إهداء
النبي إبراهيم والتاريخ المجهول
تأسيس (1)
تأسيس (2)
الهجرة إلى فلسطين
المبالغات والتلفيقات «أور» المشكلة؟
إبراهيم في مصر
الرحيل جنوبا
العمالقة
فراعنة اليمن
مكة اليمنية
وعند لوط الخبر اليقين
مصادر البحث
إهداء
النبي إبراهيم والتاريخ المجهول
تأسيس (1)
تأسيس (2)
الهجرة إلى فلسطين
المبالغات والتلفيقات «أور» المشكلة؟
إبراهيم في مصر
الرحيل جنوبا
العمالقة
فراعنة اليمن
مكة اليمنية
وعند لوط الخبر اليقين
مصادر البحث
النبي إبراهيم والتاريخ المجهول
النبي إبراهيم والتاريخ المجهول
تأليف
سيد القمني
إهداء
كي تعرف - في زمانها - أننا قد أحدثنا الثقب في جدار الظلمة.
كي تعرف أننا أعطينا العمر لنمرر إلى جيلها خيط النور.
كي لا تشك أنه لم يكن في زماننا رجال!
لها أهدي هذا الكتاب.
ابنتي الرضيعة، نفرتي.
سيد القمني
وجئت آخر الأمر إلى الأقصر، أو بعبارة أصح، إلى مدينة الآثار، إلى الكرنك، وفيها تبدت لي عظمة الفراعنة بأكملها، وشاهدت كل ما تصوره الناس وما أخرجوه في أكبر صورة. وما من شعب قديم أو حديث - غير قدماء المصريين - قد صور لنفسه فن العمارة بهذا السمو، وهذه العظمة، وهذه الفخامة.
لقد كانوا يفكرون كما يفكر الجبابرة الذين تبلغ قامة الواحد منهم مائة قدم.
شامبليون
في 1828م
النبي إبراهيم والتاريخ المجهول
دراسة تحاول:
كشف التاريخ المزيف في علاقة النبي إبراهيم بفلسطين.
إضاءة المعتم في علاقة النبي إبراهيم بالمصريين.
الوصول إلى الموطن الحقيقي للنبي إبراهيم، وخط السير الصادق لارتحالاته في المنطقة.
تأسيس (1)
لا مراء أن شخصية النبي إبراهيم عليه السلام، تعد واحدة من أهم الشخصيات في التاريخ الديني؛ فقد بلغ هذا النبي منزلة لا نزاع حولها في الأديان الكبرى الثلاثة، التي أفرزتها المواطن السامية شرقي المتوسط؛ اليهودية والمسيحية والإسلام، وتوطئة للبحث وراء ارتحالات النبي إبراهيم عليه السلام، والتي أدت - حسبما يخبرنا به التاريخ الديني - إلى نشوء علاقات بينه وبين أهل المنطقة، وما تبع ذلك بالضرورة من تفاعل جدلي في الفكر والثقافة والمعتقدات، نهيئ السبيل برؤية مكثفة وموجزة، لوضع النبي إبراهيم في الديانات الثلاث.
فهو عند العبريين:
أهم الآباء الأوائل للشعب العبري، وهو أب لسلسلة من الأبناء كانوا جميعا ذوي علاقة حميمة بالإله، وأنه يعود بموطنه إلى مدينة «أور الكلدانيين» على شاطئ نهر الفرات، وأنه قد هاجر من موطنه «أور
UR » في العراق القديم، على رأس قبيلته يبغي الذهاب إلى أرض كنعان، المفترض أنها أرض فلسطين الحالية، وأنه في كنعان التقى بربه، وهو الرب المعروف في التوراة بالاسم «إيل» أو «إل» - وإليه تنسب الأسماء مثل جبرائيل وميكائيل وإسرائيل وإسماعيل ... إلخ - ويفترض الباحثون أنه أصل لفظ الجلالة في اللغة العربية «إله - ألله».
وتذهب التوراة إلى أن الرب «إيل» قد اتخذ من النبي إبراهيم خليلا «خل - إيل» ومن ثم أقطعه ونسله من بعده أرض كنعان خالصة لهم، أو بنص التوراة:
وقال الرب لإبرام: ارفع عينيك وانظر إلى الموضع الذي أنت فيه، شمالا وجنوبا وشرقا وغربا؛ لأن جميع الأرض التي أنت ترى، لك أعطيها، ولنسلك إلى الأبد.
سفر التكوين 13: 14، 15
ونص آخر يقول:
وأعطي لك ولنسلك من بعدك «أرض غربتك»، كل أرض كنعان، ملكا أبديا، وأكون إلههم.
سفر التكوين 16: 8
والواضح في هذه النصوص - ومثلها كثير في التوراة المتاحة الآن - أن النبي قد جاء أرض كنعان غريبا عنها «أرض غربتك» بقصد استيطانها، وعندما وصلها، منحها له رب التوراة «إيل».
ومع متابعة النص التوراتي، نجد «إيل» يوسع على خليله، ويزيد من مساحة الأرض المقطعة للنسل الإبراهيمي، وفق ميثاق وضعت فيه حدود الأرض، ونصه:
وفي ذلك اليوم، قطع الرب مع إبرام ميثاقا قائلا: لنسلك أعطي هذه الأرض، من نهر مصر، إلى النهر الكبير نهر الفرات.
تكوين 15: 18
وتم توثيق هذا العهد حسب الرواية العبرية بين «إيل» و«إبراهيم» بعلامة شاهدة، وخاتم لا يمحى
1
أصبح فيما بعد منسكا وفريضة على كل يهودي، هو الختان، وقد جاء ذلك في النص القائل:
وقال الله لإبراهيم: أما أنت فتحفظ عهدي بيني وبينكم، يختتن كل منكم، كل ذكر، فتختتنون في لحم غرلتكم، فيكون علامة عهد بيني وبينكم، فيكون عهدي في لحمكم عهدا أبديا.
تكوين 16: 9-13
وبموجب هذه المجموعة من الحيثيات، فإن التوراة قد وضعت للقبيلة العبرية عدة قواعد : أهمها أن النبي إبراهيم هو أب العبريين جميعا، وأنهم تحدروا من صلبه خلفا عن سلف، وأنه تمكن بصداقته للرب «إيل» أن يضمن لهم أرضا خاصة، لم تكن أرضهم أصلا، إنما وفدوا عليها، وأن الشاهد على صدق ما حدث هو بصمة الختان، التي وثقت العقد، حتى أمست هذه العلامة البدنية مصدر اعتزاز لكل يهودي، وبحيث عدوها نيشان شرف يتميزون به على العالمين.
وهو عند المسيحيين:
لا يقل رتبة عنه عند اليهود؛ لأن إنجيل «متى» يقرر أن إبراهيم هو الجد الأعلى ليسوع المسيح، ومتى يصف إنجيله من البداية: أنه «كتاب ميلاد يسوع المسيح بن داود بن إبراهيم متى 1: 1». ولوجه الحق فإن ما يستعصي على الفهم هنا هو: كيف يتفق أن يكون المسيح من نسل إبراهيم، مع جوهر الاعتقاد المسيحي وأساسه الأول. والمعلوم أن المسيحية تعتبر يسوع المسيح إلها ليس له أب بشري، وإذا حاولنا التملص باحتساب هذه الأبوة الإبراهيمية للمسيح، إنما تأتي عن طريق أمه «مريم»، فإن الإنجيلي «متى» لا يترك لنا هذه الفرصة، فيؤكد الأبوة الإبراهيمية ليسوع المسيح عن طريق آخر، ويرصد لذلك سلسلة من نسب الأبناء والأحفاد، تمتد من إبراهيم - مرورا بداود وسليمان - حتى تصل إلى «يوسف النجار» الذي يصفه بأنه «رجل مريم التي ولد منها يسوع الذي يدعى المسيح».
2
وتأسيسا على ذلك فإن إبراهيم هنا سيكون أيضا أبا لكل المسيحيين؛ لأن المسيحيين، حسب العقيدة المسيحية، إنما هم جميعا أبناء ليسوع المسيح، وذلك عن طريق الإيمان به، وبموته على الصليب، وبقيامته، وبأن لاهوته لم يفارق ناسوته ولا لحظة واحدة
3
ومن هنا كان نداؤهم الجهير: «أبانا الذي في السماوات»، وعليه فإن جميع المسيحيين أبناء لإبراهيم عبر الإيمان بحفيده يسوع.
ومن ثم تصدق المسيحية بالروايات التوراتية حول خروج النبي إبراهيم من «أور الكلدانيين» إلى أرض فلسطين الكنعانية، فيقول سفر أعمال الرسل الإنجيلي: «ظهر إله المجد لأبينا إبراهيم قبلما سكن حاران، وقال له: اخرج من أرضك ومن عشيرتك، وهلم إلى الأرض التي أريك، فخرج من أرض الكلدانيين وسكن في حاران، ومن هناك نقله بعدما مات أبوه إلى هذه الأرض، التي أنتم ساكنون فيها» (7: 2-4).
وهو عند المسلمين:
خليل الله النبي الكريم، أب الأنبياء جميعا، فقد انحدر من صلبه سلسلة من الأبناء والأحفاد، وأحفاد الأحفاد، يحملون بذرة النبوة، ومن ثم كانوا سلسلة من الأنبياء، وهو ما تشير إليه الآيات القرآنية دون لبس، وذلك في قوله تعالي:
وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب (العنكبوت: 27)، وهو في الآيات خليل الله
واتخذ الله إبراهيم خليلا (النساء: 125)، أما الأهم من ذلك كله، فإنه كان غريبا على بلاد العرب.
4
ومع ذلك فقد نالت هذه البلاد من نسله نصيبا، بعد أن زارهم وترك فيهم ولده إسماعيل، ثم عاد إلى زيارته في بلاد العرب الحجازية بعد يفوعه، حيث قاما بإعادة بناء البيت الإلهي «الكعبة» في مكة الحجازية، والذي كان مقدسا لدى عرب الجاهلية قبل الإسلام، وقد أوضحت الآيات ذلك بقولها:
وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل (البقرة: 127)، لكن ربما كان أخطر ما قرره القرآن الكريم بشأن النبي الخليل، هو أنه المؤسس الأول لملة الإسلام، وإعلانه السافر والمتحدي:
ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (آل عمران: 67).
وبذلك قطع القرآن الكريم بشأن النبي إبراهيم، وقصته في القرآن الكريم معروفة، لا تحتاج إلى مزيد شرح أو تفصيل، إلا أن الأمر فيه إشكالية دعت إلى بحثنا هذا «وربما إشكاليات»؛ فالتوراة تصر من جهتها على الصمت المطبق إزاء ما أعلنه القرآن الكريم حول علاقة النبي إبراهيم ببلاد العرب الحجازية، فلم يرد لهذا الأمر أي ذكر في التوراة المتاحة بين الأيدي اليوم، وهو بحد ذاته مدعاة للتقصي إزاء ما ورد في الإسلام عن علاقات حميمة وأساسية وجذرية للنبي إبراهيم بجزيرة العرب وديانة الإسلام، خاصة مع علمنا أن التوراة قد انتهت كتابتها قبل تسعة قرون من الميلاد في بعض أسفارها، في أبعد تقدير وقبل قرن واحد من الميلاد، في أقرب تقدير لأسفار أخرى؛ بمعنى أنها قد حازت في معارف الإنسان قصب السبق، مما يدعو للوقوف مع مسألة هبوط النبي إبراهيم عليه السلام بلاد الحجاز، وجهل التوراة بهذا الأمر، بغرض الوصول إلى المصداقية، حسب مقررات المنهج العلمي، وما تتطلبه شروط هذا المنهج الصارمة من قرائن وأدلة، لدعم الرؤية الصادقة. ومن هنا سنضطر إلى التأني مع قصة التوراة عن الخليل، وبحثها بحياد العلم، علها تكشف لنا في الأمر أمرا، وهذا بحد ذاته سبيل وعر، وعروج محفوف بالمحاذير والصعوبات، وربما كان قطع القرآن الكريم في الأمر مدعاة للتساؤل حول جدوى مثل هذا البحث أصلا!
لكن وجه الإشكال لا يقتصر على عدم إشارة التوراة لزيارة النبي الخليل إلى البلاد الحجازية، فهناك تفاصيل أخرى عديدة، وردت في القرآن الكريم ولم ترد في التوراة. وأمثلة لها قصة تكسير النبي إبراهيم لأصنام قومه، أو مثل قصة إلقائه في النار، أو مثل خلافه مع أبيه حول صادق العقيدة، أو مثل حواره مع الملك المذكور في التراث الإسلامي باسم «نمروذ». وفي المقابل نجد تفاصيل هائلة بالتوراة لم ترد بالقرآن الكريم، ولا يفوتنا هنا أن نذكر: أن القس المبشر «د. ف. ب. ماير» لم يجد حرجا في الاستفادة من الروايات الإسلامية، رغم عدم ورودها في التوراة، فيقول عن النبي إبراهيم: «وإذا صحت الروايات التي تقال عنه، وهي بلا شك تستند إلى شيء من الصحة، إن لم تكن كلها صحيحة، تبين لنا أنه منذ البداية كان يتصف بأخلاق غير عادية، وتتضمن هذه الروايات أن إبراهيم لما كان شابا، قاوم - بعنف - تيار الشر الذي جرف إلى لججه كل البلاد، بل غمر بيت أبيه أيضا (لاحظ أن ذلك الكلام لم يرد به أي نص توراتي، والإشارة من عندنا)، ثم إنه أشهر في وجه تلك الممارسات الشريرة سلاح الهزء والسخرية، ثم إنه كان كلما رأى تمثالا حطمه، وكان يأبى أن يجثو للنار، وهذه الروايات لا تستند إلى أية إشارة في الكتاب المقدس، على أنه من الناحية الأخرى لا توجد فيه أية إشارة تنفيها.»
5
تأسيس (2)
لكن يظل التساؤل: وما الداعي لبحثنا هذا؟ ومن ثم نرصد مزيدا من الدواعي والدوافع، فرغم الاختلافات بين التوراة «المسلم بها من جانب المسيحيين كمقدس» وبين الإسلام؛ فإننا نجد الأديان الثلاثة «اليهودية والمسيحية والإسلام» في جانب، وعلم التاريخ في جانب آخر؛ حيث نجد هذا العلم لا يعلم من وثائقه الأركيولوجية والآثارية شيئا البتة عن النبي إبراهيم، ورغم اتفاق القصة التوراتية مع قصص الإخباريين المسلمين حول موطن النبي إبراهيم الأصلي، والتي تقول: إنه هاجر من موطنه الأصلي في بلاد الرافدين إلى فلسطين، وأنه زار مصر زيارة مهمة وخطيرة، و«كانت هذه الزيارة لمصر أساسا للثروة الطائلة التي تمتعت بها ذريته فيما بعد» فيما يقول المستر «ماير»، فإنه لم يعثر حتى الآن على أي دليل آثاري، سواء كان كتابة أو نقشا، أو حتى نقش يقبل التفسير، أو في نصوص تقبل - حتى - التأويل يمكن أن يشير إلى النبي وقصته سواء في آثار وادي النيل، أو آثار وادي الرافدين، على كثرة ما اكتشف فيهما من تفاصيل ووثائق.
وهذا بدوره سبب كاف لدعم دوافع باحث مهتم، كي يضع المسألة كلها قيد البحث، خاصة أن عدم معرفة علم التاريخ بهذا النبي رغم حضوره الكثيف في الديانات الثلاث، قد أدى ببعض الباحثين إلى حسبانه شخصية أسطورية، لا تمت لعلم التاريخ بصلة، حتى إن هذا البعض قد احتسب جميع قصص البطاركة القدامى مجرد قصص خرافية لا ظل لها من حقيقة، وقام منهم من يدلل على أن أسماء هؤلاء إنما كانت أسماء لشخصيات إلهية في عبادات قديمة، وأن أساطيرها كانت متداولة قبل التوراة في القصص الأسطوري لبلاد كنعان، وأن العبريين عندما جاءوا أرضهم وورثوها، ورثوا معها تراثها، فوجد هذا التراث طريقه إلى التدوين في التوراة، كقصص لأنبياء بني إسرائيل. بينما يشير آخرون بخصوص النبي إبراهيم إلى أسطورة باسم «براما» كانت واسعة الانتشار قبل ظهور العبريين، وعرفت في بلاد إيران والهند وما حولها، وأنها أصل عقيدة «براهما» الهندية، وأن العبريين بدورهم قد تبنوا هذه الأسطورة وحولوها إلى شخصية إنسانية، واحتسبوا «براما» جدهم البعيد، تأسيسا على منهج التدين القديم، القائم على تقديس الأسلاف.
1
وكان عدم وجود الدلائل التاريخية مدعاة لأن يقول باحث مثل «فلهلم رودلف»: إن حفاوة القرآن الكريم بالنبي الخليل ترجع إلى محاولة النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
تألف قلوب يهود يثرب مع القوة الإسلامية الطالعة. وعندما فشلت المحاولة، أخذه من الجميع عنوة واقتدارا، وزعم أنه جده البعيد، وجد جميع العرب المسلمين ومؤسس العقيدة الإسلامية.
2
ولعلنا لم نزل بعد نذكر تلك الضجة الكبرى التي ثارت حول ما كتب عميد الأدب العربي «طه حسين»، ويشبه إلى حد بعيد ما ذهب إليه «فلهلم رودلف» حيث يقول: «للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا أيضا، لكن ورود هذين الاسمين في التوراة، لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، ونحن مضطرون إلى أن نرى «في هذه القصة نوعا من الحيلة، في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى» ...»
3
والآن: هل لم يزل ثمة مدعاة للتساؤل حول جدوى بحثنا هذا؟ ... ولعل التساؤل حول الجدوى، تلحقه اعتبارات تقلل من قيمة البحث ونتائجه، تأسيسا على عدم وجود أية مصادر تاريخية تشير إلى إبراهيم، سواء في مصر أو الرافدين، ومن ثم ستكون أية محاولات هي مجرد تخمينات وافتراضات تنتهي بدعم أولئك أو هؤلاء. حقيقة نحن مضطرون هنا إلى الاعتراف بعدم وجود الأدلة المباشرة، مما سيلجئنا إلى استخدام كل ما يخدم بحثنا من مناهج، والتعامل مع النصوص بأسلوب التحري والمباحثية؛ لتجميع ما يلزم من قرائن، يمكن إذا تجمعت أن تكتسب ثقل الأدلة التي يمكن أن تدلنا على الطريق القويم والنتائج الأقرب إلى الصدق.
وهنا ستجدنا مضطرين إلى اللجوء للتوراة الحالية «ولا مفر» وكتب التراث الإسلامية، إضافة بالطبع إلى القرآن الكريم والحديث الشريف. وإن لجوءنا للتوراة قد يلقى الاعتراض من بعض المهتمين، لكن لذلك أسبابه ووجاهته التي ستتضح في حينه. علما أن التوراة - بعكس القرآن الكريم تماما - فهي كتاب في التاريخ في المقام الأول، وكتاب في الدين في المقام الثاني (مع ملاحظة أن هذا التاريخ قد تمت صياغته وفق أهداف أصحابه وخططهم)، حتى إن التاريخ يشكل - دون مبالغة - أكثر من ثمانين بالمائة من مجموع صفحات العهد القديم المكتظ بالأسفار، وتزيد صفحاته على ألف وثلاثمائة صفحة. أما بالنسبة لكتب الأخبار الإسلامية، فقد لجأت لذات التوراة الموجودة بين الأيدي اليوم، واستقت منها تفاصيل هائلة كما وكيفا، بحيث أصبحت هذه التفاصيل مرجعا إسلاميا للمسلمين، لورودها في أمهات الكتب الإسلامية وتشكل كما هائلا داخل هذه الكتب.
وقد أدرك زعيم طبقة كتاب الأخبار والسير «الحافظ ابن كثير الدمشقي» حساسية الأمر، ومع ذلك اعتمد كثيرا من الأخبار التوراتية، لذلك نجده يبدأ مقدمة مؤلفه الموسوعي «البداية والنهاية» بتقديم مبررات الاعتماد على الإسرائيليات، فيقول: «ولسنا ننقل من الإسرائيليات إلا ما أذن الشارع في نقله، مما لا يخالف كتاب الله وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم
وهو القسم الذي لا يصدق ولا يكذب، مما فيه بسط لمختصر عندنا، أو تسمية لمبهم ورد به شرعنا، مما لا فائدة في تعيينه لنا، فنذكره على سبيل التحلي به، لا على سبيل الاحتياج إليه والاعتماد عليه.»
ثم يدلي «ابن كثير» بسنده الشرعي للأخذ من التوراة، حتى لا يقع عليه لوم أو تثريب، فيورد حديث النبي محمد
صلى الله عليه وسلم : «بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، وحدثوا عني ولا تكذبوا، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار.»
ثم يعقب على الحديث بالقول: «فهو محمول على الإسرائيليات المسكوت عليها عندنا، فليس عندنا ما يصدقها ولا يكذبها، ويجوز روايتها للاعتبار، وهذا هو الذي نستعمله في كتابنا هذا.»
4
وهكذا يعي «ابن كثير» حجم المعارضة التي قد يلقاها من المسلمين نتيجة لجوئه إلى الإسرائيليات، فيقرر - بداية - للجميع أنه لن ينقل منها إلا ما وافق الشرع، ولم يخالف الكتاب والسنة، ثم يصف ما حشا به مؤلفه الهائل من إسرائيليات، بأنها - نعم - وردت في التوراة، لكن لم يصدر بشأنها حكم إسلامي بالصدق أو الكذب، ولعل «ابن كثير» كان واضحا تمام الوضوح، وصريحا كل الصراحة، وهو يورد الأسباب التي دعته للأخذ بالإسرائيليات، وهي أولا: أنه قد جاء في الإسلام أمور مختصرة تحتاج لمزيد شرح وتفصيل «مما فيه بسط لمختصر عندنا»، وثانيا: إعطاء الأسماء والإيضاحات لأمور وردت في الشرع الإسلامي، لكنها غير مفهومة «تسمية لمبهم ورد به شرعنا»، أما لماذا كانت مبهمة وغير مفهومة في الإسلام؟ فهو ما يجيب عنه بالقول: لأنه «لا فائدة في تعيينها لنا»!
وهنا نقف مندهشين من أمر هذا الكاتب الجليل، فإذا كان القصد من شرعنا في اختصاره وإبهامه أنه لا فائدة من تعيينه لنا، وكانت تلك قاعدة، فلماذا إذن تجاوزها ابن كثير الدمشقي وصحبه، ومن ضرب في دربه من الإخباريين المسلمين وهم كثير؟! الأمر إذن ليس بقاعدة دائمة الحضور، ولا ريب أنه بعد مرور ستة قرون منذ زمن النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
وحتى عصر ابن كثير، كانت كفيلة بظهور إشكاليات لم توجد زمن النبوة، ومن هنا احتاجت طبيعة المجتمع الجديد إلى تفصيل المختصر وبسط المبهم، ولا ينسى الحافظ ابن كثير أن يشير بحذر واضح إلى أن التفاصيل المأخوذة من التوراة إنما جاءت «على سبيل التحلي بها لا على سبيل الاحتياج إليها»، بينما الواضح أنه قد أورد مقدما أسباب هذا «الاحتياج إليه» وظروفه، خاصة أنه لجأ إلى حجة أخرى غير مجرد التجمل والتحلي، فيقول: إنه لجأ إلى إسرائيليات مسكوت عنها في الإسلام، ولم يصدر بشأنها قرار واضح المعالم، لذلك وجبت روايتها «للاعتبار» والاعتبار يعني الفائدة الحكمية منها، وأخذ العبرة والعظة، إضافة إلى ما يحمله تعبير «الاعتبار» من معنى عدم الإهمال والتغاضي عنه، والإقلال من شأنه.
وإذا كان عصر ابن كثير بعد ستة قرون من النبوة قد اضطره إلى اللجوء للتوراة، فإن عصرنا بعد أكثر من أربعة عشر قرنا «قد أصبح يحتاج إعادة نظر في الأمر برمته»، وبخاصة في إسرائيليات التراث الإسلامي، التي كانت توراتية الأصل، وأصبحت منذ عهد الإخباريين المسلمين تراثا إسلاميا بحتا.
وإعمالا لكل ذلك، فإن لجوءنا للتوراة، لبحث الإشكاليات المثارة في بحثنا هذا حول النبي إبراهيم عليه السلام، والتي ربما كانت التوراة ذاتها سبب إثارتها الأساسي، ليس ابتداعا من جانبنا لجديد، لكن الرجوع من جانبنا للتوراة، لن يكون لمجرد التحلي بها ، فهي في بحثنا هذا طرف جدلي يسبب إثارة المشكلة، ويشارك في حلها ولو مضطرا، مع الاستعانة بكتب التراث الإسلامية، التي لم تكن بالطبع مجرد تابع أمين للتوراة، إنما خالفت هنا، وقالت كلمتها هناك، كما أنه قد ورد عند الإخباريين المسلمين ما نزعم أنه ليس مجرد أساطير الأولين، ومخاريق الأقدمين، بل فيه للباحث المدقق إشارات واضحة إلى سبل عدة، يمكن لو استقرأها واستشرفها أن تهدي إلى إضاءات وكشوف، شرط الالتزام بصرامة شروط المنهج العلمي، وما تفرضه من وجوب محاكمة النصوص محاكمة عادلة؛ ليتمكن في النهاية من استصفاء ما يتفق ومنطق الحدث، وزمانه ومكانه وظروفه.
ولا نزعم هنا قدرة حل جميع الإشكاليات المطروحة، إنما سنحاول فقط. وربما أثرنا أثناء البحث إشكاليات جديدة، لكن بحثنا هذا على أية حال، هو توجيه - في المقام الأول - إلى باب حان ولوجه، ووجب أن يقوم له فرسانه من الباحثين، وهم لا شك كثيرون. وربما قبل ذلك نبهونا إلى أننا قد أصبنا هنا، أو أخطأنا هناك، وربما وافقنا البعض، وربما خالفنا الكثيرون، لكن الذي لا خلاف حوله، أنه في ساحة البحث العلمي متسع للجميع.
الهجرة إلى فلسطين
عبر خمس وعشرين آية، من الإصحاح الحادي عشر بسفر التكوين، تثبت التوراة نسب النبي إبراهيم عليه السلام وتصعد به عبر أسلافه حتى تصله بسام بن نوح، مع تفصيل وشرح يتعلق بعمر هذا الفرد أو ذاك، من شجرة العائلة يمكن اقتضابها جميعا في القول: إن النبي إبراهيم هو: «إبرام بن تارح بن ناحور بن سروج بن رعو بن فالج بن عابر بن شالح بن أرفكشاد بن سام بن نوح.» (تكوين 11: 10-26).
وأول ذكر للنبي إبراهيم عليه السلام في التوراة يأتي في سياق حديثها عن هجرة قادها أبوه «تارح بن ناحور» مع أفراد عائلته، من موطنهم الأصلي، فتقول:
وأخذ تارح إبرام ابنه، ولوطا بن هاران ابن ابنه، وساراي كنته، امرأة إبرام ابنه، فخرجوا معا من أور الكلدانيين ليذهبوا إلى أرض كنعان، فأتوا إلى حاران وأقاموا هناك، ومات تارح في حاران.
تكوين 11: 31-33
ويفهم من هذه الرواية :
أن قائد هذه القبيلة المرتحلة، كان هو «تارح» أبو النبي إبراهيم، وأن زوجة النبي إبراهيم كانت تدعى «ساراي» وأنه كان له أخ يدعى «هاران» لم يكن مع المرتحلين، إنما كان ولده «لوط» هو رفيق ترحال عمه إبراهيم، وهو ما دفع المفسرين للقول: إن «هاران» قد مات في «أور» وهو ما يقول به «ماير».
ويذهب في قوله - مخالفا النص - إلى أن إبرام كان هو قائد الرحلة، وليس الأب «تارح» فيزعم أن إبرام «أخذ أباه تارح، فخرجوا من أور الكلدانيين، ونحن لا ندري كيف ارتضى تارح أن يترك وطنه العزيز، ومقابر موتاه، حيث رقد هاران ابنه، واضح على الأقل أنه لم يكن جادا في السير، ولا كانت البواعث التي دفعته للمسير صافية، ولهذا كانت مرافقته لإبراهيم سببا في تعطيل مسيره ...»،
1
ولما لم يكن في التوراة أية إشارة تدفع إلى مثل هذه الاستنتاجات، فمن الواضح هنا أن «ماير» قد تأثر بالروايات الإسلامية حول مخالفة الابن لأبيه في العقيدة، وهو ما لا يمكن الخروج به من التوراة إطلاقا، حتى ولو من باب التأويل.
إن هؤلاء المرتحلين قد خرجوا من مكان أسمته التوراة «أور الكلدانيين»، دون أن توضح سببا عقديا، أو حتى خلافا فقهيا، أو سياسيا لخروجهم من هذا المكان الحضاري العريق. فقط تذكر التوراة أن هدف المرتحلين كان أرض كنعان - المفترض أنها فلسطين الحالية - والتي تواتر وصفها في التوراة بأنها «أرض اللبن والعسل»؛ مما يشير إلى أن هدف الرحلة كان الوصول إلى أرض أكثر خيرا وفيئا. ولعل أول خلاف نلحظه بين هذه الرواية التوراتية وبين الرواية القرآنية، هو أن القرآن الكريم يذكر أبا إبراهيم بالاسم «آزر»، فالآيات تقول:
وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة (الأنعام: 74)، والخلاف هنا ليس فقط حول الاسم «تارح/آزر»، إنما هو خلاف عقدي أيضا، حيث تفهمنا الآيات أن الابن كان يخالف الأب في معتقده، وأن هذا الأب كان يعبد نوعا من التماثيل الإلهية، وهو ما لم تشر إليه التوراة بالمرة، بل ولم تشعرنا أنه كان ثمة خلاف بين الأب والابن من أي نوع. وكل ما توحي به أسفار تلك الحقبة، أن الابن إنما كان على سنة الأب والعشيرة يسير، وأن الأب كان القائد والموجه. وإذا لجأنا إلى كتب التراث الإسلامية نستنطقها القول حول هذا الخلاف، نجدها تؤكد أن أبا إبراهيم كان مقربا من الطاغية، الملك الكافر نمروذ، وأن هذا الأب كان صانعا للتماثيل الإلهية، بارعا في فنها، مما أدي إلى خلاف شديد بين الابن الذي يرفض عبادة التماثيل وما تمثله، وبين الأب الذي يعتقد فيها، ويتقوت من صناعتها وترتقي مراتبه الاجتماعية بقربها. أما الخلاف الثاني المتعلق باسم أبي إبراهيم، فإن معظم التراثيين يسيرون خلف رواية التوراة سيرا دقيقا، ويتابعونها متابعة عجيبة في غالب أمرها، حتى لا تكاد تجد خلافا إلا في الروايات التي انفرد بها القرآن الكريم دون التوراة، فعلى سبيل المثال يؤكد «ابن حبيب» في محبره: أن تارح هو آزر دون أية مناقشة أو اعتراض.
2
وابن حبيب إنما يسير في هذا الشأن على درب سلكه أصحابه من أهل التراث، فابن كثير بدوره يكاد يطابق الكثير من دقائق التوراة، وإن اختلفت بعض «الحروف» بين يديه، كنتيجة لما تتمتع به اللغات السامية من تبادل الحروف ذات المخارج الواحدة في النطق، إضافة لعدم وجود التشكيل والتنقيط في الكتابات القديمة، مع ظاهرة القلب اللساني (كما في زوج وجوز مثلا)، وفي قصة ابن كثير عن النبي إبراهيم شجرة نسب تطابق تماما شجرة النسب الإبراهيمية في التوراة، مع الاختلافات الحرفية المشار إلى بعض أسبابها، فيقول: إن إبراهيم هو ابن تسارخ (تارح في التوراة) بن ناحور بن ساروغ (سروج في التوراة) بن راعو (رعو في التوراة) بن شالح بن أرفخشد (أرفكشاد في التوراة) بن سام بن نوح.
لكن ابن كثير يرسل قوله الواعي الحذر «وهذا نص أهل الكتاب»؛ ليلقي بالمسئولية على أصحاب التوراة، متخلصا من تبعاتها بمهارة هادئة، وفي الآن ذاته يثبت تحليه بالأمانة.
3
ولا تفوت «ابن كثير» مسألة «آزر» و«تارح»، فيتناولها - بذات الحذر - ويحيلها إلى «ابن جرير» محملا إياه خطل الرأي من صحته، فيقول: «وقال «ابن جرير»: الصواب أن اسمه آزر، ولعل له اسمان علمان، أو أحدهما لقب، والآخر علم».
4
وفي معنى كلمة «آزر» ذهب «البيضاوي» إلى أنها اسم وصفي، بمعنى: القوي أو العضد أو المعين، أما الاسم العلمي فهو «تارح».
5
ولنذكر أن في اللغات السامية: «عازر» و«عزير» تساوي «آزر» وتفيد النصرة والتقوية، وقد عرفت السامية استبدال العين بالهمزة وبالعكس، ووضح ذلك في الآية القرآنية ... فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه (الأعراف: 157)، وعليه فإن الروايات الإسلامية لم تحاول بحث أمر «آزر» و«تارح» أبعد من ذلك، وعمدت إلى الأسلوب التوفيقي بين ما جاء في القرآن وما جاء في التوراة، رغم عدم اضطرارها شرعا لذلك، مما يشير إلى رغبة عجيبة في الالتقاء مع التوراة والتوافق معها وعدم ردها، رغم أن الشرع قد أعطاهم هذا الحق في الرفض، وهو أمر يمكن أن نرى فيه وجهين؛ فهو من جهة دلالة طيبة على علمية هؤلاء الإخباريين من حيث عدم رفض الرأي الآخر لمجرد المخالفة العقدية، لكنه من جهة أخرى يشير إلى رغبة محمومة في الالتقاء مع التوراة، «تضع علامات استفهام حول مبرراتها»!
أما المسألة الأخرى التي تتفق فيها الروايات الإسلامية مع روايات التوراة، فهي القول بخروج النبي إبراهيم عليه السلام من بلاد الرافدين يقصد أرض كنعان، وعلمنا أن التوراة قد حددت مركز انطلاق هذه الرحلة في مدينة «أور الكلدانيين» بالذات.
وإذا بحثنا عن مدينة باسم «أور
UR » في الخريطة التاريخية للمنطقة، وتنتسب في ذات الوقت إلى دولة الكلدانيين، سنجدها على الشاطئ الغربي لنهر الفرات، في أقصى جنوب الوادي الخصيب، ولكن تخصيص «أور» بأنها «أور الكلدانيين» لا يعني للعارف بالتاريخ أنها وجدت فقط في عصر الدولة الكلدانية، التي قامت ما بين عامي 625 و538 قبل الميلاد، فهي مدينة عريقة عراقة العراق، وتعد من أشهر حواضر هذا الإقليم الحضاري الكبير، بينما الكلدانيون لا يحسبون إلا على الهامش الأخير لهذه الحضارة الكبرى، فهم أصحاب دولة بابل الحديثة، التي سبقتها دول كبرى وعظمى، بدأت منذ منتصف الألف الرابعة قبل الميلاد، على يد السومريين
6
وكانت «أور» آنذاك دولة مدينة مستقلة
7
ذات شأن ومكانة، وظلت «أور» على مكانتها مع الدول التي تتابعت في المنطقة بعد السومريين، وظلت مدينة إدارية ودينية رفيعة الشأن، إبان حكم الأكاديين
8
وإبان العصر السومري الثاني
9
وإبان حكم دولة بابل الأولى
10
وظلت صامدة أيام الاحتلال الجوتي
11
والكاسي
12
واستمرت على ازدهارها حتى قيام الدولة الكلدانية
13
آخر ممالك العراق المستقل في ذاك الزمان، فعاشت «أور» كمدينة كبرى، ذات دور فاعل، ما يزيد على ثلاثة آلاف عام متتالية، دون انحسار تام أو انكسار حاد، يذهب بها في طوايا القرى والقرون الخوالي.
