وعمدةُ مَنْ قال: إنها تَثْبتُ توقيفا قولُه تعالى: ﴿وعلم آدم الأسماء كلها﴾ .
وهذا لا حجَّةَ فيه من جهة القَطْع فإنه عُمُوم والعمُوم ظاهرٌ في الاستغراق وليس بنص.
قال القاضي: أما الجوازُ فثابتٌ من جهة القطع بالدليل الذي قدَّمْتُه وأما كيفيةُ الوقوع فأنا متوقف فإن دلَّ دليل من السَّمْع على ذلك ثبت به.
وقال إمام الحرمين في البرهان: اختلفَ أربابُ الأصول في مأخَذ اللغات فذهب ذاهبون إلى أنها توقيفٌ من الله تعالى وصار صائرون إلى أنها تثبتُ اصطلاحا وَتَوَاطُؤًا وذهب الأستاذ أبو إسحاق في طائفة من الأصحاب إلى أن القَدْر الذي يُفْهم منه قصدُ التواطؤ لا بدَّ أن يُفْرضَ فيه التوقيف.
والمختارُ عندنا أن العقلَ يجوِّزُ ذلك كلَّه فأما تجويزُ التوقيف فلا حاجةَ إلى تكلُّف دليلٍ فيه ومعناه أن يُثْبِتَ الله تعالى في الصدور علوما بَدِيهيَّةً بِصَيغٍ مخصوصة بمعاني فتتبَيَّنُ العقلاءُ الصِّيَغَ ومعانيها ومعنى التوقيف فيها أن يلقوا وَضْع الصيغ على حكم الإرداة والاختيار وأما الدليلُ على تجويز وقوعها اصطلاحا فهو أنه لا يبعدُ أن يحرك الله تعالى نفوسَ العقلاء لذلك ويُعْلِم بعضَهم مرادَ بعض ثم ينشئون على اختيارهم صِيغًا وتقترنُ بما يريدون أحوالٌ لهم وإشارات إلى مسميات وهذا غيرُ مُسْتَنْكَر وبهذا المسلك ينطلقُ الطفل على طَوَالِ ترديد المُسْمَع عليه ما يريد تلقينه وإفهامه فإذا ثبت الجوازُ في الوجهين لم يبق لِما تخيَّله الأستاذ وجهٌ والتعويل في التوقيف وفرض الاصطلاح على علوم تَثْبُت في النفوس فإذا لم يمنع ثبوتها لم يبقَ لِمَنْع التوقيف والاصطلاح بعدَها معنى ولا أحد يمنعُ جوازَ ثبوت العلومِ الضرورية على النحو المبَيَّن.
فإن قيل: قد أثْبَتُّمُ الجواز في الوجهين عموما فما الذي اتفق عندكم وقوعه
قلنا: ليس هذا مما يُتَطَرَّقُ إليه بمسالك العقول فإن وقوعَ الجائز لا يُسْتَدْرك إلا بالسَّمْعِ الْمَحْضِ ولم يَثْبت عندنا سمعٌ قاطع فيما كان من ذلك وليس في قوله تعالى ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ دليل على أحد الجائزين فإنه لا يمتنعُ أن تكونَ اللغاتُ لم يكن يعلمها فعلَّمه الله تعالى إياها ولا يمتنع أن الله تعالى أثبتَها ابتداء وعلَّمه إياها.
1 / 22