فلبث مصرا على السكوت. فقالت: ويحك! أتريد أن أنتزع الكلام من فمك أيها الشقي؟
قال: ما هذه الحالة التي أنت فيها يا سيدتي؟ ولماذا؟ نعم، إني مخبرك بكل ما حدث، فلقد أصبت بقولك إني ناكر للجميل لأني جحدت نعمتكم علي، نعم، إني شقي كما وصفتني، ولكن ليس الذنب ذنبي، بل ذنب تلك العادة الذميمة التي تملكتني وهي عادة السكر، والله يعلم كم أكابد منها؛ فقد صرت إذا شربت مقدار أصبع من الخمر أشعر أن المنازل تدور بي، وأصبر إلى أن يمر بي منزلي فأدخل إليه.
نعم، إني أذكر الكتاب الذي أعطيتني إياه، وقد سرت به إلى الفندق، ولكن لا بد للوصول إليه من المرور في الطريق، وقد سرت فيها امتثالا لأمرك، فلقيت زمرة من الأصحاب يشربون الخمر فشربت معهم، وكان مبيتي تلك الليلة تحت مائدة الشراب.
ولما صحوت من سكرتي ذكرت الرسالة فقمت مهرولا إلى الفندق، ولكني حين بلغته وجدت - وا أسفاه - أني فقدتها، ولم أجسر أن أخبرك بما اتفق لي؛ لأني خفت من تأنيبك، وقد برحت سويسرا في ذلك اليوم؛ لأني شعرت أني أسأت إليك إساءة قد تغفرينها لي، ولكني لا أغتفرها لنفسي.
هذه هي حكايتي يا سيدتي، فقولي لي بالله أني لست أنا الذي أوصلتك إلى ما أنت فيه، أو ألقي نفسي في أول واد أمر به وأستريح.
وقد تنهد تنهدا طويلا، فلم تؤنبه بعد اعترافه؛ إذ أية فائدة من التأنيب؟ ولكنها كانت واثقة من وفائه، فأرادت أن تستفيد فرصة التقائها به، فقالت له: أريد أن تقسم لي بأمك التي تحبها كثيرا أنك لا تخبر أحدا بأنك لقيتني هنا.
قال: أقسم يا سيدتي. - إني تركت القصر الآن على ألا أعود إليه، وفارقت زوجي وهو يبحث عني بحث القانطين، فلن أراه ولن أرى موطني بعد الآن، وكل ما أريده هو أن يتوهموا أني ميتة، أفهمت؟ - ماذا تقولين يا سيدتي؟ - أقول أني أريد أن يحسبوني في عداد الأموات، وكل ذلك بخطئك، ولكني غير حاقدة عليك، فهذا ما أراده لي الله. - لا يمكن أن أكون السبب في شقائك، وأنا أضحي في سبيلك ... - هذه هي الحقيقة يا كلوكلو فلا تنسها. - الويل لي فإني سأجن إذا لم أنتحر. - لا تجن ولا تنتحر، بل اذهب بي إلى أمك فإني واثقة من أنها تكتم سري كما تكتمه أنت، وسأختبئ عندها بضعة أيام ثم أبرح البلاد. - ولكن ما عسى يكون يا سيدتي من زوجك الذي يحبك؛ فإن بعدك عنه قد يقتله أو يصيبه بالجنون؟
فقالت في نفسها: بل إن وقوفه على الحقيقة يقتله أو يصيبه بالجنون، ثم قالت له: أترضى أن أختبئ عند أمك؟ - كيف تسألينني يا سيدتي؟ أعندك شك في ذلك؟ - إذن لنسر منذ الآن؛ فإن ليالي الصيف قصيرة والفجر على وشك البزوغ. - ولكنك تعبة والطريق طويلة إلى البيت، تبلغ للآن مراحل أقطعها أنا بساعتين، أما أنت فلا تستطيعين اجتيازها في أقل من أربع ساعات، فمتى وصلنا تكون الشمس قد أشرقت فيراك جميع الفلاحين. - هذا أكيد، ولا سبيل إلى البقاء هنا، فماذا أصنع؟ - يوجد على مسافة ربع ساعة من هنا غابة لا يمر فيها أحد، وفيها كوخ تعودت أن آوي إليه فسأعد لك فيه فراشا من العشب الأخضر تنامين عليه، ولا خوف عليك؛ لأني سأتولى حراستك، وفي أول الليلة القادمة أسير بك إلى أمي.
فوافقته على ذلك، وبعد هنيهة كانت مرسلين مقيمة في ذلك الكوخ، وكان كلوكلو يجمع العشب ليعد لها منه فراشا، فلما عاد به إليها وجدها نائمة، فلم يجسر على إيقاظها.
وعند الصباح جاءها بشيء من الطعام، فأقامت كل يومها في الكوخ لم تخرج منه؛ حذرا من أن يراها أحد.
Unknown page