن يحملن لقب «لو»، بينما حمل كهنته لقب لوي. ويزعم هؤلاء أن اللاوي اشتق منه. وثمة وجهة نظر أخرى في هذه المسألة، تفترض أن لقب لاوي قريب من الكلمة اليهودية القديمة «لوي»، التي تعني أفعى. ولن ننسى هنا أن المقطع لوي هو جزء من الكلمة، التي تشكل لقب الوحش الأسطوري لوياثان.»
1
ولوياثان وحش أسطوري في هيئة حية ضخمة هائلة، ظهر من قبل بذات الاسم كأفعوان (من أفعى) زاحف، متعدد الرءوس في الأساطير الأوغاريتية، باعتباره كائنا مفزعا شريرا يقتله الإله الأعظم. وقد سمي هذا الوحش في الأساطير المصرية «أبو فيس». ذات الاسم الذي لقبوا به ثلاثة من ملوك الهكسوس الستة، (وقد قال الكتاب المقدس بدوره: إن الإله يهوه، تغلب على الحية المتحوية لوياثان وقتلها) وفي مصر حتى الآن تقديس لشيخ يعده العامة من أولياء الله الصالحين أخضع الثعابين لمشيئته، وله أتباع يقومون حتى اليوم باستخراج الثعابين من المنازل نظير أجر، ويدعون بدورهم الولاية المقدسة، وكان ذلك الولي هو المعروف باسم الشيخ الرفاعي، وأتباعه الرفاعية أو الرفاعيون، وهو ما يستدعي على الفور الرفائي والرفائيين العمالقة. وللرفاعي بحي مصر القديمة مسجد هائل فخيم قائم حتى اليوم.
ونتابع «كاسيدوفسكي» وهو يقول: «زد على ذلك أن أسماء اللاويين غالبا ما كانت تحمل في أصولها معنى أفعى، ومن هنا يستنتج أصحاب هذه الفرضية أن اللاويين كانوا يعبدون الأفعى في مصر، ولم يشاءوا ترك عبادتهم تلك، كما بينت الاكتشافات الأثرية أن عبادة الأفعى، استمرت قائمة في فلسطين عدة قرون أخرى. ومن هنا يغدو مفهوما لماذا أقام موسى الأفعى النحاسية وسط المعسكر. ولم ينج من اتهام أتباع يهوه له، من أنه لطخ نقاء اليهودية بسماحه بإقامة عبادة إله الأفعى.»
2
وكاسيدوفسكي يشير هنا إلى النص التوراتي: «فصنع موسى حية من نحاس ووضعها على الراية» (عدد، 21: 9)، وما حدث بعد ذلك إبان حكم الملك اليهوذي الورع «حزقيا بن أحاز»، الذي قرر مع التطور الكبير الذي لحق الديانة اليهودية مع مرور الزمن، استبعاد كل العبادات والتجليات الإلهية؛ للإبقاء على وحدانية يهوه. وجاء بشأن ذلك نص بالكتاب المقدس يقول: إن الملك حزقيا «عمل المستقيم في عيني الرب، هو أزال المرتفعات وكسر التماثيل وقطع السواري، وسحق حية النحاس التي عملها موسى؛ لأن بني إسرائيل كانوا إلى تلك الأيام يوقدون لها، ودعوها نحشتان» (ملوك ثاني، 18: 3، 4)، ونحشتان مقلوب حنش والحنش هو الثعبان.
والمعلوم أن الإله «ود» كان إلها عربيا عريقا، وأنه عبد في بلاد آدوم على تتالي السيادات عليها، كما عبد في بلاد الحجر والمحيط الشمالي للجزيرة جميعا، وفي بلاد الحجاز بعد ذلك. وجاء ذكره في القرآن الكريم كمعبود جاهلي، وظل «ود» ربا جليل القدر حتى ظهور دين الإسلام، الذي صفى الآلهة جميعا عدا رب الإسلام «الله»، إلا أن الله حاز لنفسه أسماء الآلهة السابقة في العربية، فهو الله من إيل، وهو القدوس من الإله اليمني عستر الملقب «قدست»، وهو الرحمن من «رحمنن» اليمني وهو الرحيم من «ه-رحيم» عند عرب الشمال، وهو الودود من «ود» ... إلخ.
ولو أضفنا لازمة التعريف الشمالية «الهاء في أول الكلمة» إلى ود، لصارت «هود» اسم النبي الذي أرسله الله إلى عاد في القص العربي الجاهلي وفي القص الإسلامي، كما يفصح اسم هود عن العلاقات الخفية بين الإسرائيليين وبقية الأخلامو ومعهم العرب، فهو «يهود»، كما يشير الاسم هود إلى أصل كلمة «يهوذا».
وبالإمكان هنا أن نسوق تخريجا يعتمد على لغة قبائل الأحلاف؛ فأداة التعريف اليمنية كانت «ن» تلحق بآخر الكلمة، بينما كانت «ه» أداة التعريف الشمالية تسبق المراد تعريفه، فاسم الرحمن وهو إله يمني كان يكتب باليمنية «رحمنن»، وتكتبه العرب الشمالية «ه رحيم» عند الأنباط، والأمر ذاته حدث مع الإله «ود» وحرف «د» في «ود» مدغم من حرفين بالتشديد، فهو بالأصل «ودد» الذي هو «أدد» و«حدد» أو البعل حداد. وتعريف «ود» شماليا يجعل الكلمة «هود» أو «يهود». أما تعريفه جنوبيا فيجعله «ودن» الذي هو آدون لقب البعل بمعنى السيد.
وهنا ينبه «كاسيدوفسكي» إلى مسألة بقاء الإسرائيليين في مصر زمنا كان كفيلا بتشربهم ثقافة المصريين ومقدساتهم، حيث يقول: «أخذوا يتمثلون الثقافة المصرية رويدا رويدا. بل وتشير معطيات موثوقة أنهم اعترفوا بعبادة آلهة المصريين ومارسوها، فقد قال يشوع بن نون مؤنبا الإسرائيليين: انزعوا الآلهة التي عبدها آباؤكم في عبر النهر وفي مصر (يشوع 24: 14).
3
ويستمر «كاسيدوفسكي» شارحا: «يظهر التأثير المصري بكل وضوح في وصف التوراة للثياب التي يريتديها الكاهن أثناء تأديته لفروض العبادة؛ فهي عبارة عن نسخة طبق الأصل تقريبا عن الثياب التي كان يرتديها كهنة هليوبوليس (أون/عين شمس شمال شرق القاهرة الحالية، وعاصمة الدولة الفرعونية القديمة [المؤلف]). ولم يكن ثمة فارق بين كهنة الإسرائيليين وكهنة المصريين، سوى أن هؤلاء الآخرين كانوا حليقي الرءوس والوجه. بينما أطلق الأولون شعر رأسهم ولحاهم. لقد اقتبس موسى عن المصريين أيضا تابوت العهد والأسفاط (الكروبيم بالتوراة [المؤلف])، التي كانت تظل بأجنحتها شكلين لروحين حاميتين. إن الكروبيين اللذين زينا التابوت هما من منشأ مصري أيضا. ولقد اقتبست القبائل البدوية عن الإسرائيليين تابوت العهد، وحرم المعبد يحمل خيمة مقدسة صغيرة، وما زالت آثار هذا التقليد المصري القديم قائمة حتى اليوم عند قبيلة الروالة، التي تنتقل في الصحراء السورية، حاملة على أحد الجمال سفطا خاصا، يسمى المركب أو تابوت إسماعيل، الذي يعد ما يشبه الذخر المقدس للقبيلة.»
4
شكل رقم «147»: تصور فني لقصة التوراة عن حية موسى على الراية.
شكل رقم «148»: المؤلف ومعه صديقته تحت نصب حديدي يمثل حية موسى على جبل الجلجال شرقي أريحا.
ومثل بقية الشعوب القديمة قدس الإسرائيليون العجل/الثور؛ لما له من قوة وفحولة جنسية خصيبة. ومعلوم أن قدسية الثور كانت شاملة ومنتشرة بين جميع الشعوب القديمة، حتى صنع الملوك تيجانهم تعلوها القرون، وهو ما لحق بيعقوب إسرائيل نفسه، حيث يحيطنا شيفمان علما أن هناك صيغتين وردتا في التوراة عن يعقوب (في سفر التكوين: 49؛ وفي المزمور: 132)، تمت ترجمتها إلى عزيز إسرائيل وعزيز يعقوب، بينما هما في الأصل العبري المازوري ثور إسرائيل وثور يعقوب.
5
بل إن هناك نصا صريحا واضحا يشير إلى اعتقاد إسرائيل (المملكة الشمالية) منذ فجر انقسام مملكة سليمان، إلى يهوذا في الجنوب وإسرائيل في الشمال، أن يهوه بالفعل هو الذي أخرجهم من مصر، لكنه ليس سوى الثور نفسه؛ فقد أمر الملك يربعام مؤسس إسرائيل الشمالية بعمل عجلين من ذهب «... وعمل عجلي الذهب، وقال لهم هوذا آلهتك يا إسرائيل الذين أصعدوك من أرض مصر. ووضع واحدا في بيت إيل، وجعل الآخر في دان» (ملوك أول، 12: 28-29).
وعندما أخذت الديانة الإسرائيلية خطها التطوري اللاحق للتفرد بيهوه وحده، نسمع نبيا من مملكة يهوذا، اسمه هوشع يصب نقمته على أشقائه في مملكة إسرائيل وعاصمتها السامرة، وعلى سبط إفرايم الابن الثاني ليوسف؛ وذلك بسبب عبادتهم عجول أون. وعجول أون هي عجول عين شمس المصرية، وعجل عين شمس المعروف كان المعروف باسم العجل أبيس.كذلك نعى هوشع على إسرائيل عبادتها لشوامخ أون، والشوامخ هي المسلات التي تطلق عليها التوراة اسما آخر على التبادل هو السواري (هوشع، 10: 5، 8) جمع سارية.
وفي قصة لقاء موسى بربه ليأتي بألواح الشريعة إبان رحلة الخروج، يحيطنا «كاسيدوفسكي» علما أن النص التوراتي القائل، أن موسى غطى وجهه بقطعة قماش؛ لأن وجهه كان يلمع أو يشع من لقاء الله، كان في أصله المازوري أن موسى بعد لقاء الرب ظهر له فوق رأسه قرنان.
6
وإعمالا للنص الأصلي صور الفنان مايكل أنجلو، تمثال موسى بقرنين. ولا بأس هنا أن نجمع اللمعان المضيء مع القرنين، إذا تذكرنا أن الفرعونة حتشبسوت قد استوردت من بلاد بونت مادة دهنت بها جسدها، فأضاءت أمام شعبها، وهي ذات البلاد التي جرت فيها أحداث الخروج بمديان وآدوم سيناء. ويؤكد لنا «كاسيدوفسكي» أن الكهنة المصريين كانوا يغطون وجوههم أثناء إقامة الاحتفالات الدينية والمراسم؛ لأنها كانت تضيء «أما القرون فهي راسب من رواسب عبادة الثور المصري أبيس. وهذا ما تدل عليه حادثة العجل الذهبي، فبقيت القرون رمزا للقداسة.»
7
كذلك ظل البعل وهو ثور بدوره، هو جدي «تيسا» إلها جليل الشأن لدى شعوب شرقي المتوسط وضمنها بنو إسرائيل. ويمكنك أن تجد بالكتاب المقدس شهادات واضحة بذلك، من أمثلتها عبادتهم عجل بعل فغور (تثنية، 32: 17-16؛ وعدد، 25: 1-3)، وعبادتهم البعل وعشتروت (قضاة، 2: 13)، وعبادتهم البعليم جمع بعل (قضاة، 3: 5-8)، كما مارسوا طقس الجنس الجماعي وراء بعل بريث (قضاة، 8: 33؛ 10: 6)، ومارسوا هذا الزنا المقدس في باب خيمة الاجتماع (صموئيل أول، 2: 22)، كذلك ذكر هذا المقدس أن سليمان سجد لكل آلهة المنطقة (ملوك أول، 11: 1-8)، كما عبدوا عددا من العجول الذهبية، وقاموا بالجنس الجماعي على المرتفعات، وقدموا الأطفال أضاحي للآلهة (ملوك أول، 13: 2؛ 14: 23؛ 16: 31-33؛ وملوك ثاني، 16: 3، 4؛ 21: 2، 6؛ وأخبار أيام ثاني، 21: 11، 33؛ وملوك ثاني، 23: 11؛ وأخبار أيام ثاني، 34: 2-5)، كذلك سجدوا لبعل مولك عند توفه (ملوك ثاني، 23: 10)، أما مركب الشمس المصرية التي كان يعتقد أن رع يركبها في رحلته السماوية، فقد كانت محل عبادة دائمة في المملكتين معا إسرائيل ويهوذا، حتى وصل الأمر بالنبي إرميا، وهو يرهص بتوحيد يهوه، إلى التنديد بشعبه صارخا فيه: «بعدد مدنك صارت آلهتك يا إسرائيل» (إرميا: 11-13).
حتى إن يهوه نفسه الذي اكتشفه موسى في أيكة مديان المضيئة لم يكن إلها واحدا، بل مدمجا لعدد من الآلهة، حيث يقول لنا «كمال الصليبي»: «هناك ثلاثة مقاطع مختلفة في التوراة، تذكر اسم موسى مع تعريف لشخصه بأنه: ء يش ه - ء لهيم، وفي الترجمة العربية وسائر الترجمات: رجل الله (المزمور، 90: 1؛ وعزرا، 3: 2؛ وأخبار أيام أول، 23: 14)، ولو كانت العبارة بالعبرية هنا: ء يش لهيم، لصحت ترجمتها على أنها تعني رجل الله؛ لأن اسم الله بالعبرية هو: ء لهيم. ويلفظ: إلوهيم. لكن العبارة العبرية هي في الواقع ه ء لهيم بالتعريف، وليس: ء لهيم بدون تعريف، وه ء لهيم بالعبرية ليست هي اسم الله، بل لفظة عادية تعني الآلهة، جمع إله أي آلهة مع سابقة التعريف.
8
ولعل أهم تجليات الإله يهوه وأبرزها إضافة إلى الثعبان، هو التجلي الناري، وقد سبق وألمحنا إلى خنفساء المانجروف، كظاهرة يمكنها تفسير مشهد عليقة تلتهب ولا تحترق. والطريف أنه يمكنك أن تجد في سيناء أكثر من ظاهرة للنباتات الضوئية. وقد حاول بعض الباحثين تفسير مشهد عليقة تلتهب ولا تحترق، بالظاهرة المعروفة بهالات القديسين، «وهي هالات ضوئية ترى محيطة برءوس القديسين في المصورات القديمة، وتطابق ما يشاع بين البسطاء عن أنوار تشع من وجوه الأنبياء والأولياء ذوي الكرامات، وهي الظاهرة التي فسرها علم الفيزياء بعد اكتشافه للكهرباء الجوية، التي تأخذ أحيانا شكل كهرباء إستاتيكية مستقرة، وعادة ما تظهر فوق قمم الجبال والمناطق الخلوية الرطبة، وهي الأماكن التي اعتاد الزهاد والنساك ارتيادها للتعبد والاختلاء، كذلك الأفاقون والهاربون من العدالة، وهم أيضا ممن لوحظت معهم تلك الظاهرة، وكانت رؤيتها كفيلة بإبهار العامة.»
9
ومن جانبنا لا نجد ذلك معبرا بوضوح عن ظاهرة العليقة الموسوية، فنحن نظن موسى التوراتي قد رأى بالفعل لهبا بشكل من الأشكال، أو ضوءا نباتيا، وليس شرطا أخذ الأسطورة بحرفيتها أو بتفاصيلها الدقيقة ، على محمل الجد الصارم، حيث حاول الباحثون العثور على تفسير للظاهرة في سيناء نفسها، فوجدوا هناك نباتا لم يزل يسمى عليقة موسى من قبل سكان المنطقة الحاليين. واكتشف أن لهذا النبات خصائص فريدة، فهو يرسل خيوطا من الزيت في الأثير، تتوهج بسهولة تحت أشعة الشمس، وحملوا معهم إلى بولونيا نموذجا منه، وزرعوه في محمية «سكوروتيت». وفي عام 1960م خرجت الصحف بنبأ مثير يقول: إن عليقة موسى المحاطة بالرعاية في المحمية، قد اشتعلت بنار ذات لون أحمر، وكان اليوم حارا وقائظا.
10
ومن ثم تم الربط بين اشتداد الحرارة والرطوبة معا، وهو ما يحدث في أيام محددة في ذلك الجنوب السينائي، وبين توهج ذلك النبات بالضوء، لكن أحدا في بولونيا لم يزعم أنه رأى يهوه، أو سمعه يتكلم من خلال النبتة المتوهجة!
وظاهرة رابعة في سيناء أيضا، يمكنها بدورها تفسير مشهد عليقة نارية لا تحترق، صادفتنا إبان مشاهدتنا للتلفاز المصري، على قناته الأولى في برنامج عالم الحيوان، وكانت تفسيرا سهلا وبسيطا، حيث كان يعرض البرنامج الذي أعده سعيد محمود وعلق عليه، وأذيع خلال شهر يناير 1993م، ألوانا من الأشجار والنباتات الفطرية، التي تتعايش معها بكتريا تؤدي بالتفاعل الكيميائي، إلى صدور شحنات ضوئية منتظمة نابضة تصدر عن النبات. وقدم البرنامج ألوانا من تلك النباتات في البحر الأحمر وفي شبه جزيرة سيناء. وبالطبع لم يكن البرنامج يتحدث عن عليقة موسى، لكنه كان يتحدث عن الشوكيات، وفطر المشروم السينائي الذي يضيء بالخلايا البكتيرية، كما قدم أيضا عددا من تلك الظاهرات تحدث في نباتات مائية في عمق البحر الأحمر وخليج السويس والعقبة، أما الحالات التي عرضها البرنامج فكانت مدهشة حقا، حيث كان النبات يبدو بالفعل متوهجا تماما كما لو كان يشتعل بالنار، ولو لم تمسسه نار.
ومن ثم فلدينا في شبه الجزيرة السيناوي، أكثر من ظاهرة يمكنها تفسير ما شاهده موسى، في تلك الصحراء الحافلة بالعجائب، فلو كانت الرؤية بالنهار يمكن أن تفسرها العليقة الزيتية، وإن كانت ليلا يمكن أن تفسرها خنافس المانجروف أو المشروم المضيء.
ونبات المشروم تحديدا يمكنه أن يستدعي معاني كثيرة، فالإله يهوه يبدو في أحد تجلياته كقضيب ذكري، ولا ننسى أن القضيب مصدر الخصب وعلامة القوة، فالبطاركة الأوائل كان يمسك أحدهم بالقضيب، ويقسم به في مواضع متعددة بالتوراة، ومثالا لذلك «وقال إبراهيم لعبده كبير بيته المستولي على ما كان له: ضع يدك تحت فخذي، فأستحلفك بالرب إله السماء وإله الأرض، أن لا تأخذ زوجة لابني من بنات الكنعانيين» (تكوين، 24: 2-3). ويتكرر القسم بالقضيب في عدة مواضع أخرى، منها على سبيل المثال ما جاء في طلب يعقوب لولده يوسف إبان وجودهم في مصر، ألا يدفنه في بلاد مصر، بل يذهب بجثمانه إلى أرض كنعان ليدفنه هناك، وهو الطلب الذي لم يطمئن إلى تنفيذه وتهدأ نفسه، إلا بعد أيمان مغلظة من يوسف في عبارة التوراة على لسان يعقوب: «ضع يدك تحت فخذي، واصنع معي معروفا معي وأمانة، لا تدفني في مصر» (تكوين، 47: 29).
ولا ننسى مسألة ختان القضيب كشرعة إسرائيلية، وفريضة إجبارية محتومة على كل يهودي، ورغم علمنا من قوانين الفراعين وما تركوه من رسوم لإجراء عملية الختان بسكاكين الصوان، تؤكد أنهم اعتبروا الختان ميزة خاصة تعاليا على بقية الشعوب، فإن الإسرائيليين أخذوا بهذه الشرعة المصرية، بل واحتسبوها علامة العهد بين الرب وبينهم، الرب يعطيهم فلسطين، وهم يعطونه غلفات قضبانهم بالاختتان. وكلما نظر الرجل إلى قضيبه بعد قص غرلته عنه، يتذكر عهده وميثاقه مع الرب:
وقال الله لإبراهيم: وأما أنت فتحفظ عهدي أنت ونسلك من بعدك في أجيالهم. هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم، وبين نسلك من بعدك، يختتن منكم كل ذكر فتختتنون في لحم غرلتكم، فيكون علامة عهد بيني وبينكم. فيكون عهدي في لحمكم عهدا أبديا. (تكوين، 17: 9، 13، 11، 10)
ولا يفوت لبيب هيئة المشروم، فهو يتخذ شكل قضيب نموذجي الاختتان، وبهذا الخصوص يعرب شفيق مقار عن رأيه في ديانة يهوه فيقول: «هي نابعة من ديانات صحراوية من ديانات الخصب، انصبت على تقديس نوع من الفطر واسمه العلمي هو «أمانيتا موسكاريا»، كان أتباع تلك الديانة يرون فيه تجسيدا لإلههم القومي، وهو إله قضيبي. ويؤمنون بأن تعاطيه يمكنهم من الاتصال اتصالا مباشرا بمعبودهم، ويتيح لهم مشاركته أسراره السماوية. والمعروف أن لذلك الفطر تاجا يشبه قمة القضيب في حالة انتصابه، ويحتوي على عقار يسبب الهلوسة لمن يتعاطاه، ويشيع في كيانه بلهنية وشعورا بالحيوية والجزل، يصحبه اندفاع لطاقة جسدية عارمة، ويعقبه فترات من الانحطاط الجسدي الحاد. ونفهم الأهمية القصوى التي علقها هذا المعبود القضيبي، حسبما يرويه الكهنة من مبدأ الأمر على مسألة الختان؛ فالختان هو الذي يجعل القضيب، عندما ينتصب مماثلا لنبات الفطر المقدس، الذي رأى عبدة ذلك الإله أن معبودهم يتجسد فيه.»
11
ومن الطريف أن اسم القضيب الذكري في العامية المصرية حتى اليوم هو «الحمامة»، وسر الطرافة أنه قد تم العثور في أورغايت، على قطعة فنية نحاسية تعود إلى حوالي سنة 160ق.م. تحمل اسم رب التوراة
IA-HU ، وبتدقيق النظر ستكتشف أن الاسم مركب من مقطعين «
IA
أي رفيع أو سامي الشأن» و«
HU
أي الحمامة»،
12
فهو رب الحمامة أو رب القضيب.
ويعلق علي الشوك على تلك القطعة النحاسية بقوله عن إياهو: «وكان يدعى يومئذ إيلات إياهو ... وكان إله الحدادة عند القينيين! ويظن أنه كان عشيق بعلت (أي البعلة [المؤلف]). واسم إياهو يرجع إلى حقب أبعد بكثير، فهو قد ظهر في مصر في عهد الأسرة السادسة، أي في النصف الثاني من الألف الثالث ق.م. لقبا للإله سيت
Set
أو سوتخ
Sutech ، وكان إله الرعاة. وقد ظهر في سفر التكوين باسم شيث بن نوح.»
والأفعى المقدسة رمز يهوه «الأفعوان»، تتخذ في الأساطير اليونانية، صورة حمامة تلقح الكون فيلد الحياة. ويضع علي الشوك تخريجا للأصل الاشتقاقي لكلمة حمامة، يقول إنه غير متأكد من صحته، رغم أنه شديد الصحة، فهو عنده من مادة حم أي صار أسود؛ لأن حم في المصرية القديمة = أسود، أفلا يحيل كل هذا إلى القينيين في مديان الحدادين وربهم حداد، الحاميين، الكوشيين، الزنوج.
والأفعوان هو باليونانية
Ophis
ومنها أبوفيس كذلك هو
Ophion ، وله اسم آخر في ذات اللغة هو بيثون
، وفي اللغة الحورية الأوغاريتية اسمه ب ث ن أي الحية. وبقلب الباء فاء تصبح فتن، والفتن بالعبرية تعني حية. وبثن بالعربية هو الناعم الطري؛ لذلك نجد الاسم «بثينة» أي الناعمة. لكن يبدو أن تلك النعومة، اشتقت من ملمس البيثون الحية الناعمة، لكنها الشريرة القاتلة؛ لذلك جاءت كلمة فتن في العربية وفاتن، لتدل على شديد الجمال الفاتن الأخاذ، لكنه الشرير القاتل، ومنها الفتنة التي هي أشد من القتل.
ومن بيثون يأتينا اسم
/بان رب الرعاة أو رب الماعز عند الإغريق، فقد كانت هذه صورته المفضلة (التيس)، وكان في الوقت ذاته هو رب القضيب ورب الجماع، ثم المقابل لكلمة «بان» في العربية، هي كلمة فن/بن، والفن في العربية هو عملية إخصاب الحمار لأنثاه، ويقال: فن الحمار بأتنه أي نكحها؛ لذلك يسمى الفنان.
وقد لاحظ جون الليجرو أن اسم البعل نفسه مأخوذ من اسم سومري هو
BA-AL
وهو ما يعني المثقب أو القضيب، واختلاط الباء بالفاء يؤدي بكلمة «بال» السومرية إلى فالوس
اللاتينية، وهي اسم القضيب الذكري في حالة الانتصاب، ولنلحظ أيضا أن الشق الأول من الكلمة
BA
هو في العربية القدرة الجنسية المسماة «باه»، وكان المصري القديم يتصور القضيب وهو مخرج روح الرجل، وكانت الروح في المصرية القديمة تحمل اسم ال «با». وكانت ترسم وهي تخرج من القضيب في شكل الحمامة، والحمامة هي اسم القضيب المتداول في مصر حتى الآن، لم تزل ذكريات القضيب المضيء (فطر أو عيش الغراب السينائي)، تتمثل في المصابيح الزيتية القروية باسم الفانوس/الفالوس.
وفي أساطير الشعوب القديمة جميعا تمثلت الروح في الريح، الرياح؛ ربما لأن التنفس (النفس) أي الريح هو الذي يمد الكائنات بالحياة. وفي الكتاب المقدس: «بنسمة الله يبيدون وبريح أنفه يفنون» (أيوب، 9: 4). ويتواتر ذكر عبارة «روح الرب» (ملوك أول، 12: 18). أو كما في «بريح أنفك تراكمت المياه» (خروج)، وتشترك مع الريح والروح كلمة الرائحة، التي عادة ما تعبر عن الرائحة العطرية، وتشترك معها في الدلالة لفظ شذى، التي أحالت لدينا من قبل إلى «شرى» أو ذوي الشرى، الذي ارتبط بالخصب بدوره، فولد تحت نخلة في بلاد آدوم في أسطورته. والنخلة باليونانية هي
فويينكس، وهو ذات الاسم الذي كان يطلق على العنقاء الطائر المسافر من بلاد العرب إلى مصر، وإلى العناقين العمالقة، الذين سنجد بينهم - بعد فصول - قاطعي الأعناق أو الرقاب أو قاطعي الرءوس، أو الخناقين. والمبهر أن الكلمة فوينكس تعني أيضا في اليونانية «الخناق أو قاطع الرقبة»! وهنا الحالة الثالثة التي نطلب من القارئ تذكرها؛ لأن لها دورا آتيا في حل كثير من الألغاز في بحثنا هذا.
وكان القدماء يتصورون الريح الإعصاري، في هيئة عمود ثعباني كبير عظيم متلو يلتهم كل شيء، وهي صورة الإعصار. ومن هنا جاء اسم الأفعى الأفعوانية، التي أصبحت في اليونانية أوفيس/أوفيون، لكنهم يطلقون عليها أيضا الاسم بيثون. ومن الكلمات «بثن» و«فتن» يأتينا اسم «بان» رب الماعز اليوناني. وفي الأساطير اليونانية نجد مملكة الرياح تتكون من أربعة آلهة بعدد الجهات الأصلية، وأمهم جميعا هي البقرة «يهو» أو «أيوس»، وكذلك فإن انفجارات البركان المتتالية مع كل دمدمة تعطي بغبارها السحابي الهائل شكل الانفجار النووي، تعطي بالضبط مشهد المشروم، مشهد القضيب لكنه العظيم المهول، الذي يقذف بمواد الخصب، لكن بقدرة ربانية تزلزل الجبال وتنشف المياه وتشق الأرض. واللافا البركانية بالملاحظة المستمرة، أعطت إنسان العصور الخوالي فرصة اكتشاف أنها سر خصب الأرض.
وعليه نقف الآن مليا مع مشهدية كبرى نارية قضيبية بركانية لرب التوراة «يهوه»، وهو يتجلى تجليا لا يمكن بحال إلا احتسابه بركانا كامل المواصفات.
وكان الرب يسير أمامهم نهارا في عمود سحاب، ليهديهم في الطريق، وليلا في عمود نار ليضيء، لكي يمشوا نهارا وليلا (خروج، 13: 21).
سحابة الرب كانت على المسكن نهارا، وكانت فيها نار ليلا، أمام عيون كل بيت إسرائيل (خروج، 40: 48).
وحدث في اليوم الثالث لما كان الصباح، أنه صارت رعود وبروق وسحاب ثقيل على الجبل، وصوت بوق شديد جدا، فارتعد كل الشعب الذي في المحلة، وأخرج موسى الشعب لملاقاة الله، فوقفوا في أسفل الجبل، وكان جبل سيناء كله يدخن، من أجل أن الرب قد نزل عليه بالنار، وصعد دخانه كدخان الأتون وارتجف كل الجبل جدا. ونزل الرب على جبل سيناء، إلى رأس الجبل (خروج، 19: 16، 17، 18، 20).
وكان الشعب كأنهم يشتكون شرا في أذني الرب، وسمع الرب فحمي غضبه، فاشتعلت فيهم نار الرب وأحرقت طرف المحلة، فصرخ الشعب إلى موسى، فصلى إلى الرب، فخمدت النار، فدعي اسم ذلك الموضع تبعيرة؛ لأن نار الرب اشتعلت فيهم (عدد، 11: 1-3).
عندما تمرد قورح - قارون إسلاميا - على موسى: «انشقت الأرض التي تحتهم، وفتحت الأرض فاها، وابتلعتهم وبيوتهم، وكل ما كان لقورح من كل أموال، فنزلوا هم وكل ما كان لهم من أحياء إلى الهاوية، وانطبقت عليهم الأرض، فبادوا من بين الجماعة، وكل إسرائيل الذين حولهم هربوا من صوتهم؛ لأنهم قالوا: لعل الأرض تبتلعنا، وخرجت نار من عند الرب، وأكلت المائتين وخمسين رجلا، الذين قربوا البخور (عدد، 16: 31-35).
فتقدمتم ووقفتم في أسفل الجبل، والجبل يضطرم بالنار إلى كبد السماء، بظلام وسحاب وضباب (تثنية، 4: 11).
الرب إلهك هو نار آكلة، إله غيور (تثنية، 4: 24).
إنك قد أريت لتعلم أن الرب هو الإله، ليس آخر سواه، من السماء أسمعك صوته لينذرك، وعلى الأرض أراك ناره العظيمة، وسمعت كلامه من وسط النار (تثنية، 4: 35، 36).
هذه الكلمات كلم بها الرب كل جماعتكم في الجبل من وسط النار والسحاب والضباب وصوت عظيم. فلما سمعتم الصوت من وسط الظلام، والجبل يشتعل بالنار قلتم: هو ذا الرب إلهنا قد أرانا مجده وعظمته، وسمعنا صوته من وسط النار، هذا اليوم قد رأينا أن الله يكلم الإنسان ويحيا، أما الآن فلماذا نموت؟ لأن هذه النار العظيمة تأكلنا (تثنية، 5: 22، 24، 25).
فاعلم اليوم أن الرب إلهك، هو العابر أمامك، نار آكلة (تثنية، 9: 3).
وكان منظر مجد الرب، كنار آكلة على رأس الجبل، أمام عيون بني إسرائيل (خروج، 24: 17).
فانصرفت ونزلت من الجبل، والجبل يشتعل بالنار (تثنية، 9: 15).
اعبدوا الرب بخوف واهتفوا برعده (مزمور، 2: 11).
يمطر على الأشرار فخاخا نارا وكبريتا وريح السموم (مزمور، 11: 6).
فارتجت الأرض وارتعشت أسس الجبال، ارتعدت وارتجت لأنه غضب، صعد دخان من أنفه ونار من فمه، أكلت جمرا، اشتعلت منه. عبرت سحبه برد وجمر نار، أرعد الرب من السماوات، والعلي أعطى صوته بردا وجمر نار (مزمور، 18: 13، 12، 7، 8).
صوت الرب يقدح لهب نار، صوت الرب يزلزل البرية، يزلزل الرب برية قادش (مزمور، 29: 7، 8).
نارا قدامه تأكل، وحوله عاصف جدا (مزمور، 50: 3).
السحاب والضباب حوله، العدل والحق قاعدة كرسيه ، قدامه تذهب نار وتحرق أعداءه، حوله أضاءت بروقه المسكونة، رأت الأرض وارتعدت (مزمور، 97: 2-4).
الصانع ملائكته رياحا، وخدامه نارا ملتهبة (مزمور، 104: 4).
بسط سحابا سجفا، ونارا لتضيء الليل (مزمور، 105: 39).
يا رب طأطئ سماواتك وانزل المس الجبال فتدخن، أبرق بروقا وبددهم، أرسل سهامك وأزعجهم (مزمور، 144: 5، 6).
من حضرتك تتزلزل الجبال، كما تشعل النار الهشيم، وتجعل النار المياه تغلي، لتعرف أعداءك باسمك، لترتعد الأمم من حضرتك (إشعيا، 64: 1، 2).
على جبل الله المقدس كنت، بين حجارة النار تمشيت (حزقيال، 28: 14).
غيظه ينسكب كالنار، والصخور تنهدم منه (ناحوم 1: 6).
والآن، هل من الممكن أن يفهم من تلك النصوص شيء، سوى أنها تصوير بليغ لبركان حقيقي؟ إن البركان هو الظاهرة الوحيدة التي إذا طالعناها من بعد، أخذت شكل عمود النار ليلا، وشكل عمود السحاب نهارا عندما تظهر الشمس، وتطغى بضوئها على ضوء النار المتلظية داخله. هو الظاهرة الوحيدة التي يصاحبها أصوات القصف كالرعد والبرق، مع السحاب الثقيل المصحوب بالأدخنة الصاعدة كالأتون. وهو الظاهرة الوحيدة التي تؤدي لارتجاف محيطها، وهو الظاهرة الوحيدة التي يمكن رؤيتها عن بعد بأمان تام، لكنها تصبح خطرا محققا، إن زحفت مصهوراتها إلى أماكن السكنى، كما حدث في إحراقها طرف محلة الإسرائيليين بسيناء. وهو الظاهرة التي تصاحبها الزلازل ورجف الأرض، وانشقاقها وابتلاعها لما فوقها، كما حدث مع «قورح/قارون إسلاميا» وجماعته. وهو الظاهرة التي تظهر نيرانها في رءوس الجبال وقممها، وهو الظاهرة التي تصحبها رياح كبريتية سامة (رياح السموم)، مع تفاعلات غازية في شكل أبخرة قاتلة. وهو الظاهرة الوحيدة التي بإمكانها إن صبت في البحر أو النهر أن تجعله يغلي ويفور ويتبخر. إنه الوصف الدقيق تماما لإله ناري، إنه الوصف الأكثر دقة لبركان في حالة توتر في شبه جزيرة سيناء. لكن المحبط تماما هو تأكيدات الباحثين الجيولوجيين، أن سيناء لم تكن يوما (في العصور التاريخية) مسرحا لأي ظواهر بركانية من أي نوع. وكان ذلك التأكيد مدعاة لارتباك طويل، عانيناه أثناء مشاق هذا العمل، أدى - مع القناعة بوجود ظاهرة بركانية - إلى افتراضات بعيدة؛ للبحث عن مواضع بركانية محتملة، كانت كل مرة تتضارب مع ما جمعناه من مادة علمية. وهذه المادة جميعا لا بد أن تؤدي بالخارجين إلى جبل كاثرين في جنوب المثلث السينائي، وكانت النتيجة مزيدا من جهد ضائع، ووقت ثمين ذهب هباء مع كل فرض، يسقط مع الاختبار قياسا على المادة العلمية المجموعة. وعشنا متاهة كبرى كنا نخرج منها كل مرة صفر اليدين.
ولم يعد أمامنا بإزاء كل المعطيات، سوى الإصرار على أن جبلي موسى وكاثرين كانا بركانيين فعلا، ومن ثم كانت رحلتنا القاسية في ظروف أقسى، مع ظروف صحية أشد قسوة، إلى المكان، لكنها كانت كافية للقناعة أن الجبلين، كانا إضافة لجبل الطور غربا، جبالا بركانية بالفعل، حيث كانت نتوءات الخفاف البركاني، تتناثر بطول المنطقة وعرضها، ولكن بكميات صغيرة متباعدة؛ لأن قولنا هنا لن يكون كافيا للفصل في الأمر، فقد عدنا ندقق النظر في جغرافية «جمال حمدان»، لنجده يدعمنا ببساطة الصدق العلمي، الذي لا يحتاج معه جدلا، فيصف كتلة جبل الطور بأنها «كتلة نارية»، وإن غلب عليها الجرانيت، لكن ما يجاورها من مجموعة جبال كاثرين وموسى وأم شومر والثبت، وأبو مسعود وسربال ومدسوس، التي تنتشر كغابة صنبورية من الأقماع المخروطية، تنتشر بها جميعا الطفوح البركانية الواضحة في كل مكان.» ثم يقول بإصرار: «إن هذه المنطقة تحديدا قد تعرضت لاضطرابات تكتونية عنيفة مزقتها تمزيقا وملأتها بالانكسارات التي لا حصر لها.»
13
أما «شطا» فقد لاحظ من جانبه، أن مجموعة «من الحمامات وتشمل صخور الحمامات هي عبارة عن رواسب قديمة وصخور بركانية.»
14
وقام «عمار» يؤيده مؤكدا أن «النصف الجنوبي من سيناء، هو منطقة جبال نارية مرتفعة، تقطعها الوديان العميقة. لكن هذه الكتلة النارية، لا تصل إلى ساحل خليجي السويس والعقبة.»
15
ومن ثم لا يبقى سوى القول: إن إعلان السيدين كوتل وروزيير علماء الحملة الفرنسية: إن سيناء لم تعرف البراكين، والذي سلم به الباحثون وأكدوه من بعدهم دون تدقيق، وكان وراء نفي فكرة البركان السينائي واحتساب المنطقة بالكامل صخورا جرانيتية، إما ناتج خدعة الانتشار الجرانيتي، دون ملاحظة دقيقة لذلك الطفح المتناثر ، وإما أن الرجلين قد قاما بخدعة غير لائقة تماما، دحضا لفكرة أن يكون إله التوراة مجرد بركان، تعصبا لفكرة دينية حمقاء. وهناك عدة أسباب محتملة لاختفاء كثير من الطفوح البركانية، فيحتمل أن تكون الرمال قد أهالت عليها بمرور السنين تلولا عظيمة من الكثبان، خاصة على الطفوح الكبرى. ولم يبق سوى الخفاف المتناثر هنا وهناك. ثم هناك هواية دينية معهودة في جميع الأحجار المقدسة للتبرك بها، كذلك استخدمت تلك الطفوح المقلوعة في مراكب الصيادين، فقد لاحظ دي بوا إيميه العالم المرافق للحملة الفرنسية، أن تلك المراكب جميعا تعلق في مقدمة السفينة كتلا من الخفاف البركاني لحفظ التوازن، وهي سفن خليج السويس وبالتحديد ميناء الطور. أما أسمنت العالم القديم؛ فكان يتأتى بقلع الخفاف البركاني، وطحنه بمسحوق الحجر الجيري، فيتحول هذا المزيد عند ابتلاله بالماء إلى أسمنت حقيقي، وعن البناء بهذا الأسمنت حدثنا محمد العزب موسى يقول: «عندما يمتزج الخفاف البركاني بالحجر الجيري، ينتج نوعا من الأسمنت القوي، وهذا ما حدث في ثيرا، وبالتحديد في جزيرة ثيراسيا التي أخذت منها في ستينيات القرن الماضي كميات ضحمة من الأسمنت لبناء قناة السويس ومدينة بورسعيد.»
16
وما أكثر البناء في مصر القديمة! زد على ذلك استخدامه في ردم سواحل خليج السويس المستمر لحمايتها، أدى هذا كله لا شك إلى تعرية الطبقة الجرانيتية من غطائها (الخفاف الناري) في مواضع كثيرة، لكنه ترك لنا بعضها يتناثر هناك، ليشهد أن رب التوراة النار الآكلة كان هناك، وأنه كان بركانا. ومن الطرافة ألا ننسى حجر الخفاف الذي كان يملأ كل بيت في مصر؛ لتنعيم كعوب نساء مصر القديمة، تلك العادة التي استمرت ألوف السنين وحتى اليوم، وكانت سيناء موردة هذه الأداة التجميلية للوطن الأم.
ومع هذا كله تظل جيولوجيا سيناء تحمل شكا كبيرا في وجود أية براكين نشطة زمن الخروج، وأن الإشارات البركانية، بها سواء ما لاحظته بنفسي، أو ما ورد عند جمال حمدان، تعود إلى أزمنة جيولوجية بعيدة. هنا يبقى بيدنا اقتراح آخر، وهو أن يكون الإله البركاني كان في البلاد الآدومية شرقي العقبة، وأن موسى التوراتي قد التقاه هناك، وتربى هناك حيث ثقافة عبادة البراكين، وعاد بها وعلم بها أتباعه، حتى وصلت كاتب التوراة، الذي كانت تعز عليه سيناء حيث جبل الشريعة، وحيث أكثر الجبال رهبة وجلالا في جبل كاترين وجبل موسى. فاختار سيناء ليضع فيها ربه البركاني، واستبعد آدوم لأنها كانت ملكا لآدوم عيسو، حسب الأسطورة التوراتية ولنسله، وأن التوراة أو ربها قد أعطى بلاد آدوم لنسل عيسو، كما أعطى الإسرائيليين ما بين الفرات والنهر الكبير نهر مصر بسيناء، وهي من الحالات النادرة التي يمنح فيها رب التوراة في تلك العهود، أرضا يعتبرها أرضه لغير بني إسرائيل، مما يشير إلى توحد ألوهي واضح، خاصة أن هذه العطية للآدوميين أخذت شكلا مقدسا. انظر رب موسى عند هروبهم من مصر إلى فلسطين، ينصحهم بألا يعتبروا أرض آدوم ضمن الأراضي الممنوحة للإسرائيليين، ويقول لموسى «أوص الشعب قائلا: أنتم الآن مارون بتخم إخوتكم بني عيسو الساكنين في سعير، فيخافون منكم فاحترزوا جدا، ولا تهجموا عليهم لأني لا أعطيكم أرضهم ولا وطأة قدم؛ لأني لعيسو قد أعطيت جبل سعير ميراثا» (تثنية، 2: 4، 5).
17
والآن لا شك أننا ما زلنا نذكر «سيت»، وأنه كان رب «سترويت» سيناء، وأن «سيت» الذي هو «تيفون» في الأساطير اليونانية، يعيش تحت بركان عظيم، وأن انفجارات البركان ليست شيئا سوى دمدمات «سيت/تيفون» ونفثات غضبه الملتهب، وقد حاول مؤلفو التوراة الإيعاز طوال الوقت، بأن «يهوه» رب موسى كان إلها خاصا جدا، لم يظهر لأحد قبل موسى، ولم يكن إلها لشعب من الشعوب سوى القبيلة الإسرائيلية. لكن الواضح حتى الآن أنه لم يكن سوى «سيت/تيفون/بعل/هفا» رب سيناء المصرية، وإله صحارى مصر القديمة، رب الشرور والأوبئة، وهو ما تصف به التوراة ربها «قدامه ذهب الوباء، وعند رجليه خرجت الحمى (حبقوق، 3: 5).»
وقد سبق وافترضنا أن هذا البركان القضيبي، كان تجسيدا لرب الأرض المصري الذكر «جب»، الذي كان يقذف بمخصباته إلى السماء الأنثى، ويجب أن ننطق «جب» بتعطيش الجيم، وفي هذه الحالة يكون الإله المصري القديم الذكر، قد ترك اسمه في التسمية الشعبية للعضو الذكري «زب»، فاللسان العربي جميعه على اختلاف لهجاته يطلق على القضيب لفظ «أير»، والمصري هو الوحيد الذي يسميه «زب - بكسر الزاي» و«زبر - بكسر الزاي».
وعلى تنغيم اسم الكائن «يهوه» جاءت أسماؤه في المقدسة التوراتية، فهو مرة «يهوه» ومرة «إهيه» ومرة «ياه»؛ فموسى يسأل رب العليقة: «فإذا قالوا لي: ما اسمه؟ فماذا أقول لهم؟ فقال الله لموسى إهيه الذي إهيه، وقال: هكذا تقول لبني إسرائيل: إهيه أرسلني إليكم، وقال الله لموسى: هكذا تقول لبني إسرائيل: يهوه إله آباكم، إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب، أرسلني إليكم، هذا اسمي إلى الأبد (خروج، 3: 13-15).»
