القسم الأول
القسم الثاني
القسم الثالث
القسم الرابع
القسم الأول
القسم الثاني
القسم الثالث
القسم الرابع
المتنكرة الحسناء
المتنكرة الحسناء
تأليف
جول ماري
ترجمة
طانيوس عبده
القسم الأول
زواج غريب
دقت أجراس الكنيسة في برين من أعمال فرنسا، ولبست السماء ثوبها الأزرق الجميل، كأنها تريد أن تشارك المحتفلين بزفاف الآنسة مرسلين ابنة الكونت دي مونت كور الوحيدة إلى بيير بوفور.
كان العريس غريبا عن تلك البلاد، لقي مرسلين في سويسرا فأحبها وتبعها إلى برين؛ فخطبها إلى أبيها وأجابه إلى ما طلب.
وقد كان دهش الناس عظيما حين وصلت العروس بموكبها إلى الكنيسة؛ إذ كانت بملابس السواد؛ فإن أباها الكونت مات منذ أسبوع، وقد تمت تأهبات العرس، فأوصى أن يحتفلوا بالزفاف في اليوم المعين بعد أن بارك العروسين. فرضيت مرسلين بعد إلحاح خطيبها أن تعمل بوصية أبيها، ولكنها أبت إلا أن تزف وهي بملابس الحداد، فكانت تنظر إلى زوجها حين كان الكاهن يباركها والدموع تجول في عينيها الجميلتين وتتقد أحيانا ببارق يدل على الامتنان.
مضى أسبوع والزوجان أسعد خلق الله؛ فقد كان حبهما صادقا أكيدا.
وقد خرجا بعده يوما للنزهة وسارا في طريق ازدانت جانباه بالأشجار، فلما بلغا إلى عطفة منه التقيا برجل فصاح الاثنان صيحة دهش، وقال الأول: من أرى؟ بيير بوفور!
وقال بوفور: جان داغير؟
أما مرسلين فقد صاحت صيحة تختلف عن صيحتيهما؛ إذ كانت صيحة رعب، فغطت وجهها بيديها وقالت: رباه، إنهما صديقان!
كان جان داغير فتى قوي العضل براق العينين جميل الوجه، وكان ساعتئذ يمتطي جواده، فلما حاول أن يترجل رأى مرسلين فعاد إلى سرج جواده، وقال له بوفور: ما كنت أتوقع أن أراك هنا أيها الصديق. - لقد أتيت أمس بعد غياب طويل، ولا غرابة أن تراني في برين؛ فإني من أهلها، ولكن الغرابة في أن أراك فيها وأنت ابن باريس. - وهذا بسيط أيضا فقد تزوجت هنا منذ أسبوع، وهذه امرأتي.
فانحنى جان فقال: إني أعرفها، وقد تشرفت بأن أكون في عداد أصدقاء أبيها.
وقد تحادثا هنيهة ثم افترقا، فنظر بوفور إلى مرسلين فوجدها مطرقة واجمة، فقال لها: ما بالك مصفرة الوجه أيتها الحبيبة؟ وماذا أصابك؟ فلم تجبه ولكنها ضحكت ضحكا صبيا، فقال لها: ألعلك مريضة؟
قالت: لنعد إلى المنزل.
وقد تأبطت ذراعه وسارت وإياه، فكان ينظر إليها نظرات تشف عن الحزن وهو لا يدري ما يقوله لها؛ إذ لم يكن رآها مرة من قبل على هذا الحال.
ولم تكد تصل إلى البيت وتدخل إلى غرفتها حتى أصيبت بنوبة عصبية تشبه الجنون، ثم ركعت أمام زوجها وقالت له: هذا هو، هذا هو، وأنت تعرفه، رباه هذا هو، فأنت تعرفه، ولست بمجنونة! فأنهضها وجعل يبالغ في ملاطفتها، وقد جزع عليها أشد الجزع، ثم قال لها: لقد قلت: هذا هو. فمن هو هذا؟ وماذا تعنين؟ - ماذا أعني؟! أما علمت أنه هذا هو الذي عنيته بالكتاب الذي أرسلته إليك؟ - أي كتاب يا مرسلين؟ - الكتاب الذي أرسلته إليك حين كنا في سويسرا، لقد قلت لك هذا هو ... رباه يظهر أنه لم يفهم بعد. - لم يصلني منك كتاب يا مرسلين، وأقسم بالله أني لا أفهم ما تقولين.
فطبع اليأس على وجهها وقالت: أتقسم بشرفك أن كتابي لم يصلك؟ - أقسم بشرفي وبحبك أني لم يصلني منك كتاب، وأني لا أفهم ما تقولين!
فوضعت يديها على كتفي زوجها ونظرت إليه نظرة طويلة نافذة كأنها تريد أن تخترق أعماق قلبه، فقال لها: بربك لا تنظري إلي هذه النظرات، بل قولي لي ما هذا الكتاب الذي تعنينه.
ولكنها لم تجب، بل فتحت فمها كأنها تريد أن تتكلم ثم لا ندري ما تراءى لعينيها فمنعها عن الكلام.
وقد رفعت يديها إلى السماء كأنها تستشهدها على يأسها، ثم خرجت من الغرفة بسرعة فبقي بوفور وحده وهو مكتوف اليدين مقطب الجبين يقول في نفسه: ترى ماذا تعني؟! وما هذا الجنون؟! بل ما هذا السر الذي تخفيه عني؟!
وقد أقام مدة طويلة على هذه الحالة، ثم انتبه ورأى أنها لم تعد إليه، فبحث عنها في جميع غرف المنزل فلم يجدها ، فقال في نفسه: قد تكون خرجت إلى الحديقة، فبحث عنها فيها فلم يرها، فخرج منها إلى الطريق وجعل يبحث عنها ويناديها، فلم يجب نداءه أحد، فعاد إلى القصر وسأل عنها الخدم فقالوا إنهم لم يروها.
وقد حار المنكود في أمره، فأرسل الخدم يبحثون عنها، وصبر وهو شبه المجانين إلى أن انتصف الليل دون أن تعود، ثم بزغت أشعة الفجر وأخذت الأدياك بالصياح، فقال: إنها ميتة لا شك، ولكن أين هي؟
وكان جميع الخدم لا يزالون ساهرين، فجعل يسألهم إذا كانت مصابة بمرض فيجيبون سلبا، ولكنهم يقولون إنها عصبية المزاج شأن أكثر النساء، فحار في أمره وجعل يناجي نفسه فيقول: ترى ألعلها هربت مني ... كلا فهذا محال؛ لأنها تحبني وتعلم أني أحبها أصدق حب، وأني لم أسئ إليها في شيء، إذن لا بد أن تعود، ولكنها قالت إنها أرسلت إلي كتابا، وأنا لم يصلني منها شيء، فما عسى أن يكون في هذا الكتاب، وما هذا السر الخطير الذي يتضمنه؟
وقد ركب مركبة وجعل يطوف بها وهو لا يقصد مكانا معينا، وكلما لقي فلاحا أو فلاحة سألهما عنها فلا يقف لها على أثر.