وإن اتفاق الرواة المسلمين مع التوراة، حول العراق القديم كموطن أول للنبي إبراهيم، يظهر في قول الثعلبي النيسابوري: «لقد اختلف العلماء في الموضع الذي ولد فيه، فقال بعضهم: كان مولده بالسوس من أرض الأهواز، وقال بعضهم: كان مولده ببابل من أرض السواد بناحية يقال لها كوثا، وقال بعضهم: كان مولده بالوركاء في حدود كسكر، وقال بعضهم: كان مولده بحران لكن أبوه نقله إلى أرض بابل، وقال عامة أهل السلف من أهل العلم: ولد إبراهيم عليه السلام زمن نمروذ بن كنعان.»
14
وهكذا نجد «الثعلبي» لم يخرج عن حدود بلاد العراق القديم، أو القسم الجنوبي من وادي الرافدين بالتحديد، وهو القسم الذي كانت «أور» مدينته الرائدة، والمواضع التي ذكرها «السوس، الأهواز، السواد، كوثا، الوركاء، كسكر» إنما تقع حول «أور» القديمة، لكنه يشير إلى موطن آخر، هو لوجه الحق ملحوظة مهمة، سنجد أنها ذات قيمة لا تنكر في حينه، فيقول: «وقال بعضهم: كان مولده بحران»، ثم يستدرك «لكن أبوه نقله إلى أرض بابل.»
هذا عما جاء عند «الثعلبي»، أما زعيم طبقة كتاب السير والأخبار «ابن كثير»، فإنه يحسم المسألة بقوله: «إن أرضه التي ولد فيها هي أرض الكلدايين، يعنون أرض بابل، وهذا هو الصحيح المشهور عند أهل السير والتواريخ والأخبار، فقد انطلق تارخ (تارح في التوراة، ولنلحظ أن ابن كثير قد غير هنا من تسارخ إلى تارخ) بابنه إبراهيم وامرأته سارة، وابن أخيه لوط بن هاران، فخرج من أور الكلدانيين إلى أرض الكنعانيين، فنزلوا حاران، فمات تارح له مئتان وخمسون سنة، وهذا يدل على أنه لم يولد بحران، إنما مولده بأرض الكلدانيين.»
15 (ولنلحظ في رواية ابن كثير هنا أن الأب كان هو قائد الرحلة، وهو ما قررته التوراة، وأن الابن خرج في الرحلة مع الأب، ولم يكن على خلاف معه طوال هذه السفرة الطويلة.)
ومرة أخرى، نجد التراثيين المسلمين في شك من الأمر، فيشيرون إلى احتمال «حاران» كموطن أول ومهد ميلاد للنبي إبراهيم عليه السلام، وهي كما قلنا إشارة لها أهميتها التي ستتضح بعد قليل، وحتى تتضح الصورة أمام قارئنا، فإن «أور» تقع - كما أشرنا - في أقصى الطرف الجنوبي للرافدين على حدود جزيرة العرب، بينما تقع «كنعان» إلى الغرب منها مباشرة، يفصلهما الجزء الجنوبي من بادية الشام، فهي منها قاب قوسين أو أدنى، أما «حاران» فتقع في أقصى شمال المنطقة وخارج حدودها، وبالتحديد داخل المنطقة التركية الأرمينية القديمة.
وإن وجود «حاران» هنا يشكل معضلة للباحث في التوراة، فهي تظهر كما لو كانت موطنا للقبيلة الإبراهيمية، أو هي موطنه الأصيل، إضافة إلى «أور» فالتوراة تقول: إنه بعد تحرك الأب «تارح» بعشيرته من «أور» لم يذهب مباشرة إلى كنعان - هدف الرحلة - رغم قربها منه، حيث تقع إلى الغرب مباشرة، إنما أخذ يضرب شمالا مسافات بعيدة، في رحلة كبرى:
فأتوا حاران وأقاموا هناك، ومات تارح في حاران، وقال الرب لإبرام: اذهب من «أرضك وعشيرتك ومن بيت أبيك» إلى الأرض التي أريك، فأجعلك أمة عظيمة، وأباركك وأعظم اسمك، وتكون بركة. فأخذ إبرام ساراي امرأته، ولوطا ابن أخيه، وكل مقتنياتهما التي اقتنيا، والنفوس التي امتلكا في حاران، وخرجوا ليذهبوا إلى أرض كنعان.
تكوين 11: 31؛ 12: 1-5
لاحظ هنا أن التوراة تشير إلى «حاران» بأنها: «أرضك وعشيرتك وبيت أبيك»، ثم هناك إشارات أخرى متعددة تشير إلى مواطن أخرى للنبي إبراهيم، فبعد أن يترك «حاران» ويستوطن «كنعان» غريبا، وينجب ولده الثاني «إسحاق»، تقول التوراة:
وشاخ إبراهيم وتقدم في الأيام، وبارك الرب إبراهيم في كل شيء . وقال إبراهيم لعبده كبير بيته: ... ضع يدك تحت فخذي فأستحلفك بالرب إله السماء وإله الأرض، ألا تأخذ زوجة لابني من بنات الكنعانيين الذين أنا ساكن بينهم، بل إلى «أرضي وعشيرتي» تذهب وتأخذ زوجة لابني إسحاق.
تكوين 24: 1-4
أما أين أرض العشيرة الإبراهيمية، التي اتجه إليها العبد ليأتي بزوجة لإسحاق؟ فهو ما يوضحه استطراد التوراة:
إن العبد ذهب إلى أرام النهرين: إلى مدينة ناحور.
تكوين 24: 10
وناحور هو جد إبراهيم، هو أبو تارح أبو إبراهيم، أي إن أرام النهرين هي موطن الأجداد والعشيرة!
ثم نجد إشارات لمواطن أخرى، فهذا إسحاق يسير على سنة أبيه، مصرا على نقاء الدم العبري، وعدم تدنيسه بدم آخر، لذلك فإن إسحاق:
دعا يعقوب «ابنه» وباركه وأوصاه، وقال له: لا تأخذ زوجة من بنات الكنعانيين، قم واذهب إلى «فدان أرام» ... وخذ لنفسك زوجة من هناك ... فخرج يعقوب ... وذهب إلى «حاران»!
تكوين 27: 1، 2، 7، 10
والملحوظة الجديرة بالبيان هنا، هي أن «أرام النهرين، وفدان أرام، وحاران» كلها مناطق تقع شمالي بلاد الشام، وشمال غربي العراق، فما للتوراة إذن و«أور الكلدانيين» في أقصى الجنوب؟ ويبدو أن هذه الإشكالية قد واجهت مؤرخينا الأوائل، وتركتهم بين الشك واليقين، أو بين «أور» و«حاران» كموطن للقبيلة الإبراهيمية ومهد أول، فقال الثعلبي محاولا الحل: «وقال بعضهم: كان مولده بحران، لكن أبوه نقله إلى بابل». أما ابن كثير فأكد أنه من مواليد «أور» الكلدانية الرافدية، بدليل أن أباه مات في «حاران» بعد الرحيل إليها، ويعقب بالقول: «وهذا يدل على أنه لم يولد بحران، إنما كان مولده بأرض الكلدانيين!» أما المستر «ماير»،
16
فقد بلبلته إشارة التوراة، إلى أن عبد إبراهيم لما ذهب يأتي بزوجة لإسحاق، توجه إلى «أرام النهرين مدينة ناحور»، فهذا الجد البعيد «ناحور» لا يقيم في «أور الكلدانيين»، إنما في «أرام النهرين»، قرب «حاران» في أقصى الشمال، وخلاصا من البلبلة حل «ماير» الإشكال بجرة قلم، وقال:
يظهر أن ناحور كان قد سبق ... إلى حاران، إذ إننا نجد ذريته لاتزال موجودة فيها فيما بعد.
17
ويحيلنا إلى دلائل هذا التواجد بالتوراة في سفر التكوين (11: 29؛ 22: 20-23؛ 24: 10-27، 43).
أما الباحثون المحدثون في علوم التوراة، فيبدو أنهم قد أهملوا مسألة «حاران»، وتوقفوا عند «أور» يبحثون ويفحصون، ومن ثم أعلن الأستاذ «دي فو
DE-VAUX » أن إبراهيم قد هاجر من «أور» ما بين عامي (1900-1850ق.م) مؤسسا إعلانه على زعم أن سبب الهجرة هو النزاع الذي قام في جنوبي الرافدين حينذاك، بين دولتي «إيسن» و«لارسا»
18
مما أدى إلى هجرات متتابعة من المنطقة؛ هربا من أوار الحرب، وقد دعم «دي فو» مذهبه بنقوش تم العثور عليها في المنطقة، منقوشة على ألواح بابلية، جاء بها الكلمتان: «أبام رام» و«آباراما» واحتسبهما صيغتين لاسم النبي «إبراهيم»، أو «إبرام».
19
والغريب في أمر الأستاذ «دي فو» أنه يعلم يقينا الموعد المقبول لزمن النبي إبراهيم، وحدده هو نفسه بين عامي 1900-1850ق.م أو بالتقريب حوالي 1700ق.م عند غالب الباحثين، ولا شك أنه يعلم يقينا أن دولتي إيسن ولارسا غير دولة الكلدانيين، وأنهما قد سبقتا دولة الكلدان بحوالي ألف عام، وهو زمن - في عرف التاريخ - غير هين أو قليل فكيف اتفق له ذلك؟ كيف جاز أن يعثر على «أبام راما» على نقش بابلي، فيعلن فورا: هنا ولد إبراهيم! كما لو كان «إبرام» هو الوحيد بين الساميين الذي انفرد باسم «إبرام»، في منطقة تموج بضجيج الشعوب السامية وتفور!
أما الباحث في التوراة الأستاذ «فيلبي»، فقد وقف بدوره عند «أور» لا يتجاوزها أنملة، لا يرفع عينيه عنها، وانتهى من بحثه إلى قراءة نقوش بابلية، تحكي عن ملك حكم في جنوب الرافدين، قامت ضده حركة انقلابية أقصته عن البلاد، وكان اسمه «يثع إيل
YATHI-IL » وقد استنتج «فيلبي» أن هذا الملك هو النبي إبراهيم، استنادا لترجمة العلامة
DOUGHTY
لاسم «يثع إيل» بمعنى «خليل الله» والصفة «خليل الله» هي صفة إبراهيم في التوراة.
20
ومرة أخرى نجد في حديث الأستاذ «فيلبي» غرابة حديث الأستاذ «دي فو»، فلا شك أنه يعلم أن الاسم «يثع إيل» كان اسما متواترا بين الساميين عموما وبين عرب الجنوب خصوصا. وقد بحثنا فعثرنا على أسماء لعدد من الملوك في قوائم العربية الجنوبية بهذا الاسم، فهناك ثلاثة ملوك حكموا بهذا الاسم في الجيل الأول من مكاربة سبأ،
21
واثنان آخران في باقي الأجيال الخمسة من ملوك سبأ، وغيرهم كثير، فهل كانوا جميعا خلانا للإله وأنبياء له؟ وإذا كانوا جميعا كذلك فمن منهم كان هو النبي إبراهيم على وجه القصد والتحديد؟ حقيقة إن سند الأستاذ «فيلبي» هنا سند غير تام الإقناع بدوره. وكان الاسم «يثع» منتشرا في بلاد العرب الجنوبية، وكان أحد أسماء الإله القمر، كما كان ينطق أيضا: «يشع»، «يشوع»، وفي هذا الحال كان يعني المخلص. وقد تخلف في اسم «يشوع بن نون» وبتبادل حرف «ش» مع حرف «س» ينطق أيضا «يسوع»، الذي تخلف في اسم المسيح، وبالقلب تنطق «يسوع» نطقا صحيحا تماما «عيسى».
22
وهكذا لا نرى المسألة قد حلها «الثعلبي» أو «ابن كثير» رغم اجتهادهما، ورؤيتهما الاحتمالية لموطن إبراهيم عليه السلام بين «حاران» وبين «أور»، ولا حلها القس «ماير» بتخلصه السريع الفكه، ولا حلها الدارسون المحدثون في علوم التوراة، وضربنا منهم مثلا بالأستاذين «دي فو» و«فيلبي». وعليه فتبقى الإشكالية تطلب حلا، ممثله في التساؤل: هل كان موطن النبي إبراهيم عليه السلام هو: «أور الكلدانيين»، أم «حاران»، أم «أرام النهرين» أم «فدان أرام»؟ وهل كان في أقصى جنوب العراق على الحدود العربية؟ أم في أقصى الشمال داخل الحدود الأرمينية؟
المبالغات والتلفيقات
تأتينا في القرآن الكريم مزيد من الأخبار عن النبي إبراهيم عليه السلام، لم تعرفها التوراة بالمرة، لعل أهمها أن إبراهيم عليه السلام كان موحدا، بينما كان أبوه عابدا للأوثان صانعا لها. هذا إضافة إلى قصة تكسير إبراهيم عليه السلام لأصنام قومه، وما ترتب على ذلك من حدث إلقائه في النار، ونجاته منها بأمر الله بلطف منه. وما دار بينه وبين «نمروذ» من جدل حول صحيح العقيدة مع شروح أخرى كثيرة، وإضافات أكثر جاءت بكتب التراث الإسلامية، بعضها ترديد للقصص القرآني، وبعضها ما أنزل الله به من سلطان، ويعد من قبيل الشغف بالمبالغات. وأكثرها لم يرد له في التوراة ذكر، وبعضها الآخر نوع من الإسرائيليات الواضحة التي أخذها الإخباريون المسلمون دون تحقيق أو تدقيق، لذلك رأينا التوقف هنا للتعرف على الصورة التي خططها هؤلاء للنبي إبراهيم عليه السلام، وهي تتعلق في رأي أصحابها، بالفترة التي قضاها الخليل في موطنه الأول قبل هجرته إلى أرض كنعان.
تقول هذه الروايات: إنه ما إن استقرت البذرة الإبراهيمية المباركة في بطن أم إبراهيم عليه السلام، حتى لاحظ القوم أن الأصنام قد نكست رءوسها (؟!)، وظهر وقتها نجم في السماء له طرفان
1
وأن الدارس للأساطير وتاريخ الأديان يمكنه أن يلحظ، دون جهد، أن مثل هذه الإضافات المبالغة، تلحق بقصص الأبطال الأسطوريين لدى الشعوب القديمة وبشكل متواتر، حيث كان لابد أن تسبق ميلاد البطل إشارات ونبوءات، من نوع الخوارق الطبيعية للإعلام بمقدمه، فمثلا إله فارس القديم «ميثهرا» صحب مولده نجمة بذيل عظيم، كذلك «نيرون الروماني»، كذلك «زرادشت» المزعوم أنه نبي فارس، كذلك قاد شعاع هذه النجمة المجوس إلى حيث ولد «يسوع المسيح» حسب رواية الأناجيل ... إلخ.
وعندما ولد النبي إبراهيم عليه السلام كان يحكم بلاد الرافدين الطاغية «نمروذ الجبار بن كنعان» الذي ادعى الألوهية. هذا ما ترويه كتبنا التراثية، وقد بحثنا عن اسم «نمروذ» في قوائم ملوك العراق القديم، فلم نظفر بنتيجة وطاشت جهودنا، غير أننا لحظنا وجود منطقة آثارية يطلق عليها هذا الاسم «نمروذ»، ومن الواضح أن هذا الاسم قد أطلق في بداية العصور الإسلامية تأثرا بهذه الروايات، ومن المعلوم أن هناك أسماء كثيرة وغفيرة قد أطلقت على مواضع مختلفة في كثير من البلدان نتيجة لمثل هذه الروايات، وفقدت أسماءها القديمة، أو أصبحت الأسماء القديمة علامات تاريخية في كتب المؤرخين والآثاريين المتخصصين فقط، وكثير من مواطن فلسطين والشام والعراق قد أعيدت صياغة أسماء المواضع فيها أكثر من مرة، وكان للتسميات التوراتية بالتحديد نصيب الأسد في هذه المعمعة التلفيقة.
وتستمر الروايات فتقول: إن «نمروذ» قد غالى في طغيانه، وأخذ يجبر الناس على عبادته. وذات يوم ذهب إليه كبير كهانه وعرافيه؛ ليعلمه بأنه قد آن أوان ميلاد شخص جليل، وأنه على يدي هذا الشخص سينتهي شأن النمروذ، فما كان من هذا الملك الطاغي إلا أن أمر بتقتيل جميع الذكور الذين ولدوا في هذا العام، ولنلحظ مرة أخرى أن البطل في القصص القديم عادة ما كان يتعرض لمحنة القتل والموت، وحتى يكون بطلا فإنه لابد أن يجوز المحنة ويقضي على الطاغية، الذي يمثل دور الشر في الأسطورة، إضافة إلى العنصر الدرامي الثالث وهو النبوءة، التي عادة ما يمثلها كاهن شرير لديه قدرات خرافية على رأسها معرفة الغيب، ومن ثم يحاول الملك الشرير أن يبطل مفعول النبوءة السحري بالتحايل على القدر، أو محاولة التغلب عليه، لكن القدر بالمرصاد، ولابد أن ينتصر الخير على الشر، فينجو الطفل من المذبحة لتكتمل فصول الملحمة القدرية. والدارس للأساطير القديمة يلحظ بوضوح سيادة فكرة القدر في القصص الميثوبي، فهذا «سرجون الأول» ملك أكاد يتعرض للمحنة، فتلقي به أمه في صندوق من القش في مياه النهر.
2
وهذا «تموز» إله الخصب البابلي الأصل يتعرض لمحنة الموت لكنه ينتصر عليها،
3
وهذا «أوديب» اليوناني يتعرض لذات الأمر ولذات النبوءة في فصول درامية، تكشف عن فشل أية محاولة للتملص من نبوءة قتل الملك «لايوس» على يديه
4
وهذا النبي «موسى» يلقى في الماء لكنه يقضي في النهاية على الطاغية، وتتحقق النبوءة القدرية. وهذا «يسوع» تهرب به أمه إلى مصر؛ حتى لا يقتل في محنة ذبح الأطفال التي أمر بها الطاغية «هيرود»،
5
وهذا «أدونيس» الفينيقي يجوز ذات التجربة،
6
وهذا «أتيس» الفريجي يتغلب أيضا على تجربة الموت ...
7
إلخ. ومن الجدير بالذكر أن القرآن الكريم لم يورد مثل هذا الحدث في قصة النبي إبراهيم، إضافة إلى أن البحوث التاريخية في العراق القديم لم تثبت أن ملوك العراق لجئوا إلى تأليه أنفسهم إلا في حالات نادرة، كما في حالة الملك «جوديا» في العصر السومري الثاني، وهو عصر غير عصر الكلدانيين المزعوم - توراتيا - عصرا للنبي إبراهيم، وهو أمر يضاف لتساؤلنا حول مصداقية «أور الكلدانيين» كمنطلق للرحلة الإبراهيمية، وموطن أول له!
وتتابع روايات التراث الإسلامية، فتقول: إن النبوءة كانت محققة في حمل أم النبي إبراهيم عليه السلام به، ولما أتاها المخاض توجهت إلى مغارة في الجبل حيث وضعت وليدها هناك وتركته تحت رحمة الأقدار وعادت إلى قريتها، ولكن الحنين اشتد بها إلى وليدها ولم تنقض من الأيام ثلاثة، وعادت تهرع إلى باب المغارة حيث تركته، وهناك «وجدت الوحوش والطيور حاشدة عند باب المغارة، فأشفقت على إبراهيم، وخشيت أن يكون قد أصابه سوء، أو يكون قد هلك، فلما دخلت عليه ألفته سليما آمنا يجلس على فراش من سندس، مدهونا مكحولا ... وقد لاحظت أنه يمص أصابعه، وأن لبنا يحرج من أصبع، وعسلا يخرج من الآخر، وماء يخرج من الثالث.»
8
وهكذا حاولت أمه أن تنقذه من الموت على يد «نمروذ»، لتتركه ثلاثة أيام كاملة في مغارة بالجبل معرضا لموت محقق، لكن حتى تبرز المبالغات دور القدر ورعايته للبطل، تجده أمه محاطا بالوحوش ترعاه، ويخرج له الغذاء من أصابعه، إضافة إلى الرعاية التجميلية كالدهن والكحل. وهو أيضا ما لم يرد به نص قرآني أو توراتي، ولا يمكن تفسيره إلا في ضوء خصائص الأسطورة والقصص الشعبي، (وللتذكرة فقد ورد ذلك النص في كتاب قدم له الشيخ مخلوف مفتي الديار المصرية الأسبق!) ويستكمل النيسابوري القصة فيقول: «وكان اليوم يمر على إبراهيم عليه السلام كالشهر، والشهر كالسنة، فلم يمكث إبراهيم عليه السلام في المغارة إلا خمسة عشر يوما، حتى جاء إلى أبيه آزر فأخبره أنه ابنه.»
9
ولم يمض إبراهيم عليه السلام إلا قليلا مترددا بين عبادات قومه، الثالوث الكوكبي المقدس لدى الشعوب القديمة (القمر الأب، والشمس الأم، وكوكب الزهرة الابن) حتى انتهى إلى الوحدانية، ومن ثم بدأ يسخر من قومه وأربابهم، التي عدها تماثيل لا تنفع ولا تضر، ثم انتهز يوم خروج قومه من المدينة في عيد لهم، وادعى السقم كي يبقى في المدينة لغرض أضمره، وما إن خرج الناس حتى توجه من فوره - والمدينة خالية - إلى ساحة الأصنام، يحمل فأسا، فحطمها وجعلها جذاذا إلا كبيرا لهم علق الفأس برقبته لتناط به المسئولية. وتقول الآيات:
فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون (الأنبياء: 58)، وعندما عاد القوم، وأصابهم مصاب أربابهم بالهلع والغضب، توجهت أصابع الاتهام فورا إلى إبراهيم؛ لأنه هو الذي كان يعيبها ويستصغر شأنها، فأجابهم بسخرية: إن الذي كسرها هو كبير الآلهة، وفي الحديث عن محمد
صلى الله عليه وسلم
قوله الذي يورده الثعلبي مدعما: «إن إبراهيم عليه السلام، لم يكذب إلا ثلاث كذبات، كلها في الله تعالي؛ قوله: إني سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، «وقوله: للملك الذي عرض لسارة: إنها أختي».»
10
وهنا ثارت عوارم القوم، واتخذوا قرارا بحرق الساخر المتحدي
قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين * قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم * وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين (الأنبياء: 68-70)، ويشرح الثعلبي بعض دقائق الموقف حينذاك بقوله: «فلما أرادوا إلقاءه في النار، أتاه ملك المياه، فقال: إن أردت إخماد النار فإن خزائن المياه والأمطار بيدي، وأتاه خازن الريح فقال: إن شئت طيرت النار في الهواء، فقال إبراهيم عليه السلام: لا حاجة لي بكم.»
11
وقال «الضحاك»: «يروى أن جبريل كان معه يمسح العرق عن وجهه، لم يصبه منها (أي: من النار) شيء غيره، وقال السدي: كان معه أيضا ملك الظل»،
12
وفي رواية مسلم (أخرجه النسائي وابن ماجه، ورواه أحمد)، أن إبراهيم لما ألقي به في النار، جعلت كل الدواب تطفئ النار عنه إلا الوزغ، فإنه كان ينفخها عليه؛ لذلك أمر النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
بقتل الأوزاغ!
13
وفي رواية إضافية: أن إبراهيم عليه السلام لما خرج من النار سليما معافى، حدث أن نمروذ جلس على عرشه، فإذا العرش يهتز من تحته اهتزازا عنيفا، وإذا صوت يرتفع قائلا: يا ويح الكافر بإله إبراهيم، يا ويح الكافر بإله إبراهيم، وأن الطيور والوحوش كانت تهتف: يا ويح الكافر بإله إبراهيم،
14
ورغم هذه البينة الخارقة، لم يؤمن الكافر بإله إبراهيم، ولم يقنعه منطق الطير والوحش! إنما طغى وتجبر، ودخل مع إبراهيم عليه السلام في مناظرة جدلية حول العقيدة الجديدة.
ويحكي القرآن الكريم هذه المناظرة في قوله تعالي:
ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين (البقرة: 258). ويعقب «السدي» بالقول: «إن هذه المناظرة كانت بين النمروذ وإبراهيم يوم خرج من النار»،
15
وهنا يضيف ابن كثير: إن الله اختتم هذه المجادلة التي لا طائل من ورائها بعد أن ظل نمروذ على جحوده، بأن «أرسل ... عليهم ذبابا من البعوض، بحيث لم يروا عين الشمس، وسلطها الله عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم وتركتهم عظاما بالية، ودخلت واحدة منها في منخر الملك، فمكثت في منخره أربعمائة سنة (؟!) عذبه الله بها، فكان رأسه يضرب بالمراذب هذه المدة كلها، حتى أهلكه الله عز وجل.»
16
وإذا لم يعجب العقل لأربعمائة سنة عمر الإنسان، وعذابا، أفلا يعجب من بعوضة تعيش أربعة قرون، تستمتع بمشهيات المنخار النمروذي؟
أما ما تلا ذلك عند الإخباريين فهو خروج إبراهيم
صلى الله عليه وسلم
بقومه من «أور الكلدانيين» إلى كنعان، بعد أن أخربها البعوض على أهلها، لكن العقل يظل واقفا يتساءل ولا يتزحزح: لماذا تترك العائلة الإبراهيمية «أور» ذلك الموطن عريق الحضارة؟ والعقل يقف كذلك بالطبع؛ لأنه لم يقنع بهلاك «أور» بالذباب والبعوض، لأن «أور» ظلت قائمة بعد عهد النبي إبراهيم بما يزيد على اثني عشر قرنا آخر، وللعقل في ذلك حق مشروع وشرعي حيث لم يرد لهذه التفاصيل إشارات في القران الكريم، إضافة إلى الإشكال الحقيقي والأساسي المتمثل في تخصيص «أور الكلدانيين» موطنا للعشيرة الإبراهيمية، فالدولة الكلدانية قامت بين عامي 625-538ق.م، بينما النبي إبراهيم عليه السلام يعود إلى زمن أقدم من هذا الزمان، فقد عاش فيما يذهب الباحثون حوالي 1700ق.م
17
فيفصل بين زمنه وزمن الكلدانيين ألف عام تقريبا، وليس بين الملوك الكلدانيين نمارذة، ولا في «أور» نمارذة، ولا في تاريخ الملوك الرافدين نمروذ واحد، وهو مما يدعو إلى التشكك في المصدر الأول ومصداقيته، أقصد التوراة ، وكل من تبع هذا المصدر في دربه وزعمه أن موطن النبي إبراهيم عليه السلام هو «أور الكلدانيين» حتى لو كان من سلك هذا الدرب أعلام مثل المستر «فيلبي»، والمسيو «دي فو».
لكن قبل طرح رؤيتنا في حل مشكلة الموطن الأصلي للعشيرة الإبراهيمية، نجدنا وقد اضطرنا للوقوف مع «أور» أمور تنتج لزوما وتتأسس على ما ورد في كتب الأخبار الإسلامية، وهي وإن كانت خارج دائرة اهتمام هذا البحث، إلا أن لها أهميتها العامة، ولا يصح التغافل عنها عندما تفرض نفسها.
وأول ما يلفت النظر في روايات الإخباريين، هو اسم الطاغية الذي ادعى الألوهية، أقصد «نمروذ بن كنعان»، وقد سبق وأشرنا إلى أنه لم يرد في قوائم ملوك العراق القديم، أما الأهم فهو كونه «ابن كنعان». والإخباريون المسلمون هنا أكثر مجاملة للعبريين من التوراة، التي قسمت شعوب الأرض عبر نسل النبي نوح بعد الطوفان، فقالت: إنه أنجب «سام» الذي جاء من نسله الشعب العبري، و«حام» وأبناء حام هم: «كوش» الذي أنسل الأحباش وسمر البشرة عموما، و«مصرايم» الذي أنجب المصريين، و«كنعان» الذي أنجب الكنعانيين، ثم تقول: «وكوش ولد نمروذ الذي ابتدأ يكون جبارا في الأرض، وكان ابتداء مملكته بابل وأورك وأكد وكلنة في أرض شنعار» تكوين 10: 6-10.
والمعلوم أن التوراة تصب لعنتها فوق رءوس أبناء حام عموما، من مصريين وكنعانيين (فلسطينيين)، لكنها عادة تخص «كنعان» باللعنة باعتبار الكنعانيين هم سكان فلسطين الأصليون، والمطلوب إبادتهم لصالح النسل العبراني من أبناء سام. ومن هنا نعرف سر البركات التي تواتر استنزالها بالتوراة على رءوس النسل السامي، لكنها هنا تقول: إن نمروذ الجبار هو من أبناء كوش، ويبدو أن الإخباريين المسلمين لكثرة الاعتياد على سب كنعان، رأوا من جانبهم أن يكون نمروذ الكافر الجبار ابنا لكنعان بالمرة، طالما قد تم اختياره كمصب لكل اللعنات، دون إدراك حقيقي لما يترتب على ذلك من فهم في ذهن المسلم العربي!
وهكذا يكون عدو النبي إبراهيم اللدود هو ابن كنعان، وكفى بذلك مبررا للاستيلاء على أرض كنعان من قبل العبريين، ولا ملامة. بل إنهم بذلك ضامنون لتعاطف كل المؤمنين مع النبي إبراهيم، ضد مدعي الألوهية ابن كنعان الكافر ابن الكافر! أو التعاطف مع النسل العبراني ضد أهل البلاد، والعجيب أن يكون ابن كنعان ملكا في العراق، ويهجر النبي بلاده ليلجأ إلى بلاد أبيه كنعان في فلسطين!
أما أصل اللعنة وسرها التوراتي، فيرد في قصتها التي تقول: إنه بعد هبوط النبي نوح وأبنائه من الفلك.
ابتدأ نوح يكون فلاحا، وغرس كرما وشرب من الخمر وتعرى داخل خبائه فأبصر حام عورة أبيه، وأخبر أخويه خارجا، فأخذ سام ويافت الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء، فلم يبصرا عورة أبيهما، فلما استيقظ نوح من خمره، علم ما فعل به ابنه الصغير، فقال: ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لإخوته، وقال: مبارك الرب إله سام وليكن كنعان عبدا لهم.
تكوين 9: 20-26
وسار الإخباريون المسلمون وراء التوراة هنا أيضا (عالجنا ذلك بالتفصيل في بحث سبق نشره)،
18
واستنزلوا اللعنات صبا على رأس كنعان بن حام، رغم أن الآثم في القصة (إذا كان فيها إثم) هو حام الأب، وليس كنعان الابن!
أما الأمر الثاني الذي يتأسس على ما أوردته التوراة، وأخذ به الإخباريون المسلمون، فهو ما نضرب له مثلين: الأول من أصحاب الديانة المسيحية التي تأخذ بالتوراة الحالية كمقدس مسلم بصدقه، وهو القس المبشر العالمي «ماير».
والثاني من الباحثين المسلمين المحدثين «د. صابر طعيمة»، حيث كان إبراز المثالية النبوية ممثلة في النبي إبراهيم، تعني في المقابل الحط من شأن أهل العراق القديم بحسبانهم من أهل «أور الكلدانيين».
يقول «ماير»: «كان أولاد حام قد أغرقوا في العبادة الوثنية ... وسرعان ما اقترنت عبادتهم بمظاهر الدعارة والفجور، وفي وسط بني حام قامت عشيرته (يقصد عشيرة النبي إبراهيم) من بني سام، واستقرت في المراعي الغنية خارج مدينة أور تحت قيادة رئيسها تارح، ولأن أفراد هذه العشيرة كانوا من الرعاة، فلم تأخذ ألبابهم تلك المدينة ذات الأسوار العالية، بكل ما فيها من مظاهر وأمجاد المدنية ... «إن حياتهم الدينية كانت أنقى من حياة أولئك القوم» الذين سكنوا في وسطهم. على أنه للأسف الشديد، سرعان ما دبت «جرثومة الفساد» وسط هذه العشيرة بسبب مجاورتها لبني حام، يا لها من مسئولية خطيرة على أولاد الله الأتقياء، إذا ارتضوا أن يعيشوا في «الأوساط النجسة الشريرة» ...
19
إلخ.»
هذا كل ما رآه «ماير» في حضارة الرافدين القديم: عبادات وثنية، جرثومة فساد، أوساط نجسة شريرة ... إلخ، وهي بالطبع رؤية من خلال العدسات التوراتية.
فماذا يقول «د. طعيمة»؟ «حوالي عام 1800ق.م كانت مجموعة من الرعاة والمنتسبة تاريخيا لبعض هذه الأفواج، التي هاجرت من الصحراء إلى منطقة الهلال الخصيب، قد استطاعت أن تنتشر في العراق وتستقر لتؤلف دولة يذكرها التاريخ باسم الكلدانيين، وهناك من وسط الطبقات الدنيا، في قلب «هذا الشعب الوثني المتخلف» نشأ النبي إبراهيم عليه السلام.»
20
وهنا أيضا، نجد «د. طعيمة» لا يذهب أبعد من «أور» ودولة الكلدانيين رغم المفارقة الزمنية، ثم لا يرى في حضارة العراق وشعبها (واصطلاح العراقة لغة مأخوذ من عراق) سوى أنه شعب وثني ومتخلف! لاحظ مرة أخرى (ومتخلف)! وللتوراة هنا - كما هو واضح - دورها الخطير وأثرها العجيب، والتي لم يترك كاتبوها فرصة للطعن فيمن اصطلحوا على تسميتهم «بني حام» إلا وانتهزوها، بل قد تجد اللعنات أحيانا بدون مناسبة وفي غير سياقها، وهو أمر لا يحتاج جهدا في كشفه، فإضافة إلى أن أرض كنعان كانت الغرض والمشتهى، فإن العراق ومصر قد جعلوا من الدويلة الإسرائيلية زمنا طويلا كرة يتقاذفانها، ولم ينس هؤلاء أبدا أن الفرعون «مرنبتاح» ومن بعده الفرعون «شيشنق» قد سحقا هذه الدولة، ثم جاء العراقيون القدامى الآشوريون أولا، ثم «نبوخذ نصر» الكلداني، ليجهزوا على ما تبقى منها، ولم يكن بيدهم سوى صب اللعنات على رءوس العراقيين والمصريين.
أما اتفاق «ماير» و«طعيمة» على وثنية الشعب العراقي آنذاك وهو اتفاق مؤمنين، فربما كان مقبولا للتعددية في العبادة، لكن ما لا يجب إغفاله أن الشعب العبري نفسه كان معددا، وعبد كثيرا من الآلهة في آن واحد. ولعل أغرب الحقائق في بابه أن الإله الذي عرف في التوراة خلال الحقبة الإبراهيمية، وطوال سفر التكوين، والمعروف بالاسم «إيل» أو «إل» كان إلها معبودا لدى جميع الساميين، وفي كنعان، وبخاصة في العراق القديم! كما كان الاسم «إيل» يستخدم كعلم عام دال على أي إله من آلهة الرافدين القدامى، وفي التوراة نجد الاصطلاح الإلهي في سفر التكوين هو «إللوهيم» وهو الجمع العبري للمفرد «إل»، ويعني ببساطة «الآلهة»!
«أور» المشكلة؟
الحل!
ومرة أخرى نجمل المشكلة في موجز يحددها ويوضحها:
التوراة تقول:
إن الركب الإبراهيمي المهاجر قد خرج من «أور الكلدانيين» على الشاطئ الجنوبي لنهر الفرات، يقصد أرض كنعان الفلسطينية، مما يشير إلى أن الجزء الجنوبي من العراق القديم كان هو موطن النبي إبراهيم.
