وفي سفر التكوين معنى صريح يشير إلى ذلك، في قول إبراهيم: إن سارة هي أخته غير الشقيقة، «وبالحقيقة هي أيضا أختي ابنة أبي، غير أنها ليست ابنة أمي فصارت لي زوجة» (تكوين 20: 12).
وما يمكن أن تؤدي إليه هذه الرواية من فهم دفع الباحث الإسلامي «د. صابر طعيمة» إلى التعقيب مستنكرا أن التوراة تعني بذلك ودون مواربة، أن «الفرعون المصري قد أخذ المرأة وتزوجها، أو عاشرها واستمتع بها»، كما تعني أن النبي إبراهيم «تنزه نبي عن ذلك، جبان: يقتلونني ويستبقونك، بل إن في النص بعد ذلك معنى يجرد إبراهيم من رجولته فضلا عن إبائه وعظمته كنبي رسول، هذا المعنى هو أنه كان ديوثا على أهله يعيش على ريعهم، وينعم بثمن امرأته «فصنع إلى إبرام خيرا بسببها».
2
ولأن التوراة مقدس لدى المؤمن به على حاله المتاح، فإن «ماير» يسلم بالرواية، ويستخلص منها العبر والعظات، ورغم أنه في سلسلة كتبه كثيرا ما تحامل على المصريين بحكم اللعنات التوراتية التي دأبت عليها التوراة، وصبتها على بني حام، ورغم أنه كثيرا ما أشار لمصر كرمز للدنيا وزينتها مقابل طهارة الإيمان ونقائه، فإنه يحاول في كتابه عن النبي إبراهيم تبرير نزول القبيلة الإبراهيمية مصر، وبخاصة الأنبياء منهم فيقول: «مرت ظروف في تاريخ «شعب الله»، رأينا الله نفسه يأمر عبيده بالالتجاء إلى مصر «مؤقتا»، فعندما كان يعقوب مترددا في الذهاب إلى مصر، وعامل الخوف من تكرار أخطاء الماضي، قال له الرب: أنا إله أبيك، لا تخف من النزول إلى مصر؛ لأني أجعلك أمة عظيمة هناك، أنا أنزل معك إلى مصر» (تكوين 46: 3، 4).
وفي العهد الجديد «الأناجيل» نجد ملاك الرب يظهر ليوسف «رجل مريم أم المسيح» في حلم ويقول له: «قم وخذ الصبي وأمه واذهب إلى مصر» (متى 2: 13).
واضح هنا أن مصر كانت ملجأ لطالب الحمى، لكن النبي يعقوب حفيد النبي إبراهيم كان يخشى نزولها، خوفا من تكرار أخطاء الماضي فماذا يقصد «ماير» بأخطاء الماضي تحديدا؟ ... تتضح الإجابة في استطراده: «على أن إبراهيم لم يتلق رسالة صريحة من الله بنزول مصر، بل تصرف بمجرد تفكيره الشخصي، يا لها من غلطة شنيعة، ألم يكن خيرا لإبراهيم أن يلقي بكل المسئولية على الله؟ ... عندما فقد إبراهيم إيمانه ونزل مصر، فقد أيضا شجاعته وأقنع زوجته أن تقول عن نفسها إنها أخته، فإنه كان قد سمع عن «فساد أخلاق المصريين»، وخشي أن يقتلوه ليتمكنوا من أخذ سارة التي كانت على شيء عظيم من الجمال رغم تقدمها في السن، «وقد ضلل هذا الكلام المصريين فعلا»، لأن سارة أخذت إلى بيت فرعون. كان هذا الموقف الذي وقفه إبراهيم دليلا على ضعفه «وجبنه»، ولم يستطع أن يجد له مبررا يدافع به عن نفسه، وكانت غلطة شنيعة من شخص عاش بالإيمان كل تلك المدة الماضية، وكادت «هذه الغلطة تعرض النسل الموعود للخطر».»