ولبث وهذا شأنه ثلاثة أيام إلى أن عجز عن لقائها، ورأى أنه لم يبق عليه سوى إبلاغ الحكومة أمر اختفائها، فجاء قاضي التحقيق وسأله أن يبسط له بالتدقيق التام جميع الحوادث التي جرت قبل اختفائها.
فامتثل بوفور وبسط له كل ما عرفه القراء، فسأله القاضي قائلا: متى عرفت السيدة مرسلين دي مونتكور؟ - منذ بضعة أشهر. - أين تعرفت بها؟ - في سويسرا؛ إذ كانت تتجول فيها مع عمتها، فأحببتها وتزوجت بها، وهذه كل حكايتي معها، على أني بالرغم عن هذه المصيبة التي قصمت ظهري وبالرغم عن اختفائها الغريب لا أزال واثقا من أنها تحبني كما أحبها.
ولا بد لي أن أقول لك إني غني وهي فقيرة، وإنها كانت ترى أن فقرها يحول دون زواجها برجل من أهل المقامات، فكانت تنظر إلى زواجنا بشيء من الامتنان. - إذن لم يكن لها مهر؟ - بل إني خصصت لها من ثروتي ريعا قدره عشرة آلاف فرنك في العام. - كيف كانت خطتها بإزائك حين دنو موعد الزواج؟ - كان السرور يتألق في عينيها قبل وفاة أبيها. - ألم تر عليها شيئا من علائم الحزن دون سبب؟ - نعم؛ فقد كانت أحيانا تنظر إلي فتجول في عينيها الدموع، وذلك في أوائل عهد اتصالنا، ثم لم أعد أرى منها غير علائم الفرح، ولكنها لم تكن تخلو من السويداء. - كيف كنت تعلل ذلك؟ ألم تسألها شيئا عن هذا الموضوع؟ - لماذا؟ وأية فائدة من هذا السؤال بعد يقيني أنها أطهر فتاة؟ - ألم تجد منها ما لم تألفه قبلا منذ زواجك إلى عهد اختفائها؟ - كلا. - ألا تعرف لها مبغضا أو عدوا؟ - إنها محبوبة من الجميع في هذه البلاد، ومن يكره الملائكة؟! - هو ذاك، ولكن البغض قد يتولد من الحب، ألم يخطبها قبلك أحد؟ - لم يخبرني أبوها ولا هي بشيء من هذا.
وفي اليوم نفسه أبرق القاضي إلى جرائد باريز عن اختفاء مرسلين، وذكر أوصافها فنشرت الجرائد هذه الحادثة الغريبة التي باتت حديث الناس، فلا يعلمون أهي ميتة أم مختفية؟!
وقد بث القاضي رجاله في جميع تلك المنطقة يبحثون ويسألون، إلى أن جاءه واحد منهم يوما وهو يعتقد بفوزه، فقال إنه لقي في الطريق مزارعا أخبره أنه رأى امرأة بملابس فلاحة تنطبق أوصافها على مرسلين، وكان يصحبها فتى يدعى جان جوت ويلقب بكلوكلو، وهو جندي قديم نال المدالية العسكرية، وفقد ذراعه في معركة سباستبول، وهو يرتزق الآن من الغناء في الشوارع.
كان هذا الجندي محبوبا في برين لشهامته وحسن أخلاقه وبسالته، وكان غريبا في سكره؛ فإنه إذا شرب نصف كأس من الخمر استخفه الطرب فجعل يرقص ويغني، فإذا شرب النصف الآخر تدحرج تحت المائدة، بل إنه قد يسكر من الماء القراح إذا أوهم نفسه أنه يشرب الخمر، فيندفع في الطرب.
وعلى الجملة فقد كان طروبا خفيف الروح كثير الغناء، ولم يكن له مرتزق إلا من هذا الباب.
فلما سمع القاضي هذا القول من الجندي دعا إليه كلوكلو وسأله قائلا: من هي هذه المرأة التي كانت معك وإلى أين ذهبت؟
فتنحنح ولم يجب، واصفر وجه بوفور، فقال له: بربك قل ما تعلمه وإني أكافئك بمال يكفيك حتى الموت.
فتنحنح أيضا، وربما كان سعاله هذا المرة من التأثر، وقال: إني لا أعلم شيئا ولا أذكر شيئا.
فقال له القاضي: يستحيل أن تكون نسيت، فأجهد ذاكرتك؛ فقد كان ذلك منذ خمسة أيام فقط، فهل تعرف السيدة مونتكور؟ - كيف لا أعرفها يا سيدي وقد كان أبوها كولونيل، وكنت تحت قيادته في سباستابول، وكنت أكثر الأحيان أتغدى مع خادمتها في المطبخ. - إذن إنك تستطيع أن تكشف لنا شيئا من سر هذا الاختفاء الغريب. - أين لي ذلك وأنا لا أعلم شيئا؟ - لقد قال لنا أحد المزارعين إنه رأى امرأة معك، وإنها كانت السيدة مرسلين. - لقد أخطأ هذا المزارع؛ فإن هذه المرأة التي صحبتني لم أرها قبل تلك المرة، ولم أعرفها حتى الآن. - أتقسم على صحة ما تقول؟ - أقسم إذ لا بد من القسم. - لماذا تقول لا بد من القسم؟ - لأني لا أستطيع أن أقسم على عكس ذلك. - وإذا سألتك أن تقسم بشرف الجندية وبهذه المدالية التي يزدان بها صدرك؟
فاصفر وجهه وقال: إن الرجل الشريف لا يكذب، وليس لي ما أقوله غير ما سمعتموه.
فأطلق القاضي سراحه، وقال بوفور: أرأيت يا سيدي كيف أن جهدك قد ذهب عبثا كجهدي؟
قال: من يعلم فقد يطول الأمر، ولكن لا بد من الوصول إلى الحقيقة، فاسمح لي الآن أن أجري بعض المباحث في غرف القصر؛ فقد يمكن أن نجد رسالة أو أثرا نهتدي به.
قال: افعل يا سيدي ما تشاء.
فأخذ القاضي يبحث في الغرف، بينما كان بوفور جالسا في غرفة مرسلين وهو تائه في عالم التفكير مسترسلا إلى الأحزان التي لا توصف.
أما القاضي فقد كان يبحث في الغرف يعاونه قومسير البوليس، وقد عثر على أوراق اصفر وجهه بعد تلاوتها، فطواها ووضعها في جيبه وهو يقول: إن هذا السر الذي اكتشفته لا يحق لي إذاعته، نعم إني وعدت الموسيو بوفور أن أطلعه على كل ما أجده، ولكن الواجب يقضي علي بأن أكتم عنه سر هذه الرسائل، مسكين هذا الرجل فإنه الآن أشد الناس نكدا، ولكن بقي له الأمل.
ثم عاد إلى بوفور فسأله بوفور قائلا: ماذا وجدت؟
قال: لا شيء.