والمفروض أن كنعان هي فلسطين الحالية، وهي بذلك تقع إلى الغرب من «أور»، تفصلهما مسافة من بادية الشام الأردنية.
لكن الركب - دونما سبب واضح - يتحول شمالا، ويستمر يضرب مسافات وبلدانا ومواطن، ويتجاوزها جميعا دون توقف، حتى يصل إلى ما تسميه التوراة «حاران»، وقد حدد الباحثون في التوراة موضع «حاران» المقصودة في أقصى الشمال، داخل الحدود الأرمينية التركية القديمة. وهنا لا مندوحة عن التساؤل: لماذا التحول من الطريق المباشر والقصير إلى كنعان، وتجشم مصاعب مضاعفة عدة أضعاف للوصول إليها عن طريق حاران؟ ناهيك عن أن هذه الرحلة التي ما كانت تستغرق على ظهور الحيوانات أكثر من عشرين يوما مع التلكؤ الشديد، قد استغرقت عن طريق حاران خمسة عشر عاما، أو أن هذه المدة - بالتدقيق التوراتي - هي الزمن الذي انصرم، ما بين خروج الركب من «أور» إلى أن وصل «كنعان»!
والأهم أن «حاران» تبدو في رواية التوراة، كما لو كانت محطة ترانزيت معروفة، على الطريق من «أور» و«كنعان»، بينما الحقيقة أنها تقع إلى الشمال، بعيدا عن الطريق بمسافات شاسعة.
ثم ماذا تقصد التوراة بهذا الإرباك؟ الذي تضاعفه بالإشارة إلى مواطن أخرى للعشيرة الإبراهيمية، فتقول: إن إبراهيم بعد استقراره في كنعان طلب من رئيس عبيده أن يأتيه بزوجة لولده إسحاق، من بين أهل موطنه وعشيرته، فما كان من العبد إلا أن ذهب من فوره إلى «مدينة ناحور» (تكوين 24)، وناحور جد إبراهيم، ونفاجأ أن «مدينة ناحور» لا هي «أور»، ولا هي «حاران»، إنما هي «أرام النهرين»! وإحباطا للباحث، فإن التوراة تقص علينا رواية أخرى، فقد سار إسحاق على الوفاء الإبراهيمي للأهل والعشيرة، إضافة للحفاظ على نقاء الدم العبري، لذلك أمر ابنه يعقوب بمغادرة كنعان، ليأتي لنفسه بزوجة من بلاد الأجداد، أو كما تقول التوراة: «فدعا إسحاق يعقوب وباركه وأوصاه، وقال له: لا تأخذ زوجة من بنات الكنعانيين قم واذهب إلى «فدان أرام»، وخذ لنفسك زوجة من هناك، وإن يعقوب سمع لكلام أبيه وأمه، وذهب إلى فدان أرام، فخرج يعقوب من بئر سبع وذهب إلى «حاران» (تكوين 27: 1، 2، 7، 10). فهل ثمة إرباك أكثر من ذلك؟
إسحاق يأمر يعقوب بالذهاب إلى موطن الأجداد للحصول على زوجة، والمفروض أن هذا الموطن هو «أور الكلدانيين»، لكن هذا الموطن يصبح في حديث إسحاق «فدان أرام»، ويسمع الابن المطيع نصيحة الوالدين طلبا للرضى، وإخلاصا للعرقية، وحفاظا على نقاء الدم العبري، فتؤكد التوراة أنه «ذهب إلى فدان أرام»، لكن وبذات الإصحاح تؤكد أيضا أنه «خرج ... من بئر سبع وذهب إلى حاران»، هذا إضافة للموطن الذي ذهب إليه عبد إبراهيم من قبل للحصول على زوجة لإسحاق، وهو «أرام النهرين بلد الجد ناحور» ونجد أنفسنا مع التوراة في متاهة من الدروب، كل منها يؤدي إلى موطن محتمل للقبيلة الإبراهيمية: «أور الكلدانيين» و«حاران» و«أرام النهرين» و«فدان أرام».
والغريب في أمر التوراة أنها بعد أن ذكرت «أور الكلدانيين» كمنطلق للهجرة، «نسيتها تماما»، بينما استمرت تضرب على تأكيد الأصل الحاراني مرة، والآرامي مرة أخرى. أما الجملة التي لم تمل تأكيدها فهي: أن إبراهيم كان «آراميا تائها» (التثنية 26: 5).
وقد ظلت مسألة «حاراني» و«أرامي» تؤرقني فترة من الوقت، اضطررت أثناءها إلى التوقف عن الكتابة في هذا البحث، وانهمكت في استكمال خطة بحث آخر حول رحلة الخروج الموسوية من مصر ، وكانت أهم عقبات البحث في الخروج تحديد كم هائل من مسميات المواضع والقبائل والشعوب بشكل دقيق، ومن هذه الشعوب الشعب الذي ذكرته التوراة باسم «الحيثيين»، وذهبت وراء المصادر أجمع المادة العلمية اللازمة عن الحيثيين، حيث اكتشفت حل مسألة «حاراني»، «أرامي» وعدت مع الكشف لاستكمال بحثنا هذا.
والحيثيون شعب قديم عاش في أواسط بلاد الترك القديمة، وقد تمكن من إقامة دولة كبيرة شمالي بلاد الشام، بعد أن تمكن من القضاء على دولة كانت قائمة في المنطقة كانت تعرف باسم دولة «الحوريين» وحمل شعبها اسم الشعب الحوري، أما الأرض نفسها التي قامت فيها الدولة الحيثية الطالعة، فكانت تعرف باسم بلاد الحور
1
ومن هنا أدركت بداهة الأمر وبساطة الحل.
فإذا كانت الدويلات الآرامية قد تناثرت بطول الحزام الشمالي الذي عرف ببلاد الحور، فإن ذلك يفسر لنا إصرار التوراة على القول بالأصل الحوري والآرامي معا للقبيلة الإبراهيمية، وعليه لا أعتقد أني أجافي الصواب إذا افترضت أن حاران التوراتية، لم يقصد بها مدينة محددة بعينها (تلك التي تقع شمالي بلاد الشام داخل الحدود الأرمينية، التركية القديمة)، قدر ما قصد بها في التوراة منطقة واسعة شاسعة، تضم مجموعة الدويلات الآرامية (أرام صوبة، آرام النهرين، أرام معكة، فدان آرام، آرام بيت رحوب ... إلخ). تلك الدويلات التي ضمتها بلاد الحور، أو الحوريون.
وإن هذا الفرض يفسر لنا بوضوح كاشف ومضيء قول التوراة: إن يعقوب خرج يقصد «فدان آرام» ليأتي لنفسه بزوجة، فذهب إلى «حاران»، ولا يبقى هناك تضارب، فقد ذهب يعقوب إلى مدينة «فدان آرام» الواقعة في بلاد «حاران» أو بلاد «الحور». كما يفسر لنا هذا الفرض بوضوح لا يقبل جدلا قول التوراة: إن أرام النهرين «هي مدينة ناحور» (تكوين 24: 10)، وناحور جد إبراهيم عليه السلام، ولا يفوت المهتم بالألسنية والحفر اللغوي، علامة مهمة في الاسم «ناحور» تؤيد فرضنا وتدعمه، فناحور صاحب مدينة آرام النهرين، أو القاطن بها، ينطق أيضا «ناحار»، مثل «هارون»، و«هاران»، وبالقلب المعروف في اللسان السامي، يقلب إلى «ناحار» إلى «حاران»!
وهكذا فقد تصورنا بهذا الفرض أننا قد وجدنا حل التضارب بين «أرامي »، «حاراني» كأصل للعشيرة الإبراهيمية، لكن يبقى الإشكال قائما ببقاء مشكلة «أور الكلدانيين» التي سببت لنا إرباكا شديدا، وظلت غير متفقة مع باقي سياق الرواية التوراتية من وجهتين:
الوجهة الأولى:
أنها تختلف مكانيا مع حاران أو بلاد الحور، حيث تقع «أور» في أقصى الجنوب، وتقع بلاد الحور في أقصى الشمال.
الوجهة الثانية:
أنها تختلف زمانيا، حيث لم تقم دولة الكلدان إلا بعد أن انقضى زمان النبي إبراهيم عليه السلام، بحوالي ألف عام أو يزيد.
ومن المعلوم للباحثين أن اللفظة «أور
UR » تدل على معنى المدينة بوجه عام، فإضافة إلى «أور» الرافدية التي نسبتها التوراة للكلدانيين، واكتشف تاريخها العريق حديثا، في أطلال مغير قرب مصب الفرات في الخليج العربي، هناك «أور» أخرى متعددة، فلدينا «أورشليم» أو مدينة السلام، المدينة المقدسة عاصمة دولة يهوذا، و«أوركومينوس» باليونان، و«أوروك» بالعراق أيضا، و«أور-آرتو» على جبال أرمينيا قرب بحيرة «فان» والمعروفة باسم «أرارات» وغيرها كثير.
والتوراة تقول: إن كارثة الطوفان قد أدت إلى انتقال قوم من موضع الكارثة بسفينة كبيرة، إلى جبال «آرارات» حيث ألقت السفينة مراسيها، ومما يؤكد أن «آرارات» المذكورة في التوراة تقع في أرمينيا، ما ذكره المؤرخ «هروشيوش» أو «أورسيوس» المولود حوالي 375م، وسجل فيه ذكريات الأمم الخوالي، وأكد أن السفينة النوحية قد ألقت مراسيها على «الجبل الذي بأرمانية».
2
وفي الوقت ذاته تؤكد التوراة: أن إبراهيم من نسل «أرفكشد بن سام ابن نوح»، مما أثار لدينا التساؤل: هل قصدت التوراة ب «أور» مدينة أخرى تحمل ذات الاسم، ربما كانت تقع في منطقة الدويلات الآرامية «بلاد الحور»، قرب «أور» التي ألقت السفينة النوحية مراسيها قربها، أو هي «أور-آرتو» ذاتها؟
ومن هنا كان شكنا في الترجمة العربية للتوراة العبرية، وعدنا نبحث مدى مصداقية هذه الترجمة، وتحول الشك يقينا، عندما تأكد أنه ليس في الأصل العبري أية «أور كلدانيين»، إنما كانت هناك «أور كسديم»
3
وهي ما لا يمكن ترجمتها بحال إلى «أور الكلدانيين»، ويجب أن تظل كما هي «أوركسديم» ونبحث عن معناها الصادق، وهو ما يلتقي تماما مع فرضنا الذي ذهبنا إليه، وإلى قارئي عناصر هذا اللقاء الحميم، وربما المذهل!
أولا:
لنقف قليلا مع الاسم «أرفكشد بن سام بن نوح» جد النبي إبراهيم، الذي وضع بين يدي وصلات الأمر المبعثر، فإذا كانت الفاء تختلط بالباء، وتتبادل معها في اللسان القديم «وحتى اليوم»، وإذا كان حرف «ش» يتبادل مع حرف «س» في اللغات السامية وكثير من اللغات الأخرى، فإن الاسم «أرفكشد» ينطق أيضا - نطقا صحيحا تماما - «أربكسد».
والمنطقة الواقعة جغرافيا بين جبال أرارات الأرمينية، وبين بلاد الحور كانت تعرف باسم «آرابخيتيس»، وتعرف حاليا باسم «البك»، وبعلمنا أن لسان هذه المنطقة هندوأوروبي، فإنه بحذف التصريف الاسمي «الياء والسين الأخيرة» في كلمة «آرابخيتيس» تصبح «أرابخسد»، وبتبادل حرف «ك» مع حرف «خ» في اللسانين السامي والهندوأوروبي، فإنه يسوغ لنا القول دون تردد: إن «أرابخسد» هي ذات التسمية «أربكسد» وعينها.
ثانيا:
مع ما نعرفه عن الخاصية التوراتية، في تسمية البلدان بأسماء الأبطال، فإن اسم المنطقة «أربكسد» يلتقي تماما مع بطل من أبطال التوراة، هو «أربكسد» أو «أرفخشد» بن سام بن نوح، جد النبي إبراهيم،
4
ولا نعتقد أننا مخطئون إن احتسبنا منطقة «ربكسد» هي المعنية في التوراة ب «أور الكلدانيين»، التي هي في الأصل العبري «أوركسديم»، و«كسديم» جمع عبري للمفرد «كسد»، فهي «أوركسد» أو «أوربكسد» أو «أربكسد».
ثالثا:
إن أهم ما يؤيد هذا الحفر اللغوي، هو التسمية التي أطلقها أهل الرافدين القديم على سكان تلك المناطق الشمالية، وكانوا يشكلون خطرا داهما على البلاد، وقد غزوا بلاد الرافدين فعلا، ودمروا بابل واحتلوها زمنا، وأسسوا ما يعرف باسم دولة بابل الثالثة. هؤلاء هم من تشير إليهم النصوص الرافدية القديمة باسم «الكاسيين» أو ال «كاسي» ولو جمعنا المفرد «كاسي» باللسان العبري، فإنه يصبح «كسديم»! فهل ترانا قد عثرنا على دليل مبين؟
رابعا:
إن في التوراة ذاتها ما يؤكد مذهبنا في موطن النبي إبراهيم الأصلي، فالنبي إبراهيم كما هو معلوم يعود بأرومته إلى جده البعيد «سام بن نوح» وكان لسام أخوان هما «حام » و«يافث». وتحكي التوراة - كما أسلفنا - أن نوح لعن النسل الكنعاني من أبناء حام، وبارك سام ونسله بالقول: «مبارك الرب إله سام، ليفتح الله ليافث، فيسكن في مساكن سام، وليكن كنعان عبدا لهم» (تكوين 9: 18-27).
وحسب التقسيم التوراتي للأجناس (التكوين 10) فإن سام هو أبو كل بني عابر وبني آرام وبني أرفكشاد. والعجيب أن كاتب هذا الجزء من التوراة، كانت لديه معلومة تقول: إن يافث ونسله كانوا يساكنون سام ونسله «ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام»، وحسب التقسيم التوراتي للأجناس، فإن يافث هو أبو الترك والصقالبة القدماء، وهم ليسوا شيئا آخر سوى سكان بلاد الحور الأرمينية وما جاورها، أفلا يعني ذلك أن مساكن سام التي سكنها يافث، كانت في المنطقة التي حددناها وعيناها كموطن أول للعشيرة الإبراهيمية؟!
خامسا:
إن «ماير» يشير إلى معلومة قديمة متوارثة، تعطينا خاتما توثيقيا على ما ارتأيناه، فيقول: «كان الرأي السائد قديما أن مدينة أور تقع أعالي ما بين النهرين، ولكن الاكتشافات الحديثة أثبتت أنها تقع في الجنوب في أطلال مغير، بالقرب من مصب نهر الفرات في الخليج الفارسي.»
5
وهكذا فإن «ماير» يلقي بمعلومة قديمة متوارثة من وراء ظهره، تقول: إن «أور» تقع أعالي ما بين النهرين، وهو ما حددناه، بلاد الحور الأرمينية. لكن «ماير» لم يلتفت إلى أن الاكتشافات الحديثة كشفت فقط عن مدينة تسمى «أور» تحت أطلال مغير العراقية، لكنها لم تكشف عن أصول العشيرة الإبراهيمية هناك، وتم هذا الربط من جانب الباحثين التوراتيين، فربطوا «أور الكلدانيين» - وهي كما علمنا ترجمة خاطئة - وبين أور المكتشفة في جنوب العراق، وقد علمنا أنها «أوركسديم» أو «أور الكاسيين» في منطقة «أرابخيتيس» الحورية، وهي على ما يبدو كانت معلومة شفاهية قديمة، مجهولة المصدر والزمان، ظلت تتواتر شفاهة، ولكن رفضها الباحثون بعد الكشف عن «أور» العراقية.
وتأسيسا على كل ما أوردناه، وإعمالا لمجموعة القرائن التي توصلنا إليها، فإنه لم يعد هناك أي مبرر للبحث عن حاران تجاور أور الكلدانيين أو أور العراقية، كما حاولت الخريطة المرفقة بالتوراة أن تفعل، ولا يعد مرور النبي إبراهيم عليه السلام بمنطقة حاران في أقصى الشمال داخل الحدود التركية الحالية مثيرا للتساؤل أو الاستغراب؛ لأنه في هذه الحال لم ينطلق من «أور الكلدانيين» في الجنوب، متجها إلى «حاران» في أقصى الشمال، ليعود مرة أخرى جنوبا نحو كنعان، إنما ستتسق الأمور - وفق طرحنا - وتنضبط، فيغادر النبي منطقة «أربكسد» المعروفة حاليا باسم «إلبك» جنوب غربي أرمينيا، ويتجه إلى بلاد الحور أو «حاران»، وتصبح حاران بذلك محطة ترانزيت منطقية تماما في الطريق إلى كنعان، كما يصبح مفهوما إشارة التوراة المترجمة لكافة اللغات، ومنها العربية «عن الأصل العبري» أنه خرج منها، دون سبب واحد تبرر به ذلك، ورغم إشاراتها المتعددة والمتكررة التي تؤكد آرامية النبي إبراهيم.
وهكذا يتضح أن العشيرة الإبراهيمية وافدة على المنطقة من جنوب أرمينيا، وقد وصفت التوراة إبراهيم عليه السلام بأنه رجل آرامي، وأقر التراث الإسلامي أنه ليس من أبناء الجنس العربي، وأن لسانه لم يكن عربيا، وقال ابن هشام في السيرة: إن لسانه كان سريانيا (لسان شمالي بلاد الشام)، ولكنه عندما عبر نهر الأردن إلى كنعان حول الله لسانه إلى اللغة العبرانية.
6
وربما يكون تفسير هذه الهجرة في حديث المسعودي عن حدثان الطبيعة، وقوله: «ولما قبض ساروغ قام من بعده ناحور بن ساروغ، مقتديا بمن سلف من آبائه «وحدث رجف وزلازل» لم تعهد فيما سلف الأيام قبله، وكانت في أيامه حروب وتحزيب أحزاب»،
7
و«ساروغ» هو «سروج» في التوراة، أبو ناحور، جد إبراهيم النبي. المعنى هنا أن ثمة ضغطا قد حدث دفع شعوب هذه المنطقة الحورية للخروج في موجات متتابعة من الهجرات، وربما تمثل هذا الضغط في كارثة طبيعية أو مجموعة كوارث متتابعة تفسر الهجرات المتتابعة التي هبطت على المنطقة، منهم النبي إبراهيم أو قبيلته، الكاسيين، الهكسوس ... إلخ. وقد أضفت الملحوظة المطولة التالية التي بين القوسين الكبيرين، بعد مطالعتي لخبر جاء بصحيفة الأهرام القاهرية بتاريخ 13 / 12 / 89، وذلك أثناء مراجعتي لطباعة البروفة الأولى للكتاب، والخبر تحت عنوان «نظرية علمية جديدة تقول: «ثورات البراكين ابتلعت بعض الحضارات القديمة » طبقا لنظرية جديدة توصل إليها العالم البريطاني الدكتور مايكل بايلي، فإنه من المرجح أن تكون عدة حضارات في أنحاء العالم قد تعرضت للدمار بسبب الثورات البركانية التي دمرت - فيما دمرت - جزيرة ثيرا في بحر إيجا (لاحظ هنا أنه قد حدثت أيضا هجرات كاسحة من بحر إيجة لسواحل البحر المتوسط الشرقية قرب نفس الزمان. والملحوظة من عندنا)، وطبقا لما تقوله النظرية الجديدة؛ فإن السلالة الحاكمة الصينية في ذلك الوقت كانت من بين ضحايا هذه الثورات البركانية، وقد أسس الدكتور بايلي نظريته على نتائج دراسة لعينات من خشب البلوط القديمة يرجع عهدها إلى وقت الثورة البركانية التي دمرت جزيرة ثيرا «في القرن السابع عشر قبل الميلاد» (لاحظ أنه الوقت الذي ظهرت فيه القبيلة الإبراهيمية 1700ق.م، والإشارة من عندنا) حيث لاحظ الدكتور بايلي أن معدل نمو أشجار البلوط في ذلك الوقت كان بطيئا بسبب ضعف ضوء الشمس، والبرودة الزائدة التي نتجت عن تصاعد كميات كبيرة من الغبار إلى الغلاف الجوي بعد الانفجار البركاني. وفي معهد التكنولوجيا في باسادينا بولاية كاليفورنيا الأمريكية توصل عالم من أصل صيني، ويدعى «كيفين بانج» إلى نتائج تدعم نظرية بايلي، فقد أجرى بانج أبحاثه مستخدما الكمبيوتر. وتوصل إلى أن النشاط البركاني كان سببا في إنهاء السلالة الحاكمة «شانج» أثناء العصر البرونزي، وحدث خسوف للشمس وفيضانات وأوبئة ...» ونعود الآن لصلب موضوعنا.
إذا كانت التوراة قد وصفت النبي إبراهيم عليه السلام بأنه رجل آرامي، فقد انتهينا إلى أنه رجل «حوري» أيضا، ولم يزل اللسان الشامي يحتفظ إلى الآن بهذا المعنى، فرجل الدين أو الكاهن هو «الخوري»، والخاء تختلط بالحاء دون ضير، مما يشير إلى أن الاشتغال بأمور الدين كان يغلب على أهله العنصر الحوري، لذلك كان جليا في التوراة أبوة إبراهيم عليه السلام للأنبياء، ولا يغيب عن الخاطر أنه في المنطقة الحدودية بين المنطقة الكاسية الهندوأوروبية والمنطقة العراقية والكنعانية وهي سامية، كان سهلا أن يتبادل حرف «ح» مع حرف «أ» أو مع الهمزة، ومن هنا كان ممكنا أيضا أن تنطق حور الواقعة في المنطقة الكاسية أو «حور الكاسيين» بالنطق «أور-كاسيين»، والتي يجب نطقها عبريا «أور-كسديم»!
وقد تبدو النتائج التي وصلنا إليها مخالفة لما تعارف عليه جمهور الباحثين، وخاصة أن كثيرا من البحوث قد أثبتت تطابق ميثولوجيا التوراة مع ما كشف عنه من تراث رافدي، مما يشير إلى أن أصل العبريين يعود فعلا إلى العراق، بل إن هذا التطابق في المأثور كان من أهم أسباب تأكيد «أور» العراقية كموطن أول للعشيرة الإبراهيمية. وفسر التطابق بين المأثورين بأن العبريين قد أخذوا معهم التراث الرافدي ليسجل بعد ذلك كعقائد في التوراة، بل إن كاتب هذه الدراسة مر عليه وقت كان يأخذ بهذه النظرية في بعض بحوثه المنشورة، لكننا الآن نرى أن تطابق المأثور التوراتي مع التراث الرافدي القديم، لا يعني بالضرورة أن أهل التوراة كانوا من أهل العراق، إنما نجد للأمر أسبابا أخرى لعل أهمها أن أهل الرافدين من بابليين وآشوريين عندما حطموا المملكتين العبرانيتين: يهوذا والسامرة، بعد عصر إبراهيم عليه السلام بأكثر من ألف عام، واستاقوا اليهود أسرى ليعيشوا على ضفاف دجلة والفرات في عبق التاريخ العريق، تعرف العبريون الأسرى هناك على المأثور الرافدي وتمثلوه بعد طول مقام، هو ذات الأثر الذي تركه التراث المصري والكنعاني في التوراة، واصطنع العبريون لأنفسهم تراثا تم استخلاصه من تراث المنطقة التي كانت تموج بظواهر التحضر وما يلزم عنه ويفرزه. ولعل أهم دعم لهذا الرأي هو إجماع الباحثين في التوراة - تقريبا - على أن الأسفار الخمسة الأولى الكتاب المقدس (وهي التي يطلق عليها تحديدا اسم التوراة، وهي الأسفار التي أجريت عليها دراسات ومقارنات شتى مع المأثور الرافدي، والتي حوت معظم ما يتصل بالتراث العراقي) لم تكتب قبل عام 400ق.م، هذا ونعلم أن: الأسر الآشوري لليهود قد بدأ عام 722ق.م، أي إن الأسفار التوراتية التي تطابق المأثور العراقي قد كتبت بأثر لا جدال فيه لهذا المأثور فهل لم يزل ثمة نقاش؟
ولا تفوتنا الإشارة إلى أمر بالغ الأهمية لأمرنا هنا، وكثيرا ما أثار عجب الباحثين ودهشتهم، وهو أن طوائف تعيش اليوم في جنوب روسيا تتكلم اللغة الآرامية القديمة
8
المحسوبة من اللغات السامية، ومع بحثنا يزول هذا العجب؛ لأن من هذه المنطقة قدم أصحاب اللسان الآرامي في القديم، ويحمل اسمها «أرمينيا» معنى الآرامية.
وآخر أدلتنا على الأصل الخوري أو الحوري أو الآرامي للقبائل الإبراهيمية، وأنها كانت عناصر وافدة على المنطقة، يضطرنا إلى وقفة سريعة عجلى مع النبي موسى التوراتي وإلهه «يهوه» المنطوق عبريا «جاهوفاه، بتعطيش الجيم وبفاء مثلثة التنقيط» وقد قصدنا التعبير «موسى التوراتي» قصدا، لتمييزه عن النبي موسى عليه السلام كما يعرفه المسلمون.
ومن المعلوم أن موسى التوراتي قد نشأ في كنف فرعون مصر وربا في بلاطه، لكنه تورط في جريمة قتل، قتل فيها مصريا انتصارا لواحد من بني جلدته، فهرب من البلاد خوف القصاص ونزل البلاد الموسومة في التوراة بالاسم «مديان»، وقد حددها أهل التوراة في سيناء مع امتداد إلى الشرق شمالي جزيرة العرب، وسار الآخرون خلفهم وتم تسجيلها على الخرائط على هذا الأساس، لكن مع البحث والتقصي فإننا لا نجد في نصوص مصر القديمة ما يشير إلى بلاد في سيناء، أو على الحدود الشرقية لمصر تعرف باسم «مديان»، والمفترض أن مصر تعرف حدودها جيدا. نعم هذه النصوص تتحدث عن بلاد باسم «ميتان» أو بالقلب «متيان»، لكن هذه البلاد تقع في أقصى حدود الإمبراطورية المصرية شمالا، وليست على الحدود السينائية، بمعنى أن «متيان» هذه تقع وفق النصوص المصرية فوق الحزام الشمالي لبلاد الشام الخاضعة آنذاك للحكم المصري.
ومن هنا ذهب بي الظن إلى أن «ميتان» أو «ميتاني» التي ذكرتها النصوص المصرية، ربما كانت هي «مديان» في قصة موسى التوراتي، خاصة إذا ما تذكرنا أن اللسان المصري الرقيق كان يقلب حرف «د» إلى «ت»، فلماذا لا تكون «ميتان» باللسان المصري هي «مديان» باللسان العبري؟
وربما يعضد ذلك أن مصر آنذاك كانت قد طوت تحت جناحها الأيمن كل بلاد الشام حتى الفرات شرقا، أما آخر حدودها الشمالية فكان هو بلاد «ميتان» والتي كانت عثرة على الحدود الشمالية، فكانت تبدي الخضوع لمصر وتصطنع لها الود، لكنها كثيرا ما لعبت دورا رديئا في مساعدة الثورات الإقليمية، التي كانت تنشب هناك، وما كان ممكنا لهارب من العدالة أن يظل داخل أي أرض مصرية، ومن ثم كان الهروب المناسب هو إلى بلاد ميتان أو مديان، أما أهم ما في هذه الجزئية فهو أن بلاد مديان هذه إنما كانت جزءا من بلاد الحور، وضمن الحزام الشمالي الذي سبق وجاء منه أجداد موسى التوراتي في زعمنا.
وتقول التوراة في قصة الخلق: إن أصل البشرية خرج من مكان على الأرض يدعى جنة عدن، وأن من هذا المكان تنبع أنهار أربعة هي: دجلة والفرات وفيشون وجيحون، وأن من النسل الذي عاش في جنة عدن، جاء بنو عابر الشعب المختار، أو بالنص التوراتي:
وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقا ... وكان نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة. ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رءوس، اسم الواحد فيشون وهو المحيط بجميع أرض الحويلة حيث الذهب، وذهب تلك الأرض جيد، هناك المقل وحجر الجزع، واسم النهر الثاني جيحون، وهو المحيط بجميع أرض كوش، واسم النهر الثالث حداقل وهو الجاري شرقي آشور والنهر الرابع الفرات.
تكوين 2: 8-14
وبالبحث فإنك لا يمكنك العثور في المنطقة على موضع تنبع منه أنهار أربعة، سوى قمم أرمينيا، وهو ما افترضناه موطنا أصليا للعشيرة الإبراهيمية، ومن هذه القمم ينبع نهرا دجلة والفرات، ويستديران غربا فجنوبا إلى أن يصبا في الخليج العربي، ومن ذات القمم ينبع نهرا «كورا» و«أراكس» ليصبا في بحر قزوين، ولعل قصة التوراة في حديثها عن خروج أبي البشر من جنة عدن، إنما كانت تردد قصة خروج آبائهم هم من منطقة منابع الأنهار الأربعة، لتستوطن جنوبا، لأسباب ما زالت تحتاج بحثا وتقصيا جلدا، وربما كان المأثور الذي ذكره المسعودي عن الرجف والزلازل وتحزيب الأحزاب، مؤشرا للطريق الواجب اتباعه.
ولعل موسى التوراتي، عندما فر إلى تلك البلاد استعاد هناك أطياف الجدود والجلدة، وتعرف على إلهه «جاهوفاه» وعاد يخبر أهله في مصر بأن «جاهوفاه» يطلب خروجهم من مصر، إلى أرض تصفها التوراة دوما بالقول: «أرض اللبن والعسل» و«جنة الرب». وعليه فإن موسى كان يقصد تماما بلاد أرابخيتيس «الحورية»، ولم يزل مأثورنا الشعبي يتحدث عن الحوريات ونساء الحور، وأما الجنة ففيها أجمل النساء «الحوريات»! وفي الأحاديث النبوية عن مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «سيحان وجيحان والنيل والفرات من أنهار الجنة.» وقال كعب: نهر دجلة نهر بالجنة،
9
ولا ننسى أن كعبا من أصل عبراني يهودي، وفي الحديث أنها جميعا تنبع من الجنة من تحت عرش الرحمن، وأن من أنهار الجنة في سورة محمد، نهر لبن، ونهر العسل، والتوراة تقول عن الأرض الموعودة «أرض اللبن والعسل»!
أما أسطع البراهين على أن رحلة الخروج من مصر بقيادة موسى التوراتي، كانت تبتغي بلاد الحور، فهو قول «جاهوفاه» لموسى التوراتي، أنه سيرسل على أهالي تلك البلاد «قواته الجوية» مقدما، لتمهيد الأرض أمام المشاة العبرانية، أو نصيا:
وأرسل أمامك الزنابير، فتطرد الحيثيين والكنعانيين والفرزيين والحويين.
خروج: 34: 11
ثم لا يلبث جاهوفاه - زيادة في الاطمئنان - أن ينزل بنفسه لقيادة المعترك له، ويقول:
فنزلت لأنقذهم من أيدي المصريين، وأصعدهم من تلك الأرض إلى أرض جيدة وواسعة تفيض لبنا وعسلا، إلى مكان الكنعانيين والحيثيين والفرزيين والحويين.
خروج: 3: 8
والبرهان هنا على صدق أطروحاتنا أن جاهوفاه سيطرد من الطريق: الأموريين والكنعانيين، وهم تاريخيا شعوب انتشرت في الطريق بين مصر وبلاد الحور. لكن إذا كانت فلسطين هي الغرض، فما بال رب التوراة يريد طرد الحيثيين منها؟ ولا حيثيين بفلسطين! إنما ما يعلمه التاريخ هو وجود دولة باسم دولة الحيثيين، كانت تقع إلى الشمال والغرب من «ميتان»، أو ما افترضناها «مديان»، وهي بهذا التحديد إنما تقع تحديدا داخل بلاد الحور!
ثم من هم الحويون؟ بالبحث لا تجد أبدا شعبا في المنطقة عرف بهذا الاسم، إنما يوجد الحوريون، ومن المعلوم أن بعض اللهجات كانت تسقط حرف الراء، ولم يزل منتشرا في بعض اللغات بشكل حاد، وينتشر فرادى فيما يعرف بلثغ اللسان، وكان قديما وحديثا من خصائص شعوب بعينها، وربما لا نجانب الصواب كثيرا، إن افترضنا هؤلاء «الحويين» هم «الحوريون».
وهكذا، فإننا بإزاء بلاد يريدها موسى التوراتي، ليست هي فلسطين إنما تقع إلى أقصى الشمال، وليست فلسطين، وأهلها الكنعانيون ليسوا سوى عقبة في الطريق، سيمطرها جاهوفاه بالزنابير، والفرزيون أمرهم مجهول، «وربما أهلكتهم القوات الجوية»! لكن موسى التوراتي يموت قبل تحقيق المراد، ولا يدخل الأرض التي خرج إليها وعاش يحلم بها (أرض الأجداد، بلاد الحور وجنة اللبن والعسل)، ويترك لأتباعه استكمال المهمة، لكن كان واضحا أن همم الأتباع قد قصرت عن كل المبتغى، وتوقفت عند حدود فلسطين.
أما آخر قرينة لدينا على مقدم القبيلة الإبراهيمية من جنوب أرمينيا، حيث المنطقة الحورية أو الكاسية أو «أوركسديم»، فهو مستمد من كتب التراث الإسلامية، التي تحدثنا عن أخبار عرب الجزيرة وأصولهم الأولى. فيقول ابن هشام: «إن العرب كلها من ولد إسماعيل وقحطان.»
10
ومعروف أن إسماعيل هو ابن النبي إبراهيم، ومعروف أيضا هذا الإصرار الغريب في كتب التراث على تقسيم العرب إلى إسماعيلية وقحطانية، ومعروف كذلك أن القحطانيين هم من سكان جنوب الجزيرة أصلا، وهم الذين انتشروا في الجزيرة باسم العرب العاربة، أي الراسخة في العروبية، أما العرب الإسماعيلية فهم العرب العدنانية وهم العرب المستعربة، أي لم يكونوا عربا إنما اكتسبوا العروبية، وسكنوا شمال الجزيرة وامتدادها مع بادية الشام نحو الشمال، على الخط القادم من الموطن الذي افترضناه موطنا أول للعشيرة الإبراهيمية.
ولنلحظ أن العرب الإسماعيلية قد أطلق عليهم: العرب العدنانية! فهل يشير ذلك إلى ذكرى في التراث عن أصل هؤلاء، وقصد منها التعريف بموطنهم «عدن» أو ما أطلقت عليه التوراة «جنة عدن»؟ حيث الأنهار الأربعة، ربما. وربما كان هبوط بعض هؤلاء وتوغلهم جنوبا في جزيرة العرب، هو الذي أعطي مدينة «عدن» اليمنية اسمها الحالي، تيمنا بعدن الأصلية في الشمال حيث جنة الحور الكاسية.
ربما!
وإذا كنا قد ذهبنا إلى أن العدنانيين ليسوا عربا أصلاء، وإنما قدموا من «أور الكاسيين»، أو أنهم إحدى القبائل الكاسية، فإننا نجد كتب التراث لم تزل تحفظ بين طياتها قولا رائع الدلالة والتوافق والتناغم مع مذهبنا، فتقول السيرة الحلبية: «وولد عدنان يقال لهم: «قيس»، وولد قحطان يقال لهم: يمن.»
