وبعد هنيهة كانت في منزل بوفور فأدخلها الخادم إلى غرفته واختلى الزوجان.
وقد نظر إليها بوفور محدقا وقال لها: أذكر أني رأيتك يا سيدتي قبل الآن، ولكني لا أذكر أين. - عند الموسيو فولون. - لقد ذكرتك، فأنت مدام لنجون التي أنقذت بنتها من الغرق. - نعم يا سيدي، وشهد الله أني أذكرك كل يوم في صلاتي.
تفضلي يا سيدتي بالجلوس، ولنبحث فيما أتيت لأجله، أما أنت التي أرسلت إلي الكتاب اليوم؟ - نعم. - إذن عرفت امرأتي مرسلين؟ - لقد عرفتها كثيرا حتى إنها ائتمنتني على سر حياتها ودموعها.
فوضع يده على عينيه كأنما مرسلين قد تمثلت له بالذلوى وخاف أن يراها، بل خاف أن يقف على سر شقائها، فقال لها: بالله يا سيدتي اذهبي ودعيني وأحزاني؛ فقد كنت على وشك الموت، وكانت راحتي الكبرى فيه، ولكن قولي لي أين رأيتها؟ - في باريس. - أكان ذلك من عهد بعيد؟ - منذ عشرين عاما. - ماذا كانت تعمل وكيف كانت تعيش؟ - كانت تشتغل لتعيش. - أهي حية الآن؟ - نعم. - لماذا أرسلتك، ألعلها في حاجة إلي؟ - كلا؛ فقد خف شقاؤها الآن. - ماذا عملت في ذلك العهد الطويل؟ - كانت عاملة، ثم جعلت تلقي دروسا في الموسيقى. - أين تقيم الآن؟ - لم تأذن لي أن أخبرك بعنوانها. - لماذا؟ ألعلها تخاف أن أراها؟ وبعد فلماذا أرسلتك إلي وماذا تريد؟ - إنها تريد عفوك. - كيف يخطر لها أن أعفو بعد أن قتلتني كل يوم مرة مدة ربع قرن؟ - إنها تاعسة منكودة منسحقة القلب. - وأنا، أتحسبين أني كنت من السعداء، إني كنت شقيا بهجرانها، فهل استحقيت هذا الهجران؟ قولي يا سيدتي ماذا تريد مني؟ ولماذا أرسلتك إلي؟ - إنها تريد أن تعرف كل شيء منذ مقابلتكما الأولى في سويسرا إلى اليوم. - كلمة أيضا، هل أعادت لي بواسطتك تلك الضمة الذابلة التي خاطرت بحياتي في سبيل جنيها كي تعلم أني أحبها؟ - نعم، وأنا عهدت بإبقائها إلى كلوكلو. - لماذا أعادت لي تلك الضمة؟ - لأنها علمت أنك مريض. - من أنبأها بمرضي؟ - لا أستطيع أن أجيب. - ألعلها كانت ترجو أن أشفى من علتي الزوجية فأرسلت لي هذا التذكار؟ - هو ذاك. - إذن هي تظن بأني لا أزال أحبها؟ - كلا، وا أسفاه فهي تعلم أن الحب لم يعد من الممكنات. - إني مصغ إليك يا سيدتي، فقولي ما عهدت إليك أن تقوليه. - إن مرسلين تحبك يا موسيو بوفور.
فضحك ضحك القانطين وقال: كيف أصدق ذلك؟ - إنها تحبك بملء جوارحها، وأنا أعرف ذلك منها؛ لأني لزمتها خمسة وعشرين عاما، فكانت كل يوم تكلمني عنك. - إذن ستخبرينني بكل أمرها؟ - نعم. - ولكن إذا كانت تحبني كما تقولين فلماذا تركتني؟ - هنا تبدأ صعوبة مهمتي يا سيدي، وتبدأ تلك الحكاية المحزنة؛ فاسمح لي أن أذكرك ببعض أمور. أتذكر حين عرفت مرسلين أنها كانت تفرغ مجهودها في سبيل اجتنابك؟ - نعم؛ فقد كانت كذلك في البدء. - إن مرسلين علمت أنك تحبها وشعرت أنها تحبك، وهذا الحب كان يرعبها. - كيف تقولين ذلك وقد كانت حين تزوجتها من أسعد النساء؟ - دعني أتم حديثي؛ فإن مرسلين لم تكن تستطيع أن تتزوج بك فقد كنت خير كفء لها، ولكنها لم تكن كفئا لك. - كيف ذلك؟ - ذلك أن رجلا شقيا أثيما كان قد أغواها وخدعها، وحين لقيتها في سويسرا كانت لاجئة إليك لستر زلتها. - زلتها؟ - نعم؛ فقد كانت يومئذ أما. - فصاح المنكود صيحة يأس، وقال: لقد خطرت لي أمور كثيرة أردت أن أعلل بها هربها، ولكن هذا لم يخطر لي في بال، ويح لنفسي، أتزوجت امرأة ملطخة بالإثم وأنا أحسبها من الملائكة الأطهار. - لا تقض عليها ولا تلعنها واسمع بقية الحديث. - وما عساي أسمع بعد؟ - تبرئتها.