قضت مرسلين أيام شبابها بجانب أبيها؛ فقد ماتت أمها عنها وهي طفلة.
وكان أبوها ميالا إلى العزلة في قصره؛ فلا يزوره غير الجيران، وبينهم فتى يدعى جان داغير، وهو من النبلاء، وله مزرعة يتولى إدارتها بنفسه ويعيش من ريعها، وهي كل ما يملك.
كان هذا الفتى ذكي الفؤاد كثير المطامع والدهاء، لا يبحث إلا عن ثروة تعينه على الاسترسال إلى الملاهي، ولكنه على فرط دهائه لم يوفق إلى نيلها.
أما والد مرسلين فقد كان إيراده السنوي من مزارعه أربعين ألف فرنك، فكان جان يقول في نفسه: إن مرسلين غنية وجميلة، وقد بلغت سن الزواج وأنا في مقتبل العمر، ونحن متكافئان في النسب، فلماذا لا أكون ذلك الزوج؟
أما والد مرسلين فإنه كان يأذن له بزيارته لمصداقته مع أبيه، ولكنه كان ينفر منه ليقينه أنه ليس على شيء من مبادئ الأشراف.
أما جان فقد جعل كل همه استرضاء مرسلين توصلا إلى حملها على حبه، فبدأت بالميل إليه، وهكذا يبدأ الحب.
وكان جريئا فكلما زادته ميلا زادها استرضاء، حتى وثق من أن الحب قد نفذ إلى قلبها كما تنفذ الأشعة من الزجاج، فبدأ يواعدها على اللقاء حتى انتهى بهما الأمر إلى أنهما كانا يجتمعان كل يوم بالخفاء.
إلى أن قال لها يوما: أتحبينني حقيقة يا مرسلين؟
قالت: أنت تعلم أني أحبك بملء جوارحي فلماذا تسألني هذا السؤال؟ - لأسمع منك هذه الكلمة الحلوة فما أسرها في قلبي. - أحبك أحبك.
فضمها إلى صدره وقال: إني ذاهب من فوري لأخطبك إلى أبيك. - اذهب أيها الحبيب؛ فإن أبي يجيبك إلى طلبك، وأنا أنتظرك هنا وأملي ...
فتركها وذهب إلى أبيها، وهو لا يرى ما تراه مرسلين من موافقته؛ إذ كان واثقا من أنه يعرفه حق العرفان.
وقد لقيه في قصره فاستقبله حسب العادة، ودار الحديث بينهما على الزراعة.
ثم أطرق جان برأسه وظهرت عليه علائم الوجل، فقال له مونتكور: ألك ما تقوله لي؟ - هو ذاك. - إذن لماذا التردد؟ قل فإني مصغ إليك. - لقد أصبت، فلا يجمل التردد مع صديق مثلك، فاعلم أن الأمر يتعلق بزواج. - أتريد أن تتزوج؟ - نعم. - حسنا تفعل، ولا سيما إذا وجدت فتاة ترضيك. - لقد وجدتها وهي لا ترضيني فقط، بل قد تيمني حبها. - لقد أدهشتني! أأنت من الذين يحبون؟ - لا أقول لك غير الحق. - إذن إنها لعجيبة، وهل أستطيع أن أنفعك بشيء؟ - لا أستطيع أن أتزوج إلا إذا كنت تريد.
فوقف مونتكور كأنما لسعته أفعى وقال: ماذا تعني بذلك؟ - أعني أنك والد التي أحبها وإني أتشرف بخطبتها إليك. - إما أن تكون مجنونا أو سكران.
فامتقع وجه جان بصفرة الموت، وقبض على يد الكونت دي مونتكور فهزها بعنف، وقال: وأنت أتحسب نفسك من العاقلين حتى أخطب إليك ابنتك فتجيبني بالإهانة والتحقير؟
قال: لا أنكر أني أخطأت؛ فاجلس ولنتحدث. إنك خطبت إلي ابنتي، ولكن كان يجب أن تعلم أني لا أجيبك إلى طلبك فلا تطلب المحال. - ولماذا ترفض طلبي؟ لا أنكر أني لست من الأغنياء، ولكنك لا تنكر أني مثلك من طائفة النبلاء، فما الذي تنكره علي؟ - أتريد أن تعلم؟ إذن فاسمع؛ إنك لا تروق لي لأسباب كثيرة؛ منها أنك من أهل الكذب والبهتان، وأنك زير نساء؛ فإني مهما بالغت في العزلة فما خفيت عني أعمالك المنكرة، ولست موقنا أن قلبك يعبر عن مؤثرات الحب الصحيح؛ ولذلك فقد أردت خديعتي حين قلت لي إنك تحب ابنتي، ولم تقل الحقيقة إلا حين قلت إنك لست من الأغنياء، فأنت لا تريد ابنتي، بل تريد مهرها، ألم أقل الحقيقة؟ - لقد تجاوزت الحد في قولك حتى إنه لا يمنعني عن صفعك غير أنك أبو مرسلين.
فأجابه الكونت بملء السكينة: أرأيت أنه لا يمكن أن نتفق، إذن لا تقبل أن تعترف، فأستودعك الله راجيا أن تنسى طريق قصري. - لا تقل الوداع، بل قل إلى اللقاء.
وقد خرج وهو يكاد يتميز من الغضب إلى حيث كانت تنتظره مرسلين، فأسرعت إليه وهي تقول: ماذا حدث؟ - إن أباك لا يرضى بزواجنا.
فاشتد خفوق قلبها وقالت: لماذا؟ - لا أعلم، فإما أن يكون ما أصيب به من خرف الشيوخ، أو أنه يطمع بأن يجد لك زوجا أغنى مني. - أما قلت له إنك تحبني؟ - دون شك. - أما قلت له إني أحبك؟ - كلا؛ فقد خشيت أن ينقم عليك. - لقد أخطأت؛ فأنا سأقول له.
فضمها إلى صدره وقال لها: آه لو تعلمين يا مرسلين كم أحبك.
وفي المساء جلست مرسلين مع أبيها للعشاء، فكانت مطرقة لا تجسر على أن تنظر إليه، وهو يراقبها، إلى أن شهقت فجاءة بالبكاء وقالت: إنك ستجعلني يا أبي أتعس الفتيات.
قال: ما هذا؟ وماذا تعنين؟
قالت: إن جان داغير يحبني وأنا أحبه، وقد أخبرني بكل ما جرى بينكما، وهذا سبب بكائي. - هل خلوت به في غيابي؟ أين وكيف؟
فأطرقت برأسها ولم تجب.
قال: أتعلمين كيف استقبلت هذا الفتى حين جاء لي خاطبا؟
قلت له: إن رجاءك بقبولي يدل على أنك سكران أو مجنون. فإن هذا الرجل غير كفء لك. - إني أحبه يا أبي. - آمرك ألا تفتكري به، واحذري أن تقابليه أو تكلميه.
فلم تلح؛ إذ وجدت ألا فائدة من الالتحام، ودخلت إلى غرفتها فجعلت تبكي كل الليل.