لكن يبدو أن الكاتب التوراتي، كان يعلم يقينا أن يهوه هذا رب جديد، يدخل أفق العبادة الإسرائيلية؛ لذلك سجل «ثم كلم الله موسى، وقال له: أنا الرب، وأنا ظهرت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب، بأني الإله القادر على كل شيء، وأما باسمي يهوه فلم أعرف عندهم» (خروج، 6: 2، 3). ثم يأتي إشعيا، فيعطينا التنغيم الثالث في قوله: «هو ذا الله خلاصي، فأطمئن ولا أرتعب؛ لأن ياه يهوه قوتي وترنيمتي، وقد صار لي خلاصا» (إشعيا، 12: 2). وهو ما رددته المزامير قائلة: «غنوا لله رنموا لاسمه، أعدوا طريقا للراكب في القفار باسمه ياه واهتفوا أمامه» (مزامير، 48: 4).
وفي المقدس التوراتي إشارات واضحة إلى أن هذا الإله كان إله «دوشريت» الاسم المصري للصحارى والجبال، ومقلوبها «شترويت/سيناء»، فهو رب القفار، «وأما عبيد ملك أرام فقالوا له: إن آلهتهم (يقصد آلهة إسرائيل [المؤلف]) آلهة جبال؛ لذلك قووا علينا، ولكن إذا حاربنا في السهل، فإننا نقوى عليهم» (ملوك أول، 20: 23).
وبالنسبة للترجمة العربية: «الإله القادر على كل شيء»، فإنها في الأصل العبري «إيل شداي» و«إيل» كما علمنا : الله. أما شداي فترجمت بمعنى الشدة أو القوة، وترجمناها نحن في كتابنا قصة الخلق بالشذى، أي الريح والهواء، وهو ما يلتقي مع صفات الرب السيناوي الريح والعاصفة، ثم نتذكر هنا أن أول الحكام الهكسوس، الذي لا شك بلغ رتبة التقديس ، لعمله المجيد، كان اسمه شالاتيس (شالات/شالاد). ولما كانت المصرية القديمة لا تعرف حرف «اللام»، فإن شلات يصبح شت أو شد، الإله الشديد «شدا» أو «شداي»، ويعضد هذا الفهم أن المؤرخين العرب، أطلقوا على فاتح مصر من العماليق اسم «شداد»، وتعني أيضا القوي الشديد «القادر على كل شيء!»
ومن المفيد أن نعلم أن شداد وشالاد اسم الملك الهكسوسي الأول على مصر ترجع إلى أصل مصري، فيقول إريك هورنونج إن الإله «شد
Shed
هو المنقذ ومساعد البشرية في أوقات الحاجة والشدة، وبصفته إلها شابا؛ فهو قريب من حور في خصائصه.»
18
وربما كان هو ذات الإله «شري» رب سراة سعير.
ويتبع «شلاتيس» في ترتيب الملوك الهكسوس الستة الملك «بنون»، الذي حمل أيضا لقب سكا/ إسحاق/الضحاك. وفي العربية «سكا» هي حديدة الفدان أي المحراث الحديدي، الذي يشق الأرض كالعضو الذكري، فتضحك بمواليدها النباتية.
ويقول إحسان عباس: إن العلماء يذهبون إلى أن «ذا الشرى لم يكن إلها عربيا؛ لأن العرب في الشمال الغربي من الجزيرة، كانت تسيطر عليهم العبادة القمرية، بينما ذو الشرى إله شمسي.»
19
وهو ما يرجح ترجيحنا أنه كان المصري «شد
Shed ».
وعلى ذات تنغيم اسم يهوه، جاءنا قبل زمن الخروج في مكتشفات كنعان سنة 1931م، على قطع من بقايا عصر البرونز، تنغيم آخر لإله بالرسم «ياه» و«ياهو»، وفي ألواح أوغاريت كان كبير الأرباب إيل، يؤكد للجميع «أن اسم ابني ياو».
20
ويؤكد لنا موسكاتي أن الآراميين قد عبدوا «يهوه»، حيث وجد اسمه داخلا في تركيب أسماء أعلام آرامية ومواضع آرامية عديدة، مثل «يهورام» ابن الملك «توعي» ملك حماة.
21
ويقول «عصام حفني ناصف»: «وكانوا يكتبون اسم يهوه بالأحرف الأربعة ي ه و ه
J. H. V. H ، دون أن يدعم بأحرف العلة، أي دون أن يضبط بعلامات الشكل ؛ لخلو اللغة العربية منها إذ ذاك، ومن ثم كان من الممكن أن يقرأ الاسم يهوه أو ياهو. ثم جعلوا يستخدمون بدلا من لفظ الجلالة كلمة أدوناي أو أدونا أي ربي. وركب اليهود آخر الأمر لكلمة يهوه، أحرف العلة التي بكلمة أدون
Edona ، فأصبح الاسم يكتب على وزنها
Je Ho Vah
وينطق
Jahweh
يهوه.»
22
ويدقق «سهيل ديب» في أمر ذلك الاسم الغريب، فيعود إلى العبرية في التوراة، يقرأ «فقال الله لموسى: أهيه آشر أهيه، وقال: هكذا تقول لبني إسرائيل أهيه أرسلني إليكم (خروج، 3: 13). وفي النص العربي الكاثوليكي تترجم: أنا هو الكائن، وقال: كذا قل لبني إسرائيل، الكائن أرسلني إليكم». ثم تترجم النسخة العربية البروتستانتية: إهيه الذي إهيه، المعروفة، وفي الترجمة الإنجليزية المعروفة بترجمة الملك جيمس
King James Version
1611 ، نجدها
I AM THAT IAM ، وهو ما يعني أنا الذي أنا، أنا أرسلني إليكم، فهل كان الرب يعرفه باسمه أنه أنا أم هو؟ ناهيك عن قوله: أنا الذي تجليت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب، إلها قادرا على كل شيء، والإله القادر على كل شيء هي بالأصل «إيل شداي»، فماذا كان يجب أن يقول موسى لشعبه: أهيه أم يهوه أم شداي؟
وفي المزمور 110 من النص الكاثوليكي يبتدي النص هكذا: قال الرب لسيدي: اجلس عن يميني، ولو رجعنا للنص العبري، سنجد قال يهوه لأدوناي. إذن كان هناك رب باسم يهوه، ورب باسم أدوناي؛ لذلك لم تبعد الترجمة العربية البروتوستانتية، وهي تترجم النص العبري إلى: «قال الرب لربي» (مزمور، 110).
وإزاء كل ذلك الرتل من أسماء الإله باسم: إيل، إلى يهوه، إلى إهية، إلى ياه، إلى أنا، إلى الكائن، إلى هو، إلى شداي، إلى آدون، يتساءل سهيل ديب سؤالا هاما ومفصليا: «كيف يمكن أن ينسى شعب بكامله اسم ربه؟».
23
ويجيب «كمال الصليبي» عن السؤال قائلا: «إن الكلمة التي تدل على الإله الواحد في العبرية هي ءلهيم، التي هي جمع المذكر من ءله أو إله، وهكذا يصح القول إن ما أصبح معترفا به من قبل بني إسرائيل بأنه إله، كان في الأصل تجمعا للآلهة أو آلهة قبلية متعددة.»
24
ولا مراء أن إجابة الصليبي إجابة دقيقة تماما؛ إذ كان لا بد من محاولات للتوحيد الأيديولوجي لآلهة الأخلامو، مع إصرار على تغطية أسماء الآلهة التأسيسية القديمة، ومعها اختفى اسم عناق البونتي وظهر المهلك، وغام المهلك بدمجه بملاك الرب يهوه، وتلاشى الثعبان «لو»، لكن ليظهر في التوراة كطرف في صراع مع يهوه، لكن باحتسابه أفعى تنين عظيم اسمه «لوياثان». واختفت المسلات وراء اسم السواري والشوامخ، وغاب الثور وراء ترجمة العزيز، واستتر ضحوت الضحاك وراء شخص إسحاق.
أما أدونيس الفينيقي؛ فظل آدون لقبا للربوبية والسيادة. واختفت الأيكة لتحل محلها كل شجرة خضراء:
هل رأيت ما فعلت العاصية إسرائيل؟ انطلقت إلى كل جبل عال، وإلى كل شجرة خضراء وزنت هناك. (إرميا، 3: 6)
خطية يهوذا، مذابحهم وسواريهم عند أشجار خضر على آكام مرتفعة. (إرميا، 17: 1، 2)
ونتذكر أن الآراميين تسمية تنسب إلى الإرم والهرم، وهي الأحجار والجبال، وكلمة هرم تحمل ذات المعنى، فالأهرام هي الأحجار أو الجبال. ومن الطريف الذي يعضد تخريجنا في تصور الأقدمين للجبل، بحسبانه قضيبا ذكريا عظيما، أن المفردة «جبل» التي ترد في الترجمة العربية للتوراة، هي في الأصل العبري تكتب وتنطق عير، وهي المفردة التي تترجم أيضا إلى جبل من الأصل السومري «ء و ر و
ERU
وء يرى
ERI » وهو ما يحمل ذات المعنى في المعاجم العربية.
25
ومعلوم أيضا أن الكلمة «عير» و«إير» هي الاسم الفصيح للقضيب الذكري، ويعود تصحيح الترجمة هنا إلى الباحث زياد منى، حيث رأى أن كلمة عير تعني جبلا وليس بلدا، وهو ذاته صاحب اجتهاد يقول: «أنا مقتنع بأن بلاد السراة - الأصح ء ل سر ء ه - هي نفسها ط ء نتر أي بلاد الله الوارد ذكرها في النقوش المصرية.»
26
أي إنه يرى أن بلاد بونت/أرض الإله «ط ء نتر» تقع في جبال السراة، لكنه يذهب إلى السراة الجنوبية امتداد جبال السراة نحو اليمن، حيث يعتقد مع كمال الصليبي أن هناك كانت بلاد التوراة، ثم تختل المسألة بين يديه، فيرى أن اسم بونت ربما كان فلت، أي بلاد الموت أي حضرموت (؟!)،
27
ولكن ما يعنينا هو المادة التي جمعها الرجل في جهد مشكور، لكنه ذهب بتفسيرها جنوبا بتأثير نظرية كمال الصليبي.
شكل رقم «149»: الإله الأرض «زبر» أو جب أو «زب» يلقح ربة السماء «نوت» بمقذوفاته المنوية بفالوسه المنتصب «كما في التصور المصري القديم».
الفصل السادس
لغز البلست
فجأة يظهر في فلسطين، وعلى ساحل المتوسط تحديدا، جنس غريب جديد على المنطقة، أطلقت عليه النصوص المصرية اسم «البلست»، وهو الجنس الذي عرف باسم «شعوب البحر». وبشأن هؤلاء يقول لنا المدون التاريخي: إنه «في سنة حكم رمسيس الثالث، سنة 1191ق.م. تقدم الملك لصد هجمات شعوب البحر على مصر، فقد أخبرنا أن هذه الشعوب، بعد أن قهروا الحيثيين وكركميش وقود وألاشيا وكلكيليا وأرزاوا، دخلوا سوريا مع نسائهم وأطفالهم بجموع غفيرة، شبهت كثرتها بالجراد، راكبين على عجلاتهم التي تجرها الأبقار. وقد حشدت قواتها في بلاد عمورو «سورية»، وشكلت حلفا من شعوبها المختلفة مثل البلست والتكر، والاثنان يضعان على قبعاتهم الريش، ويستعملون الدروع المدورة، والشاكروشا والدانونا والواشاشا، وقد قدموا من البر والبحر ... وقد حدثت معركة قرب أحد فروع النيل، ويظهر أن شعوب البحر لم تكن تتوقع مثل هذه القوة المصرية المدافعة، فدمرت سفن المهاجمين، وغرقت بما تحمل من رجال وأموال، في وقت أمطرت به سفن شعوب البحر من الشاطئ المصري، بوابل من سهام الجيش المصري الواقف على طول الشاطئ ومعهم الملك.»
1
وقد سجل «رمسيس الثالث» لنا تلك المعركة الكبرى فنسمعه يقول:
شكلت البلاد الأجنبية مؤامرة في جزائرهم، وتفرقت البلاد وذعرت مرة واحدة من جراء هجومهم، ولم تستطع أية قوة أن تقف في وجوههم أو تقاومهم، ولقد بدءوا بخاتي (تركيا أو الأناضول [المؤلف]) وقود وكركميش (جنوبي الأناضول [المؤلف])، وأرزاوا وألاشيا (قبرص)، وأقاموا معسكرا في عمورو، وعزلوا أهلها وأرضها، وكأنما لم يكونوا، وجاءوا واللهب معد لهم متجهين إلى مصر. وكان حلفهم مكونا من البلشت والزكارة والشكلش والدانو والوشش، ووضعوا أيديهم على الأراضي إلى مدار الأرض جميعا، وقلوبهم مطمئنة واثقة قائلين: لقد نجحت خطتنا، ولكن قلب هذا الإله (المصري [المؤلف]) سيد الآلهة ، كان مستعدا لاصطيادهم كالطيور. لقد دعمت حدودي عند زاهي (سوريا)، وجهزت أمامهم الأمراء المحليين وقواد الحاميات والماريانو، وأمرت بأن تعد فوهات النهر كحائط، والقوارب، وجهزتها جميعا وزودتها من قبل ومن بعد، بشجعان المحاربين الذين يحملون أسلحتهم، وبالمشاة من خيرة رجال مصر، حتى أصبحوا كالأسود تزأر فوق الجبال، ... وجهزت العربات بالمحاربين الأكفاء، وكل الضباط الممتازين، وكانت خيولها تنبض كل أعضائها، معدة لسحق البلاد الأجنبية تحت حوافرها. أما بالنسبة لأولئك الذين وصلوا إلى حدودي، فإن بذرتهم لم تكن فيهم، وقلوبهم وأرواحهم قضي عليها إلى الأبد، أولئك الذين تقدموا من ناحية البحر. كان اللهب أمامهم عند فوهة النهر، وكان سياج من الحراب يحيط بهم.
2
لكن بعض الباحثين يميل إلى الأخذ بمذهب آخر، ويقول بموجة أبكر قليلا من البلست، هاجمت مصر زمن الملك مرنبتاح، وأن ما قاله مرنبتاح عن صد هجوم التحنو الليبيين، كان صدا لهجوم ليبي بلستي مشترك، ويلخص تلك الرؤية تأريخا يقول: إنه «في أواخر القرن الثالث عشر ق.م. تحرك طوفان بشري كبير من جزائر البحر الإيجي، وأخذ يهاجم مصر بعنف على نية احتلالها، لكن مرنبتاح تصدى لهذه الهجمة، وردها عن حدود مصر. ولكن طوفانا أكبر وأزخم، سرعان ما راح يتفجر من جديد في أوائل القرن الثاني عشر، يوم انقضت شعوب البحر على الأناضول، ودمرت العاصمة الحيثية خاتوشاش/حاتوسا إلى الأبد، ثم تابعت هذه الشعوب زحفها متجهة صوب الجنوب، لتدمر كركميش (جرابلس الحالية إلى الشمال من حلب [المؤلف])، وأوغاريت (رأس شمرا قرب اللاذقية [المؤلف]) وأرواد، لتصل أخيرا إلى الحدود المصرية، بعدما هيمنت على الساحل الفلسطيني. والأخطر من ذلك، أن هذا الهجوم على مصر من جهتها الشرقية، قد صاحبه هجوم آخر من جهة البحر، وهجوم ثالث من جهة ليبيا، ولكن رمسيس الثالث آخر محارب عظيم في مصر الفرعونية، قد راح يتصدى لهذا الهجوم الثلاثي، ليدحره في معركتين، إحداهما بحرية، وأخراها برية، وذلك زهاء عام 1180ق.م. أو بعد ذلك بقليل، وسمح الفرعون المنتصر لبعض هذه الشعوب المهزومة بالاستيطان على ساحل فلسطين، ربما تكون درعا لمصر يقيها من أي هجوم جديد، فاستقر شعب البلست الذي جاء من جزيرة كريت بين يافا وغزة، كما استقر شعب بحري آخر يسمى التكر إلى الجنوب من جبل الكرمل، وهو الجبل الذي صار فاصلة، تحجز بين الفينيقيين والقادمين الجدد؛ ولهذا ما عاد الساحل الفلسطيني إلى الجنوب من الكرمل يدخل في فينيقيا بعد ذلك التاريخ، وصار اسمه فلستيا، نسبة إلى البلست، ثم انتشر هذا الاسم وشمل القطر كله، وحل البلست في خمس مدن كنعانية هي: غزة وعسقلان وعقرون وأشدود وجت، ونظم البلست مدنهم الجديدة على هيئة ممالك مستقلة في إدارتها وحكومتها، إلا أن هذا الاتحاد، ربما كان مركزه في مدينة أشدود.»
3
وهكذا ظهر الفلسطينيون 1180ق.م. على مسرح تاريخ المنطقة، وهكذا استقروا في أرض كنعان، ليمنحوها اسمها حتى اليوم. ومن جانبه فقد أشار الكتاب المقدس طوال الوقت، إلى الفلسطينيين الذين يسكنون الساحل، وكانوا عقبة كأداء إزاء الاستيطان الإسرائيلي لفلسطين، وظلوا دوما أعداء مصيريين للجنس الإسرائيلي، ومنافسا قويا كثيرا ما ألحق الهزائم بالجيوش الإسرائيلية. وموسوعة تاريخ العالم تفيدنا بأن «لفظ فلسطين مشتق من اسم البلست، الفلستين، وكان هيرودوت أول من استعمله، أما الاسم العبري للأرض الواقعة غربي الأردن فهو كنعان.»
وقد اختلف المؤرخون حول موطن البلست الأصلي، فذهب بعضهم إلى أنهم قدموا من جنوب شرقي الأناضول، بينما اقترح آخرون مثل هول وبرن أنهم جاءوا من جنوبي آسيا الصغرى، وذهب فريق ثالث إلى افتراض أصول إليرية للبلست، لكن الإجماع كان حول جنسهم الهندوأوروبي،
4
وأنهم كانوا يختلفون كلية عن سكان المنطقة القدامى فيها، حيث كانت التوراة تشير إليهم بأنهم الغلف أي غير المختونين، وكانت معظم شعوب المنطقة في ذلك الوقت، قد أخذت عن مصر عادة الختان (سفر القضاة، 14: 3 و15: 18؛ وسفر صموئيل الأول، 14: 6 و17: 26، 36 و31: 4؛ وسفر صموئيل الثاني، 1: 20؛ وسفر أخبار الأيام الأول، 10: 4)، وأن إلههم القومي كان «داجون» من «دجن أي الحنطة»، وكان أيضا إلها للسمك، وكان له مقام في غزة وأشدود، حسبما ورد في سفر القضاة (16: 21-23)، وفي سفر صموئيل الأول (5: 1، 2). أما الأهم فهو أن البلست كانوا يستخدمون الأسلحة الحديدية على نحو شديد الوفرة، بينما كان السائد في الشرق آنذاك استعمال الأسلحة البرونزية، ثم الحديدية لكونها نوعا نادرا من السلاح، ووصلت وفرة الحديد لديهم، إلى حد أنهم صنعوا منه عجلاتهم الحربية، التي كان يجرها البقر وليس الخيل، مما كان له أثر كبير في انتصاراتهم، وفضلا عن ذلك كانوا بحارة ممتازين وقراصنة موهوبين.
5
ولمزيد من تحصيل مادة تفيد بشأن البلست/الفلسطينيين، نستمع إلى «زينون كاسيدوفسكي» يسجل شارحا: «في الألف الثاني قبل الميلاد، عاش في قبرص شعب أسس حضارة متأنقة رفيعة المستوى، وأنشأ دولة تجارية جبارة في حوض بحر إيجة. وفي الحقبة نفسها استوطنت بيلوبونيز قبائل لا نعرف منشأتها ولغتها، ولكن الآخيين المدججين بالدروع البرونزية قهروها وأخضوعها لهم، وأقام الآخيون قلاعا حجرية في ميكيني وتيرينف وغيرها من بقاع بيلوبونيز. ويخبرنا المؤرخ الإغريقي فوكيديد أن الآخيين مارسوا أعمال القرصنة، وبنوا أسطولا جبارا غدا منافسا خطرا لكريت. وابتداء من القرن الخامس عشر قبل الميلاد، أخذ الآخيون بزعامة الأتريديين الذين ينتسب إليهم أجاممنون، يزيحون الكريتيين من ممتلكاتهم الاستعمارية في بحر إيجة وسواحل آسيا الصغرى، وفي عام 1400ق.م. احتلوا كريت نفسها، وقضوا على حضارتها المينوية الراقية (سميت بالمينوية نسبة إلى الملك الآسطوري مينوس [المؤلف])، وفي عام 1180 قبل الميلاد حولوا طروادة إلى كومة من الأنقاض، بعد حصار دام عشر سنوات. غير أنهم لم يستمتعوا طويلا بثمار انتصاراتهم؛ فقد اندفعت من أعماق أوروبا قبائل بربرية أخرى هي قبائل الداريين، وأخضعت بيلوبونيز وكريت وجزر إيجة وسواحل آسيا الصغرى. وتحت ضغط تلك القبائل، حدثت في رحاب بحر إيجة واحدة من تلك الثورات الإثنية، التي أيقظت الهجرات البشرية العظمى، فقد أرغم سكان البلقان وإيليريا وجزر بحر إيجة، الذين طردوا من أرضهم، أن يندفعوا أمواجا متتابعة باتجاه الجنوب، بحثا عن أرض يستوطنونها، فعبروا الأناضول وآسيا الصغرى وسوريا وكنعان، وصولا إلى دلتا النيل، حيث هزمهم الفرعون مرنبتاح شر هزيمة، وأرغمهم على التراجع. ولكن أخطر الهجمات التي شنتها الشعوب الإغريقية على مصر، وقعت عام 1191ق.م. حيث اندفعت على امتداد الساحل السوري الكنعاني، قطعان من المحاربين مع عائلاتهم وأرزاقهم، ترافقهم في البحر كثرة من السفن الشراعية، فقضوا على الإمبراطورية الحثية إلى الأبد، وجعلوا من عاصمتها خاتوشاش، الواقعة على نهر هاليس كومة من الرماد والخراب، ثم اندفعوا إلى كيليلكيا، فنهبوها مع قطعان الخيل الأصيلة، التي اشتهرت بها على امتداد القرون، أما المدن الفينيقية جبيل وصيدا وصور، فقد استسلمت لهم، وتفادت بذلك الخراب والدمار، وعبر المستعمرون أرض كنعان، واجتاحوا شمال مصر ونهبوه، فحشد رمسيس الثالث قواه كلها لصد تلك الهجمة، واستطاع أن يسحق المعتدين في البر والبحر، وهكذا صدت أخطر هجمة استعمارية، تعرضت لها مصر خلال تاريخها الطويل كله. ولم يبق لدى رمسيس الثالث ما يكفي من قوة لطرد الخصم من كنعان وسوريا، فاستوطن البلست الناجون من سيوف المصريين، الساحل الجنوبي من أرض كنعان. ونعلم من الكتابة التي وجدت على جدران المعابد، أن المصريين قد أطلقوا على أولئك المستعمرين اسم شعوب البحر، وتشغل مكانة خاصة بينها موجات قبائل دونوي وآخاي. ومن المرجح أن يكون الدانيون والآخيون، الذين نعرفهم في التاريخ الإغريقي القديم، يختفون خلف هذين الاسمين. وبالرغم من توفر هذه المعطيات كلها، فلم يتفق العلماء حتى الآن على تحديد الهوية الإثنية لتلك القبائل. لقد شكل الفلسطينيون جماعة إثنية خاصة بين شعوب البحر. وإذا صدقنا التوراة فإن جزيرة كريت، تكون هي الوطن الأصلي للفلسطينيين؛ إذ ينتسب الفلسطينيون حسب التوراة، إلى القبائل الآخية التي أخضعت كريت، ثم جاء الآريون وطردوهم من الجزيرة، وكانت بعض الأسماء الفلسطينية ذات منشأ إيليري، وكانت توجد في إيليريا مدينة تدعى فيليستي، وبما أن هجرة الشعوب الدارية بدأت من هناك بالذات، فلا يستبعد أن يكون الفلسطينيون قد سكنوا إيليريا قبل الإغريق، ثم طردتهم من هناك موجة ما من موجات المستعمرين، واكتشفت بين أنقاض أوغاريت مدافن ذات طابع إيجي وقبرصي وميكيني. كذلك الفخاريات التي التي وجدت بين أنقاض المدن الفلسطينية الخمس في أرض كنعان، غلب عليها الطابع الميكيني.»
6
هذا ما قاله لنا علم التاريخ. لقد جاء البلست إلى المنطقة في هجوم كاسح على دفعتين: الأولى زمن الفرعون مرنبتاح 1224-1214ق.م. لكن الهجمة انكسرت على أسنة رماح الجيش المصري، ثم تلتها موجة أخرى زمن الفرعون رمسيس الثالث 1182-1151ق.م. الذي صد العدوان، لكن قواه أنهكت؛ مما جعله يسمح لهم باحتلال الساحل الكنعاني.
والقول طوال الوقت بأن مصر هي التي سمحت للفلسطينيين، باحتلال الفلسطينيين للساحل الكنعاني؛ سواء لأن قوة مصر كانت قد أنهكت عن المتابعة والاستمرار لطردهم كلية، أو لأن المصريين تركوهم هناك كحراس حدود، بعد أن هزموهم وأخضعوهم لتبعية مصر، وسمحوا لهم باستيطان ساحل فلسطين، حتى ذابوا بعد ذلك في أجناس وحضارة المنطقة نهائيا،
7
هو محاولة لتفسير ظهور الفلسطينيين على الساحل الفلسطيني، رغم أن فلسطين كانت تابعة للإمبراطورية المصرية حينذاك.
حتى الآن لا تبدو هناك أية إشكالية أو ألغاز، لكن اللغز يبدأ عندما ننتقل من قراءة التاريخ كعلم، إلى قراءة التوراة كتاريخ، ففي زمن الخروج الإسرائيلي من مصر باتجاه فلسطين، تحت قيادة النبي موسى، نجد الكتاب المقدس يشرح موقف سكان فلسطين، من ذلك الهجوم الإسرائيلي القادم من مصر، فيقول:
يسمع الشعوب فيرتعدون، تأخذ الرعدة سكان فلسطين، حينئذ يندهش أمراء آدوم، أقوياء موآب تأخذهم الرجفة، يذوب جميع سكان كنعان. (خروج، 15: 14، 15)
وهكذا نجد أرض كنعان قد حملت اسم «فلسطين»، زمن الخروج من مصر، مما يعني أن الفلسطينيين كانوا قد استقروا هناك قبل الخروج بزمن يسمح بتعميم اسمهم على أرض كنعان، وهو المتكرر الذي نقرؤه في سفر يشوع مشيرا إلى المدن الفلسطينية الخمس على ساحل كنعان، حيث يقول:
من الشيحور الذي هو أمام مصر إلى تخم عقرون شمالا تحسب للكنعانيين أقطاب الفلسطينيين الخمسة: الغزى والأشدودي والأشكلوني والحتي والعقروني. (يشوع، 13: 3)
وعندما استقر الإسرائيليون في أرض كنعان، ولم يتمكنوا أبدا من القضاء على الفلسطينيين، بل عاشوا إلى جوارهم وظلوا طوال الوقت في حروب معهم، وهو ما اعتبره الكتاب المقدس امتحانا من الرب لشعبه حيث يقول:
فهؤلاء هم الأمم التي تركهم الرب ليمتحن بهم إسرائيل، أقطاب الفلسطينيين الخمسة، وجميع الكنعانيين والصيدونيين والحويين. (قضاة، 3: 1-3)
وعن أصل هؤلاء الفلسطينيين يشير الكتاب المقدس إلى جزيرة كريت، باعتبارها موطنا أصيلا هاجروا منه إلى الساحل الكنعاني. وقد أطلقت التوراة على جزيرة كريت اسم كفتور على التبادل مع اسم كريت، وهو ما نجده في متفرقات الأسفار في نماذج منها :
الرب يهلك الفلسطينيين بقية جزيرة كفتور. (إرميا، 47: 4)
ألستم لي كبني الكوشيين يا بني إسرائيل؟ يقول الرب، ألم أصعد إسرائيل من أرض مصر، والفلسطينيين من كفتور والآراميين من قير؟ (ربما كانت قير هي قيرقيزيا الآن [المؤلف]). (عاموس، 9: 7)
أما كيف سكن الفلسطينيون في فلسطين؛ فهو ما يوضحه نص التوراة:
والعويون الساكنون في القرى إلى غزة، أبادهم الكفتوريون الذين خرجوا من كفتور وسكنوا مكانهم. (تثنية، 2: 23)
ثم نفهم أن «كفتور» هي «كريت» من شراذم نصوص أخرى مبعثرة، نجمعها لنسمعها توضح:
هكذا قال السيد الرب: ها أنا ذا أمد يدي على الفلسطينيين، وأستأصل الكريتيين، وأهلك بقية ساحل البحر. (حزقيال، 25: 16)
ويل لسكان ساحل البحر أمة الكريتيين، كلمة الرب عليكم يا كنعان أرض الفلسطينيين، إني أخربك بلا ساكن ويكون ساحل البحر مرعى بآبار للرعاة، وحظائر للغنم، ويكون الساحل لبقية بيت يهوذا. (صفنيا، 2: 5، 6، 7)
وفي حديث لغلام مصري - تابع لرجل عماليقي - مع داود يحدثه عن غزوة عماليقية على جنوب فلسطين، يقول:
فإننا قد غزونا على جنوبي الكريتيين وعلى ما ليهوذا. (صموئيل أول، 30: 14)
ومن الجدير بالذكر أن السجلات المصرية قد سجلت مجيء «رؤساء بلاد الكفيتو
Keftiu
وجزر البحر» ليقدموا لرمسيس الثالث الخضوع.
8
والآن تبدأ المشكلة بالظهور، وهي المشكلة التي تجعلك تقف مشدوها، من مدى تساهل أهل التاريخ، في حل الإشكاليات الكبرى أحيانا، وإغماض العين عنها أحيانا أخرى، حتى تظهر حفائر جديدة تحسم الأمر. ووجه الإشكال هنا هو أن خروج الإسرائيليين من مصر، يحتمل أن يكون قد حدث في أي زمن خلال الأسرة الثامنة عشرة التي تبدأ بأحمس 1575-1550ق.م. بطل التحرير، لكنها لا يمكن بأي حال أن تكون بعد زمن مرنبتاح 1224-1214ق.م. لحسابات دقيقة قدمنا بعضها، وسيأتي بعضها الآخر في مكانه من هذا البحث. وهذا يعني أننا حتى لو أخذنا بآخر التوقعات الافتراضية وأكثرها تأخرا في الزمن، لخروج الإسرائيليين من مصر أي زمن الفرعون مرنبتاح. فإن معنى ذلك أنهم قد خرجوا، بينما الفلسطينيون لم يستقروا بعد في فلسطين، حيث إن هذا الاستقرار لم يحدث حسب قرار المؤرخين قبل زمن رمسيس الثالث 1182-1151ق.م. الذي يأتي بعد زمن مرنبتاح بحوالي ثلاثين عاما، ولو افترضنا أن الفلسطينيين قد استقروا هناك زمن مرنبتاح، فإن هذا الاستقرار ما كان يسمح لهم بكل تلك القوة خلال ثلاثين عاما، وما كان ممكنا أن يمنح كنعان جميعا اسم فلسطين، ناهيك عن كون استقرارهم في فلسطين زمن مرنبتاح، يعني صلحا قد حدث بين مصر وبينهم، أقطعتهم مصر بموجبه الساحل الفلسطيني، وهو الأمر الذي سيتضارب مع الهجوم البلستي الكبير على مصر، والذي حدث بعد ذلك زمن الفرعون رمسيس الثالث قادما من البحر الإيجي.
أما ما يحسم الأمر، فهو أنه زمن البطرك إبراهيم نفسه، حوالي 1700ق.م. قبل الخروج بخمسة قرون كاملة - بحسابات التوراة العبرية - نجد الكتاب المقدس يحدثنا عن وجود فلسطيني في المنطقة الكنعانية الساحلية، وهو ما يستفاد من رواية ذلك المقدس عن زيارة قام بها البطرك إبراهيم وزوجته سارة إلى مصر، وأنه عند خروجه منها عرج على مملكة باسم جرار، لينزل ضيفا على ملكها، وهو ما يأتي به النص، يقول:
وانتقل إبراهيم من هناك إلى أرض الجنوب (النقب [المؤلف])، وسكن بين قادش وشور وتغرب في جرار، وقال إبراهيم عن سارة امرأته: هي أختي، فأرسل أبيمالك ملك جرار وأخذ سارة. (تكوين، 20: 1-2)
وقد ظل ذلك الملك «أبيمالك» ملكا أيام إسحاق بن إبراهيم، حيث حدثت مجاعة فذهب إسحاق، لينزل ضيفا على أبيمالك ملك جرار، في قصة توراتية تقول لنا إن أبيمالك هذا كان ملكا على فلسطين.
وكان في الأرض جوع، غير الجوع الأول، الذي كان أيام إبراهيم، فذهب إسحاق إلى أبيمالك ملك الفلسطينين إلى جرار. فأقام إسحاق في جرار، وزرع إسحاق في تلك الأرض، فأصاب في تلك السنة مائة ضعف، وباركه الرب فتعاظم الرجل، وكان يتزايد في التعاظم حتى صار عظيما جدا، فكان له مواش من الغنم ومواش من البقر وعبيد كثيرون، فحسده الفلسطينيون. (تكوين، 26: 14، 13، 12، 6، 1)
وهو الأمر الذي يعني أن الفلسطينيين، كانوا موجودين بالمنطقة زمن إبراهيم، ولكنهم لم يكونوا عنصرا واضح القوة، كبقية العناصر التي غلب عليها زمن إبراهيم، كالعنصر الحيثي سيد الأرض ومالكها، حيث رأينا كيف سجد البطرك إبراهيم للحيثيين ليشتري منهم قبرا لسارة. كما لا نجد إشارات لممالك الفلسطينيين الخمسة إلا زمن الخروج، وهو ما يعني وجودا ابتدائيا للفلسطينيين، ممثلا في مدينة مملكة واحدة على الأقل، باسم مملكة جرار زمن إبراهيم. ولم تكن الممالك الفلسطينية الخمس قد ظهرت على ساحل فلسطين بعد فيما يبدو.
وفي بحث سابق أدرجناه بكتابنا «رب الزمان»، حاولنا حل المشكلة بالاستناد إلى ما جاء من ذكر للبلست، في مدونات رسائل تل العمارنة،
9
والتي استند إليها آخرون للقول بفرض غير مؤيد، أن أولى هجمات البلست، قد حدثت زمن الملك آمنحتب الثالث 1379-1360ق.م. التي كانت توجه إليه وإلى ولده إخناتون تلك الرسائل.
10
وقد قلت في حينها باحتمال استقرار البلست في فلسطين زمن آمنحتب الثالث، استنادا إلى ما ورد عنهم في سجلات تل العمارنة، في محاولة لتفسير وجودهم هناك قبل الزمن التاريخي المفترض، لهجوم شعب الجزر الإيجية على المنطقة، والذي تأتي أجلى صوره وأوضحها زمن رمسيس الثالث. لكنا بتنا الآن مقتنعين برأي آخر، يمكنه أن يحل المشكلة حلا نموذجيا، ويعطينا التوقيت الصحيح لزمن ظهور الفلسطينيين على الساحل الفلسطيني، زمن البطرك إبراهيم في مملكة جرار، وربما قبله بزمن، وهو المقبول كما سنرى الآن. ثم تكاثفهم بعد ذلك في ممالك خمسة على ساحل المتوسط الشرقي، زمن الخروج من مصر بعد إبراهيم بحوالي أربعة قرون أو خمسة، حسب حسابات التوراة العبرية/المازورية، التي قالت إن الإسرائيليين قد عاشوا في مصر 430 سنة، إضافة إلى عمر إسحاق ثم عمر إبراهيم.
أما لو أخذنا بحسابات التوراة السبعونية، التي قالت إن بني إسرائيل عاشوا في مصر 225 سنة فقط، وليس 430 سنة كما قالت التوراة المازورية، ثم إضافة عمر إبراهيم وولده إسحاق، يكون الفارق بين زمن إبراهيم وزمن الخروج حوالي 300 سنة، بفرض أن الخروج قد حدث في أحدث التوقعات، زمن الفرعون مرنبتاح 1224-1214ق.م. وعليه فسيكون الفلسطينيون قد حلوا على الساحل الفلسطيني، قبل زمن مرنبتاح بحوالي 300 سنة، أي حوالي سنة 1524 قبل الميلاد. وهي ضمن السنوات الأخيرة في حكم الهكسوس لمصر قبل طردهم منها، والذي بدأ في أوسع الترجيحات عام 1788ق.م. واستمر حتى 1575ق.م. وإذا كان زمن إبراهيم قد عاصر مدينة مملكة فلسطينية لها ملك، ومؤسسة حاكمة بالمنطقة اسمها جرار، فإن هذا يعني وجوب الرجوع بموعد وصول الفلسطينيين، قبل عام 1550ق.م. بعدة سنوات، تسمح بقيام هؤلاء الجدد بتأسيس نظام سياسي، ولتكن تلك المدة افتراضا قرنا آخر من الزمان. وبذلك يجب أن يكون الفلسطينيون قد تواجدوا في فلسطين حوالي عام 1650ق.م. إبان حكم الهكسوس لمصر وللمنطقة جميعا، بل إبان أوج قوة إمبراطورية الهكسوس، فكيف حدث ذلك؟ وكيف أمكن للفلسطينيين القيام بهذا الغزو الاستيطاني لفلسطين، إبان وقوع فلسطين بل وجزر المتوسط التي جاءوا منها، تحت حماية دولة الهكسوس الإمبراطورية الكبرى؟
هنا نتذكر عادة حكام دول المنطقة القديمة، عندما كانت تتوسع فتحتل بلاد شعوب أخرى، كان المصريون يأتون من البلاد المفتوحة بنخبة أهلها إلى مصر، ويربى أمراؤها في مصر على طاعة الفرعون وعلى الثقافة المصرية، وهو ذات ما كان يفعله الآشوريون، وأشهره ما فعلوه مع مملكة إسرائيل الشمالية، عندما نقلوا عشرة أسباط إلى بلاد آشور. وهو ما فعله البابليون مع مملكة يهوذا، وهو ما ظل فعلا حتى زمن صدام حسين بالعراق، الذي نقل إثنيات بكاملها من مواضع إلى أخرى، وهو بالضبط ما نراه قد فعلته إمبراطورية الهكسوس، التي زادت على ذلك بنقلها شعوبا بكاملها، من مواطنها إلى أوطان أخرى. فنقلت سكان الجزر الإيجية المتوسطية إلى ساحل فلسطين. لكن هذا النقل عادة ما يكون لأهداف ومصالح، فينقل الشباب ليعملوا في جيوش المحتل ويصبحوا من عناصره. والصناع المتميزون وبخاصة الحدادين مصانع ذلك الزمان الحربية؛ ولذلك نفهم سر الظهور الفلسطيني القوي على الساحل، فقد ظهروا فجأة أقوياء، ومسلحين تسليحا حديديا متميزا. وهذا النقل بالضبط ما كان يفعله أباطرة مثل تحتمس الثالث، ونبوخذ نصر الكلداني وآشور ناصر بال الآشوري، وغيرهم من الأمثلة - في التاريخ - كثير.
وبالإضافة لنماذج حوادث التهجير الإجباري للشعوب، التي وردت بالكتاب المقدس، فإن نصوص التاريخ الأركيولوجية تؤكد هذا المعنى، فمثلا يقول سرجون الثاني الآشوري في نصوصه، التي دونها تسجيلا لحدث فتحه السامرة، عاصمة المملكة اليهودية الشمالية إسرائيل عام 721ق.م.:
لقد حاصرت السامرة وفتحتها وجلوت 27290 من سكانها، وجهزت من بينهم فصيلة بخمسين عربة ضممتها إلى فيلقي الملكي. أما المدينة فقد أعدت بناءها بأفضل مما كانت، وأسكنت فيها شعوبا من المناطق الأخرى التي قهرتها، ثم أقمت عليهم ضابطا من لدني حاكما عليهم، وفرضت عليه جزية الآشوريين.
11
وهو الأمر الذي طابقه الكتاب المقدس إذ يقول:
في السنة التاسعة لهوشع أخذ ملك آشور السامرة، وسبى إسرائيل إلى آشور، وأسكنهم في خليج وخابور نهر جوزان وفي مدن مادي. (ملوك ثاني، 17: 6)
ويستمر المقدس التوراتي شارحا:
وأتى ملك آشور بقوم من مدن بابل وكوت وعوا وحماة وسفراويم، وأسكنهم في مدن السامرة عوضا عن بني إسرائيل، فامتلكوا السامرة وسكنوا في مدنها. (ملوك ثاني، 17: 24)
ويعقب «فراس السواح» بالقول: «ولم تطبق سياسة التهجير هذه على أهل السامرة فحسب، بل شملت شعوبا عديدة منها شعب مملكة حماة ومملكة قرقميش.»
12
وهو ما يؤكده نص ذات الملك وهو يقول: «أما أهل المدينة ممن ثاروا معه، فقد سقتهم أسرى إلى آشور ... ثم أحللت في كركميش سكانا من آشور.»
13
وهكذا فيما نعتقد وبنفس الأسلوب كان انتقال البلست من كفتور إلى كنعان، وهو الأمر الذي ما كان ممكنا تفسيره تفسيرا مقنعا قبل بحثنا هذا عن إمبراطورية الهكسوس الكبرى، وسيتبع ذلك باليقين عدة نتائج ترتبط بالأحداث ارتباطا مزيجا؛ لأن معنى ذلك أن إبراهيم قد زار مصر زمن الحكم الهكسوسي؛ لأنه خرج من مصر إلى وجود فلسطيني في مملكة جرار، وكان تواجد الفلسطينيين في جرار ملازما لوجود الهكسوس في مصر، وسيكون يوسف وأسرة يعقوب جميعا قد دخلت مصر زمن الهكسوس، وهو ما يفسر لنا كيف أمكن لراع بدوي مثل إبراهيم، أن يحصل على جارية مصرية (هاجر)، بينما المصريون يرون البدوي رجسا ونجسا يجب اجتنابه. وهو ما أكدته التوراة ذاتها، عندما حكت عن الوليمة التي أقامها يوسف، وهو وزير لخزانة فرعون لإخوته، عندما التقاهم بعد بعاد طويل، فتقول:
وقال قدموا طعاما، فقدموا له وحده، ولهم وحدهم وللمصريين الآكلين عنده وحدهم؛ لأن المصريين لا يقدرون أن يأكلوا طعاما مع العبرانيين؛ لأنه رجس عند المصريين. (تكوين، 43: 31، 32)
وعندما عرض يوسف إخوته على الفرعون، منحهم مكانا يسكنون فيه، بعيدا عن مساكن المصريين، أو بنص التوراة:
لكي تسكنوا في أرض جاسان؛ لأن كل راعي غنم رجس للمصريين. (تكوين، 46: 34)
والعجيب أيضا أن يطلب يوسف من أشقائه، وهو يقدمهم إلى الفرعون أن يقروا بصفاتهم كرعاة، ويعلنوها:
ثم قال يوسف لإخوته ولبيت أبيه: أصعد وأخبر الفرعون، وأقول له إخوتي وبيت أبي الذين في أرض كنعان جاءوا إلي. والرجال رعاة غنم، فإنهم كانوا أهل مواش وقد جاءوا بغنمهم وبقرهم وكل ما لهم، فيكون إذا دعاكم فرعون وقال ما صناعتكم؟ أن تقولوا: عبيدك أهل مواش. (تكوين، 46: 31-34)
ويعقب الباحث مظفر نادوثي على إصرار يوسف، على إعلان بدوية ورعوية أهله للفرعون، مع علمه بكراهية المصريين الشديدة للبدو والرعاة، يحمل دلالة علاقة ما بين ملوك مصر في ذلك العهد وبين العبرانيين.
14
وتتناقض قصة حصول إبراهيم على جارية مصرية، مع أمثلة واضحة للقانون المصري بهذا الشأن، ومنها تلك الحادثة الطريفة، التي يرويها لنا كل من سيل وشتيندورف، وهما يقرران:
كانت العلاقات بين مصر والدولتين الكبيرتين، في دجلة والفرات وآشور وبابل، قائمة على أسس متشابهة، كما يبدو ذلك من سلسلة أخرى من الألواح المسمارية، التي عثر عليها في العمارنة. وكان تبادل الرسائل نشيطا بصفة خاصة مع ملكي بابل كادشمان إنليل وبورنا بورياش (لاحظ أفريقية في تلك الأسماء [المؤلف]). ولكن الرسائل التي في حوزتنا من هذين الحاكمين، مصاغة بلهجة أكثر قوة وإحساسا بالذات من تلك الصادرة من بلاط ميتاني. وتدل على أن ملوك هذه الإمبراطورية العظيمة القوية، كانوا يعتبرون أنفسهم أكفاء على الأقل للفرعون. فمثلا لم يجرؤ أحد حكام ميتاني أن يطلب يد أميرة مصرية، وكان الأمر على عكس ذلك مع البابليين. فعندما طلب آمنحتب الثالث ابنة كاد شمان إنليل ليضمها إلى حريمه، أعطيت له بدون تردد، ولكنه في نفس الوقت ووجه بطلب مقابل بأن يرسل أميرة مصرية إلى بابل، وقد رفض هذا الاقتراح غير المعقول باعتباره منافيا لكل التقاليد. ولكن كادشمان إنليل رد على أخيه ردا منطقيا متماسكا في خطاب آخر: إنك يا أخي كتبت لي بأنك لن تسمح لابنتك بالزواج مني قائلا: إنه لم يحدث أن أعطيت ابنة ملك مصري لأحد من قبل! دعني أسألك لماذا؟ إنك أنت الملك ومشيئتك نافذة، فإذا كنت راغبا في إرسالها، فمن ذا الذي يعترض؟ ثم يمضي بسذاجة قائلا: إنه سوف يقتنع بأية امرأة جميلة أخرى؛ إذ يمكنه أن يدعي أنها ابنة الملك، ولن يجرؤ أحد على تكذيبه، لكن إذا كنت من حيث المبدأ، ترفض أن ترسل لي أحدا على الإطلاق، فأنت لا تأخذ الأخوة والصداقة بعين الاعتبار.