11
ولعلنا لسنا بحاجة إلى إيضاح أن «كاسي» هي «قيسي»، وإذا كنا قد زعمنا أن القبيلة العدنانية (النسل الإبراهيمي) قد وفدت ضمن مجموعة من الهجرات المتدفقة على شكل موجات متلاحقة من المنطقة الكاسية، وقلنا: إن من أكبر هذه الهجرات وأخطرها، الكاسيين الذين هبطوا في غزو بربري كاسح على دولة بابل الأولى حوالي عام 1600ق.م، فإننا نزعم أيضا أن ضمن تلك الموجات المتبربرة، جاءت موجة الهكسوس لتحتل مصر حوالي عام 1680ق.م، والهكسوس هو الاصطلاح الذي أطلقه أصحاب البلاد على الغزاة، وقد ترجمه المؤرخ المصري «مانيثون
MMANITHON
300ق.م» بمعنى الملوك الرعاة، وقد فصل «جيمس هنري برستد
J. H. BREASTED » كلمة هكسوس استنادا إلى «يوسفيوس» بحسبانها تتركب من ملصقين، الأول «هك» ملك، والثاني «سوس» بمعنى «راعي»،
12
ولنلحظ أن كلمة «يسوس» تعني «يرعى»، ويؤكد لنا برستد أن كلمة «هكسوس» لفظ دارج في اللغة الآرامية،
13
و(اللغة الآرامية بالذات وبالتحديد، إذن لك الشكر يا برستد!)، كما لا ننسى أن الآرامية والعربية حسب التصنيف اللغوي من اللغات السامية، كذلك العبرية وأداة التعريف في هذه المناطق كانت حرف «ه» في بداية اللفظ المعرف، وعليه فالكلمة «هكسوس» بعد حذف التصريف الأسمى (حرف السين الأخير)، تصبح «الكاسو» أو «الكاسي»، هذا إضافة إلى أن أشيع الاتجاهات حول الموطن الأصلي للهكسوس هو براري غرب آسيا، وهو اتجاه يشمل منطقة «أرارات» في «أرمينيا»!
أما المثير حقا، فهو أن هذه المنطقة (مصر وشرقي المتوسط وجزيرة العرب) لم تعرف الخيول، إلا مع هبوط المتبربرين الشماليين عليها، وقد لفت نظري وأنا أتابع موسوعة تاريخ العالم، في حديثها عن أحداث تاريخ الرافدين عام 1600ق.م، قولها: «عام 1600ق.م، غزا الكاشيون بابل ... حكموها لمدة 450 عاما، أصبح الحصان معروفا في مصر وغرب آسيا»،
14
ومع ذلك لم تربط الموسوعة ولو بالإشارة بين الغزو الكاسي للرافدين، وبين غزو الهكسوس لمصر، وبين الآراميين وأرمينيا! ولعل ذلك كله يتضح غرضه، عندما نربطه بما جاء عن أنس في قوله: «إن النبي
صلى الله عليه وسلم
لم يكن شيء أحب إليه بعد النساء من «الخيل».» وما جاء في كتب الأخبار: «أن إسماعيل عليه السلام أول من ركب الخيل وكانت وحوشا، أي ومن ثم قيل لها العراب ... وقد قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «اركبوا الخيل، فإنها ميراث أبيكم إسماعيل».»
15
وهو لا شك نوع من ترديد الذاكرة للأيام السوالف، وربط الذكريات القديمة بين هبوط الموجات الشمالية جنوبا، وظهور العرب العدنانية، والحصان.
إبراهيم في مصر
مع التوراة، نتابع الرحلة الإبراهيمية، بعد أن استقر «إبرام» هونا في «حاران»، فتقول إن الرب «إيل» قد التقى بخليله وقال له:
اذهب من أرضك وعشيرتك ومن بيت أبيك، إلى الأرض التي أريك فأجعلك أمة عظيمة، وأباركك، وأعظم اسمك. فذهب إبرام كما قال له الرب، وذهب معه لوط وكان إبرام ابن خمس وسبعين سنة لما خرج من حاران، فأخذ إبرام ساراي امرأته، ولوطا ابن أخيه، وكل مقتنياتهما التي اقتنيا والنفوس التي امتلكا في حاران، وخرجوا ليذهبوا إلى أرض كنعان، فأتوا إلى أرض كنعان، وظهر الرب لإبرام، وقال: لنسلك أعطي هذه الأرض، فبنى هناك مذبحا للرب الذي ظهر له، ونقل هناك إلى الجبل شرقي بيت إيل، ثم ارتحل إبرام ارتحالا متواليا نحو الجنوب، وحدث جوع في الأرض، فانحدر إبرام إلى مصر ليتغرب هناك؛ لأن الجوع في الأرض كان شديدا، وحدث لما قرب أن يدخل مصر أنه قال لساراي امرأته: إني قد علمت أنك امرأة «حسنة المنظر»، فيكون إذا رآك المصريون أنهم يقولون: هذه امرأته، فيقتلونني ويستبقونك. قولي: إنك أختي ليكون لي خير بسببك وتحيا نفسي من أجلك، فحدث لما دخل إبرام بها إلى مصر، أن المصريين رأوا المرأة أنها حسنة جدا، ورآها رؤساء فرعون ومدحوها لدى فرعون، فأخذت المرأة إلى بيت فرعون «فصنع لإبرام خيرا بسببها، وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأتن وجمال»، فضرب الله فرعون وبيته ضربات عظيمة بسبب ساراي امرأة إبرام، فدعا فرعون إبرام وقال له: ما هذا الذي صنعت بي ؟ لماذا لم تخبرني أنها امرأتك؟ لماذا قلت هي أختي حتى أخذتها لتكون زوجتي؟
تكوين 12: 1-19
ويعقب «محمد حسني عبد الحميد» في كتابه الذي قدمه الشيخ مخلوف مفتي مصر الأسبق، على قول إبراهيم لسارة: قولي إنك أختي، بقوله: ««كانا أخوين فعلا، وكان ذلك قبل تشريع تحريم الأخت على أخيها»، وذهب البعض وراء هذا المذهب وزاد عليه قوله: لا حاجة إلى تأويل كلام إبراهيم، بأن المقصود أنها أخته في الدين؛ لأن هذا الاعتقاد لم يدع إليه إلا اعتقاد المؤولين، إن هذه الشريعة التي كان عليها إبراهيم، كانت كشريعة موسى عليه السلام (دينا)، كالأخت والعمة، وقيل في تأييد ذلك: «إن موسى بن عمران كان متزوجا من عمته»، كما ورد في إصحاح 26 من سفر العدد.»
1
وفي سفر التكوين معنى صريح يشير إلى ذلك، في قول إبراهيم: إن سارة هي أخته غير الشقيقة، «وبالحقيقة هي أيضا أختي ابنة أبي، غير أنها ليست ابنة أمي فصارت لي زوجة» (تكوين 20: 12).
وما يمكن أن تؤدي إليه هذه الرواية من فهم دفع الباحث الإسلامي «د. صابر طعيمة» إلى التعقيب مستنكرا أن التوراة تعني بذلك ودون مواربة، أن «الفرعون المصري قد أخذ المرأة وتزوجها، أو عاشرها واستمتع بها»، كما تعني أن النبي إبراهيم «تنزه نبي عن ذلك، جبان: يقتلونني ويستبقونك، بل إن في النص بعد ذلك معنى يجرد إبراهيم من رجولته فضلا عن إبائه وعظمته كنبي رسول، هذا المعنى هو أنه كان ديوثا على أهله يعيش على ريعهم، وينعم بثمن امرأته «فصنع إلى إبرام خيرا بسببها».
2
ولأن التوراة مقدس لدى المؤمن به على حاله المتاح، فإن «ماير» يسلم بالرواية، ويستخلص منها العبر والعظات، ورغم أنه في سلسلة كتبه كثيرا ما تحامل على المصريين بحكم اللعنات التوراتية التي دأبت عليها التوراة، وصبتها على بني حام، ورغم أنه كثيرا ما أشار لمصر كرمز للدنيا وزينتها مقابل طهارة الإيمان ونقائه، فإنه يحاول في كتابه عن النبي إبراهيم تبرير نزول القبيلة الإبراهيمية مصر، وبخاصة الأنبياء منهم فيقول: «مرت ظروف في تاريخ «شعب الله»، رأينا الله نفسه يأمر عبيده بالالتجاء إلى مصر «مؤقتا»، فعندما كان يعقوب مترددا في الذهاب إلى مصر، وعامل الخوف من تكرار أخطاء الماضي، قال له الرب: أنا إله أبيك، لا تخف من النزول إلى مصر؛ لأني أجعلك أمة عظيمة هناك، أنا أنزل معك إلى مصر» (تكوين 46: 3، 4).
وفي العهد الجديد «الأناجيل» نجد ملاك الرب يظهر ليوسف «رجل مريم أم المسيح» في حلم ويقول له: «قم وخذ الصبي وأمه واذهب إلى مصر» (متى 2: 13).
واضح هنا أن مصر كانت ملجأ لطالب الحمى، لكن النبي يعقوب حفيد النبي إبراهيم كان يخشى نزولها، خوفا من تكرار أخطاء الماضي فماذا يقصد «ماير» بأخطاء الماضي تحديدا؟ ... تتضح الإجابة في استطراده: «على أن إبراهيم لم يتلق رسالة صريحة من الله بنزول مصر، بل تصرف بمجرد تفكيره الشخصي، يا لها من غلطة شنيعة، ألم يكن خيرا لإبراهيم أن يلقي بكل المسئولية على الله؟ ... عندما فقد إبراهيم إيمانه ونزل مصر، فقد أيضا شجاعته وأقنع زوجته أن تقول عن نفسها إنها أخته، فإنه كان قد سمع عن «فساد أخلاق المصريين»، وخشي أن يقتلوه ليتمكنوا من أخذ سارة التي كانت على شيء عظيم من الجمال رغم تقدمها في السن، «وقد ضلل هذا الكلام المصريين فعلا»، لأن سارة أخذت إلى بيت فرعون. كان هذا الموقف الذي وقفه إبراهيم دليلا على ضعفه «وجبنه»، ولم يستطع أن يجد له مبررا يدافع به عن نفسه، وكانت غلطة شنيعة من شخص عاش بالإيمان كل تلك المدة الماضية، وكادت «هذه الغلطة تعرض النسل الموعود للخطر».»
وهكذا سلم «ماير» عن إيمان بالرواية دون مناقشة، وأخذ منها العظة بحسبان ما حدث للنبي كان أمرا مقصودا ليكون درسا للمؤمنين وعبرة، فيستمر يقول: «وعندما أخذ فرعون سارة، صنع إلى إبرام خيرا جزيلا بسببها، وهذا ما قد يفعله لعالم أحيانا لمن يستسلمون له» (يقصد بالعالم مصر) ... وعندما يترك الابن الضال بيت أبيه، يخسر كل ما يعطي الحياة قيمة حقيقية، «وينحط إلى مستوى الخنازير»، ولو شعر في بداءة الأمر بنشوة السرور الوقتي، للحصول على الشهوة المشتهاة . إن سقطة إبراهيم في مصر تعطينا صورة عن طبيعته الأصيلة، التي لم تكن نبيلة بأي حال من الأحوال، فإبراهيم بطبيعته الأصيلة «لم يكن يسمو كثيرا عن سائر بني المشرق» الذين لا يترددون عن الكذب لكسب خير أو دفع ضر ... إن إلهنا لا يشترط توافر الاخلاق النبيلة حتى يتم أجل أعماله، فهو قادر على أن يخلق من الحجارة أولادا لإبراهيم. نحن بالطبيعة لا شيء، بل نحن نجسون فاسدون، الله لا يسمح أن ينبذنا لمجرد خطيئة واحدة، فبالرغم من سقوط النفس المتكرر وتقصيراتها المتعددة يتابع نعمته فيها، حتى يحررها مما علق بها من شرور، حذر الرب فرعون بصوته الإلهي، وأمسكه أن يسيء إلى عبده، ففرعون كان لابد أن ينتقم لنفسه من ذلك الشخص الغريب الذي «كذب عليه وخدعه»، حتى إن فرعون لم يستطع أن يمد يده إليه، بل لم يجسر أن يسترد الهدايا التي خلعها عليه كصداق لسارة. «كانت هذه الزيارة لمصر أساسا للثروة الطائلة التي تمتعت بها ذريته فيما بعد»، ولكن الواقع أن الله سمح به لكي يزيد عبده الأمين التصاقا به، ولكي يفصله عن مصدر الشر الذي لصق به طويلا، كم نحن مدينون بالشكر للكتاب المقدس، الذي لم يتردد عن ذكر «خطايا أقدس القديسين، ولا شك أن هذا دليل على صحة الكتاب».»
حقيقة إن كلام «ماير» هنا يحتاج وقفة تأملية قصيرة عسانا نستعبر من عبره، فمصر رمز الحياة الدنيا، ومع ذلك كانت حمى الأنبياء وملجأهم، وبأوامر صريحة من الرب بذلك، أما خطأ إبراهيم عند «ماير» أنه نزلها دون تفويض بذلك بل بهواه الشخصي. أما همه وشغله الشاغل فهو أن النبي إبراهيم كاد بذلك يعرض النسل العبري للخطر بدخول بذرة غير عبرية في سلساله، وحتى يكيل للمصريين مزيدا من الشتائم، لم يتورع عن شتم النبي ذاته، ولا بأس لديه من استخلاص صفات النبي من التوراة، ويصل إلى أنه «لم يكن يسمو كثيرا عن سائر بني المشرق»، وتعبير سائر بني المشرق درج في التوراة للدلالة على العرب من أهل البادية، إضافة لما يحمله من معنى لدي «ماير» بحسبانه من أهل الغرب، أما أن يذكر الكتاب المقدس هذه الرواية دون تحرج، فهو دليل قاطع على صدقه؛ لذلك «كم نحن مدينون بالشكر للكتاب المقدس!»
ورغم أن الوقوف مع «ماير» هنا قد يبعدنا قليلا عن صلب موضوعنا، إلا أنه لا يصح أيضا المرور على مثل هذا الحديث دونما وضع الأمور في نصابها الصحيح، ولسنا هنا في موقف الدفاع عن إبراهيم عليه السلام فهو نبي رغم كل شيء، وأن الذين كتبوا التوراة هم حفدته الذين أصروا على الزعم الدائم بنقاوة الدم العبري. ومع ذلك فإن أول الكتابات أهمية في التوراة تتعرض منذ البداية لأول خطر تعرض له نقاء هذا الدم مع أول رجل ذي شأن في تاريخهم، ولا شك أن العقل لا يستسيغ إطلاقا وجود نوع من الطهارة المطلقة لشعب كامل خلال قرون طويلة، بحيث تظل بذرته نقية تماما «خاصة مع هذه البداية التي لا تبشر بخير».
ولأن عددا من الباحثين سبق وناقشوا هذا الأمر عن النبي إبراهيم باستفاضة، فسنقتصر على ما لم يناقشوه، ولم يخطر ببالهم أن يردوه، وهو ما يتعلق في القصة بالمصريين ويبدو أنها لم تشغل الباحثين في كثير أو قليل بحسبانهم المصريين القدماء خاصة مع ذكر فرعون، كفارا ملاعين، رغم أن الواضح في التوراة أن الفساد لم يكن في المصريين، ونحن هنا لا نرد أو نواجه طعنا، لكنا فقط نحاول رؤية الحقائق التي لم يرها الأغلبية رغم شدة وضوحها، فالتوراة تقول: إن النبي أوعز لزوجته أن تنكر زوجيته لها وتدعي أنه أخوها. لماذا؟ تجيب التوراة بالحديث منسوبا للنبي: «ليكون لي خير بسببك، وتحيا نفسي من أجلك!» ورغم أن سارة قد تجاوزت من عمرها السبعين، فإن الكاتب التوراتي يصر على أنها كانت «حسنة جدا»! ومن هنا أخذها فرعون ليضمها إلى حريمه. لكن بعد أن أمهرها لدى أخيها بصداق جزيل. يقول المستر «ماير»: إنه كان أساس الثروة الطائلة التي تمتع بها العبريون بعد ذلك واشتهروا بها، فأي كرم هذا؟ وأي صداق ذاك؟
الفرعون إذن لم يختطف المرأة أو يغتصبها، إنما تزوجها من أخيها، وعندما علم بجلية الأمر ورغم خديعته لم يحاول إيذاء الزوج وهو الملك المطلق. إنما النص قال له: ما هذا الذي صنعت بي؟ ولا يمكن أن نفهم من العبارة سوى معنى واحد هو: «أي عار ألحقته بي يا رجل عندما زوجتني زوجتك؟!» «أكرر» النص يقول بوضوح: «ما هذا الذي صنعت بي، لماذا لم تخبرني أنها امرأتك؟ لماذا قلت هي أختك، أخذتها لتكون زوجتي؟»
وكان رد الفرعون حسب الرواية التوراتية أن رد سارة إلى زوجها معززة مكرمة، ولم يبقها عنده لحظة بعد علمه بجلي الأمر، وزيادة في الكرم والسماحة ترك صداقها لأخيها ولم يستعده. ومع ذلك فإن هذا عند «ماير» من فساد أخلاق المصريين! ووصف النبي بأنه انحط إلى مستواهم (خنازير)، ولم يرتفع النبي عنده عن مستوى «بني المشرق»، لكن كل ذلك عند «المستر ماير» كان درسا مقصودا من الله للمؤمنين، حتى لا يكونوا كالمصريين، ثم ينصح الشبيبة المؤمنة بالابتعاد عمن «سيعملون على إضعاف مستوى الحياة الروحية، ويجرون غيرهم إلى طريق العالم، ويقترحون خططا لم تخطر لنا على بال، «ويجروننا إلى مصر».»
3
متناسيا أن المسيح ذاته، وهو فيما يعتقد «ماير» ربه وإلهه، لم يجد في كونه بأكمله وبأفلاكه وعوالمه ملاذا وحماية سوى مصر!
أما الغريب حقا في شأن الكاتب التوراتي، فهو تكراره لذات المعاني في حديثه عن زيارة النبي «إبراهيم» لملكة «جرار» التي كان يحكمها الملك «أبيمالك»، فيقول النص التوراتي:
وقال إبراهيم عن سارة امرأته: هي أختي، فأرسل أبيمالك ملك جرار وأخذ سارة، فأخذ أبيمالك غنما وبقرا وعبيدا وإماء وأعطاها لإبراهيم.
تكوين 20: 2، 14
ثم أقطعه الملك أرضا في بلاده:
هو ذا أرضي قدامك، اسكن في ما حسن في عينيك.
تكوين 20: 15
ثم إن أبيمالك ملك جرار الفلسطينية، والمفترض أنها على حدود شبه جزيرة سيناء الشرقية، قال لسارة:
إني أعطيت أخاك ألفا من الفضة.
تكوين 20: 16
وهنا يطرح السؤال نفسه : «كيف حصل اليهود على أرض فلسطين القديمة؟»
ونعود للمستر «ماير» صاحب الشهرة الواسعة لنرى رأيه، فنجده يقول : «إن ما توحيه إلينا الكلمات الواردة في «سفر التكوين 20: 13» تدل على «معاهدة شريرة» عقدها إبراهيم مع سارة، فإنه إذ كان يتحدث إلى ملك الفلسطينيين، انسابت من بين شفتيه كلمات تكشف لنا سر «سقوطه في تلك الخطيئة»، عندما دخل أرض الموعد في بداية الأمر، وعندما نزل إلى مصر تحت ضغط المجاعة، وعندما تكرر سقوطه هذه المرة، في هذه الآية نراه يقول: وحدث لما أتاهني الله من بيت أبي أني قلت لها: هو ذا معروفك الذي تصنعين إلي في كل مكان نأتي إليه، قولي عني: هو أخي! «لقد دل تصرفه على منتهي الجبن، فقد ارتضى أن يعرض طهارة النسل الموعود للخطر» (لاحظ المشكلة عند ماير ليس فيما يقرأ، إنما ما يشغل باله، ويؤرق نفسه هو طهارة الدم العبري ونقاؤه)، كان الأمر مخلا بالشرف جدا، أن يسمح لنفسه بأن تجوز سارة محنة كهذه، وسط هذه القبائل الهمجية (لاحظ أنه يرى الفلسطينيين هم الهمج!) ... ومع مزيد الأسف «كان مستوى إبراهيم الأخلاقي في هذا الموقف أحط من مستواهم»، حتى إن أبيمالك نفسه «عندما اكتشف أن سارة زوجة إبراهيم» استطاع أن يوبخه قائلا: «جلبت علي وعلى مملكتي خطية عظيمة» (تكوين 20: 9). ولا شك أن الصورة التي ارتسمت في عقل أبيمالك من جهة إبراهيم وإلهه كانت كافية لفشل أية محاولة من جانب إبراهيم، ليكسب بها أبيمالك للإيمان اليهودي، وإنني أتخيله يقول: إني أفضل أن أبقى كما أنا بعدما رأيته في زعيم اليهود، إنه لأمر يمزق الأحشاء حسرة وألما وحزنا، أن نرى أحد الوثنيين يعير رجلا من أكبر أولاد الله بالكذب، «ومن تصرف أبيمالك نحكم بأنه أكثر نبلا من إبراهيم».»
وكعادته فإن «ماير» يأخذ في استنتاج العظات من تلك الصراحة التي تدلل عنده على صدق الكتاب المقدس، فيقول: «إن معاملة الله لإبراهيم بإزاء هذه الخطية تملأ قلوبنا ثقة وشجاعة، إنه لم يتخل عنه ولم ينبذه، وعندما أشرف هو وامرأته على حافة الخطر نتيجة خطيته، أقبل إليهما صديقهما القدير؛ لينجيهما من الخطر المحدق بهما، ثم إنه وبخ من أجله ملوكا (سفر الأيام الأول 16: 21)، وأخبر أبيمالك أنه كان محكوما عليه بالموت، وأمره أن يلتمس الصلاة، من نفس الشخص الذي خدعه، والذي «رغم كل سقطاته كان لا يزال نبيا، له قوة من الله».»
4
وبذلك نكون قد وصلنا إلى إجابة عن السؤال المطروح آنفا، ونكون قد عرفنا ابتداء الأسلوب الذي اتبعه اليهود للحصول على الثروة من مصر والأرض من فلسطين، في قصة التوراة الميمونة.
والغريب أنهم بعد تمكنهم من الأرض ومن القوة نقرأ استطراد التوراة، فتقول إنه بعد استقرار النبي في «جرار»، أتاه أبيمالك مع قائد جيشه لغرض يوضحه «ماير»، بقوله: «وطلب منه معاهدة لا يلتزمان بها وحدهما، بل ويلتزم بها أيضا كل ذريتهما، قائلا: احلف بالله ها هنا أنك لا تغدر بي ولا بنسلي وذريتي، وقبل المصادقة النهائية على هذه المعاهدة «بسط إبراهيم أمرا، مازال إلى الآن مصدر نزاع شديد في الشرق»، فإن رعاة أبيمالك كانوا قد اغتصبوا البئر التي حفرها عبيد إبراهيم (لاحظ أن ماير يعتبر استخدام الفلسطينيين لبئر في أرضهم اغتصابا!)، أما الملك أبيمالك فقد أنكر علمه بكل ما حصل، وفي هذه المعاهدة، وضعت عبارة تتعلق بهذه البئر، لكي تكون هذه العبارة معلومة للأجيال القادمة! ... لم تكن مواد الكتابة معروفة بعد، ولذا فقد كانت السبع نعاج التي أعطاها إبراهيم لأبيمالك هي العلامة الظاهرة الدائمة «على أن البئر ملك لإبراهيم»، وهكذا إذا قطع العهد بجوار البئر اقترن اسمها باسم المعاهدة إلى الأبد، فقد دعيت بئر سبع أي بئر القسم، أو بئر سبع إشارة إلى السبع نعاج الهدايا، التي اقترنت بهذه المعاهدة، ولزيادة تثبيت المعاهدة غرس إبراهيم شجرة أثل كي تكون بخضرتها الدائمة تذكارا للمعاهدة.»
5
ماذا يريد «ماير» أن يقول هنا؟ وماذا فهم من التوراة كمؤمن مبشر؟ وماذا ينشر في كتبه العديدة بين المؤمنين؟
إن أهل فلسطين أصبحوا يخشون ضيوفهم، أو بتعبير «ماير» يخشون غدرهم، لماذا؟ «ماير» لا يوضح، والتوراة لا توضح وتمادى الخوف من الضيوف حتى وصل الأمر بالملك الفلسطيني وقائد جيشه أن يذهبا للنبي برجاء أن يقبل معاهدة سلام أصبحت «إلى الآن مصدر نزاع شديد في الشرق»، يقصد بالطبع النزاع العربي-الإسرائيلي. وسبب المعاهدة أن الرعاة الفلسطينيين استقوا من بئر حفرها العبرانيون، فخاف الملك ووزير دفاعه حتى أنكر علمه بالأمر، وهو أمر يوضح محاولة التنصل من تبعات أنكى وأشد غير واضحة في الرواية، ومن هنا أراد إبراهيم «أو أراد الكاتب التوراتي على الأصح» وضع معاهدة أبدية لكل الأجيال القادمة، ولأن الكتابة - في زعم ماير - لم تكن قد اكتشفت بعد، فكان لابد من علامات بدلا من الوثيقة المكتوبة، فأعطى إبراهيم سبع نعاج لأبيمالك، وكلمة «سبع» تعني أيضا القسم أو اليمين، وذلك لتمليكه البئر وما حولها، لذلك سميت البئر الشاهدة على المعاهدة «بئر سبع»، ثم إشهارا للمعاهدة وتوثيقا، غرس إبراهيم شجرة أثل دائمة الخضرة حتى يعلم الأخلاف بما اتفق عليه الأسلاف، ويبدو أن المستر «ماير» وهو يصر على أبدية العهد ووثنية شعب فلسطين وسوء أخلاق بني المشرق، نسي أنه كتب بيده وفي ذات الكتاب، وهو يتحدث في البداية عن هبوط النبي أرض كنعان أول مرة قادما من «أور» القول: «كان الكنعانيون حينئذ في الأرض، كان هنالك القواد العظماء، مثل ممرا وأشكول، والمدن الحصينة مثل سدوم وساليم وحبرون، وكل عناصر المدنية المزدهرة؛ فضلا عن ذلك فإن الكنعانيين لم يكونوا قبائل مرتحلة، بل كانوا قد تأصلوا وتأسسوا في الأرض، بنوا المدن وحرثوا الأرض وسكوا العملة، وعرفوا القراءة والكتابة وأجروا الحق والعدل في القضاء، وفي كل يوم كانت تزداد قوتهم وعظمتهم، لذلك لم يكن معقولا أن يستأصلهم من الأرض نسل راع بسيط، ليس له أولاد حتى ذلك الوقت.»
6
لكن «ماير» رغم ذلك عرف الحكمة التي انتصر بها الراعي البسيط، وطرد بموجبها الكنعانيين من الأرض، ألا وهي الحكمة الإلهية والمشيئة الربانية، فقد قال الله لإبراهيم: «قم وامش في الأرض طولها وعرضها (تكوين 13: 17)؛ لذلك يستنتج «ماير» الموعظة الحسنة: الله يأمرنا أن نقبل منه عطاياه، لا شك أن هذا معناه أن الله أراد أن يشعر إبراهيم بأن الأرض قد أصبحت ملكا له.»
7
وبات واضحا أن العبرانيين قد تمكنوا في الأرض وليس في بئر فقط، وهو ما يوضحه قول التوراة في الأسفار التالية: «ألست أنت إلهنا الذي طردت سكان هذه الأرض، وأعطيتها لنسل إبراهيم خليلك إلى الأبد؟» (سفر أيام ثاني 20: 7)، أما المستر «ماير» فكان لم يزل مستمرا في أدائه التبشيري للمؤمنين وهو يقول: «كانت جرار قاعدة لمملكة أبيمالك، استأصل شعبها سكان الأرض، وهم الذين أطلق عليهم العبرانيون فيما بعد «اسم الفلسطينيين المرعب».»
8
الرحيل جنوبا
وخرج النبي إبراهيم عليه السلام من مصر.
وتتابع التوراة روايتها عن رحلات الخليل، فتقول:
صعد إبرام من مصر وامرأته، وكل ما كان له، ولوط معه «إلى الجنوب»، وكان إبرام غنيا جدا في المواشي والفضة والذهب، وسار في رحلاته من الجنوب إلى بيت إيل، إلى المكان الذي كانت خيمته فيه في البداءة.
تكوين 13: 1-3
ولنتذكر قول التوراة: «أراميا تائها كان أبي» (تثنية 26: 5)، فهو ما لا يجب أن ينساه اليهودي عن جده إبراهيم: «أراميا تائها» كان أبي! والمتأمل في سيرة النبي إبراهيم التوراتية يستشعر مدى صدق هذا الوصف وحال النبي، فمن الواضح في إصحاحات التكوين، أنه لم يستقر زمنا في مكان واحد، وكلما أناخ في موطن بنى مذبحا لربه، أو بالتعبير المتواتر في التوراة «فبنى هناك مذبحا، ودعا باسم الرب».
وعلى الطرف الآخر نجد كتب التراث الإسلامية تصر من جهتها على علاقة وطيدة للنبي إبراهيم بجزيرة العرب، وأنه جد النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
عبر إسماعيل، وأن إبراهيم وولده إسماعيل من بناة الكعبة الحجازية البيت الإلهي الذي قدسه العرب قبل الإسلام بزمان، وهو مما يثير أمامنا الإشكال من جديد حول الأصل الآرامي للنبي إبراهيم بعد أن أغلقناه، حيث سنجد احتمالا آخر للآرامية في الجزيرة العربية، ورغم أن التوراة لم تأت بذكر واضح لرحلة قام بها إبراهيم لجزيرة العرب، ورغم أن التراث الإسلامي لم يحاول نسبة الأصل الإبراهيمي لجزيرة العرب إنما عده وافدا وزائرا، فإن الإشكالية تظهر فيما تمدنا به وثائق التاريخ العربي، حيث نجد تقسيما - لا شك لم يأت من فراغ - للعرب إلى: عرب عاربة بائدة، وعرب مستعربة باقية، وكان أشهر العرب البائدة أهل «أرم»، حتى صار اسمهم علما على العرب البائدة فعرفوا بالأرمان.
وقد ذكر «حمزة الأصفهاني» في تاريخه: أن العرب العاربة عشرة: عاد وثمود وطسم وجديس و«عماليق» وعبيل وأميم ووبار ورهط وجاسم وقحطان، فكانت هذه الفرق تؤرخ بسني إرم، إلى أن بادت كلها الواحدة إثر الأخرى، وبقي منهم بقايا يسيرة، وكانوا يسمون الأرمان،
1
وقد فسر المسعودي سبب إطلاق التسمية «أرمان» على مجمل العرب البائدة في قوله: «إنما سموا بذلك لأن عادا لما هلكت قيل لبقاياها إرم، فلما هلكت ثمود قيل لبقايا إرم أرمان»،
2
وقد احتسبنا العرب البائدة من العرب العاربة، أو أن العاربة بعض البائدة استنادا لابن خلدون الذي استخدم كليهما بمعنى واحد، فقال: «إن العرب العاربة شعوب كثيرة، وهم: عاد وثمود وطسم وجديس وأميم وعبيل و«عبد ضخم»، وجرهم وحضرموت وحصور والسلفات، وسمي هذا الجيل العرب العاربة، بمعنى الرسوخ في العروبية، أو بمعنى الفاعلة للعروبية والمبتدعة لها، بما كانت أول أجيالها، وقد تسمى البائدة أيضا الهالكة.»
3
والإصرار الواضح في رحيل النبي نحو الجنوب يحيلنا معه باستمرار إلى جزيرة العرب جنوبا، فالتوراة تكرر دائما التعبير:
ثم ارتحل إبرام ارتحالا متواليا «نحو الجنوب».
تكوين 12: 19
فصعد إبرام من مصر ... «إلى الجنوب».
تكوين 13: 1
وانتقل إبرام من هناك إلى «أرض الجنوب»، وسكن بين قادش وشور، وتغرب في جرار.
تكوين 20: 1
وقد حاول الباحثون تفسير اللفظة «ه-نجب» في الأصل العبري، بأنها تعني «النقب»؛ أي: صحراء النقب جنوب فلسطين (والهاء أداة التعريف العبرية)، وتأسيسا على أن كنعان التوراتية هي فلسطين، لكن «ه-نجب» تعني أيضا مع استخدام ظاهرة القلب «الجنوب»،
4
وهو ما أخذت به الترجمة العربية كما في النصوص السابق إيرادها، فترجمت «ه-نجب» بمعنى الجنوب، والجنوب بالنسبة للنبي إبراهيم - وهو خارج من مصر، وبعد أن مر بمملكة «جرار» جوار غزة حسب خرائط التوراة - ليس شيئا آخر سوى جزيرة العرب.
وإذا كانت التوراة قد أوضحت أن إبرام لما خرج من مصر اتجه إلى الجنوب، فإنها تستمر بسرعة خاطفة، لتقول: «وسار في رحلاته من الجنوب إلى بيت إيل، إلى المكان الذي كانت خيمته فيه في البداءة.» مما يشير إلى فجوة كبرى وسط الرواية، فهي بسرعة تقول إنه عاد من الجنوب، ولا تعلمنا لماذا خرج من مصر واتجه جنوبا من الأصل، ولأي هدف كان نزوله جنوبا، ولا الأحداث التي جرت له هناك، ولا المدة التي قضاها في هذا الجنوب كما هي عادة التوراة التي عهدناها مفصلة إلى حد الإملال، كما لو كان هذا الجزء من الرواية قد اقتطع اقتطاعا، فيعود النبي فجأة من الجنوب إلى الشمال حيث بيت إيل، المكان الذي كانت خيمته فيه في البداءة.
وهنا يبدو أن إصرار الإخباريين المسلمين على علاقة إبراهيم بجزيرة العرب اكتسب مسوغاته، بل أصبح واضحا أن العلاقة يمكن أن تملأ فراغا وفجوة كبرى بالرواية التوراتية، لهذا وجب أن نقف هنيهة مع ما أورده الرواة المسلمون عن زيارة الخليل لجزيرة العرب، والتي ترتبط بميلاد إسماعيل من المصرية هاجر.
وإذا كان الهبوط جنوبا يرتبط بإسماعيل، فربما لو توقفنا مع قصة التوراة عن ميلاد إسماعيل وجدنا شيئا أكثر وضوحا عن مسألة هبوطه جنوبا، تقول التوراة:
وأما ساراي امرأة إبرام فلم تلد له، وكانت لها جارية مصرية اسمها هاجر، فقالت ساراي لإبرام: هو ذا الرب أمسكني عن الولادة، ادخل على جاريتي لعلي أرزق منها بنين، فسمع إبرام لقول ساراي ... فدخل على هاجر فحبلت، ولما رأت أنها حبلت صغرت مولاتها في عينيها، فأذلتها ساراي فهربت من وجهها، فوجدها ملاك الرب على عين الماء في البرية، على العين التي في طريق شور، وقال: يا هاجر جارية ساراي ... ارجعي إلى مولاتك، واخضعي تحت يديها. وقال لها ملاك الرب: تكثيرا أكثر نسلك فلا يعد من الكثرة، وقال لها ملاك الرب: ها أنت حبلى فتلدين ابنا وتدعين اسمه إسماعيل، لأن الرب قد سمع لمذلتك وأنه يكون إنسانا وحشيا، يده على كل واحد ويد كل واحد عليه.
تكوين 16: 1-12
أما لماذا استعجل إبراهيم تحقيق الوعد بالنسل الموعود، وخشي مزيدا من الشيخوخة فدخل بهاجر؟ فهو ما يعقب عليه «ماير» وهو يتحدث عن سارة: «لماذا لا يتبع زوجها عادة أهل زمانه «السخيفة»، ويتزوج تلك الجارية المصرية، التي إما أن يكونا قد اشترياها من أحد الأسواق المصرية، أو أهديت إليهما من فرعون مع باقي الهدايا التي خلعها عليهما، وضعف إيمانه في قدرة الله بأنه قادر أن يحقق وعده بطرق أخرى غير الطرق الطبيعية؟ كل هذا دفعها لتقديم اقتراحها، لعل هذا الهاتف قد خطر على باله في أوقات ضعفه، كان يحمل في طياته علامات الشك في قدرة القدير؛ لأنه كان يتضمن التعجيل في تحقيق وعد الله وبلا تردد، ودون الرجوع إلى الله. قبل إبراهيم هذا العرض، وإذا أصبحت هاجر سيدة موقرة في المحلة، احتقرت سيدتها العاقر.» ثم كعادة المستر ماير الذي لا يجد فرصة للطعن على المصريين إلا وانتهزها، فيستطرد بالقول: «نحن لا نندهش من تصرفات هاجر إزاء سيدتها إذ عيرتها بوقاحة، فماذا يمكن أن ينتظر من جارية كهذه «وضيعة الأصل».»