وعند الصباح جاءها أحد الرعاة برسالة من جان قال فيها:
أحبك، وأنا حزين، فكيف أنت؟
فأجابته مع الرسول نفسه:
أحبك وسأحبك مدى الحياة، إنك حزين أما أنا فأبكي.
وقضت عدة أسابيع لم يدن جان في خلالها من قصر مرسلين كي لا يثير الظنون في صدر أبيها، ولكنه كان يراسلها في كل يوم، ثم أخذ يراقب الكونت، فإذا علم أنه برح القصر جاء متلصصا إلى مرسلين، وأقام معها بضع ساعات يوهمها أنه صادق في هواه، ويعبث بقلبها الطاهر، إلى أن وثق بأنها باتت له، فلم يكترث للأخطار وسقطت تلك الحمامة بين براثن ذلك البازي، فأصبح جان واثقا أن أباها لم يبق بد له من الموافقة على زواجه بابنته بعد أن يقف على الحقيقة.
وقد اتفق يوما أن الكونت وجان كانا يتنزهان على جواديهما في البراري، فالتقيا صدفة، ودنا جان منه فقال له فجاءة: هل تمعنت يا سيدي الكونت؟
فدهش الكونت لجرأته وقال له: وأنت هل بقي لك شيء من الأمل؟ - إذن إن رفضك جازم لا رجوع فيه! - هو ذاك، فلا تحلم بمصاهرتي يا بني وارجع إلى إغواء الفلاحات حسب عادتك، أما مرسلين فهي أرفع من أن تصل إلى مقامها.
فعض جان شفته حتى كاد أن يدميها، ثم نظر إليه محدقا وقال له: استشر مرسلين إذن فهي تخبرك بأنه يجب أن أكون زوجها.
ثم لكز بطن جواده فانطلق به، وعاد الكونت إلى قصره وهو مضطرب مهموم، لا يعلم مراد هذا الشقي مما قاله؛ حتى وصل ولقي ابنته، فما جسر على أن يسألها؛ لأنه إما أن تكون بريئة فيكون قد أساء إليها بالظن، وإما أن تكون مذنبة فيفضي الأمر إلى انتحارها وانتحاره في أثرها.
وقد أخذ ينظر إليها وهو يخترق بنظراته أعماق قلبها، فلم يطمئن؛ إذ رآها صفراء الوجه حمراء العينين، وأنها لم تكن تستطيع احتمال نظراته إليها، فنظرت بعينها إلى الأرض، فعلل هذا الإطراق باستحيائها منه لاعتقاده أنها خجلت من أن تحب رجلا يعتقد أبوها أنه من الأشرار.
وقد دخل إلى غرفته وهو يقول في نفسه: الويل له، إذا كان كاذبا في ما ادعاه فسأقضي على حياته أو يقضي على حياتي.
وفي اليوم التالي ورد إلى مرسلين كتاب من جان يقول فيه:
لقد لقيت أباك وجددت الطلب فعاد إلى الرفض، فلم يبق لي غير رجاء واحد وهو أن تسعي أنت إلى نيل موافقة أبيك.
فعولت على أن تعمل برأيه ودخلت إلى أبيها، فجلست بجانبه وظهر الاضطراب عليها؛ لأنها لم تكن تجسر على الكلام.
إلى أن مهد لها أبوها السبيل بسؤالها عما بها، فركعت أمامه وقالت بصوت يتهدج بالبكاء.
إنك تعلم يا أبي أني أحب جان داغير، وأنه يحبني، فلماذا لا تريد أن تسعدنا بالزواج؟
قال: كلا؛ فإن هذا لا يكون. - أترضى أن أكون أتعس امرأة في الوجود، وأن تكون أنت سبب شقائي؟ - إنك ستنسينه وسأجد لك زوجا من أكفائك. - ولكني لن أحب ذلك الزوج؛ لأني أحب جان، وماذا تنكر عليه فتنفر منه هذا النفور؟
وقد حاولت في البدء أن تقنعه قبل أن تعترف ذلك الاعتراف الشائن.
فقالت له: إني أحبه يا أبي حبا لا ينزعه من قلبي غير الموت، نعم إنه فقير، ولكنا أغنياء، وهو يحبني بملء جوارحه، وهو شقي مثلي برفضك، فلماذا لا نكون ولدين بقربك بدلا من واحد، فنكون خير عزاء لك في شيخوختك؟
وقد جعلت تقبله وتسترضيه بالبكاء والابتسام؛ فحن قلبه وقال لها: إني أحبك يا ابنتي العزيزة، ولا يوجد من يحبك حبا صادقا منزها غير أبيك، فثقي به واعلمي أنه لا يريد بكل ما يفعله غير سعادتك؛ فإن جان غير كفء لك. - ولكني أحبه. - لا تعيدي هذا القول يا ابنتي، ولا تبكي؛ فإنك لا تزالين في مقتبل عمرك، فأنت تتكلمين الآن بلسان الفتاة لا بلسان المرأة، أإلى هذا الحد تريدين الإسراع بالانفصال عن أبيك؟ - لا ننفصل عنك يا أبي، بل نقيم عندك ونعيش وإياك. - أصغي إلي يا ابنتي؛ فإن الواجب يقضي علي بأن أطلعك على كل شيء، إني لا يمكن أن أوافق على زواجك بهذا الرجل؛ لأني أعرف عنه ما لا تعرفينه، وقد حضرت مولده وخبرته منذ كان طفلا إلى اليوم، فله من العيوب ما لا يجوز أن يخدش بها مسامع الفتيات، ثم إنه منافق محتال، فإذا قال لك إنه يحبك فهو إنما يقول ذلك بلسانه لا بقلبه؛ لأنه ليس له قلب، وإنما يدفعه إلى خداعك طمعه بمالك، فإذا فقد رجاءه من هذا الباب انصرف إلى سواك من فوره. - إنك تسيء الحكم عليه يا أبي. - بل إني أقول الحق؛ فهو لا يطمع إلا بثروتك. - كلا؛ بل إنه يحبني. - أتريدين أن أبرهن لك على عكس ما تقولين؟ - كيف ذلك ؟ - ذلك أني أدعوه إلى هنا، ومتى حضر أظهر أمامك وأمامه أني خسرت في البورصة ثلاثة أرباع مالي، وأني بت مضطرا إلى بيع مزارعي حتى هذا القصر الذي أنا فيه، فإذا رضي بك بعد ذلك أكون مخطئا ووافقت على زواجكما واعتذرت إليه أمامك. - أسرع يا أبي بالكتابة إليه، وأنك تنتظر قدومه لترى أنه يحبني حقيقة دون مالي.
فهز الكونت رأسه وقال: وإذا اضطرب بعد أن يعلم إفلاسي، وتردد أو اختلق حجة لتأخير موعد الزواج أو تعلل بالسفر فماذا تقولين؟
فأكبت على عنق أبيها تقبله وتقول: أسرع يا أبي بالكتابة إليه وسوف ترى.