15
وحتى إبان سقوط القوى المصرية وانحطاطها، ظل المصري يحافظ على هذا التقليد المقدس، فيخبرنا هيرودوت أنه عندما ألح الملك الفارسي قمبيز ملك العالم آنذاك، في طلب الزواج من ابنة الفرعون، زمن تدهور مصر الحضاري والسياسي والعسكري، اختار الفرعون لملك العالم فتاة من خادمات البلاط، وأرسلها لقمبيز على أنها ابنته، وعندما اكتشف قمبيز ذلك اتخذها ذريعة لغزو مصر.
16
وفق هذا كله لا يمكن تصور أن فرعونا مصريا، يمنح راعيا بدويا (إبراهيم) جارية مصرية، وهو أشد عناصر البشر نجاسة في القانون المصري. إن الحل الأوحد هو أن يكون إبراهيم، قد دخل مصر على ذوي قرابته وحلفه، لقد كان الحاكم على مصر زمن إبراهيم هكسوسيا ولم يكن أبدا مصريا.
والتوراة تقول إن إبراهيم أنجب من هاجر المصرية ولده البكر إسماعيل، ثم إن إسماعيل نفسه سار على درب أبيه فتزوج مصرية «وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر» (تكوين، 21: 21).
لكن لأن التاريخ مساربه وتواصلاته عبر ذكريات عادة ما تكون غائمة أو منزوية، فإن الحدث يجد له منفذا كما عند المؤرخ هروشيوش، الذي قام يردد ذكريات القرون الغوابر، ويخالف التوراة مخالفة شديدة حسب الفهم السائد، بينما يتفق معها أشد الاتفاق حسب رؤيتنا لأحداث ذلك الزمان، فهو يقول عن إبراهيم:
وولد له إسماعيل من جاريته العملاقة، وتزوج إسماعيل امرأة من العماليق، فولدت له اثني عشر ولدا.
17
وحيث نعلم أن إسماعيل هو ابن هاجر، فمعنى ذلك أن هاجر لم تكن مصرية إنما «عملاقة»، وأن زواج البدو العبران من أرض مصر، لم يكن من مصريات، بل من عملاقات هكسوسيات. وهو الأمر الذي وجد منفذه ليصل إلى مؤرخينا الإخباريين القدامى ليدونوه بدورهم، فيحكي المسعودي:
تفرق العماليق بعد أن أقحط الشحر واليمن، فتزوج إسماعيل منهم.
18
كذلك كان يعلم ذات الخبر راوي السيرة ابن هشام، الذي أكد أن العماليق وليس المصريين، كانوا أخوال إسماعيل، وذلك في قوله:
إن إسماعيل نبي مرسل، أرسله الله إلى أخواله من جرهم والعماليق.
19
وهو المعنى الذي دونه الثعلبي يقول:
ثم نبأ الله إسماعيل، فبعثه إلى العماليق وقبائل اليمن.
20
وهو الخبر الذي يجمع الكثير لتأييدنا؛ فالعماليق في مصر وسيناء، وكان إسماعيل مبعوثا إليهم وإلى قبائل اليمن. لقد كانت بذلك قبائل اليمن في ذات الجوار (حيث مملكة سبأ كما سبق البحث) بسيناء وآدوم وكذلك بمصر ضمن العماليق أو الهكسوس. إن نظريتنا تلتقي مع أحداث كان يتم التعامل معها، بحسبانها أوهام أهل السير والأخبار، بل إنها تفسر نظريتنا وتضعها في تناغم واضح مع سياقها التاريخي.
وهكذا فإن الهجمة التي حدثت في زمن مرنبتاح، وتلاها هجوم أعظم زمن رمسيس الثالث، لم تكن هجمة الفلسطينيين من كريت، التي احتلوا بموجبها ساحل فلسطين، إنما مجموعات خرجت من الجزر اليونانية، حملت أسماء شعوب عديدة كالشاكروشا والثكر والدانونا والواشاشا والبلست، وهم الذين عرفهم التاريخ باسم الشعوب الآخية، وهي الهجمة الكبرى التي أسقطت الحضارة الحيثية وأزالتها من التاريخ. وكان الخلط يتم دوما بين حركة الآخيين الكبرى وبين وجود البلست على الساحل الفلسطيني، بدمج مبتسر ومتكلف لإيجاد تفسير لظهور الكريتيين البلست على ساحل فلسطين، في زمن كانت فيه مصر قد أصبحت إمبراطورية قوية، لن تسمح بهذا الاستقرار لمهزومين - كما يقولون - في أراض تابعة لها . بينما التوراة قد أكدت وجودهم هناك قبل تحديد المؤرخين بثلاثة قرون على الأقل. وكان هذا الاستيطان المبكر للفلسطينيين أمرا غامضا، لم يأت بشأنه مدون واضح يحدد موعد بدئه؛ لأنه ببساطة حدث زمن الهكسوس الذي لم يترك لنا شيئا مدونا يعول عليه، وهو الزمن الذي أسدل عليه المصريون ستارا من النسيان، فلم يدونوا عنه وقرروا نسيانه ولم يعودوا يذكرونه كأنه لم يكن.
وفي تلك الأثناء، وفي فترة الظلام الهكسوسي نعتقد وفق ما طرحناه، أنه قد حدث الحدث، وتم نقل الكريتيين إلى الساحل الفلسطيني ليفاجئونا - عندما يرتفع الستار مرة أخرى، ويبدأ التدوين بعد طرد الهكسوس من مصر - نفاجأ بوجود الفلسطينيين هناك قبل أي تواجد للعبريين، أو من ذكرهم التاريخ باسم بني إسرائيل، وهم الشعب الغريب تماما عن المنطقة، جاءها وافدا مستوطنا، وهذا أمر آخر يحتاج إلى جهد آخر ومبحث جديد.
الفصل السابع
حل لغز الخابيرو
حول زمن خروج الإسرائيليين من مصر، سيقت عدة نظريات وفروض، كان أولها تلك النظرية العتيقة، وتعد أول النظريات التي وضعت بهذا الشأن، وهي نظرية المؤرخ اليهودي يوسفيوس، والتي اعتمد فيها على تاريخ مانيتون المصري 282ق.م. وقد زعم يوسفيوس في نظريته أن بني إسرائيل كانوا هم حكام مصر باسم الهكسوس، إلا أن هذه النظرية لم تعد تلقى اليوم قبولا عند علماء التاريخ أو عند علماء نقد التوراة، حيث تواترت حديثا نظريات علمية جديدة، بدأت بالظهور تباعا، بعد فك رموز الهيروغليفية المصرية، وما تبعها من كشوف أركيولوجية متتابعة. ووضعت فروض تزمن هذا الخروج في مساحة تقع ما بين ثلاثة قرون أو أقل، تقع ما بين زمن الفرعونة حتشبسوت 1490-1460ق.م. وزمن الفرعون مرنبتاح حوالي 1224-1214ق.م. لكن ليس قبل ولا بعد، إنما تدور جميعا بين فراعين حكموا بين هذين المدتين 1490-1214ق.م.
وقد ذهبت مدرسة جارستانج إلى القول بأن الخروج قد حدث زمن الفرعونة حتشبسوت، وذهب آخرون إلى تزمينه بزمن الفرعون الفاتح تحتمس الثالث 1490-1436ق.م. بينما أرجأه آخرون إلى زمن الفرعون مرنبتاح 1224-1214ق.م. ويعد هذا الرأي الأخير هو الرأي السائد والمستقر الآن ، ويستمد قوته من اعتماده على وثيقة أركيولوجية واضحة، تتمثل في لوح مرنبتاح الذي ذكر اسم إسرائيل لأول مرة ولآخر مرة، فيما اكتشف من آثار مصرية حتى الآن. ويقول فيه الفرعون إنه قد أباد إسرائيل ولم يبق لهذا بذر أي نسل أو أثر. ولأن فترة حكم هذا الفرعون لم تتجاوز عشر سنوات، تسمح بكل الأحداث التي رواها سفر الخروج بالتوراة، فقد افترض أصحاب تلك النظرية أن الأحداث الكبرى المروية بالتوراة، وما رافقها من اضطهاد الإسرائيليين في مدينتين باسم «رعمسيس» و«فيثوم»، إنما تعود إلى زمن أبيه رمسيس الثاني 1290-1224ق.م. بحيث يصبح رمسيس الثاني فرعون الاضطهاد، وصاحب مدينة الاضطهاد التي حملت اسمه. أما الخروج فيكون قد حدث زمن ولده مرنبتاح صاحب لوح إسرائيل المشهور.
وكان علم التاريخ قد استقر على أن العبرانيين قد سجلوا اسمهم في التاريخ ووثائقه، بعد أن ورد اسمهم في التاريخ ووثائقه بصيغ مختلفة، للدلالة على أناس بعينهم في كل مدونات منطقة المتوسط الشرقي، على اختلاف التنغيم ما بين: عابيرو، خابيرو، خابيري، حابيري، حبراي، هبر، عفر، عفرم، حبري، خبري. لكن تزمين الخروج بزمن مرنبتاح كان يعني لهؤلاء المؤرخين خسارة كبرى، اضطروا معها للتنازل عن كون تلك الأسماء المتعددة تشير إلى عبريي التوراة الإسرائيليين؛ لأن تاريخ تدوين هذه الأسماء للعابيرو لن يلتقي زمنيا مع زمن مرنبتاح والذين خرجوا من مصر. ولمعرفة السبب وراء ذلك نحن بحاجة إلى بعض التفصيل.
كان أول ظهور للصفة «عبري»، عندما استخدمها سفر التكوين بالكتاب المقدس لوصف البطرك إبراهيم. ثم وردت كلمة «عبرانيون» لوصف الإسرائيليين الذين كانوا يعيشون بمصر، ثم وصفوا بذات الصفة بعد خروجهم من مصر ودخولهم فلسطين. إلا أن الملاحظ أن تلك الصفة كانت تستخدم عند ورودها لتمييزهم جنسيا عن أصحاب الأرض وأهلها، وهو ما حدث في قصة يوسف عند نزوله مصر لتمييز الإسرائيليين عن المصريين، وكذلك تكرار ذات الأمر في قصة موسى بمصر، ثم في قصة أول ملك إسرائيلي (شاول) لتمييز الإسرائيليين عن سكان فلسطين. ثم اختفت صفة عبري مدة طويلة، لتظهر بعد ذلك في سفر صموئيل أول وفي سفر يونان.
وقد تواترت الكشوف الأركيولوجية بأخبارها عن ال «خا - في رو»، في النصوص المسمارية الكاشية أو الكوشية أو الكاسية بالرافدين، وال «ع ف ر م» في نصوص أوغاريت/رأس شمرا، وال «خ ا ب ي ر و» في رسائل تل العمارنة بمصر، وال «ع ف ر» في نصوص مصرية أخرى، و«خ ب ي ر و» في نصوص نوزي بأعالي الفرات، ضمن مملكة ميتاني المزعوم وقوعها هناك، ففي المدونات هناك تكرار اسم «خ ب ي ر و»، بينما لم يشر المدون نفسه إلى هويته، ولا إلى «ميتاني» ولا إلى نوزي نفسها.
1
وفي الفترة ما بين نهاية القرن الخامس عشر ومنتصف القرن الرابع عشر ق.م. أفادت رسائل العمارنة القادمة من ملوك كنعان ومحيطها، أن جمعات باسم «الخابيرو» و«الساجاز» تهدد العديد من الممالك الفلسطينية سواء في الشمال أو الجنوب.
2
وإذا كان الخابيرو قد كانوا باسمهم المتواتر في وثائق المنطقة جميعا، هم اللقية العظيمة للمؤرخين، على اعتبار أنها إشارة إلى العبريين، فقد اضطروا للتنازل عن هذه اللقية إزاء الاتفاق، على أن الخروج قد حدث زمن مرنبتاح الذي يأتي بعد زمن العمارنة بزمان؛ لأنه لن يكون مفهوما كيف خرجوا، وكانوا يهاجمون فلسطين زمن العمارنة الأسبق؟ أما الساجاز؛ فهي كلمة تعني القتلة، ويوصفون بأنهم «قاطعوا الرقاب أو الأعناق» أو «قاطعوا الرءوس»، وقد ظلوا مجهولين تماما، كما ظلت كلمة «ساجاز» مجرد صفة، أطلقت على بعض الهكسوس لوحشيتهم!
وللمزيد بشأن الخابيرو والساجاز نقرأ: «تفيد العديد من النقوش القديمة المؤرخة، ابتداء من الألف الثاني قبل الميلاد، بوجود مجموعات من اللصوص وقطاع الطرق والمرتزقة في المشرق العربي، كانت تعيش على هامش المجتمع، وقد عرفت هذه المجتمعات في النقوش السومرية، العائدة للفترة الواقعة بين الأعوام 2050-1930 و930-1697ق.م. باسم «س ء ج ء ز» ومن أهل الاختصاص من يرى أن الاسم السومري «س ء. ج ء ز»، مشتق من المفردة الأكادية «شجج ء شو» بمعنى شجه/تلة، كما قرئ الاسم أحيانا «خبب ء تو» بمعنى لصوص وبدو رحل. وبمقارنة قوائم الآلهة الحثية وقائمة الضرائب الأوغاريتية اقتنع أهل الاختصاص، بأن المجموعات التي عرفت بالاسم السومري «س ء. ج ء ز» هي نفسها المشار إليها بالاسم الأكادي خفيرو «خء. في. رو» و«خء. ءب. بي ري» وهناك اتجاه يرى أن الاسم خبيرو مشتق من المفردة خبر، بمعنى يربط أو يوصل، أو من المفردة «عبر» بما يعني أن المقصود «حبريم» أي المتحالفون، أو «خبريم» بمعنى البدو المتنقلين، ويرى اتجاه آخر أن المعنى الصحيح للاسم عفر هو «مغبرين»، وانطلاقا من حقيقة أن البدو أي العرب في حالة ترحل مستمرة، فقد أول ممثلو هذا الاتجاه المعنى ليشير إلى بدو رحل. ومن الجدير بالذكر أنه تمت قراءة الاسم بصيغته الأخيرة في نصوص مملكة ماري العائدة للنصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد، والتي فهم منها أن المقصود بذلك مرتزقة أو عصابات تعيش من نهب المدن. ويعود الخفيرو للظهور من جديد في نصوص عديدة تعود إلى مملكة الألاخ، حيث يسجل النص المؤرخ في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، توقيعهم لاتفاقية سلام مع حكام تلك المملكة، بما يظهر أنهم شكلوا حينئذ قوة عسكرية هامة ومستقلة. كما يعود الخفيرو للظهور من جديد في نصوص هذه المملكة ذاتها، والعائدة للقرن الخامس عشر قبل الميلاد. وهذه المرة يظهرون كقوة عسكرية متمركزة في المدن، حيث عرف أن بعضا منهم كان ينتمي إلى طبقة الكهنة، ويتم مدحهم في نص ثالث لاستضافتهم الملك المعزول إدرمي.
أما النصوص العائدة للقرن الخامس عشر قبل الميلاد، التي عثر عليها في مدينة نوزي الواقعة في القطر العراقي، فتظهر أن الخفيرو وضعوا أنفسهم كأشخاص أو مجموعات بتصرف الدولة كمرتزقة وخدم، بينما تثبت وثائق أخرى أنهم كانوا رقيقا وظفوا في الخدمة المنزلية (نتذكر هنا ما حدث ليوسف وعمله الأول كخادم منزل في بيت رئيس الجند المصري فوطيفار [المؤلف]).
وتعود هذه المجموعات للظهور من جديد في رسائل تل العمارنة، العائدة للنصف الأول من القرن الرابع عشر ق.م. بصيغة «سء. ج ء ز».
ويرى أهل الاختصاص أن تلك الوثائق تظهر تشكيلهم من أمراء وسكان مدن، أي إنهم أصبحوا من أهل الحواضر. وكما تبين تلك الرسائل أن تلك المجموعات، والتي رأى فيها أهل الاختصاص نفس خفيرو النصوص الأكادية، أنهم لم يكونوا متمردين فحسب، وإنما وظفوا أيضا كمحاربين مرتزقة، مما جعل كاتبي الرسائل ينعتونهم بصفة: كلب، وكلاب ضالة. أما النقوش الحيثية فتشير إلى «س ء. ج ء ز»، كمجموعة طبقية صنفت ما بين النبلاء والعامة.
كما عثر على إشارة لعفروم في النصوص الأوغاريتية، فهم أن المقصود بها جماعات مستقرة المسكن تدفع الضرائب، وأن رئيسهم الموصوف برب عفروم كان يتمتع بموقع محدد في إدارة المملكة. وتسجل النقوش المصرية العائدة للفترة الواقعة بين القرنين السادس عشر والثاني عشر ق.م. وجود جماعة متشابهة من السكان المحليين في فلسطين، أطلق عليها اسم «عفرو» كجماعة من الرقيق والعمال الأسرى. وقد سجل الأثر المسمى نقش آمنوفيس (لوح مرنبتاح/إسرائيل [المؤلف])، أخذ ذلك الملك المصري مجموعات من ال «عفر. و» كأسرى وأحضرهم إلى مصر، وهو ما يعني وجودهم في فلسطين وليس في مصر، زمن غزوة مرنبتاح (لوح إسرائيل).
3
ولفترة من الزمن تم الاعتقاد أن هذه الاصطلاحات على مختلف تنغيماتها، تشير إلى العبريين بمعنى الإسرائيليين تحديدا كمجموعة قبلية عرفت في التوراة باسم «عبريم»، وهو الاسم الذي تكرر بالكتاب المقدس 34 مرة. وإنه في عرف تلك المدرسة التي تربط بين خابيرو التاريخ وبين عبريي الكتاب المقدس، اسم يشير إلى مجموعة جنسية إثنية محددة، انتسبت حسب قول الكتاب المقدس إلى جد بعيد باسم عابر. خاصة أن التوراة تصف أرومة الإسرائيليين إبراهيم الخليل بأنه «ءبرم ه عبري»، أو إبرام العبري في (سفر التكوين، 14: 13)، لكن الطريف أن النسخة السبعونية من التوراة، قد سجلت مصطلح عبري 28 مرة فقط بفارق ست مرات عن النسخة المازورية؛ لأنه في تلك المرات الست كان يفهم أن عبريم تعني عبديم أي عبيد، أو تعني مجرد بدو أو مارة أو عابرين.»
4
ويقول «إيفارلسنر»: «إن اليهود شعب سامي شأنهم شأن البابليين والفينيقيين والعرب، عاشوا في فلسطين في الأزمنة الغابرة، كما أنهم في الأصل بدو يعرفون بالعبرانيين.» ويعقب على كلامه مترجم كتابه إلى العربية فيقول: «ظن بعض الباحثين ومنهم مؤلف هذا الكتاب (أي: إيفار لسنر) أن الاسم «عبر» هو نفسه الذي وجد منقوشا في لوحات تل العمارنة ... وفي الكتابة المسمارية بلفظ حابيري أو خابيري. وقد تكررت هذه التسمية في بعض كتابات الكشيين المسمارية البابلية في العراق، وفي نقوش حيثية عثر عليها في بوغاز كوي بتركيا، كما وردت في بعض نقوش أمورية في حفائر نوزي بشمال العراق، لكن المحققين من العلماء يرفضون ارتباط كلمة عبري بالاسم حابيري.»
5
وللمزيد من التفاصيل نقرأ النص «No 190-EA»
من رسائل تل العمارنة، وهو عبارة عن رسالة من حاكم أورشليم إلى سيده آمنحتب الثالث، أو ربما إلى ولده آمنحتب الرابع إختانون، يقول فيها:
إلى الملك مولاي،
هكذا يقول خادموك عبد خيبا (عبد هفا):
انظر إلى ما فعله ملك إيلو
Milki Lu
وشوارداتا
Shuwardata
بأراضي الملك مولاي؟
لقد فعلوا بقوات من جازر
Gezer
ومن جت
Geth
ومن كيلة
Keilah
وأخذوا أراضي روبوتو
Rubutu ، وأراضي الملك سلمت إلى شعب العابيرو، حتى بلدة في أراضي أورشليم من أملاك سيدي اسمها بيت لحم
Bit-Lahm
قد أعطيت إلى كيله.
فليصغ مليكي لخادمة عبد خيبا، ويرسل قوات تعيد الأراضي الملكية لخادمة عبد خيبا، ويرسل قوات تعيد الأراضي الملكية إلى الملك.
وإذا لم تصل القوات.
فإن أراضي الملك ستغدو للعابيرو.
6
ومن جانبه يؤكد لنا «أحمد سوسة» أنه قد تم العثور حتى الآن على ست رسائل استغاثة موجهة إلى فرعون العمارنة، موجهة إليه من «عبد خيبا» واليه على أورشليم.
7
ونعلم بعد ذلك أن هؤلاء العابيرو ظلوا يهاجمون أملاك مصر في فلسطين مدة طويلة، حيث تم العثور في موقع «بيت شان» على نصب تذكاري تركه سيتي الأول 1309-1291ق.م. ورغم ما لحق به من تلف شديد؛ فإنه أمكن الإفادة منه بحدث هام، هو أن الفرعون قد صد هناك هجمات للعابيرو قادمة إلى فلسطين عبر نهر الأردن.
8
وفي نص من مدينة «الالاخ» بشمالي الرافدين نجد ملكا باسم «إبرم»، يعقد اتفاقا مع الخبيرو ليكونوا جنودا في جيشه (لاحظ أن إبرم هي إبرام هي إبراهيم)، وفي نصوص نوزي جدولة للمرتبات والملابس، التي كانت تصرفها مملكة نوزي للخبيرو، وفي منشور رسمي للملك الحيثي حتوسيل الثالث إعلان عن رفض المملكة الحيثية، لاستقبال الخبيرو الهاربين من أوغاريت.
9
ثم يحيطنا «ماكلستر» علما أن تهديد أملاك مصر في الشام كان على يد عصابات آرامية، عرفت في رسائل العمارنة باسم «السوتو والخبيرو»، ويفترض أن قوة ما ضاغطة دفعت أمامها الخبيرو والبولساتي (البلست/الفلسطينيين) من بلادهم الأصلية، ليتجهوا نحو بلاد فلسطين وبوادي الشام، ثم يشرح موضحا مشكلة الخابيرو والعبريين قائلا:
وبعيد أن يكون هذان الفريقان من الغزاة، واسمهما يكاد يكون واحدا (يقصد الخابيرو والعبرانيين) منفصلين أحدهما عن الآخر تمام الانفصال. وإذا لم يكونا منفصلين فإن قصة الخبيرو، وعلى قدر ما تستخلص من رسائل تل العمارنة، تضاعف ما يوجه إلى قصة الخروج الواردة بالكتاب المقدس من نقد. فيجب أن نستنتج من الرسائل أن استعمار الخابيرو فلسطين، استمر بدون مقاومة تذكر (على عكس رواية الكتاب المقدس [المؤلف])، وأن الكنعانيين اضطروا آخر الأمر إلى قبولهم جيرانا ثقلاء لا مفر من جيرتهم. فإذا كان الأمر كذلك، وإذا قلنا إن العبرانيين من نسل هؤلاء الخبيرو، فماذا يكون رأينا في قصة الخروج من مصر (يقصد الخروج زمن مرنبتاح)؟
10
ماكلستر بذلك مثل آخرين يصر على أن العبرانيين بالكتاب المقدس، هم ذات الخبيرو بنصوص أركيولوجيا المنطقة.
لكنه سيواجه بذلك مشكلة.
فإذا كان العبرانيون هم الخابيرو، فكيف كانوا يهاجمون أملاك مصر في فلسطين زمن العمارنة (آمنحتب الثالث 1405-1367ق.م.، وولده إخناتون 1367-1350ق.م.)، كما ثبت من رسائل الاستغاثة المرسلة من حكام فلسطين إلى ملوك العمارنة؟ وهو وقت يفترض أنهم كانوا ما زالوا يقيمون فيه بمصر، حسب تزمين الخروج بزمن مرنبتاح؟! ولم يكونوا قد خرجوا من مصر بعد إلى فلسطين، حيث إن زمن مرنبتاح يقع بعد ذلك التاريخ بما يزيد عن قرنين.
هنا لا يفارق ماكلستر ما استقر عليه ضميره العلمي، وقرر أن الخطأ بذلك لن يكون في علم التاريخ ووثائقه، وما وصل إليه العلماء بتحديد زمن مرنبتاح لحدث الخروج، إنما علينا بالبحث عن الخطأ في القصة التوراتية ذاتها وتزميناتها وربما تسمياتها، وما روته من أحداث حول الخروج.
لكن ما فات ماكلستر أن هؤلاء المؤرخين أنفسهم، الذين اعتمدوا على وثيقة لوح مرنبتاح، لتزمين الخروج إبان حكمه على مصر، قد بنوا حكمهم هذا على عنصر توراتي إلى جوار العنصر الأركيولوجي، بحيث تطابق تزمين التوراة للخروج مع تزمين علماء الآثار والباحثين، وتمت وفق ذلك حسابات تستند إلى التوراة كالآتي:
تقول التوراة: «وأما إقامة بني إسرائيل التي أقاموها في مصر؛ فكانت أربعمائة وثلاثين سنة»، وذلك منذ دخول يعقوب وأبنائه الأسباط مصر، حتى خروج موسى وأتباعه من مدينة رعمسيس. يضاف إليها التواريخ التي وردت في سفر التكوين، بخصوص يوسف تحديدا بعد أن دخل مصر حيث قضى في السجن عامين، وانقضت سبع سنوات من الخير، وسنتان من سنين القحط قبل وصول يعقوب وأولاده إلى السبط يوسف في مصر. وبذلك تكون المدة من دخول يوسف السجن إلى خروج موسى 441 سنة. فإذا أضفنا 441 سنة إلى أوائل حكم مرنبتاح، فسيؤدي بنا ذلك إلى زمن دخول الهكسوس مصر، أو بعد غزو الهكسوس بحوالي 15 سنة. وإذا طرحنا 441 عاما من زمن دخول الهكسوس مصر، فسيفضي بنا ذلك إلى زمن مرنبتاح، وهكذا تمت مطابقة تزمينات التوراة مع تزمينات التاريخ، لكن ظلت المشكلة قائمة: كيف كان العبريون يقومون بغزو فلسطين زمن آمنحتب الثالث والرابع، بينما لم يكونوا قد غادروا مصر فعلا زمن مرنبتاح، الذي يقع تاريخيا بعد غزوهم فلسطين بحوالي قرنين من الزمان؟
على أية حال علينا الآن أن نتابع ما وصلنا من علم التاريخ، بشأن الخابيرو حتى نكون على بينة واضحة، أو نجد ما يفصح عن حل ذلك اللغز المحير.
لقد تأكد تاريخيا أنه في فترة قصيرة أيام حكم العمارنة تحولت «ميتاني» عن ولائها لمصر، وأخذ ملكها عبدى شراتا «عبد شري» و«شري» هو الإله الذي أوضحنا أمره في مديان وليس في «ميتاني» المزعومة أعالي الرافدين، ومن بعده ولده «عزيرو»، بالتوسع على حساب أملاك مصر في فلسطين والشام، وأنهم من أجل ذلك قد دخلوا في تحالف مع الخابيرو، وقاموا بغزو أراض في فلسطين،
11
وهو ما يلخصه لنا عالما المصريات «شتيندورف» و«سييل» في قولهما:
وإلى الجنوب من فلسطين لم يكن الموقف أفضل من ذلك، فهذه المنطقة أيضا لم ينقصها الأمراء الشغوفون بانتهاز فرصة الضعف المصري، لنيل استقلالهم أو توسيع ممتلكاتهم الخاصة، ووجدوا حلفاء جاهزين في الخابيرو والبدو، الذين يعرفون باسم سوتي
Suti ، أما الملحقات الموالية ومنها أورشليم، فقد حاولوا عبثا الحصول على مساعدة البلاط المصري، وأخذوا يتوسلون إلى الملك من أجل «العناية بأراضيه، كل أراضي الملك قد انفصلت. الخابيرو ينهبون كل أراضي الملك، إذا لم تأت القوات هذه السنة بالذات، فإن كل أراضي الملك سوف تضيع.» ولم تصل التعزيزات المطلوبة مطلقا، واستطاع الخابيرو اجتياح كل ممتلكات الملك بدون عائق، وحل اليوم الذي «ضاعت فيه كل منطقة الفرعون».
12
هذا وبينما يعرض لنا جاردنر غارة آمنحتب الثاني 1436-1413ق.م. على فلسطين، يؤكد على إشارة وردت لقبائل باسم عابيرو، متحالفة مع أعداء لمصر باسم شاسو والحوريين، ثم يعقب شارحا للفظة عابيرو: «وقد نوقش هذا المصطلح كثيرا ... فمنذ سنوت قليلة مضت كان هناك من يؤكد أن هؤلاء الأقوام هم أنفسهم العبرانيون في التوراة، لكن هذا الرأي لا يتقبله اليوم سوى قلة من العلماء. إن الخابيرو الذين جاء ذكرهم في ألواح العمارنة، يبدو أنه اصطلاح شامل، أطلق على المنبوذين أو العصابات التي لا تنتسب إلى أية مجموعة جنسية محددة.»
13
وهكذا، وبكل بساطة تم حل مشكلة العابيرو، وإذا كان وجودهم على حدود فلسطين زمن آمنحتب الثالث وولده إخناتون سيسبب أرقا ومشكلة، في حال احتسابهم هم ذات الإسرائيليين الذين خرجوا من مصر، فليكن الحل: إن هؤلاء ليسوا هم أولئك؟ وأن المسألة مجرد تشابه أسماء؟! فإن سألنا: من هم إذن الخابيرو تحديدا إذا لم يكونوا هم العبريين أو الإسرائيليين؟ فإن الإجابة السهلة: هم مجرد شوارد قبائل وشذاذ آفاق، وعصابات لا تنتسب لعنصر بشري معروف. ويصبح الأمر كما لو أن عبريي التوراة شعب ذو عنصر بشري معروف، أما الخابيرو فليسوا كذلك، وإنهم ليسوا عبريي التوراة؟!
لكن ذلك الأمر فيه نظر؛ لأنه إذا كان الكتاب المقدس، قد أوعز بأن الإسرائيليين نسل عبراني وكلاهما واحد، فإنه في مواضع أخرى يهمس بنتيجة مخالفة تماما لمن ينقب فيه، وهي أن العبريين ضموا مجموعة قبائل وشعوب متنافرة كانت تنتقل في بداوتها شرقي المتوسط، ومن ثم نراهم من جانبنا عنصرا من عناصر الحلف الهكسوسي القديم، بينما الكتاب المقدس من جانبه تحول بفكرة الحلف إلى بديل قرابي، فوضع سلسلة نسب تجمع مجاميع بشرية متنافرة في جماعة واحدة وجنس مميز، كما لو كان شعبا واحدا من الأزل.
ورغم أن سفر التكوين يضع شخصية أساسية باسم عابر، سلفا لكل بني عابر أو العبريين، ويضع ضمن العبريين شعبا من جنوبي جزيرة العرب هم اليقطانيون أو القحطانيون، الذين أصبحوا يعرفون بعرب الجنوب العاربة، أي الأصلاء في العروبة، فإنه في المقاطع «10: 21-29» لا يصف يقطان/قحطان وأبناءه بأنهم عبريون. ولو كان عابر هذا ساميا حقا هو ونسله من بعده، لكان وصفه «عابر السامي» نسبة إلى جده سام، حسب الشجرة التوراتية. وليس كما وصفه بنسبته إلى أحفاده وتعريفه بأنه «أبو كل بني عابر، وهناك حوالي 25 قبيلة أو شعبا، احتسبتها التوراة من بني عابر، ولم توصف واحدة منها ولو مرة واحدة بأنها عبرية.» ونتذكر هنا تأكيد هروشيوش أن بلاد آدوم، كان يعيش فيها نحو ثمانية وعشرون جنسا، ومن هنا يستنتج زياد منى «أن النصوص التي تشير إلى جد أعلى باسم عابر، هي إضافات لاحقة من المحرر التوراتي.»
14
ثم يجمع «منى» معاني كلمة «عبر» من مصادر اللسان العربي لينتهي إلى أنها تعني الارتحال مطلقا، فهي «القطع من مكان لآخر، الإبل القوية على السير، الجريء على الأسفار القوي عليها، الكثير من كل شيء، وغلب على الجماعة من الناس، السحائب تسير سيرا شديدا» ويعقب: «إن هذه المصطلحات أو المفردات تحمل مضمون الحركة في معانيها»،
15
وهو ما يلتقي تماما مع ما انتهينا إليه من معاني الاصطلاح المصري القديم «شاسو» الذي يعني الارتحال مطلقا.
ويقرن منى بين العبري والغبري ليجمع من المعاجم ما أفاد به علم التاريخ عن أسلوب حياة وعمل الخابيرو، فيقول: «تفيد المراجع المتخصصة أن بني غبراء، هم الغرباء الصعاليق المحاويج الفقراء.»
16
الأمر الذي ينجلي عن تعبير التوراة «تائه» في النص «آراميا تائها كان أبي»، كما ينجلي عن تكرار قول إبراهيم، في كل محطة كان ينزلها بعد ارتحال، أنها أرض «غربته»، وحتى اليوم نجد في لسان عرب الخليج والجزيرة، «العبري» هو المسافر العابر غير المقيم، و«العبرية» هم المسافرون.
ثم يعقب منى بالقول:
17 «إن النصوص التي تحوي قوائم الأجداد مشكلة من عدة روايات متباينة المحتوى، أدمجت ببعضها البعض بهدف نقل الانطباع بوحدة الرواية، وبوحدة أصول شعب التوراة.» ثم يطابق «منى» بين الصفات التي عرفها علم التاريخ عن هذه الجماعة كشذاذ آفاق، يعيشون على السلب والنهب والحركة الدائبة، وبين ما جاء في التوراة من تصوير لحياة الأسباط في وصف جماعة داود، بأنها تتكون «من كل رجل متضايق وكل مديون وكل رجل مر النفس».
18
ومن هنا ينتهي «منى» إلى أن الكتاب المقدس، قد وظف المصطلح «عبري» للدلالة على تحالف إعرابي قبلي، وأن محرري الكتاب المقدس لم يعرفوا معنى المفردة، فتمثلوها في شخص باسم عابر، أدخلوه في قوائم الآباء الأولين. والحقيقة أنه ليس هناك مجموعة جنسية إثنية متميزة باسم العبريين.
19
أما سليم حسن؛ فيوضح باختصار أنه «كان أول ظهور للخابيرو في التاريخ في ميسوبوتاميا (الرافدين القديم [المؤلف])، حوالي نهاية الألف الثالث ق.م. وقد كان لهم اتصال وثيق بالحورانيين ... وفي حين أن غالبية الخابيرو ساميون، فإنهم كانوا في العادة على اتصال مباشر بالعنصر الحوراني (وهو عنصر هندوآري عند سليم حسن [المؤلف]) المنتسب إلى الهكسوس.
20
وحول هذا الاختلاط الجنسي الغريب بين السامي والهندوآري عند الهكسوس، يشرح «شتيندورف» بقوله: «من المحتمل أن الهكسوس لم يكونوا شعبا واحدا متجانسا. أما العنصر الغالب فيهم فكان ساميا لا شك، وأضيفت إليه عناصر أخرى ربما منها الحوريون، وهم أقوام قديمة كانت تسكن شمال بلاد الرافدين «(يقصد موضع «ميتاني» المزعوم في الرافدين الأعلى [المؤلف]).
21
وعن مواجهة آمنحتب الثاني للشاسو والحوريين والخابيرو السالفة الإشارة إليها، نسمع لباحث يقول: «وعند وفاة تحتمس الثالث ورثه ابنه آمنحوتب الثاني المشهور بقوته الجسمية الخارقة، وخلال حكمه 1436-1413ق.م. قام بحملتين على بلاد الشام، شن الأولى منهما على أواسط سورية الحالية، حيث دمر وقتل وأسر. وإثر عودته لمصر أخذ بعض أمراء فلسطين، يدربون بعض الكنعانيين الشاسو والعابيرو، ويستعدون للثورة على الفرعون، بعدما تحالفوا مع الحوريين المنتشرين حول نهر الخابور (لاحظ أن الباحث هنا كبقية المؤرخين، يذهب بموضع الحوريين إلى «ميتاني» المزعومة بين الفرات والخابور شمالا [المؤلف])، فعاد آمنحتب الثاني إلى الشام ووصل إلى بحيرة طبرية، واستولى على مجموعة من المدن الفلسطينية.»
ثم يتابع «وتراخت قبضة المصريين على الشام، إبان انشغال إخناتون بثورته على الوثنية والشرك، فأخذ الحيثيون من عاصمتهم خاتوشا الواقعة في الأناضول إلى الشرق من نهر الهاليس، يحرضون عبدي شراتا، وهو ملك أموري «ميتاني» من الطرف الشمالي لسورية (نكرر هنا نفس الملاحظة السابقة [المؤلف]) على الثورة ضد النفوذ المصري الآخذ بالتراخي في بلاد الشام. وأخذ عبدي شراتا هذا يزحف ويحاصر المدن في حوض نهر العاصي وسواحل سوريا، ولا سيما حماة وأرواد. وبالمقابل تشكل في بلاد الشام حلف موال للفرعون، بزعامة رب عدي ملك جبيل. ويتألف من بيروت وصيدا وصور وعكا فضلا عن جبيل ... وحين شاخ عبدي شراتا أو مات، ورثه ابنة عزيرو الشاب الداهية الطموح. زحف عزيرو جنوبا بعدما تحالف مع الحيثيين، وكذلك مع قبائل الخابيرو أو العابيرو، التي تحترف القتال كمرتزقة؛ إذ هي تحارب لكل من يدفع لها، فوصل إلى جبيل التي آثر ملكها رب عدي الموالي لمصر، أن يموت على أن يخون سيدة الفرعون.»
وهنا علينا أن نلاحظ النغمة التي استقرت لحل مشكلة الخابيرو، فأصبحوا في كتابات الباحثين مجرد مرتزقة يعملون لمن يدفع.
ونتابع الباحث وهو يردف قائلا: «وتوالت الرسائل من ملوك الشام على آمنحتب الثالث وعلى ابنة إخناتون، تطلب النجدة من مصر ضد قوات عبدي شراتا وابنه عزيرو. وهذه ضمن رسائل تل العمارنة المشهورة، التي اكتشف منها زهاء 377 رسالة . ومن دهاء عزيرو أنه قد أخذ يراسل الفرعون هو الآخر، وأقسم له بأغلظ الأيمان أنه وحده المخلص للملك، وأن جميع الأمراء الذين شكوه إلى مولاه، ليسوا إلا كذابين وغير مخلصين للعاهل المصري. لكن عزيرو زحف جنوبا (هنا يفترض الباحث أن عزيرو ملك على «ميتاني» المتموضعة زعما شمالا بين الفرات والخابور [المؤلف])، وأنه قام يزحف من هناك نحو الجنوب، بعدما ضم إليه ملك قادش (يفترض الباحث هنا أن قادش المقصودة هي فادش نهر العاصي، وليس قادش سيناء [المؤلف])، فوصل إلى شمال فلسطين وضمه إلى دويلته. وفجأة تواجهك رسالة من رسائل العمارنة، مفادها أن الخابيرو قد احتلوا شكيم قرب نابلس الحالية، وأنهم ضربوا الحصار على القدس، وأن حاكم القدس عبد خيبا (عبد هفا) كاتب الرسالة، يستنجد بمولاه الفرعون إخناتون. ولا يعرف أحد كيف وصل الخابيرو إلى شكيم ثم القدس، هل عبروا مرج بني عامر واحتلوا شكيم عام 1360ق.م. أم أنهم زحفوا من الجهة الشرقية لنهر الأردن، والتفوا على المصريين من الجنوب؟ وأرسلت مصر القائد حور محب وخاض معركتين، على الأرجح أنهما كانتا صغيرتين ومخففتين.»
22
وهكذا نجد الخابيرو قد دخلوا فلسطين بالفعل، لكن المحبط في محاولة الفهم أن نجدهم ما زالوا بمصر زمن رمسيس الثاني 1290-1224ق.م. فهناك رسالة من الكاتب «كويسر»، موجهة إلى الموظف «بكنبتاح» تحمل أمرا يقول: «أعط الجنود قوتهم، وأعط أيضا العبيرو الذين ينقلون الحجارة لبناء الملك رع موسى.» ورسالة ثانية من «كينا» إلى «كجناهو» يقول فيها: «أطعت ما أمرني به سيدي قائلا: أعط الجنود أرزاقهم والعبيرو أيضا، الذين ينقلون الحجارة لهيكل الشمس، الذي انصرفت إليه عناية رع موسى (رعمسيس).»
23
وفي نصوص أوغاريت نجد ملحمة «كارت ملك صيدون» الهبيرو حراسا للملك، ويوصفون في
Cis-Ktu, 1.5 ، بأنهم قوة عظيمة وجبارة، وأن الشريحة العليا منهم حملت لقب الجبابرة.
24
وبين هؤلاء الحراس الذين يسمون «ناس الملك» نجد شرائح متعددة تحمل ألقابا متعددة، مثل «ماريانو» و«ماجاروخلي» و«سانانو» و«عشيرو». و«عشيرو» في رأينا هي «أشيرو»، التي يمكن أن تشير إلى السبط «أشير»، أحد الأسباط الاثني عشر. وقد أقيمت في أوغاريت أحياء خاصة للخابيرو مثل «خالابو» و«أبيريما». ومن جانب آخر يوضح اللوح
أنه كانت توجد في بلاد الحيثيين منطقة مخصصة لسكنى فئة «الأبيرو».
25
والآن نرتب ما بيدنا من أوراق حول مشكلة الخابيرو.
أولا:
الظهور الفصيح للخابيرو في نصوص المنطقة، كان في رسائل تل العمارنة القادمة من فلسطين، تستنجد بالملك آمنحتب الثالث وبولده آمنحتب الرابع/إخناتون. وتطلب قوات مصرية لصد هجوم الخابيرو على الممالك الفلسطينية التابعة للإمبراطورية المصرية حينذاك. فإذا كان الخابيرو هم العبريين الإسرائيليين؛ فإن ذلك - كما أسلفنا - سيحدث مفارقة لا تلتئم مع أهم نظريات الخروج، وهي النظرية السائدة التي تقول بخروجهم زمن مرنبتاح؛ لأن ذلك يعني أن العبريين - إذا كانوا هم الخابيرو - قد خرجوا من مصر قبل زمن آمنحتب الثالث بحوالي أربعين سنة أو يزيد قليلا. وهي المدة التي حددها المقدس التوراتي لبقاء الإسرائيليين في سيناء، بعد خروجهم من مصر وقبل غزوهم فلسطين، والمعنى هو: كيف نفسر وجودهم زمن آمنحتب الثالث أو الرابع في تشكيل هجومي على فلسطين قبل خروجهم زمن مرنبتاح بحوالي 170 عاما أو يزيد؟
ولو اعتمدنا النظرية التي تقول بخروجهم زمن حتشبسوت، فسنجد أيضا خطأ صارخا؛ لأن معنى ذلك أن يستغرق العبريون ما يزيد على 120 سنة من خروجهم من مصر، وحتى نجدهم يهاجمون مدن فلسطين زمن آمنحتب الثالث. وهو زمن طويل جدا للسفر بين مصر وإسرائيل، بينما كان تحديد التوراة لذلك الزمن بأربعين عاما في التيه، يعد زمنا طويلا جدا في نظر الباحثين، حتى رفضه بعضهم تماما، واعتبروه تلوينا أسطوريا.
ثانيا:
حسب قصة التوراة أن موسى قد مات على أبواب فلسطين في جبل نبو شرقي الأردن، وقام تلميذه يشوع بن نون بقيادة جحافل الغزاة، وعبر الأردن من الشرق إلى الغرب، وقام بتدمير شامل لمدينة أريحا حتى سواها بالأرض، وتركها كوما خرابا. وبالفعل أثبتت حفائر الأركيولوجية كاثلين كانيون، التي قامت بدراسة طبقات الأرض تحت أريحا، أن أريحا قد تم تدميرها مرتين: المرة الأولى عند طرد الهكسوس من مصر، على يد الفراعنة، باعتبارها كانت أحد مراكز الهكسوس الحصينة. أما المرة الثانية فالمفترض أن الدمار قد حدث فيها بفعل يشوع ورجاله الخارجين من مصر؛ فإن البحث الدقيق أثبت أنه قد حدث قبل زمن مربنتاح بحوالي قرن ونصف القرن من الزمان أو يزيد.
26
وهو ما يضيف مزيدا من الإلغاز والغموض، على قصة الخروج الإسرائيلي من مصر وعلى لغز الخابيرو. فإذا كان الخروج قد حدث زمن مرنبتاح، فلا بد أن يكون دمار أريحا قد حدث بعد زمنه بحوالي أربعين عاما هي زمن التيه، لكن ما أكده البحث الأركيولوجي أن ذلك الدمار قد حدث قبل زمن مرنبتاح بأكثر من قرن ونصف، وهو ما يعيدنا مرة أخرى إلى زمن الخابيرو، الذين كانوا يهاجمون فلسطين زمن آمنحتب الثالث وولده إخناتون، وهو ما عبر عنه كاسيدوفسكي بإيجاز بليغ يقول:
إذا كانت القبائل اليهودية القديمة العبرية هي المقصودة بالخابيرو؛ فإن رسائل العمارنة تعطينا برهانا على أنها دخلت أرض كنعان، قبل وصول الإسرائيليين إليها من مصر بحوالي قرن ونصف القرن.