5
ونتابع القصة التوراتية التي تستطرد:
ولما كان إبرام ابن تسع وتسعين سنة ظهر الرب لإبرام، وتكلم الله معه قائلا: أما أنا فهذا عهدي معك، وتكون أبا لجمهور من الأمم، وأثمرك كثيرا جدا وأجعلك أمما، وقال الله لإبراهيم: ساراي امرأتك لا تدع اسمها ساراي، بل اسمها سارة، وأباركها وأعطيك أيضا ابنا منها، سارة امرأتك تلد لك ابنا وتدعو اسمه إسحاق. وأقيم عهدي معه أبديا لنسله من بعده، وأجعله أمة كبيرة. وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه، ها أنا أباركه، وأجعله أمة كبيرة ... «ولكن عهدي أقيمه مع إسحاق الذي تلده لك سارة» ... وظهر الرب له عند بلوطات ممرا، وهو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار، فرفع عينيه ونظر، وإذا «ثلاثة رجال» واقفين لديه، فأسرع إبراهيم إلى الخيمة، وقال لسارة: أسرعي بثلاث كيلات دقيقا سميدا، اعجني واصنعي خبز ملة، ثم ركض إبراهيم إلى البقر وأخذ عجلا رخصا وحيدا وأعطاه الغلام، فأسرع يعمله، ثم أخذ زبدا ولبنا والعجل الذي عمله، ووضعها قدامهم، وإذ كان واقفا لديهم تحت الشجرة «أكلوا»، وقالوا له: أين سارة امرأتك؟ فقال: ها هي في الخيمة، فقال: إني أرجع إليك نحو زمان الحيواة، ويكون لسارة امرأتك ابن ... «فضحكت» سارة في باطنها قائلة: أفبالحقيقة ألد وأنا قد شخت؟ هل يستحيل على الرب شيء؟ وكان إبراهيم ابن مائة سنة حين ولد له إسحاق ابنه، ورأت سارة ابن هاجر المصرية الذي ولدته لإبراهيم يمزح، فقالت لإبراهيم: اطرد هذه الجارية وابنها؛ لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق، فبكر إبراهيم صباحا، وأخذ خبزا وقربة ماء وأعطاهما لهاجر، واضعا إياهما على كتفيها والولد وصرفهما، فمضت وتاهت في برية بئر سبع، ولما فرغ الماء من القربة، طرحت الولد تحت إحدى الأشجار، ورفعت صوتها وبكت، فسمع الله لصوت الغلام وفتح الله عينيها، فأبصرت بئر ماء، فذهبت وملأت القربة وسقت الغلام، وكان الله مع الغلام فكبر وسكن في البرية، وحدث من بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم فقال له: يا إبراهيم، فقال: ها أنا ذا، فقال: خذ ابنك «وحيدك» الذي تحبه إسحاق، واذهب إلى أرض المريا، وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك، فلما أتيا إلى الموضع الذي قال له الله، بنى هناك إبراهيم المذبح ورتب الحطب وربط إسحاق ابنه، ووضعه على المذبح فوق الحطب، ثم مد إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبح ابنه، فناداه ملاك الرب من السماء، وقال: إبراهيم، إبراهيم، فقال: ها أنا ذا. فقال: لا تمد يدك إلى الغلام، ولا تفعل به شيئا؛ لأني قد علمت الآن أنك خائف من الله، فلم تمسك ابنك وحيدك عني، فرفع إبراهيم عينيه ونظر، وإذا كبش وراءه ممسكا في الغابة بقرنيه، فذهب إبراهيم وأخذ الكبش وأصعده محرقة، عوضا عن ابنه، فدعا إبراهيم اسم ذلك المكان يهوه يرأه، حتى إنه يقال اليوم: في جبل الرب يرى.
تكوين 16، 17، 18، 21، 22
وهنا يحاول الداعية «ماير» أن يوعز لقارئيه بأن إنجاب إسماعيل من هاجر، كان عصيانا لأمر الله، وبالطبع ما يترتب على هذا المعنى من لفظ العقل الإيماني للنسل الإسماعيلي، ويضع غرضه في صيغة تساؤل يقول: «هل كان هناك ارتياح خفي لذلك التدبير، أن يدخل إبراهيم على هاجر ليرزق منها نسلا؟ الذي حقق غاية محبوبة على الأقل، «ولو أن الله لم يكن راضيا عنه»، هل كان يخشى أنه دعي ليقدم إسحاق ذبيحة، وجد ذلك أمرا هينا، إذ يستطيع أن يستعيض عنه بإسماعيل كوارث له؟» وهكذا فالمبشر «ماير» يريد القول أن النبي علم بمسألة التضحية مسبقا، فأراد التحايل على القدر الإلهي بإنجاب طفل من هاجر ليكون بديلا، بمعنى أن يضحي بابن الجارية؛ ليحيى ابن الحرة. والعجيب أن تجد مثل هذا المنطق لدى كاتب تترجم كتبه وتباع في مختلف الأنحاء، والعجب إنما في عدم اقتناعه الابتدائي بشأن إسماعيل، ثم إسقاط هذا الشعور على تفسير يجعل النبي يخدع هذه المرة ربه نفسه، بمحاولة تنفيذ القدر والهرب منه في آن معا، فينجب إسماعيل للذبح وإسحاق للوراثة، والقرار أو النية بذلك قد عقدت مسبقا قبل أن ينجب إبراهيم أيا منهما، وعليه فإن النبي جهز ابن الجارية للذبح فداء لابن الحرة، وهو منطق وفهم يمجه عرف أدنى الشعوب إلى الهمجية، فما بالنا والأمر مع النبي، ثم وما بالنا وصاحب المنطق والافتراض مبشر وداعية من بين أكثر المبشرين انتشارا وأطولهم باعا؟!
وإن مثل هذه المعاني تصبح واضحة عندما يبدأ المستر «ماير» في استخلاص العبر من القصة، وأن العظة هنا أنه يجب على المؤمن انتظار التوقيت الإلهي دون استعجال، ولا نفعل مثل إبراهيم عندما استعجل الوعد بالولد
6
فأغضب ربه، وكان محالا أن يرث الأرض الموعودة - في رأي التوراة ورأى المستر «ماير» - ولد يسري في عروقه دم مصري، فنقاء الدم العبري شرط أساسي وأول، لذلك يقول المستر «ماير»: «تسللت غيمة صغيرة قاتمة وسودت نفس سارة، فإن عينها الحاسدة أبصرت إسماعيل يمزح، وقد كان إلى عهد قريب هو الوارث الوحيد لكل المحلة، وتحت ستار الهزل والمزاح هزأ بإسحاق بطريقة كشفت عن مرارة نفسه، التي لم يكن من السهل أن يخبئها، وهذا حرك كل غيرة سارة الكامنة في نفسها، التي لم تطق إخفاءها، لماذا وهي السيدة وهي ربة البيت وهي «أم الوارث الشرعي»، تحتمل الإهانات من عبد؛ لذلك قالت لإبراهيم بتهكم: اطرد هذه الجارية وابنها، لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق، على أنه لا يزال هناك معنى أعمق، «أن هاجر الجارية تمثل روح العبودية»، وروح التمسك بحرفية الناموس وطقوسه، الذي يحاول أن يربح هذه الحياة. ترمز هاجر إلى عهد جبل سيناء في بلاد العرب، «أما سارة الحرة فإنها ترمز إلى عهد جبل النعمة المجانية»، وأبناؤها هم أبناء الإيمان والرعاء والمحبة، أيها القارئ العزيز ... «ثق في المسيح واقبل خلاصه، واطرد الجارية وابنها»، عش حياة الحرية والسعادة كإسحاق «ولا تعش حياة إسماعيل».»
7
أما أي قارئ متعقل فإنه سيلمس مباشرة وضوح التوراة إلى حد السذاجة في محاولة سحب البساط من تحت النسل الإسماعيلي؛ لتكون أرض كنعان خالصة لبني إسرائيل أحفاد إسحاق أخي إسماعيل، بمبررات مثل: غيرة النساء، وصراع الميراث والبنوة للأمة، أم للحرة، وخضوع الرب التوراتي ونبيه لمثل هذه الترهات.
وهكذا لم يورد كاتب هذا الجزء من التوراة أية إشارة لجزيرة العرب. وفي ذات الوقت تعمد إهدار وضع إسماعيل لكونه ليس خالص العبرية، وشابت دمه المصرية، لكن ما لا يفوت باحثا مدققا، أن هذه الأحداث جميعا قد تتالت بعد خروج النبي إبراهيم من مصر على طريق غزة (طريق جرار)، وأنه عندما خرج من مصر حسب الرواية التوراتية يمم نحو الجنوب، ولا جنوب في هذه الحال إلا جزيرة العرب، هذا إضافة إلى أن إبراهيم قد بدل اسمه من «إبرام» إلى «إبراهيم»، وبدل اسم زوجته من «ساراي» إلى «سارة» مما يشير إلى سكنى إبراهيم وزوجته بعض الوقت بين قوم لحنوا في اسمه واسم زوجته، فتغير نطقه في لسانهم من إبرام إلى إبراهيم، ومن ساراي إلى سارة.
هذا ناهيك عن قصة تضحية الأرض وفداء الدم، الذي اعتاد رب التوراة طلبه مقابل أعطياته، وعطاؤه هنا هو أرض كنعان، والعجيب في أمر التوراة إشارتها إلى أن الابن المضحى به كان هو إسحاق، والتوراة بذلك تخالف شرعتها التي استنتها هي في التضحية بالبكر، ثم زيادة في تأكيد إسحاق للتضحية، فإنها لم تر بأسا في تكرار أن إسحاق هو وحيد إبرام، وهكذا ألغت إسماعيل من التاريخ العبراني (ولوجه الحق فإننا من جانبنا نرى التوراة حسنا قد فعلت)، وواضح أن التوراة قد استبعدت إسماعيل؛ لأن دمه ليس عبرانيا خالصا، لأنه قد شابه الدم المصري، وهو كما تعلمنا الكتب الإخبارية، ذلك الدم الذي ساد العرب بعد ذلك الزمن بزمان.
وعليه فإن اليهود قد استنكفوا أن يكون المذبوح إسماعيل؛ لأنه سيكون أضحية معابة الدم، وعليه فلابد أن المذبوح كان إسحاق، حتى لو خالف ذلك شرعة التضحية بالبكر، وحتى لو أنكر إسماعيل تماما وأصبح إسحاق بكر إبراهيم ووحيده.
وقد ذكر القرآن الكريم قصة الذبح، لكنه لم يذكر الذبيح بالاسم، وإن كان التراث الإسلامي يعرف النبي محمدا
صلى الله عليه وسلم
بابن الذبيحين، والمقصود بالذبيحين: أبوه عبد الله، الذي كاد يكون ضحية للإله هبل، إيفاء لنذر جده القريب عبد المطلب، وإسماعيل جده البعيد الذي كاد يكون ضحية للإله «إيل»، والذي انتسب إليه إسماعيل باسمه «سمع-إيل»!
ومن الواضح أن قضية الذبيح قد شغلت المسلمين الأوائل فيما يبدو لنا من قول الثعلبي النيسابوري: «واختلف علماء السلف من عامة المسلمين، في الذي أمر إبراهيم عليه السلام بذبحه من بنيه، بعد إجماع أهل الكتاب على أنه كان إسحاق عليه السلام، فقال قوم: هو إسحاق. وذهب إليه من الصحابة: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعلي بن أبي طالب، ومن التابعين وأتباعهم: كعب الأحبار (ولنلحظ أن كعبا كان يهوديا، تأسلم). وقال الآخرون: هو إسماعيل. وإلى هذا القول ذهب عبد الله بن عمر، وسعيد بن المسيب، والشعبي، ومجاهد. وكان الشعبي يردد: «رأيت قرني الكبش منوطين بالكعبة».»
8
أما ابن كثير فيعقب بالقول: «الظاهر من القرآن ... أن الذبيح هو إسماعيل؛ لأنه ذكر قصة الذبيح، ثم قال بعده:
وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين (الصافات: 112). ومن جعله حالا فقد تكلف، ومستنده أن إسحاق إنما هو إسرائيليات، وكتابهم فيه تحريف، ولاسيما ها هنا قطعا لا محيد عنه، فإن عندهم أن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده، وفي نسخة من المعربة: بكره إسحاق، فلفظة إسحاق ها هنا مقحمة مكذوبة مفتراة، لأنه ليس الوحيد، ولا «البكر» ذاك إسماعيل.»
9
ورغم متابعة ابن كثير لكثير من التفاصيل التوراتية، فإن له كثيرا من المواقف العلمية المحمودة، ولديه في هذا الأمر تحليل جميل، وضح أولا في رؤيته للنص التوراتي، بحيث نكتفي بحذف إسحاق، ليستقيم الأمر إسماعيليا، منطقا وشرعا، ثم وضح ثانيا في شرحه لقصة مولد إسماعيل، وهو يكاد يطابق عبارات التوراة ذاتها، لكنك تجد أيضا ابن كثير يقف محللا ناقدا عالما. ولنقرأ معا قوله: «فلما حملت هاجر، ارتفعت نفسها وتعاظمت على سيدتها، فغارت منها سارة، فشكت ذلك إلى إبراهيم، فقال لها: افعلي بها ما شئت، فخافت هاجر فهربت ونزلت عند عين هناك (دون تعيين لمكان هذه العين بالتحديد)، فقال لها ملك من الملائكة: لا تخافي فإن الله جاعل من هذا الغلام الذي حملت به خيرا. وأمرها بالرجوع، وبشرها أنها ستلد ابنا، وتسميه إسماعيل، ويكون وحش الناس، يده على الكل ويد الكل به (لاحظ أن ابن كثير أصلح من شأن النص التوراتي القائل يد الكل عليه إلى يد الكل به)، ويملك جميع بلاد إخوته، فشكر الله عز وجل على ذلك، «وهذه البشارة إنما انطبقت على ولده «محمد»»، فإنه الذي سادت به العرب، وملكت جميع البلاد شرقا وغربا»،
10
وحتى لا ننسى، وحتى نتذكر، فالنبي محمد
صلى الله عليه وسلم
الذي سادت به العرب وحقق نبوءة «لنسلك أعطي هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات»، هو بالدم من جهة الأم مصري، فهو حفيد «هاجر» حسبما وضع النسابة المسلمون.
وهكذا وجدت الرواية التوراتية لها ترديدا في كتب الأخبار الإسلامية، وقد رددت هذه الكتب قصة ترك إبراهيم لهاجر وولدها في فلاة أو برية، وحددت الآيات القرآنية موضعها بالقول:
ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم (إبراهيم: 37). ويعقب المسعودي بالقول: فأجاب الله دعوته فأنس وحشتهم «بجرهم والعماليق»،
11
بعد أن فجر الله بئر زمزم تحت خد وليدها وهو يبكي عطشا، مما جذب الطير الذي هدى بدوره جرهم والعماليق إلى المكان، كما يؤكد المعنى نفسه الثعلبي في قوله: «فذهب بهما إبراهيم حتى قدم مكة، وهي إذ ذاك عضاة وسلم وسمر، وبحواليها خارج مكة أناس يقال لهم «العماليق»، وموضع البيت يومئذ ربوة حمراء.»
12
وقد ذكر المسعودي أن إسماعيل قد صاهر القبيلتين، وتزوج «عملاقة وجرهمية»،
13
وهو الأمر الذي يستدعينا مرة أخرى العودة إلى ما جاء في التاريخ العربي عن العرب العاربة البائدة، نستوضحه أمر جرهم والعماليق.
العمالقة
سعيا وراء خط سير رحلات النبي إبراهيم، بعد ارتحاله من مصر، والتي فيما يبدو كانت الرحلة التي ذكرها الإخباريون المسلمون إلى جزيرة العرب، وبينما التوراة لا تشير إلى أية علاقة لإبراهيم بجزيرة العرب، فقد أمسكنا بطرف خيط توراتي، يؤكد في عدة مواضع من الكتاب المقدس، أن النبي إبراهيم عندما خرج من مصر توجه نحو الجنوب، لكن دون أن تعطينا التوراة أية تحديدات أو مسميات للمواضع التي مر بها النبي أو استقر فيها في هذا الجنوب. فقط تعلمنا أن هناك قد دب الخلاف داخل أسرة النبي الصغيرة، مما دعاه إلى صرف هاجر ووليدها عن بيته، وبعد عدة نقلات نعلم أن هذا الوليد «إسماعيل» قد أصبح شابا، يمرح وراء الصيد في برية دعتها التوراة «برية فاران». هذا ويذهب الإخباريون المسلمون إلى أن هاجر وولدها، قد سارا يضربان في برية قاحلة، أصابتهما بعطش قاتل، وبينما الطفل النبي يبكي ضرب جبريل الأرض بقدمه ففجرها الله عينا، تلك التي أصحبت بئرا مقدسة لدى عرب الجاهلية والإسلام! وإن كانت التوراة تشير إلى الأمر بصيغة أخرى فتقول: «وفتح الله عينها فأبصرت بئر ماء»، وقد لا يكون ثمة خلاف بين الروايتين، وربما كانت الرواية الإسلامية تسير على ضرب قديم من التوراة، مع أخذنا بالحسبان أن العين في العبرية كما هي في العربية تعني نبع الماء، وحاسة البصر، وربما كان الأصل القديم يقول: إن الله قد أنبع لهاجر عين الماء فأبصرتها، كتعبير أقرب للمفهوم التراثي عن التعبير «وفتح الله عينها فأبصرت ... إلخ ».
وإذا كان هذا المكان في التوراة هو «برية فاران» فهو في القرآن الكريم «واد» وأن هذا الوادي «غير ذي زرع»، وأن في هذا الوادي كان يقوم بيت مقدس للعبادة، وأن صفة القدسية نعلمها من الاصطلاح الذي أطلقته عليه الآيات، فهو بيت «محرم» أو بنص الآيات:
ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم (إبراهيم: 37).
وهنا لابد أن نربط هذه الآية بآية أخرى تحدد لنا اسم الموضع بهذا الوادي، فتقول:
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين (آل عمران: 96). وسبق وعرفنا من الإخباريين المسلمين أنه في الجوار كانت هناك قبيلتان من العرب العاربة، أو من بقايا العاربة البائدة هما «جرهم» و«عماليق»، مع إشارات تؤكد أنه لم يكن هناك بيت قائم بالفعل في المنطقة. فالثعلبي يقول: إن أرض مكة كانت تنبت أنواعا من الشجر «سلم، سمر، عضاة» «وكان موضع البيت ربوة حمراء»،
1
هذا بينما يؤكد ابن هشام في السيرة أن الكعبة لم تكن موجودة حتى وقت متأخر من عمر إسماعيل، بدليل قوله: «وكان الحجر قبل بناء البيت زربا لغنم إسماعيل»،
2
بل إن القرآن الكريم أكد هذا المعنى بدوره، فقال: إنه بعد أن شب إسماعيل وافاه أبوه إبراهيم، وأنهما أقاما قواعد البيت، وذلك في الآيات:
وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل (البقرة: 127).
وهنا تبدو عدة مسائل بحاجة إلى الإيضاح، فالنبي يهبط جنوبا إلى جزيرة العرب، ويترك ولده إسماعيل وأمه هاجر عند «بيت محرم»، ومع ذلك فهناك آيات أخرى نفهم منها أن البيت المحرم لم يكن قائما بالفعل، إنما أقامه النبي إبراهيم وابنه إسماعيل، ولذلك رواية طويلة معروفة في كتب التراث، ثم نفهم من آية ثالثة أن هذا البيت يعد أقدم بيوت العبادة، وأنه كان قائما فعلا في موضع أسمته الآيات «بكة»، بينما نعلم أن ذلك البيت هو المقام بموضع «مكة» من أرض الحجاز، فلماذا الاختلاف في التسمية هنا إذا كان المقصود هو ذات نفس البيت، وفي ذات نفس المكان، والمفسرون يذهبون إلى أنه مجرد اختلاف لهجوي، لكن إذا كان الموضع هو ذات الموضع والسكان هم ذاتهم، فلماذا الاختلاف اللهجوي؟ وتبقى المسألة الأكثر إثارة للاستفهام، وهو أنه لا يمكن فهم كيف كان البيت قائما بالفعل، عندما ترك النبي ولده إلى جواره، وكيف قاما بعد ذلك ببنائه؟ ويذهب المفسرون هنا إلى القول إنه كان قائما من زمن بعيد لكنه تهدم حتى جاء النبيان فأقاما قواعده، مما يشير إلى أن قواعده كانت موجودة من الأصل، لكن كيف يمكن قبول ذلك في ضوء الآية
ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم
مما يشير بوضوح إلى بيت قائم بالفعل؟
حقيقة، الأمر لم يزل بحاجة إلى توضيح وإضاءة.
ثم هناك مسألة جرهم والعماليق أنسباء النبي إسماعيل، وتذكر بعض الروايات أنهم شاركوا في بناء البيت ... وهم من العرب العاربة.
ربما كانت إجابة التساؤلات في متابعة العرب العاربة، فلنمسك بطرف هذا الخيط ونتتبعه. قال حمزة الأصفهاني: إن العرب العاربة هي: عاد، وثمود، وطسم، وجديس، وعماليق، وعبيل، وأميم، ووبار، ورهط، وجاسم، وقحطان، بادت ومن بقي منهم أطلق عليهم اسم الأرمان. وقال ابن خلدون: إنهم عاد، وثمود، وطسم، وجديس، ثم لا يذكر عماليق، إنما يذكر «عبد ضخم وجرهم» إضافة إلى عبيل، وأميم، وحصور، وحضرموت، والسلفات.
ومع بعض الجهد، يمكن العثور على إشارات إلى أسماء قبائل، وإلى مواضع في جزيرة العرب، تشير بوضوح إلى تلك البائدات، مما يعني أن الأمر ليس برمته من أساطير الأولين، فهذه «العبيلة» شرقي الجزيرة قرب الإمارات العربية المتحدة الحالية، تشير إلى «عبيل» وإلى الشرق منها على الساحل تجد «حصور» - بعد القلب - في ميناء «صوحار» بعمان، وهذه «ثمود» في أقصى الجنوب، في القسم الشمالي من اليمن الجنوبي باسمها البائد لم تتغير، وتلك «بئر طميس» قرب ثمود، تشير إشارة واضحة بعد القلب إلى «طسم»، أما «وبار» فتتناثر باسم «الوبرة»، و«الوفرة» في مناطق متعددة من الجزيرة، كذلك «أميم» لم تزل علما على قبائل «أميم» الحالية، و«حضرموت» لم تزل شاهدا صامدا في الجنوب، أما «عاد» فأمرها أتى في بحثنا، وسنوضحه تفصيلا، لكن «السلفات» فأعتقد - وربما أخطأت وربما أصبت - إنها بالقلب «فلسات»، وهي بهذا النطق تصبح حفرية لغوية عظيمة الأهمية بقيت علاماتها في قبيلة «طي» التي كانت تعبد ربها على جبل «أجا» باسم «الفلس». وبنسبة الفلس إلى طي، فإنه سيكون «فلس طي» أو «فلسطي»، ولا أظنني أبعد في هذا التخريج كثيرا، عن حسبان هؤلاء هم «الفلستي» أو «الفلسطي» القدماء، أصلا لمن عرفناهم بعد ذلك هجرة وصلت إلى ساحل البحر المتوسط الشرقي باسم «الفلستيين» أو «الفلسطينيين»؛ ليعطوا أرض كنعان اسم فلسطين. ومن الجدير بالذكر أن الباحثين يزعمون أن الفلستيين أقوام جاءت كنعان قادمة من بحر إيجة، أو من جزيرة كريت،
3
وهو أمر غير مقطوع بشأنه ويشوبه شك كبير، ومن الأوفق اللجوء إلى تخريجنا هذا - ولو مؤقتا - حتى يتم القطع في الأمر، بحسبانه يتسق مع خط سير الهجرات التي وفدت إلى شرقي المتوسط، وهي في زعم ذات الباحثين قادمة من جزيرة العرب، عدا الفلستيين، لا نعلم لماذا؟ اللهم إلا غرض مشبوه هو استبعاد الفلسطينيين من العناصر القاطنة بالمنطقة من الساميين، وحسبانهم غرباء على فلسطين لتسويغ اعتبار فلسطين سامية من الفرع العبراني.
ولم يبق لدينا سوى «العماليق» الذين ذكرهم حمزة الأصفهاني، ولم يذكرهم ابن خلدون، وذكر بدلا منهم «عبد ضخم وجرهم»، وهو ما لم يورده الأصفهاني، مما يشير إلى خلاف أتصوره، في بحثي بداية الاتفاق وبداية الإجابة عما طرحناه من تساؤلات.
والعملاق كما نعلم، هو ضخم البناء، وتحكي لنا كتب التراث روايات كثيرة، تطابق هذا المعنى وتشير إليه، وكيف كان الواحد منهم يحمل الصخرة فيرميها على الجيش فيسحقه، ويفسر «النيسابورى» الآيات القرآنية حول عاد:
أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون * وإذا بطشتم بطشتم جبارين (الشعراء: 128-130) بقوله: «وذلك أن هؤلاء القوم، كانوا في هيئات النخل طولا، وكانوا في اتصال الأعمار بحسب ذلك من القدر»،
4
بينما يفسر الثعلبي الآيات:
واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة (الأعراف: 69)، بقوله: «أي عظما وطولا وقوة وشدة، وقال أبو حمزة اليماني: كان طول الواحد منهم سبعين ذراعا، وقال ابن عباس: ثمانين ذراعا، وقال: كان أطولهم مائة ذراع، وأقصرهم ستين ذراعا، وقال وهب: كان رأس أحدهم كالقبة العظيمة، وكانت عين الرجل منهم تفرخ فيها السباع، وكذلك مناخرهم»،
5
ومثل هذه التفاسير - كما هو واضح - تدخل في عداد المبالغات والتهويلات التي لحقت بهؤلاء القوم، لأسباب مجهولة، على الباحث المدقق أن يحاول كشف اللثام عنها.
وبالعودة إلى منطق البدوي، الذي عاش حياة متفرقة في قبائل متنازعة متصارعة، ولم تجتمع كلمته في وحدة سياسية واحدة إلا نادرا، وحين حدوثها كانت تحدث بين أهل المدر، وليس بين أهل الوبر، مما جعل هذا البدوي عاجزا عن القيام بالأعمال الكبرى، والمشاريع الضخمة التي تحتاج إلى تكاتف قوى المجتمع الموحد، المنتظم في سلك المركزية لوحدة سياسية كبرى، وفي وقت كان جيرانه الذين انتظموا في وحدات إدارية مركزية كبرى قد تمكنوا من تنظيم العمل وتوجيهه إلى إقامة المشاريع الضخمة.
ومن هنا كان هذا البدوي المرتحل يرى في الأعمال المعمارية الهائلة، التي أقامها جيرانه في مصر والعراق أعمالا إعجازية وعجيبة، وبقي فهمه لها في المأثور العربي عن عجائب الدنيا السبع، ولم يكن - وهو في تفرقه القبلي - يتصور أن بإمكان البشر العاديين، إقامة شيء كالأهرام أو معابد الكرنك؛ خاصة أن هذه المعابد ذات أبهاء ضخمة وتقوم على أعمدة شاهقة، وأسقف بالغة العلو، مما دفعه إلى تصور أنها قد أنشئت أصلا لتناسب حجم وقامات بناتها، وهم بذلك ذوو قامات هائلة وأجسام عظيمة الجرم، وأن هذه المعماريات كي تقام فإنها احتاجت - لاريب - إلى قوة عضلية لا تتيسر إلا لهؤلاء الضخام الطوال، ومن ثم فلاشك أنهم كانوا «عمالقة»!
لكن حديث التراث العربي، هو عن عمالقة عاشوا في جزيرة العرب ثم بادوا، وهو ما يخالف تفسيرنا، وهنا نتذكر أن العمالقة عند الأصفهاني تستبدل عند ابن خلدون، بالاسم: عبد ضخم، وهو ما يشير إلى المعنى ذاته: العملقة، مما يدفعنا إلى الظن أن ابن خلدون قد قصد بعبد ضخم ذات مقصد الأصفهاني بالعمالقة، وهنا ننقل القارئ خطوة أخرى على سبيلنا، فنذكره أن الأصفهاني قد قرن بالعمالقة الاسم «جرهم» أبو الجراهمة، ثم نلقي بأسطع الأضواء على الكشف المأمول، والمتمثل في اسم مصر القديمة بلسانها «مجر»
6
الذي جاء منه بمرور الزمان الاسم «مصر».
وكثيرا ما حدثت في وادي النيل حدثان كبرى، تليق بكبر المجتمع وتتفق مع حجمه وأشكاله الاجتماعية، لعل أهمها الصراع الذي نشأ بين كهان مدينة «منف» المقدسة وكهان مدينة «عين شمس»، وانتهت بانتصار كهنة عين شمس واستيلاء كهنتها على عرش البلاد، مع نهاية الأسرة الرابعة الحاكمة في الدولة القديمة، والذي تبعه بالضرورة فرار كهنة منف وأتباع الدين المنفي في هجرة كبرى، ربما اتجهت إلى جزيرة العرب، إضافة إلى ما يعلمه التاريخ عن هجرات مثيلة، اتجهت إلى شرقي المتوسط وعبر بعضها البحر إلى ميسينا وكريت، وربما لم تكن هجرات بالمعنى الدقيق للكلمة، إنما نوع من الهرب الكبير. وبالنسبة لجزيرة العرب، فقد وجدنا من القرائن ما يشير إلى وجود مصري واضح فيها، أيا كان سببه، سواء كان نوعا من الهجرة أو نوعا من الجاليات الكبيرة، أو الحاميات المتقدمة، أو وجود بدأ عسكريا وانتهى باستقرار دائم، والأمر متروك للمهتمين من الباحثين، في ضوء ما سنقدمه من شواهد يشير إلى أن جرهم إنما كانت تشير إلى أهل «مجر»، مع تذكرنا أن الأصفهاني قد قرن جرهم بالعمالقة، وهو ما يدعونا إلى افتراض أن الجراهمة هم ذاتهم العمالقة.
وأول شواهدنا وأهمها لدعم فرضنا هذا، الذي نسوقه على مهل وحذر، هو ما وجدناه عند المؤرخ القس «أورسيوس 375م»، حيث يقول عن النبي إبراهيم: «وولد له إسماعيل من جاريته «هاجر العملاقة»، وتزوج إسماعيل امرأة «من العماليق» فولدت له اثني عشر ولدا.»
7
والمفترض، أن «أورسيوس» رجل دين ذو شأن غير هين، ويعلم تماما صحيح ما بين يديه من آي الكتاب المقدس، ولا يفوتنا أنه قد كلف بكتابة هذا التاريخ بتكليف من أخطر أساطين رجال الدين في زمانه «القديس أوغسطين »، وما كان ممكنا أن يتم هذا التكليف وفي ذلك العصر بالتحديد، إلا بعد تمحيص تام في شخص المؤرخ المنوط به هذه المسئولية الكبرى، وبعد ثبوت الثقة في علمه وفقهه، وتبحره في التوراة، هذا بينما التوراة على الطرف الآخر تؤكد بوضوح: أن هاجر كانت جارية «مصرية»، كما تنص في حديثها عن إسماعيل: «أنه سكن في برية فاران، وأخذت له أمه زوجة من «أرض مصر»» (تكوين 21: 21).
إذن «أورسيوس» يؤكد أن هاجر أم النبي إسماعيل «عملاقة»، وأن إسماعيل بدوره قد تزوج من «عملاقة»، والتوراة تؤكد أن هاجر «مصرية» وزوجة إسماعيل «مصرية»، وهنا نردف فورا ما جاء عند المسعودي في قوله: «تفرق العماليق بعد أن أقحط الشحر واليمن، ويمم عضهم نحو تهامة، وأشرفوا على الوادي الذي تقيم فيه هاجر وولدها قرب الماء، فتزوج إسماعيل منهم، ثم تركها وتزوج جرهمية.»
8
ولو دققنا النظر في حديث المسعودي، عن زواج إسماعيل من عملاقة ثم من جرهمية، سنجده يتضارب مع ما جاء في التراث الإسلامي عن قصة بناء الكعبة، وأنها بنيت خمس مرات منذ بدء تاريخها،
9
وأن من بناتها العمالقة والجراهمة، وكلاهما أنسباء إسماعيل،
10
مما يعني أن العمالقة والجراهمة كانا متعاصرين، وهكذا لا يكون مستساغا أن تنهدم الكعبة وتبنى مرتين في جيل واحد، ولا يبقى منطقيا سوى افتراض أن يكون الجراهمة هم ذات العمالقة، وأنهم عاصروا النبيين إبراهيم وولده إسماعيل، وشاركوهما بناء البيت الإلهي، ومما يعضد هذا المنطق، ما يبدو لنا التباسا حدث عند «ابن سيد الناس» في تاريخه، فقال: إن البيت قد بني أيام جرهم مرة «أو مرتين». وترك الأمر مفتوحا للاحتمال والترجيح،
11
أما صاحب السيرة الحلبية الذي وقع في ذات الحيرة، فقد أجاز لنفسه تأكيد أمر واضح هو «أن العمالقة بنته ولابد».
12
وإذا كان «أورسيوس» يقول دون أن يخشى اعتراضا: إن هاجر كانت عملاقة، وأن ولدها إسماعيل قد تزوج عملاقة، وقام المسعودي يجمع من الموروث القديم ما يؤكد أن إسماعيل قد تزوج عملاقة وجرهمية، إضافة إلى ما وجدناه عند ابن هشام وهو يجمع من المأثورات العربية السالفة ما يوطئ به للسيرة النبوية فيقول: «إن إسماعيل نبي مرسل أرسله الله «إلى أخواله من جرهم، وإلى العماليق».»