فامتثل وكتب إليه مشترطا عليها ألا تقول له كلمة، ولا تشير إشارة تدل على هذه الخدعة.
قالت: دون شك؛ فإن أقصى مرادي أن تعلم بأنك مخطئ بالحكم عليه كي يطمئن قلبك.
وفي اليوم التالي أقبل جان واجتمع الثلاثة في قاعة الاستقبال، فبدأ الكونت الحديث فقال: إن ابنتي تحبك يا موسيو جان، وحاشا أن أعترض في سبيل سعادتها؛ فإني لا أطيق أن أكون السبب في بكائها، ولما كان الحب بينكما متبادلا فقد وافقت على زواجكما.
فوقف جان وقد اصفر وجهه لوثوقه أن مرسلين اعترفت له بالحقيقة؛ إذ لم يكن يتوقع منه هذا التساهل السريع.
ومضى الكونت في حديثه فقال: نعم، إني رضيت بزواجكما ولا أجد سببا لتأخير عقده، فتأهب له وأنا سأعد معداته، وهنا لا بد لي أن أقول لك ولها كلمة تتعلق بحالتي المالية.
فأراد جان أن يعترض، ولكن الكونت أسرع إلى القول: نعم، إن من كان مثلك محبوبا لا يكترث للمال، ولكن لا بد من إطلاعك على حقيقة حالي فاسمع.
إنك لو كنت من الأغنياء يا بني لكان مستقبل بنتي مضمونا ونظرت إليه باطمئنان، ولكنك فقير لنكد الطالع، ومرسلين لا تمتلك شيئا، وإنك ستصير بمثابة ولدي، فلا يجمل بي أن أكتمك شيئا من أمري.
فتبين الاضطراب في وجه جان، وعاد الكونت إلى الحديث فقال: كانت ثروتي منذ بضعة أيام مؤلفة من أربع مزارع كبرى، ومن هذا القصر الذي أقيم فيه، وبعض العقارات، وهي خير مزارع هذه البلاد كما تعلم، فاشتغلت منذ بضعة أيام في البورصة مع بعض أصحابي، ونحن نتوهم أننا رابحون، فخسرت نصف ثروتي صفقة واحدة، ثم خسرت بعد ذلك ثلاثمائة ألف فرنك لم أدفعها بعد، ولكن دين للبورصة دين شرف لا بد من وفائه، فلا بد لي من بيع بقية مزارعي للسداد، وبحيث لا يبقى لي غير قصري والمزرعة المحدقة به، وهو ما لا يكاد يكفي للقيام بأودي.
وهذه هي حالتي، نعم، إنها لا تؤثر على حبك ولكن لا بد من إظهارها لتكون واقفا على الحقيقة؛ فإني منذ عشرة أيام كنت أستطيع أن أمهر بنتي بمائتي ألف فرنك، أما اليوم فإنك ستتزوجها من غير مهر وا أسفاه.
وقد نهض الكونت وجعل يمشي ذهابا وإيابا في الغرفة، وأطرق جان، فمضت دقيقة حسبتها مرسلين دهرا وهي تقول في نفسها: رباه، ألعله يتردد؟
إلى أن أجاب جان فقال: لقد أصبت فيما قلته؛ فإن خسارتك لثروتك لا تؤثر في شيء على مقاصدي، فإني لا أحب مرسلين لثروتها.
فصافحه الكونت وقال: أحسنت يا جان فهذه مناهج الأشراف.
فقال جان: على أن إفلاسك نكبة لا يمكن أن تؤثر علي؛ لأني فقير لا أستطيع أن أقوم بكل ما تحتاج إليه مرسلين، ولا سيما أنها ربيت في أكناف النعمة وتعودت من النفقات ما لا طاقة لي عليه؛ ولذلك أخاف أن يؤثر عليها هذا التغيير، فإذا رضيت بحالتي الحاضرة فلست أنا الذي يأبى. - اطمئن يا بني فإن ابنتي لم تتعود عيش البذخ ولا تحب الإسراف، فلا يروعها الفقر. - قد يكون ذلك ولكني ... ألا ترى أن الحكمة تقضي بأن تبقى معك إلى أن تألف هذا العيش الجديد قبل الزواج، وإني لا أقترح هذا الاقتراح إلا لهنائها.
فأجابه الكونت بلهجة المتهكم: قد تكون مصيبا، ولكني أرى التعجيل بالزواج أولى؛ فإن الحب يهون كل عسير. - هذا لا ريب فيه، ولكن بقي سبب آخر يقضي بعدم التعجيل بالزواج؛ فإني أحب مرسلين حب عبادة ولا أريد التأخير، ولكني لا أستطيع أن أنسى أيها الكونت العزيز كيف عاملتني حين خطبتها إليك، وكيف أظهرت عيوبي وقلت إن زواجنا محال؟
لا أقول هذا لأني حاقد عليك، ومعاذ الله أن أكون من الحاقدين، ولكنك إذا كنت نسيت تلك الأقوال فإني لا أنساها؛ لأنها محفورة في قلبي، وقد كنت مخطئا في حكمك علي، فأنا أريد أن أصبر إلى أن تنجلي لك حقيقة أمري وتثق أن النمامين قد وشوا بي إليك بما هو كذب وافتراء، فاسمح لي أن أتريث إلى أن تختبرني فأكسب احترامك ومودتك، وعند ذلك لا أكون صهرك فقط بل أكون ولدك. - إذا كان هذا ما تريده يا بني فليكن ما تريد، وإن ابنتي تنتظر؛ أليس كذلك يا مرسلين؟
فالتفت الاثنان إلى مرسلين، وقد تبين في وجهها القنوط، فابتسمت ابتساما مغتصبا، وقال الكونت: إن ابتسامها علامة القبول، فهي تنتظر ما دمت تريد، فتعال لزيارتنا جهد إمكانك فأنت هنا كأنك في بيتك.
فنهض جان ومشى إلى مرسلين فقال لها: إني أسعد الناس بما سمعته من أبيك؛ فإن هذا الإفلاس زادني تقربا منك؛ فإن ثروتك كانت شبه حاجز بيننا، أما الآن فقد صرنا متساويين، فإلى اللقاء القريب.
وقد ودعهما وانصرف، ففتح الكونت نوافذ القاعة التماسا للهواء، ثم قال لابنته: أرأيت يا مرسلين؟ هل انجلت لك الحقيقة بالبرهان؟
فشهقت وهي تقول: يا له من خائن، ثم سقطت مغميا عليها بين ذراعي أبيها.
وقد طال إغماؤها ساعة دون أن تستفيق حتى خشي أبوها أن تكون فارقت الحياة، فجعل يبكي ويقول: ويلاه أنا الذي قتلتها.
ثم فتحت عينيها فضمها إلى صدره، وقال: ابكي يا ابنتي قدر ما تستطيعين فإن البكاء يفرج الأحزان.