27
وهنا بدأت محاولات التوفيق، أو على الأصح التلفيق.
جاردنر مثلا وآخرون ساروا مساره، يقولون إن الخابيرو مجرد شذاذ آفاق، لا علاقة لهم بالعبريين أو بني إسرائيل، أما وادل
Wadle
فله رأي آخر في كتابه
Israel and Babylon ، يقول: إن دخول القبائل الغازية إلى فلسطين من سيناء وبوادي الشام، كان أمرا مألوفا طوال التاريخ. ثم يفترض أن الخابيرو كانوا مثل تلك القبائل الغازية، لكنهم ليسوا هم العبريين تحديدا، لكن ما حدث أن أحدهما قد احتضن الآخر!»
28
هكذا!
أما الأركيولوجيست «كاثلين كانيون»؛ فقد اعتمدت على مناقشات «دي فو
Devau »، حول وجود طريقين محتملتين للخارجين من مصر تحت قيادة موسى، الأول يسير بحذاء المتوسط على الساحل السينائي الشمالي، والثاني يهبط لعمق سيناء ويعبر آدوم من جنوبها إلى فلسطين من شرقها. ومن هنا تقدم كانيون حلها لمشكلة وجود الخابيرو على حدود فلسطين، وفي نفس الوقت لم يكن حدث الخروج قد وقع بعد، أن هناك خروجين للإسرائيليين من مصر قد حدثا: الأول اتخذ طريق الساحل (طريق حورس الحربي بحذاء البحر المتوسط)، ودخل فلسطين من جنوبها الملاصق للحدود السينائية، والثاني اتخذ طريقه عبر آدوم والتف من شرقي الأردن، وعبر نهر الأردن إلى فلسطين من شرقه إلى غربي الأردن.
والآن وبعد العمر الذي قضيناه وراء محاولات حل ألغاز التاريخ، هل بالإمكان العثور على حل لا يجيز لباحث آخر أن يصفه بأنه تلفيقي؟ للوصول إلى الحل المرتجى علينا أولا أن نقف مع إشارات ضرورية تمهيدية.
لا يفوت لبيب ذكر ملك باسم إبرام، يعقد اتفاقا مع الخابيرو؛ ليكونوا جنودا في جيشه. وكما ألمحنا هو اسم إبراهيم بالتوراة، وإن كنا لا نعني أنهما نفس الشخص، إنما أقصى ما نقصده أن الاسم إبرام التوراتي كان منتشرا بين الخابيرو، مما يدعم فكرة أنهم كانوا هم ذات العبريين الذين ينتمي إليهم البطرك التوراتي إبرام/إبراهيم. ومن الصعب تصور أن شعبين يحمل كل منهما نفس الاسم، ودخل كل منهما مصر، وخرج كل منهما من مصر، وأن كليهما كان يهاجم فلسطين، دون أن نشك شكا قويا في القول، أنهما كانا شعبين منفصلين!
ثم نلحظ بشدة أن الحلف الذي ذكرته رسائل تل العمارنة، بين الخابيرو والسوتي وأنها وصفتهم بالعصابات الآرامية، ونتذكر أن السوتي تعني الستيين نسبة إلى ست، وهو ما يدعم ما قلناه حتى الآن، ويضع العبريين في مكانهم الجغرافي الذي حددناه، ومكانهم الزماني الذي نوشك الآن على تحديده.
وقد علمنا منذ هنيهات أن ملوك «ميتاني» بأعالي الرافدين، حسبما يذهب المؤرخون الذين تحالفوا مع الخابيرو، كان بينهم الملك عبدي شراتا أو «عبد الشرى»، بينما سبق وتأكد لنا أن الشرى هو رب الشراه أو السراه/عسير ببلاد آدوم، مما يعني وجوب قراءة تلك النصوص منسوبة إلى جغرافية آدوم، وليس إلى جغرافية الرافدين الأعلى. وتقول تلك النصوص إنهم أخذوا بالتوسع على حساب الإمبراطورية المصرية في فلسطين والشام. وهنا علينا أن نتذكر أن موسى عندما خرج من مصر مع أتباعه، لم يتخذ طريق حورس الحربي السريع على ساحل المتوسط نحو فلسطين، إنما انحدر جنوبا في رحلة شاقة طويلة ليس لها مبرر سوى نظريتنا، حيث يمكنه ذلك الطريق من اللحوق بحلفائه في بلاد مديان، أنسبائه وأهل زوجته صفورة.
والحصافة تجعلنا نقف مع إشارة آمنحتب الثاني إلى مهاجمة أعداء مصر الذين حدد أسماءهم: شاسو، حوريين، عبيرو، نتذكر أن خروج الهكسوس من مصر إلى مواقعهم القديمة حول آدوم، حدث بعد تفكك حلف الهكسوس على يد أبطال التحرير المصريين، لكن ليتجدد هذا الحلف جزئيا مرة أخرى لمهاجمة البلاد الفلسطينية، عبر تحالف جديد للقبائل وصل إلى تحالف عزيرو المدياني مع الحيثيين في أقصى الشمال. أما اسم عزيرو نفسه؛ فليس اسما حوريا هندوآريا يمكن إرجاعه إلى المملكة الميتانية الآرية المزعومة شمالي الرافدين، بقدر ما هو اسم سامي قح يليق بمديان، وتليق به آدوم، والعربان به أليق.
وقد مر بنا باحث مجتهد يعجب بشأن «ميتاني»، التي أصبحت تحمل اسما آخر هو أمورو (نسبة إلى أموريين؟!) لأن الأموريين حسب التاريخ التقليدي لا علاقة لهم بالميتانيين، ثم يعجب ثانيا من كيف وصل حلفاؤهم الخابيرو إلى شكيم ثم القدس؟ ويتساءل: هل عبروا مرج بني عامر واحتلوا شكيم؟ أم أنهم زحفوا من الجهة الشرقية لنهر الأردن، والتفوا على المصريين من الجنوب؟ إن السؤال برأينا هو الخطأ؛ لأن صاحبه يأتي بالخبيرو من الفرات الأعلى والخابور، حيث موضع «ميتاني» المزعوم؛ لذلك يستعصي الحل ويصبح لغزا، لكنه يصبح سهلا مفهوما تماما لو جاء بهم من آدوم. وهنا نستمع إلى زياد منى الذي ذهب إلى اليمن وعسير يموضع هناك بلاد إسرائيل، لكن ليعود معنا في عبارة عابرة إلى الموضع الذي حددناه، لكل تلك الأحداث في بلاده شراة سعير عند العقبة ووادي عربة حيث الشرى في بلاد آدوم، فيقول عن قبائل لم تزل موجودة حتى اليوم، في لمحة خاطفة تحكي أن «قبيلة عبرة من الشرى من زهران بن كعب ومقرهم بلاد السراة، وبنو عريب من قبائل حمير التي عرفتها في مؤلفي آنف الذكر، بأنها هي آدوم التوراتية.»
29
واضح إذن أننا مع الرأي القديم الذي عفا عليه الزمن وأهمله الباحثون تماما، نحن مع كون العبريين التوراتيين هم ذات عين الخابيرو والتاريخيين، وأنه كان اسما عاما على البدو الرعاة المتنقلين قطاع الطرق المرتزقة النهابين. لكن ذلك يعني ضمن ما سيعني أن الخابيرو لم يخرجوا أبدا زمن الفرعون مرنبتاح، بل خرجوا قبل زمن العمارنة؛ لأنهم في زمن العمارنة قد وصلوا بالفعل إلى مهاجمة فلسطين. وبدأت رسائل الاستغاثة تتواتر من حكام فلسطين إلى العمارنة، وهو ما يعني أنهم قد خرجوا قبل زمن العمارنة بزمان. أما الأكثر إدهاشا لنا قبل القارئ، هو توصلنا إلى أن الخابيرو التاريخيين الذين هم عبريو التوراة، ليسوا إطلاقا بني إسرائيل على التدقيق، إنما كان بنو إسرائيل بطنا حليفا ضمن الأخلامو لا أكثر، وهو ما سنحاول إقامة الدليل عليه الآن.
بإجراء الحسابات الزمنية المقارنة بين التوراة وبين تزمينات التاريخ المصري، لا يمكن الذهاب بحدث الدخول الإسرائيلي إلى مصر أبعد من زمن الهكسوس، كما لا يمكن أيضا التقدم به بعد زمن مرنبتاح. وقد تم ذلك التحديد بناء على توافق واضح بين زمن الملك سليمان وابنه رحبعام ملوك الدولة الإسرائيلية الموحدة، وزمن الفرعون الذي جاء ذكره بالكتاب المقدس «شيشق»، الذي قاد حملة كبرى على مملكة إسرائيل الموحدة في العام الخامس لحكم رحبعام بن سليمان. وهو الاسم الذي يطابق في التاريخ المصري القديم اسم الفرعون «شيشنق» أول ملوك الأسرة الثانية والعشرين، الذي حكم حوالي 945-924ق.م. إذ يقول الكتاب المقدس:
وفي السنة الخامسة للملك رحبعام، صعد شيشق ملك مصر إلى أورشليم، وأخذ خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك، وأخذ كل شيء وجميع أتراس الذهب التي عملها سليمان. (ملوك أول، 14: 25، 26)
وهذا الحدث الذي حكته لنا التوراة قد تأكد، بما جاء في حوليات الفرعون شيشنق، التي سجلت له جدولا بالمدن التي انتصر عليها في بر الشام وإسرائيل. ولما كان الكتاب المقدس يؤكد أن الإسرائيليين، قد قضوا ما بين زمن خروجهم من مصر إلى آخر زمن بناء الهيكل زمن سليمان، حوالي ما ينوف على أربعة قرون، تحت حكم القضاة القبلي قبل قيام مملكة إسرائيل الموحدة، التي حكم عليها شاول ليتبعه داود ثم ولده سليمان.
فالكتاب المقدس يقول:
وكان في سنة الأربعمائة والثمانين لخروج بني إسرائيل من أرض مصر، في السنة الرابعة لملك سليمان على إسرائيل في شهر زيو وهو الشهر الثاني، أنه بنى البيت للرب. (ملوك أول، 6: 1)
وفق هذه الحسابات - ومع بعض التجاوزات - يجب أن تقع افتراضات الخروج، في الفترة الزمنية الواقعة بين تحتمس الثالث 1501-1447ق.م. مرورا بمشاهير الأسرة الثامنة عشرة: آمنحتب الثالث 1405-1367ق.م. وولده إخناتون 1367-1350ق.م. وربما حتى زمن رمسيس الثاني 1292-1225ق.م. وولده مرنبتاح 1225-1215ق.م.
ولما كان الكتاب المقدس قد حدد مدة بقاء الإسرائيليين في مصر بزمن يصل إلى 430 عاما، فيجب أن يكون زمن الدخول إلى مصر قد حدث قبل الخروج ب 430 عاما، مما يعني أنه لو تحدد لخروجهم زمن أيام حكم أي فرعون من الأسرة الثامنة عشرة، فيجب علينا للعثور على زمن الدخول، أن نتعمق في التاريخ قبلها بما يزيد على أربعة قرون كاملة.
ولو اعتمدت حساباتنا على معطيات المقدس تلك، فيجب أن يكون الإسرائيليون قد دخلوا مصر حوالي 1855ق.م. أي زمن الدولة الوسطى، وبالتحديد بعد حكم الفرعون سنوسرت الثاني 1906-1887ق.م. قبل دخول الهكسوس مصر بحوالي قرنين وربع القرن من الزمان. وهو ما أخذ به باحثون مثل إيمانويل فليكوفسكي في كتابه «عصور في فوضى». ولو أخذنا بتقديرات التوراة الزمنية، وذهبنا مع أبعد الافتراضات البحثية لزمن الخروج - لكنه أضعفها - بالعودة إلى أيام الفرعونة حتشبسوت 1490-1480ق.م. فإن الدخول يكون قد حدث حوالي 1950ق.م. وهو زمن سنوسرت الأول الذي حكم في الدولة الوسطى حوالي 1980-1935ق.م. ولو أخذنا بتزمين الخروج زمن مرنبتاح بن رمسيس الثاني في الأسرة التاسعة عشرة، فسيكون الدخول قد حدث كما أسلفنا حوالي 1224 + 430 = 1654ق.م. بعد احتلال الهكسوس لمصر بعقد أو عقدين من الزمان، أو يكون بنو إسرائيل هم ذات عين الهكسوس، وهو ما قاله المؤرخ الإغريقي يوسفينوس، وهو القول الذي يستبعده المؤرخون، بعد الكشوف التي تراكمت، لتفتح الباب لفروض أخرى بعيدة عن فرض يوسفيوس. وبشأن ذلك يلخص روبنسون موقف علم التاريخ من رأي يوسفيوس، فيقول روبنسون: «يرى يوسفيوس أن قصة الخروج هي الرواية العبرية لحوادث الهكسوس، وأخذ البعض برأيه أحيانا ، بيد أن اختلاف التواريخ يبلغ من الكثرة حدا لا يجوز معه أن نقول بأن هذه الحادثة هي عين تلك؛ لأن مائتي سنة على الأقل قد انقضت بين إجلاء الهكسوس وبين فتح العبريين فلسطين.»
30
إلا أن وجه الإشكال الحقيقي في كل هذا، أن تزمينات التوراة نفسها يشوبها شك كبير، سواء في تقدير الزمن ما بين الخروج وحتى قيام الدولة السليمانية وهو 480 سنة، أو زمن البقاء في مصر وهو 430 سنة. أما مأساة أي باحث هنا فإن كليهما ضرورة أساسية لتحديد زمن الدخول والخروج، وليس لدينا أية مصادر أخرى بديلة غير التوراة بهذا الشأن.
وقد تكررت شهادات التوراة التزمينية بهذا الصدد، فهناك نص يتحدث فيه الرب مع صديقه إبراهيم، يقول له فيه:
اعلم يقينا أن نسلك سيكون غريبا في أرض ليست لهم، ويستعبدون لهم فيذلونهم أربعمائة سنة. (تكوين، 15: 13)
والتعبير في النسخة العبرية «ودور ربيعى يشبوا هنا»، يعني أنهم في الجيل الرابع يرجعون إلى هنا، وهو ما يطابقه قول آخر بالتوراة، وهو أن بني إسرائيل عندما دخلوا مصر تناسلوا هناك لأربعة أجيال فقط، ثم خرجوا من مصر، فهي ترصد سلالة النبي موسى لتعيده إلى جده السبط لاوي شقيق السبط يوسف؛ إذ أنجب لاوي قهات، وأنجب قهات عمران، وأنجب عمران موسى، وموسى خرج بالإسرائيليين من مصر (؟!)، ويبدو أن حسبة سنوات بقائهم بمصر، قد تمت وفق قائمة أعمار هؤلاء الأشخاص الواردة بالتوراة، حيث قالت إن لاوي عاش 137 سنة، وقهات 133 سنة، وعمران/عمرام/عمران عاش 137 سنة (خروج، 6: 16-20)، وموسى عاش 120 سنة، فيكون المجموع 527 سنة. وبخصم المدة التي قضاها لاوي في فلسطين قبل نزوله مصر على أخيه يوسف وهي 57 سنة، ثم إضافة المدة التي عاشها موسى بعد الخروج وهي أربعون سنة؛ إذ خرج وعمره ثمانون سنة (خروج، 7: 7)، يصبح المجموع 97 سنة، تطرح من 527 سنة، فتكون النتيجة 430 سنة، وهو الزمن الذي حددته التوراة المازونية لوجود الإسرائيليين بمصر.
وحتى لو أخذنا جدلا بتلك الأعمار الأسطورية البعيدة عن أي واقع حقيقي، فسيكون معنى ذلك أن كل واحد من هذه الأجيال قد أنجب ابنه في آخر يوم من حياته، وهي بحد ذاتها استحالة أخرى مضحكة وتلفيق واضح. أما الأزمة الكبرى هنا فستكون في محاولة الإجابة على السؤال: كيف أمكن لهذه الأجيال الأربعة فقط، أن تنجب ذلك العدد الهائل من الخارجين، والذي حددته التوراة في قولها:
فارتحل بنو إسرائيل من رعمسيس إلى سكوت نحو ستمائة ألف ماش من الرجال عدا الأولاد. (خروج، 12: 37)
وإذا أضفنا إلى ذلك الرقم الهائل عدد الأولاد والنساء بافتراض امرأة وطفلين لكل رجل، فسيصل الرقم إلى المليونين والنصف مليون مع التحفظ والتواضع في حساب عدد أفراد الأسر الخارجة من مصر، وهو رقم خيالي إلى حد بعيد، وربما لا يتطابق إلا مع فكرة يوسفيوس أنهم كانوا ذات عين الهكسوس، تلك الفكرة التي استبعدها علم التاريخ الحديث تماما.
وهكذا تضعنا التوراة وسط أحبولة من المتاهات، ناهيك عن الشرك الأعظم، فحيث تقول النسخة المازورية العبرية إن بقاءهم في مصر كان لمدة 430 عاما، فإن النسخة السبعونية اليونانية «سبتواجت» تقول في ذات الموضع من ذات السفر، إنهم بقوا هناك 215 سنة فقط؛ أي نصف المدة بالضبط، لتجعل اللغز يستعصي تماما ويستغلق؟! فهل ثمة حل؟ علينا هنا إعادة ترتيب المعطيات التي يمكن أن تساعدنا على إمساك مفاتيح الحل، لتحديد موعد دخول بني إسرائيل مصر أولا، وفي زمن أي فرعون تحديدا؟
أولا:
يصعب كما قلنا آنفا تصور فرعون مصري يهدي راعيا بدويا مثل إبراهيم جارية مصرية، وانتهينا إلى أن إبراهيم قد دخل مصر ضيفا على أحلافه أو ذوي قرابته، خاصة أنه بعدما خرج من مصر نزل في طريقه إلى فلسطين ضيفا على المملكة الفلسطينية جرار. وقد علمنا أن هذا التواجد الفلسطيني المبكر قد حدث بفعل تهجير إمبراطورية الهكسوس للشعوب التي كانت تخضع لها، ومن هنا نرجح أن يكون إبراهيم قد دخل مصر زمن حكم الهكسوس. وبحسابات الأجيال بينه وبين يوسف عبر إسحاق ثم يعقوب، يمكن ترجيح أن يكون إبراهيم قد دخل مصر زائرا زمن ملك الهكسوس بنون، المعروف باسم سكا أو إسحاق أو الضحاك كما استنتجنا، أو ربما زمن الملك التالي له مباشرة «أبوفيس الأول/أبخنان/أبو الغنم» في أبعد تقدير.
ثانيا:
أن يوسف عندما دخل مصر كان سلاح العجلات التي تجرها الخيل معروفا هناك، أو على الأقل في القصر الحاكم ومحيطه. ونحن نعلم الآن يقينا أن ذلك السلاح والخيل نفسها، لم تعرفهما مصر إلا مع مجيء الهكسوس إليها، مما يعني أن يوسف قد دخل مصر زمن الهكسوس، أو بعد زمنهم حيث تكاثرت العجلات والخيل في مصر زمن الدولة الحديثة الفرعونية. وفي التوراة نصوص كثيرة تؤكد وجود العجلات في مصر زمن يوسف منها مثلا:
فقال فرعون ليوسف: خذوا لكم من أرض مصر عجلات لأولادكم ونسائكم واحملوا أباكم وتعالوا، ولا تحزن عيونكم على أثاثكم؛ لأن خيرات جميع أرض مصر لكم. ففعل بنو إسرائيل هكذا، وأعطاهم يوسف عجلات بحسب أمر فرعون. فصعدوا من مصر وجاءوا إلى أرض كنعان إلى يعقوب أبيهم، وأبصر العجلات التي أرسلها يوسف لتحمله. (تكوين، 45: 17، 19، 21، 25، 27)
ثالثا:
أن يوسف تم تعيينه على خزانة المصريين بأمر فرعون الحاكم، وأنه قام إبان سنوات القحط بشراء الأراضي المصرية من أهلها لصالح الفرعون، كذلك شراء حيوانات المنزل والحقل، كذلك اشترى يوسف المصريين أنفسهم ليحولهم إلى عبيد للفرعون، مما يعني نظاما جديدا تماما مخالفا للنظام السابق، وظل معمولا بهذا النظام الجديد فترة طويلة بعد طرد الهكسوس من مصر حتى تم الغاؤه، ونسب اليونان هذا الإلغاء إلى الفرعون المعروف عند اليونان باسم سيزوستريس، وأعاد توزيع الأراضي على الفلاحين، أي إن الحدث جميعه يجب أن يقع إبان زمن حكم الهكسوس لمصر أو بعده.
رابعا:
أن يوسف عندما استدعى أباه وإخوته وبقية أهل بيته إلى مصر، أخذ عربته الحربية وأسرع لاستقبالهم على الحدود، وأن ذلك السفر من مقر إقامة يوسف بالقصر الحاكم إلى الحدود المصرية مع سيناء، قد استغرق يوما واحدا. وهو الأمر الذي يحدد لنا موقع العاصمة المصرية آنذاك؛ إذ لا بد أن تقع في تلك الحال على الأطراف الشرقية للدلتا في محيط محافظة الشرقية الحالية، في نقطة ما قرب مدينة الزقازيق؛ لأننا نعلم أن عاصمة مصر زمن الدولة القديمة كانت منف، ثم انتقلت جنوبا إلى طيبة/الأقصر/واست/زمن الدولة الوسطى، في أقصى جنوب مصر. ولم تتحول العاصمة إلى الشمال إلا مع غزو الهكسوس الذين سكنوا مدينة حواريس، على الحدود الشرقية للدلتا المصرية، حتى يمكنهم إحكام الاتصال مع بقية الإمبراطورية بالتواجد قرب خطوط المواصلات الدولية. وقد انتقلت العاصمة فور طرد الهكسوس، لتعود إلى طيبة «الأقصر» مرة أخرى، ولم تقم مدن كبرى في الشمال بعد ذلك إلا ابتداء من زمن الرعامسة، وكانت المدينة التي أنشئوها باسم رعمسيس قد بنيت على تلول أطلال مدينة حواريس الهكسوسية، فقط كمقر صيفي لملوك الأسرة التاسعة عشر وليس كعاصمة. ولما كان من المستحيل زمنيا دخول يوسف وأهله زمن الرعامسة، فلا بد في هذه الحال أن يكون قد دخل مصر زمن الهكسوس؛ لأنه الزمن الوحيد الذي يتيح وجود القصر الحاكم على مسافة يوم من الحدود السينائية، وفي زمن كانت مصر قد عرفت فيه العجلات التي تجرها الخيول.
خامسا:
في الذكريات العربية القديمة التي أورد القرآن طرفا منها، نجد الآيات تتحدث دوما عن ملك مصر باسم الفرعون، إلا زمن يوسف وحده فقط. فهي تتحدث عن حاكم مصر بلفظ الملك، وتختفي تماما كلمة فرعون في قصة يوسف القرآنية، وتظهر إلى جوار شخصية الملك شخصية أخرى باسم العزيز، وهي تسمية سامية كما هو واضح، وأنه هو الذي اشترى يوسف. مما يشير إلى أن رئيس الشرطة (العزيز) كان ساميا وليس مصريا، رغم أن التوراة تذكره باسم مصري واضح هو «فوطي فارع»، وربما تسمى رئيس الشرطة الهكسوسي باسم مصري على عادة سادته الهكسوس، حيث حمل حكام الهكسوس ألقابا ملكية مصرية. إلا أن اللافت للنظر هنا تطابق اسم «عزيز» مع اسم حاكم الهكسوس الأخير «أسيس»، مما يشير إلى بعض الخلط، وأن الأصل الصحيح ربما كان يشير في الصيغة السامية للملك نفسه باسم العزيز. وهو ما يتفق إلى حد التكامل مع رواية الكتاب المقدس، حيث نفهم من تلك القصة أن هناك تغيرا هائلا قد حدث في الهيئة المصرية الحاكمة آخر أيام يوسف، وأن هذا التغيير جاء بحكومة لا تعرف يوسف ولا أهله، كما نفهم أن يوسف وأهله قد تحولوا، من سادة مترفين ورؤساء مقربين من القصر الحاكم، إلى أسرى وعبيد، كما في النص:
ثم قام ملك جديد على مصر لم يكن يعرف يوسف، فقال لشعبه هوذا بنو إسرائيل شعب أكثر وأعظم منا، هلم نحتال لهم لئلا ينموا، فيكون إذا حدثت حرب، أنهم ينضمون إلى أعدائنا ويحاربوننا ويصعدون من الأرض، فجعلوا عليهم رؤساء تسخير؛ لكي يذلوهم بأثقالهم، فبنوا لفرعون مدينتي مخازن فيثوم ورعمسيس. (خروج، 1: 8-11)
وهو الأمر الذي يشير إلى متغير عظيم، يفسر الأحداث التي سردتها التوراة وهي تفسره بدورها، حيث يمكن أن نفهم أن الحكام الجدد لم يكونوا من سكان المنطقة الشمالية، التي سكنها الملوك وأتباعهم الإسرائيليون في شرقي الدلتا، بحيث إنه لم يكن بإمكانهم معرفة قيمة يوسف وأهله. بل على العكس تماما، كانوا يحملون لهم ضغينة شديدة، إلى حد أنهم كانوا يشكون في ولائهم إلى حد توقع تحالفهم مع أعداء البلاد. كما أن هؤلاء الملوك الجدد كانوا حريصين على عدم ترك هؤلاء الضيوف الثقلاء يغادرون مصر، مما يعني أنهم قد أصبحوا أسرى. وكانت البلاد بحاجة إلى الخدمات الرخيصة لمثل هؤلاء العبيد في بناء مدن جديدة، منها مدينة رعمسيس بالتحديد التي انتهينا إلى أنها في الأصل، كانت مقرا للهكسوس باسم حواريس، مما يعني أنه قد تم تدميرها في حرب التحرير، وأصبحت بحاجة للإصلاح والبناء من جديد. إن ما حدث في تلك اللحظة التاريخية التي تسوقها التوراة على عجالة، يشير إلى آخر زمن لآخر ملك هكسوسي، وإلى قيام حرب التحرير وطرد الهكسوس من مصر، وأسر بعضهم ومن لحق بهم للقيام بأعمال البناء الشاقة، وهو الأمر الذي لا شك يقع زمن فرعون التحرير الملك المظفر «أحمس».
سادسا:
بينما نفهم من القصة التوراتية أن يوسف، قد عاش في القصر الملكي الواقع بمنطقة باسم جاسان شرقي الدلتا، وأن أهله قد اشتغلوا في مراعي الملك المصري وضياعه، نجد الأمر يختلف تماما زمن الحفيد موسى. وإليك النصوص التي توضح هذا الأمر، يقول النص حاكيا لحظة وصول أهل يوسف إلى مصر:
ثم جاءوا إلى أرض جاسان، فشد يوسف مركبته وصعد لاستقبال إسرائيل أبيه، إلى جاسان. ولما ظهر له وقع على عنقه، وبكى على عنقه زمانا. ثم قال يوسف لإخوته ولبيت أبيه: أصعد وأخبر فرعون، وأقول له: إخوتي وبيت أبي الذين في أرض كنعان قد جاءوا إلي، والرجال رعاة غنم، فإنهم كانوا أهل مواشي، وقد جاءوا بغنمهم وبقرهم وكل ما لهم، فيكون إذا دعاكم فرعون وقال: ما صناعتكم؟ أن تقولوا: عبيدك أهل مواشي منذ صبانا إلى الآن، نحن وآباؤنا جميعا، لكي تسكنوا في أرض جاسان؛ لأن كل راعي غنم رجس للمصريين. فأتى يوسف وأخبر فرعون وقال: أبي وإخوتي وغنمهم وبقرهم وكل ما لهم، جاءوا من أرض كنعان وهوذا هم في أرض جاسان، وأخذوا من جملة إخوته خمسة وأوقفهم أمام الفرعون، فقال فرعون لإخوته: ما صناعتكم؟ فقالوا لفرعون: عبيدك رعاة غنم وآباؤنا جميعا، وقالوا لفرعون: جئنا لنتغرب في الأرض، إذ ليس لغنم عبيدك مرعى؛ لأن الجوع شديد في أرض كنعان، فالآن ليسكن عبيدك في أرض جاسان، فكلم فرعون يوسف قائلا: أبوك وإخوتك جاءوا إليك، أرض مصر قدامك، في أفضل الأرض أسكن أباك وإخوتك، ليسكنوا في أرض جاسان، وإن علمت أنه يوجد بينهم ذوو قدرة، فاجعلهم رؤساء مواشي على التي لي. فأسكن يوسف أباه وإخوته، وأعطاهم ملكا في أرض مصر في أفضل الأرض، في أرض رعمسيس كما أمر فرعون. (تكوين، 46: 28-29، 31-34، 47: 1-6، 11)
إن كاتب هذا النص، كان يعلم أن مقر القصر الحاكم يقع في أرض جاسان، وأن المدينة الإدارية للحكم هي التي أصبحت تعرف فيما بعد باسم مدينة «رعمسيس»، أما اللافت للنظر فهو إصرار يوسف على تنبيه أهله أن يخبروا الفرعون أنهم رعاة غنم، والغنم والماعز معا يطلق عليها «عنز» و«معز». إن هذا الإصرار لا شك يحمل معنى يجعل أصحاب هذا المعز، محل اطمئنان وثقة الفرعون إن علم به، وأنه إذا علم بذلك فسيسكنهم بقربه وهو ما حدث بالفعل، حيث أقطعهم أرضا يملكونها في مقاطعة جاسان، بل وجعلهم المسئولين عن رعاية ما يملك هو من «عنز». ثم ما لا يجب أن يفوت العين الفاحصة هنا، أن جاسان هذه كان لا يسكنها مصريون حينذاك، إنما عنصر آخر يكرهه المصريون، عنصر بدوي عنزي؛ فقد أكدوا للفرعون أنهم أهل عنز، «لكي تسكنوا أرض جاسان؛ لأن كل راعي غنم رجس عند المصريين»، وهو ما يشير إلى تباعد واضح في مواضع السكنى بين الرعاة الأنجاس وبين المصريين من أهل البلاد، كما يشير أيضا إلى أن أرض جاسان جميعا كانت موئلا للرعاة، حتى تصلح لسكنى الملك وقومه ويوسف وقومه دون المصريين. لقد كان الملك بدوره من الرعاة. أما المبهر فهو أن تكون جاسان، وهي مسكن البدو المكروهين من المصريين مقرا للقصر الحاكم، وأن يصر يوسف على تنبيه أهله البدو إبراز صناعتهم (الرعي)؛ كي يتمكنوا من السكن قرب قصر الفرعون.
ويبدو أيضا أن المصريين كانوا لا يأتون إلى جاسان إلا زوارا، سفراء، أو علماء تجاريين، لا نعلم، لكنه ما يتضح من نص آخر عندما حان موعد اشتراك إخوة يوسف في مأدبة طعام أقيمت للضيوف، حيث يقول النص:
وقال «يوسف»: قدموا طعاما، فقدموا له وحده، ولهم (إخوته) وحدهم، وللمصريين الآكلين عنده وحدهم؛ لأن المصريين لا يقدرون أن يأكلوا طعاما مع العبرانيين؛ لأنه رجس عند المصريين. (تكوين، 43: 31، 32)
أما زمن «موسى» بعد يوسف بثلاثة أجيال، فإننا بالتدقيق نستطيع أن نفهم أن الوضع ما زال كما هو، فالإسرائيليون يعيشون في «رعمسيس»، ولم تزل جاسان منطقة معزولة بأهل العنز عن المصريين أهل الزرع، اللهم إلا زوارا مصريين من هنا أو هناك، مشرفين وإداريين أو جنودا يشرفون على أعمال البناء، لكننا نلحظ في الوقت ذاته أن رعمسيس في جاسان لم تعد مقرا للقصر الحاكم في زمن موسى، وهو ما يتضح في أسطورة الضربات التي وجهها إله الإسرائيليين يهوه إلى بلاد مصر، فكانت تصيب المصريين وتصيب البلاط المالك ولا تصيب الإسرائيليين، مما يعني أن مقر البلاط قد أصبح حينذاك بعيدا عن جاسان، حيث يعيش الإسرائيليون ليتعرض هو للضربات، بينما لا يتعرض لها الإسرائيليون، وهو ما تفصح به نصوص تقول:
ثم قال الرب لموسى: بكر في الصباح وقف أمام فرعون، إنه يخرج إلى الماء، وقل له هكذا: يقول الرب أطلق شعبي ليعبدوني، فإنه إن كنت لا تطلق شعبي، ها أنا أرسل عليك وعلى عبيدك وعلى شعبك وعلى بيوتك الذبان، فتمتلئ بيوت المصريين ذبانا، وأيضا الأرض التي هم عليها، ولكن أميز في ذلك اليوم أرض جاسان حيث شعبي مقيم، حتى لا يكون هناك ذبان، لكي تعلم أني أنا الرب في الأرض، وأجعل فرقا بين شعبي وشعبك. غدا تكون هذه الآية، ففعل الرب هكذا، فدخلت ذبان كثيرة إلى بيوت فرعون وبيوت عبيده وفي كل أرض مصر، خربت الأرض من الذبان. (خروج، 8: 20-24)
ونموذجا آخر في ضربة البرد والنار:
ثم قال الرب لموسى: مد يدك نحو السماء ليكون برد، في كل أرض مصر، على الناس وعلى البهائم وعلى كل عشب الحقل في أرض مصر، فمد موسى عصاه نحو السماء فأعطى الرب رعودا وبردا، وجرت نار على الأرض، وأمطر الرب بردا على أرض مصر، فكان برد ونار متواصلة في وسط البرد، شيء عظيم جدا لم يكن مثله في كل أرض مصر منذ صارت أمه، فضرب البرد في كل أرض مصر، جميع ما في الحقل من الناس والبهائم، وضرب البرد جميع عشب الحقل، وكسر جميع شجر الحقل، إلا أرض جاسان، حيث كان بنو إسرائيل، فلم يكن فيها برد. (خروج، 9: 22-26)
كذلك في ضربة الظلام:
ثم قال الرب لموسى: مد يدك نحو السماء ليكون ظلام على أرض مصر، حتى يلمس الظلام، فمد موسى يده نحو السماء، فكان ظلام دامس في كل أرض مصر ثلاثة أيام، لم يبصر أحد أخاه ولا قام أحد من مكانه ثلاثة أيام، ولكن جميع بني إسرائيل كان لهم نور في مساكنهم. (خروج، 10: 21-23)
وهذا بالطبع لا يعني وقوع تلك الضربات التوراتية الإعجازية، وجل ما يعنيه أن الكاتب التوراتي والذاكرة الحافظة، كانت تعلم أن البلاط المصري قد انتقل من رعمسيس جاسان إلى العمق المصري.
وإعمالا لكل هذا، فإن إشارات التوراة التي تؤكد أن يوسف قد دخل هو وآله إلى مصر، وسكنوا رعمسيس بأرض جاسان إلى جوار قصر الفرعون، فإن ذات الإشارات تؤكد أن هذا الوضع قد تغير آخر أيام يوسف، وما تلاه من سنين حتى زمن موسى، حيث انتقل القصر المالك ليكون وسط المصريين، وبعيدا عن الإسرائيليين، وتحيق به الضربات التي كان ينزلها رب إسرائيل بالمصريين، بينما لا تصيب إلا الإسرائيليين. مما يعني أن كاتب تلك الأسطورة، كان يعلم أن القصر الملكي حينذاك، قد كان في عمق الأراضي المصرية، بعيدا عن جاسان التي لم تلحقها تلك الضربات. إن الأمر يشي بكل وضوح أن يوسف وآله قد دخلوا مصر على سادتها آنذاك من الهكسوس، وكان ذلك تحديدا زمن آخر ملك هكسوسي هو أسيس، وهو ما يلتقي بلقبه القرآني العزيز، الملقب مصريا باللقب أبوفيس أي الحية التنين، وكانت عاصمته حواريس عند الشرقية في أرض جاسان أو غسان. وبمجرد أن ينتهي عصر أسيس، حتى يظهر لنا في التوراة ملوك، بل وحكومة بل واتجاه عام جديد تماما، يتحول معه يوسف وأهله من أصحاب ضياع ورئاسة مكرمين، إلى عبيد في الأعمال الشاقة مسخرين. وتنتقل العاصمة مع هذا التحول بعيدا إلى طيبة جنوب مصر مرة أخرى.
لكن يبقى أمر لا يصح المرور عليه هكذا، دون وقفة تحاول فهم تفصيلات ما حدث، وهو قصة السنوات السبع العجاف. ومعلوم يقينا أن النيل أبدا لا يسير على الوتيرة، التي صورتها القصة التوراتية، فهو لا يستمر سنوات سبعا دون فيضان أبدا، لكننا نعلم يقينا أن قصة السنوات العجاف، كانت تنتشر في البلاد الفلسطينية والشامية عموما، حيث كان بالإمكان حدوث متغيرات مناخية، تؤدي إلى ندرة الأمطار لسنوات متتابعة. أما النيل فلم يحدث أن جاء منخفضا إلى حد المجاعة، لعدد من السنوات المتتالية المحددة بالرقم المقدس عند الساميين «سبعة».
هنا نستعين بالتمرين المدرسي للتلميذ المصري الصغير بيتاعور أو بنتاأور، الذي كان يدبج موضوعا في التعبير الإنشائي، عن أول فرعون قادة ثورة التحرير ضد الهكسوس، وهو الفرعون «سقنن رع»، زمن آخر حكام الهكسوس أسيس الملقب «أبوفيس»، ونتذكر كلماته وهو يقول:
حدث أن أرض مصر كانت في جانحة شنعاء، ولم يكن للبلاد حاكم يعد ملكا في هذا الوقت، وقد حدث أن الفرعون سقنن رع، كان حاكما على المدينة الجنوبية (طيبة [المؤلف])، لكن الجائحة الشنعاء كانت في بلد العامو (حواريس [المؤلف])،
31
فماذا يعني بالجائحة الشنعاء؟ ليس لدينا أي خبر عنها سوى تلك العبارة، لكن التاريخ المقدس يمكنه أن يفسر لنا تلك الجائحة الشنعاء، التي حدثت في منطقة العامو/الهكسوس. فلا شك أنها كانت تعني ذلك الجفاف الذي سمي «سنوات سبع عجاف». لكن التلميذ وهو يكتب موضوعه الاختباري، كان حريصا على الحصول على درجات متميزة؛ لذلك لم تفته بعض دقائق الموقف، فأكد أن تلك الجائحة كانت في بلد العامو «حواريس»، حيث يحكم أبوفيس، بينما لم تنل من المصريين المتحصنين عند طيبة بقيادة سقنن رع شيئا. فكيف نفسر جفافا في الشمال وخصبا رغيدا في الجنوب؟
هنا نعيد قراءة رسالة الملك أسيس الملقب بلقب «أبوفيس الثالث»، يستفز فيها الفرعون المصري ملك طيبة «سقنن رع تاعا»، ويقول له: «إن الملك أبوفيس يطلب منك أن تأمر فرس النهر ليهجر بحيرته، التي تقع في ينبوع المدينة الجاري؛ لأنه لا يسمح للنوم أن يغشى عينيه ليلا ولا نهارا؛ لأن صياحه يطن في أذنيه باستمرار.»
32
ولطالما ظلت تلك الرسالة تحتمل عددا من التفاسير، التي تجمع على أنها لون من الألغاز، التي كانت عادة يتبادلها ملوك العالم القديم، وتحمل دلالات أعمق من الظاهر، فما هي رمزية أفراس النهر هنا وضجيجها؟! قيل هو ضجيج السلاح والعسكر والتهيؤ للثورة على الهكسوس، وهو ما لم يرض الملك الهكسوسي، فأرسل بتلك الرسالة المنذرة، لكن علام ترمز البحيرة؟ وليس في طيبة بحيرات! هناك النيل، فمتى نشأت تلك البحيرة؟ والرسالة تقول إن البحيرة تقع في ينبوع المدينة، وهناك نيل لا ينابيع؛ فالحديث إذن عن بحيرة تكونت بفعل النيل، فكيف كان ذلك؟ ويدعم مثل تلك التخريجات ما جاء بعد ذلك في النص، الذي يحكي عن الملك سقنن رع، بعد أن قرأ رسالة أبو فيس: «هنا صمت أمير المدينة الجنوبية، ولم يستطع أن يجيب على رسالة الملك أبوفيس، وقد تعجب كيف عرف أبوفيس عن البحيرة، التي في ينبوع المدينة الجاري؟» يعقب هنا محمد حماد فيقول: «يظهر أن فرس النهر الذي في البحيرة، التي في ينبوع المدينة الجاري، ترمز إلى خطة بحرية، يدبرها الملك المصري لمقاومة الهكسوس، مما أزعج ملكهم، أو أن ملك الهكسوس أبوفيس، قد فطن إلى محاولة أمير الجنوب مماطلته للاستعداد؛ لذلك فقد باغته بالهجوم عليه بجيشه.»
33
وانتهت هذه المعركة بمقتل سقنن رع المصري، لكنها كانت فاتحة حروب التحرير المصرية ضد الهكسوس، التي سيتكملها أبناؤه من بعد: كامس وأحمس، ويبقى التساؤل: ما هي تلك الخطة البحرية، خطة يستخدم فيها الماء في الحرب، وتنشأ عنه بحيرة لم تكن موجودة قبل ذلك، وأن تلك الخطة كانت محاطة بالتكتم والسرية، وهو ما يشير إليه تساؤل سقننر ع: كيف عرف ملك الهكسوس بوجودها؟
نظننا وجدنا الإجابة في أكثر من حادثة في تاريخ مصر القديمة، تشير إلى استخدام النيل كوسيلة في إلحاق الخسائر بالخصوم، فإبان العصر المتوسط الأول، وانقسام مصر لأقاليم، حكم على إقليم مصر الوسطى «أهناسيا» الفرعون «خيتي»، الذي عمل على إعادة توحيد مصر مرة أخرى، وإبان ذلك حدثت عدة حروب طاحنة لإعادة الدلتا لمصر الموحدة، وضمن تلك الحروب كانت معركته ضد مدينة (إتريب/بنها الحالية)، ولدينا نص بأمر موجه من الملك خيتي بهذا الشأن، يقول:
أقم سدا ضد نصف البلاد، واغمر النصف الثاني بالمياه، بما في ذلك مدينة أتريب.
ويعقب سليم حسن هنا قائلا إن: «هذه الجملة مع إيجازها لها أهمية استثنائية؛ إذ تبرهن لنا أن كل المدن في الدلتا، كانت تتوقف حياتها على النيل.» ثم يشرح بأن مدينة إهناسيا حاضرة الملك خيتي، قد أقامت ضد أتريب سدا في النيل لإخضاعها، «وهذا السد طبعا يكون في عرض النهر، لأجل وقف الملاحة، ولإجبار المدينة المناهضة على التسليم والخضوع .» وذلك يفسر لنا النص الفرعوني الذي يصف الفرعون بأنه: «يمنع المدن من أن تثور؛ لأنه سيد النيل، وأنه بإرادته يمكنه أن يأتي بالنيل، أو لا يأتي إلى مدن الدلتا.»
34
ثم نجد هيرودوت يحكي لنا عن ذلك الأسلوب في تحويل مجرى نهر النيل، في زمن فرعون آخر لكن لأسباب أخرى، فيقول:
قال لي الكهنة: إن أول ملوك مصر مينا، وإنه هو الذي أقام الجسر، الذي يقي مدينة ممفيس خطر فيضان النيل؛ فقد كان قبل عهده يفيض على طول سلسلة من التلال الرملية، التي تحد مصر من ناحية ليبيا، فصنع سدا وسط النيل، عند المنحنى الذي يكونه النهر جنوبي ممفيس بحوالي مائة فورلنج. وبذا جفف مجراه القديم، وفي نفس الوقت حفر له طريقا جديدا، في منتصف المسافة بين صفي التلال.
35
إن الخطة البحرية التي أنشأت بحيرة جديدة في الجنوب، وأقض صوت الثوار فيها مضجع الملك الهكسوسي، فشبههم بأفراس النهر لطول عملهم في الماء، كانت بالضبط تحويل مجرى نهر النيل. ويأتينا التفسير من الفرعون كامس ثاني فراعنة التحرير، وهو يعبر عن سخطه من المحتلين ويقول:
إلى أي مدى أدرك كنه قوتي هذه؟ عندما أرى حاكما جالسا في أواريس وآخر في بلاد كوش، وأنا أجلس مشتركا مع رجل من العامو وزنجي، وكل رجل منهما مسئول عن جزئه من مصر هذه؟ إن ذلك الذي يقاسمني الأرض، لن أجعله يمر في ماء مصر حتى منف؟
36 «كامس» هنا يضيء أمامنا تفسيرا موضوعيا تماما للسنوات العجاف في الشمال. لقد كان هو نموذج «مينا» في قصة «هيرودوت»، أو أنه كرر ما فعله سلفه العظيم، ليمنع الهكسوس حتى من استخدام السفن النيلية، وأنها لن تتمكن من الوصول من حواريس في شرق الدلتا إلى منف «لن أجعله يمر في ماء مصر حتى منف.» لقد سد الفرعون نيل مصر من الجنوب، وكان منع الماء جائحة شنعاء متعددة الوجوه، فهو إذا كان سيؤدي إلى مجاعة في الشمال، فإنه سيعوق هبوط سفن الهكسوس العسكرية جنوبا، وكان أحدث استخدام مصري للنيل في العمل العسكري في حملة الملك لويس الصليبية، حيث تمت هزيمته وأسره في المنصورة .
