فقال والدهما: «لعلها مثقفة عبقرية مثل باتريك.» فبدأ باتريك في التحدث بصوت عال عن المنح الدراسية والجوائز التي حصلت عليها روز، ما أصابها بالهلع والإحراج. ما الذي كان يطمح فيه؟ هل افتقر لأي نوع من البصيرة، ما جعله يعتقد أن هذا التفاخر سيجعله يتغلب عليهم، ويجلب عليه أي شيء آخر غير الازدراء؟ كان من الواضح أن الأسرة متفقة في اعتراضها على باتريك، وصيحاته المتفاخرة، وبغضه للرياضة والتليفزيون، واهتماماته الثقافية. لكن هذا التحالف كان مؤقتا فقط؛ فبغض الأب لابنتيه كان أقل فقط عند مقارنته ببغضه لباتريك. لقد كان ينتقدهما بشدة أيضا عندما تسنح له الفرصة لذلك. كان يسخر من مقدار الوقت الذي تقضيانه في ممارسة الألعاب، ويشكو من تكلفة المعدات والقوارب والخيول التي تمتلكانها. هذا فضلا عن التشاجر معا حول موضوعات ملتبسة متعلقة بالنقاط المحرزة في المباريات والاقتراضات والخسائر. شكا الجميع أيضا للأم من الطعام، مع أنه كان وفيرا وشهيا. أما الأم، فكان حديثها مقتضبا قدر المستطاع مع الجميع، ولم تستطع روز لومها في ذلك في الحقيقة؛ فهي لم تتصور قط اجتماع هذا القدر من التشاحن الحقيقي في مكان واحد. كان بيلي بوب متعصبا ومتذمرا؛ وفلو كانت متلونة، وظالمة، ومولعة بالنميمة؛ واعتاد والدها في حياته إصدار الأحكام القاسية والاستنكار الدائم، لكن مقارنة بأسرة باتريك، اتسم جميع قوم روز بالبهجة وخفة الدم.
سألت روز باتريك: «هل هذا حالهم دائما؟ هل أنا السبب في ذلك؟ أنا لا أروق لهم.»
فأجابها باتريك بشيء من الرضا: «أنت لا تروقين لهم لأنني اخترتك.»
استلقيا على الشاطئ المليء بالصخور بعد حلول الظلام، وهما يرتديان معطفي المطر. تعانقا وقبل أحدهما الآخر، وحاولا ما هو أكثر من ذلك، لكن على نحو غير مريح، ودون جدوى. خلفت الطحالب البحرية بعض البقع على معطف الدكتورة هينشو الذي ارتدته روز. قال باتريك: «أعرفت لماذا أحتاج إليك؟ إنني في أمس الحاجة إليك!» •••
اصطحبت روز باتريك إلى هانراتي، ولم يقل الأمر سوءا عما تصورت، فتحملت فلو عناء تحضير وجبة من شرائح البطاطس، واللفت، والسجق الريفي الكبير الذي جلبه لها بيلي بوب من متجر الجزارة كهدية خاصة. مقت باتريك الطعام ذا القوام الخشن، ولم يحاول التظاهر بأنه يتناوله. فرشت الطاولة بمفرش بلاستيكي، وتناولوا الطعام في إضاءة مصباح الفلورسنت. كانت قطعة الزينة الموضوعة في منتصف الطاولة جديدة، ومنتقاة خصوصا لهذه المناسبة. كانت عبارة عن بجعة بلاستيكية ذات لون أخضر مائل للصفرة، بها شقوق في الجناحين حشرت فيها مناديل ورقية ملونة مطوية. وعند تذكير بيلي بوب بأخذ أحد المناديل، نخر رافضا. وفيما عدا ذلك، كان سلوكه حسنا على نحو بائس. فقد وصلت إليه - أو على الأصح وصلت إليه وإلى فلو - أنباء عن الفوز الذي حققته روز، ونقل هذه الأنباء القوم الأعلى منهما شأنا في هانراتي؛ لولا ذلك، ما كانا ليصدقا هذه الأنباء. فزبائن متجر الجزارة من السيدات - السيدات الرائعات؛ زوجة طبيب الأسنان وزوجة الطبيب البيطري - أخبرن بيلي بوب عن أنهن سمعن أن روز انتقت لنفسها رفيقا مليونيرا أو ابن مليونير. وعلمت روز أن بيلي بوب سيعود للعمل في اليوم التالي محملا بقصص عن المليونير أو ابن المليونير، ستركز جميعها على سلوكه - أي سلوك بيلي بوب - الصريح والجريء في هذا الموقف. «لقد استضفناه وقدمنا له بعض السجق. ولم نهتم من أين أتى!»