وقد كان يأس تلك المنكودة عظيما، حتى إنها كادت أن تحقد على أبيها، ولكنها بقي لها شيء من الرجاء بعودته، فأقبل الليل ومضى اليوم الثاني دون أن يعود، وفي اليوم الثالث ورد منه إلى أبيها الكتاب الآتي:
سيدي الكونت
أسألك المعذرة؛ لأني اضطررت إلى السفر إلى باريس دون أن أخبرك؛ لشغل هام، فأرجو أن تبلغ أشواقي لمرسلين وأن تقبل تحياتي.
وبعد أسبوعين عاد من باريس فمضى شهر دون أن يزور خطيبته، وكان الكونت عالما بعودته ولكنه لم يخبر مرسلين التي كانت معتزلة في غرفتها تبكي وتصلي؛ لأنها باتت الآن صاحبة سر إذا انكشف لبسها عاره مدى الحياة، ولم يعد في وسعها كتمان هذا السر إلى أمد طويل؛ لأنها ستصبح أما.
ففي ليلة دخلت إلى أبيها وقد انتصف الليل فعجب لقدومها في مثل هذه الساعة، وقال لها: لماذا لا تنامين يا ابنتي؟
قالت: أية فائدة من النوم؟ فإني لم أنم من عهد طويل. - إذن أنت لا تزالين تحبينه بالرغم عما ظهر لك منه؛ فقد كنت أتوهم أن هذا الحب استحال إلى احتقار. - بل إلى احتقار وكره. - لماذا تنحلين هذا النحول؟
فغطت وجهها بيديها، وقالت له بصوت خافت خنقته الدموع: يجب يا أبي أن يكون جان زوجي.
وقد وقع قولها على قلب الشيخ وقع الصاعقة، فوقف ونظر إليها نظرة تشبه نظرات المجانين، وقال: ماذا قلت؟ إني لا أفهم ما تقولين. - اقتلني يا أبي فقد حاولت أن أنتحر فلم أستطع.
فسقط المنكود على كرسيه خائر القوى، وسكت سكوتا رهيبا رعبت منه مرسلين أكثر مما كانت تتوقع أن ترعب من غضبه، فجعلت تشهق بالبكاء.
أما أبوها فإنه سألها بعد هنيهة قائلا: إذن لقد كنت خليلته؟ وأخاف ألا يكون هذا كل شيء!
فاعترفت له بكل أمرها، وأنها باتت على وشك الافتضاح. •••
كان الكونت يريد امتحان جان حين أخبره أن البورصة ذهبت بثروته كما تقدم.
وكأنما هذه الأكذوبة كانت شؤما عليه؛ فإنه حين اعترفت له ابنته بنكبتها وردت إليه أنباء من باريس تفيد أن الخسارة حدثت حقيقة، بحيث لم يبق له من حطام الدنيا غير القصر الذي يقيم فيه.
وفي اليوم التالي لقي جان فقال له: لقد قلت لك بالأمس إني فقدت ثروتي وكنت كاذبا؛ لأني أردت امتحانك، أما الآن فأخبرك أني أصبحت حقيقة من الفقراء؛ ولذلك لا أسألك الزواج ببنتي صيانة لمصلحتك المالية، بل لصيانة شرفها وشرفك؛ فإنك صيرتها أما.
فأجابه الشقي بملء البرود قائلا: سأجيبك غدا. - ويح لك أيها الغاشم مما تجيب! ألا تخشى غضبي؟ ألا تخاف قنوطي؟
فهز كتفه وقال: الحق أني لا أخاف. - إذن فاسمع، إني أمهلك إلى الغد، إلى الغد، أسمعت فاحذر.
وقد أنفق معظم ليلته على المراسلات وترتيب أوراقه.
وفي اليوم التالي ذهب إلى منزل جان، فقيل له إنه سافر إلى باريس، فتبعه إليها وذهب إلى البيت الذي يقيم فيه، فوجده عند الباب يحاول الانصراف، فلم يقل له كلمة عن هربه، ولكنه صفعه صفعتين، وقال: أبقي سبيل إلى اجتناب المبارزة؟
قال: كلا، ولكني سأقتلك.
قال: هذا أمر آخر، وأنا ذاهب الآن إلى فندق الشمال في شارع الشليو لأنتظر شهودك.
وفي اليوم نفسه جاء الشهود، واتفقوا على أن تكون المبارزة بالرصاص.
وفي الساعة السادسة من صباح اليوم التالي تبارز الخصمان، فأصيب جان بجرح هائل، ونظر إليه الكونت والدم يتدفق من فمه، فقال: إنه سيموت وقد انتقمت لابنتي، ولكن هل أرجعت شرفها المفقود؟
أما جان فقد حملوه إلى المستشفى فبقي ستة أسابيع بين الموت والحياة، وأما الكونت فقد عاد إلى ابنته فقالت له: ماذا فعلت يا أبي؟ قال: انتقمت منه بالقتل، وهو الآن في عداد الأموات.
ولكنه أخطأ؛ فإن شباب جان تغلب على جرحه القاتل، فعادت إليه الحياة بعد قنوط الأطباء من شفائه.
أما مرسلين فقد أصبح بقاؤها في قصر أبيها مستحيلا؛ لأن زلتها لا بد أن تظهر، فسافرت مع عمتها إلى سويسرا وبقيت هناك بضعة أشهر إلى أن وضعت غلاما دعته جيرار، فأودعته مرضعا بين جنيف ومدزان، وعادت مع عمتها إلى أبيها، وهي تقول لها: لقد انتزعت حياتي مني ولا أعلم ما تخبئه لي الأيام، ولكني لا أتخلى عن ولدي ولو فضحت به.
وفي الربيع التالي عادت مع عمتها إلى سويسرا وأقامتا في أحد فنادق برن، وقد كان جاء إليه في اليوم نفسه فتى يدعى بيير بوفور، وهو في العشرين من عمره توفي أبوه وترك له ثروة كبيرة.
وكان قد أجهد نفسه في درس الحقوق، فاعتلت صحته، وهو في كل عام يأتي إلى سويسرا فيقيم فيها كل الفصل عملا بإشارة طبيبه.
وقد التقى لأول مرة مع مرسلين في قاعة الفندق؛ فراقه جمالها وسمع حديثها مع عمتها فعلم أنها فرنساوية.
ولم يطل الزمن بمرسلين حتى أيقنت من تعلق هذا الفتى بها؛ فإنها كانت تلتقي به كل يوم في الفندق والطرق والمتنزهات، وتقول في نفسها: لقد جاء بعد فوات الأوان؛ فإني لا أستطيع أن أحب ولا أن أكون محبوبة؛ ولذلك لم يكن يلقى بوفور في نظراتها شيئا من التشجيع، ثم رأى أنها تجتنبه؛ فبرح الفندق فارتاحت مرسلين لبعده، ولكنها لم تكن تملك نفسها عن التنهد كلما خطر في بالها، دون أن تعلم السبب في تنهدها.