ولأن مسألة «سبع سنوات عجاف» كانت غير مقبولة مع وجود النيل العظيم، فقد جرت محاولات عدة لتفسير ذلك الأمر، وآخر ما سمعته في الإذاعة العربية من راديو لندن
B.B.C
يوم الجمعة 9 / 2 / 1996م في برنامج دنيا العلوم، عندما أجرت مقدمة البرنامج حوارا مع العالم «كولن همفرس» البروفيسور بجامعة كمبردج، لتسمع اكتشافه لتفسير قصة السنوات العجاف، حيث أكد أن النيل لا يتوقف أبدا سبع سنين، ثم رأى أن المجاعة قد شملت بلادا أخرى مثل كنعان، بدليل رحيل أبناء يعقوب إلى مصر للحصول على الطعام قادمين من كنعان؛ لذلك قدم تفسيره لتلك المجاعات بانفجار بركان سانتوريني بجزيرة ثيرا في المتوسط، وهو انفجار عظيم أدى إلى انتشار المطر الحامضي الذي يحمل حمض الكبريت، مما أوقف الأشجار عن النمو في مساحة كبرى وصلت إلى أمريكا، حيث ارتفعت اللافا 36كم في الجو، وكان بذلك كارثة عالمية، بدليل رحيل أبناء يعقوب إلى مصر للحصول على طعام، وإن دراسة كولن همفرس ترجح دوام تأثير البركان الذي حدث في المتوسط لمدة تصل إلى سبعة سنوات، وأنه قد تم تحديد أثره بدراسة حلقات أشجار البلوط.
وقبل همفرس كان «سبيريدون مارينا توس» ينقب في ميناء قريب من ميناء كونسوس، فاكتشف حفرة مليئة بالخفاف البركاني، كما اكتشف دلائل على أن أمواجا عاتية طغت على الموقع، واكتسحت في تراجعها أشياء ضخمة من أماكنها الأصلية. وأعرب مارينا توس عن اعتقاده بأن انهيار كريت لم يكن بسبب غزاة أتوها من الخارج كما يعتقد معظم المؤرخين، إنما إلى كارثة طبيعية عنيفة حلت بالجزيرة. وأشار إلى احتمال أن يكون مصدر هذا الخراب، هو الجزيرة البركانية الصغيرة المسماة ثيرا، والتي تبعد 75 ميلا شمال كريت. وكانت ثيرا في الماضي مستديرة الشكل يبلغ محيطها حوالي أحد عشر ميلا. أما حاليا فهي ممزقة إلى ثلاث قطع تلمحها من الجو كيف كانت واحدة مستديرة. ويتوسط الجزر الثلاث قبة سوداء تعلوها فوهة بركان. ويقول محمد العزب موسى في حديثه عن غرائب العالم القديم: إن هذا البركان كان أقوى انفجار بركاني عرفه العالم. وكي نعلم مدى ضخامة الحدث، فإنه يقارنه بحدث مشابه لبركان من ذات النوع والمواصفات، هو بركان كراتوكا الذي وقع وتم تسجيل تفاصيله سنة 1883م. وضمن تلك التسجيلات أن غباره تساقط في دائرة نصف قطرها 800 ميل، وسمع صوت انفجاره في جزيرة رود ريجويز على بعد 3000 ميل، وارتفعت سحبه مسافة 50 ميلا، وحطمت الموجة الصوتية لانفجاره الجدران المعمارية لمسافة 100 ميل، ورفع البحر في موجة مد (تسونامي) دمرت 300 مدينة وقتلت 40000 شخص تحت الموج الذي اجتاح مدنهم. وقد وصل هذا المد إلى مسافة تبعد حوالي 7000 ميل، وظل الناس لعدة شهور في مختلف أنحاء العالم يرون الشمس تشرق خضراء ثم تتحول إلى زرقاء، ثم تغرب مصحوبة بوهج شديد يستمر فترة، وكذلك استمر شأن القمر لعدة شهور، نتيجة العالق من الغبار البركاني في الفضاء.
37
وبدراسة «همفرس» أمكن تحديد زمن البركان الذي حدث في جزيرة أثيرا حوالي عام 1628ق.م. وامتد أثره سبع سنوات، أي إنه انتهى حوالي عام 1621ق.م. وبالحسابات ستجد أن تقديرات البروفيسور «همفرس» ستلقي بنا إلى آخر أيام الهكسوس في مصر. وهو ما يعني أن شمال مصر في ذلك الحين (الدلتا)، قد أصابها من ذلك البركان نصيب عظيم، أدى إلى كارثة زراعية كبرى. فإذا كان ما قاله «همفرس» قد حدث بالفعل، فإن «سقنن رع» قد استثمر ذلك استثمارا عظيما بتحويل مجرى النهر، لتصبح الجائحة «شنعاء» بالفعل. أما أن يقوم المصريون جنوبا بسد مجرى النيل وتحويله، فكان أمرا لا يمكن إخفاؤه، وقد شعر به الهكسوس، وعرف «أسيس/عزيز» بما يحدث، ذلك الحدث الذي جاء ترميزا في أسطورة حلم البقرات والسنابل السبع، لقد عرف ما يحدث جنوبا، وأراد معالجة الأمر بمحاولة تخزين الحبوب للسنوات العجاف المقبلة.
هذا ما كان عن محاولتنا تزمين الدخول الإسرائيلي إلى مصر بزمن الهكسوس، أو بالأحرى زمن آخر ملوك الهكسوس عليها الملك «أسيس» ... فماذا عن الخروج؟
لو أخذنا بالتقديرات الحسابية التي قام بها فريق البحث الإنجليزي بقيادة البروفيسور كولن همفرس، والذي انتهى إلى توقيت بداية السنوات العجاف السبع بحوالي عام 1628ق.م. مما يعني أن نهايتها كانت حوالي عام 1621ق.م . وهو زمن قريب جدا من بداية حكم أحمس فرعون التحرير، ومؤسس الأسرة الثامنة عشرة والدولة الحديثة دولة الإمبراطورية، حيث حكم حوالي 1580ق.م. بفارق أربعين عاما فقط عن تقديرات هفمرس لسنوات العجف، مما يشير حسب خطتنا إلى أن تلك السنوات كانت آخر سنى الهكسوس بمصر، وربما كانت أربعون عاما رقما كبيرا بعض الشيء؛ فالحسابات لن تكون بمنتهى الدقة. وربما كان الفارق أقل من ذلك، وهو الزمن الذي استغرقته حرب التحرير. مرة أخرى، لو أخذنا بذلك التقدير 1621ق.م. لبداية حرب التحرير حسب فروضنا، وأن الأمور استقرت بطرد الهكسوس ونهاية الأسرة السابعة عشرة وبداية حكم الأسرة الثامنة عشرة المستقرة - خلال عشر سنوات مثلا - أي حوالي عام 1611ق.م. وكفرض تجريبي لمحاولة تزمين خروج بني إسرائيل من مصر، الذين تم أسرهم في مصر بعد طرد الهكسوس، سنقوم بطرح 430 سنة، وهو الزمن الذي حددته التوراة المازورية العبرية العربية لبقاء بني إسرائيل بمصر، من 1611ق.م. فتعطينا زمن 1181ق.م. وهو زمن حكم رمسيس الثالث الذي حكم 1198-1167ق.م.
وهي كما يرى قارئنا نتيجة خاطئة تماما، حيث كان الإسرائيليون حينذاك بفلسطين مستقرين فيها فعلا، إضافة إلى أنه لن يبقى لقيام مملكة سليمان سوى حوالي مائتي عام فقط، وهو ما يخالف تقرير التوراة حول الزمن الذي انصرم ما بين الخروج وبين بناء سليمان للهيكل، وهو 480 سنة كاملة، ولو حسبنا تلك المدة خصما من عام 1181ق.م. فسيكون الهيكل قد بني حوالي عام 700ق.م. وهو ما يخالف الزمن المفترض لحكم سليمان مخالفة شديدة، حيث اتفق على أنه كان زمن حكم الفرعون شيشنق الأول الذي حكم 945-924ق.م.
ولو افترضنا أن هناك خطأ في تزمين التوراة المازورية، وأخذنا بتزمين التوراة السبعونية لمدة بقاء بني إسرائيل بمصر، وهو 215 عاما، وأعدنا الحسابات مرة أخرى بطرح 215 عاما من 1611ق.م. فسيعطينا عام 1396ق.م. وهو زمن حكم الفرعون آمنحتب الثالث الذي حكم 1405-1367ق.م.
ونتذكر الآن ما سجله يوسفيوس نقلا عن العبقري المصري «مانيتو»، الذي حدد لنا زمن الخروج أيام فرعون باسم آمنوفيس/آمنحتب، دون أن يحدد لنا أي آمنحتب، خاصة أننا نعلم أن ابن آمنحتب الثالث المعروف باسم إخناتون، كان يحمل اسم آمنحتب الرابع، وتتطابق معه إلى حد مدهش صفات فرعون الخروج أمنوفيس، آمنحتب التي دونها لنا «يوسفيوس» نقلا عن «مانيتو»؛ فهو رجل لا يحب الحرب ويعتبرها عملا ضد الآلهة. وكانت تلك بالضبط جزءا أساسيا في العقيدة الآتونية الجديدة التي جاء بها «إخناتون»، وقد رفض الاستجابة لرسائل الاستغاثة، التي تأتيه من ولاته في أملاك مصر بآسيا، إعمالا لذلك المبدأ، حتى أضاع الإمبراطورية التي بناها أجداده. وإذا وضح الآن ميلنا إلى تزمين المؤرخ المصري الفذ «مانيتو» لخروج الإسرائيليين من مصر، فسوف تواجهنا هنا عدة عقبات، لعل أهمها تزمين التوراة المازورية للبقاء في مصر بمدة زمنية، هي الضعف بالضبط للمدة التي رصدتها السبعونية، حيث قالت: إن البقاء بمصر استمر 430 عاما، بينما أكدت السبعونية من جانبها أن هذا البقاء لم يزد عن 215 عاما، ومن ثم يحق للقارئ هنا أن يذهب بظنونه فينا مذهبا بعيدا يسلبنا العلمية، وهو يرانا ننتقي رأيا ونستبعد آخر دون إبداء أسباب واضحة لذلك، لكن الطريف في أمرنا هنا أننا إطلاقا لن نستبعد رأيا، بل سنأخذ بكلا التزمينين المازوري والسبعوني رغم تضاربهما، حيث هذا التضارب فيما كشفنا، كان تسجيلا حقيقيا لواقع قد حدث فعلا.
لقد كان الزمن الذي ساقته التوراة المازورية مثار انتقادات كثيرة من جانب، ومحاولات تلفيق توفيقية من جانب آخر، حيث لا يمكن تصور أن يستغرق أربعة أجيال من الإسرائيليين في مصر هذا الزمن الطويل، ناهيك عن أن كل منهم يكون قد أنجب ولده في اليوم الأخير من حياته، الطويلة جدا؛ قياسا على الأعمار المفترضة لبني الإنسان. ثم إننا لو أخذنا بهذا التزمين جدلا مع غض النظر عن عدد الأجيال، وافترضنا أن زمن الخروج كان آخر أيام حكم إخناتون/آمنحتب الرابع في تل العمارنة، أو بعد سقوطه بحوالي عشر سنوات 1340ق.م. ثم أضفنا 430 عاما، وهو تزمين التوراة المازورية لبقاء الإسرائيليين بمصر؛ فسيكون زمن الدخول هو عام 1770ق.م. لكن المفاجأة هنا في كون هذا التاريخ كان تاريخ دخول جافل الهكسوس إلى بلاد مصر القديمة واحتلالها، بالتحديد والتدقيق المبين دون فارق أو خطأ ولو بنسبة واحدة، فموسوعة تاريخ العالم (ج1، ص48) تبدأ تاريخ احتلال الهكسوس لمصر 1788-1550ق.م. وتطلق عليه عصر الاغتصاب.
هنا بالضبط ما نقصده. لقد جمعت التوراة المازورية زمن بقاء الهكسوس بمصر، وهو بهذه الحسابات 215 سنة، مضافا إليه استمرار القبائل الإسرائيلية بمصر، الذين لحقوا بهم آخر أيام حكمهم 215 عاما أخرى؛ ليكون مجموع السنوات 430 عاما. أما التوراة السبعونية، فقد استبعدت سني بقاء الهكسوس بمصر 215 سنة، وسجلت فقط زمن بقاء بني إسرائيل هناك 215 سنة، لكن يبقى التساؤل: لماذا دونت المازورية وسجلت مدة بقاء الهكسوس بمصر، مضافة إلى سني الإسرائيليين فيها؟ هل كان الكاتب على رأي يوسفيوس يرى أن الإسرائيليين هم ذات الهكسوس، أم أن هناك أسبابا أخرى خفية تحتاج جهدا آخر للكشف عنها؟
هذا ما سنحاول الإجابة عليه الآن.
الفصل الثامن
إسرائيل ويهوذا العبري أو إسرائيل والهكسوسي الخبري
انتهت الدراسات النقدية للتوراة، إلى اكتشاف تأسيسي يعيد فكرة النقاء الجنسي العرقي إلى أصولها، حيث يتضح لنا أن كل تلك الصلات القرابية لأبطال العهد القديم، إنما كان لونا من الأحلاف بين نماذج بشرية مختلفة، بل وأحيانا متضاربة ومتصارعة. ويضرب لنا الباحث المجتهد بفراسة «فراس السواح» نماذج من الأمثلة التي توضح أكذوبة الأصل الواحد المتصل، ومنها ما جاء من ذكر للإسماعيليين والمديانيين في قصة يوسف، حيث لا يتناسب هذا الذكر إطلاقا مع سلسلة الأنساب، التي رسمها سفر التكوين لإبراهيم وأولاده، حيث المفروض أن الإسماعيليين هم أبناء إسماعيل بن إبراهيم من هاجر المصرية، وأن المديانيين هم أولاد مديان ابن إبراهيم من زوجته قطورة. فإذا أخذنا الزمن الفاصل بين عصر إسماعيل ومديان وإسحاق أبناء إبراهيم وبين عصر يعقوب ويوسف، لاكتشفنا أنه من المحال أن يكون الولدان الثلاثة قد تشكلوا في شعوب تملأ سيناء وآدوم ضجيجا، فقط خلال الفترة التي جرت خلالها أحداث قصة يوسف في مصر.
1
إن الأيديولوجيا العرقية حاولت هنا رسم خط نسب رئيسيا، يربط تحالف الأسباط الاثني عشر بتحالفات أخرى، تأخذ باعتبارها خطوط نسب فرعية، تنشئ اتصالا قرابيا حتى مع الشعوب المجاورة والمحيطة، التي احتك بها الإسرائيليون، وهي المحاولة التي تؤكد وجهة نظرنا في ذلك الحلف الكبير، الذي أشرنا إليه دوما، وقام في مركز رئيسي ببلاد آدوم ومحيطها.
وتقول الأركيولوجية «كاثلين. م. كنيون» أهم من نقب الأرض الفلسطينية، سعيا وراء التاريخ الإسرائيلي القديم في فلسطين: «إن الذي قام بتحرير سفر التكوين في القرن العاشر ق.م. حاول أن يجمع في قصة واحدة الحكايات الشائعة بين القبائل والمجموعات، التي اجتمعت فيما بعد لتكون شعب إسرائيل، وكثير من المتخصصين يتفقون على أنها قبائل متفرقة. ومن الأرجح أن تكون إحداها قبيلة إبراهيم «وولده» إسحاق، أما قبيلة يعقوب «المنسوبة لإسحاق» فقبيلة أخرى، وقد تم فيما بعد إيجاد صلة قرابة بينهما، ولعل عائلة إبراهيم هي من أعالي النهرين، بينما عائلة يعقوب من شرقي الأردن ... ومن المرجح أنه لا توجد علاقة بين قصة الآباء وقصة الخروج
Exodus ، والانقطاع بين سفر التكوين وسفر الخروج تام.»
2
ويقول «تيودور. ه. روبنسون»، وهو متخصص آخر: «من الواضح أن شعب إسرائيل الذي يتحدث التاريخ عنه، يشمل عشائر كثيرة لم تطأ أقدامها أرض مصر مطلقا، بل إن الإصحاح الثامن والثلاثين من سفر التكوين، قد يفهم منه أن يهوذا استقر في الجزء الجنوبي من كنعان، وأن قبيلة أشير كانت قد أقامت في ديارها التي استقرت فيها عند ولادة موسى ... ودخلت بطون من هذه القبائل في طاعة المصريين، بيد أنهم في فترة من الفترات بين عامي 1500 و1200ق.م. فروا من مصر وعلى رأسهم موسى. وكان موسى قبل ذلك قد عقد صلات بقبائل البدو، ووفق إلى جمع كلمة بعضها في شعب واحد، متوسلا إلى ذلك بدين جديد، آمن به جميع الأحلاف عند الجيل المقدس الذي كان موسى يتردد عليه.»
3
وكلام «روبنسون» هنا بحاجة إلى بعض التوضيح، فهو يقول إن شعب إسرائيل لم يكن أبدا قبيلة واحدة متوحدة جنسيا وثقافيا، بل كان يشمل عددا من القبائل، ومن بين هذه القبائل كانت قبيلة «يهوذا»، أحد الأسباط فيما بعد، قد استقرت في جنوبي فلسطين، أي في محيط النقب وآدوم، وذلك في الوقت الذي كان فيه الإسرائيليون مستعبدين بمصر، وقد استنتج من ذلك أن قبيلة يهوذا لم تدخل مصر أبدا، وهنا فقط نخالفه في استنتاجه هذا؛ لأننا نزعم أن يهوذا قد دخل مصر فعلا، وأن تلك القبيلة الكبرى «يهوذا» قد خرجت من مصر، وتركت في مصر بقية القبائل التي لحقت بها، فيما نعرفه برحلة الخروج، وشكلت فيما بعد جزءا من شعب إسرائيل. أما قبيلة سبط أشير، فهي فيما يبدو بالفعل لم تدخل مصر، إنما كانت تستقر في مواضعها التاريخية القديمة، على ساحل المتوسط الشرقي في حول صيدون القديمة/صيدا الحالية، حيث نجدها هناك تخوض معارك ضد مملكة أوغاريت كما سيأتي بيانه، ثم يستمر «روبنسون» ليوضح أن الحلف الكبير قد بدأ نواته موسى النبي عند الجبل المقدس في سيناء، حيث كان موسى قد هرب إلى هناك، قبل أن يخرج بشعبه من مصر، وسبق له أن أسس تحالفات واضحة من القبائل التي تعيش في محيط مديان، وبالخروج أمكنه صهر هؤلاء الأحلاف في شعب واحد، تقوم هويته على أيديولوجيا اعتقادية واحدة موحدة.
ثم يتابع «روبنسون»، ليقول بعد ذلك إن الملك «داود» قد استكمل مهمة موسى بتوحيد العناصر القبلية المتعارضة في فلسطين، حتى أمكنه أن يقيم دولة، تجمع «العناصر المتعددة التي توحدت في الظاهر، واكتسبت ما يشبه القومية المشتركة».
4
ومن ثم أمكن لعالم النفس الأشهر «سيجموند فرويد» أن يقول: «إننا أضفنا إلى ثنائيات التاريخ اليهودي المعروفة، شعبين ينصهران ليؤلفا أمة، مملكتين تتفرعان من انقسام هذه الأمة، إله يحمل اسمين في مصادر التوراة، وأضفنا إلى هذه الثنائيات ثنائيتين أخريين، لتأسيس ديانتين جديدتين، تدحر ثانيهما أولاهما في البداية، ولكن الأولى لا تتأخر في انتزاع لواء النصر من جديد.»
5
ومع «فرويد» نقف مرة أخرى للتوضيح، فهو يقول: إن تاريخ الإسرائيليين، هو تاريخ تحالفات وانفضاض لتلك التحالفات، إلا أن التحالف الأمثل كان بين سبط يهوذا، وأسباط إسرائيل الأخرى؛ لذلك نجد إلهين لشعبين، إلها ساد وبرز إبان زمن البطاركة الأوائل من إبراهيم حتى موسى، هو الإله المعروف باسم «إيل»، ثم إله آخر جديد يظهر مع موسى باسم «يهوه»، ويهوه إله يهوذا وإيل إله إسرائيل، كما هو واضح في المسميات ذاتها، وتتمكن ديانة يهوذا الطارئة، الجديدة، الثانية، غير الأصلية، من دحر ديانة إيل الأولى.
ومزيد من التوضيح يقدمه لنا «كمال الصليبي» في عملين من أعماله، في العمل الأول يقول: «إن بني إسرائيل مثلهم مثل سائر الشعوب التاريخية، لم يكونوا شعبا واحدا في الأصل، بل مجموعة من قبائل مختلفة تم توحيدها على مراحل، عن طريق الالتفاف والتحالف، لسبب أو لآخر، ومن بني إسرائيل قبائل كانت في الأصل عبرانية، انظر مثلا سفر التثنية (15: 12) وتتكلم الكنعانية، ومنهم قبائل كانت في الأصل آرامية، انظر سفر التثنية (26: 5). وقد كان لعبادة الإله يهوه دور أساسي في توحيد هذه القبائل المختلفة أصلا؛ إذ إن هذا التوحيد كان يترافق في كل مرحلة من مراحله، مع تحول قبائل جديدة عن عباداتها الأصلية المتنوعة إلى عبادة يهوه، مع الإبقاء على بعض التقاليد المتعلقة بعباداتها السابقة، من أساطير وخرافات وعادات وغير ذلك. وكانت عبادة يهوه في الأصل واحدة من عبادات كثيرة منتشرة. وما إن تم توحيد بني إسرائيل، حتى بدأت عبادة يهوه تتحول على أيدي أنبيائهم من عبادة وتثنية تعترف بتعدد الآلهة، إلى ديانة توحيدية أصبح فيها يهوه هو الإله الأعلى، ثم الله الواحد، بالعبرية ءلهيم، وبالإضافة إلى العنصرين العبراني والآرامي، اللذين تشكل منهما شعب إسرائيل، كانت هناك على ما يظهر عناصر أخرى، أخذت تندمج على مراحل مع هذا الشعب. إن كلا من هذه العناصر كانت ينتسب إلى جد أعلى. وكان اختلاف التقاليد بين قبائل شعب إسرائيل، سواء من ناحية الانتساب العرقي، أو من ناحية تنوع المعتقدات والممارسات الطقسية، ما بقي يهدد وحدة الشعب، وهي الوحدة التي كان للكهنوت الإسرائيلي بعد قيام مملكة إسرائيل، اهتمام خاص في المحافظة عليها.»
6
وفي العمل الثاني يقول «الصليبي»: «كان بنو إسرائيل في زمانهم في هذه الأرض، يمثلون ائتلافا قبليا بين مجموعة من الأسباط، اجتمعت حوله عبادة إله واحد اسمه يهوه، وهو بالنسبة إليهم الرب، بالعبرية: آدون. والأسباط هذه من أصول مختلفة، ومنها سبط لاوي الذي كان منهم وحدهم الكهنة، وما لبث الكهنوت بين اللاويين أن انحصر في بيت واحد منهم هو بيت هارون، من آل عمران. والاسم في شكله التوراتي: عمرم، أما بقية الأسباط فكانوا أحد عشر في العدد، ومن هذه عشرة كانت تعرف أصلا على ما يبدو باسم إسرائيل، وتنتسب إلى الشعب العبري أو العبراني، واسم اللغة العبرية أو العبرانية مشتق من اسم هذا الشعب، الذي كان يتكلم بها، ويلاحظ هنا أن بني إسرائيل حسب العرف التوراتي، لم يكونوا وحدهم العبرانيين، بل من هؤلاء أجداد عرب الجوب وعرب الشمال في الجزيرة. وكان أبرز أسباط إسرائيل العشرة الناطقة أصلا بالعبرية: بنيامين. والاسم بالعبرية: بن يمين، أي ابن الجنوب، أو ابن اليمن. وفي التوراة مقاطع تشير إلى بني بنيامين على أنهم: يمنيم، أي جنوبيون أو يمانيون، وفي ذلك ما يدل على أن قدومهم كان أصلا من بلاد اليمن، أما السبط الحادي عشر فكان سبط يهوذا، بالعبرية: يهوده، والسبط هذا من أصل آرامي. لكن بني يهوذا تحولوا من الإرمية إلى العبرية، بعد دخولهم في الائتلاف الإسرائيلي.»
7
وهكذا فإن «زينون كاسيدوفسكي» يعقب على انقسام مملكة سليمان بعد موته، إلى إسرائيل في الشمال، ويهوذا في الجنوب بالقول: «إن فكرة الوحدة العرقية التي فرضها موسى على الإسرائيليين، ثم تبناها يشوع بن نون بعده، لم تصمد أمام امتحان الزمن، فقد كان التنظيم القبلي القائم لدى الساميين القدماء، على أواصر قربى الدم، أقوى من أن يتراجع، ليخلي المكان لعلاقات أخرى، نشأت في ظل الظروف التي خلقتها حياة الاستقرار. لقد كان لكل قبيلة تقاليدها الخاصة بها، بل كانت تتكلم لهجة مختلفة، وبعد موت ابن نون سرعان ما استيقظت الجروحات والنزاعات والخرافات القديمة والتيارات الانفصالية. وقد ساعد على ذلك واقع مؤداه: أنه بعد انهيار التعاون البدائي وتعمق النزاعات الطبقية، تحول الشيوخ الذين كان قد جرى انتخابهم إلى أرستقراطية وراثية، فأطلق رئيس القبيلة على نفسه لقب أمير أو قائد، ووصف نفسه بصفات مثل: جبار، نبيل، وأخذت تلك الفئات المتميزة تتنازع فيما بينها، الأمر الذي أدى إلى تفسخ وحدة الإسرائيليين وانهيارها، بل ووصل الأمر إلى حد اندلاع الحروب الأهلية فيما بينهم، وهكذا بدأ عهد الفوضى السياسية. ومما زاد في خطر انقسام الإسرائيليين إلى اثنتي عشرة قبيلة متعادية، هو أن يشوع بن نون لم يغتصب كنعان كلها. وما كتاب القضاة من حيث الجوهر سوى مجموعة من الروايات والأساطير، التي تحكي معاناة القبائل الإسرائيلية، التي عانت من نير العبودية سنوات طويلة، ثم قامت تقاتل في سبيل حريتها.»
8
وعلى مثل تلك التقارير التي قدمها لنا الخبراء، ساغ لروجيه جارودي أن يقيم استنتاجاته التي يلخص فيها «دي فو» ما حدث ليقول: «يؤكد الأب دوفو أن شعب إسرائيل لم يتكون إلا بعد استقراره في كنعان أن كل قبيلة من الأسباط كان لها سابقة وجودها التاريخي الخاص، قبل أن تكون اتحادا متينا. فبعد أن استقروا في فلسطين، نمت لديهم فكرة أن لإسرائيل تاريخا مشتركا قبل استقرارها.»
9
ثم يتابع: «إن الرب يهوه الذي قادها، سوف يفرض نفسه على جميع الأسباط الأخرى، إن توقف التفسخ بهذا التدخل التاريخي باسم وحي الرب، سوف يصبح عقد الإيمان الأساسي لجميع الأسباط. وهذا هو بلا شك مغزى اجتماع شكيم الذي تحدث عنه (سفر يشوع، 24: 1-28)، حيث تحقق أول اتحاد بين الأسباط، فإن يشوع بعد أن ذكر لهم الإحسان العام، الذي صنعه يهوه لهم، وهو أنه أصعدهم من مصر بيت العبودية، يوجه إلى جميع الأسباط بما فيهم أولئك، الذين لم يعيشوا التجربة الحاسمة، تجربة الخروج، سؤالا قاطعا: اختاروا لأنفسكم اليوم من تعبدون؟ يهوه رب الخروج أو إله كنعان (24: 15). ولقد اختارت الأسباط جميعا الرب يهوه. إن البحث التاريخي - كما قال فون راد - قد بين أن إسرائيل هو اسم هذا الاتحاد الكونفودرالي المقدس بين الأسباط.»
10
وعلى مثل تلك المعطيات يقدم لنا «جارودي» مدعاة للشك حتى في عدد تلك القبائل المتحالفة، والتي قيل إنها اثنا عشر سبطا، فيقول: «إن انحصار الأسباط في اثنتي عشرة قبيلة، لم يكن له أي واقع تاريخي، فلقد استتبع العدد اثنا عشر حينئذ فكرة الكمال؛ إذ نجد في النصوص اثني عشر سبطا لإسرائيل، كما نجد اثني عشر سبطا إسماعيليا (التكوين، 25: 13-16)، واثني عشر سبطا آراميا (التكوين، 22: 20-24)، واثني عشر سبطا آدوميا (التكوين، 36: 10-14)، وتتغير قائمة الاثني عشر سبطا لإسرائيل، لكن الرقم اثني عشر يبقى. فعندما انقطع سبط ليفي، أكمل النقص بمضاعفة سبط يوسف في إفرايم ومنسى، على حين نجد أن سبط جاد يحل محل سبط ليفي (العدد: 26).»
11
ونحن نعلم من دراسة الأساطير أن الرقم 12 كان رقما مقدسا، يدل في اعتقاد شعوب المنطقة القديمة في اثني عشر إلاها، هي علامات الزودياك الاثني عشر السماوية المعروفة، مثله في التقديس مثل الرقم سبعة المتكرر في تلك العقائد، بحسبانه دالا على سبعة آلهة سماوية، هي الأجرام الكوكبية السيارة في المجموعة الشمسية، التي كانت معلومة بالرصد الفلكي الابتدائي آنذاك.»
12 (عطارد، الزهرة، المريخ، المشتري، زحل، النيران الكبيران: الشمس والقمر [المؤلف]).
ونتابع رصد ذلك التكوين الهجين فيما لاحظه «شفيق مقار»؛ إذ يقول: «في حكاية يوسف نلاحظ إصرار الرواة على تكرار لفظة العبراني:
قد جاء إلينا برجل عبراني يداعبنا.
دخل إلي العبد العبراني الذي جئت به إلينا ليداعبنا.
لأني قد سرقت من أرض العبرانيين.
وكان هنا غلام عبراني عبدا لرئيس الشرطة.
وهذا إلحاح لافت للنظر، فلفظة العبراني لم ترد في العهد القديم كله إلا سبع عشرة مرة، ومن تلك المرات السبع عشرة، حشدت اللفظة أربع مرات متتالية، على مدى إصحاح واحد من إصحاحات سفر التكوين. وهذا يتفق تماما مع الغرض من إبراز حكاية يوسف مع فرعون، وهو جعل يوسف المعبر الأخير بين الحقيقة الآرامية لإبراهام وإسحاق ويعقوب ويوسف، وكل أبناء يعقوب وسلالته، وبين إسرائيل، التي دقت في حكايات التوراة دقا متواصلا لتعني اليهود، والمشاهد في حكاية يوسف أنه بعد هذا التركيز على لفظة عبراني، بدأ التركيز على إسرائيل، ابتداء من: فأتى بنو إسرائيل ليشتروا بين الذين أتوا؛ لأن الجوع كان شديدا في أرض كنعان» (تكوين، 42: 5).
13
وسواء كان «مقار» هنا يقصد مع بعض اللبس أو لم يقصد، فهو يضع إصبعه ضاغطا على التكوين الإسرائيلي اللزج، ليتفسخ عائدا لأصوله في ثلاثة أشكال، أولاها الآرامية جنس إبراهيم والبطاركة حتى يوسف، الذي دخل مصر زمن السيطرة الهكسوسية المكونة من أحلامو/أحلاف، أبرزها العنصر الآدومي الآرامي التأسيسي، ليبدأ تمييزا جديدا وملحاحا للفصل العنصري، وتأكيد هوية خاصة هي العبرانية، التي يجب أن ينتسب لها «يوسف»، وليس الآرامية، ثم مع موسى يبدأ تأكيدا آخر جديدا على توصيف عنصري جديد هو الإسرائيلية.
وفي قصة دخول بني إسرائيل إلى مصر، تقول التوراة: «فدخل يهوذا وإخوته إلى بيت يوسف (تكوين، 144: 14)، وهو ما يعني أن يهوذا قد دخل مصر مع أشقائه، لا بل والصيغة تشير إلى أنه كان قائد هذا الدخول، وحتى الآن والكلام مقبول، لكن غير المقبول أن يكون يهوذا قد دخل، ويوسف وزير لخزانة المصريين، وذلك لأسباب من داخل المقدس التوراتي ذاته، حيث تم تخصيص الإصحاح (38) لشرح أمر عجيب الشأن، يبين أن يهوذا كان منفصلا عن إخوته، وتبدأ القصة هكذا: «يهوذا نزل من عند إخوته» (التكوين، 38: 1)، وذلك قبل دخولهم مصر على يوسف، وأنه تحالف مع رجل كنعاني من عدلام اسمه حيرة، وتزوج بنت كنعاني اسمه شوع، وأنجب منها عير وأونان وشيلة، وكبر أولاده فزوج عير من بنت اسمها تامارا، لكن عير كان شريرا فقتله يهوه، فطلب يهوذا من ابنه الثاني أونان أن يتزوج تمارا، لتنجب أولادا ينسبون إلى أخيه الميت عير، على العادة الكنعانية. لكن أونان بدوره ارتكب ما أغضب يهوه فقتله، وهنا طلب يهوذا من تامارا، أن تذهب لأهلها وتنتظر الولد الأصغر شيلة، حتى يكبر ليتزوجها، لكنها تنكرت في زي عاهرة (لبست حجابا)، ودخل بها يهوذا وحملت منه بولدين هما: فارص وزارح. وكل تلك الأحداث تجري، بينما بقية الأسباط قد نزلوا مصر على يوسف؛ لأنه من غير المقبول أن يفترق يهوذا عن إخوته، وتحدث له كل تلك الأحداث على مر زمن طويل، ليدخل في الوقت ذاته برفقة إخوته إلى مصر! وهي النتيجة التي يصل إليها «كمال الصليبي» في قوله: «مما يعني أن افتراقه عن إخوته كان سابقا لهذا النزوح.»
14
لكن الصليبي يستمر في استنتاجه، ليقول إن ما حدث في الإصحاح 38 من سفر التكوين يشير إلى أن «يهوذا» قد أخرته رحلته الكنعانية تلك عن نزول مصر مع إخوته، لكنه لحق بهم بعد ذلك. وإن لحوق يهوذا بإخوته جاء متأخرا جدا، وحدث في آخر أيامهم بمصر زمن موسى (نلحظ أن صليبي له نظرية لا تعترف بدخولهم مصر الإمبراطورية، إنما هي أحداث كانت تجري في بلاد عسير بجزيرة العرب، وهو ما لا يعني بحثنا هنا). ويستند الصليبي في ذلك إلى نصوص توراتية فيقول: «إن موسى تمنى على الرب يهوه قبيل وفاته، أن يأتي بقبيلة يهوذا المستقلة عن سائر قبائل إسرائيل، فيجمعها بهم، وذلك بالكلام الآتي: «اسمع يا يهوه صوت يهوذا وأت به إلى قومه، بيديه يقاتل لنفسه، فكن عونا له على أضداده.» فلماذا هذه التناقضات في أسفار التوراة في حديثها عن يهوذا؟ السر طبعا هو أن بني يهوذا، لم يكونوا في الواقع من بني إسرائيل العبرانيين، بل إن بني يهوذا كانوا من بني يعقوب الآراميين»، لكن لحوق «يهوذا» بإخوته عند «الصليبي» لم يتم في مصر، إنما بعد الخروج ووصول الخارجيين إلى المشارف الجنوبية لبلاد كنعان، حيث التقى هناك الخارجون «بنو إسرائيل مع بني يعقوب الآراميين من بني يهوذا ولفيفهم، فاتحدوا معهم تحت قيادة موسى قبيل وفاته، وكانت هذه بداية الشعب التاريخي المعروف بشعب إسرائيل.»
15 «وهكذا التقى بنو إسرائيل ولفيفهم من العبرانيين، لأول مرة في تاريخهم مع بني يعقوب الآراميين، الذين كانوا يتكلمون العبرية أي الكنعانية والآرامية في آن ... فتمت الوحدة بين الشعبين برعاية موسى وبركة يهوه، وعندما تمكن موسى لأول مرة في حياته، من مخاطبة جميع إسرائيل: كل يسرءل (سفر التثنية: 18)، وليس بني إسرائيل العبرانيين وحدهم.»
16
وحتى يمكن ترتيب هذا الصخب المتنافر، يمكن إيجاز القول باتفاق الباحثين، على كون الشعب التوراتي أيا كان مسماه، لم يكن أبدا شعبا بالمعنى المفهوم، ينتمي إلى عنصر إثني واضح بعينه، بقدر ما كان تجمعا وتحالفا قبليا، تشكل من مجموعة قبائل. وهنا يبدأ اختلاف الباحثين وتضاربهم، عندما تبدأ محاولة تحديد ألوان هذه القبائل وانتماءاتها الإثنية، فكاثلين كانيون ترى أنهم هجين من قبيلتين: الأولى هي قبيلة إبراهيم وإسحاق، وهم عندها من أعالي النهرين، والثانية هي قبيلة يعقوب، وتراها من شرقي الأردن. بينما لخص فرويد موقفه بالكشف عن شعبين اندمجا معها، لكن تشير معبوداتهما إلى أصولهما الأولى قبل الاندماج، فكان هناك شعب يتبع إلها باسم إيل، وشعب آخر يتبع إلها باسم يهوه، وبمرور الزمن أدت الأحداث إلى سيطرة وسيادة اليهوية وانكماش وتلاشي الإيلية. أما كمال الصليبي فقد تحدث عن قبائل مختلفة في هذا الائتلاف، تعود إلى عناصر عدة: عنصر إسرائيلي ويراه هو المعروف أيضا بالعبراني، لكنه عنده ليسوا أبناء يعقوب، وأن نسبتهم إلى يعقوب، واحتساب أن يعقوب كان اسمه إسرائيل، هو محاولة مقحمة من المحرر التوراتي، لجعل الإسرائيليين أبناء ليعقوب في أسطورة صراعه مع الرب. ثم عنصر ثان هو يهوذا، ويراه هو صاحب الأصل الآرامي، وهؤلاء هم بالفعل أبناء يعقوب، ثم عناصر أخرى مختلفة كقبيلة ليفي أولاي، التي امتهنت الكهانة، وقبيلة بنيامين التي يشير اسمها إلى أصولها اليمنية. هذا بينما ذهب «دوفو» إلى أن كل قبيلة من الأسباط الاثني عشر، كان لها سابق وجودها التاريخي الخاص. أما شفيق مقار فيرى أن إبراهيم وإسحاق ويعقوب كانوا آراميين، ومنهم يوسف الذي يبدأ عنده تأكيد وصف العبرانية، حيث سيصبح يوسف معبرا نحو توصيف جديد هو الإسرائيلية.
وفي ظل تلك المعطيات يمكن أن نفهم كيف نجد في الآثار المصرية اسما ضمن نقوش الهكسوس، هو يعقوب هار وأيضا يعقوب بعل.
17
والذي جاء كاسم ثان للملك بنون، وهو الثاني في ترتيب ملوك الهكسوس بعد سالاتيس. وجاءنا في الصيغة «مرو سر رع، ياكب بعل أو يعقوب حر». ومعلوم أن بنون يعقوب هذا كان من حكام الهكسوس الكبار ، إنه جلس على عرش مصر طبقا لبردية تورين، أكثر من ثماني سنوات أو ثماني عشرة سنة.
18
كذلك أفادنا باهور لبيب بوجود أسماء أفراد هكسوس مثل «يعقوب إيل» و«نحامين».
19
وقد ورد اسم ثالث لبنون هذا برسم «سكا»، ومن جانبنا رأيناه بالضبط الاسم «الضحاك» «إسحق»، الذي حيكت حوله وحول إمبراطوريته أساطير شتى، مما يشير إلى شهرة الرجل وقيمته في زمنه. والأمر بذلك يعني أن بنون كان يحمل اسم يعقوب واسم إسحاق معا، كحقيقة تاريخية تحولت إلى أسطورة توراتية، وأصبح الشخص الواحد شخصين، وانتسب إليهما الإسرائيليون وعدوهما سلفين بعيدين، من جيل البطاركة الآباء الأوائل.
بينما إطلاقا لم يصل الظن بالتوراة رغم مبالغاتها إلى حد القول إن شعبها كان حاكما على مصر. وهو ما يعني أن المحرر التوراتي قد نسب بني إسرائيل الذين دخلوا إلى مصر إلى شخص قوي ملكي من ملوك الهكسوس، بسبيل ذلك تم اختيار يعقوب ليخترع المحرر التوراتي قصة صراع حدثت بينه وبين الإله، منحه بعدها الإله اسم إسرائيل، وذلك للقول إن سلف الإسرائيليين هو الملك الهكسوسي يعقوب، لهدف أبعد هو التغطية على الأصول المتباعدة، وتأكيد الأصل الواحد لتلك القبائل.
وإذا كان اسم إسرائيل مركبا من ملصقين «يسر - ءل»، الثاني فيهما هو «ءل» أو «إيل» ويعني الإله؛ فإن الملصق الأولى «يسر»، تفسره التوراة بأنه مشتق من الفعل «سره» أي يجاهد؛ لذلك ترجمت كلمة إسرائيل بأنها «مجاهد الرب» أو «جندي الرب». ويلاحظ زياد منى أن هذه المفردة «يسر»، لم ترد في التوراة مرة أخرى إلا في (سفر هوشع، 13: 3-4)، وتؤكد المراجع المختصة أن معنى «يسر» غير واضح؛ لأنه من فعل ممات. وقد جاء الاسم في لوح مرنبتاح بالصيغة «ي. س. ر. ي. ر
Y. si. r. r ».
20
وبسبيل تفسير الكلمة وردت اجتهادات أخرى، فهناك من يرى أن «ءل» ليست مفعولا به في الكلمة إنما فاعل، وبذلك يكون المعنى «إيل حارب» أو «إيل عارك» فهو صراع إيل. ويذهب آخرون إلى أن جذر الاسم في المفردة الإيجية الإغريقية، إسر
ISER
بمعنى مقدس؛ أي إيل المقدس. وهناك من ذهب إلى أن الاسم مختزل من الصيغة «ء يش راحيل» أي «رجل من قبيلة راحيل»، مع اجتهاد يستحق الوقوف معه. يقول إن اسم إسرائيل هو اختصار للعبارة «يه سعير هوءيل» و«يه» هي «يهوه». وعليه يصبح المعنى «إله سعير هو يهوه».
21
ولأن اسم إسرائيل لم يأت إطلاقا مسبوقا بأداة التعريف؛ فهو ما يعني لزياد منى أن الاسم اسم جغرافي «يسرءل هو السراة - ء ل سرءه». ولأن منى يذهب مع نظرية صليبي إلى جنوب غربي جزيرة العرب، كموطن لإسرائيل الشعب والدولة في جبال السراة، فقد قال: إن هذا المكان الجغرافي (إسرائيل) يقع في جبال السراة، ولكن في امتدادها الجنوبي نحو الحجاز واليمن. بينما من جانبنا قد اتجهنا شمالا مع امتداد جبال السراة حتى البحر الميت الشرقي وادي عربة، وقلنا إنها هي التي حملت في العبرية اسم «سعير»، وينتهي «منى» إلى أن المقصود من كلمة إسرائيل هو «الأرض المكرمة من الله».
22
وهو ما يستدعي مباشرة وصف المصري القديم لبلاد بونت الآدومية «حسبما نظريتنا» بأنها «أرض الإله»، ثم يرى منى أن الأسباط اكتسبت اسم إسرائيل بعد أن خرجت واستقرت في منطقة السراة.
23
وحملوا اسم بني إسرائيل نسبة إلى جبال السراة، فهم أبناء السراة.
24
أما اسم يعقوب الذي نسبوا أنفسهم إليه، باعتبار أنه أب لعنصر بشري هو العنصر الإسرائيلي، فيبدو لزياد منى أنه كان اسم أحد آلهة المعبد الوثني للأسباط، بينما هذا يعني لدينا أن الإسرائيليين قد عبدوا الفرعون الهكسوسي بنون/يعقوب/سكا/إسحاق في إحدى مراحلهم كإله. ثم مع التطور والنضوج تم اعتباره سلف القبيلة، وهي عادة معلومة عند القبائل القديمة، حيث عادة ما يكون سلفها البعيد هو ربها، وكمال الصليبي يعيد اسم يعقوب إلى العقبة، وهو برأينا رأي سديد تماما، لكن لأنه يريده جنوبا عند سراة اليمن وعسير، يفسره تأويلا حسب المعنى بأنه مسالك الجبال هناك، حيث لم يجد هناك مكانا باسم العقبة.
25
رغم وجود العقبة عند جبال سراة سعير على رأس خليج العقبة، باسمها دون حاجة لأي تأويل.
وعليه فإن كلا الاسمين (إسرائيل ويعقوب)، يعودان عند مدرسة الصليبي باسم إسرائيل إلى الانتساب إلى إله العقبة أو إله السراة، التي تقع حسب مذهبنا في بلاد آدوم/بونت/أرض الإله أو الأرض المقدسة.
