والمثال في العَروض فحصرَ بذلك جميعَ أوزانِ الشعر وضمَّ كلَّ شيءٍ منه إلى حيِّزه وأَلْحَقَه بشَكْله وأقام ذلك عن دوائرَ أَعْجَزَتِ الأذهان وبَهَرَتِ الفِطَن وغمرتِ الألباب وكذلك ألَّف كتاب المُوسيقى فَزَمَّ فيه أصناف النَّغَم وحَصَر به أنواع اللحون وحدَّد ذلك كله ولخصه وذكر مَبَالغ أقسامه ونهاياتِ أعداده فصار الكتابُ عِبرةً للمُعتبرين وآية للمتوسِّمين.
ولما صنعَ إسحاق بن إبراهيم كتابَه في النَّغم واللحون عَرضه على إبراهيم بن المهدي فقال له: لقد أحسنت يا أبا محمد وكثيرا ما تحسنفقال إسحاق: بل أحسنَ الخليلُ لأَنه جعلَ السبيلَ إلى الإحسان.
فقال إبراهيم: ما احسن هذا الكلامفممن أخَذْتَهُ قال: من ابن مُقْبِل إذ سمع حمامة فاهتاج فقال: // من الطويل //
(ولو قَبْلَ مَبْكاها بكيتُ صبابة ... إذا لشَفيت النفسَ قبل التندُّم)
(ولكن بكَتْ قبلي فهاج ليَ البُكا ... بُكاها فقلت: الفضلُ للمتقدِّم)
ثم ذهب بعد - في حَصْر جمع الكلام - مذهبَهُ من الإحاطة التي لم يتعاطاها غيرُه ولا تعرضها أحدٌ سواه فثقَّف الكلام وزمَّ جميعه وبين قيامَ الأبنية من حروف المُعْجم وتعاقب الحروف لها بنظَرٍ لم يُتَقَدَّم فيه وإبْداعٍ لم يُسْبَق إليه ورَسَمَ في ذلك رُسُومًا أكملَ قياسها وأعطى الفائدةَ بها فكان هذا قدرَه في العِلم ومبلغَه من النفاذ والفَهْم حتى قال بعضُ أهل العلم: إنه لا يجوزُ على الصِّراط بعد الأنبياءِ ﵈ أحدٌ أدقُّ ذِهْنًا من الخليل ولو أن الطاعنَ علينا يتصفّحُ صَدْر كتابُنا (المختصر من كتاب العين) لَعَلِمَ أنَّا نَزَّهْنا الخليل عن نِسْبَة المُحال إليه ونَفَيْنا عنه من القَوْل ما لا يليقُ به ولم نَعْدُ في ذلك ما كان عليه أهلُ العلم وحذَّاق أهل النظر.
وذلك أنَّا قلنا في صَدْر الكتاب: ونحن نَرْبأُ بالخليل عن نِسْبَة الخَلَل إليه أو التعرض للمقاومة له بل نقول: إن الكتاب لا يصح له ولا يثبتُ عنه وأكثرُ الظن فيه أن الخليل سَبَّب أصله وثقَّف كلام العرب ثم هلَك قبل كَماله فتعاطى إتمامَه من لا يقومُ في ذلك مقامه فكان ذلك سببَ الخَللِ الواقع فيه والخطأِ الموجود فيه
1 / 65