فضحك ضحك المجانين، وقال: أتريدين تبرئتها أيضا. - نعم؛ فقد كانت لا تزال من أشرف النساء. - وقد برهنت على شرفها بخيانة زوجها حين أوهمته أنها عذراء وهي من الأمهات؟ - اسمع بقية حديثي يا موسيو بوفور ولك بعد ذلك أن تحكم عليها بما تشاء.
فهز كتفيه وقال: تكلمي. - إن مرسلين كانت مجرمة؛ لأنها وقعت في الفخ الذي نصب لها.
ولكن المجرم الحقيقي هو ذلك الأثيم الذي أغواها وهي لم تكد تبلغ سن الرشاد؛ فقد كانت غنية وكان فقيرا، فطمع بثروتها ثم تركها حين علم بخسارة أبيها، وقد ذهبت إلى سويسرا لإخفاء زلتها، وعرفتها هناك بعد ولادتها ببضعة أشهر، وإنك تذكر دون شك كيف أنها كانت تهرب منك، فلماذا لم تفهم سبب ابتعادها عنك على يقينك يومئذ من تعلقها بك؟ - كيف يمكن أن يخطر لي هذا السبب وأنا أتوهم أنها نقية طاهرة؟ وكيف يخطر لي أنها تعبث بي هذا العبث؟ - أتحسب أنها لم تكن تتألم؟ - يجب أن يكون لها قلب كي تشعر بالعذاب، ولكنها من غير قلب. - بل إنك ذهبت إليها حيث كانت تختبئ، وتبعتها إلى حيث كانت تهرب، فأي ذنب لها، أما دعتك مرارا إلى تركها؟ أما كنت ترى تألمها حين كنت تبثها غرامك.
لم تجتنبها، ولماذا لم تطعها وتتخلى عنها؟ - إنها كانت تمثل رواية؛ إذ لم تكن تقصد بما تفعله غير تشويقي وحملي على التعلق بها. - أقسم لك بأنك مخطئ وأن ذلك لم يخطر لها في بال. - من أنبأك؟ - هي. - لقد خدعتك كما خدعتني. - كلا، ودليل ذلك أنها كانت تهرب منك دون أن تدعك تعلم أين هي، فكانت تجمعكما الصدفة إلى أن غلبتها بحبك وبإلحاحك، فصحت عزيمتها بعد التردد الكثير على إخبارك بكل أمرها. - إنها لو فعلت لفعلت واجبا يقضي به الشرف، نعم إنها كانت سحقت قلبي باعترافها ولكنها كانت أنقذتني. - إن مرسلين فعلت كل ما يقضي به الشرف. - ماذا تقولين؟ - أقول إن مرسلين قامت بواجبها، وأرادت أن تخبرك شفاها بحكايتها الهائلة، ولكن أية امرأة تجسر على مشافهة رجل بهذه الأبحاث؟ - كان يجب أن تكتب. - وهذا الذي فعلته. - أهي كتبت لي؟ - نعم، إنها كتبت لك كتابا مسهبا، وشرحت لك فيه كل تاريخها منذ عهد طفولتها إلى يوم التقائها بك. - وماذا جرى لهذا الكتاب، إذ لا حاجة إلى القول أنه لم يصلني. - نعم، وا أسفاه إن مرسلين علمت أنه لم يصلك. - إذن ماذا جرى لهذا الكتاب؟ - عندما كانت في سويسرا قالت لك مرة هذا القول الذي لا تزال تذكره فيما أظن وهو: «ارجع غدا يا بيير، فإذا رجعت كان رجوعك برهانا على أنك لا تزال تحبني بالرغم عن كل شيء.»
وإني أذكرك بهذا القول الذي طالما أعادته لي مرسلين، وفي اليوم التالي كتبت إليك كتابها المسهب وأرسلته مع رجل يدعى كلوكلو، فسكر قبل أن يصل إليك وأضاع الكتاب، ولكن مرسلين لم تعلم بذلك؛ لأن الرجل لم يجسر على إخبارها بضياع الكتاب، وبرح سويسرا عائدا إلى ترن.
Unknown page