المهم في كل هذا أنه يمكن دون جهد كبير، أن نلحظ وجود خطين رئيسيين مع خطوط أخرى فرعية، في الروافد المكونة للكنفودرالية الإسرائيلية، فهناك جماعة محددة باسم يهوذا وجماعة باسم إسرائيل، وكلاهما ينتسب مرة إلى العبريين وأخرى إلى الآراميين، وأن أحدهما دخل مصر والآخر لحق به، لكنه التقى بالطرف الآخر للحلف في بلاد مديان. لكن الخلاف البسيط لكنه الكبير العميق هنا، هو: أننا نرى ما حدث قد حدث بالعكس تماما، فقد دخل فريق يهوذا الآرامي مصر أولا، ثم لحق به فريق إسرائيل في أرض مصر ذاتها، وذلك في آخر أيام الفريق اليهوذي بمصر. نحن نقصد بوضوح وبدون مواربة أن «يهوذا» كان الاصطلاح التوراتي، الذي يشير إلى محتلي مصر باسم الهكسوس، وأن إسرائيل فريق نسيب وبطن حليف لحق بهم آخر أيامهم في مصر، أيام حكم «أسيس/العزيز/أبوفيس». أما تمني «موسى» أن يلحق بهم «يهوذا» في مصر، فتلك قصة أخرى، حيث بقي الإسرائيليون بعد طرد الهكسوس من مصر، تحت العبودية في ظل الحكم الوطني المصري، ما ينوف على قرنين من الزمان، ونحن نعلم من «يوسفيوس» نقلا عن «مانيتو» أن قائد الهاربين «أوزرسيف»، أرسل يستدعي البدو الرعاة من أورشليم، المطرودين من مصر منذ قرنين، إبان ثورته للخروج من مصر، ووعدهم أنه سيعيدهم لحكم مصر، وهو ما يعني لنا تفسير استدعاء موسى ليهوذا، كان استدعاء للهكسوس كرة أخرى، لكن ما حدث هذه المرة هو هزيمتهم جميعا، وطردهم من البلاد، وهو الأمر الذي سيأتي تفصيله في موضعه من هذا العمل، مدعوما بشواهد وقرائن محترمة.
ولعلنا نذكر أن يهوذا كان فرعا يقيم في جنوبي فلسطين والنقب، وهو موضع سكنى الهكسوس الذي حددناه، ثم إننا لم ننس بعدما أكده «يوسفيوس»، نقلا عن «مانيتون»، أن الهكسوس عندما خرجوا من مصر، أسسوا مدينة أورشليم بفلسطين، ثم ظلت أورشليم مدينة يهوذية طوال عصورها بعد ذلك. وهنا نلمح المحرر التوراتي وهو يصر على التمسك بأن احتلال أورشليم، قد تم من جانب الحلف جميعه المسمى «كل إسرائيل»، تفلت منه الحقيقة التي تؤكد لنا نظريتنا: أن الهسكوس هم الفريق اليهوذي، هم من احتل أورشليم أولا، وهذه الحقيقة المنفلتة يسجلها النص: «وحارب بنو يهوذا أورشليم وأخذوها وضربوها بحد السيف، وأشعلوا المدينة بالنار» (قضاة، 1: 8). بنو يهوذا وحدهم دون بقية الأسباط من أخذ أورشليم إذن.
وبعد قيام دولة داود وسليمان، ثم انقسام المملكة قسمين، ظلت أورشليم عاصمة المملكة الجنوبية يهوذا، بينما أصبحت السامرة عاصمة المملكة الشمالية. لقد أجمع التاريخ الإسرائيلي على إخفاء علاقته بالبرابرة الهكسوس.
لكن المؤرخ اليهودي يوسفيوس سبق الجميع وأكد ذلك في تاريخه، قاصدا الارتقاء ببني جلدته عن كونهم كانوا أنجاسا ملاعين، عملوا في السخرة والعبودية ببلاد النيل، لكن ليعطينا أحد المفاتيح لنافذة تطل على ذلك الحلف الهكسوسي القديم، الذي كان الإسرائيليون أحد أطرافه. وهو الأمر الذي يفسر لنا استعباد هؤلاء في مصر بعد تحريرها من الغزاة. وبعد أن اندمج الشعبان الهكسوسي والإسرائيلي في اتحاد كونفودرالي، وبعد الخروج من مصر، كانت المحاولات الدائبة من المحرر التوراتي لنسيان الأصل الهكسوسي للعنصر الحليف والتغطية عليه، فقام يضعه في سلسلة أنساب إسرائيل باسم يهوذا، وابتدع قصة الإخوة الاثني عشر ترميزا للأحلاف، ولكن يهوذا بمفرده قد شكل سبطا هائلا، فكان هو في كفة وبقية الأسباط جميعا في كفة أخرى. ولا تعادله؛ لأنه ظل المسيطر دائما.
ومرة أخرى عاد الخارجون بعد الخروج للتحالف مع أخلامو مديان الآراميين، لكن الضربة المصرية ومطاردتها للفلول المطرودة من مصر، أدت إلى انفصال عرى هذا الاتحاد إلى فصائله الأولى، وهو ما تعبر عنه حالة العداء الذي استحكم في السنوات التالية بين حلف إسرائيل مديان في جانب، وبين العماليق في جانب آخر، وبعد مرحلة يزداد التفكك، لنجد صراعا دمويا بين حلف إسرائيل وحلف مديان.
ويبدو أن الإسرائيليين قد باعوا في مصر رفاق الحلف الهكسوسي للثورة الوطنية، وأن ذلك وإن عافاهم من الإبادة؛ فإنه لم يعفهم من العبودية. وكانت مسألة اللعب على طرفي الصراع أمرا متكررا لدى الإسرائيليين، تلمسه بطول تاريخهم المدون بالكتاب المقدس، سبق وأفضنا شرحه في الجزء الأول من هذا العمل، وإن كان العداء بين أطراف الحلف خاصة إسرائيل والعماليق ، بحاجة إلى تبرير معقول وقوي، وهو ما سنرصده تفصيلا في الفصول المقبلة من هذا البحث.
ولأن التاريخ عادة ما يكتب على مقعد المنتصر والأقوى والمتسلط، فقد فاحت التوراة دوما بانحياز محرريها الواضح للعنصر اليهوذي، إزاء بقية الأسباط، حتى لو كانوا مختاري يهوه وأحبابه، ولم يزل هناك مزمور محبب في التلاوات يسجل غلبة «يهوذا» في النهاية على الأحلامو أو الأحلاف، وكيف انحاز الرب يهوه إلى يهوذا وحده دون بقية الأسباط المتحالفين، حتى إنه استبعد من رعايته بيت يوسف نفسه وأخيه، الذين كانوا في البداية هم الأقرب إليه والأكثر اصطفاء.
يقول هذا المزمور التاريخي فصيحا بليغا، يدون لنا ما وصلنا إليه وما أغفله التاريخ:
فاستيقظ الرب كنائم جبار معيط من الخمر، فضرب أعداءه إلى الوراء وجعلهم عارا أبديا، ورفض خيمة يوسف، ولم يختر سبط إفرايم، بل اختار سبط يهوذا في جبل صهيون الذي أحبه. (المزامير، 78: 65-68)
ومن هنا طغت اليهوذية حتى أصبحت علما على بقية الفصائل المتحالفة ليحملوا جميعا لقب «يهود»، وتصبح أيديولوجيتهم العقدية هي «اليهودية». أما الأمر الذي يجب التركيز عليه، فأن يهوذا ويهود ويهودية تنتسب جميعا إلى رب التجليات المتعددة في المشروم البركاني، وفي خنافس شجرة الأيكة وعناق، أطول الفصيلة الكلبية عنقا، ضبع آدوم، وفي الطائر البوني، وفي القمر رب الهواء «هفا» أو «هوا» أو «يهوه».
لقد هرب موسى من مصر إلى مديان، ليدين هناك بعبادة «يهوه» ويعود ليخرج برجاله من مصر إلى مديان تحديدا ليلتقي بحلفائه في سيناء، لكن لتسيطر اليهوذية الهكسوسية المديانية من بعد، ويسود بها ربها «الكائن» الذي لا يصح النطق باسمه، بل ينادي فقط بالكائن أو «يهوه».
والواضح تاريخيا ومن الآثار، ومن الكتاب المقدس ذاته: أن دخول «يهوذا» مرة أخرى إلى فلسطين، عند طرده من مصر هسكوسيا شريدا، أو عند خروج الإسرائيليين من مصر لحوقا بيهوذا، مما دعم هذا الحلف الشرس، فإن كليهما لم يستطع أبدا طوال قرون عديدة، أن يكون المسيطر الأول في فلسطين، بعد استعادة مصر قوتها، واشتداد قبضتها على أراضيها الآسيوية، ومن ثم تراوحت الأحوال بين السكون وبين الحرب الدموية، بين هؤلاء وبين سكان فلسطين من فروع أخرى طوال الوقت، ولم تكتب لهم السيادة إلا مع قيام مملكة داود المتحدة هناك، وحتى بعد ذلك كان هناك شك كبير في أن سيطرة ذلك الجنس، كانت مطلقة كما تحب أن توعز التوراة.
ومن كتاب «اللآلئ» الذي عثر عليه في أوغاريت/تل شمرا الآن على الساحل السوري للمتوسط، مدونا بقلم «إيلي ميلكو» كاهن أوغاريت الأكبر، ورئيس مقدمي القرابين والمطهرين، نجد حكايات عديدة، تشير إلى أنه في ذات الوقت الذي حكم فيه «آمنحتب الثالث» وولده «إخناتون» في مصر، وهو ذات الوقت الذي كانت تهاجم فيه قبائل العابيرو/الخابيرو بلاد فلسطين، هو ذات الوقت الذي سجل فيه «إيلي ميلكو» دمار أوغاريت، على يد فصائل أجناس همجية يشار إليها مرة باسم الخابيرو، ومرة باسم اليوديم (اليهود [المؤلف])،
26
إننا الآن مع فك شفرة الخيط الأخير في طلسم الخابيرو، لقد كان الخابيرو فعلا وصدقا هم العابيرو العبريين، هم الفرع اليهوذي الهكسوسي، الذي طرد من مصر على يد بطل التحرير أحمس حوالي عام 1580ق.م. وبعد مرور حوالي قرنين من الزمان تقريبا، كانوا يحاولون استعادة السيطرة على أملاك مصر في فلسطين، ليأتينا ذكرهم في وثائق المنطقة، ووثائق العمارنة ورسائلها التي تجأر بطلب المعونة ضد الخابيرو. في الوقت الذي كان فيه العنصر الإسرائيلي الأسير لا يزال بمصر، على استعداد للخروج واللحوق ببقية فصائل الأحلامو، التي شتتها وفرقها فراعنة مصر الأشاوس. وبذلك نكون قد عثرنا على تفسير كيف كان الخابيرو ما زالوا عبيدا بمصر، بينما كانوا في الوقت ذاته - زمن العمارنة - يهاجمون أراضي مصر في فلسطين. لقد كان الخابيرو في نصوص العمارنة هم اليهوذيين الهكسوس.
ويتأكد صدق فهمنا هنا بما ورد بالكتاب المقدس، من فلتات كانت تفرق بوضوح في أكثر من موضع من أسفاره، بين الإسرائيليين من جهة وبين العبريين من جهة أخرى، رغم نظريته الشاملة في كونهما إثنية واحدة. فهو يقول في سفر صموئيل أول: «والعبرانيون الذين كانوا مع الفلسطينيين منذ أمس وما قبله، الذين صعدوا معهم إلى المحلة من حواليهم، صاروا هم أيضا مع إسرائيل الذين مع شاول ويوناثان» (14: 21). وهو ما يعني أن المحرر كان يعلم أن العبرانيين غير الإسرائيليين.
ومن جانب آخر تحرم شريعة التوراة استعباد الإسرائيليين، لكنها لا تحرم استعباد العبري (انظر سفر اللاويين، 25: 39؛ وسفر الخروج، 21: 12؛ وسفر التثنية، 15: 12؛ وسفر إرميا، 3: 9-4)، كذلك تبين الإصحاحات 13: 3، و6: 7 من سفر صموئيل أول تباينا واضحا لدى المحرر التوراتي، وتمييزا بين بني إسرائيل وبين العبريين.
وهكذا نرى أنه مع تأخر الإسرائيليين في الخروج، ثم لحوقهم باليهوذيين الهكسوس في زمان تال، قام محررو التوراة باحتساب اصطلاح العبري أي حلف البدو، دالا على إثنية بعينها، نسبوا إليه إثنية أخرى هي الإسرائيلية، رغم أنهم بدروهم كانوا قبائل وشراذم متحالفة. فأخذت التوراة تؤكد وتزيد وتردد، أن يوسف كان عبرانيا، أي بلغتنا أو حسب نظريتنا، أنه كان هكسوسيا خابيريا، كما كان الجد الذي انتسبوا إليه يعقوب/إسحاق الضحاك. ومن هنا أصبح الهكسوس أرومة أولى هي يهوذا العبري، الذي تم إدراجه ضمن الأسباط بالقول، أنه كان الأخ الأكبر بين أبناء إسرائيل، ليصبح اليهوذيون الهكسوس الخابيرو إسرائيليين، ويصبح الإسرائيليون خبيرو هكسوسيين. ومن ثم فإن هناك نتيجة أخرى تترتب على هذا، حيث سيكون هناك خروجان قد تما من مصر: الخروج الأول هو خروج الهكسوس اليهوذيين، ثم تلاه الخروج الثاني وهو الخروج الإسرائيلي، وكلاهما بدوي، كان اليهوذي فيه يحمل النعت عبري أو خابيري، ثم تم تعميم صفة العبري بعد ذلك لتشمل إسرائيل.
ويبدو أن هذا المعنى كان يداعب الأركيولوجست «كاثلين كانيون» لكنها أبدا لم تصل إلى كون الخبيرو في نصوص العمارنة، كانوا هم فصيل يهوذا الهكسوسي وأنهم غير الإسرائيليين، فهي تقول: «إن قصة الخروج في حد ذاتها قصة مركبة، ففي وجهها الأول يبدو الهروب، الذي ينظر إليه المصريون بمثابة اختفاء مزعج ومتعب، لمصدر مفيد من مصادر عمل السخرة، وفي وجهها الثاني يبدو كأنه طرد لعبيد متمردين أو أجانب متسللين. ومن هنا يمكن القول بأنه توجد قصتان على الأقل للخروج، مندمجتان في قصة واحدة ... وبالنظر إلى وصف طريق الخروج ، تقول مناقشات الأب دو فو
De Vau
إن هناك طريقين منفصلين لهذا الخروج، وهو أمر أكثر إقناعا. أحد هذه الطرق يمر بحافة الزاوية الجنوبية الشرقية للبحر المتوسط، ومن ثم تدخل الجزء الجنوبي من فلسطين. ومن هنا تكونت قبائل يهوذا الجنوبية (وهو ما نراه الخروج الهكسوسي اليهوذي، الذي اتخذ طريق ساحل المتوسط ودخل فلسطين من جنوبها، واحتل أورشليم [المؤلف]). أما الطريق الثاني الذي سار عليه موسى وهو شخصية تاريخية، فينحرف بدرجة كبيرة نحو الجنوب، إلى أطراف شبه جزيرة سيناء (وهو ما نراه الخروج الإسرائيلي، الذي اتجه إلى بلاد مديان، في عمق سيناء الجنوبي والشرقي [المؤلف]) ... وهناك موقع آخر محتمل للجبل المقدس هو خليج العقبة.»
27
وتتابع كانيون تصورها لخروجين احتسبتهما كليهما لبني إسرائيل بالذات، فتقول: «أكد معظم الباحثين المحدثين النظرية القائمة على دخولين منفصلين لفلسطين من الجنوب ومن الشرق، ففيما يتعلق بالدخول من الجهة الجنوبية، لا توجد شواهد أثرية مؤكدة، لكن في نهاية القرن الثالث عشر قبل الميلاد (وهو زمن سقوط إخناتون [المؤلف]) تعرضت المدن الفلسطينية لتدمير شامل.»
28
ويتأكد صدق تخريجنا هذا عندما نتذكر ما سبق وأوردناه حول حملة الفرعون سيتي الأول على فلسطين، والتي كان غرضها صد هجمات العابيرو القادمين عبر نهر الأردن من الشرق إلى فلسطين.
29
وكان اسم العابيرو قد لحق الجميع يهوذيا وإسرائيليا، وبحسبة بسيطة سنكتشف مدى وجاهة نظريتنا في تحديد زمن الخروج الإسرائيلي من مصر ومدى دقتها، وهو ذات زمن الهجمة الهكسوسية الثانية على مصر زمن أمنوفيس/آمنحتب، الذي أشار إليه يوسفيوس نقلا عن مانيتو، والذي احتملنا أن يكون هو زمن آمنحتب الرابع/إخناتون، من مجموع مواصفات قدمها يوسفيوس تطابق إخناتون. فقد انتهى حكم إخناتون/آمنحتب الرابع عام 1350ق.م. وبعدها نؤكد مباشرة خروج الإسرائيليين من مصر، وبعدها مباشرة تأتينا أخبار حملة الملك سيتي لصد هجوم العابيرو، والقادمين من شرقي الأردن إلى غربه بفلسطين عام 1309ق.م. وبالحساب السهل نكتشف أن فرق زمن الخروج الذي افترضناه مع آخر أيام إخناتون، من زمن حملة سيتي، هو زمن وصولهم شرقي الأردن لعبوره، هو بالضبط الزمن الذي قضاه الإسرائيليون في سيناء؛ لأن الفارق هو بالضبط أربعون عاما، تلك المعروفة باسم سنوات التيه.
وفي كتاب اللآلئ الأثري الذي كتبه كاهن أوغاريت «ميلكو» - والذي أثار ضجة عالمية بعد أن تم العثور عليه كاملا - حتى أسماه البعض: التوراة الكنعانية - يوضح في ثناياه أن سبطا مثل أشير لم يدخل مصر إطلاقا، فقط ربما كان حليفا أصيلا ضمن الأحلامو، الذين كانوا يحاولون استعادة قوتهم، بعد ضربة مصر القوية التي هشمت الحلف، فنجد إشارات عديدة في اللآلئ إلى «الأشيرتم»، وهي صيغة جمع لكلمة «أشير»، اسم أحد الأسباط.
ورغم ما لحق نصوص الكاهن «ميلكو» من تلف، فإن فيها الكثير مما يمكن قراءته، مثل ذلك النص الذي جاء في اللوحة
IIAB
يقول:
ولكنهم ضاعفوا الخلاف هؤلاء الأشيرتم، فخذ شباكا وأنت تنحني ... انشقاق رؤساء اليوديم ... فيما قاسة إيل ... وأبناء إيليم سوف يدمرون أتباع أيل ....
ها هي النار منذ يومين تلتهم، وكل شيء وقع في العار، والأشياء القبيحة في القصور ... يذبح الأبقار حتى المواشي الصغيرة، يرجم الثيران وتحت تأثير اللعنات تهلك العجول ... وأنا أوافق على أن نخبر بأني أنشر الدمار في الأردن، إلى أحزانك سوف لا تدير وجهها قرتوهة
Qurst Uhe (قرية يهو؟ [المؤلف])، وكما أعلنت سينهار عرشها وستكون المغارة مسكنها، سوف أدمر ميراثها وستفنى ... ذل الليبنت
YABNT .
30
وفي اللوحة
IAB
كعلامة حداد ينثر على رأسه الرماد، الفلسطيني أمسك به حتى جعله يسقط، فاختبأ هربا من حصارهم ... لا تعط وجهك إلى العدو القاسي، عندما يتقرر جر العدو رئيس اليوديم حتى حلبا، لاحتلال رهايتم وسحق بيت الأحرار، اقبل أن يحكموا الأردن.
31
وفي اللوحة
VAB
عندما يتقدم العبريون، حدد حدودا للعبريين، لتكن قيلة
Queilah
للعبرانيين، وشمشيراي وأعالي الصحراء
Shensheray
لدغي
Ladoghy
وأشيرة
Asherat
من عاي.
Ai
حتى قادش
Quadesh ، ونحو مصائبك سوف لا تدير وجهها مصر القاسية.
إنهم باللعنات دمروا كفتور
Kaphtor ، حجبوا مساكنها بقوى سماوية، وأرض ميراثها، بمساعدة ألف إبليس مقاتل كالجيش، أسقطوها تحت الأقدام، وبسرعة جعلوها تنحني مثقلة بالشقاء.
32
ومثل كل النصوص القديمة، تبدو نصوص الكاهن ميلكو ملتبسة وصعبة الفهم، مع عدم اكتمال الجمل بسبب التلف والفقد، وميلكو الذي نعرفه كان يعمل في بلاط آمنحتب الرابع/إخناتون بالعمارنة بمصر على وجه التحديد، قبل أن يعود إلى بلاده أوغاريت. إلا أنه يمكن تكوين فكرة عامة من تلك النصوص تشير إلى حروب طاحنة، يقف سبط «أشير» كعنصر واضح فيها، ويحالفه عنصر آخر وهو «يوديم»، أي اليهود اليهوذيون، وليس في كل نصوص «ميلكو» إشارة واحدة إلى قبائل إسرائيل، مما يعني أنها لم تكن قد ظهرت بعد في المنطقة حتى زمن كتابة ذلك النص، ولم تشارك في تلك المعارك في البلاد الواقعة على الساحل الشرقي للمتوسط، وهو ما يعني أن القبائل الإسرائيلية كانت حتى ذلك الوقت لم تخرج بعد من مصر، وأن من خرجوا وأثاروا المعارك في المنطقة هم اليوديم/اليهوذيون/الهكسوس.
ويؤيد تفسيرنا هذا أنه في تقسيم الأرض على الأسباط فيما بعد، كان سبط أشير أقرب الفروع مكانيا إلى أوغاريت، مما يشير إلى استقراره في المناطق التي استولى عليها قبل الخروج الإسرائيلي، حيث كان عنصرا هكسوسيا أو حليفا تابعا، وكان يستقر هناك من زمن طويل.
ثم ملحوظة أخرى تشير إلى معارك خاضها رئيس اليهوذيين ضد الفلسطينيين، مما يشير إلى التواجد اليهوذي والتواجد الفلسطيني المستقر على الساحل زمن العمارنة، وهو المؤكد تاريخيا، حسبما أوردنا في فصل لغز البلست. ثم يحدثنا النص: «إنهم باللعنات دمروا كفتور» ولم يقل الكفتوريين حتى لا ينصرف ذهننا إلى الفلسطينيين البلست على الساحل الكنعاني. لقد خص الجزيرة «كفتور» بالذكر، وكانت تطلق عموما على جزر البحر المتوسط في نصوص العمارنة. إن النص يشير إلى تدمير اليهوذيين الهكسوس لبلاد كفتور بمساعدة ألف إبليس، وسبق وعلمنا من هم الأباليس أتباع ست تيفون. وبالطبع لا يمكن تصور أن تدمير كفتور كان عند احتلالها، فهذا زمن يبعد إلى الوراء حوالي قرنين من الزمان، لكنه حدث عند طردهم من مصر، حيث نجد في سجلات فراعنة التحرير نصوصا، تشير إلى أن فراعنة التحرير كانوا على اتصال واضح بقيادة الجزر، وأن الثورة التي حدثت في مصر ضد الهكسوس، قد واكبتها ثورة أخرى حدثت في كريت ضد الاحتلال الهكسوسي، حيث نجد لوحا دونه أحمس بالكرنك، لتخليد أعماله وأعمال والدته الجليلة القدر «إياح حوتب»، التي قادت الجند بعد موت زوجها سقنن رع، حيث شب ولداها كامس وأحمس لمتابعة نضال الأب الشهيد. وفي ذلك اللوح نجد إشارات واضحة لاتصالات بين قادة التحرير في مصر وبقية الثوار في بقاع الإمبراطورية الهكسوسية، الذين ثاروا بتحريض وبقيادة مصر، خاصة تلك المراسلات مع أهل بحر إيجة، الذين كانوا منذ زمن مبكر أتباعا وحلفاء مخلصين لمصر وملوكها.
وفي زمن التحرير سجل اللوح المذكور أن سكان بحر إيجة، قد أطلقوا على المرأة الحديدية «إياح حوتب»، لقب سيدة جزر البحر الأبيض «حايونبوت». ويوضح محمد حماد معنى هذا الاسم: حايونبوت بقوله إنه: «جزيرة كريت وما حولها من جزر؛ إذ إن هذه الجزر تعاونت مع المصريين في كسر شوكة الهكسوس في المنطقة كلها.» ثم يعقب على عبارات أخرى باللوح بقوله: «ويمكن أن نرى كذلك في هذه الكلمات ما يشير إلى أن هذه الملكة، قد قامت كذلك بنشاط ملموس خارج البلاد»، «ولا يستبعد أن يكون أهل الجزر أنفسهم هم الذين خلعوا على تلك البطلة ذلك اللقب مخلصين؛ لإعجابهم بها، فهم لا شك قد كرهوا حكم الهكسوس، وضاقوا به كما ضاق به المصريون. ثم إنهم وجدوا في مصر أقوى معين لهم على الخلاص. ولا شك أن هذه العلاقة القوية، التي نشأت بين مصر وكريت كانت لها أهمية خاصة، ظهرت في الثقافة وفي الصناعة والصلات، التي تبودلت بين أهل البلدين منذ أقدم العصور.»
33
أما التعبير «انشقاق رؤساء اليوديم»، فيوضح أن تلك الثورات التي اندلعت بتدبير حكام طيبة من فراعنة التحرير، في المناطق التي كانت تابعة لمصر من البدء، قد أدى إلى خلافات واضحة بين رؤساء الحلف الهكسوسي، أدت إلى انشقاقهم وتفسخ حلفهم . والإشارات مثل رجم الثيران وذبحها، تردد صدى ما نجده بعد ذلك في الشريعة التوراتية، التي كانت تأمر بإبادة المدن بشرا وحيوانا وعمرانا، وهي ذات الفعال التي سجلها المصريون عن محتلي بلادهم الهكسوس.
ولا يفوت الفاحص هنا الأسماء التي وردت بتلك النصوص لمواضع جغرافية، فدمار الأردن يترافق مع أولئك الذين يسكنون المغارات، الذين أذلوا أوغاريت، وقد ترجمت «ذل الليبنت»، بينما قراءتها الصحيحة. كما وردت بالنص
YABNT ، والياء تستبدل بالهاء أداة التعريف السامية الشمالية، إنها «ه - بونت» فهي ذل البونتيين أو المذلة لهم، أما قرتوهه
QUARTUHA
فهي «قيراتو». وقد جاءت بالنص واقعة في محيط الأردن وبلاد بونت، ونعتقد أنها الآن «قريات» إلى الشمال الشرقي من عاصمة آدوم (البتراء)، أو القرية قرب الحجر على ساحل البحر الأحمر الشرقي جنوبي آدوم، وتقع في محيط منطقة تحمل ذات التنغيم، فهي تقع في وادي القرى.
أما «مفيد عرنوق» فيلخص لنا رأيا سائرا، ألقاه المؤرخون إلقاء يقول: إنه «في فلسطين اختلطت شعوب سامية، بشعوب منحدرة من المناطق الجبلية الشمالية. وهذه الشعوب - وبنوع خاص الأناضولية القديمة - غير سامية، ألفت فيما بعد الشعب الحثي
HITTIES ، الذي خلف في فلسطين طابعا مميزا بالنسبة لبقية الأعراف، وهو الأنف المعقوف، الذي كان من المعتقد أنه من المميزات السامية وبنوع خاص اليهود، بينما هو كما نرى اليوم يعود إلى السلالة الأناضولية، فهو إذن غير سامي انتقل إلى الساميين عن طريق التمازج السلالي.»
34
أما الأركيولوجي والعالم اللغوي في الأوغاريتيات البروفيسور «ميدكو»، فيقدم لنا التباسات وخلطا تاريخيا اعتدناه في متابعتنا لتاريخ المنطقة، وفي وسطها إضاءات برقية حقيقية، تبدو كحدس سريع تأكد لنا يقينه بعد كل ما قلناه. ويقدم لنا هذا المزيج المتنافر في قوله: «من هم العبرانيون؟ ومن أين أتوا؟ جوابا على هذه الأسئلة التي طالما اكتنفتها المتناقضات، يمكننا اليوم إعطاء جواب عنها، فكان دخولهم إلى فلسطين في زمن تل العمارنة، أي حوالي 1400ق.م. ويصح أن يكونوا من قبائل الخبيرو، التي كانت تقاتل آنئذ الكنعانيين. أما تقاليد العبرانيين فقريبة في ذلك العهد، من تقاليد الحيثيين وشعوب بين النهرين. ومن المرجح أنهم كانوا يتكلمون لغة قريبة من اللغة الحوية،
Hevien ، كتابتها هيروغليفية استخدمها الحيثيون الأوائل. ولما كان إلههم يدعى يه أو يهوه، فثمة صلات لغوية وعرقية، كانت تربطهم بالحيثيين والحويين الساكنين في البلاد. إذن الافتراض هو أن العبرانيين يؤلفون بقايا الحيثيين، الذين اجتاحوا مملكة بابل بتاريخ 1900، ونحن نلاحظ أن التوراة تعتبر دوما الحيثيين والحويين على صلات طيبة.»
35
وهكذا حل «ميدكو» المشكلة في تلك السطور ببساطة ساذجة لم تحل شيئا، بينما استغرقت منا نحن الصفحات السوالف وما سيليها، وأكلت من عمرنا أحلى سنواته!
ويصبح الخابيرو في زعمنا اسما عاما على الأحلاف الهكسوس اليهوذيين، بينما يشكل الإسرائيليون في تلك الأحلاف واحدا فقط من عناصرها. وإذا كان الخابيرو أو العابيرو هم أحلاف آدوم وبوادي الشام، فهو الأمر الذي يفسر للباحثين ذلك التضارب الشديد في الآراء حول أصل العابيرو. وهو ما يفصح عنه قول فراس السواح: «نلاحظ كل من أسماء زعماء العابيرو في رسائل تل العمارنة أن بعضهم من أصل سامي مثل ملكيلو (ملك - إيلو)، وبعضهم الآخر من أصل هندوأوروبي مثل شوارداتا ولابايو، وهذا يدل على الأصول المختلفة لجماعات العابيرو، وعدم انتمائها إلى منشأ إثني عرقي واحد.»
36
وملاحظات فراس السواح على أسماء زعماء العابيرو هي ذات ملاحظاته على الهكسوس، فهو يقول في موضع آخر: «ورغم أن معظم أسماء الملوك الهكسوسية سامية، إلا أننا نعثر بينها على أسماء غير سامية أيضا، الأمر الذي يدل على وجود عناصر مختلطة في التركيب الإثني العرقي لهذه الجماعات، وربما كانت هذه العناصر غير السامية قد جاءت من أصل حوري، وأن الطبقة العسكرية الحاكمة للجماعات الحورية كانت من أصل هندوأوربي.»
37
وهو أمر انتهى المؤرخون إلى إقراره كما جاء عند «بيومي مهران» يقول: «إن الهكسوس أنفسهم كانوا خليطا من أجناس مختلفة ما بين آرية وسامية.»
38
لذلك ينتهي السواح إلى القول: «إن هؤلاء الخابيرو لم يكونوا جماعة عرقية متميزة، بل أخلاطا من أجناس شتى، ولا تساعدنا أسماء الأعلام الدالة على أفراد منهم في نصوص ماري وغيرها من ممالك البرونز الوسيط، على تبين لغة واحدة تجمع بينهم. كما أن هذه النصوص لا تساعدنا على تحديد نمط حياة موحد لهذه الجماعات.»
39
ويذكر السواح تفصيلة تشغلنا وتغنينا، وتؤكد نظريتنا في تحالف عنصر جنوب جزيري وزنجي، مع عنصر هندوآري قادم من الشمال، في المركز التجاري العالمي الوسيط؛ إذ يقول: «وتشير هذه النصوص إلى جماعتين رئيسيتين في الخابيرو هما: بنو يامينا أو أهل الجنوب، وبنو شمأل أي أهل الشمال.»
40
إن الخابيرو أو يهوذا أو الهكسوس كانوا يتشكلون من موجتين مهاجرتين، موجة مختلطة زنجية - جنوب جزيرية قادمة من جنوب الجزيرة، قبل أن تتكلم العربية المعروفة، ويمثلهم اصطلاح بنيامين/بنويمينا، التي تعني أبناء الجنوب؛ لأن الكلمة يمن في العبرية تعني الجنوب، كما تعني بلاد اليمن «ساكن الجزيرة كان يحدد الاتجاهات الأصلية، بالتوجه نحو شروق الشمس، فتصبح بلاد اليمن عن يمينه والشام عن شماله». أما الهجرة الثانية فهي هندوآرية قادمة من الشمال الأرميني، والتركي، هم بنو شمأل أو بنو الشمال أو بنو شمأعيل (إسماعيل).
وقد ذكرت بداية ملحمة قراتو الأوغاريتية، أن
HBR
العابيرو فئة عظيمة جبارة، وأن قادتهم كانوا يعرفون بلقب
Try
الجبابرة أو العمالقة.
41
وتتتالى الأحداث ويخرج الإسرائيليون من مصر بقيادة موسى، ولا يأخذون الطريق المباشر إلى فلسطين من شمالي سيناء، والمحاذي لساحل المتوسط لدخول فلسطين من حدودها الجنوبية المفتوحة على سيناء، فإنهم بدلا من ذلك يدورون داخل سيناء دورانا طويلا مع ساحل ذراعي البحر الأحمر. وعللنا ذلك بأنهم اتجهوا قاصدين إلى حلفائهم التاريخيين في مديان، ودخلوا فلسطين من شرقها بعبور نهر الأردن إلى غربه، ليظلوا أربعة قرون يعيشون في هيئة ائتلاف قبلي (نظام القضاة)، حتى تمكن أحد أفراد الفصيل الإسرائيلي المعروف باسم «شاءول» من قبيلة بنيامين، أن يقيم المملكة، لكن ليلتف عليها العنصر اليهوذي بقيادة «داود»، الذي كان من يهوذا حوالي 1012-972ق.م. ويتم قتل «إيشبوشت» ابن شاول، ليستولي داود واليهوذيون على الحكم.
وكان إيشبوشت بن شاول ابن أربعين سنة، حين ملك على إسرائيل، وملك سنتين، أما بيت يهوذا فاتبعوا داود. (صموئيل ثاني، 2: 10)
وفي عهد سليمان بن داود حوالي 972-932ق.م. يدون المقدس عن الاتحاد بين العنصرين اليهوذي والإسرائيلي:
وكان يهوذا وإسرائيل كثيرين كالرمل الذي على البحر في الكثرة. (ملوك أول، 4: 20)
وسكن يهوذا وإسرائيل آمنين. (ملوك أول، 4: 25)
لكن مع موت سليمان يقرر الفرع الإسرائيلي الاستقلال، وفي حوالي عام 932ق.م. تنفصل القبائل ، ويؤكد لنا المقدس أن ذلك النزوع للانفصال، كان قائما من زمن داود، فيقول:
فعصى إسرائيل على بيت داود إلى هذا اليوم، ولما سمع جميع إسرائيل بأن يربعام قد رجع، أرسلوا فدعوه إلى الجماعة، وملكوه على جميع إسرائيل، ولم يتبع بيت داود إلا سبط يهوذا وحده، ولما جاء رحبعام (ابن سليمان [المؤلف]) إلى أورشليم، جمع كل بيت يهوذا وسبط بنيامين. (ملوك أول، 12: 19-21)
وهكذا فإن «يربعام» الإسرائيلي، كان قد عصى على سليمان اليهوذي وثار عليه، ثم هرب إلى بلاد مصر لاجئا سياسيا، وعاد بعد موت داود، ليملك على الإسرائيليين في مملكة منفصلة باسم إسرائيل وعاصمتها السامرة، بينما حكم «رحبعام بن سليمان» المملكة الجنوبية، باسم مملكة يهوذا وعاصمتها أورشليم. وعلينا أن نتذكر هنا أن الفرعون «شيشنق»، قد هاجم مملكة رحبعام بن سليمان، بعد تولي رحبعام بخمس سنوات، مما يشير إلى أنه كان لا يزال يدعم يربعام الإسرائيلي في انفصاله عن يهوذا، حيث نجد مملكة إسرائيل تقوم في الشمال بعد غزوة شيشنق لفلسطين. أما ما يجب أن نلحظه هنا فهو أن النصوص التوراتية، عندما تتحدث عن الشعبين متحدين، تستخدم اصطلاح كل إسرائيل أو جميع إسرائيل ويهوذا، كما في قول المقدس التوراتي عن سنى حكم الملك داود:
وفي أورشليم ملك ثلاثا وثلاثين سنة على جميع إسرائيل ويهوذا. (صموئيل ثاني، 5: 5)
وعندما كانت نصوص التوراة تود الإشارة، إلى واحدة من قبائل التحالف الإسرائيلي مثل بنيامين؛ فإنها كانت تستخدم اصطلاح سبط، أي فرع إسرائيلي، لكنها حين كانت تريد الحديث عن إسرائيل، بكل أسباطها وحدها دون يهوذا، فقد كانت تستخدم اصطلاح «بيت إسرائيل» لتميزه عن «بيت يهوذا»، مما يشير إلى انفصال واضح بين قبائل يهوذا وبين قبائل إسرائيل، فأبناء إسرائيل أسباط، أما يهوذا فليس سبطا، إنما هو بيت مستقل عن بيت إسرائيل، ثم تجمع التوراة كل بيت إسرائيل في يعقوب، وكل فصائل الهكسوس في يهوذا، كما في قولها:
بل أخرج من يعقوب نسلا، ومن يهوذا وارثا لجبالي، فيرثها مختاري. (إشعيا، 65: 9)
في تلك الأيام يذهب بيت يهوذا مع بيت إسرائيل ويأتيان معا. (إرميا، 3: 18)
أما الإشارة الفصيحة البليغة، فهي في تقرير الرب نفسه، أنه حاول لصق البيتين معا قدر استطاعته لكنه فشل، انظره يقول:
ألصقت بنفسي كل بيت إسرائيل وكل بيت يهوذا، يقول الرب، ليكونوا لي شعبا واسما وفخرا ومجدا لكنهم لم يسمعوا. (إرميا، 13: 11)
وتنقسم المملكة وينفك الحلف، ويظل الأنبياء يحلمون بحلم الأحلامو مرة أخرى، وأن المملكة ستقوم في أيام مقبلة، يرددون الأماني قائلين:
ها أيام تأتي، يقول الرب، وأقيم لداود غصن بر فيملك ملك، وينجح ويجري حقا وعدلا في الأرض، في أيامه يخلص يهوذا ويسكن إسرائيل آمنا. (إرميا، 23: 5، 6)
أما زكريا فقد بح صوته وهو ينادي الشتات:
يا بيت يهوذا ويا بيت إسرائيل. (زكريا، 8: 13)
لكن الإشارة الهامة هنا للغاية، والتي تشير إلى أن لحظة خروج إسرائيل من مصر، كان يهوذا مستقرا في مقدسه أورشليم، تهرب منه مياه فلسطين وجبالها، في كناية عن خشيتها بأس يهوذا، في صيغة توراتية تقول:
عند خروج إسرائيل من مصر، وبيت يعقوب من شعب أعجم.
كان يهوذا في مقدسه وإسرائيل في محل سلطانه (سيناء [المؤلف])، البحر رآه فهرب. الأردن رجع إلى الخلف، الجبال قفزت مثل الكباش، والآكام مثل حملان الغنم. (مزامير، 114: 1-4)
وبينما يهوذا أو كما نزعم: الخابيري الهكسوسي قد استقر في جبل صهيون بأورشليم، وإسرائيل لم يخرج بعد من مصر، قال الرب عن يهوذا:
أساسه في الجبال المقدسة، الرب أحب أبواب صهيون (ومقرها مملكة يهوذا [المؤلف])، أكثر من جميع مساكن يعقوب. (مزامير، 87: 1، 2)
لقد وضح أن الأقوى دوما كان يهوذا، وهو من دونت أغلب أسفار التوراة في حجره، ومن على كرسي سلطته، فساد ربه يهوه بسيادته، بينما تراجع إيل رب إسرائيل، الذي كان يشغل كل سفر التكوين.
أما جبل «صهيون» الذي استبدلته المملكة بجبل سيناء المقدس، وجبل «صافون» الأقرع في الشمال السوري، حيث عبادة بعل حداد، وأطلقت اسمه على جبال أورشليم عاصمة يهوذا، فإنه لم يستطع إخفاء أصله؛ لأن «صهيون» لغة ليست شيئا آخر غير «صاهيون» أو «صافون»، باختلاط الياء، وكذلك الواو مع الفاء كما في «لاوي» و «ليفي».
هذا بينما ترد إشارات غامضة إلى عنصر يسمى «الحوى»، كان في طريق الخارجين من مصر، وينطق أيضا «الهوى» وهو واضح النسبة إلى يهوه، لكن تم إخفاءه بعناية في طوايا الأحداث، وهو ببساطة اسم يدل على الجنس اليهوذي الهكسوسي، الذي انتشر شذرا مدرا في سيناء وبوادي الشام، بعد طرد الهكسوس من مصر بعد، واستعادة مصر لسلطانها على أملاكها الآسيوية.
وتلك الإشارات السريعة إلى «الحوى/الهوى»، تفصح عن نفسها وتصبح شديدة الوضوح، بعدما قلنا وشرحنا، وينجلي السر عن ذلك الشعب الغامض، الذي حير الكتاب والباحثين زمانا، فهم الشعب الذي اتحد مع الإسرائيليين بقيادة يشوع بن نون، في نص شارد وسط أحداث، لا تعطي فرصة التأمل للكشف، ومن نماذج ذلك:
الحويون صالحوا يشوع. (يشوع: 9)
لم تكن مدينة صالحت بني إسرائيل إلا الحويين. (يشوع، 11: 19)
أما من هؤلاء الحويين/الهويين، فهو ما يفصح عنه نص يتحدث عن تاريخ قديم لعلاقة يعقوب بهم، عندما حل ضيفا عليهم يعيش في حماهم، ويشير إلى اسم ملك على هؤلاء الهويين في قول التوراة:
حمور الحوي رئيس الأرض. (تكوين، 34: 1-3)
لقد كان ذلك الملك الهوي الحوي يعتز ويفخر باسم إلهه، فيتسمى باسمه «حمور» مثل بقية الملوك الحميريين، ومثله كان حمورابي في بابل من قبل يعتز باسمه «الحمار أبي».
أما «زينون كاسيدوفسكي»؛ فيعقب على كل تلك الأحداث، بعد انفصال المملكة إلى عنصريها المتمايزين، بقوله: «وعلى ضوء هذه الحقائق يغدو الوضع في كنعان واضحا، سكنت القسم الشمالي منه القبائل اليهودية القديمة، التي لم تكن في مصر في أي يوم من الأيام، ولم تغادره منذ زمن غابر (لأنه لم يعرف ما عرفنا في بحثنا هنا [المؤلف])، وكانت قد تمثلت حضارة الكنعانيين وعبدت آلهتهم، بينما استوطن القسم الجنوبي من أرض كنعان الإسرائيليون الذين جاءوا من مصر.»
42
وهكذا خلط «كاسيدوفسكي» حابلها بنابلها، فالرجل مثله مثل كل من كتب في هذا الأمر، لمن يكن يعلم ما علمنا، وهو أن يهوذا ليس شيئا آخر غير الحلف الهكسوسي الأخلامو قاطن الجنوب، ومن ثم رأى أن القبائل اليهودية لم تدخل مصر إطلاقا، بل دخلها العنصر الإسرائيلي وحده؛ ولأن جنوبي فلسطين هو الملاصق لمصر، فقد استنتج كاسيوفسكي بسرعة البرق الاستنتاجية التي لحظناها عند الباحثين، خاصة الأركيولوجين، الذين نتمنى عليهم أن ينهمكوا في سبر أغوار الأرض وفك طلاسم الكتابات القديمة، ويتركوا لفلاسفة التاريخ مهمة التحليل والتركيب والربط والاستنتاج، استنتج «كاسيدوفسكي» أن سكان الجنوب هم من خرج من مصر، ليقلب بذلك التاريخ رأسا على عقب، ويقلب الجغرافيا عقبا على رأس. مستندا إلى شاهد آخر، هو أن قبائل المملكة الشمالية عبدوا آلهة الخصب الكنعانية، بينما ظلت المملكة الجنوبية على عبادة يهوه، هذا بينما التفسير الواضح لدينا، هو أن اليهوذي الهكسوسي قد خرج من مصر مطرودا بثورة تحرير، إلى مواضعه التاريخية جنوبي فلسطين. واستمر الفراعنة على التوالي في ضرب هذا الحلف في مواقعه التاريخية، بغرض تشتت الحلف، فوجوده خطر دائم على الحدود المصرية. وبعد ضرب الحلف وتمزقه، ذهب بعضه جنوبا إلى جزيرة العرب، ومنه من ذهب إلى بوادي الشام الشمالية وأسس الممالك الآرامية، ومنه من تشتت في الجزر اليونانية، ومنه من استقر في مواضعه التاريخية في بلاد آدوم ومحيطها، ليخرج الإسرائيليون بعد ذلك من مصر، ويعيدوا التحالف مع الأحلاف، في محاولة استعادة صيغة الأحلامو. ويدخل الإسرائيليون إلى فلسطين من شرق الأردن إلى أريحا، ولا يهبطون جنوبها لأن جنوبها كان موطنا لليهوذيين الهكسوس، إنما يستوطنون الجزء الشمالي الذي حمل تاريخيا اسم إسرائيل، مما يشير إلى أن هذا الجنوب كان مملكة قائمة عصية، وظل الجنوب يحمل اسم يهوذا، وتتحد المملكة زمن «شاول» الإسرائيلي، لكن لتخرج سدة العرش من بيت إسرائيل الشمالي بعد ذلك إلى بيت يهوذا الجنوبي، فيستولي «داود» اليهوذي على المملكة، ويحكم بعده ولده «سليمان»، ثم يعود البيتان للانفصال زمن (رحبعام ابن سليمان/اليهوذي)، بدعم عسكري مباشر من فرعون مصر ليربعام الإسرائيلي، إمعانا في تقسيم الحلف الخطر.