13
ثم إصراره بعد ذلك على أن أخوال إسماعيل من الجراهمة، في قوله: «وبنو إسماعيل أخوالهم من جرهم»،
14
وقوله في موضع آخر: «ثم نشر الله ولد إسماعيل بمكة، وأخوالهم من جرهم ولاة البيت، والحكام لا ينازعهم ولد إسماعيل في ذلك لخئولتهم وقرابتهم»؛
15
فإن الأمر كله يفضي إلى أن أم إسماعيل (هاجر) المعروف أنها مصرية الأصل، هي أيضا «جرهمية»، وهي عند «أورسيوس» عملاقة، ويصادق جميعه على صدق فرضنا أن كلمة «جرهم» مأخوذة من الأصل «مجر» الذي يعني «مصر»، ولا يكون هناك مندوحة من التسليم - في ضوء ما جمعناه من شواهد - بأن الجراهمة هم العمالقة هم المصريون، وأن العملقة كانت من صفة المصريين أو الجراهمة، لتفسر عظمتهم في الإنشاء والإعمار، وعليه تكون هاجر أم إسماعيل، وكذلك زوجته من العمالقة الجراهمة المصريين، ولعل اسم «هاجر» يشير إلى معنى المصرية، فالهاء أداة التعريف في العربية الشمالية وفي العبرية، «وجر» أو «مجر» هي مصر، وربما أسقط حرف الميم بالتخفيف مع مرور الزمن. ومن هنا نفهم أيضا لماذا لم يعترض أحد على «أورسيوس» من أهل زمانه وأولهم أستاذه «أوغسطين». فلا ريب أن الأمر حينذاك لم يكن مثيرا للاعتراض، وهو بالطبع لن يكون كذلك، إلا إذا كان لدى أهل زمانه مأثور هو من المسلمات والمعروف، ومن نوافل المعلوم الذي اكتسب قدسية التقادم، يشير إلى ما وصلنا إليه، وهو أن «العمالقة مصريون»، ومن هنا أيضا نفهم لماذا ظل العبريون طوال حوالي ألف عام من تاريخهم يعبدون ربهم في خيمة، أو جعلوا من هذه الخيمة بيتا له ومسكنا أسموها «خيمة الاجتماع»، ولم يكن ذلك إلا لأنهم أهل بداوة وتنقل، بينما تمكن فرعهم الإسماعيلي المتصل بالجراهمة العمالقة أن يقيم للرب بناء معماريا بدلا من الخيمة البدوية في زمن مبكر، «ومن يعرف البناء في مجتمع خيموي؟»
وقد سبق لنا في مقال نقدي لمنهج «د. سيد كريم»، ومعالجته لموضوع بعنوان «قدماء المصريين وبناء الكعبة »،
16
أن أشرنا إلى أنه رغم انتقادنا لمنهجه بقسوة، فنحن نتفق معه في نقطة هامة حول القول بهجرة مصرية من «منف» إلى جزيرة العرب، لذلك وجب التنويه أن «د. كريم» أفاد أن الاسم «جرهم» يعني «مهاجري مصر»، وذلك مما يلتقي مع مذهبنا، وكنا نتمنى أن يكون المصدر الذي اعتمده بين أيدينا، لنرفقه بالهوامش زيادة في الفائدة لكنه لم يشر إلى مصادره، وقد أفاد أيضا أن الاسم «مناف» في جزيرة العرب مأخوذ من كلمة «منف» المصرية، وهو قول يمكننا أن نكسبه صلابة وقوة إذا ربطناه بمذهبنا هنا، لأن المناف لغة من القوة والنيف، أي الزيادة في الحجم، فالكلمة بذلك تشير إلى معنى العملقة، كما تلتقي «عبد مناف» مع تعبير ابن خلدون «عبد ضخم»!
أما أكثر المدهشات في أمر «المسعودي» عند الباحثين، وربما اعتبروها من سقطاته وغضوا الطرف عنها، بينما هي لدينا أكثر مقولاته اتساقا مع طبيعة الأمور، وتحتاج إمعان النظر فيها، هي قوله في إشارة خاطفة: «وقيل إن هؤلاء العمالقة بعض فراعنة مصر.»
17
فما أقوى ذاكرة الأجيال التي حفظت تلك الحقيقة عبر سنين طويلة، وما أبلغه من دليل على طرحنا، وشكرا للمسعودي! لكن المشكلة - الظاهرية - أمامنا الآن يثيرها المسعودي نفسه، وذلك في قوله: إن العمالقة قد جاءوا الحجاز مهاجرين من اليمن بعد أن أقحط، وحطوا رحلهم إلى جوار هاجر وولدها وصاهروهما، وهذا يعني أن العمالقة أو الجراهمة من اليمن وليسوا من مصر، خاصة مع قول آخر له عن إسماعيل، وهو أن الله قد «أرسله إلى العماليق من قبائل اليمن»، وهو مما يضع أمام أطروحتنا اعتراضا ابتدائيا، هو لوجه الحق مؤيد قوي لنا، كما سنرى.
والمسعودي لا يقف منفردا في القول: إن العمالقة قدموا إلى الحجاز من اليمن، بل هو واحد في لفيف من الإخباريين المسلمين، الذين يجمعون على حسبان أن كافة الهجرات سواء إلى الحجاز، أو إلى العربية الشمالية، أو إلى الشام، أو إلى الرافدين، قدمت أصلا من بلاد اليمن، وهو ما يحيلنا مرة أخرى إلى إصرار التوراة وتأكيدها المستمر: «وارتحل إبرام ارتحالا متواليا نحو الجنوب». أما تراثنا، رغم ما حوى من تهويلات ومبالغات لايني يفاجئنا بثرائه، وحفظه لذاكرة الأجيال ، فيقول الثعلبي: «ثم نبأ الله إسماعيل «فبعثه إلى العماليق وقبائل اليمن».»
18
وقد علمنا أن الترجمة العربية للتوراة، تترجم اتجاه النبي المستمر نحو «ه-نجب» بأنه ارتحال دائم نحو الجنوب، وهنا تضيء اللغة المنطقة أمامنا، فلكلمة الجنوب مرادف آخر في العبرية هو «يمن»،
19
أما اصطلاحات اللغة العربية الجغرافية، فتشير إلى الشمال بكلمة «الجدي» وإلى الجنوب بذات الكلمة العبرية «يمن»،
20
فالكلمة «يمن» تعني الجنوب، والجنوب كان هدف النبي المرتحل جنوبا أو يمنا، إلى «بلاد اليمن»، كما أن «يمن» ظلت دلالة العقيدة الصادقة، فمن كلمة «اليمن» تأتي كلمة «اليمين» و«أهل اليمين»، والقسم الصادق «يمين». وفي الروض الأنف يضع السهيلي تخريجا يقول: إن اليمن سميت يمنا لوقوعها عن يمين الكعبة،
21
واللغة تنسب بذلك اليمين إلى اليمن؛ لأن أهل اليمين هم أهل الإيمان، والكلمة «إيمان» والكلمة «يمن» من جذر واحد، وكذلك «المؤمنين» مشتقة من الجذر ذاته.
ولا مفر هنا من تذكر أشهر الآلهة المصرية القديمة «آمين» أو «أمون» وكان إله الدولة الرسمي، وظل معبودا بهذا الاسم ما يزيد على ألفي عام، ويعني اسمه في المصرية القديمة «الواحد الخفي»
22
عن الإدراك، ثم نتذكر أن الألف أو الهمزة تقلب ياء في الساميات، فيصبح «آمين» هو «يمين»، ويصبح «آمن» هو «يمن». أما المذهل حقا فهو ما نجده في كتب التراث مصدقا لمذهبنا، فتقول السيرة الحلبية في حديثها عن مأثور قديم، يقول: إن أول من سكن اليمن، من يدعى يعرب بن قحطان، «ويعرب هذا قيل له: أيمن، وسمي اليمن يمنا بنزوله فيه»،
23
وكان من السهل أن تقلب «آمن» أو «آمين» إلى «أيمن»، ولا تختم الصلوات في أي ديانة شرقية حتى اليوم، دون التأمين عليها باسم الواحد الخفي «آمين».
حقيقة إن كل ذلك هو مؤشرات إلى التصور الأوفق لاتجاه العمالقة الجراهمة بني منف، سواء في هجرة، أو في شكل حاميات عسكرية متقدمة، وهو بالطبع لن يكون إلى بلقع الحجاز الأجرد، وهم من اعتادوا الخصب في بلادهم، إضافة للمزية الاستراتيجية لبلاد اليمن، وتحكمها في عنق البحر الأحمر عند المندب، واتصالها الجنوبي بامتداد مصر في أثيوبيا والصومال. ومن هنا نتصور أن تواجدهم كان في المناطق الخصبة، وأخصب بلاد العرب تلك التي خصتها الكتابات الكلاسيكية بوصف «بلاد العرب السعيدة»، وما انتشر فيها من علوم الري وفنونه، والسيطرة على المياه ومجاريها، وهو ما تعبر عنه بصدق وضاء كلمة «يمن» التي تعني الجنوب وتعني بلاد اليمن، وبضم الياء تصبح «يمن»، واليمن لغة هو السعد.
وعند انتهائنا من هذا الجزء من الدراسة، صادفنا ما يصادق على اجتهادنا، في كون الجراهمة هم العمالقة هم المصريون، حيث وجدنا السهيلي يشير إلى عقائد بعض أهل الجاهلية فيقول: «وكان من خرافاتها في الجاهلية، أن جرهما ابن لملك أهبط من السماء لذنب أصابه فغضب عليه من أجله، كما أهبط هاروت وماروت، ثم ألقيت فيه الشهوة، فتزوج امرأة فولدت له جرهما.»
24
والمقصود هنا هو أن «جرهم» من نسل ملاك وإنسية، والعجيب أن ذلك يلتقي تماما مع رواية جاءت في التوراة، تقول: «وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض، وولد لهم بنات، أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسناوات، فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا، كان في الأرض طغاة في تلك الأيام وبعد ذلك أيضا؛ «إذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادا، هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم»» (تكوين 6: 1-4).
وبالربط بين الروايتين نفهم أن الجراهمة هم نسل عجيب لآباء سماويين ونساء أرضيات، أو ثمرة الزواج بين أبناء الله وبنات الأرض، وأن هذا النسل عرف بالطغيان والجبروت، وأن هؤلاء الجبابرة كانوا «منذ الدهر ذوي اسم»، أي معروفين منذ بداية الأزمنة.
ولا نرى في تلك الروايات سوى تصديق لتفسيرنا، فقد ذهب العقل حينذاك إلى احتساب هؤلاء جبابرة أو عمالقة، مع ملاحظة تشابه التعبير التوراتي «جبابرة» مع التعبير العربي «جراهمة»، إضافة إلى إشارة مهمة وخطيرة، فالمعلوم أن المصريين القدماء قد اعتقدوا أن الملك هو ابن الإله وممثله على الأرض، وكانت هذه صفة متواترة، معلومة عنهم،
25
ومن ثم كان ممكنا أن يتصور أهل الجزيرة ضيوفهم في أبهتهم وعبادتهم نماذج إلهية، عضدها الاعتقاد المصري، وذلك يفسر لنا أيضا لماذا اعتبر جراهمة الجزيرة، أو جبابرتها أو عمالقتها من نسل مصري؟ ولماذا احتسبوا عمالقة؟ ولا يفوتنا الاعتقاد العربي في كون جرهم أهبط تلك البلاد لذنب أصابه، مما يشير إلى لجوء عظماء للمنطقة هربا من مطاردة في الأرض الأم، إضافة إلى قول التوراة عن أن الناس بدءوا يكثرون في الأرض، مما يشير إلى توافد أعداد غفيرة إلى المنطقة، وأن هذا التوافد المهاجر كان لأناس يعرفهم الجميع ويعلمهم الدهر، فهم «الذين منذ الدهر ذوو اسم».
فراعنة اليمن
وإذا كنا قد اتفقنا مبدئيا، ولو بصفة مؤقتة، أن النبي إبراهيم عندما غادر مصر، ترافقه زوجته سارة وهاجر المصرية، وابن أخيه لوط، قد اتجهوا جنوبا إلى جزيرة العرب، فأول ما تصف التوراة وجهتهم تقول: إنها إلى أرض «كجنة الرب كأرض مصر» (تكوين 13)، والتعبير يحمل معنى التشابه البيئي، وربما تشابه المسمى أيضا، وهو ما لا يتطابق مع أرض الحجاز، الوادي غير ذي زرع.
وهنا نقف مع الحافظ ابن كثير لنجده يتابع النص الظاهري للتوراة، فيقول: «ثم إن الخليل عليه السلام، رجع من بلاد مصر إلى أرض التيمن، وهي الأرض المقدسة التي كان فيها، ومعه أنعام ومال جزيل»،
1
ويلحظ ابن كثير أنه قد أورد في حديثه كلمة، ربما كانت غريبة على مسامع قارئه هي «التيمن»، فيستدرك موضحا: «التيمن تعني أرض بيت المقدس»،
2
وهو بذلك إنما يتابع التوراة، ويعني ببيت المقدس «بيت إيل الفلسطيني»، ولكن لأن للحقيقة أقدامها الثابتة، فقد نفذت في رواية ابن كثير، تلك الحقيقة التي - لا شك - تواترت محفوظة في ذاكرة الأجيال، حتى وصلته شفاهة أو مدونة، أقصد بتلك الحقيقة اسم تلك الأرض التي توجه إليها النبي عندما غادر مصر، التي ذكرها ابن كثير باسم «التيمن»، والمدقق لا يجد التيمن في فلسطين، وإنما يجدها ترجمة للمعنى الوارد في التوراة أن النبي عندما خرج من مصر «توجه جنوبا»، فالمسعودي وهو يلبس ثوب أستاذ الجغرافيا، ويشرح لنا تضاريس الأرض وحدود البلدان والبحار، نجده يستخدم مصطلحين للدلالة على الجنوب، الأول هو «يمن» أما الثاني فهو «تيمن»،
3
ثم نلجأ للمتخصصين في أركيولوجيا اليمن نستقرئهم عسانا نجد المبتغى، فنجد «فرتزهومل» يحدثنا عن الموضع «يمنت» على الشاطئ الغني بالبخور جنوب حضرموت القديم،
4
و«يمنت» بالقلب هي «تيمن»!
كما لا يغيب عن الفطن أن الكلمة «تيمن» والكلمة «يمن» تشتركان في جذر واحد في حال كون «تيمن» اسما، أما في حالة حسبانها فعلا (مع تشكيل حركات حروفهما بالفتح)، فستكون فعلا ماضيا يعني اتجه إلى اليمن، ارتحل جنوبا، وتيمن بالشيء سعد به واستبشر وبلاد اليمن هي بلاد العرب السعيدة، أو بلاد السعد.
ثم تقول التوراة: «وانتقل إبراهيم من هناك إلى أرض الجنوب، وسكن بين قادش وشور» (تكوين 20: 1)، وتكرر التوراة الإشارة إلى الموضع «شور» عدة مرات، كموضع أو مدينة شهيرة في تلك البلاد الجنوبية التي ارتحل إليها إبراهيم (انظر كمثال: تكوين 16: 7؛ وأيضا 25: 18؛ وأيضا 20: 1)، ولأن الباحثين لم يعيروا مسألة الخروج من مصر إلى الجنوب اهتماما، فقد أخذوا بالقول التوراتي، وحسبوا وجهته إلى «بيت إيل» الفلسطيني، ومن ثم افترضوا أن المقصود من «شور» هو بلاد آشور الرافدية شمال شرقي فلسطين، وكانت تتمركز آنذاك في الجزء الشمالي من بلاد الرافدين.
ومما يشكك لدينا في كون «شور» قصد بها دولة «آشور» الرافدية، فهو قول التوراة في موضع آخر «شور التي أمام مصر» (تكوين 25: 18)، بينما بلاد آشور لا تقع في الطريق إلى مصر، ولا أمامها ولا خلفها، ثم إن التوراة في مواضع أخرى كانت تتحدث عن بلاد آشور بالكلمة «آشور» وعن أهلها ب «الآشوريين»، وليس «شور»، ومن ثم تساءلت: لماذا لا تكون شور حسب أطروحاتي موضعا باليمن، وتكون بذلك من خير القرائن على صدق فروضي؟ وبالفعل أخذت أبحث عن «شور» في بلاد اليمن، وجمعت المعلومات الجغرافية القديمة وإحداثيات الأماكن، ووزعتها على خريطة اليمن، مؤسسا ذلك على فرض أن المصريين الذين تواجدوا في جزيرة العرب (الجراهمة العمالقة بني منف) قد سكنوا اليمن أول أمرهم، وسبق أن أشرنا للمسلمات الموروثة التي سجلها المسعودي وابن هشام في كون العمالقة من بلاد اليمن، وأن على هذا الفرض تتأسس فروض جزئية أهمها أن هؤلاء العمالقة كانوا سببا في إطلاق اسم مصر على منطقة سكناهم في بلاد اليمن السعيد، لكن جهودي ضاعت هباء وأنا أرهق النظر والجهد في خريطة تلو أخرى، وكدت أصرف النظر عن هذا الأمر حتى جاءني الدليل، وأنا أقلب في صفحات موسوعة «د. جواد علي» وهو يؤرخ لدولة قتبان اليمنية القديمة، ويقول: إن أهم المدن القديمة فيها وأكثرها شهرة، كانت مدينة «شور».
5
وعليه يصح ممكنا تدعيم الموقف بمزيد من الأدلة التي أخذت تتتالى وتفرض وجودها.
ومن ثم عدنا إلى تاريخ «أورسيوس» للعالم، وبخاصة للجزء الذي يتحدث فيه عن جغرافية العالم القديم وحدود البلدان، فوقفنا على أمر غاية في الأهمية، فبعد أن يذكر أورسيوس حدود ما يطلق عليه اسم «مصر الأدنى» يبدأ الحديث عما يسميه «مصر الأقصى»، وقد ذهب الباحثون بما فيهم محقق تاريخ أورسيوس نفسه «د. عبد الرحمن بدوي» إلى أن مقصد أورسيوس بمصر الأدنى هو منطقة الدلتا والوجه البحري من مصر، أو ما اصطلح على تسميته بمصر السفلى، وأن مقصده بمصر الأقصى هو الجنوب المصري أو صعيد مصر، أو ما اصطلح على تسميته «مصر العليا».
ولكن لو تابعنا أورسيوس سنجده يقول: «وأما مصر الأقصى فإنها بلد ممتد إلى «ناحية المشرق»، وحده في الجوف هو خليج العرب، وفي القبلة البحر المحيط، وفي الغرب مبتدأ من مصر الأدنى وفي الشرق بحر القلزم.»
6
وما يجب التنبيه إليه هنا، هو أن أورسيوس يتحدث عن مصر الأقصى، بالنسبة الإحداثية لمصر الأدنى، فيقول: إنها بلد ممتدة إلى ناحية المشرق، وعليه فلا يمكن أن يكون الصعيد هو المقصود؛ لأنه يقع جنوب مصر وليس شرقها، والمشرق بالنسبة لمصر ليس شيئا آخر سوى جزيرة العرب، ثم إنه يضع أول حدود مصر الأقصى وأعلمها «خليج العرب»، وخليج العرب ليس حدا من حدود مصر عليا أو سفلى، صعيدا أو دلتا، ثم إنه يضع الحد القبلي «القبلة» أو الجنوبي «البحر المحيط». وجنوب مصر هو عمق أفريقيا وليس في جنوبها بحار، فما بالنا والحد «بحر محيط»؟! أما جزيرة العرب، فحدها القبلي أو الجنوبي هو فعلا بحر محيط، وهو الذي نعرفه بمصطلحات اليوم باسم «المحيط الهندي».
وفي موضع آخر يتحدث «أورسيوس» عن الزمان الذي مات فيه يعقوب النبي حفيد إبراهيم النبي، فيقول: «وفي ذلك الزمان مات شرايس أمير مصر، الذي زعموا أنه صار من الأوثان»!
7
وأول عجب هنا أن «أورسيوس» أو غيره من المؤرخين قد اصطلحوا في حال حديثهم عن ملوك مصر الكبرى سيدة بلاد الشرق القديم، باسم «الفراعنة»، ولم يذكر التاريخ حالة واحدة أشارت لملك مصري بغير اصطلاح فرعون، وعندما خرج القرآن الكريم على مألوفة في نعت ملك مصر بفرعون، وأطلق على ملك مصر زمن النبي يوسف اسم «العزيز»، كان ذلك مدعاة للشك في هوية الجالس على عرش مصر آنذاك، وذهبت طائفة محترمة من الباحثين - لهذا السبب - إلى حسبان حكام مصر في ذلك العهد لم يكونوا مصريين، بينما ذهب بعضهم إلى افتراض أن يوسف وأهله دخلوا مصر وقت احتلالها من الهكسوس، لذلك أطلق القرآن الكريم على الملك المصري في عهد يوسف اسم أو لقب «العزيز»، فما بال «أورسيوس» يتحدث عن «شرايس أمير مصر»؟ أما مصر نفسها فلم تعرف نصوصها كلمة أمير، إلا للدلالة على ولاتها المنوبين عنها في ولاية البلدان التابعة لها، ونواب الفرعون على الأمصار الخاضعة للإمبراطورية، إضافة إلى أننا قد بحثنا في قوائم ملوك مصر، وعلى مختلف القراءات، فلم نجد ملكا حكم مصر باسم «شرايس»، أو «شرا» بعد حذف التصريف الاسمي «الياء والسين»، لكن ما نعرفه يقينا أن بلاد اليمن قد عبدت معبودا باسم «ذي الشرى»، وأنه قد انتشرت عبادته من اليمن إلى مختلف بقاع الجزيرة، حتى زمن الدعوة الإسلامية، واحتفظ بأصله اليمني محفوظا في اللازمة «ذي»، على غرار «ذي يزن، ذي نواس» ... إلخ،
8
ولدينا افتراض إضافي هو أن المصريين القاطنين بلاد اليمن، ربما تمثلوا الأم الكبرى مصر في معبود «ذي الشري»؛ لأن «ذو شريت» كان اسما من أسماء مصر وبالتحديد الهضبتين.
نحن هنا إذن مع «مصر الأقصى» مع مصر أخرى غير التي نعرفها، مصر تقع في طريقها مدينة «شور»، وأنشر حدودها خليج العرب وبحر محيط، وعبدت «ذي الشري» إضافة إلى حدها الغربي وهو مصر الأدنى، والذي لا شك قصد به «أورسيوس» مصر الكبرى التي نعرفها التي امتدت يدها الإمبراطورية؛ لتطوي حدود بلدان ذلك الزمان، فطوت السودان، ونالت من الحبشة، ووصلت حملاتها إلى بلاد «بونت» الصومال، وفرضت على ملكتها الحماية المصرية، لذلك يكون طبيعيا تماما أن تكون حدود مصر الجنوبية، فيما وصل أورسيوس من علوم القدماء، تقع إلى الغرب من مصر الأقصى، أو ما افترضناه بلاد اليمن، ولا يفصلهما سوى مضيق باب المندب الذي لم يمنع الاتصال بين البلدين طوال عصورهما (الحبشة واليمن)، لذلك كان تعبير أورسيوس الذي يغرب على بال أهل زماننا، لكنه كان مفهوما تماما لأهل زمانه، «وفي الغرب مبتدأ من مصر الأدنى»!
ومن أهم ألغاز التاريخ الكبرى، والأحجية التي حيرت ذوي الحجا، ولم تزل تلك القبور الهرمية والهضبية الهائلة في «عمان»، وفي واحة «يبرين»، وفي «ساحل الحسا»، وفي جزيرة «البحرين»، وبلغ عددها في جزيرة البحرين وحدها حوالي 15000 قبر (وذلك حسب تقدير الآثاري إبراهيم معاوية)، أو حوالي 172093 (وذلك حسب تقدير الآثاري لارسن)، تضم ما يزيد على 516279 قبرا إفراديا.
واللغز هنا يكمن في أن هذا العدد الهائل من القبور، لا يتناسب مع عدد سكان البحرين، الذي لم يزد وقت ازدهارها على 9618 نسمة في أعلى التقديرات. لذلك كان أهم افتراضات حل اللغز، أن تلك القبور قد أعدت كمكان للدفن المقدس، لسكان وادي الرافدين، لكن أخطر اعتراض يواجه هذا الفرض هو أنه لم يعثر في النصوص الرافدية ذاتها حتى الآن، على ما يشير إلى اعتقاد الرافديين القدماء، في حياة سعيدة في عالم خالد من بعد الموت، بل إنهم لم يعتقدوا في البعث أصلا، حتى نتصورهم يعيرون الموت كل هذا الاهتمام ببناء مقابر هضبية، ومصاطب هرمية هائلة.
ويزيد الأمر بعدا عن الإقناع، هو أن تلك المقابر قد بنيت خارج حدود الرافدين، مما يدفع إلى التساؤل عن وجاهة السبب الذي يدفع لكل هذا العناء، في نقل رفات الموتى من بقاع شتى في الرافدين ليدفنوا على سواحل الخليج العربي وعلى مبعدة أكثر من ثلاثمائة ميل أو يزيد! ومن هنا ظلت هذه القبور التي تنوف على نصف مليون قبر، وتعد أكبر مقبرة في الشرق القديم، لغزا غير قابل للحل، مما دفع آخر من بحث هذا الأمر (كارلوفسكي)، إلى أن يرفع صوته متسائلا مستنكرا: «إنها ظاهرة تتطلب تفسيرا، إلا أن الجميع قد تجاهلوا ذلك.»
9
والحقيقة أن طرحنا لم يتركنا في موضع واحد مع المتجاهلين، ووفق خطنا المنهجي لا نرى في الأمر ألغازا ولا أحاجي تطلب تفسيرا؛ لأن الشعب الوحيد في الشرق القديم الذي اهتم بتسخير جميع أنشطته الدنيوية من أجل حياته الأخروية، واعتقد جازما في عالم سعيد آخر، هو الشعب المصري بلا منازع، وهو الشعب الذي تميز بكثافة سكانية هائلة، تسمح أن تكون هجرة القليل منه كما كبيرا، قياسا على جيران من الأمم، ناهياك عن أن هؤلاء المهاجرين كانوا يشملون العدد الأكبر من العارفين بأصول الدين.
وعند بحثي عن كل ما يهم موضوعي في الكتب التي تناولت تاريخ اليمن، وجدت عند المؤرخ اليمني «أحمد حسين شرف الدين» معلومة خطيرة؛ إذ يجزم بيقين أن الأمة التي عاشت هناك أو آنذاك كانت لا تقل عن أربعين مليون نسمة،
10
وهو ما لا يمكن تصوره إذا قصرنا النظر على مجموعة البدو الخيمويين المستقرين هناك، لكن يمكن قبوله في ضوء ما سبق وطرحناه.
وعندما كنت على وشك إغلاق هذا الجزء من الدراسة، فاجأني دليل مهم وخطير، يصادق تماما على أطروحاتنا، ولوجه الحق إننا لم نتوقع مثل هذه القرينة المبينة في الظروف الراهنة على الأقل، وقد جاءنا الدليل في شكل خبر بالنشرة الإخبارية للصحافة بالتلفاز المصري، والتي تذاع حوالي الحادية عشرة صباحا يوم 22 / 2 / 1988م، ويقول الخبر: إنه قد اكتشف في مقابر جزيرة البحرين عدد من الجعارين الفرعونية، إضافة إلى تمثالين صغيرين لأبي الهول المصري، وقد تأكدت مصرية هذه القطع النادرة من الكتابة الهيروغليفية المنقوشة أسفل التماثيل، وفي ذات اليوم بحثت في الصحف المصرية عن مزيد، فوجدت الخبر ينزوي في ركن صغير من الصفحة الأخيرة بصحيفة الأهرام، ويقول: «أبو الهول صغير، اكتشافه في البحرين: عثر في البحرين على نماذج صغيرة لتمثال أبي الهول، وقد نقشت أسفله بعض الكتابات الهيروغليفية في أحد مدافن قرية سادة شمالي البحرين، وصرح عبد العزيز صويلح مراقب الآثار بإدارة السياحة والآثار بدولة البحرين، بأنه قد عثر على تمثال أبي الهول الصغير الذي يعتقد أنه يستخدم كنوع من الأختام، وذلك ضمن مدفن خاص بامرأة.»
إلى هنا ينتهي الخبر الصغير عن أبي الهول الصغير، الذي انزوى في الصحيفة، ربما عن استهانة بشأنه، لكن غاية ما نرجوه في ضوء ما قدمناه من شواهد في هذا البحث أن يعيد الباحثون إليه قيمته وقدره، ولربما أفرد لأبي الهول الصغير بعد ذلك صفحات، تليق بدلالات سفره الطويل إلى الساحل الشرقي لجزيرة العرب منذ ألوف السنين، ثم نجد أكثر من رواية إخبارية تشير إلى وقوع بعض الناس على مقابر آثارية، أيام الجاهلية والإسلام يمكن بالتدقيق فيها، أن تجد العين الفاحصة أكثر من علامة مصرية قديمة، رغم ما شاب هذه الروايات من مزاعم تلفيقية ومبالغات، وتخريجات ناتجة عن عدم إمكان التفسير الصادق، فاتجهت إلى تفاسير مزعومة تلتئم وواقع الفكر هناك وحينذاك، فيقول برهان الدين الحلبي في السيرة: إنه «في زمن عمر بن الخطاب، فتحت تستر المدينة المعروفة، فوجدوا تابوتا، أو في لفظ سريرا، عليه دانيال عليه السلام، ووجدوا طول أنفه شبرا، وقيل ذراعا، ووجدوا عند رأسه مصحفا، فيه ما يحدث إلى يوم القيامة.»
11
ومعلوم أن العرب لم يعتادوا الدفن في غرف أو أقبية، كما لم يعتادوا دفن موتاهم في توابيت، أو وضعهم على أسرة، والمواصفات الواردة في الرواية تطابق إلى حد مثير، أسلوب قدماء المصريين في دفن موتاهم، إضافة إلى ما أسماه النص مصحفا أو كتابا، وهي عادة مصرية بحتة، وهو المعروف باسم «كتاب الموتى»، وكان يوضع في قبور الموتى بلا استثناء، ليهدي الميت في آخرته سواء السبيل. أما القول إن المقبرة المكتشفة في تستر المدينة كانت لدانيال النبي أو غيره؛ فإنه من قبيل التخريجات لتفسير ما ليس له تفسير. فواضح أن المقبرة كانت فخمة إلى حد احتاج معه المفسرون إلى شخصية تتناسب وعظمتها، ولم يكن العهد آنذاك يرى من هم أعظم من الأنبياء، كما لم يكن ممكنا الزعم بأنها مقبرة نبي معلوم الشأن، لما في ذلك من حساسية تشوبها القدسية والتابو، ومن هنا لم يكن ثمة بأس من اختيار نبي توراتي مثل دانيال، لا تزعج المسلمين مسألة دفنه سواء على سرير أو في تابوت، في كثير أو قليل.
وثمة رواية أخرى أكثر إفصاحا عن المصرية، واضح أنها تتحدث عن كشف لمقبرة من نوع خاص. فيروي السهيلي، حديث عبد الله بن جدعان، وهو شخصية حظيت بالأهمية، حتى سجلها كتاب التراث المسلمون بعد زمان، لما حالفه من حظ الثراء المفاجئ والغنى الذي لم يبلغه غيره، فيقول: «وكان ابن جدعان في بدء أمره صعلوكا ترب اليدين، نفاه أبوه وحلف ألا يؤويه أبدا، فخرج في شعاب مكة حائرا بائرا يتمنى الموت أن ينزل به، فرأى شقا في جبل فظن فيه حية، فتعرض للشق يرجو أن يكون فيه ما يقتله فيستريح، فلم ير شيئا فدخل فيه، فإذا ثعبان عظيم له عينان تقدان كالسراجين، فحمل عليه الثعبان فأفرج له، فانساب عنه مستديرا بدارة عندها بيت، فخطا خطوة أخرى فصفر به الثعبان وأقبل عليه كالسهم، فأفرج عنه، فانساب عنه قدما لا ينظر إليه، فوقع في نفسه أنه مصنوع فأمسكه بيده، فإذا هو مصنوع من ذهب وعيناه ياقوتتان، فكسره وأخذ عينيه ودخل البيت، فإذا جثث على سرر طوال لم ير مثلهم طولا وعظما، وعند رءوسهم لوح فضة فيه تاريخهم، وإذا هم رجال «من ملوك جرهم»، وإذا في وسط البيت كوم عظيم من الياقوت واللؤلؤ والذهب والفضة والزبرجد، فأخذ منه ما أخذ، ثم علم الشق بعلامة وأغلق بابه بالحجارة، وأرسل إلى أبيه بالمال الذي خرج به يسترضيه ويستعطفه، ووصل عشيرته كلهم، فسادهم وجعل ينفق من ذلك الكنز، ويطعم الناس ويفعل المعروف.»
12
ولعله واضح أن كلتا الروايتين تبالغ في أحجام المومياوات المكتشفة ؛ فأنف المزعوم أنه دانيال من شبر إلى ذراع، والجثث التي عثر عليها ابن جدعان لم ير مثلها هولا وعظما، وهو أمر يعكس الظن الصادق من جانبنا في أصل أصحاب هذه المقابر، وأنهم ربما كانوا عمالقة، لذلك كان السهيلي سهلا في فهمه، فأضاف دون حرج عن هذه المومياوات قوله: «وإذا هم رجال من ملوك جرهم»، وهو ما يصادق على زعمنا أن العمالقة هم الجراهمة هم المصريون، كما لا يحتاج لبيان قصة الثعبان، الإله المصري «مجر-ست» الثعبان، حامي التيجان والتميمة المقدسة، وحامي المقابر الملكية، وكانت توضع له نماذج في مقابر العظماء من الذهب الخالص، ويطعم بالأحجار الكريمة، هذا إضافة إلى اكتشاف ابن جدعان أنه مصنوع، رغم الإخراج الفني للرواية الذي يزعم له حركة وهجوما ... إلخ، إضافة إلى أن لوح الفضة عند الرأس والقدمين يسجل الابتهالات من أجل الميت، هو طقس مصري قديم، واضح المصرية. وإذا كنا قد وقعنا إبان بحثنا على مثل هذه النوادر، في كتب الأخبار الإسلامية فلا ريب أن الذي لم يصادفنا أكثر، كما لا شك أن مثل هذه النوادر والكشوف لم تكن كل الكشوف الحقيقية، إنما فقط ما وجد منها طريقه إلى التسجيل، إضافة إلى حسبان أنها كشوف تمت بالصدفة البحتة، مما يشير إلى عدد لا شك كبير من القبور التي تناثرت على صفحة الجزيرة تعلن عن أصحابها.
أما الأمر العظيم لأمرنا هذا، ذاك الذي أدهش أهل التاريخ، ولأن المدهشات في التاريخ كثيرة، فقد اكتفوا بإبداء الدهشة ووضعوا أمامه علامات التعجب، وسجلوا حوله استفهامات تطلب إجابات لم تأت أبدا، ثم غلفوه بعناية وحفظوه في سلة مهملات التاريخ، وأرشفوه ضد مجهول!
وهو ما يوجزه الباحث العراقي، والمؤرخ الكبير «طه باقر» يلخص فيه أمر هذا المدهش، واتجاهات أصحاب الرأي فيه، في كتاب من أضخم كتبه وسمه باسم «الوجيز» يقول فيه: إن نصوص الحضارة الرافدية، كانت تتحدث عن بلاد ذات علاقات مستمرة مع بلاد الرافدين القديمة، أهمها «قطران» ترافق ذكرهما في النصوص المسمارية، مما يشير إلى تجاورهما، وهما: قطر «مكان» بكسر الميم، وقطر «ملوخا»، ويوضح أن الباحثين قد اتخذوا قرارا باعتبار «مكان» هي منطقة «عمان» الحالية بجزيرة العرب، وقد أشارت النصوص المسمارية إلى واحد من ملوك القطر «مكان» باسم «مانيئيم»، وأنه كان معاصرا لفترة حكم الملك الرافدي «نرام سين»، أما القطر الثاني «ملوخا» فقد عينه الباحثون بالحبشة الحالية.
13
أما ذلك المدهش الذي ظل بلا إجابة، فيأتي في تساؤل «طه باقر»: «ومع أن الاسم مكان كان يطلق على منطقة عمان في العصور القديمة، إلا أن الاسم نفسه صار يطلق في العصور المتأخرة من تاريخ العراق القديم على بلاد مصر، الأمر الذي يثير تساؤلا محيرا، هو: هل كان المقصود من قطر مكان وملكه مانيئيم في عهد نرام سين بلاد مصر؟!»
14
ولا يغيب عن القارئ أن عمان أرض يمنية، ولم تزل تحسب كذلك، كما لا يغيب عنه أيضا أن الأستاذ باقر، قد اكتفى بطرح السؤال وإبداء العجب، وتجاوز الأمر بعد ذلك إلى سرد باقي تفاصيل تاريخ العراق القديم.
وعند المسعودي رواية يتحدث فيها عما يسميه بحر الزنج، فيقول: «وقد ركبت أنا هذا البحر من مدينة سنجار، وهي قصبة بلاد عمان، مع جماعة من نواخذة السيرافيين، وهم أرباب المراكب، وذلك بميكان وهي محلة سيراف»،
15 (لاحظ أن الكلمة سيراف تعني ثعبان، والسيرافيون إذن هم أصحاب الثعابين، ولا ننسى الطقس المصري في وضع نموذج مصنوع للحية على الرأس كتميمة للحماية).