وبعد أسبوع برحت برن مع عمتها إلى مدينة بال، وكأنما الأقدار كانت تهزأ من جفائها وابتعادها؛ فإنها لقيته في بال ولم يكونا في فندق واحد، ولكنهما كانا يلتقيان في الحديقة العمومية وفي المعرض والكنائس، فأخذت مرسلين تألفه تباعا، فإذا أتت إلى منتزه عام تجيل نظرها باحثة على رجاء أن تراه، فإذا رأته أطرقت بعينيها وشعرت كل ذلك اليوم بسرور خفي، كل ذلك وهي لم تعرف اسمه بعد.
وكأنما زلتها وحرمتها جعلتاها بعيدة النظر، فكانت تكبح جماح هواها حين تفتكر به، وتقول في نفسها: إلى أين أنا صائرة، ألعلي جننت! أيحق لي أن أحب هذا الفتى؟ وإلى أية نتيجة يقودني هذا الحب؟
ولذلك رأت أن خير طريقة لاتقاء هذا الخطر الجديد هي أن تبرح هذه المدينة إلى مدينة سواها.
وقد اتفقت مع عمتها على ذلك، وفي اليوم التالي بينما كانت تنتظر في قاعة المحطة إلى أن تجيئها عمتها بتذاكر السفر، دخل بوفور في تلك القاعة فحياها بملء الاحترام، وقال لها بلهجة الوجل الخائف: أسألك المعذرة يا سيدتي لجرأتي، ولكني أشعر بدافع أشد من إرادتي يدفعني إلى مباحثتك.
إنك مسافرة يا سيدتي وقد لا أراك مدى الحياة، فلو تعلمين ... كلا، لا أستطيع ... إني بحثت كثيرا عمن يقدمني إليك فلم أجد من يعرفك، وكل ما أرجوه يا سيدتي أن أعرف اسمك فأتمكن في فرنسا من زيارة عائلتك، أما أنا فإني أدعى بيير بوفور، فإذا أردت ألا تجعليني أشقى رجل في الوجود، فلا تستائي مما قلته لك ولا تسيئي بي الظن. فلم تجبه بشيء ونهضت تحاول الابتعاد، فقال لها بسرعة وقد أصبح شبه المجانين: سيدتي إنك إذا سافرت فقدت أثرك؛ فقد قدر لي أن ألقاك اتفاقا مرتين، وأنا لا أعلم إلى أين تذهبين، ولكني واثق من أني سألقاك مرة ثالثة، فإذا أراد الله هذا اللقاء أتأذنين لي يومئذ أن أتعرف بك لتعرفيني حق العرفان؟
فأطرقت بعينيها إلى الأرض وقالت: إذا أراد الله.
فلما ابتعد عنها ندمت على ما قالته، وقالت في نفسها: لا شك أني جننت، ولكنه لن يراني بعد؛ فإني أعلم كيف أجتنبه.
وعند ذلك جاءت عمتها فقالت لها: هل أخذت التذاكر لزيريخ؟
قالت: نعم، أما هكذا اتفقنا؟ - لقد غيرت خطتي، فلا أريد السفر إلى زيريخ. - أفقدت صوابك؟ - ربما. - إلى أين تريدين أن نسافر؟ - إلى بلد تتلبد الثلوج فوق جبالها؛ فلا يمكن اجتيازها. - وهذه البلدة؟ - هي غرند لولد فأسرعي إلى تغيير التذاكر.
فذهبت عمتها وهي تهز رأسها، وقالت مرسلين في نفسها: إنه إذا تلاقينا هناك يكون قد صدق في ما قاله، وهو أن الله يريد هذا اللقاء، على أني لا أتمنى إلا أن أعيش وحدي مع ولدي مدى الحياة.
وذهبت إلى تلك القرية فأقامت فيها مع عمتها، وجعلت كل يوم تذهب وحدها إلى الجبال المحدقة بها وتتنزه بين غاباتها.
فبينما هي جالسة يوما في ظل شجرة رأت رجلا ينزل من قمة عالية، فلم تتبين وجهه لشدة بعده عنها.
وما زال يقترب حتى صار على بعد مائة متر منها، فكاد قلبها أن يثب من صدرها إذ عرفته، وقال بلهجة تشف عن الرعب: هذا هو!
أما هو فلم يرها؛ لأنه لم يكن ينظر إلى جهتها، إلى أن دنا منها فصاح صيحة دهش ورفع قبعته بملء الاحترام، وقال: أرأيت يا سيدتي أنها إرادة الله؟
فلم تجبه، ومضى في حديثه فقال: أقسم لك بشرفي أني لم أكن أعلم بوجودك في هذه القرية، وأن الصدفة وحدها قادتني إليها. - إنه اتفاق غريب يا سيدي، إذا كان حقا كما أريد أن أعتقد أنك ما قفوت أثرنا. - لقد أقسمت لك بشرفي يا سيدتي. - لا حاجة إلى القسم؛ فقد وثقت ورجائي ألا يسوءك قولي؛ فإنك لا تعرفني ولا أجد لك فائدة من معرفتي. - ألم تعديني بذلك يا سيدتي، فلماذا تجفينني دون أن تعرفيني؟ - أية فائدة من ذلك؟ - إني أحبك وأقصى ما أتمناه تبادل هذه العاطفة. - كيف تحبني وأنت لم ترني أكثر من أربع مرات؟ - قد يتولد الحب من نظرة، وإن حبي طاهر شريف يا سيدتي لا أريد به غير إسعادك. - إنك واهم يا سيدي، أما وقد لقيتني الآن وكشفت القناع عن ضميرك فاعلم أن إلحاحك يزعجني. - أهكذا تريدين أن أسافر دون رجاء؟ - نعم. - إذن إن قلبك مقيد؟ - كلا؛ فإني لا أحب أحدا.
وقد ندمت على ما قالته؛ فإن قولها هذا قد يكون بمثابة تشجيع؛ بدليل أنه نظر إليها نظرة تشف عن الاطمئنان وانصرف.
فأدركت معنى نظرته، وجعلت تقول في نفسها: ويح لي مما قلت وفعلت، ألم تنضب الدموع من عيوني، فلماذا أدفع نفسي الآن في سبيل الدموع؟ وبعد فهل أستطيع أن أحبه دون أن أعترف له بزلتي وأخبره بأمر ولدي؟ وكيف أبسط عاري لرجل يهبني قلبه!
وبعد، فهل الذنب ذنبي؟ إني لا أحبه ولا أستطيع ولا أريد أن أحبه.
وقد مضى أربعة أيام دون أن تراه؛ فشعرت بعاملين يتجاذبانها؛ عامل ارتياح وعامل استياء في حين واحد، وهذا من غرائب أسرار القلوب.
وفي اليوم الخامس سمعت باب المنزل يطرق فلم تكترث؛ لأن عامل البريد كان يأتي أحيانا، ولكنها ما لبثت حتى صاحت صيحة دهش؛ إذ كان القادم بوفور نفسه، وقد طلب مقابلة عمتها فلقيها وقال لها بملء البساطة: أرجوك معذرتي يا سيدتي لتشرفي بمقابلتك على هذا الشكل؛ فإني أحب مدموازيل دي مونت كور، وقد رأيتها لأول مرة في برن منذ شهر، وكانت الأقدار تدفعني إلى الشوارع التي تمر فيها فأراها، ولم أعرف اسمها إلا منذ أربعة أيام، فكتبت إلى صديقي البارون دي لافار في فرنسا فأرسل إلي اليوم هذا الكتاب، هو لك يا سيدتي فتفضلي بتلاوته.