وكان طبيعيا أن يتعبد الإسرائيليون الخارجون من مصر لآلهة الخصب والنماء، بينما يظل اليهوذيون كما كانوا في مواطنهم الأولى، وكما كانوا في مصر، وكما ظلوا بعد طردهم منها ، يتعبدون لآلهة الصحارى دوشريت «سيت/عناق/هفا/يهوه» البونتي السيناوي.
وإذا كان فرع يهوذا هو الهكسوس كما نقول نحن، فذلك يفسر لنا نصا توراتيا ظل غير مفهوم زمنا طويلا، ورد في سفر ملوك ثاني، يتحدث عن زمن الملك يربعام بن يوآش، أحد ملوك إسرائيل الشمالية بعد انفصالها بزمن، ويحكي ذلك السفر أن يربعام هذا، دخل معارك مع جيرانه الشماليين وكانوا آراميين خلصا، وأنه انتصر في تلك المعارك، وأنه «استرجع إلى إسرائيل دمشق وحماة التي ليهوذا (ملوك ثاني، 14: 28).
وقد وقف الباحثون إزاء هذا النص يضربون الأخماس في الأسداس؛ لأن دمشق وحماة لم تكن يوما تابعة لمملكة يهوذا، بل كانت تفصلها عن يهوذا دولة إسرائيل شقيقتها المنفصلة اللدود. فكيف استرجع ملك من دولة إسرائيل الشمالية إلى دولته إسرائيل دمشق وحماة، اللتين كانتا تتبعان دولة يهوذا الجنوبية؟! كما لو كان بطلا تاريخيا، أعاد الأمور إلى نصابها القديم الذي لم يكن حقيقة إطلاقا.
إن المحرر التوراتي كان يعلم أن سبط يهوذا هو ذاته الهكسوس، وأنه ضمن مملكة الهكسوس الكبرى كانت دمشق وحماة، ورغم أن واقعة استرجاع يربعام للمدينتين لم تحدث إطلاقا، فإن النص ينفتح على ذكريات كان مطلوبا نسيانها، لكنها تقفز بين آن وآخر لتعطينا مفاتيح الألغاز.
وهكذا نكتشف أن التوراة السبعونية كانت تسجل فقط زمن دخول أسباط إسرائيل وخروجهم، لتؤكد أنهم بقوا في مصر فقط 215 عاما، بينما كانت التوراة المازورية العبرية اليهوذية الخابيرية الهكسوسية، تسجل زمنا آخر للبقاء في مصر، بدأت به من لحظة دخول الأحلاف الكبار إلى مصر، فهذا هو تاريخها مع مصر، وهو التاريخ الذي أنهته ليس بطرد الهكسوس اليهوذيين من مصر، إنما ضمت إليه زمن بقاء حلفائها الإسرائيليين في مصر، وأنهته مع الخروج الإسرائيلي، فسجلت زمن بقاء الهكسوس في مصر، من لحظة دخولهم حتى طردهم على يد أحمس، وهو الزمن الذي يجب أن يبدأ حول عام 1786ق.م. وينتهي بولاية أحمس فرعون التحرير حوالي 1575ق.م. وهو الزمن الذي يساوي 211 سنة، بفارق 4 سنوات فقط، وهو ما يمكن تجاوزه في علم التاريخ، ثم أضافت التوراة المازورية الزمن الذي استغرقه بقاء الإسرائيليين في مصر، من لحظة دخولهم زمن أسيس، آخر فرعون هكسوسي، إلى زمن خروجهم بعد سقوط إخناتون، وهو الذي يساوي بدوره وعلى وجه الدقة 215 عاما، وجمعت كليهما في زمن واحد هو 430 عاما.
لكن يبقى أمام ما قدمناه هنا لحل مشكلة الخابيرو عقبة شديدة الوطأة، يمكنها نقض كل ما قلناه وتشتته أدراج الرياح. وهي التي تتمثل في النص الذي سلفت الإشارة إليه، في بداية الحديث عن الخابيرو والذي يعود إلى زمن رمسيس الثاني، وهو النص الذي يتحدث عن وجود الخابيرو في مصر، وأنهم كانوا يعملون في نقل الأحجار للمعبد، الذي يبنيه في رسالة الكاتب «كوسيرا» إلى رئيسه «بيكوبتاح»، التي يقول فيها:
وقد أطعت الأمر الذي أصدره سيدي، فأعطيت قمحا للعكسر والعابيرو، الذين ينقلون الأحجار إلى حصن رمسيس العظيم، تحت ملاحظة إفمان رئيس الضباط، وأعطيتهم القمح كل شهر، طبقا للأمر الصادر إلي.
فهل ترانا قد ذهبنا في الطريق الخطأ مذهبا بعيدا؟ هنا كان لا بد من مراجعة الأمر كله، على الأحداث التوراتية التي يجب - وفق نظريتي - أن تتزامن مع أيام حكم أسرة العمارنة، إذا كان فرضنا لزمن الخروج صحيحا، حيث قلنا إنه قد تم طرد الهكسوس العابيرو من مصر، على يد ملك التحرير أحمس عام 1575ق.م. بعد أن بقوا بها مائتين وخمسة عشر عاما، وتم أسر الإسرائيليين ليبقوا بعد هذا التاريخ مائتين وخمسة عشر عاما أخرى، أي إنهم بذلك يكونون قد خرجوا زمن إخناتون، الذي حكم ما بين 1367-1350ق.م. والخروج يكون قد حدث بعد سقوطه عن العرش بعشر سنوات، أي يكونون قد خرجوا حوالي 1340ق.م.
ويحكي الكتاب المقدس أن الخارجين قد استغرقوا في الرحلة من مصر إلى فلسطين أربعين سنة، ثم عاشوا تحت الحكم القبلي المعروف بحكم القضاة، وكانوا على الترتيب (أي القضاة):
عنثئيل بن قناز، وأهود بن حيرا، ثم القاضية المشهورة دبورة، ودبورة كلمة عبرية تعني النحل، وهي التي تعنينا هنا، حيث عثرنا معها على حل المشكلة المطروحة، كعقبة في طريق الحل الذي طرحناه .
هنا يحكي لنا الكتاب المقدس في الإصحاح الرابع في سفر القضاة، أن الملك «يابين» الكنعاني، أذل الإسرائيليين في فلسطين، وكان مقر ملكه في مدينة حاصور. أما قائد جيشه فكان اسمه «سيسرا»، وكان «سيسرا» يسكن في مدينة «حروشة الأمم».
ويشرح لنا قاموس الكتاب المقدس معنى اسم «حروشة الأمم»، تحت مادة «حروشة» بأنها تجمع سكني لأجناس من أمم مختلفة، وأنها الآن هي عند أصحاب هذا القاموس، هي تل عمار على بعد 16 ميلا إلى الشمال الغربي من مجدو بفلسطين.
والغريب أن الكتاب المقدس يقرر أمرا شديد الغرابة، فيؤكد أن قائد الجيوش هذا المعروف باسم «سيسرا»، كان لديه قوة ضاربة هائلة، تتكون من تسعمائة مركبة سريعة من الحديد. وهو أمر لا يمكن على الإطلاق تصوره، مع ملك إقليمي لمدينة إقليمية بفلسطين، فهذا جيش يليق بإمبراطورية من إمبراطوريات ذلك الزمان.
ونتابع رواية الكتاب المقدس، فتقول إن القاضية النبية الإسرائيلية دبورة، كانت تعيش في مكان يدعى جبل «تابور»، أو «دبور»، وأنها دعت الإسرائيليين لمقاومة «سيسرا» وجنده عند قادش.
وبغض النظر عما لحق القصة من تهويلات أسطورية، فإن الحدث يمكن فهمه في ضوء قصة الحملة الثالثة للملك رمسيس الثاني على فلسطين، حوالي عام 1295ق.م. ضمن حملات كانت موجهة دوما نحو قادش الجليل ومحيطها، ويحكي لنا التاريخ:
وفي السنة التالية، وصل رعمسيس شمالي فلسطين، حيث حاصر شاتونا، ثم دابور التي كانت تقع في النهاية الجنوبية لمملكة عمورو، وبذلك يكون موقعها في غربي الجليل، وفي قلعة دابور هذه، سحب الحيثيون ملك العموريين السابق، الذي خلعوه ينبت شينا، ويبدو من النص أن الحيثيين قد استولوا على دابور السورية، وهي أقصى مدينة في الجنوب يصلها الحيثيون إلى حد الآن، وعندها دارت موقعة مهمة، الأمر الذي حدا برمسيس الثاني إلى التقدم واختراق بلاد نهرينا/دولة «ميتاني»، واستولى على رتنو السفلى/شمالي سورية، وأرواد وبلاد كفتيو. وفي هذا الوقت أو بعده بقليل قام رمسيس بغزو بلاد موآب، وآدوم.
43
هكذا تعلمنا نصوص معارك رمسيس الثاني بمعركة كبرى ضد فلسطين، وضد غزاتها الحيثيين القادمين من الشمال، وأن هناك موقعة قد حدثت عند منطقة باسم دابور تقع غربي الجليل، وهو الموقع الذي حدده قاموس الكتاب المقدس لحروشة الأمم وجبل دابور.
وبعد أن هزم رمسيس الثاني سكان تلك البلاد وقام بتأديبهم، ورد الحيثيين وأوقف خطرهم مؤقتا، عاد إلى مدينته «بي/رعمسيس» بعدد غفير من الأسرى.
تمت هزيمة الآسيويين، جميعا أتوا صاغرين، ينحنون أمامه في قصره في بي رمسيس ميري آمون.
44
لقد كان هؤلاء الأسرى هم العبيرو، الذين جاء ذكرهم بعد ذلك، يحملون الأحجار لبناء الملك رمسيس الثاني. أما الحاسم في الأمر؛ فهو أن اسم ذلك المحارب، الذي كانت لديه تلك المدرعات الهائلة، والذي سجله المقدس التوراتي بحسبانه قائد جيوش كنعانيا، بخطأ فادح لا نعلم سره الآن، كان يحمل اسم «سيسرا»، وهو اللقب المتكرر المحبب للملك رمسيس الثاني. لقد كان ذلك اللقب هو «سي سي رع».
45
وهكذا يمكن تفسير وجود عابيرو في مصر، يعملون في خدمة رمسيس الثاني، بعد طردهم من مصر بسنوات طويلة. لقد جاء بهم رمسيس أسرى من حملته التي وصلت إلى «دابور».
الفصل التاسع
قاطعو الرقاب
معلوم أن اصطلاح «سامي» أو «ساميين»، تسمية قد وضعها على أساس توراتي «شلتوتزر» سنة 1781م، وانتشرت من بعده بعد أن قسم أجناس البشر حسب التوراة إلى: ساميين وحاميين ويافثيين؛ نسبة إلى أبناء نوح: سام وحام ويافث. وأصحاب هذا التقسيم يذهبون إلى أن سام قد أنجب العبريين والعرب، الذين يسكنون بوادي الجزيرة والشام وسيناء، وأن حاما قد أنجب المصريين والزنج الكوشيين الساكنين أفريقيا. وللعجب تمت إضافة الكنعانيين الشاميين، إلى بني حام في شجرة الأنساب التوراتية، رغم أنهم ليسوا أفارقة بل من سكان فلسطين الآسيوية، لكن يبدو أن التوراة كانت تدون ذلك بما لديها من ذكريات، زمن كانت فيه بلاد كنعان تتبع مصر سياسيا، فاحتسبت الكنعانيين مصريين. هذا بينما أنجب يافث الهندوآريين وضمنهم الترك والصقالبة واليونان وأوروبا. وقد عني علماء الساميات باصطلاح اللغة السامية، مجموعة لغات شقيقة هي: العبرية والفينيقية والآرامية والبابلية والآشورية، والعربية والحبشية الجعزية والأمهرية.
وقد سبق وعرضنا للفريق الذي يعيد أصول الساميين إلى جزيرة العرب، عندما كانت جنات وارفة تزخر بالأنهار. وعلمنا أن مشكلة هذه النظرية التي تجعلها مستعصية القبول، هو أنها تعود بنا إلى أحداث وقعت إبان نهاية العصر الجليدي الأخير، لتفسر لنا بها حضارات في أطراف شبه الجزيرة الشمالية في الألف الثالث والثاني قبل الميلاد.
بينما علمنا أن هناك فريقا آخر يذهب إلى الاتجاه المعاكس تماما، فيأتي بالساميين مع الهندوآريين من بلاد أرمينيا القديمة، دون تبرير واضح للخلاف اللغوي والجنسي، لشعبين ينطلقان من مكان واحد في اتجاه هجرة واحد، ليستقروا في مكان واحد، ويستمد هذا الرأي رؤيته من سفر التكوين التوراتي، الذي ينسب الشعوب السامية إلى أرفكشاد
Arpachsad ، أو أربكسد بن سام بن نوح (تكوين، 10: 22-24 و11: 12).
حيث لوحظ أن هذا الاسم هو بالضبط الاسم التاريخي لمنطقة «أرابكست»، أو آرابا - خيتيس
Arrapa Chitis
التي تسمى الآن «البك»،
1
ولعله من الواضح أن الكلمة هي أيضا عرابة خيتيس، ولو أخذنا بهذا الشكل اكتسب الاسم معنى واضحا، هو العرب الحيثية أو الكاسية أو العرب الكاسيين أو القيسيين، ويكون هؤلاء حسب نظريتنا، هم من منحوا وادي
Arrapa
عند العقبة اسمه عندما جاءوه مهاجرين. والتوراة تشرح لنا أن هناك قوما قد تعرضوا لكارثة طبيعية، مرموزا لها بأسطورة «طوفان نوح»، اضطروا معها إلى الهجرة على فلك أسطوري من مكان ما في الشرق، معبرة بذلك الترميز عن وطن أول بعيد، هو برأينا براري أواسط آسيا شمالي الهند، ثم تقول الأسطورة ترميزا للهجرة الأولى: إن السفينة ألقت مراسيها عند المحطة الأولى لأولئك المهاجرين على جبال أرارات، الموجودة الآن بذات الاسم قرب بحيرة فان، في بلاد أرمينا إلى الشمال من العراق في محيط بحر قزوين، ومن هناك انطلقت أجيال جديدة من البشرية، تفرقت أجناسا في أنحاء العالم الشرق أوسطي المعروف آنذاك، والتوراة تؤكد:
واستقر الفلك في الشهر السابع في اليوم
السابع عشر من الشهر على جبال أراراط. (تكوين، 8: 4)
وهنا يلفت «جودي» نظرنا إلى أن الساميين، ليس لديهم اسم مشترك للجبل، لكن لديهم اسم مشترك للنهر، ويستنتج من ذلك أنهم كانوا في الأصل أهل زرع، يعيشون معا قرب الأنهار في مناطق ليست جبلية أو صحراوية،
2
وهو يريد بذلك تأكيد الأصل التوراتي الأراراتي الأرميني للساميين، كما هو في الوقت ذاته أصل الهندوآريين.
لكن الدكتور لويس عوض من جهته، لا يعير اهتماما لحديث جويدي، عن الأصول الزراعية للساميين القادمين من أرمينيا. ولأن الساميين عموما كانوا من البدو الرعاة، فقد قام يوجز أبحاثا كثيرة لذوي التخصص، تدعم ذلك الرأي فيقول: «ظلت القوقاز وميديا (شمالي إيران [المؤلف])، وعامة منطقة بحر قزوين، حتى العصور التاريخية الحديثة نسبيا 1000-500ق.م. مجتمعات رعاة في المقام الأول، رغم معرفتها بالزراعة ورغم الاستقرار الزراعي في أحواض أنهار الهند، كما نستخلص في كتب إيران المقدسة، ولا سيما الأفستا
Aveasta
والجاثا والأوبانيشاد
upanishads ، حيث نشم رائحة أبقار الرعي وجيادها وأعشابها الغالبة في كل سفر من أسفارها.»
3
ولأننا نعتقد - كما وضح - بهجرة قادمة من أرمينيا، هي الهجرة الآرامية، لكنا نراها محض هندوآرية؛ ولأننا نراها هجرة لقوم من البدو وليسوا زراعيين، فقد ذهبنا نبحث عن تفسير لقوم رعاة رحل، عاشوا في مناطق زراعية خصبة، فعثرنا عند المؤرخين الكلاسيك على ذات المشكلة تواجههم وتؤرقهم، فقد لفتت نظرهم ظاهرة شعوب مرتحلة، تسلك مسلك النظام البدوي الرعوي، رغم معيشتها حول أنهار ومناطق خصيبة، فساقوا لتفسير ذلك ألوانا طريفة من الافتراضات، مثلما جاء عند «يفستافي» محدثا عن قبائل تعيش في مناطق الأنهار حول بحر قزوين، تحمل اسم سكيث أو سكاث أو سكيذ، فالاسم غير منضبط على لفظ ونطق واحد صارم في الكتابات القديمة، لكنه يدور حول ذات التنغيم، فيقول «يفستافي»:
يروى أن سكيث كانوا في السابق يأكلون الخبز، ويزرعون الأرض ويعيشون في المنازل ويملكون المدن، إلا أنهم بعد الهزيمة التي ألحقها بهم الفراكيون، بدلوا نمط حياتهم، وأقسموا قسما لا رجعة فيه، ألا يقوموا أبدا ببناء المنازل، ولا بزراعة الأرض ولا تشييد المدن، ولا امتلاك الأشياء الثمينة. إنما جعلوا من عرباتهم مأوى لهم، ومن الحيوانات طعاما لهم ومن اللبن مشربا لهم، وألا يمتلكوا من القطيع سوى ذلك القدر، الذي يسمح لهم باصطحابه من بلد إلى آخر، منذ ذلك الحين تحولوا من مزارعين إلى رحل.
4
ولكن مع متابعة البحث يمكننا العثور على تفسير علمي لهذا الأمر، ويتحدث عن تحول شعوب زراعية إلى بدوية مرتحلة، في أكثر من منطقة بالعالم القديم، خلال العصر البرونزي القديم الرابع، ثم بعد ذلك خلال العصر البرونزي الوسيط الأول، ويشرح ذلك «توماس طومسون» بقوله: «حوالي 2400-2350ق.م. انتهت فجأة المرحلة القليلة الأمطار، التي سادت العصر النحاسي البرونزي القديم، وتلتها فترة جفاف ارتفعت فيها درجات الحرارة تدريجيا، ودامت حتى 1950ق.م. تقريبا، فقصرت فصول الشتاء وطالت فصول الصيف الحارة، وانخفض منسوب المياه، وقلت الأمطار، وفي مصر أدت عدم كفاية فيضانات النيل إلى انهيار زراعي بحجم كارثي، وهجرت مواقع عديدة في العصر البرونزي القديم، مع وجود مؤشرات إلى عدم القدرة على زراعة الأشجار المثمرة، والتركيز على زراعة الحبوب والرعي.» ولأن طومسون ركز حديثه على منطقة شرقي المتوسط، فنحن نتخذها نموذجا ومقياسا، لما حدث في براري آسيا ثم محيط قزوين، فهو يقول: «على أطراف المناطق الزراعية، وخاصة في منطقة السهوب السورية، ظهر تزايد في الرعي مع زراعة بعض الحبوب. وتشير وثائق مسمارية عديدة من وادي الرافدين، إلى تحول تدريجي في هذه المنطقة. ويبدو أن أطراف المناطق الزراعية في المرتفعات لا سيما في يهوذا، قد تخلت عن الزراعة المستقرة/كما يبدو أن مثل ذلك قد حصل أيضا، على طول الساحل الجنوبي للمتوسط، وفي بئر سبع وحوض عراد. وتحولت معظم منحدرات النقب الأوسط/خلال العصر البرونزي القديم الرابع والبرونزي الوسيط الأول، إلى الرعي الموسمي مع بعض الزراعة المستقرة، مما يشير إلى انهيار جزئي كبير، أرغم المستوطنين على هجر المنحدرات، والتركيز على زراعة الحبوب والرعي .»
ثم يشرح «طومسون» فترات الانتقال بين العصور في تقسيمها إلى ثلاث فترات، هي كالتالي: «(1) الفترة الواقعة بين العصر الحجري الحديث والغزوني أو النحاسي المتأخر 5000-3500ق.م. (2) فترة العصر البرونزي القديم الرابع والبرونزي الوسيط الأول، من نهاية البرونزي القديم إلى بداية العصر البرونزي الوسيط حوالي 2400-1950ق.م. (3) الانتقال من العصر البرونزي الأخير الثاني، إلى العصر الحديدي في القرن الثالث عشر إلى القرن العاشر.»
5
وهكذا تفسر لنا هذه القراءة كيف تحولت مناطق كثيرة من المعمور على خطوط المدارين، مما دعى إلى مجيء بدو رعاة من مناطق خصيبة، والذين زعمناهم آراميين هندوآريين، وهم لا شك فصيل من تلك القبائل المتبدية الهائلة، المعروفة باسم سكيث أو سكاث، ناهيك عن كون تزايد الرعي المفاجئ في محيط بادية الشام وفلسطين، يدعم قولنا في زيادة عدد الرعاة في المنطقة بمجيء المهاجرين والرعاة إليها.
ويعلن لويس عوض إيمانه بنظرية الكتاب المقدس، التي تأتي بالساميين مع الهندوآريين اليافتيين من محيط قزوين في قوله: «والمخزن البشري العظيم الذي خرج منه عديد من أقوام منطقة الشرق الأوسط القديم، منذ الألف الثالث ق.م. كان المنطقة المحيطة ببحر قزوين من ميديا عبر جبال القوقاز حتى البحر الأسود. وقد دلت الأبحاث التاريخية والأثرية على أن حضارة سومر
Sumer
في جنوب العراق - وهي أقدم حضارة معروفة في بلاد الرافدين - وأن اللغة السومرية هي لغة ميدية سيكيذية
Medo-Scythis ، وهذا يشير إلى موجات بشرية خرجت في أوائل الألف الثالث ق.م. من مراعي ميديا
Medea
في شمال إيران المتاخم لبحر قزوين، ومن مراعي سيكيذيا
Scythia
في القوقاز، ومن مراعي سيميريا
Cimmeria
حول البحر الأسود. واستقرت هذه الموجات في بلاد ما بين النهرين، وأعطتها لغتها الهندوأوروبية، وربما أعطتها اسم سومر من اسم سيمريا. وعند كونتو
Conteneau
أن النموذج البشري السومي، كان سائدا أيضا بين البروتوحيثيين
في آسيا الصغرى (يفترض العلماء أن عنصر البروثوحيثيين قد سبق الحيثيين في الأناضول [المؤلف])، والحوريين
Hurrians
في شمال آشور وغربها، وبين عامة السكان من القوقاز حتى عيلام
Elam
شرقي الخليج الفارسي. وهو يصنفهم أنثروبولوجيا بأنهم لا هندوأوروبيون ولا ساميون، وإنما من النموذج الأرمنويد
Armenoid »،
6
أي النموذج الشبيه بالأرمني.» وهو النموذج الذي قررنا نحن من جهتنا أنه الآرامي الأرميني.
وهكذا يشرح لنا «لويس عوض» أن أقوام مراعي مناطق ميديا شمالي إيران وسكيذيا في القوقاز، قد هبطوا منطقتنا في هجرات متتابعة، كان أولها هجرة السومريين الذين أسسوا الحضارة السومرية الهندوآرية في الرافدين القديم، قبل ظهور الساميين الذين تسللوا هناك وامتلكوا البلاد، وأسسوا الدولة الأكادية الواضحة السامية. وإن بين أعضاء هذه الهجرة المبكرة كان سكان الأناضول القبل حيثيين. وقد احتسب العلماء هؤلاء البروتوحيثيين كانوا سكان الأناضول بذات الاسم، لكن من حضارة سابقة على الحيثيين في فرضية غير ذات معنى، بعد أن ثبت لنا الآن أن الحيثيين كانوا فصيلا من الإسكيثيين كذلك البروتوحيثيين كذلك الحوريين، الذين رأيناهم ينحدرون جنوبا ليسكنوا وادي عربة في آدوم الحورية وفي محيطها ببوادي الشام وسيناء.
ويتابع «لويس عوض» شروحاته قائلا: «من الثابت أن القبائل الآسية/الآسيانتك
Asianiques
المنحدرة إلى الهلال الخصيب من القوقاز، وما حول بحر قزوين والبحر الأسود، ومن منطقة الأناضول ومن هضبة إيران، أيا كان منبعها وأيا كان تكوينها الأنثروبولوجي، كانت تتكلم لغة ميدية سكيذية، وهي إحدى فروع المجموعة الهندوأوروبية، وربما تكون موجات منها قد نزلت في شبه الجزيرة، كما نزلت موجات منها في الهلال الخصيب. وفي هذه الحالة ليس هناك ما يمنع أن تكون الشعوب الملقبة بالسامية سواء في الهلال الخصيب أو في شبه الجزيرة، هي في حقيقتها موجات متعاقبة من عصور متعاقبة، ومن مواقع متباينة من هذه المجموعة الآسية.»
7
ثم يلقي «عوض» بالأهم فيقول: «فبنو إسرائيل إذن منذ خروجهم من مهد إبراهيم في العراق نحو 1800ق.م. حتى عودتهم من مصر إلى فلسطين، ينتمون لغويا وسلاليا إلى مجموعة الأقوام القوقازية، التي أخذت تتدفق على منطقة الشرق القديم منذ بداية الألف الثالث ق.م. على أقل تقدير، وعرفت بدايتها التاريخية بحضارة سومر.»
8
وهنا نعود إلى كتابنا «النبي إبراهيم والتاريخ المجهول»، نقتطع منه فقرات شديدة التواصل مع ما يقول عوض هنا؛ حيث كنا نبحث عن مدينة «أور الكلدانيين»، التي أشارت إليها التوراة كموطن أول للقبيلة الإبراهيمية، التي هاجرت من هناك إلى حاران في داخل الحدود التركية الحالية، لتعود هابطة لتستقر في أرض كنعان/فلسطين، أو كما تقول التوراة: إن إبرام/إبراهيم كان ابن تارح بن ناحور بن سروج بن رعو بن فالج بن شالح بن أرفكشاد بن سام بن نوح، وأن هجرة هذه القبيلة حدثت كالتالي :
وأخذ تارح إبرام ابنه، ولوطا بن هاران ابن ابنه، وساراي كنته امرأة إبرام ابنه، فخرجوا جميعا من أور الكلدانيين ليذهبوا إلى أرض كنعان، فأتوا إلى حاران وأقاموا هناك، ومات تارح في حاران. (تكوين، 11: 32، 31)
وعلى الشاطئ الغربي للفرات في أقصى جنوب الوادي عند رأس الخليج العربي، تم الكشف عن مدينة باسم «أور»، لكن علم التاريخ لا يخصصها بأنها «أور الكلدانيين» الذين حكموا العراق ما بين 625 و538ق.م. فقط؛ لأن «أور» كانت مدينة شديدة العراقة قبل زمن الكلدانيين بأزمنة طويلة؛ ولأنها كانت حاضرة ذات شأن، أسسها السومريون الهندو آريون، وكانت موجودة في موضعها هذا تتقلب عليها الدول منذ منتصف الألف الرابع قبل الميلاد.
وإذا كانت الهجرة من «أور» التاريخية هذه، إلى كنعان في الغرب منها عبر بادية الشام، لا تحتاج إلى أكثر من أسبوع سفر بدواب كسولة. فإن رحلة القبيلة الإبراهيمية لم تتجه فورا إلى كنعان، بل ضربت شمالا من مدينة أور في أقصى جنوب الوادي، حتى وصلت حاران داخل الحدود التركية، لتقيم هناك زمانا ترحل بعده إلى كنعان، لتصلها بعد مضي خمسة عشر عاما من خروجها من أور.
ثم تظهر لنا حاران بعد ذلك في التوراة، كما لو كانت هي الموطن الأول للقبيلة الإبراهيمية وليس أور، وحول حاران تقول التوراة:
فأتوا حاران وأقاموا هناك، ومات تارح في حاران. وقال الرب لإبرام: اذهب من أرضك وعشيرتك وبيت أبيك إلى الأرض التي أريك. فأجعلك أمة عظيمة وأباركك وأعظم اسمك وتكون بركة، فأخذ إبرام ساري امرأته ولوطا ابن أخيه، وكل مقتنياتهما التي اقتنيا، والنفوس التي امتلكا في حاران، وخرجوا ليذهبوا إلى أرض كنعان. (تكوين، 11: 31، 32 و12: 1، 5، 2)
والملاحظة هنا أن التوراة باتت تشير إلى حاران باعتبارها أرض عشيرة إبراهيم، رغم قولها قبل ذلك بمدينة «أور»، كموطن أول لتلك العشيرة. وهو ما دفعنا دفعا إلى محاولة للبحث عن الموطن الأول للعشيرة الإبراهيمية، ووضعها موضع البحث للتفسير والفهم، وتيسيرا للأمر نجمل المشكلة في موجز سريع يحدد سماتها بوضوح.
التوراة تقول إن الركب الإبراهيمي المهاجر، قد خرج من أور الكلدانيين على الشاطئ الجنوبي الأقصى لنهر الفرات، قاصدا أرض كنعان الفلسطينية، وهو ما يعني أن الموطن الأصلي للعشيرة الإبراهيمية كان جنوبي العراق، وتقع مباشرة إلى الشرق من كنعان، تفصلهما بادية الشام، لكن الركب - دونما سبب واضح - يتحول شمالا ويستمر يضرب مسافات وبلدانا ومواطن، ويتجاوزها جميعا حتى يصل إلى حاران داخل الحدود التركية الآن. وهنا لا مندوحة من التساؤل: لماذا التحول عن الطريق القصير المباشر إلى كنعان، وتجشم مصاعب مضاعفة للوصول إليها عن طريق حاران. والأهم أن حاران تبدو في رواية التوراة، كما لو كانت محطة ترانزيت، معروفة على الطريق من أور إلى كنعان، رغم وقوعها في أقصى الشمال بعيدا عن الطريق بمسافات شاسعة. والغريب في أمر التوراة أنها بعد أن ذكرت «أور الكلدانيين» نسيتها تماما، واستمرت تضرب وتكرر وتزيد على الأصل الآرامي الحاراني، ولم تمل تأكيد أن إبراهيم كان «آراميا تائها (تثنية، 26: 5).»
وهنا افترضت من جانبي أن حاران التوراتية، لم يقصد بها مدينة محددة بعينها، قدر ما قصدت بها التوراة موطن الهجرات الأول للحوريين، ذلك الموطن الذي يضم عددا من الدويلات الآرامية، كانت التوراة على صلة بها طوال الوقت، وربطت التوراة إبرام وأسرته بها. وهو الأمر الذي يشير إلى المحطة الكبرى القديمة للحوريين القادمين من براري الهند وإيران، ليستقروا هونا في محيط بحر قزوين وأرارات. وهنا كان لا بد أن نتساءل حول «أور» الجنوبية، ومدى صدق احتسابها موطنا أول للقبيلة الإبراهيمية؟ وبعدها ذهبنا نبحث في مساحة بحر قزوين عن أور أخرى، يمكن أن تكون هي ذلك الموطن؛ لأن «أور» الواقعة جنوبي العراق تختلف مكانيا مع معطيات التاريخ حول الهجرة الهندوآرية، كما أننا لو احتسبناها فقط «أور الكلدانيين» فإن ذلك سيضعها بعيدا تماما عن زمن النبي إبراهيم، حيث لم تقم دولة الكلدانيين إلا بعد زمن النبي إبراهيم بحوالي ألف عام أو يزيد.
والمعلوم أن «أور» كلمة تدل على القرية أو المدينة بشكل عام، وهي
UR
الجذر الثنائي للكلمة الثلاثية (كور
KUR )، والكور والكورة الحي أو القرية أو المدينة، أو ما نسميه في الدارجة المصرية «الكفر ». فمدينة قرطاجة الفينيقية على الساحل الإفريقي - مثلا - مركبة من ملصقين: الأول «كورة» أي قرية، والثاني «طاجه» أو بنطقها الأصلي «حداشه» أي الحديثة أو الجديدة، فهي كور حداشة. وبتبادل حروف «واو» مع حرف «في
V »، تصبح كور هي كفر، والكفر هو القرية.
ولذلك نجد أكثر من «أور» إضافة إلى «أور - الكلدانيين»، فهناك «أور - شليم» أي مدينة السلام، و«أور - كومينوس» باليونان و«أور - أوك» بالعراق القديم، ثم مدينة الأرض أو «أور - آرتو» على جبال أرمينيا المعروفة الآن بجبال أرارات قرب بحيرة «فان».
والتوراة من جانبها ترمز للهجرات الكبرى من أواسط البراري الآسيوية إلى محطتهم الكبرى بأرمينيا بقصة الطوفان، التي قالت بانتقال قوم من موضع أصابته كارثة بواسطة سفينة ضخمة، إلى جبال أرارات حيث ألقت السفينة مراسيها، وأنه مما يؤكد أن «أرارات» المذكورة بالتوراة، هي ذات أرارات الواقعة في أرمينيا، ما جاء عند المؤرخ «هروشيوش»؛ إذ يقول: إن السفينة النوحية قد ألقت مراسيها «على الجبل الذي بأرمانية».
9
وفي الوقت ذاته تؤكد التوراة أن إبراهيم من نسل «أرفكشد أو أربكسد بن سام بن نوح». ووجدنا في اسم «أرفكشد» ما يضع أيدينا على وصلات الأمر المبعثر، حين تساءلنا: هل قصدت التوراة بمدينة «أور» مدينة أخرى غير أور الكلدانيين؟ ربما كانت تقع في موطن الحوريين القديم بأرمينيا المعروف باسم «أراب - خيتيس»، التي تلتقي بعد حذف التصريف الاسمي «الياء والسين» مع أرفكشد، وتصبح هي بالضبط «أربكسد» أو «أربخسد»؟ وهلا يعني ذلك إمكان أن تكون «أور» المذكورة في التوراة باسم «أور الكلدانيين»، هي ذاتها مدينة الأرض «أور - آرتو»؟ لا نعتقدنا مخطئين إن احتسبنا منطقة أربكسد الكاسية هي المعنية في التوراة بأور الكلدانيين، وأنها المقصودة ب «أور كسديم»، وهو الاسم الوارد في التوراة المازورية العبرية، فهي تقول: «أوركسديم»
10
ولا تقول: «أور الكلدانيين» الواردة في الترجمة العربية. أما «أرابخيتيس» فهي مركبة بدورها من ملصقين «آرابه - خاسي» أو «أراب - كاسي» أو العرب الكاسيين أو العرب القيسية. وإذا كان هؤلاء من قبائل سكيث أو سكاس، فهو بدوره ما يذكرنا بالسكاسك ذلك العنصر الواضح في فيالق الهكسوس بمصر. ولو قدرنا أن الكلمة كانت تنطق مصريا «أراب - سا - كاس»، فهي ما تعني بالضبط العرب أبناء الكاسيين؛ لأن «سا» تعني «ابن» كما تعني الإضافة، فهم العرب الكاسيون، والكلمة عرب هنا تعني البدو فقط.
وهكذا لا يعود رحيل العشيرة الإبراهيمية من أور إلى كنعان عبر حاران، أمرا مثيرا للاستغراب والعجب؛ لأنها في هذه الحال لن تأتي من أور على الخليج العربي، إنما من أقصى الشمال حول قزوين، من مدينة الأرض، أو من أورارتو أو «أرارات» في جبال أرمينيا، متجهة غربا نحو حاران القديمة، التي تصبح بذلك محطة منطقية تماما على الطريق، ثم تشد القبيلة رحالها مع التدفق الآرامي نحو بوادي الشام، خلال النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد، ويبدو أنه خلال استقرارهم في محطتهم الأولى في محيط أرارات، أنشئوا أول مديناتهم المستقرة متمثلة في الدولة الحيثية، ثم في مجموعة الدويلات الآرامية التي تناثرت على الحزام الحوري شمالي سوريا والعراق الغربي الشمالي.
وقد سبق وعلمنا أن الكلمة «أراب» و«عرابة»، تدل في إطلاقها على البداوة بشكل عام، كما أن الحيثيين يلفظ اسمهم على مختلف التخريجات خيتي وحيتي وكاثي، مما يشير إلى أصولهم الجنسية السكوثية أو السكاثية، أو الكاسية أو القيسية القادمة من البراري الآسيوية. وضمن هجرة هؤلاء السكاث أو السكاس أو الكاسيين، جاءت العشيرة الإبراهيمية، لتوجز التوراة الألف الثالث قبل الميلاد أو قبل ذلك من براري آسيا إلى محيط أرارات، ثم رمزت للهجرة الثانية من أرارات ومحيط قزوين إلى بوادي الشام بقصة الرحلة الإبراهيمية. ومن جهته أكد التراث الإسلامي أن إبراهيم لم يكن عربيا بمفهوم اليوم، ولم يكن من الجنس العربي المقصود في جزيرته؛ لأن لسانه كان سريانيا من الفرع الآرامي، لكنه عندما عبر نهر الأردن فيما يروي ابن هشام في سيرته، حول الله لسانه إلى اللغة العبرية،
11
بينما اكتسب فرع من نسله العروبية بعد ذلك ممثلا في رمز إسماعيل أبي العرب المستعربة.
ولمزيد من التأكد سعينا حتى سمعنا «ماكلستر»، يؤكد لنا بخبرته في اللغات القديمة والأجناس، أن لغة بلاد «ميتاني» التي يزعمها المؤرخون بين الخابور والفرات، كانت فرعا هندوآريا لا شك فيه إطلاقا، كذلك بنفس اليقين كانت بلاد الحيثيين في الأناضول، تتكلم بدورها لغة هندوآرية، بل عبد كلاهما ذات الأرباب بذات الأسماء.
12
وهكذا فإن «لويس عوض» ينهج مع ذات المدرسة، التي تأتي بالهندوآري ومعه السامي من تلك المواطن، يأتي بكليهما من موطن واحد على اختلافهما الجذري دون مبرر واضح واحد. فأكد أن موجة الهجرة الهندوآرية أو كما يسميها بالهندوأوروبية، قد جاءت في غزوتين: الأولى هي غزوة الكاسيين
Kassites
التي احتلت الرافدين، وغزوة الحوريين الميتانيين التي أنشأت لها دولة، مزعوما أنها بين الفرات والخابور. أما الموجة التي صاحبتها فهي موجة سامية قادمة من ذات المواطن، وتمثلت بدورها في فصيلين: العموريين أو الأموريين
Amorites
والآراميين
Aramaeans ، ويأتي على ذلك بشهادات يرى أوثقها آرثر كيت، الذي يصف العرب بأنهم أقوام قوقازية تتكلم لغة سامية.
13
ثم يعلن عوض نظريته بقوله: «وقد انتهيت من أبحاثي في فقه اللغة العربية، إلى أن اللغة العربية هي أحد فروع الشجرة، التي خرجت منها اللغات الهندوأوروبية»،
14
وكي يثبت «عوض» نظريته تلك، قدم لها بدراسة تاريخية أنثروبولوجية لا تتناسب إطلاقا في عجالتها وتبسطها، مع عمله الكبير وقيمة النظرية التي يطرحها. وهي النظرية التي يمكنها أن تجد في عملنا هذا تأسيسها التاريخي الأنثروبولوجي المناسب، رغم الاختلاف البيني بين ما يقول وبين ما نقول؛ لأننا لا نرى العنصر المعروف بالسامي الشمالي الذي ظهر في بوادي الشام، كان قادما من بلاد أرمينيا خالصا، بل نراه عنصرا مولدا من عناصر تلاقت وتلاقحت فيها العنصر الحامي ممثلا في الكوشيين العمالقة والجنوب جزيري أو العموري أو الأموري، وكذلك في المصريين الحاميين ولغتهم، وبين العنصر الآرامي الكاسي أو السكيثي الحيثي القادم من الشمال الهندوآري، وأن ذلك اللقاء قد بدأ مبكرا قبل الألف الثالثة قبل الميلاد في بواكير التواصل الأولى، والتي تبعتها هجرات متعددة منوعة من بعد، وهو ما يمكن أن يكون قد حدث إبان قيام الدويلات السومرية الهندوآرية في العراق الجنوبي القديم، وهو أيضا ما تثبته خبرة العراق حيث ظهر الساميون هناك بعد ذلك ممثلين في الدولة الأكادية، لكن ليتمثل الأكاديون الثقافة السومرية وعقائدها، وطريقة كتابتها ممزوجة بلغة جديدة وثقافة جديدة سميت سامية، وهي تحوي في تراكيبها ومفرداتها وعقائدها تراثا هندوآريا كاملا.
نحن نعني أن السامية الشمالية المعروفة في لغاتها المتعددة، إنما كانت ناتج تلاقح الحامي والهندوآري أو اليافثي مع الجنوب جزيري القديم القادم من اليمن. أما التفاصيل الدقيقة والمقارنات اللغوية التي يمكن إقامتها على تأسيسنا هذا، فهي مهمة أخرى نتركها لمن يستطع بحثها من علماء متخصصين، قد تجد اجتهادتنا طريقها إلى قناعاتهم.
وكي يدعم «لويس عوض» نظريته في هندوأوربية اللغة العربية في أصولها، قام بجمع ما يؤيد رأيه، وضمن ذلك إثباته حداثة العرب قياسا على الأمم القديمة، وهي برأينا حداثة ضرورية ناتجة عن حداثة العنصر السامي الشمالي جميعه كما زعمنا، ومن هنا يشير «عوض» إلى أن أبعد المصادر التي تشير للعرب كعنصر متميز عن غيره من الأجناس، لا تبعد عن بداية الألف الأول قبل الميلاد: وهنا ينبه قائلا: «إن العرب حين يتحدثون عن منشئهم، يقسمون أنفسهم إلى ولد عدنان وهم عرب الشمال، وولد قحطان وهم عرب الجنوب. وهناك فكرة متوارثة أن نسل يعرب بن قحطان أصفى عروبة من نسل عدنان؛ ولذا جاء تبويب العرب إلى عرب عاربة وهم أهل الجنوب، وعرب مستعربة وهم أهل الشمال. ومن العلماء من يؤيد هذه النظرية، بما تتضمنه من اعتراف بأن عرب الشمال من أجناس كانت غير عربية ثم استعربت، أو أنهم مولدون من العرب وغير العرب. وعلى كل فإن عرب الشمال المستعربة، ينسبون أنفسهم إلى إسماعيل بن إبراهيم الخليل ، عن طريق عدنان ومضر، وفي روايات أنهم من عدنان ومضر دون ذكر لإسماعيل بن إبراهيم. وانتساب عرب الشمال إلى إسماعيل يجعلهم أبناء عمومة بني إسرائيل، أو بتعبير أدق أنصاف إخوة، أي إخوة غير أشقاء، فالجد الأعلى للطرفين هو إبراهيم أبو إسحاق وجد يعقوب إسرائيل من جهة، وأبو إسماعيل وجد عدنان من جهة أخرى. وربما كان براهما
Brahma
هو الإبيونيم
Eponym
15
القومي لموجة هندية إيرانية، استقرت في أور عبر لوريستان
Luristan
في إيران، ثم هاجرت إلى حران في عهد الكاسيين
Kassites
نحو 1800ق.م. لتعيش في ظل الأرستقراطية العسكرية، التي نزلت على حران من القوقاز
Caucasus
أو سيكذيا
Scythia
وخرج منها الإشكينازي
Ashkinazi ».
16
ولا يفوت «عوض» اللماح الإشارة إلى كون «الوثائق الآشورية التي ترجع إلى أواخر القرن التاسع ق.م. أي قبيل 824ق.م. تشير إلى ملكات العرب، وهم قبائل مؤتلفة من البدو الرحل من شمال شبه الجزيرة العربية، جعلت بعض العلماء يستدلون من هذه الإشارة إلى ملكات العرب، ومن شيوع أسماء القبائل المؤنثة مثل: أمية، ربيعة، كندة، مرة ... إلخ أن القبائل العربية عرفت في مرحلة من تاريخها نظم المجتمع الأمومي
Matriarchal society ، حيث المرأة هي رأس القبيلة.»
17
أما نحن فقد انتهينا إلى القول بمملكة، تسمى مملكة عريبي أو عرابة أو سبأ، كانت تقطن محيط العقبة، وأن سكانها كانوا أصحاب تجارة وطيوب وعز أو عنز أو معز، وأن بينهم كانت الملكة سبأ أو الزباء، وأنهم كانوا رفاعيين أو رباتيين من أصحاب الثعابين، وأنهم كانوا عمالقة.
وقد عرج عوض بلمحة مضيئة - لكنها أيضا مثل الفلاش السريع - على الهكسوس وعلاقتهم ببني إسرائيل، فراجع ما قدمه يوسفيوس نقلا عن مانيتو، ليخرج أجملها في قوله: «وواضح من كل هذا الكلام أن فرعون موسى، الذي ذهب مانيتون أو يوسفيوس على لسان مانيتون، إلى أن فتنة بني إسرائيل قد حدثت في عهده، هو آمنحتب الرابع الشهير بإخناتون نبي التوحيد والسلام في العالم القديم، فهو وحده الذي اشتهر باعتراض الضمير على الحروب، وقد ناصبته طبية العداء؛ لدعوته التوحيدية من ناحية، ولتفريطه في ردع أعداء مصر من ناحية أخرى.»