إذن فالمسعودي كان يعرف في بلاد اليمن موضعا باسم «ميكان»، واستخدم الرافديون القدماء اسم «مكان» للدلالة على بلاد يمنية وعلى أرض مصرية في الوقت ذاته، مما شكل إزعاجا للباحثين، لا نرى له محلا بعد أطروحاتنا وما قدمناه من قرائن، تفترض أن اليمن حازت اسم مصر بأهلها من مصريين، كما أن الاسم «مانيئيم» الذي أشير إليه في النصوص المسمارية كملك لبلاد «مكان»، في ضوء التحليل اللغوي يمكننا أن نرى فيه شاهدا على فرضنا، فهو بالقلب يصبح «يمنيم»، والكلمة يمنيم في اللغات السامية العراقية، وفي العبرية، هي جمع للمفرد «يمني».
أما الذي يجب أن نذكره الآن فهو أن أداة التعريف اليمنية، كانت «ن» تلحق بآخر الكلمة، وعليه فإن «مكان» إنما هي «مكا»، وهو ما يجعلنا نفهم بوضوح حديث النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
الذي كان فيما يبدو واضح المرامي لدى المسلمين الأوائل، وهو يقول
صلى الله عليه وسلم : «ما هنا يمن وما هنا شام، «فمكة من اليمن».»
16
وقوله
صلى الله عليه وسلم : «أتاكم أهل اليمن، وهم أرق أفئدة وألين قلوبا، «الإيمان يمان»، والحكمة يمانية»،
17
وقوله
صلى الله عليه وسلم : «أنا يمان والحجر الأسود يمان، والدين يمان»،
18
وفي الحديث أيضا: أن أول من أجاب إبراهيم حين أذن بالحج هم «أهل اليمن»،
19
وروى البخاري أن الرسول
صلى الله عليه وسلم
قال: «الإيمان ها هنا، «وأشار بيده إلى اليمن».»
20
وقبل أن نستطرد في الحديث عن، «مكة اليمنية» بعد الدليل النقلي عن محمد
صلى الله عليه وسلم : أن مكة من اليمن، لا بأس من ذكر بعض التداعيات، فالصفة «أم القرى» صفة مكة، وتعني أم البلاد أي أم الدنيا، والنعت «أم الدنيا» يستدعي مصر حتى لو لم تذكر بالاسم، وفي دراسة الباحث «نجيب البهبيتي» لملحمة جلجامش الرافدية يذهب إلى أن الملحمة من أصل يمني، وهذا لا يعني موضوعنا، لكنه في معرض هذه الدراسة مر مرور الكرام، على معلومة تعنينا تماما، وهي أن الباحثين قد وصلوا إلى أمر شبه مؤكد، يؤكد «أن أقرب اللغات القديمة إلى لغة المصريين القدماء، هي اللغة اليمنية القديمة»!
21
أما نحن فقد لحظنا شبها كبيرا بين طريقة تخطيط الخط اليمني المسند، وبين خطوط الكتابة السينائية، (في عام 1905م عثر فلندر بتري في مناجم النحاس المصرية، بوادي معرار غربي سيناء، بين السويس ورأس محمد، على رسوم بدائية وأحد عشر نقشا في أبجدية جديدة، خليط بين الهيروغليفية وإشارات أخرى أجنبية)، وقد عقب المؤرخ والآثاري «ديتلف نيلسن» على هذه الكتابة بقوله: «إنها تشير إلى الأصل المصري للأبجدية، أو الأبجدية الأم، وترجع إلى 1800-1500ق.م وهي الحلقة المفقودة في تطور الأبجدية»،
22
بينما عقب الآثاري «فرتز هومل» بالقول: «إن هذه الكتابة تؤكد العلاقة بين الأبجدية السامية والمصرية ، لأنه من المستبعد أن توجد أبجديتان مرتين في العالم القديم، ومستقلتان عن بعضهما، وتستخدمان الحروف الصامتة وإشارات الهمز.»
23
وهذا يعني لدينا أن الاتصال الذي حدث بين المصريين والساميين، وراء هذا التطور في الأبجدية، التي انتقلت إلى مسند اليمن بعد ذلك، (وفي ضوء هذه الملحوظات قد نرجو أن يجد بحثنا هذا طريقه إلى اقتناع باحث مهتم بالكتابة القديمة، حيث تفوق دراسة هذه النصوص - دراسة دقيقة - قدراتنا، فلكل أربابه والعارفون بدقائقه ومنمنماته).
وملحوظة أخرى مهمة في هذا المجال، هي أنه قد عثر مؤخرا على منطقة أثرية شمالي شبه الجزيرة العربية، ثبت أن دولة معان اليمنية، قد أقامتها في هذه المنطقة كمستعمرة متقدمة، ومحطة ترانزيت تجارية، باسم «معان مصران» والترجمة الدقيقة لاسم هذه المستعمرة هي: معان المصرية!
أما ما لفت النظر فهو عدم إمكان وجود تفسير مقبول لهندسة ري متقدمة إلى حد كبير ومتميز في اليمن القديم دون سوابق وتمهيدات، وما كان ممكنا أن تنشأ دون خبرات طويلة سابقة، لا تتوافر إلا لدى سكان مناطق نهرية من الأصل، وهو ما يمكن وضعه كقرينة مع سابق أدلتنا على سكنى المصريين بلاد اليمن.
مكة اليمنية
في النقوش المكتشفة حتى الآن، في آثار الجنوب العربي، ورد اسم غريب «أكثر من ألف مرة»، وكان واضحا أنه علم على إله معبود، زعم الباحثون في آثار اليمن أنه اسم لمعبود سبئي، كما زعموا أنه كان إله القمر، ويعد أشهر معبودات اليمن طرا، وقد اجتهد هؤلاء في فهم الاسم ما بين اللامع والثاقب هذا هو الإله الذي سجلته النقوش باسم «المقة».
1
لكن على الجانب الآخر، يكشف لنا القرآن الكريم أن سبأ قد عبدت الشمس، وجاء ذلك في قول الهدهد لسليمان، وهو ينقل له خبر ملكة سبأ:
وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله (النمل: 24). والمعلوم عن عبادة الشمس أنها تسود في المناطق النهرية والبلدان الزراعية، لما تقوم به الشمس من دور أساسي في حياة النبات ونضوج المحصول، لذلك عبدها السومريون باسم «أوتوا
AUTU »، وعبدها البابليون وهم شعب سامي بالاسم «شمس
SHAMASH »، والمصريون عبدوا الشمس باسم «رع
RA »، و«آمون رع
RA-AMON »، و«آتوم رع
RA-ATUM ». وفي كل الحالات كان هو رب الدولة والعرش، أما القمر فكان في العادة معبود الصحراء والبدو، لما له من أهمية في ليلها الموحش، ومن ثم فإن إشارة القرآن الكريم لعبادة دولة سبأ اليمنية للشمس، إشارة واضحة لارتباط هؤلاء أيضا بالفلاحة والزرع، ويقول السهيلي: «وسبأ اسمه «عبد شمس وكان أول من تتوج» من ملوك العرب.»
2
ورغم أن الأمر ليس بقاعدة دائمة، ولا يمنع عبادة كلا الجرمين في أرض واحدة، فإن إشارة القرآن الكريم لعبادة الشمس في دولة سبأ، إنما تعني أنه كان الإله المعتبر لديهم عن بقية الآلهة، ومن ثم دفعتنا إشارة القرآن الكريم إلى مزيد من البحث وراء جذور سبأ، وكانت المفاجأة العظيمة أن يعلمنا الآثاري «فرتز هومل» أن هناك إشارات لا مجال للخلاف حولها، تؤكد قدوم السبئيين إلى بلاد اليمن، نازحين من مكان ما في الشمال. أما المفاجأة الثانية، فهي أن دولة سبأ بوجه خاص قد تميزت بكثرة الملكات من النساء، وهو أمر إن كان غريبا تماما على الطبع البدوي، فإنه بشواهد التاريخ وطبيعة المجتمع، لم يكن غريبا على المصريين! فأثار الرافدين تذكر في نصوص «بتجلتجسلر الرابع» ملكة من سبأ باسم «سمس»، كذلك أشارت نصوص الرافدين إلى ملكة سبئية باسم «زبيبي»، كذلك أشارت نصوص العاهل الرافدي «أسر حدون» إلى ملكة سبئية دون أن يشار إليها بالاسم، وأخرى ذكرتها نصوص «سنحريب» ومن أسماء ملكات سبأ اللاتي أنشأن علاقات مع حكومات الرافدين، الملكة «يثعي» والأميرة «تبوءة» أيام حكم الملك الرافدي «أسر حدون».
3
ولكن كان لعبادة القمر أيضا دورها لدى سكان اليمن وكل بادية العرب، فقد عبده القتبانيون والحميريون بالاسم «عم» وعم القبيلة سيدها، وعبده الحضارمة باسم «سين» و«ياسين»، وعبده المعانيون بالاسم «ود» وعبده السبئيون كما سبق وأشرنا، حسبما يذهب المؤرخون باسم «المقة»، وإن كان لدينا تصور خاص يذهب إلى أن عبادة «المقة» تمثل نوعا من التطور في العبادة، ومبعثنا إلى ذلك هو أن كل أنواع الآلهة التي ذكرها الإخباريون المسلمون عن عبادات العرب قبل الإسلام ذكرت شتى أنواع الآلهة بأسمائها عدا «المقة»، رغم أنه كان أشهر هذه الآلهة، ولم يكد يخلو نقش من اسمه، ومع ذلك وجدت جميع الآلهة طريقها للتدوين في كتب الأخبار بينما لم يرد اسم المقة بالمرة، وهو ما أثار حيرة الباحثين ودهشتهم ولم يزل! ومن هنا وقفنا مع «المقة» ذلك الاسم الغريب، نحاول الفهم.
ووجه الغرابة في نظرنا يكمن في أمرين: الأمر الأول، ويتعلق بحرفي «ال» في أول كلمة «المقة»، ونحن نعلم أن أداة التعريف في العربية الشمالية كانت هي «ه» في أول الكلمة، مثل «هبعل» أي الإله «هبل»، ثم أهملت العين بالتخفيف، لينطق بعد ذلك «هبل» كبير أصنام الكعبة زمن البعثة الإسلامية، أما في العربية الجنوبية، فكانت أداة التعريف هي حرف «ن» يلحق بآخر الكلمة، مثل قولهم: «رحمنن» أي «الرحمن»، ومن ثم كان تساؤلنا: ما هي دلالة الألف واللام في اسم «المقة»؟!
أما وجه الغرابة الثاني، فيتعلق بحرف التاء الأخير في «المقة»، وحرف التاء مضافا أو لاحقا بآخر الكلمة، سواء عربية شمالية أو جنوبية، فكان غرضه التأنيث، بينما تفهمنا النصوص، التي راجعناها أكثر من مرة عند «جلازر» و«هوميل» و«نيلسن» و«كانالكيس» وغيرهم، أن المقة إله ذكر، ومن ثم كان تساؤلنا الثاني عن الحكمة من إضافة «تاء» التأنيث لاسم علم، يدل على معبود ذكر!
وقد سبق لنا أن عالجنا هذه الجزئية في بحث مستقل، نشرته الكرمل «عدد 26 تصدر في نيقوسيا»، وبدأنا بالمشكلة الأولى «الألف واللام - إل»، ووجدنا حلها في عدة إشارات، نذكر منها إشارة «موسكاتي» إلى شخصية إلهية، وصفها بأنها غامضة، تحمل اسم «إل»،
4
وقد سبق وأشرنا إلى معبود عبراني يحمل ذات الاسم «إل»، وكان قبل ذلك علما إلهيا معروفا في بلاد الرافدين والشام القديم، وإشارات أخرى أكد فيها «نولدكه» وآخرون، وكذلك «د. جواد علي» أن «إل» كان إلها معروفا في عبادات الشعوب السامية القديمة بلا استثناء،
5
إلا أن هؤلاء لم يوضحوا لنا دلالته بشكل صريح، كذلك أكد «ديتلف نيلسون» أن معبودا باسم «إل » كان معروفا في كل بقاع جزيرة العرب (ونيلسن من أبرز أركيولوجيى الجزيرة وبخاصة الجنوب العربي)، ويرى أنه كان اسما ذا دلالة عامة، فيقال: «إل كذا»، ويتبع «إل» باسم الإله المقصود، ويضيف «نيلسن» أن «إل» ورد كعلم لإله خاص في النقوش السبئية والقتبانية،
6
ورغم أهمية هذا الأمر فإن نيلسن لم يوضح لنا أي إله خاص تسمى بالاسم «إل» وعلى أية منطقة من الطبيعة، أو على أية ظاهرة طبيعية كانت دلالته، هذا وقد أفادنا «ريكمانز» أن «إل» قد جاء في النقوش السبئية، يحمل اللقبين «فخر» بمعنى العظيم، و«تعلى» بمعنى تعالى،
7
أما هوبر فقد أثمرت أبحاثه ونشاطه، الكشف عن «إل» في النقوش الثمودية بالصيغة «إله-ن»،
8
وباعتبار حرف «ن» الأخير هو أداة التعريف، فإن المعنى واللفظ سيكون «الإله» أو «الله».
وتأسيسا على هذه المعاني يمكننا الزعم أن حرفي «أ» و«ل» في أول المقة، إنما تعني الله أو الإله، وبذلك تتركب كلمة «المقة» من مقطعين أو ملصقين، وهي خاصية في اللغات السامية، فتعني الإله أو الرب «مقة»، ونتذكر مرة أخرى أن الإخباريين المسلمين، كان واضحا أنهم لا يعلمون شيئا عن «الرب مقة» سيد أرباب الجنوب.
وتبقى الإشكالية الثانية، وهي «تاء» التأنيث في «المقة»، وأتصور حلها يمكن استخلاصه من نص قتباني، يشير إلى الذبائح المقدسة بقوله: «مختن ملكن بمكي»،
9
وتأخذ الباحثة «منقوش» بترجمته إلى «المذبح الملكي بالموضع مكي»، وعليه فالنص يشير إلى موضع للذبح المقدس وتقديم القرابين، وأن هذا الموضع يقع في منطقة تحمل الاسم «مكي» مع ملاحظة تعبير النص الأصلي «مختن» فهو يعني مقر «الختان»، والختان كما هو معلوم كان شرعة مقدسة، تمارس في أيام محددة في أماكن مقدسة، لدى الشعب المصري بوجه خاص، ولم تزل تمارس في مقامات الأولياء وموالدهم حتى اليوم، إضافة إلى أن المختن تعني أيضا المذبح.
وهنا يثور التساؤل الحذر: إذا كان المعبد المقدس للإله حيث تتم عملية الختان، أو تقديم الأضاحي، يقع في منطقة «مكي»، فهل هناك علاقة بين اسم الإله الغامض «المقة» أو «الرب مقة»، وبين «مكي» في النص: مختن ملكن بمكي؟
هناك مشكلة ظاهرية يمكن أن تواجه هذا الاقتراح، وهي أن النص قتباني، وقتبان كانت تعبد الإله القمر باسم «عم» وليس باسم «المقة»، إلا أن هذه المشكلة الظاهرية يمكن أن تساعد على الحل، ولنطرح تصورنا لهذا الحل في الخطوات التالية: (1)
ورد عند ابن طيفور المصري، وعند القيرواني، أن بعض أهل اليمن كانوا يقلبون القاف كافا، كما يفعل أهل فلسطين اليوم، وكثير من المناطق الأخرى، وفي اليمن ذاتها، ومن هنا لا نستبعد العلاقة بين «مكي» و«مقة». (2)
إن إشارة النص القتباني إلى المذبح الملكي بكونه في الموضع «مكي» مع ما عرفناه عن تقديسهم للإله «إل» وتلقيبهم له باللقبين «فخر» و«تعلى»، والصيغة التي يعتبرها «هوبر» لقيته، أقصد «إله-ن» أي «الله» وتشير إلى «إل»، ومع ما علمناه عن «إل» كعلم ذي دلالة خاصة على إله خاص لدى القتبانيين والسبئيين معا - فيما زعم نيلسن - ومع ما افترضناه حول كون «الألف» و«اللام» في أول «المقة» إنما هي «إل» أي إله أو رب، مع هذه المجموعة من الإشارات، نجدنا شبه مضطرين إلى استنتاج أن معبد «إل» على الأرض، سواء كان قتبانيا أم سبئيا، إنما كان يشار إليه بالاسم كان يشار إليه بالاسم «مكي»، ويقدس معبده ومحيطه كحرم خاص له. (3)
ومن هنا نقترح أن يكون اسم «المقة» ليس خاصا بإله خاص، إنما يعني «إل مقة» أو «إله مكي». وهنا ننتقل خطوة أخرى فنحتسب ترجمة النقش «المقة» إلى «الرب مقة» ترجمة غير دقيقة، ويجب أن تكون «إله مكي» أي إله المعبد المسمى «مكي»، وبذلك لا يعد لفظ «المقة» اسم علم يطلق على إله القمر السبئي - كما زعم الباحثون - إنما يصبح مع هذا الاجتهاد بمعنى «رب البيت» أو «بيت الرب»، ويعضد ذلك أنه فيما يبدو كانت كلمة «مك» أو «بك» تعني البيت، أو ربما البيت المقدس في اللسان السامي، ومثال لذلك معبد «بعلبك» في لبنان، والكلمة «بعل-بك» تعني بيت البعل، وكان البعل إلها كنعانيا فينيقيا في تلك المناطق كإله للخصب والخضرة والنماء وربا للمياه والغيث، وعليه يمكن اعتبار «إل مقة» هي «بيت الرب» أو «رب البيت»، وعادة ما تواتر في تاريخ العبادات القديمة إطلاق اسم «بيت الرب أو رب البيت» على محيطه ومدينته بالكامل، وهو ما حدث في حالة «بعلبك»، وحدث أيضا في اليمن حيث وجدنا - كما سبق وفصلنا - نصوص نرام سين تتحدث عن «مكان» بكسر الميم، كبلد يمني ذي علاقات خاصة ببلاد الرافدين القديم، وحيث أشار المسعودي لوجودها في عهده، وقال إنه ركب السفينة من «ميكان» وبحذف أداة التعريف اليمنية «ن» تصبح «ميكا» أو «مكا» بكسر الميم، وهو ما يوعز لنا بالنطق الأصدق للنص القتباني «مختن ملكن بمكي» ليصبح «مختن ملكن بميكا أو بمكا». (4)
ويدعم هذه الاستنتاجات، ما جاء في النصوص السبئية تصف الرب المعبود بأنه «ذوي سموي»،
10
وتعني صاحب السماء أو رب السماء، وإذا أخذنا بافتراض العلماء أن «المقة» فيما زعموا كان إلها للقمر، فسيكون «ذوي سموي» هو «إل» أو «إله-ن» بالذات والتحديد، أي «الله»، أما «المقة» أو «مكة» فلم يكن اسما إلهيا، إنما هو حرم هذا الإله على الأرض، أي يصبح «إل» هو «ذوي سموي» رب السماء، رب البيت المقدس المكرس لعبادته على الأرض. (5)
ويذكر «ديتلف نيلسن» أنه قد عثر على كلمات احتسبها أسماء إلهية، أو ألقابا للمقة في النصوص السبئية، أهمها هنا اللفظ «رحمنن» أي الرحمن، واللفظ «حريمن» لكنه يترجم «حريمن» بمعنى «محرم» أو «القديس»،
11
لكن وفق ما طرحناه نجد هذه الترجمة غير دقيقة، إنما تستقيم تماما عندما نترجمها «الحرم» أو «القدس» بمعنى الحرم الإلهي أو القدس الإلهي، وهي تلتقي تماما مع احتسابنا «المقة» إشارة للبيت الإلهي الذي يصح وصفه هنا بكلمة «الحرم» بينما هذه الكلمة «حرم» لا تعني شيئا إذا وصفنا بها ربا، وعليه تصبح «تاء» التأنيث في آخر «المقة» أمرا مفهوما، إذا احتسبنا اللفظة دلالة على موضع أو بلد مقدس باسم «مقة » أو «مكة»، وإعمالا لكل ما سلف نصل إلى نتائج هي:
إن «مقة» أو «مكي» أو «ميكان» أو «مكا» لفظ قصد به الإشارة إلى موضع الحرم الإلهي على الأرض، وليس اسما لإله، وهو ما يفسر لنا سبب عدم ورود اسم «المقة» عند الإخباريين المسلمين، بين ما ذكروه من معبودات الجزيرة قبل الإسلام.
إن لفظة «المقة» إنما تعني رب البيت أو على الأرجح «بيت الرب» على غرار «بعلبك» بيت البعل.
إن رب البيت هو «إل» هو «ذوي سموي» أو رب السماء، هو «إله-ن» أو «الله»، أما أهم ألقاب المعبود في اليمن فهي ما ترجمه الآثاريون إلى
Monimos ، وإلى
Azizos
مونيموس
12
أو ما يعني ببساطة «العزيز» و«المنعم»، إضافة إلى لقب «الرحمن»، ولقب «الحكيم».
13
ومن المعروف أنه بعد انهيار مركز «اليمن السعيد» التجاري، ودمار سد مأرب الشهير، نزحت قبائل اليمن نحو الشمال، لتستقر في أنحاء متفرقة من بلاد العرب. وتعلمنا كتب الأخبار أن أكبر هذه القبائل كانت «خزاعة»، وأن هذه القبيلة قد استقرت في المنطقة التي أصبح التاريخ يعرفها باسم «مكة» في الحجاز،
14
ومن الطبيعي أن تحمل هذه القبائل معها معتقداتها، ومعبوداتها، وطقوسها الدينية، وعلى رأس الجميع «رب البيت» وذكري «بيت الله»، ذلك الاصطلاح الذي يفسر لنا: لماذا ذكرت الأخبار معبودات الجزيرة ومعبودات اليمن بوجه خاص، دون ذكر «المقة»؟ والحقيقة المبنية على ما أسلفنا أنه ذكر فعلا فهو «رب البيت» أو «بيت الرب».
وقد لاحظت الباحثة «ثريا منقوش» التشابه بين: ما اعتقدت أنه إله قمري لسبأ باسم «المقة» وبين «مكة» الحجازية، وربطت بين الاثنين في ضوء ما جاء عند ابن طيفور المصري والقيرواني عن بعض أهل اليمن، ولكونهم ينطقون القاف كافا، وما جاء على لسان النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
عن الفقه اليماني والحكمة اليمانية، لتصل إلى أن أهل اليمن هم أصل التوحيد في الجزيرة العربية، وأتصور أنه بعدما أسلفت من جهد، في التعامل مع الاسم «المقة» يمكن أن تكون ملاحظة الباحثة حول التشابه بين «المقة» و«مكة» قد تدعمت بشكل كاف.
وفي الروايات الإسلامية، أن منطقة الحجاز كانت صحراء بلقعا، حتى انفجر زمزم تحت خد إسماعيل طفلا، فكان أول من جاء واستقر بجوار البئر، ركب من اليمن،
15
إضافة إلى ما جاء عن «عمرو بن لحي الخزاعي» عند الإخباريين المسلمين باعتباره أول حاجب للبيت، وفي ذلك إشارة واضحة إلى «بداية حجابة البيت مع الخزاعيين القادمين من اليمن»، خاصة إذا علمنا أن هذه الحجابة الأولى للبيت لا تبعد زمانيا عن تاريخ دمار سد مأرب، وتشتت القبائل اليمنية، بأكثر من نصف قرن،
16
مع رواية إخبارية أخرى، تحكي عن «تبع الثاني» أحد ملوك اليمن، الذي قدم البيت الإلهي الحجازي، وطاف به وقام ينحر للناس ويطعمهم، ثم كسا البيت بالبرود اليمنية، «وجعل له مفتاحا
17
ذاك المفتاح الذي استلمه الخزاعيون»، وأصبح فيما بعد محل صراع ونزاع، وانتهى به إلى يد «قصي بن كلاب» الذي ألف القبائل «وقرشهم تقريشا، ومنها: قريش»، ضد خزاعة وأخرجهم من مكة الحجازية، وانتزع منهم البيت. وسواء حدثت قصة «تبع الثاني» أو لم تحدث، فهي تعبير عن ترجيع الذاكرة لصدى أحداث نشأة البيت وظروفه، وعلاقته بأهل اليمن، حتى جعلت مفتاحه بيد قبيلة خزاعة اليمنية، أما الباحثة منقوش، فقد أكدت - على ذمتها - أن كثيرا من عبادات الحج للبيت الحجازي كانت على غرار التقاليد اليمنية القديمة في تأدية فروض العبادة والحج للإله «المقة»،
18
والملفت للنظر أن «تبع» الملك اليمني، الذي سلم خزاعة مفتاح البيت وكهانته، يستدعي إلى الذهن اسم الملكة السبئية التي ذكرتها نقوش الملك الرافدي «آسر حدون»، أقصد الاسم «تبوءة» والغريب في بابه أن الاسم «تبع» في الترجمة الرافدية يصح تماما أن ينطق «تبوءة» أو «تبوءا». وهذا بدوره يستدعي اسم الشهر الخامس من السنة المصرية القديمة تبوة أو «طوبة» ومن المعتاد تسمية الأفراد وبخاصة الملوك بأسماء الشهور، مثل «تموز، أغسطس»، وقد نجد العكس مثل «رجب، شعبان، رمضان، خميس، جمعة ... إلخ»، أما الأكثر إضاءة هنا هو أنك يمكنك العثور على أسماء القبائل العربية في أصول لسانية بالمعاجم العربية، وأن تجد لهذه الأسماء دلالاتها في أسماء الشهور والأيام ، أو في أشياء الطبيعة وظواهرها مثل «حجر، كلب، سهيل، نجم ... إلخ»، أو حتى في فعل مثل «قريش من التقريش أي التأليف والجمع»، أما خزاعة فواضح أنه لم يجد لها اللسانيون أصلا واضحا، فوضعوا لها تخريجا غريبا، هو أنها سميت كذلك لتخزعها أي تأخرها وانقطاعها، والواضح أنه تخريج متكلف، فهل سميت خزاعة بالاسم خزاعة قبل انقطاعها؟
وإذا ما لجأنا إلى اللغة المصرية القديمة، سنجد الكلمة «خو، تكتب هيروغليفيا على هيئة ذراع يحمل مدقا» تعني: حمى أو صان أو حرس،
19
والكلمة «سا، تكتب هيروغليفيا على هيئة ذكر البط» وتعني: ابن،
20
لكن إذا أخذناها مكتوبة على شكل مقعد، وتنطق في هذه الحالة «س» فقط، فإنها تعني الكرسي،
21
أما الكلمة «عا، وتكتب هيروغليفيا في شكل وتد الخيمة» فتعني: الكبير أو العظيم،
22
وعليه تعنى الكلمة «خزاعة» أو «خوساعا»: حراس الابن الكبير، «بمعنى ابن الإله أو الملك» أي الحرس الملكي، أو تعني: حراس الكرسي الكبير، وتفيد المعنى ذاته أي حراس العرش، وهو ما يلتقي إلى حد كبير مع مذهبنا وأطروحاتنا.
والملاحظ أن الروايات الإخبارية، التي جمعت راسب العصور العتيقة، وسوالف أحداثها، تكاد تجمع على أن البيت الإلهي القديم، قد تعرض لحدث تدميري، يتفق على أنه بفعل سيول من الماء أتت عليه، فهذا السهيلي يصف الحدث بأنه سيل هائل صدع بنيان الكعبة،
23
وهو بذلك إنما يتبع ابن هشام وابن اسحق،
24
أما أصرح المعقبين على الحدث فهو «برهان الدين الحلبي» الذي أكد أن البيت قد غرق بفعل طوفان نوح،
25
وأن سر تسميته بالبيت العتيق، يرجع إلى أنه أعتق من سيطرة الجبابرة الذين كانوا بمكة،
26 - إذن هم الجراهمة العمالقة! - كذلك «ابن سيد الناس» يتفق مع الغالبية على القول بتصدع البيت بفعل سيل هائل،
27
وكلها إشارات ترجع الصدى لذكريات العهود الخوالي عن سيل العرم ودمار مأرب الذي أدى لانهيار السد وحدوث طوفانات المياه، والتي ربما حدثت إثر هزة أرضية أو تفجر بركان قريب، وما تلا ذلك من هجرة القبائل اليمنية بعقائدها شمالا.
لكن ما يثير العجب، فإنه رغم اتفاق الرواة على الدمار بسيل أو طوفان، فهم يتفقون على أمر مخالف تماما، يقول: إن البيت الإلهي المكي، سمي العتيق لأنه أعتق من الغرق بالطوفان النوحي، وهو تضارب نجد له مثيلا آخر حول ما جاء عن الكعبة اليمانية من ذكريات، وأنه كان يقال عنها: «الكعبة اليمانية والشآمية، ويعنون بالشاآمية البيت الحرام»،
28
وهو النص الذي أدى إلى خلف واضح بينهم في التفسير والتبرير، بينما الواضح لدينا أن القول يشير إلى ذكريات صادقة لبيت قدسه يمنيون، وقوم جاءوا من بوادي الشام، بيت بني في اليمن، ثم بني بعد ذلك في مكة بيت يجمع بين معبود يمني قح كان اسمه «الرحمن»، ومعبود شمالي باسم «إل» أو «الله»، وهو ما عالجته بعد ذلك الآيات القرآنية بقولها
قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى (الإسراء: 110).
أما صفة «العتيق» إذا أخذناها بمعنى العتق من الغرق، فستتضارب مع إجماع الرواة على انهيار البيت بالسيل، لكن لن يكون هناك أي تضارب إذا ما أخذناها كإشارة للبيت القديم، فالعتيق تعني القديم، فهي صفة تلزم البيت دوما، مما يشير إلى أنها كانت تستخدم للتأكيد والتذكير بأمر بيت قديم أو عتيق، هو ذاك الذي زعمناه كان في اليمن السعيد، عندما كان سعيدا!
وعند لوط الخبر اليقين
إذن: لنوجز ما انتهينا إليه:
ارتحل النبي إبراهيم عليه السلام من مدينة «أور» الأرمينية في بلاد الحور، قاصدا أرض كنعان، وبعد الاستقرار هونا في كنعان الفلسطينية، يتوجه بدفع القحط إلى مصر الخير، لينهل منها ما شاء، ويرتبط ببعض أهلها صهرا، ثم لا يلبث أن يخرج من أرض النيل ميمما نحو الجنوب إلى بلاد اليمن، حيث امتداد مصر بمهاجريها العظام، أو بفيالقها المتقدمة في حامياتها هناك. وتغفل أقلام كتبة التوراة الأمر، وتقفز فوقه فتقول: إنه عاد من الجنوب إلى «بيت إيل» في فلسطين دون تفصيل أو توضيح، مخالفة العهد بها مسهبة ومفصلة ومكررة إلى حد الإملال، لكن كان للحقيقة أقدامها الثابتة وومضاتها الباهرة، التي ظهرت لنا عدة مرات، وأفلتت في السرد التوراتي، لكن في غير مواضعها الأصلية.
ومن جهة أخرى أفادنا التراثيون المسلمون أنه في غابر الأزمان، حدثت في اليمن كوارث وحدثان، دفعت من استطاع النجاة نحو الشمال، ليتناثروا في بقاع الجزيرة والشام والعراق، وكان أنشر هؤلاء شأنا العمالقة، والذين زعمنا أنهم الجراهمة أو المنفيون، أو من افترضناهم مصريين سكنوا اليمن مصرا، ومن أخلافهم كانت خزاعة أو «خو-سا-عا» ليستقروا في بادية الحجاز، ويساعدوا هناك في بناء البيت الإلهي،
1
ويقيموا قواعده في مكة الحجازية، على غرار البيت الذي أقامه أجدادهم من قبل في «مكا» اليمنية ل «رب البيت»، لكن بعد أن ترك إبراهيم النبي
صلى الله عليه وسلم
بينهم، ولدهم المشترك «إسماعيل» الذي سار على سنة أبيه، فاختارهم من دون الناس أصفياء وأصهارا، وعاد النبي الأب مرة أخرى إلى الشمال حيث بيت إيل الفلسطيني محققا قول التوراة: «أراميا تائها كان أبي».
وفي نقوش سبأ نص يعني أمرنا هنا، يتحدث عن أول قاض من قضاة سبأ القبليين،
2
وفي هذا النقش يقول ذلك القاضي، واسمه «سمه-على»: «إنه قدم البخور والمر إلى «المقة»، باسمه ونيابة عن قبيلته التي قادها في الفيافي والقفار.»
3
وقد سبق وذهبنا إلى أن «المقة» لا تعني ربا محددا بهذا الاسم، كما ذهب الباحثون، إنما اعتبرناه يعني «رب البيت»، وقدمنا حججنا على ذلك في حينه، وعليه نتساءل:
هل كان هذا القاضي، «سمه-على» هو النبي إسماعيل، أو «سمعلي» هو النبي إسماعيل؟ التطابق في الاسم لا يحمل لبسا، ونظام الحكم أوانها حسب إشارة التوراة كان قبليا، والظروف متشابهة، لكن لا يمكننا الإجابة بأكثر من «ربما»!
هذا، ونظن أن أمر الكارثة الكبرى التي حدثت في الجنوب العربي، ودفعت سكانه شمالا، قد ورد في التوراة، لكن في غير المواضع الصحيحة لتسلسل الأحداث، ونعتقد أننا لو تمكنا من إثبات ذلك، نكون قد دعمنا أطروحاتنا السابقة دعما جيدا، وسيكون هذا الإثبات دليلا على ما زعمناه حلقة مفقودة في التوراة، وافترضناه رحلة إبراهيمية من مصر إلى اليمن، وعودة منها، أغفلت الأقلام التوراتية تفصيلها ونظن سبيلنا إلى الإثبات إنما يكمن في قصة التوراة عن دمار مدينتي «سدوم» و«عمورة». التوراة تتحدث عن هاتين المدينتين كقريتين خاطئتين، دمرتهما الآلهة لكنها تضع المدينتين على خريطة فلسطين، وحتى لا يكون هناك مجال للتأكد من ذلك بالبحث الآثاري عنهما هناك، فإن التوراة تزعم أن «سدوم» و«عمورة» قد دفنتا تحت البحر الفلسطيني الميت، ومن هنا نتوقف مع رواية التوراة رويدا لارتباط هذه القصة بما زعمناه إثباتا لأطروحاتنا، إضافة إلى أن هذه الرواية لا تخلو من طرافة وعجب!
تقول الرواية التوراتية: إن النبي إبراهيم قد أبدى لابن أخيه لوط رغبته في الانفصال عنه، فأخذ لوط متاعه وغلمانه «واتجه شرقا»، ليسكن سدوم المجاورة لعمورة، علما أن أهلها كانوا يرتكبون من الإثم أفحشه، فيأتون الرجال من دون النساء شهوة، ووصفتهم التوراة بأنهم كانوا «أشرار وخطاة لدى الرب جدا» (تكوين 13: 13).
وما إن يحط «لوط» رحله بين القوم، حتى تقرر آلهة التوراة القضاء على هذا الشعب الآثم وإفناءه بتمامه، شيوخه وغلمانه وأطفاله ونساءه، إضافة بالطبع إلى الآثمين من الشبان القادرين على مثل هذه المعصية، لكن هذه الآلهة كانت تريد - في الوقت ذاته - إنقاذ لوط، وأهل بيته وهم ثلاث من الإناث: زوجته وابنتاه.