علمت روز أيضا أن فلو سيكون لها تعليقاتها بدورها، وأنها لن تغفل عن عصبية باتريك، وستتمكن من محاكاة صوته ويديه كثيرتي الحركة اللتين تسببتا في سقوط زجاجة الكتشاب أثناء العشاء. لكن في الوقت الحالي وأثناء تناول الطعام، جلس كلاهما منحنيا بظهره على المائدة على نحو بائس. حاولت روز بدء الحديث؛ فتحدثت بابتهاج وتكلف، كما لو كانت محاورة في أحد البرامج وتحاول إقناع بعض الأشخاص المحليين البسطاء بالتحدث. شعرت بالخجل على عدة مستويات لم يمكنها حصرها؛ فقد خجلت من الطعام والبجعة ومفرش الطاولة البلاستيكي؛ خجلت من باتريك، المتغطرس الكئيب، الذي عبس وجهه متفاجئا عندما مررت له فلو علبة أعواد الأسنان؛ خجلت من فلو لجبنها ونفاقها وادعاءاتها؛ وفوق كل ذلك خجلت من نفسها؛ فلم تستطع حتى التحدث والظهور بمظهر يخلو من التكلف بأي شكل من الأشكال. ومع وجود باتريك، لم تستطع التراجع في لكنتها للتحدث بلكنة أشبه بلكنة فلو وبيلي بوب وأهل هانراتي. لكنها صارت تسمعها بأذنيها الآن. واتضح لها أنها لا تتضمن اختلافا في النطق فحسب، وإنما أيضا أسلوبا مختلفا تماما في الكلام يجعله يبدو كالصياح؛ إذ تبدو الكلمات منفصلة ومفخمة ليتمكن الناس من قذف بعضهم البعض بها. كان حديث الناس أشبه بسطور مقتبسة من الروايات الكوميدية الريفية المبتذلة. وبرؤية ذلك من منظور باتريك، وسماعه بأذنيه، شعرت روز أيضا بضرورة الاندهاش.
حاولت جذب الحاضرين للحديث عن التاريخ المحلي، وبعض الأمور التي اعتقدت أن باتريك قد يهتم بها؛ فبدأت فلو في التحدث بالفعل، فلا يمكنها أن تظل صامتة كل هذا الوقت، أيا كانت هواجسها، واتخذت المحادثة منحى أبعد ما يكون عن أي شيء نوته روز.
قالت فلو: «الخط الذي عشت به عندما كنت صغيرة السن كان أسوأ مكان على الإطلاق للانتحار.»
أوضحت روز لباتريك: «الخط هو أحد الطرق الريفية.» ساورتها الشكوك بشأن ما سيلي ذلك، وكانت محقة في شكوكها؛ إذ بدأ باتريك يستمع لقصة الرجل الذي شق رقبته بنفسه من الأذن للأذن، والرجل الذي أطلق النار على نفسه، لكنه لم يمت، فأعاد تعبئة السلاح وأطلق النار مجددا ليتمكن في النهاية من قتل نفسه بالفعل، والرجل الذي شنق نفسه باستخدام سلسلة مشابهة للسلاسل المستخدمة في الجرارات. لذا، كان من العجيب أن رأسه لم ينفصل عن جسده.
أخطأت فلو في نطق بعض الكلمات أثناء حديثها.
Unknown page