18
وقد استند «عوض» في تزمين الخروج بزمن إخناتون، تأسيسا على ما ورد عند يوسفيوس: أنه رفض مشاركة رجاله في معركة ضد الهكسوس؛ «فقد كان يعتقد أن الحرب عمل ضد الآلهة.»
19
ولما كان معلوما أن الهكسوس قد تم طردهم قبل زمن إخناتون، بما يزيد على قرنين من الزمان زمن الفرعون أحمس، فقد كان الرأي هو أن بني إسرائيل كانوا بقايا أسيرة ، بقيت حتى زمن إخناتون حيث تم حدث الخروج. وعليه يستنتج عوض «أنه إذا صحت رواية مانيتون فإن بني إسرائيل كانوا بمثابة طابور خامس لغزوة هكسوسية ثانية متأخرة في الدولة الحديثة باءت بالفشل، وانتهت بكارثة لهم ولبني إسرائيل. ومع ذلك؛ فكل هذا لا يتفق في التاريخ مع الرأي السائد، القائل بأن خروج بني إسرائيل كان في عهد مرنبتاح».
ومن هنا يضع «عوض» نظرية سريعة للتفسير، أخذها عن بيير مونتيه - فيقول: «ومعنى هذا أن دخول بني إسرائيل مصر كان نحو 1650ق.م. كما يبدو أنهم أقاموا بها (إبان حكم الهكسوس [المؤلف])، كما تقيم الجاليات الأجنبية في ظل الحكم الأجنبي في أي بلد مفتوح، وأنهم لم يرحلوا عن مصر مع الهكسوس المطرودين 1575ق.م. بل ظلوا في البلاد نصف متمصرين ومتمركزين أساسا في شرق الدلتا، حيث كانت أفاريس عاصمة الهكسوس القديمة، بحجة أنهم غرباء يزاولون شئون معاشهم، ولا صلة تربطهم بالغزاة الهكسوس، وفيها أقامو أكثر من قرنين ضيوفا أراذل، حتى بعد أن أقام رمسيس الثاني مدينته بي رمسيس
على أنقاض مدينة أفاريس، إلى أن طردهم مرنبتاح جملة من أرض مصر ما بين 1223 أو 1215ق.م. بحسب تقديرات بيير موانتييه.»
20
ثم بلمحاته العبقرية يتساءل «عوض»: «إن الحقائق التاريخية تقول إن الهكسوس بعد خروجهم من مصر، قد اختفوا جملة من مسرح التاريخ، وهذا الاختفاء ممكن سياسيا لكنه غير ممكن بشريا، فمهما كان الهكسوس بعد خروجهم من مصر في حالة من التمزق والإعياء، فلا بد أن نفترض أن هذه الحشود البشرية، التي أتيح لها أن تخضع المصريين أكثر من قرن ونصف، لا بد أن تكون قد استقرت في مكان آخر خال، تنشئ فيه محلاتها ومضاربها، أو مكان آخر مأهول تختلط فيه مع السكان الأصليين.»
21
وهكذا يبدأ عوض في العثور على أصول عربية في الهندوأوربية، في قصة أنثروبولوجية تذهب إلى أن الهكسوس كانوا عنصرا هندوآريا، خرج من مصر لكن ليحط رحله في مكان آخر، يعلن عنه في نص عبقري يقول: «نشتبه أن الحجاز جملة كان المنطقة التي لجأ إليها الحكا - خازو
Heqa Khasou ، أو الهكسوس بعد طردهم من مصر، وتعايشوا مع سكانها الأصليين، الذين عرفوا الهكسوس الوافدين باسمهم المصري القديم. وانتهى الأمر بأن جرى الاسم على المنطقة كلها، وفقد معناه الأصلي، وصار اسم علم جغرافيا فحسب.»
22
ولا شك أن ما قلناه حتى الآن، يذهب إلى أن بعض عناصر الهكسوس، وبينهم السكان الآراميون الذين خرجوا من مصر، قد ذهبوا جنوبا نحو شمالي جزيرة العرب ليمنحوها اسم السكاث، لكن بعد تحول حرف «س» في النطق المصري إلى «ح»، لتصبح الكلمة حسب القواعد التي وضعها عوض نفسه «حكاث» أو «حجاز»، قياسا على «سآكل/حاكل المصرية، أو سأذهب/ها أذهب».
وفي لقطات مضيئة سريعة قافزة فلاشية، يعقد «عوض» المقارنات اللغوية كما في قوله: «إن ملك الهكسوس خمودي
Khamoudi ، الذي ورد في بردية تورين فيه جميع العناصر الفونيطيقية في اسم ثمود»،
23
وهو القول الذي يعضد ما ذهبنا إليه، حول قدم ثمود في مناطقها الحضارية، وأنها كانت تقع ضمن دائرة حلف الأخلامو الكبير، الذي قوي شأنه ليتوسع على حساب دول المحيط، ويحتلها وضمنها مصر نفسها.
ونتابع لقطات عوض؛ إذ يقول: «نحن نقف أمام اسم مثل الصالحية في مصر بالقرب من السويس (في الحقيقة هي شمال شرق الدلتا، وتتبع محافظة الشرقية الآن، وينسبها البعض للملك الصالح أيوب [المؤلف])، واسم مداين صالح في شمال الحجاز، واسم صالح وشالح ومتوشالح (أسماء عربية وتوراتية [المؤلف]) وربما صلاح، لا يسعنا إلا أن نشتبه في أنه صيغة من اسم شيليك
Shelek
الهكسوسي، ومن حقنا أن نستنتج مبدئيا أن مداين صالح، كانت إحدى المحلات أو المدن التي أنشأها الهكسوس بعد طردهم من مصر .»
24
أما نحن فقد قلنا إن مداين صالح كانت قبل الخروج من مصر، بل قبل الدخول إليها، عضوا في حلف الأخلامو ومدينة تابعة للعاصمة الأم سالع/البتراء/بونت في وادي عربة ببلاد آدوم.
ومن تلك النماذج الفلاشية نموذج آخر يقول فيه: «وفي تقديري أن اسم عمران ومشتقاته له علاقة باسم العمو
Ammou
أو العمرو
Amrou ، وهي القبائل التي احتلت دلتا مصر أو شرقيها مع الهكسوس وفي زمنهم ، فنصوص مصر تحدثنا دائما عن كفاح مصر ضد الخازو والعمو بعد الفتح الهكسوسي، والصلة بين الخازو والعمو غير واضحة عند المؤرخين.»
25
ويصل من هذا كله إلى نتيجة مفادها «إن الهكسوس إذن لم يأتوا إلى مصر من الحجاز ومن شبه جزيرة العرب، إنما استقروا فيها بعد طردهم من مصر. أما المنبع البشري الذي تدفقوا منه على الشرق القديم ثم عبروا إلى مصر، سواء على مراحل أو دفعة واحدة، فهو بحسب تقدير الكثير من علماء الآثار والتاريخ القديم، نفس المستودع البشري المعروف في عصر الهجرات العظيمة حول بحر قزوين. وربما كان هذا المنبع ذاته مجرد محطة وسطى استقروا فيها زمنا منذ هجرتهم من أواسط آسيا، شأن كافة القبائل التي تسمى آرية طورانية وسامية، والهكسوس إذن ليسوا بني إسرائيل، وإنما بنو إسرائيل كانوا على الأرجح قبائل دخلت مصر تحت جناح الهكسوس وعاشت في كنفهم، ثم طردت من مصر بعد رحيل الهكسوس بقرون، أو ربما طردت معهم أيام أحمس، ثم استجدت العودة أيام تحتمس الثالث. ولعل بني إسرائيل هم قبائل العمو
Ammou ، التي كثيرا ما يرد ذكرها مع الخازو
khasou
أو الهكسوس في النقوش المصرية القديمة، وكانت متمركزة معهم في شرق الدلتا بصفة أساسية، مع جيوب هنا وهناك أكثرها في مصر الوسطى.»
26
وإعمالا لكل هذه المعطيات، ينتهي عوض إلى أنه «مهما افترضنا للعرب وجودا في المنطقة، فهو لن يتجاوز بضعة قرون، ترجع بهم إلى 1000ق.م. أو 1200ق.م. فلو كان لهم وجود معروف باسمهم المعروف، أيام الصراع العظيم بين المصريين الحيثيين 1555-1270ق.م. أو بين المصريين والميتانيين
Mitanni
1450-1362ق.م. في العراق (يذهب عوض مذهب من يضعون الميتاني بين الفرات والخابور [المؤلف])، أو بين المصريين وبني إسرائيل 1223-1215ق.م. أو بين المصريين والهكسوس أي بين 1720 أو 1567ق.م. لورود ذكرهم في النقوش القديمة في أية منطقة من مناطق الشرق القديم. وعلى هذا فإنه يتعين علينا أن نفترض أن وجودهم في شبه الجزيرة لاحق لعام 1000ق.م. أو قبل ذلك بقليل. ولن نستطيع أن نفسر ظاهرة تكون اللغة العربية من عناصر مشتركة مع اللغات الهندوآرية، إلا إذا افترضنا أن التكوين السكاني لشبه الجزيرة، لم يكن فيضانا سكانيا من داخل شبه الجزيرة إلى خارجها أو حوافيها المحيطة بها، ولكن كان فيضانا سكانيا من خارج شبه الجزيرة إلى داخلها.»
27
وهكذا أسس «لويس عوض» تاريخيا وأنثروبولوجيا لقوله: إن اللغة العربية من أصول هندوآرية، من حيث هبطت جموع الهكسوس من محيط بحر قزوين إلى المنطقة، ثم خرجت مطرودة من مصر مطاردة من قبل المصريين، فهبطت الحجاز وأعطته اسمها ولغتها التي أصبحت العربية الشمالية، أم العربية الفصحى الآن. لكن ذلك كان وجها واحدا للحقيقة، لا يفسر لنا تداخل آخر لأسماء أعلام ومفردات وتراكيب لغوية، ليست من الهندوآرية في شيء، وكانت من العلامات الهكسوسية البارزة الباقية. هنا نظن أن نظريتنا هي الأفق للتفسير، والتي قلنا فيها بمجيء هجرات تدريجية متتابعة من الكوشيين، من شرقي أفريقيا والجنوب اليمني على الخط التجاري البري الصحراوي، هي هجرة العمالقة والعموريين التي جاءت من جنوب الجزيرة، ويمكن تسميتها تجاوزا «السامية الجنوبية»، وسبق وأطلقنا عليها الجنوب جزيرية لتلتقي هناك بالعناصر الهندوآرية القادمة من أرمينيا، استقرت في شمالي الجزيرة وآدوم وسيناء، لتهبط عليها عناصر هندوآرية، حورية وسكيثية حيثية، لتستقر معها في مديان، وتشكل لها قيادة عسكرية تتوسع على حساب دول المحيط، حتى تتمكن من إقامة إمبراطورية الهكسوس، وكان أهم إفرازات هذا اللقاء من فجره، ظهور جنس جديد ولغة جديدة هجينة، هي اللغة السامية الشمالية، متشكلة من عناصر جنوب جزيرية تأسيسية، وعناصر حامية زنجية ومصرية وعناصر هندوآرية.
على مستوى العربية والهندوآرية قدم لويس عوض جهدا رائعا وعظيما ، لا تنكره المنكرات والمصادرات ضد كتابه لسقطة هنا وزلة هناك، حيث إن الرجل قد أثبت نظريته ببراعة، وهي أحد مؤيداتنا هنا، لا تغني الإشارة إليها عن قراءتها في كتابه الرائع. ومن جانبنا ثبت بطول كتابنا هذا بوضوح مدى الالتقاء والتداخل بين المصرية القديمة وبين العربية، أو ما بقي لنا من تطور العربية الشمالية، ممثلة في قمة نضجها في لغة قريش، التي أصبحت اللغة العربية الفصيحة الصحيحة. وعندما كنا نقدم قراءتنا عثرنا على أكثر من شهادة من التاريخ العربي الإسلامي، على وجود عنصر عربي سامي ممثلا في شهادات ذلك التاريخ بحكم عماليق الجزيرة لمصر، لكنا أبدا لم نجد مثل تلك الشهادات الفصيحة، على الجانب الآخر عند القائلين بهندوآرية الهكسوس، أو بعضا منهم على الأقل، فهل بالإمكان العثور على مثل تلك الشهادات، التي تؤكد أن عناصر هندوآرية قد دخلت مصر واحتلتها وحكمتها؟ بل وحكمت أيضا بقية مدينات الشرق الأوسط القديم كالرافدين والشام وجزر المتوسط الشرقية ضمن إمبراطورية كبرى؟ حيث وضح لنا وجود العنصر الآري، كعنصر قائد متقدم بين فيالق الهكسوس كما سبق شرحه.
نقف هنا مع القبائل التي جاء ذكرها باسم سكيث، لنعتبرها من وجهة نظرنا القبائل الأم للهجرات الهندوآرية، أو أنها الاسم الشامل الذي كان يطلق على تلك القبائل المهاجرة من براري آسيا، ومنها كان الحوريون والحيثيون الذين أصبحوا فيما بعد عنصرا مؤسسيا في المملكة الآدومية التجارية، ومن ثم في الإمبراطورية الهكسوسية، حيث كان الإسكيث أو السكاث كما أسماهم اليونان، أو الكاسيون كما أسماهم الرافديون، أو الهكسوس كما أسماهم المصريون، قبائل متبدية هائلة العدد لا تعرف الاستقرار، تنتشر طول الوقت في براري آسيا الوسطى من شمالي الهند إلى أرمينيا.
وبحسبان حرفي «ح» و«ك» حلقيين يتبادلان، فإن الحيثيين هو لفظ آخر للسكيثيين حيث تتبادل «س» و«ح»، وهكذا يمكن أن نعتبر المصادر الحيثية مصادر سكيثية كنقطة مفصلية، نبدأ بحثنا منها، فهل ورد أي نص تاريخي في المدونات الحيثية، يشير إلى أحداث قديمة، احتل بموجبها الحيثيون مصر؟
هناك نص ضئيل القيمة تماما لدى المؤرخين والباحثين، لم يعره أحد التفاتا، نتيجة عدم الربط إطلاقا بين الحيثيين والسكيثيين والهكسوس، وهو ما نجد له ترجمة عند عالم الحيثيات «جرني»؛ إذ يقول أولا مقررا حقيقة واضحة هي أن: «الحيثيين من الأقوام الهندوأوروبية التي لعبت دورا مهما في تاريخ الشرق الأوسط القديم، لكنا مع ذلك نجهل الكثير عنهم.»
28
أما النص المقصود فهو ذلك الذي يقول:
عندما حمل إله جو حاتي (يقصد إله الهواء الحيثي تيشوب [المؤلف]) رجال كوروستوما إلى بلاد مصر. وقيدهم إله جو حاتي بمعاهدة إلى أهل حاتي، وجعلهم يقسمون على رعايتها (يقول جرني معقبا: إن ذلك عائد على المصريين، أي إن إله الجو الحيثي فرض عهده، على المصريين بقسم الولاء للحيثيين الذين من كوروستومار [المؤلف]).
وبذلك أصبح شعب حاتي وشعب مصر مقيدين بقسم لإله جو حاتي، ونكث شعب مصر بعد ذلك بالعهد، وباتوا يحنثون بقسمهم بالإله؛ لذلك أرسل أبي مشاة وفرسانا، وغزوا حدود مصر وبلاد أمكا، ثم أرسلهم مرة ثانية فغزوا مرة ثانية.
شكل رقم «150»: ألبسة الرأس عند الإسكيث، لاحظ الاستطالة.
ويشرح هنا «جرني» أن كوروستوما هي القطاع الشمالي الشرقي من الأناضول، أي بالضبط في المساحة التي نتحدث عنها كمنطلق أخير للهجرة الهندوآرية، ما بين قزوين والبحر الأسود في أرمينيا وأرارات، لكن جرني يرى ذلك النص غير مفهوم لو أخذنا بظاهره، وأن هؤلاء قد احتلوا مصر، ويفسر بأن ذلك كان غير ممكنا، ولم تتحدث عنه أية نصوص مصرية؛ لذلك لا تفسير له إلا وجود الحيثيين بفلسطين بعد ذلك في التاريخ التوراتي، وهو ما يعني أن النص لم يقصد مصر بلاد النيل، إنما قصد فلسطين التي كانت تابعة آنذاك لمصر سياسيا، وأنها هي حدود مصر.»
29
لكن قراءة النص تفيد أن الملك الحيثي، يتحدث عن غزو تم من جانب بلاده لبلاد مصر، وأن ذلك قد تم زمن أجداده، حيث أقسم المصريون وأقسم الحيثيون على الارتباط بعهد نكث به المصريون، فعادوا زمن أبيه فغزوا مصر ثانية، وهو الأمر الذي يلتقي مع تاريخ مانيتون عبر يوسفيوس، وأكد عليه لويس عوض، حيث علمنا أن هناك غزوتين للهكسوس، غزوة أولى كبرى تم طردها على يد أحمس، ثم غزوة هكسوسية متأخرة حدثت زمن فتنة بني إسرائيل، وقائدهم أوزرسيف الذي أرسل يطلب مددا هكسوسيا عند ثورته، فدخل الهكسوس مصر مرة أخرى، لكن لتتم هزيمتهم هزيمة نهائية وأخيرة على الحدود المصرية.
لكن ألا نكون بذلك كمن يصنع من مادة قليلة ضئيلة، بناء طويلا عريضا يقوم على أساس هش، على إشارة يتيمة وردت في نص ضمن نصوص حيثية كثيرة أخرى؟
هنا كان لا بد من المثابرة والدأب والمشقة، سعيا وراء ما يمكن العثور عليه من قرائن، وهي ما وجدناه في حديث المؤرخين الكلاسيك، عن شعوب اسكيث أو سكاث؛ لأن «هيبوقراط» في كتابه: «حول الماء والهواء والأقاليم»، وهو كتاب في الطبيعيات، محدثا عن الشعوب التي عاشت في المنطقة الفاصلة بين أوروبا وآسيا، أي عند أرارات وقزوين تحديدا، يقول:
أولا سأتحدث عن طوال الرءوس؛ لأنه ليس هناك شعب آخر على الإطلاق له مثل تلك الجماجم. وقد ساهمت مجموعة من العادات إلى تلك الاستطالة في الرءوس، ثم أسهمت الطبيعة بعد ذلك بدورها في دعم تلك العادات، وقد أتت تلك العادات من اعتقاد تلك الشعوب، أن طويل الرأس نوع مميز من البشر، فعند ولادة الطفل، وطالما كانت عظام الرأس لينة لم تتصلب بعد، يجبرون الرأس على الاستطالة بلفائف، الأمر الذي يشوه الشكل الطبيعي للرأس فتزداد استطالتها. وفي البداية كانوا يفعلون ذلك خضوعا لعادات موروثة، لتأتي رءوسهم بهذا الشكل بفعل قسري. لكن مع الوقت أصبحت الرأس تأتي طويلة بحكم الميلاد الوراثي، أما الآن فقد اختفى طول الرأس بسبب اختلاطهم بالزواج من شعوب أخرى، وهذا رأيي فيما يتعلق بهذه الظاهرة.
30
ولأن الحيثيين فيما زعمنا قبائل إسكيثية، فقد كان طبيعيا وغير مفاجئ أن نقرأ عند «جرني» في كتابه «الحيثيون» قوله:
من الحفريات بفحص الجماجم التي وجدت في عدة مواضع بالأناضول، وجد أن معظم السكان كانوا طوال الرءوس، وذلك خلال الألف الثالث قبل الميلاد، على مزيج قليل بالأنواع القصيرة العريضة الرءوس.
31
هذا وقد عثرنا عند مكسيلاك القرياندي على نص مؤيد يقول: «وقد عاش شعب من ذوي الرءوس الطويلة خلف البخاريين.»
32
ولعلنا لم نزل نذكر ما قلناه في باب عاد وثمود، ونقلنا منه وصفا عينيا لمقابر منطقة مقنا على الساحل الشرقي لخليج العقبة، وفي محيط بلاد الحجر وآدوم، حيث يقول الشاهد: عثر على كثير من الجماجم الغريبة الشكل في طولها. والجماجم أكبر بكثير من جماجم الناس العاديين.
33
ثم نجد عند جرني إشارات لاسم منطقة عاش فيها الحيثيون وردت في الأساطير اليونانية، مرتبطة باسم ملك حقيقي من ملوك الحيثيين، إلا أن اليونان إطلاقا لم يعرفوا الدولة الحيثية في كتاباتهم، فقط كانوا يشيرون إلى الاسكيث، مما يعني حسب نظريتنا أنهم قد عرفوا الحيثيين ولكن باسم سكيث، وتقول إشارة جرني:
وأخيرا فلدينا القصة الخرافية التي حفظها استفانوس البيزنطي، وهي أن مدينة ساميليا في كاريا قد أسسها شخص يدعى موتيلوس، الذي استقبل هيلين وباريس في رحلتهما، من إسبرطة إلى طروادة على ما يظن، ويبدو أننا نجد هنا ما يذكرنا بالمعاهدة الإقطاعية التاريخية بين مووتاليس وألاكساندوس.
34
استفانوس هنا يحدثنا عن مدينة أسسها ملك، يدعى موتيلوس أو مووتاليس في كاريا، وأنه استقبل الأشخاص الأسطوريين هيلين وباريس، القادمين من إسبرطة إلى طروادة. وقد تم الكشف عن طروادة في أقصى غرب الأناضول، مما يعني أن مووتاليس كان ملكا على الأناضول. ونحن نعلم بوجود ملك بهذا الاسم متكررا في قوائم ملوك الحيثيين، وهو دليل آخر قوي على رأينا أن الحيثيين كانوا هم المعروفين باسم الإسكيث عند اليونان. كما نعلم من عالم الأجناس واللغات «ماكلستر»، أن بلاد كاريا هذه حيث حكم مووتاليس، على خريطة رسمها لبلاد الحيثيين بالأناضول، كانت تقع على ساحل المتوسط المحاذي لبلاد اليونان في جنوب غربي شبه جزيرة الأناضول، مما يقطع بأن اليونان قد عرفوا الحيثيين، خاصة أن الحيثيين قد أقاموا دولتهم وعاصمتهم في بلاد الأناضول الملاصقة لبلاد اليونان، وكانت امتدادا معلوما لها. لذلك يكون غريبا تماما ألا يعرف اليونان شيئا عن الحيثيين، اللهم إلا إذا كانوا يعرفونهم كما نقول باسم الإسكيثيين. وكان عدم ذكرهم لديهم يكمن في كونهم أطلقوا عليهم اسمهم الأصلي «سكيث»، ذلك الاسم الذي تكرر كثيرا في قصص طويلة، كتبها اليونانيون عن شعب السكيث أو السكاث. وهو ما يؤكد ما قلناه بهذا الصدد، إن الحيثيين من قبائل السكيث أو هم قبائل سكيثية، ثم نتذكر كيف استبعد المؤرخون الإشارات القديمة إلى الآراميين زمن الملك الأكدي نرام سين، واحتسبوها مجرد تشابه في الأسماء؛ لأنهم رفضوا وجود الآراميين في المنطقة في ذلك الزمن المبكر، لكن لما كنا قد احتسبنا الآراميين والحيثيين عناصر إسكيثية هندوآرية، فإن ذلك يفسر لنا قولا آخر جاء عند العاهل البابلي نرام سين، يقول فيه أنه حارب حلفا مكونا من سبعة عشر ملكا، بينهم الملك الحيثي بامبا، مما يقطع بوجود الحيثيين في ذات الزمن الذي ينكره المؤرخون، ويقولون إن الأناضول كان يسكنه شعب سابق للحيثيين، أعطوه اسم البروتوحيثيين. وقد ورد ما يشير إلى أن أعضاء هذا الحلف كانوا جميعا يسمون «هوارواس»، الذي هو ببساطة بعد حذف التصريف «هوارو» أو الحوريين؛ لأنه من المستحيل أن يكون هوارواس اسما للملوك الأحلاف السبعة عشر، فهي صفة لا اسم. ومن النصوص نكتشف صفات مشتركة بين الهكسوس والحيثيين، وأهمها نقل الشعوب المهزومة من مواطنها، وتسخير الشعوب المفتوحة في جيش الإمبراطورية، وهو ما نجد له نموذجا في قول الملك الحيثي المنتصر على بلاد أرازوا؛ إذ يقول:
وهكذا قهرت بلاد أرازوا، ونقلت جزءا من السكان إلى خاتوشاش (العاصمة الحيثية [المؤلف])، أما الجزء الأخير فقد أخضعته مكانه، وفرضت عليه المساهمة بفرق من الجند.»
35
وإذا كنا قد اكتشفنا أن هناك عنصرا حوريا، سكن مديان باسم القينيين أي الحدادين، فإن علم التاريخ يعلمنا أن الحيثيين كانوا هم مفجري صناعة الحديد وتعدينه، حيث سبق وقرأنا رسالة الملك الحيثي خاتوشيليش، إلى ملك صديق يعاصره، يقول له فيها:
أما عن الحديد الجيد الذي كتبت لي عنه، فالحديد الجيد غير متوفر في بيت الختم في كيز وواتانا. وقد كتبت إليك أن هذا الوقت غير صالح لإنتاج الحديد. إنهم سينتجون حديدا جيدا لكنهم حتى الآن لم ينتهوا، وعندما ينتهون سأرسله إليك، أما اليوم فأنا مرسل إليك خنجرا من حديد.
36
ما زلنا نحاول التأكيد على أن الحيثيين كالحوريين تماما، عنصرا إسكيثيا هندوآريا، أو أنهم كانوا هم ذاتهم، كان العنصر الحيثي ضمن الفئات القائدة لجحافل الهكسوس الهائلة، التي تم تجنيدها من مختلف الشعوب المفتوحة، فنقف مع «إيفار لسنر» يصف الشعب الحيثي فيقول:
ويعتبر الحيثيون شعبا غريبا، أما غرابته فمردها إلى أننا لا نعرف عنه حتى الآن سوى القليل، فضلا عن الخلاف الكبير بينه وبين سائر الشعوب القديمة التي عرفناها. وتكشف نقوشهم البارزة عن أنهم أناس قصار القامة مكتنزون، عظامهم بارزة وجبهاتهم منحدرة. أما أنوفهم فطويلة ومقوسة قليلا، أشبه بمنقار الببغاء وذقونهم قصيرة.
37
وهو الوصف الذي يلتقي مع وصف قديم أكثر تفصيلا، قدمه اليوناني هيبوقراط لشعب سكيث؛ إذ يقول:
نتيجة للمناخ تميز الإسكيث بأنهم ممتلئون ومكتنزون، إلى حد عدم إمكان تمييز الأعضاء عن بعضها، فالأعضاء رخوة بدون عضلات، والجزء الأسفل من البطن به قدر عال من المائية والرطوبة. وبفضل هذا الامتلاء يختفي الشعر عن الجسد ويصبحون متشابهين.
38
ولا بأس هنا إن راجعنا لوحة بلاد بونت، نتفحص ملكة أرض الإله مرة أخرى، التي تبدو لنا مولدة من عنصر زنجي جنوبي أعطى جلدها لونه، وعنصر حيثي إسكيثي شمالي، تتداخل معه أعضاء الجسد المترهلة، حتى لا يمكن تمييزها فكانت تحمل صفات كليهما معا، أما المؤكد والناصع الذي لا بد أنه كان، فهو ما نقرؤه عند هيبوقراط مؤكدا:
كانت القبيلة الإسكيثية تتميز بالشعر الأحمر الأمغر بسبب المناخ.
39
وهو اللون الذي رأيناه واضحا في بلاد آدوم الحمراء، وصفة ذكرتها التوراة لعيسو/آدوم. ويبدو أن الإسكيث عندما هبطوا جنوبا على مختلف قبائلهم، وتعدد عشائرهم ولغاتهم الهندوآرية، قد أعطوا لمواطنهم الجديدة في بلاد آدوم، أسماء مناطق قديمة عزيزة في مواطنهم الأصلية، فإذا كنا قد وصلنا إلى أن بلاد آدوم، كانت عند المصريين باسم بلاد بونت، فهو ما يؤكده، ويؤكد كل رحلتنا البحثية، أن نجد ذات الاسم هو الذي كان ولم يزل يطلق، على منطقة شرقي البحر الأسود الذي جاء منه السكيث، ممثلا في مدينة بونت وإقليم بونت، حتى إن البحر الأسود يحمل في تلك المنطقة اسم بحر بونت. أما الجبال الفاصلة هناك مع الجنوب فهي جبال بنطس، أو بنط بحذف التصريف الاسمي «س». ثم إن الإسكيث قد عبدوا ربا، عثر له على نموذج في أدغال قريبة هناك، وأنه كان هناك على جبل يحمل اسما شديد الدلالة، فقد كان ذلك الجبل في تلك البلاد البعيدة ، دخل العمق التركي يحمل اسم الجبل الأقرع، الذي تكرر اسمه بعد ذلك في منطقة حوض المتوسط الشرقي، فنجد الجبل الأقرع في سوريا الآن كان مسكن الإله البعل، كذلك نجد الجبل الأقرع في بلاد آدوم، وكان دوما يحمل اسم جبل كاسيوس أو الكاسي، وهو ما نجده في جبال قاسيون، كما نجده في منطقة الكسارون الآن شمالي سيناء الغربية على ساحل المتوسط، وظل يحمل اسم «كاسيوس» حتى زمن الغزو العربي، ويعني الكاسي أو السكيثي، دالا على أصله وأصل أصحابه، الذين تركوا اسمه أينما ذهبوا.
شكل رقم «151»: هجرة قاطعي الرقاب.
والآن نأتي إلى منطقة مفصلية في البحث، عن إشارات واضحة في كتابات هندوآرية، تشير إلى غزو هندوآري حدث لبلاد مصر، يمكن أن يفسر لنا وجود العنصر الهندوآري، قائدا لجموع الهكسوس، فنقرأ عند «ديودور الصقلي»، وهو يحدثنا عن قبائل شعب سكيث أو سكاث:
بفضل جسارتهم وقواتهم المحاربة احتلوا مناطق واسعة، وأضفوا على قبائلهم مجدا وسيطرة كبيرة. في البداية عاشوا على نهر الأراكس (نهر يصب في بحر قزوين [المؤلف]). وفي الماضي البعيد تحت قيادة ملك محارب، يتميز بقدرات عظيمة، أقاموا لأنفسهم عرشا على الجبال امتد حتى القوقاز. وفي الأرض المنخفضة امتدت أراضيهم حتى البحر المحيط. وتميزوا بالشجاعة والمواهب الاستراتيجية، وأخضعوا بلادا شاسعة بعد نهر تانيس، وحتى بلاد الفيريجيين (آسيا الصغرى [المؤلف])، وبعثوا بعثات عسكرية انتشرت في جميع الأراضي، وأخضعوها حتى وصلوا نهر النيل المصري، وسخروا العديد من القبائل التي تعيش بين هذه الحدود، ونشروا سيطرتهم حتى المحيط الشرقي.
واستوطن هؤلاء الملوك ومعهم القبائل التي أخضعوها بلادا كثيرة، وأهم هذه الحركات الاستيطانية حركتان: الأولى من آشور إلى بلاد بافلاجونيا وبونت، والثانية من ميديا إلى نهر تانيس.
40
إذن امتدت الأراضي التي استولى عليها الإسكيث، بل وسخروا أهلها في العسكريتاريا السكيثية، بل واستوطنوا تلك الأراضي، حتى البحر المحيط أو الكبير وهو التعبير الكلاسيكي، الدال على البحر الأبيض المتوسط، وكانت حركة الاستيطان الأولى في البلاد الممتدة شمالا عند أرمينيا من بافلاجونيا إلى بونت على البحر الأسود، إلى بلاد آشور أي العراق الشمالي، ثم كانت الحركة الثانية من ميديا إلى نهر تانيس، ولا نظن المقصود بميديا هنا ميديا الأصلية بشمالي إيران، إنما ميديا (ميديان)، لسببين جوهريين، الأول: ما جاء في تعقيب الباحث الروسي المتخصص، الذي ترجم نص ديودور إلى الروسية، حيث عقب بأن الإحداثيات المعطاة عند ديودور الصقلي لا تشير إلى ميديا فارس، لكنها تشير إلى موطن آخر مجهول. وهذا المجهول برأينا هو بلاد مديان في سيناء ووادي عربة وشمالي الجزيرة. والسبب الثاني هو ذلك النهر الذي يرد احتلال مناطقه في الترتيب، بعد ميديا. وجاء ذكره باسم «تانيس»؛ لأن تانيس اسم الفرع النيلي قبل الأخير للدلتا شرقا، فهو أول فروع الدلتا القديمة المتلاحمة مع البوادي السينائية، وكانت مدينة تنيس أول محطة عامرة كبرى بعد بلاد مديان، عند الاتجاه الشرقي إلى الغرب دخولا إلى مصر في الغرب، وعلى رأسه عند المنزلة كانت تقع المدينة، التي منحته اسمه مدينة «تانيس»، هذا بالطبع مع عدم إغفال قول ديودور الأول، أنهم أخضعوا جميع البلدان، حتى وصلوا نهر النيل المصري.
ثم يوضح لنا «ديودور الصقلي» من أين جاءت فكرة النساء الأمازونيات في الأساطير اليونانية، وهن نساء محاربات يظهرن كثيرا في الأساطير الملحمية المسرحية اليونانية، مصحوبات بجوقة من النساء يسمين الفينيقيات، فيقول:
ملكت على السكيث امرأة تتميز بالقوة، وعند هذا الشعب تتدرب المرأة على الحرب مثل الرجل، ولا تقل عنه شجاعة، وعديد من مآثرهن العظيمة صنعتها نساء عظيمات (لا بأس أن نتذكر هنا ملكات بلاد عريبي [المؤلف])، وعلى هذا النحو تأسست قبيلة الأمازونيات، التي تميزت بالشجاعة التي مكنتها من احتلال دول كثيرة، كانت تشكل جزءا كبيرا من آسيا وأيضا من أوروبا. وأحرقوا الثدي الأيمن للأطفال الإناث، حتى لا يعيقهم عند الحرب عند وصولهن سن البلوغ. وهذه الملكة أخضعت كل جيرانها حتى وصلت إلى نهر تانيس، واستحوذت على الجزء الأكبر من آسيا، ونشرت سيطرتها في سوريا.
41
ولو كان نهر تانيس كما ذهب بعض الباحثين، ربما كان نهر الدنيبر في عمق الشمال الآسيوي، لما ذكر معه في نص ديودور السابق، ولما قيل هنا مترافقا مع سيطرة السكيث الأمازونيات على بلاد سوريا. وحتى الآن لم يتم تقديم تفسير مرض، لمعنى كلمة الأمازونيات رغم شهرتهن لدى اليونان. لكن وفق ما جمعناه حتى الآن لن نكون مجازفين، إذا قرأناه على أصوله عمزونيات أو عنزيات ذوات العنز والماعز؛ حيث نعلم أن حرف «م» يتبادل مع حرف «ن» كما في عن وعم، ولو طالعنا ما أمكن جمعه من لوحات الفن السكيثي، لوجدناه جميعا لا يكاد يخلو في لوحة واحدة منه من صورة العنز، حتى تلك الآثار التي وجدناها في محيط بحر قزوين.
ولمزيد من التأكيد على أن العنصر الهندوآري، الذي تواجد مع الهكسوس في مصر، يعود بأصوله الجنسية إلى شعوب السكيت، نقرأ فليكوفسكي؛ إذ يؤمن أن الهكسوس العمالقة كانوا بالتحديد ساميين من جزيرة العرب، لكنه يعجب أشد العجب من بربرية وهمجية وقسوة الهكسوس في مصر فيقول:
كان الغزاة العماليق قادمين من شبه الجزيرة ... ومثل العماليق بأجسام الجرحى والمساجين، وقطعوا أطرافهم، وكانوا على درجة كبيرة من القسوة والفظاظة في نواح كثيرة، بما يعجز عنه الوصف. وخطفوا الأطفال والنساء، وأحرقوا المدن ودمروا الآثار والأعمال الفنية، وجردوا مصر من ثرواتها وكنوزها. وكانوا يبترون أعضاء وأطراف الجرحى ويمثلون بهم، ويهرطقون ويجدفون بكفر صارخ بقذف الأعضاء المبتورة من الجرحى نحو السماء، ويسخرون من الرب.
42
كلا لم ير فليكوفسكي في هذه الفظاظة القاسية سوى هرطقة وكفر؛ لأنه لم يكن يعلم بعد ما علمنا وفق خطتنا الحميدة، حيث نجد تلك القسوة دليلا آخر على وجود عنصر آري سكيثي في الهكسوس، وذلك عندما نقرأ عنها عند مؤرخي اليونان، فنكتشف أن تلك القسوة لم تكن مجرد قسوة، إنما إضافة لذلك كانت طقسا دينيا تعبديا، لدى شعب سكيث بالذات وبالتحديد، ولم تكن غاية في حد ذاتها، كانت قربانا للملك وللإله، فيقول هيرودوت عن شعب السكيث:
في كل عام يضيفون إلى مرتفع 150 حمولة من حزم أعواد الخشب الجاف. وفوقه كانوا يغرسون العقناق
Akunak (يقول المترجم إنه ربما كان سيفا حديديا) يمثل الإله، ويقدمون لهذا العقناق كل عام كافة أنواع القرابين. في أسفل هذا المرتفع يقومون بالآتي: يقطعون الكتف الأيمن من موتى العدو بالذراع، ويقذفون بها في الهواء.
43
وفي نصوص مصر القديمة، نجد السجاز الهكسوس يوصفون بوصف يأتي كما لو كان معنى لكلمة سجاز، فهم قاطعو الرءوس أو قاطعو الرقاب، ومن جانبنا؛ فقد عثرنا على تفسير للكلمة، وهو بذاته دليل آخر على مدى نجاح فروضنا، فنقرأ هيرودوت يحكي عن قبائل سكيث قائلا:
حين كان السكيثي يقتل لأول مرة، كان لا بد أن يشرب من دم عدوه، ويسلخ جلد الرأس بقطع دائرة حول الأذنين، ويسلخها عن الجمجمة، ويقدمها للملك. ثم كانوا ينشرون الجمجمة أسفل الحاجبين ثم ينظفونها، وإذا كان الشخص فقيرا كساها بالجلد، وإن كان ثريا كساها بالذهب، ثم يستخدمونها في الشراب.
44
وقد سبق وعلمنا أن هناك تفسيرات تاريخية قديمة، سيقت خلال القرن الرابع والثالث قبل الميلاد، لخروج بني إسرائيل من مصر، كان من بينها القول بأن الإسرائيليين لم يكونوا يأخذون بقواعد النظافة عند المصريين، ومع طول عشرتهم للحيوانات، أصيبوا بأوبئة جلدية حادة، اضطر معها المصريون إلى طردهم من البلاد؛ خشية تفشي الداء في مصر، وربما وصلنا من جانبنا إلى تفسير لسر انتشار ذلك الوباء، بين الهكسوس في عادات شعب السكيث، وهو ما يمكن فهمه من نص هيرودوت القائل:
يأخذ السكيث بذور نبات يشبه نبات التيل (نرى من جانبنا أنه أحد مواد البخور [المؤلف])، ويزحفون تحت غطاء، ويلقون بالبذور على أحجار سبق تسخينها إلى درجة الاحمرار، فتحدث دخانا كثيفا، ويستمتع السكيث بهذا الحمام من البخار، فهو لديهم بديل عن الاغتسال، فهم لا يغسلون أجسادهم بالمياه أبدا.
45
لقد كان الإسكيث يعتقدون أن مواد التبخير كانت أطهر للجسد من الماء، وهو أمر لا يعتقده إلا من كان إنتاج مواد التبخير لديه أمرا أساسيا وتأسيسيا، ومصدرا اقتصاديا عظيما يستحق هذا التقديس. ولمزيد من التعضيد في كون إسكيث كانوا هم أصحاب الماعز بين الهكسوس، نستمع إلى المؤرخ الكلاسيكي يفستافي «يوسابيوس [المؤلف]»، يحكي لنا عن بعض قبائل سكيث في مواطنهم الأصلية، فيقول :
والتيباريون الذين يسمون تيباريين، أي أصحاب الماعز، يعيشون في المناطق حتى أرمينيا الصغرى. وخلفهم يعيش الكاليبيون الذين استوطنوا أرضا قفرا وقاسية، وكانوا بارعين في معالجة الحديد الخام، وهم شعب بونتي.
46
ويبدو لنا أن اسم الكاليبيين ونسبته إلى كالب، قد ترك بصمته واضحة فيما بعد في اسم أحد تلامذة موسى (كالب بن يفنا)، وأصبح شخصا لا يقل أهمية عن يشوع بن نون بعد موت موسى. ثم تند ذكريات هنا وهناك في كتابات الكلاسيك، عن علاقات للمصريين بذلك الشعب المعروف باسم السكيث، تأتي في عبارات سريعة غامضة، لكنها تفصح مع كل ما جمعنا وتصبح شديدة الوضوح، ومن نماذج ذلك ما جاء عند بومبي تروج يقول:
وسيطرت السكاث على آسيا ثلاث مرات، أما هم فلم يمسسهم أحد ولم ينتصر عليهم أحد، وكان أول من أعلن الحرب ضد السكاث هو الملك المصري ثيزوسيس
47 (يقصد الفرعون المشهور لدى اليونان باسم سيزوستريس [المؤلف]).
وفي رسالة من السكيث أو السجاز قاطعي الرقاب إلى الإسكندر المقدوني، نقرأ القول بعد حكايات طويلة عن ماض عريق.
وهكذا انتصرنا على الملك السوري وملك الفرس وميديا (يعقب المترجم الروسي المتخصص، بأن ميديا هذه ليست ميديا فارس، إنما هو بلد مجهول [المؤلف])، وأصبح الطريق مفتوحا أمامنا حتى مصر نفسها.
48
نظننا الآن نقف على أرض صلبة، بعد أن عثرنا على جميع أصول المحتل الهكسوسي، وبخاصة ذلك العنصر الغامض الهندوآري، الذي أثبت وجوده دون دلائل كافية، ولا قرائن تشير إلى أسماء قبائله ومواطنها، والذي ثبت أنه من قبائل سكيث، وهو الأمر الذي جهدنا عليه طويلا لتأكيد نظريتنا في اتحاد العناصر المتلاقحة في بلاد آدوم ومديان في سيناء وآدوم وبوادي الشام، لينجبوا شعبا هجينا مولدا، ويفرزوا لغته السامية الشمالية، وكان بين هؤلاء الشعب العبري الإسرائيلي، المرموز له دوما بأورشليم، حيث يضيء أمامنا نص الكتاب المقدس، كاشفا العنصرين العموري الأموري الجنوبي الحيثي الآرامي السكيثي الشمالي، فيقول:
هكذا قال السيد الرب لأورشليم: مخرجك ومولدك من أرض كنعان، أبوك أموري، وأمك حيثية. (حزقيال، 16: 3)
ليكرر مناديا بلسان حزقيال النبي:
أنت وأخت أخواتك اللواتي كرهن أزواجهن وأبناءهن، أمكن حيثية وأبوكن أموري. (حزقيال، 16: 45)
أما النظرية التي كانت تتوارى في الظل طوال الوقت، حول أصل الأقوام السامية وموطنها الأول الجغرافي، فهي تلك التي تقول إن بوادي الشام كانت المهد الأول للأقوام السامية، وبالذات بلاد عرابة، وقد أكد كونتو أن بوادي الشام كانت محطة استراحة طويلة، في هجرة الأقوام السامية من موطن أخرى أصلية.
49
هكذا انتهينا من سكيث، بينما ما زال علم التاريخ التقليدي، يبحث عن من هم السجاز، لينتهي من حل اللغز إلى ذات الحل، الذي لجأ إليه في مشكلة الخابيرو، وهو أنهم مجرد شذاذ آفاق، لا يرتبطون بعنصر معلوم ارتباطا واضحا، وهو ما يعبر عنه قول المصرلوجست (آلدريد):
وكانت هناك فئة تبدو لنا - أكثر غموضا هي فئة الساجاز كما ذكرت على الألواح المسمارية، وهم مطابقون للخابيرو، الذين أطلقت عليهم النصوص المصرية اسم العابيرو. وكان يندرج تحت هذا الاسم كل العمال غير المدربين، وكل العبيد من أسرى الحروب، ويبدو أن هذه الفئة كانت من أصول عرقية مختلفة، ولغاتهم أيضا مختلفة، يتجولون في فلسطين وسوريا، يعيشون على السلب والنهب أو الخدمة كمرتزقة.
50
ساجاز أو سكيث أو الحيثيون هم إذن العنصر الهندوآري الآرامي، الذي هبط من الشمال ليسكن بلاد مديان بلاد الأيك وأشجار العطور، مع الزنوج الأفارقة ومع العموريين القادمين من جنوب الجزيرة، حتى إن كلمة شجرة العربية هي الأصل الذي تعود إليه كلمة
SAGARIS
اليونانية، وهو نوع من السلاح كان يستخدمه الإسكيثيون، وتسميته سكيثية وليست يونانية، أما الرومان فيطلقون اسم سكاريا على السيف القصير العريض، ومن الشجرة في العربية الشواجر، والشواجر في لسان العرب هي سيوف الحديد.
51
ويحيطنا «آرثر كيستلر» علما أن كلمة «سا - جاز» مركبة من شقين، يعني شقها الثاني «جاز»، فعل بمعنى يتجول في اللغة التركية،
52
أي البدوي أو التائه أو الهائم على وجهه. وفي العربية «اجتاز» انتقل من موضع لآخر، وعرب اليوم بجزيرة العرب والخليج، ما زالوا يطلقون على العابر المتنقل أو المسافر اسمه: العبري ... و... التركي. إنها بقايا التاريخ في اللسان حتى اليوم.
Unknown page