وهكذا سلم «ماير» عن إيمان بالرواية دون مناقشة، وأخذ منها العظة بحسبان ما حدث للنبي كان أمرا مقصودا ليكون درسا للمؤمنين وعبرة، فيستمر يقول: «وعندما أخذ فرعون سارة، صنع إلى إبرام خيرا جزيلا بسببها، وهذا ما قد يفعله لعالم أحيانا لمن يستسلمون له» (يقصد بالعالم مصر) ... وعندما يترك الابن الضال بيت أبيه، يخسر كل ما يعطي الحياة قيمة حقيقية، «وينحط إلى مستوى الخنازير»، ولو شعر في بداءة الأمر بنشوة السرور الوقتي، للحصول على الشهوة المشتهاة . إن سقطة إبراهيم في مصر تعطينا صورة عن طبيعته الأصيلة، التي لم تكن نبيلة بأي حال من الأحوال، فإبراهيم بطبيعته الأصيلة «لم يكن يسمو كثيرا عن سائر بني المشرق» الذين لا يترددون عن الكذب لكسب خير أو دفع ضر ... إن إلهنا لا يشترط توافر الاخلاق النبيلة حتى يتم أجل أعماله، فهو قادر على أن يخلق من الحجارة أولادا لإبراهيم. نحن بالطبيعة لا شيء، بل نحن نجسون فاسدون، الله لا يسمح أن ينبذنا لمجرد خطيئة واحدة، فبالرغم من سقوط النفس المتكرر وتقصيراتها المتعددة يتابع نعمته فيها، حتى يحررها مما علق بها من شرور، حذر الرب فرعون بصوته الإلهي، وأمسكه أن يسيء إلى عبده، ففرعون كان لابد أن ينتقم لنفسه من ذلك الشخص الغريب الذي «كذب عليه وخدعه»، حتى إن فرعون لم يستطع أن يمد يده إليه، بل لم يجسر أن يسترد الهدايا التي خلعها عليه كصداق لسارة. «كانت هذه الزيارة لمصر أساسا للثروة الطائلة التي تمتعت بها ذريته فيما بعد»، ولكن الواقع أن الله سمح به لكي يزيد عبده الأمين التصاقا به، ولكي يفصله عن مصدر الشر الذي لصق به طويلا، كم نحن مدينون بالشكر للكتاب المقدس، الذي لم يتردد عن ذكر «خطايا أقدس القديسين، ولا شك أن هذا دليل على صحة الكتاب».»
حقيقة إن كلام «ماير» هنا يحتاج وقفة تأملية قصيرة عسانا نستعبر من عبره، فمصر رمز الحياة الدنيا، ومع ذلك كانت حمى الأنبياء وملجأهم، وبأوامر صريحة من الرب بذلك، أما خطأ إبراهيم عند «ماير» أنه نزلها دون تفويض بذلك بل بهواه الشخصي. أما همه وشغله الشاغل فهو أن النبي إبراهيم كاد بذلك يعرض النسل العبري للخطر بدخول بذرة غير عبرية في سلساله، وحتى يكيل للمصريين مزيدا من الشتائم، لم يتورع عن شتم النبي ذاته، ولا بأس لديه من استخلاص صفات النبي من التوراة، ويصل إلى أنه «لم يكن يسمو كثيرا عن سائر بني المشرق»، وتعبير سائر بني المشرق درج في التوراة للدلالة على العرب من أهل البادية، إضافة لما يحمله من معنى لدي «ماير» بحسبانه من أهل الغرب، أما أن يذكر الكتاب المقدس هذه الرواية دون تحرج، فهو دليل قاطع على صدقه؛ لذلك «كم نحن مدينون بالشكر للكتاب المقدس!»
ورغم أن الوقوف مع «ماير» هنا قد يبعدنا قليلا عن صلب موضوعنا، إلا أنه لا يصح أيضا المرور على مثل هذا الحديث دونما وضع الأمور في نصابها الصحيح، ولسنا هنا في موقف الدفاع عن إبراهيم عليه السلام فهو نبي رغم كل شيء، وأن الذين كتبوا التوراة هم حفدته الذين أصروا على الزعم الدائم بنقاوة الدم العبري. ومع ذلك فإن أول الكتابات أهمية في التوراة تتعرض منذ البداية لأول خطر تعرض له نقاء هذا الدم مع أول رجل ذي شأن في تاريخهم، ولا شك أن العقل لا يستسيغ إطلاقا وجود نوع من الطهارة المطلقة لشعب كامل خلال قرون طويلة، بحيث تظل بذرته نقية تماما «خاصة مع هذه البداية التي لا تبشر بخير».
ولأن عددا من الباحثين سبق وناقشوا هذا الأمر عن النبي إبراهيم باستفاضة، فسنقتصر على ما لم يناقشوه، ولم يخطر ببالهم أن يردوه، وهو ما يتعلق في القصة بالمصريين ويبدو أنها لم تشغل الباحثين في كثير أو قليل بحسبانهم المصريين القدماء خاصة مع ذكر فرعون، كفارا ملاعين، رغم أن الواضح في التوراة أن الفساد لم يكن في المصريين، ونحن هنا لا نرد أو نواجه طعنا، لكنا فقط نحاول رؤية الحقائق التي لم يرها الأغلبية رغم شدة وضوحها، فالتوراة تقول: إن النبي أوعز لزوجته أن تنكر زوجيته لها وتدعي أنه أخوها. لماذا؟ تجيب التوراة بالحديث منسوبا للنبي: «ليكون لي خير بسببك، وتحيا نفسي من أجلك!» ورغم أن سارة قد تجاوزت من عمرها السبعين، فإن الكاتب التوراتي يصر على أنها كانت «حسنة جدا»! ومن هنا أخذها فرعون ليضمها إلى حريمه. لكن بعد أن أمهرها لدى أخيها بصداق جزيل. يقول المستر «ماير»: إنه كان أساس الثروة الطائلة التي تمتع بها العبريون بعد ذلك واشتهروا بها، فأي كرم هذا؟ وأي صداق ذاك؟
Unknown page