والأهم أن «حاران» تبدو في رواية التوراة، كما لو كانت محطة ترانزيت معروفة، على الطريق من «أور» و«كنعان»، بينما الحقيقة أنها تقع إلى الشمال، بعيدا عن الطريق بمسافات شاسعة.
ثم ماذا تقصد التوراة بهذا الإرباك؟ الذي تضاعفه بالإشارة إلى مواطن أخرى للعشيرة الإبراهيمية، فتقول: إن إبراهيم بعد استقراره في كنعان طلب من رئيس عبيده أن يأتيه بزوجة لولده إسحاق، من بين أهل موطنه وعشيرته، فما كان من العبد إلا أن ذهب من فوره إلى «مدينة ناحور» (تكوين 24)، وناحور جد إبراهيم، ونفاجأ أن «مدينة ناحور» لا هي «أور»، ولا هي «حاران»، إنما هي «أرام النهرين»! وإحباطا للباحث، فإن التوراة تقص علينا رواية أخرى، فقد سار إسحاق على الوفاء الإبراهيمي للأهل والعشيرة، إضافة للحفاظ على نقاء الدم العبري، لذلك أمر ابنه يعقوب بمغادرة كنعان، ليأتي لنفسه بزوجة من بلاد الأجداد، أو كما تقول التوراة: «فدعا إسحاق يعقوب وباركه وأوصاه، وقال له: لا تأخذ زوجة من بنات الكنعانيين قم واذهب إلى «فدان أرام»، وخذ لنفسك زوجة من هناك، وإن يعقوب سمع لكلام أبيه وأمه، وذهب إلى فدان أرام، فخرج يعقوب من بئر سبع وذهب إلى «حاران» (تكوين 27: 1، 2، 7، 10). فهل ثمة إرباك أكثر من ذلك؟
إسحاق يأمر يعقوب بالذهاب إلى موطن الأجداد للحصول على زوجة، والمفروض أن هذا الموطن هو «أور الكلدانيين»، لكن هذا الموطن يصبح في حديث إسحاق «فدان أرام»، ويسمع الابن المطيع نصيحة الوالدين طلبا للرضى، وإخلاصا للعرقية، وحفاظا على نقاء الدم العبري، فتؤكد التوراة أنه «ذهب إلى فدان أرام»، لكن وبذات الإصحاح تؤكد أيضا أنه «خرج ... من بئر سبع وذهب إلى حاران»، هذا إضافة للموطن الذي ذهب إليه عبد إبراهيم من قبل للحصول على زوجة لإسحاق، وهو «أرام النهرين بلد الجد ناحور» ونجد أنفسنا مع التوراة في متاهة من الدروب، كل منها يؤدي إلى موطن محتمل للقبيلة الإبراهيمية: «أور الكلدانيين» و«حاران» و«أرام النهرين» و«فدان أرام».
والغريب في أمر التوراة أنها بعد أن ذكرت «أور الكلدانيين» كمنطلق للهجرة، «نسيتها تماما»، بينما استمرت تضرب على تأكيد الأصل الحاراني مرة، والآرامي مرة أخرى. أما الجملة التي لم تمل تأكيدها فهي: أن إبراهيم كان «آراميا تائها» (التثنية 26: 5).
وقد ظلت مسألة «حاراني» و«أرامي» تؤرقني فترة من الوقت، اضطررت أثناءها إلى التوقف عن الكتابة في هذا البحث، وانهمكت في استكمال خطة بحث آخر حول رحلة الخروج الموسوية من مصر ، وكانت أهم عقبات البحث في الخروج تحديد كم هائل من مسميات المواضع والقبائل والشعوب بشكل دقيق، ومن هذه الشعوب الشعب الذي ذكرته التوراة باسم «الحيثيين»، وذهبت وراء المصادر أجمع المادة العلمية اللازمة عن الحيثيين، حيث اكتشفت حل مسألة «حاراني»، «أرامي» وعدت مع الكشف لاستكمال بحثنا هذا.
والحيثيون شعب قديم عاش في أواسط بلاد الترك القديمة، وقد تمكن من إقامة دولة كبيرة شمالي بلاد الشام، بعد أن تمكن من القضاء على دولة كانت قائمة في المنطقة كانت تعرف باسم دولة «الحوريين» وحمل شعبها اسم الشعب الحوري، أما الأرض نفسها التي قامت فيها الدولة الحيثية الطالعة، فكانت تعرف باسم بلاد الحور
1
ومن هنا أدركت بداهة الأمر وبساطة الحل.
فإذا كانت الدويلات الآرامية قد تناثرت بطول الحزام الشمالي الذي عرف ببلاد الحور، فإن ذلك يفسر لنا إصرار التوراة على القول بالأصل الحوري والآرامي معا للقبيلة الإبراهيمية، وعليه لا أعتقد أني أجافي الصواب إذا افترضت أن حاران التوراتية، لم يقصد بها مدينة محددة بعينها (تلك التي تقع شمالي بلاد الشام داخل الحدود الأرمينية، التركية القديمة)، قدر ما قصد بها في التوراة منطقة واسعة شاسعة، تضم مجموعة الدويلات الآرامية (أرام صوبة، آرام النهرين، أرام معكة، فدان آرام، آرام بيت رحوب ... إلخ). تلك الدويلات التي ضمتها بلاد الحور، أو الحوريون.
وإن هذا الفرض يفسر لنا بوضوح كاشف ومضيء قول التوراة: إن يعقوب خرج يقصد «فدان آرام» ليأتي لنفسه بزوجة، فذهب إلى «حاران»، ولا يبقى هناك تضارب، فقد ذهب يعقوب إلى مدينة «فدان آرام» الواقعة في بلاد «حاران» أو بلاد «الحور». كما يفسر لنا هذا الفرض بوضوح لا يقبل جدلا قول التوراة: إن أرام النهرين «هي مدينة ناحور» (تكوين 24: 10)، وناحور جد إبراهيم عليه السلام، ولا يفوت المهتم بالألسنية والحفر اللغوي، علامة مهمة في الاسم «ناحور» تؤيد فرضنا وتدعمه، فناحور صاحب مدينة آرام النهرين، أو القاطن بها، ينطق أيضا «ناحار»، مثل «هارون»، و«هاران»، وبالقلب المعروف في اللسان السامي، يقلب إلى «ناحار» إلى «حاران»!
Unknown page