ولتنفيذ القرار، ينزل ثلاثة من الأرباب من السماء، ويتوجهون أولا إلى النبي العم إبراهيم عليه السلام؛ لإعلامه بالقرار أو كما يقول النص:
وظهر له الرب عند بلوطات ممرا، وهو جالس في باب الخيمة، وقت حر النهار، فرفع عينيه ونظر، «وإذا ثلاثة رجال» واقفين لديه ... (وبعد أن يصنع لهم إبراهيم
صلى الله عليه وسلم
طعاما يأتون عليه جميعا) ... وإذا كان هو واقفا «لديهم» تحت الشجرة أكلوا، ثم «قام الرجال» من هناك وتطلعوا نحو سدوم، وكان إبراهيم «ماشيا معهم» ليشيعهم، فقال الرب: هل أخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله؟ ... وقال الرب: إن صراخ سدوم وعمورة قد كثر، وخطيتهم قد عظمت حدا، وانصرف الرجال من هناك وذهبوا نحو سدوم، «وأما إبراهيم فكان لم يزل قائما أمام الرب».
تكوين 18
ونفهم من رواية التوراة، أن هؤلاء الآلهة الثلاثة، قد ذهب اثنان منهم إلى سدوم بينما بقى كبيرهم مع النبي إبراهيم. وتستطرد لتقول: «وكان لوط جالسا في باب سدوم، فلما رآهما لوط قام لاستقبالهما، وسجد بوجهه إلى الأرض، وقال: يا سيدي: ميلا إلى بيت عبدكما» (تكوين 19: 1، 2).
وكما اعتدنا مع قارئنا في هذا البحث، الإطلال على ما عن للقس العالمي «ماير»، وكيف يرى الأمور؟ والذي وصفه «القمص داود» المترجم بأنه «رجل عظيم»، وأنه بهذه الترجمة يرغب في إشراك المؤمنين معه في الاستمتاع بروحانيات «ماير»، حتى يستمتعوا مثله، يعقب «ماير» على القصة التوراتية هنا بالقول: «زار أولئك الضيوف الثلاثة خيمة إبراهيم، ولا شك أن أحدهم كانت تبدو عليه علائم العظمة والرهبة والجلال، أما الثالث الذي كان هو المتكلم الوحيد أثناء الضيافة فإن عظمته قد تجلت، ووقف إبراهيم يخدم الضيوف كخادم، بينما كانوا يتناولون الطعام تحت الشجرة، وفي المساء دخل المدينة «سدوم» اثنان منهم فقط، وأين كان الثالث؟ لقد تخلف عنهم ليكمل حديثه مع إبراهيم خليله!»
ثم لا يلبث «ماير» أن يشن حملة ضارية على «لوط» ذاته، فيقول: إنه ما خرج مع عمه العظيم إلا ابتغاء تحسين مركزه المالي بزيارة مصر، وأمثاله يضعفون مستوى حياتنا الروحية، ويجرون غيرهم إلى طريق العالم والدنيا، ويجروننا إلى مصر (يرمز صاحبنا الفقيه هنا إلى الفساد الدنيوي بمصر كدأبه)، ثم يستنتج «ماير» أن فشل النبي إبراهيم (هو الذي يزعم ذلك!) في مصر، وخطيته هناك، إنما ترجع إلى تأثير لوط السيئ عليه، بدليل أن اختياره كان منصبا على شهوة الجسد، فذهب إلى سدوم رغم علمه بخطاياها، ثم يعقب المبشر الفاضل بالقول: «ولا شك أن أواخر أيام هذا الرجل الشقي كانت تعسة، إذ جرد من كل شيء، ووقف وجها لوجه أمام نتيجة خطيته المشينة»،
4
ولا جدال هنا أن الأب «ماير» مؤمن تماما بما جاء في التوراة، ومتسق مع إيمانه بهذا الكتاب، ولم يخرج عما تقوله للمؤمنين بها من أقوال مقدسة!
ونتابع رواية التوراة فتقول: إنه ما إن رأى أهل القرية تلك الوجوه الجديدة تتهادى في قريتهم نحو بيت لوط، حتى انحدروا سيلا ينهمر على البيت، وحاصروه، ونادوا يطالبون بالمشاركة، أو كما يقول النص:
وقبلما اضطجعا، أحاط بالبيت رجال المدينة، رجال سدوم من الحدث إلى الشيخ، كل الشعب من أقصاها إلى أقصاها، فنادوا لوطا وقالوا له: أين الرجلان اللذان دخلا إليك؟ أخرجهما إلينا لنعرفهم (تستخدم التوراة لفظ يعرف بمعنى ينزو)، فخرج إليهم لوط عند الباب، وأغلق الباب وراءه، وقال: ... هو ذا لي ابنتان لم تعرفا رجلا (وهو وضع طبيعي في ضوء العلاقة غير الطبيعية في المجتمع السدومي)، أخرجهما إليكم، فافعلوا بهما كما يحسن في عيونكم.
تكوين 19: 4-8
وهكذا تريد التوراة أن تفهمنا أن الرجل الكريم، أراد أن يحافظ على قانون الضيافة المقدس، بالتضحية بقانون أقدس منه، هو قانون المحافظة على العرض، ثم تزيد الأمر نكاية بقولها ما يفيد أن «لوط» كاد يدفع ثمن عناده، وبدا لأهل المدينة كما لو كان يسخر منهم بمنحهم الصبيتين، فهو يعلم أنهم لا يمارسون الأمر ككل الناس والحيوان من منافذه الطبيعية، إنما هم بأسلوبهم عن سائر الأحياء يتميزون، فأنذروه هو أيضا، بالقول: «الآن نفعل بك شرا أكثر منهما» (تكوين 19: 9)، لولا تدخل الإلهين الضيفين، اللذين ضربا الجماهير - المضطرمة بالشهوة - بالعمى، وأخرجا لوطا مع زوجته وابنتيه من المدينة، فاتجهوا إلى مدينة خارج دائرة الدمار المقرر، هي «صوغر»: «وإذا أشرقت الشمس على الأرض، دخل لوط إلى صوغر فأمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتا ونارا من عند الرب من السماء فقلب تلك المدينة، وكل الدائرة وجميع سكان المدن ونبات الأرض، ونظرت امرأته من ورائه فصارت عمود ملح» (تكوين 19: 23-27).
أما القرآن الكريم فيسرد سيرة «لوط» باعتباره نبيا، وتحدثنا الآيات فتقول: إنه كان مرسلا لهداية الفاسدين:
ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين * إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون * وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون * فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين * وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين (الأعراف: 80-84).
ثم يتنزه القرآن الكريم بالإله عن الكثرة والتعدد، ويجل به عن النزول بذاته إلى الأرض للقيام بما يريد، فيقول: إنه إنما أرسل من ينوب عنه من ملائكة لتدمير القرى الخاطئة، لكن بعد أن تلبس هؤلاء هيئات البشر، وذهبوا من فورهم إلى بيت لوط، مما أصابه بضيق شديد، لأنه يعلم ما سيحدث إزاء حسنهم الملائكي في مباءة الفجور:
ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب (هود: 77)، وعقب ابن كثير على هذا الكلم بقوله: «قال المفسرون: لما فصلت الملائكة من عند إبراهيم، جبريل وميكائيل وإسرافيل، أقبلوا حتى أتوا أرض سدوم، في صورة شبان حسان، اختبارا من الله تعالى لقوم لوط وإقامة الحجة عليهم، فاستضافوا لوطا عليه السلام، وذلك عند غروب الشمس، فخشي إن لم يضيفهم أن يضيفهم غيره، وحسبهم بشرا من الناس، وسيئ بهم وضاق بهم ذرعا، وقال: هذا يوم عصيب»،
5 (ولا يفوت لبيبا أن ابن كثير استبدل هنا الآلهة التوراتية الثلاثة، بثلاثة من الملائكة)، وتتابع الآيات الكريمة، تصف حال أهل المدينة، عند دخول الملائكة الحسان بيت لوط، فتقول:
وجاء أهل المدينة يستبشرون * قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون * واتقوا الله ولا تخزون * قالوا أولم ننهك عن العالمين * قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين * لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون (الحجر: 67-72)،
ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم (القمر: 37)، ويفسر ابن كثير بالقول: «وذكروا أن جبريل عليه السلام، خرج فضرب وجوههم خفقة بطرف جناحه فطمست أعينهم، حتى قيل: إنها غارت بالكلية»،
6
أما الآيات فتتابع القول:
فأخذتهم الصيحة مشرقين * فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل (الحجر: 73-74)، ويختم ابن كثير الرواية بإضافة «وذكروا أنه ذهب إلى قرية صغر.»
7
والآن: ما علاقة كل هذا بموضوعنا؟
لإيضاح المقصد، نحيل القارئ إلى خريطة جنوب الجزيرة، حيث يجد في اليمن الحالية مع التدقيق قرية «الصوعر» قرب «موكل»، جنوب «هكر» بخمسة عشر كيلومترا على وجه التحديد، ولو اتجهنا على الخريطة شرقا، ولنذكر تأكيد التوراة أن لوطا عندما هجر عمه اتجه شرقا، سنجد هناك قرية تدعى «ثمود» على الأطراف الشمالية لليمن الجنوبي الحالي، وقد ورد في القرآن الكريم أن ثمود كانت قرية عامرة، دمرها الله لكفرها بالنبوات. وقد ورد في كتب التراث - كما سلف - أن اسم «ثمود» يدل على واحد من شعوب العرب البائدة، ولما كنا نعلم أن حرف «ث» يتبادل مع حرف «س»، فإن «ثمود» تكون «سمود»، ومع خاصية القلب، تكون «سمود» هي ذات عين «سدوم»!
ولا يغيب على فطن أن الإخباريين المسلمين، قد ذكروا واحدا من أكبر معبودات ثمود، كان يدعى «صمود»،
8
والحرف «ص» يتبادل مع «س»، فهو «سمود». فهل لم يزل ثمة شك كبير، في أن «ثمود» اليمنية، هي «سدوم التوراتية»؟ [من الطريف، وأثناء مراجعة البروفة الأولى للكتاب، أن طالعنا التلفاز المصري يوم 21/ 4/ 1990م برسالة عمان، وكان أول أخبارها - لذلك لا شك هو أهمها - يوم العثور على امرأة لوط، بعد أن تحولت إلى عمود ملحي وطالعنا بصورة لصخرة تعرضت لعوامل «تعرية»، وهو أمر طبيعي إذن! وبدا المذيع في غاية الجذل والسعادة لهذه اللقية التي عثروا عليها بالأردن وشقوا من أجلها الطرق السياحية، ونترك للقارئ تحديد حجم علامات التعجب والاستفهام، لكن يبقى استفهام بسيط تماما: من يهتم بزيارة المقدسات اللوطية؟ وما الرأي الآن في ضوء بحثنا هذا؟]
وكما ترافق ذكر «عمورة» مع «سدوم» في التوراة، فقد ترافق ذكر قرية أخرى مع «ثمود» في القرآن، هي
ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد ، فهل تشير «عاد» هنا إلى «عمورة»؟ وهل يمكننا أن ننزعها بدورها من تحت البحر الميت الفلسطيني، لنضعها على خريطة اليمن؟
إن أول ما يدعم هذا الطرح، ما جاء عند «ياقوت» في معجمه وأن منازل عاد كانت بالأحقاف،
9
والأحقاف كما هو معلوم بأرض اليمن، كما جاء عند «ابن قتيبة» في كتاب المعارف القول: «وكانت عاد ثلاث عشرة قبيلة، بالدو والدهناء وعالج ويبرين ووبار إلى عمان وحضرموت»،
10
وكلها ضمن بلاد اليمن تحسب.
ويقدم لنا «الطبري» وصفا للكارثة، مستفيدا من روايات الجاهليين المتوارثة، فيقول: إن الكارثة جاءت على شكل سحابة سوداء هائلة، صحبها نداء السماء للخاطئين: «اخترتم رمادا رمدا، لا تبقي من عاد أحدا، لا والدا تترك ولا ولدا، إلا جعلته همدا .»
11
ولعل من الواضح أنه ليس ثمة تفسير لهذه المشهدية المفجعة إلا ثورة بركانية، نشرت سحابها الأسود القاتل رمادا رمدا، حتى إن الريح كانت - كما يقول الطبري - تدخل تحت الواحد منهم، فتحمله ثم ترمي به فتدق عنقه.
12
وينقل «نعمة الله الجزائري» عن أبي جعفر قوله: «الريح العقيم تخرج من تحت الأرضين السبع»،
13
وهل يخرج من تحت الأرض بهذا التصوير سوى البراكين؟ أما «ابن كثير»، فيقول عن هلاك ثمود: «جاءتهم صيحة من السماء من فوقهم، ورجفة شديدة من أسفلهم»،
14
وهل الصيحة إلا صوت دوي الانفجار؟ وهل الرجفة الشديدة من أسفلهم إلا تزلزل الأرض المصاحب للثورة البركانية؟ ثم إن القرآن يخبر كيف دمر الله الشعب اللوطي، فيقول
وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين (الأعراف: 84). وتوضح لنا طبيعة هذا المطر آيات أخرى تقول:
وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل (الحجر: 74). والتعبير «حجارة من سجيل» أصدق وصف لحجارة نارية منصهرة!
أما أكثر ما يدعم رأينا هنا، فهو ما عثرنا عليه عند المسعودي، وهو يتحدث عن غرائب الأرض، فيذكر أمرا كان لم يزل يحدث حتى عصره في بلاد اليمن، فيحكي عن «أطمة وادي برهوت، وهي نحو بلاد سبأ وحضرموت من بلاد الشحر، وذلك بين بلاد اليمن، وبلاد عمان وصوتها يسمع كالرعد من أميال كثيرة، تقذف من قعرها بجمر كالجبال، وقطع من الصخور سود، حتى يرتفع ذلك في الهواء، ويدرك حسا من أميال كثيرة، ثم ينعكس سيلا فيهوي إلى قعرها وحولها، والجمر الذي يظهر منها حجارة قد احمرت، وقد أحالها «إلى سواد» حرارة النار.»
15
ثم هناك روايات متواترة عند العرب، عن نيران قديمة كانت تخرج من الأرض، مثل نار الحرتين، التي قيل في وصفها: «وكان يخرج منها عنق فيسيح مسافة ثلاثة أو أربعة أميال، لا تمر بشيء إلا أحرقته»،
16
وروايات أخرى عن نبي عربي من أنبياء الفترة، ما بين المسيح ومحمد
صلى الله عليه وسلم
اسمه «خالد بن سنان»، تقول: «هو الذي أطفأ النار التي خرجت بالبادية، كان يرى ضوءها من مسافة ثماني ليال، وربما كان يخرج منها العنق فيذهب في الأرض، فلا يجد شيئا إلا أكله، فأمر الله تعالى خالد بن سنان بإطفائها.»
17
والواضح في كل هذه الروايات مواصفات لا تتطابق إلا مع الثورات البركانية، ولا مراء أن الدلالة الجيولوجية تأتينا من الأحجار البركانية السوداء، المنتشرة بتلك البقاع، إلى اليوم، وفي أجزاء أخرى من جزيرة العرب ويطلقون عليها اسم «الحرات» من «الحرارة»، وفي سيرة «ابن سيد الناس»: «أن الحرة هي الأرض ذات الحجارة السوداء»،
18
وقد ظلت أحجار تلك الحرات عند عرب الجاهلية، أحجارا مقدسة لزمن طويل، تصوروها أثر السلف الصالح الفلاني، ووضعوها في مزاراتهم، وحجوا إليها تبركا، ويبدو أن المنطقة ظلت موردا لا ينفد لمثل تلك الأحجار، التي كانت تستجلب لتوضع في المحاريب المقدسة، واستمر ذلك بعد الإسلام وحتى اليوم، ويوجد منها في مصر كثير، يتناثر بالعشرات في أضرحة الأولياء، على أنها في الخيال الشعبي «أثر النبي» بينما حقيقتها المفزعة والمروعة، أنها كانت خطو الهاربين من الدمار البركاني فوق الصخر الطري، إنها فعلا آثار أسلاف، لكن من العرب البائدة، ذلك التعبير الذي أطلقه المؤرخون العرب والمسلمون، ومن قبلهم الجاهليون، على أمم لم يعد لها وجود، لكنهم كانوا متأكدين أنها قد وجدت في سالف الأزمان، فأسموها «العرب البائدة»، فما أبلغه تعبيرا عما حدث!
ولو أردنا التحديد الدقيق للموقع الذي عاش فيه شعب عاد، فإنه من الأفضل الرجوع إلى المصدر الأقرب لمعايشة هذا التراث، فيقول:
ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد (الفجر: 6-8)، والمعنى أن «عاد» قد عرفت كاسم لمدينة، وأن هذه المدينة قد حملت اسما هو «إرم» الذي يبدو لنا ناتجا عن تواجد النسل الإسماعيلي في المنطقة، موروثا عن الأب الآرامي «إبراهيم»، ووصفت بأنها «ذات العماد» تلك الصفة التي ستضع يدنا على الموضع الصحيح فيما نرجو.
وقد أشار الجغرافي «بطليموس» إلى موقع مدينة في العربية الجنوبية القديمة، باسم «أرماو»،
19
وإلى اليوم لم يزل قائما في مدينة مأرب اليمنية - وهي الآن منطقة آثارية - أطلال معبد قديم بني من الصخر يعرف باسم معبد «أوام» ونستفيد هنا من تأريخ «أحمد شرف الدين» لليمن قوله: «إن أوام كان اسما لقبيلة سكنت اليمن.»
20
وبعد لأي وجهد تمكنت من التقاط سر المسألة في معبد مجاور يقع غربي معبد «أوام»، ويعرف حاليا باسم «العمايد»، واللفظ «عمايد» عربي قديم، أطلق على هذا المعبد في العصر الجاهلي، لأن المعبد كان يقوم على أعمدة صخرية، لم يزل قائما منها حتى اليوم خمسة أعمدة، وكان العمود حسب ترجمة النصوص اليمنية القديمة يسمى «أوام»، ومن ثم تترابط المسألة وتتسق، إذا ما اعتبرنا معبد «أوام» هو معبد «أرام» القديمة، ولنلحظ أن قراءة النقوش المسندة لم تزل تحمل لبسا وأخطاء عديدة في قراءتها، ولم يقر أي من الآثاريين بمصداقية قراءته التامة، ومن ثم نفترض أن معبد «أوام» هو معبد «أرام»، أو «إرم» التي تسمى الآن «العمايد»، وعليه تصبح «إرم» هي مدينة شعب «عاد». أما العمايد فتفسر لنا الوصف القرآني لعاد، بأنها «ذات العماد».
ولا بأس هنا من الإشارة إلى أنه في بلاد اليونان، قبل العصر الكلاسيكي، كانت عبادة الإله «هرمس
Hermes » تقترن بتوقير أحجار مقدسة تدعى «هيرما» أو «إرما» وهي مشتقة من كلمة
Erma
التي كانت تعني «صخرة» أو «عمود» مما يستدعي «العمايد» اليمنية، و«المسلات» المصرية، والاسم هيرمس نفسه يعني: العمود أو الصخرة، وفي اللغة العربية «الإرم» يعني الصخر.
21
وهذه اللغة ذاتها هي التي أطلقت بلسانها على الأبنية الصخرية في الجيزة المصرية اسم «أهرام» جمع «هرم»، و«هرم» لا تبعد كثيرا عن «إرم»، بل إن العربية تستبدل «الهاء» و«الهمزة أو الألف» فتقول: «أريق» الماء، و«هريق» الماء فالهرم أيضا إرم.
أما اليونان فكانوا أكثر شعوب حوض المتوسط، تأثرا بالمصريين، وبالعبادات المصرية، وقد اقترنت عبادة «هرمس» بعبادة «آمين» المصري، وهنا لا مندوحة من الوقوف مع الحكمة القرآنية، التي استدعت ربط المصريين أصحاب الأهرام والمسلات، بعاد ذات الإرم والعماد، وقول الآيات:
ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد * وثمود الذين جابوا الصخر بالواد * وفرعون ذي الأوتاد (الفجر: 6-10). ولنلحظ: الذين جابوا الصخر بالواد، وذي الأوتاد أو الأعمدة.
وإذا كانت القرية المرافقة لسدوم بالتوراة تسمى «عمورة» فإن حرفي العين والهمزة يتبادلان، فتصبح «عمورة» «أمورة»، وبالقلب تنطق «أرموه» أو «أرماو» وفي ذلك تذكرة ببلدة «أرماو» التي ذكرها بطليموس أو «إرم» التي ذكرها القرآن الكريم.
أما آخر شواهدنا على علاقة النبي إبراهيم باليمن، فهو تسمية القرآن الكريم لأبيه باسم «آزر»، وقد علمنا مخالفة التوراة ذلك، بالقول إنه إبراهيم بن تارح، وتفيدنا أبحاث الآثاري «كانالكيس» أحد أهم الأركيولوجيين، في آثاريات اليمن القديم، أن أهم الأسر التي قامت بالوظيفة الدينية، وذكرتها النقوش هناك أسرة تحمل اسم «حذفر»، ونظن «حذفر» هي الأصل في «آزر»، وربما سقط حرف «ف» بالتخفيف بمرور الزمن، كما نجد عنده أيضا أن كبار رجال الدين كانوا يحملون لقب «ذو خليل».
22
وإذا كان «كانالكيس» لم يلحظ العلاقة بين هذه الأسماء وبين النبي إبراهيم، بحسبانه جميع قصص التوراة تدور في فلسطين، فلسنا هنا بحاجة للتذكير بصفة النبي إبراهيم عليه السلام في التوراة وفي القرآن «الخليل»، مما يشير إلى علاقة النبي إبراهيم بالوظيفة الدينية الأساسية في اليمن القديم.
ثم نجد في نصوص يمنية أخرى عبادة الإله باسم «ها-رحيم»، وقد ورد في النصوص السبئية بشكل متواتر، كما ورد أيضا باسم «الرحمن»،
23
وفي ذات النصوص تأكد العثور على اصطلاح «حنيف» عدة مرات،
24
كما أصبح معروفا أن عبدة رحمن اليمن كانوا يعرفون باسم الحنفاء، وسبق لنا في كتابنا «الحزب الهاشمي» أن ذهبنا إلى حسبانهم أصل المبدأ الذي انتشر في جزيرة العرب قبل الإسلام بزمن قصير، والمعروف بالحنيفية، مستفيدين في ذلك من كتابات مهمة وموثوقة.
25
وإعمالا لكل ذلك يمكننا القول إن «عاد» ورفيقتها «ثمود» أو «عمورة»، ورفيقتها «سدوم» كانتا في جنوب جزيرة العرب، موطنا سكنه «لوط» الذي كان رفيق عمله المرتحل دوما، والجواب دوما، والذي وصفته التوراة بالقول: «أراميا تائها كان أبي»، النبي إبراهيم عليه السلام، وهو ما يضع آخر ما بيدنا من لبنات في دعم أطروحاتنا حول وجهة النبي إبراهيم بعد خروجه من مصر وقفزت التوراة فوقه، لكن تفاصيله تساقطت على صفحاتها، ونزلت في غير مواضعها الصحيحة من السياق، لكن علاماتنا الشاهدة التي جمعناها، خلال ثلاث سنوات انصرمت مذ بدأنا التفرغ الكامل لبحثنا هذا، تلاصقت واتسقت بما لا سبيل إلى نقضه إلا بنسق مماثل يحمل أدلة ناقضة، على نفس القدر من الدلالة والشهادة.
وهنا قد يجابه أطروحاتنا في هذا القسم الأخير من الدراسة رد حاسم يقول: إننا قد خلطنا الأمور، فحسبنا لوطا نبيا لعاد وثمود، بينما القصة القرآنية تشير إلى أن الله قد أرسل إلى «عاد» نبيا عربيا هو «هود»، وأرسل إلى «ثمود» نبيا عربيا آخر هو «صالح»، ولما كذبوا الرسل أهلكوا عبرة للمكذبين، لكننا نحيل هذا الرد إلى كتبنا التراثية التي تؤكد أن هذه المدن قد أهلكت مرتين، وأن هناك عادا أولى وعادا ثانية، وأوثقهم في ذلك زعيم طبقة كتاب الأخبار والسير «الحافظ ابن كثير الدمشقي» الذي أكد أن عادا الأولى كانت قبل الخليل إبراهيم، أما عاد الثانية فقد أهلكوا بسحابة نارية «وهو ما زعمناه ثورة بركانية»؛ بينما أهلكت عاد الأولى بريح صرصر عاتية،
26
إضافة إلى إجماع الإخباريين على أن «هودا» قد أرسل إلى عاد الأولى.
27
وقد يردنا آخر بما ذهب إليه البعض: أن ثمود تقع شمالي الجزيرة بينما عاد تقع جنوبها، لكن الرد مردود سلفا لأسباب؛ أهمها: أن ثمود لم تزل علما حتى اليوم، في الجنوب اليمني، وإلى الجوار منها موضع آخر لم يزل يحمل إلى اليوم اسم «قبر هود»، وقد روى أمير المؤمنين علي، أنه ذكر صفة قبر هود في بلاد اليمن،
28
ثم إن الآيات الكريمة المتفرقة بالقرآن، كانت تربط أينما وردت بين عاد وثمود، مما يشير إلى وحدة الرقعة الجغرافية، وقد أكد القرآن الكريم أن منازل عاد كانت باليمن في قوله:
واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف (الأحقاف: 21)، ولا أحقاف إلا باليمن.
وآخر ما يمكننا قوله في موضوعنا هذا: هو أن متابعة خط السير الحقيقي لرحلات النبي إبراهيم قد أضاء لنا مناطق قاتمة في التاريخ، وبعضها كان في ظلام دامس نحسبه مقصودا، ونترك كشف القصد لجهد آخر، وربما لباحث آخر له مقاصد أخرى. أما نحن، فلوجه الحق قصدنا السبيل، واجتهدنا قدر ما نملك من قدرة، حتى وقفت حدود الجهد عند هذا الحد، وربما تمكنا من استجماع الاستطاعات مرة أخرى لجهد يكمل، أو ربما لجهد ينقض، لا نعلم؛ فالحقيقة مطلب لا يطلب الثبات تعنتا، وإنما تمكنا، فإذا دالت الشواهد ودل جديد، فلا مفر من التجديد.
الخريطة رقم 1: خط سير الرحلة الإبراهيمية عند الباحثين.
الانطلاق من «أور الكلدانيين» جنوب الفرات.
الاتجاه شمالا بحذاء الفرات وربما بالإبحار فيه إلى حاران في أقصى الشمال.
العودة إلى الجنوب الغربي بغرض استيطان كنعان (فلسطين).
الهبوط من فلسطين إلى مصر.
العودة من مصر إلى فلسطين.
الخريطة رقم 2: السير وفق فروضنا.
الانطلاق من «أور آرتو» جنوب أرمينيا في المنطقة الكاسية.
الهبوط إلى الجنوب متخللا بلاد الحور.
الاستمرار جنوبا إلى فلسطين.
الهبوط من فلسطين إلى مصر.
الخروج من مصر إلى جزيرة العرب، حيث مصر الأقصى أو اليمن.
الخريطة رقم 3: الخريطة المرفقة بالتوراة.
لاحظ أن راسم الخريطة قد حيرته مسألة «شور»! التي في طريق مصر، فتخير للاسم موضعا مناسبا، وضعه على مدخل سيناء!
لاحظ أنه جعل حاران هي حوران؛ لتقع على الطريق المباشر والمختصر بين أور الكلدانيين وبين كنعان حلا للمشكلة!
الخريطة رقم 4: العرب البائدة.
مصادر البحث
(1)
القرآن الكريم. (2)
الكتاب المقدس. (3)
الموسوعة العربية الميسرة. (4)
موسوعة تاريخ العالم: تأليف مجموعة علماء بإشراف وليم لانجر، ترجمها مجموعة أساتذة بإشراف د. مصطفى زيادة، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، د.ت. (5)
الموسوعة الأثرية العالمية: تأليف مجموعة علماء بإشراف ليونارد كوتريل (48 عالما)، ترجمة د. محمد عبد القادر ود. زكي إسكندر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1977م. (6)
الأصفهاني (حمزة): تاريخ سني الملوك بيروت، 1961م. (7)
ابن حبيب (أبو جعفر): المحبر، دار الآفاق الجديدة، بيروت، د.ت. (8)
ابن خلدون: طبعة بولاق، 1284ه. (9)
ابن سيد الناس: عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، تحقيق لجنة التراث العربي، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط2، 1980م. (10)
ابن كثير: البداية والنهاية، تحقيق مجموعة أساتذة، دار الكتب العلمية، بيروت ، ط4، 1988م. (11)
ابن قتيبة: كتاب المعارف، تحقيق ثروت عكاشة، دار المعارف، القاهرة، ط2، 1969م. (12)
ابن هشام: السيرة النبوية، تحقيق طه عبد الرءوف، شركة الطباعة الفنية، القاهرة، 1974م. (13)
أورسيوس (بول): تاريخ العالم، الترجمة العربية القديمة في منتصف القرن الرابع الهجري، حققها وقدم لها د. عبد الرحمن بدوي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1982م. (14)
باقر (طه): الوجيز في تاريخ حضارة وادي الرافدين، دار الشئون الثقافية العامة، وزارة الثقافة والإعلام العراقية، بغداد، 1986م. (15)
برستد (جيمسن هنري): كتاب تاريخ مصر منذ أقدم العصور إلى الفتح الفارسي، ترجمة، د. حسن كمال، وزارة المعارف المصرية، القاهرة، ط1، 1929م. (16)
البهبيتي (نجيب): المعلقة العربية الأولى عند جذور التاريخ، دار الثقافة، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 1981م. (17)
الثعلبي (أبو إسحاق): قصص الأنبياء المسمى عرائس المجالس، المكتبة الثقافية، بيروت، د.ت. (18)
جاردنر (السير ألن): مصر الفراعنة، ترجمة د. نجيب ميخائيل، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط2، 1987م. (19)
جرني (أ. ر): الحيثيون، ترجمة د. محمد عبد القادر، سلسلة الألف كتاب، القاهرة، 1973م. (20)
الجزائري (نعمة الله): النور المبين في قصص الأنبياء والمرسلين، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط8، 1978م. (21)
حسين (د. طه): في الشعر الجاهلي، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1926م. (22)
الحلبي (برهان الدين): السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون، إنسان العيون، دار المعرفة، بيروت، د.ت. (23)
الحموي (ياقوت): معجم البلدان. (24)
الحوت (محمود سليم): في طريق الميثولوجيا عند العرب، دار النهار، بيروت، ط2، 1979م. (25)
ذكري (أنطوان): مفتاح اللغة المصرية القديمة، دار الشروق، القاهرة، د.ت. (26)
الرازي (الفخر): تاريخ مدينة صنعاء، تحقيق سهيل زكار، دمشق، 1975م. (27)
رايفشتال (اليزابيث): طيبة في عهد أمنحوتب الثالث، ترجمة إبراهيم رزق، مكتبة لبنان، بيروت، 1967م. (28)
رودلف (فلهلم): صلة القرآن باليهودية والمسيحية، ترجمة عصام الدين حفني ناصف، دار الطليعة، بيروت، ط2، 1984م. (29)
السهيلي (أبو القاسم): الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام، ضبط وتعليق طه عبد الرءوف، بيروت، د.ت. (30)
سوفوكليس: الملك أوديب، ترجمة أمين سلامة، دار الفكر العربي، القاهرة، د.ت. (31)
شرف الدين (أحمد حسين): تاريخ اليمن الثقافي، مطبعة الكيلاني الصغير، القاهرة، 1967م. (32)
الشوك (علي): اهتمامات ميثولوجية واستطرادات لغوية، الكرمل، مؤسسة بيسان، نيقوسيا، 26. (33)
صالح (عبد العزيز): الشرق الأدنى القديم، الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية، القاهرة ، 1967م. (34)
صليبي (د. كمال): التوراة جاءت من جزيرة العرب، ترجمة عفيف الرزاز، مؤسسة الأبحاث العلمية، بيروت، ط2. (35)
طعيمة (د. صابر): التاريخ اليهودي العام، دار الجيل، بيروت، ط2، 1983م. (36)
عبد الحميد (محمد حسني): أبو الأنبياء إبراهيم الخليل، تقديم الشيخ حسين مخلوف مفتي الديار المصرية الأسبق، دار سعد، القاهرة، ط1، د.ت. (37)
علي (د. جواد): المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، دار العلم للملايين بيروت، ط2، 1978م. (38)
الفقي (محمد): قصص الأنبياء والمرسلين، أحداثها وعبرها، تقديم شيخ الأزهر عبد الحليم محمود، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1979م. (39)
القرطبي (شمس الدين): التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة، تحقيق حجازي والسقا، المكتبة العلمية، بيروت. (40)
القمني (سيد محمود): القمر الأب أو الضلع الأكبر في الثالوث، الكرمل، مؤسسة بيسان، نيقوسيا، قبرص، 26. (41)
القمني (سيد محمود): إلهة الجنس أو الزهرة، آفاق عربية، بغداد، مارس، 1982م. (42)
القمني (سيد محمود): البعد الأسطوري للشيطان في التراث الشرقي، فكر للدراسات والأبحاث، القاهرة، 10. (43)
القمني (سيد محمود): هل بنى الفراعنة الكعبة؟ تصحيح مغالطات، مجلة القاهرة، عدد 81، 1988م. (44)
القمني (سيد محمود): أوزيريس وعقيدة الخلود في مصر القديمة، دار فكر القاهرة، 1988م. (45)
القمني (سيد محمود): الحج، مجلة الكويت، الإعلام الكويتية، عدد 12، 1981م. (46)
القمي (الصدوق): علل الشرائع، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط2، 1966م. (47)
كارلوفسكي (س. لامبرج): دلمون مدخل إلى الخلود، ترجمة مصطفى كامل اللحام، مجلة الثقافة العالمية، الكويت، مارس، 1983م. (48)
كانالكيس (رودو): التاريخ العربي القديم، ترجمة فؤاد حسنين، النهضة المصرية، القاهرة، 1958م. (49)
كريم (د. سيد): قدماء المصريين وبناء الكعبة، مجلة الهلال عدد فبراير 1982م. (50)
لسنر (د. ايفار): الماضي الحي: ترجمة شاكر إبراهيم سعيد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1981م. (51)
ماير (د. ف. ب): حياة النبي إبراهيم وطاعة الإيمان، ترجمة القس مرقس داود، مكتبة المحبة، القاهرة، ط1، 1980م. (52)
المسعودي (أبو الحسن): مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق محيي الدين عبد الحميد، المكتبة الإسلامية بيروت، د.ت. (53)
منقوش (ثريا): التوحيد يمان، دار الطليعة، بيروت، 1977م. (54)
موسكاتي (سبتينو): الحضارات السامية القديمة، ترجمة د. يعقوب السيد بكر، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1957م. (55)
ناصف (عصام حفني): اليهودية بين الأسطورة والحقيقة، دار المروج، بيروت، 1985م. (56)
نبهان (د. عبد الله): هوامش على كتاب ياقوت (معجم البلدان)، في المختار من التراث العربي، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1983م. (57)
نيلسن (ديتلف): تاريخ العلم ونظرة حول المادة، في كتاب التاريخ العربي القديم، ترجمة د. فؤاد حسنين، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1958م. (58)
نيلسن (ديتلف): الديانة العربية القديمة، في كتاب التاريخ العربي القديم، ترجمة د. فؤاد حسنين مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1958م. (59)
هومل (فرتز): التاريخ العام لبلاد العرب الجنوبية، في كتاب التاريخ العربي القديم ترجمة د. فؤاد حسنين، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1958م. (60)
De Vaux (R.), Les Patriarches Hebreus et L’Histoire Revue Bibique, 72 (1925). (61)
Noldeke, Semitic Languages, Encyclopaedia Britanica 2the d, 1911, vol 24, coll 617-630. (62)
Arabian pre Islamic Times, Alexandria. 1974. (63)
Rykmans (Cyanzague), Les noms propres Sudsemitiques, Lavain, 1934.
Unknown page