فقرأت الكتاب وقالت له: إن صديقنا البارون يوصيني بك يا سيدي، فأهلا بك ولكن على شرط.
قال: إني أقبل بشرطك قبل أن أعرفه. - شرطي ألا تحدث ابنة أخي بحديث حب. - ولكني أحبها. - إنك تحبها ولكني لا أعلم أنها تحبك، ثم إني أعرف أمانيها، فلا أظن أنك أنت الذي تحقق هذه الأماني؛ ولذلك رجوتك ألا تكاشفها بحبك، فهل تقسم لي؟ - أقسم لك على أني أحتفظ بهذه اليمين إلى أن تحلني ابنة أخيك منها.
فأدارت وجهها كي تخفي دمعة جالت في عينها، وقالت: إني واثقة من أنها لا تحلك من هذه اليمين.
وفي اليوم التالي عاد إليها فاجتمع بها وبمرسلين، فلما انصرف قالت مرسلين لعمتها: لماذا أذنت له بزيارتنا؟ فإني قبل أن أعرفه لم أكن سعيدة، ولكني كنت ساكنة مطمئنة، فقضي الآن على راحتي.
فذعرت عمتها مما سمعت وقالت: ماذا تعنين؟
فلم تجبها بشيء ودخلت إلى غرفتها.
وقد أخذت بعد ذلك تتدرج إلى سؤالها، فقالت لها يوما: إنك متأثرة مني كما أرى.
قالت: كلا، بل إني مستاءة فدعيني وحدي.
وقد قالت لها هذا القول بجفاء، فلم تجبها؛ لأنها كانت تحبها؛ إذ هي التي ربتها وخصتها بكل حنو قلبها.
ولكنها باغتتها بعد ساعة في الحديقة وهي تبكي، فقالت لها بلهجة المتوسل: بالله قولي لي ما لك أو يقتلني الحزن.
فقالت لها بلهجة المغضب وبصوت يخنقه البكاء: كيف تسألينني عما أصابني، ألا ترين؟
قالت: إني عجوز لا أرى شيئا ولا أفهم شيئا.
فغطت وجهها بيديها وقالت: أحبه أحبه.
وهنا استرسلت إلى البكاء، فضمتها عمتها إلى صدرها وامتزج الدمعان.
وجعل بوفور يزورهم في كل يوم، وبقي وفيا بوعده فلم يقل لمرسلين كلمة حب، ولكن أية فائدة من الكلام فقد كانت العيون تترجم عن القلب ما يوحيه الغرام.
وقد زاد ذلك في اضطراب مرسلين، وتنبهت عمتها لاضطرابها، وعرفت أسبابه فقالت لها: أتريدين أن أمنعه عن زيارتنا؛ فإن الوقت لا يزال فسيحا؟ - كلا؛ فقد فات الأوان. - ولكن تمعني يا ابنتي فإلى أين يصل بنا هذا السلوك؟ - إلى المستحيل. - إذا كان ذلك ألا يجدر بنا قطع العلائق معه منذ اليوم؟ - بأية حجة؟ - لا بد لي من إيجادها وسأبحث. - حسنا، فابحثي عن سبب يمنعه دون أن يسحق قلبه؛ فقد عرفت عذاب الهجران فلا أريد أن أعذبه ولا سيما ... - ولا سيما أنك تحبينه، وما زلت قد قيدتني بإيجاد الحجة فخير ما أراه أن تقولي له إنك لا تحبينه. - لا أجسر على ذلك. - تمعني يا ابنتي فإن الموقف خطير، وقد يأتي يوم لا تستطيعين فيه كتمان حبك، فما يكون عندئذ وزواجكما محال؟ افتكري بابنك الذي تكتمين أمره. - إذن أنا التي سأقول له لا أنت. - أتجسرين؟ - نعم؛ فإن الشرف يقضي علي بأن أكون جريئة وإذا ضعفت فإن ذكرى ولدي تشجعني.
فهزت عمتها رأسها إشارة إلى الشك. فقالت لها: غدا سأرجوه أن ينقطع عن زيارتنا، أوثقت الآن؟ - أواه يا ابنتي كم تستحقين أن تكوني سعيدة! - إن السعادة ممحوة من كتاب حياتي؛ فقد قضي علي أن أشقى إلى الأبد.
وفي اليوم التالي جاء بوفور حسب عادته واقترح عليهما نزهة في الجبل، فرضيت مرسلين وهمست في أذن عمتها قائلة: تلهي عنا هناك من حين إلى حين بجني الأزهار كي تفسحي لي المجال لمحادثته.
وذهب الثلاثة إلى الجبل، وقبل أن يصلوا إليه سمعت مرسلين صوت رجل يغني؛ أبرقت أسرة وجهها فرحا؛ إذ عرفت صاحب هذا الصوت؛ فقد كان ذلك الجندي المقطوع اليد الذي كان في خدمة أبيها، ثم انصرف إلى الارتزاق من التجول والغناء.
ولم تستطع إخفاء فرحها حين رأته فقالت له: أأنت هنا يا كلوكلو؟
قال: إني مقيم في فندق بونكور، وإني خادمك أين كنت.
وبعد أن حدثته هنيهة تركته فأخذ الثلاثة يتسلقون الجبل.
وكانت عمتها وبوفور يتقدمانها وهي ماشية من ورائهما تفكر في أمرها وتسير الهويناء، وكلما التفتت إليها عمتها تستحثها على السير نظرت إليها نظرة مفادها أني أوثر أن أسير وحدي.
وما زال هذا شأنهم حتى انتهت عمتها إلى قمة عالية ووقفت تشير إليها فأدركتها مرسلين، ونظرت إلى قمة ذلك الجبل إلى واد عميق، ورأت في أسفله زهر البنفسج متكدسا بين الثلوج والصخور في ذلك الوادي، فلم تتمالك عن إظهار إعجابها بهذه الأزهار، وقالت: يا الله، ما أحلاها! وكم كنت أود لو أستطيع أن أجنيها!
وقد قالت هذا القول لعمتها ثم انصرفت إلى الحديث معها، وبعد هنيهة التفتت إلى جهة الوادي فرأت بيير بوفور يهبط إلى ذلك الوادي وهي لا تعلم أنه سمعها تشتهي الأزهار، وقد اضطربت لما رأته، فصاحت بملء صوتها تقول: بيير، بيير، بربك عد ولا تتقدم. فلم يسمعها بوفور بدليل أنه لم ينظر إليها واستمر في هبوطه.
وكانت الحجارة تهوي تحت قدميه، وقد اتفق له مرارا أنه كان يستند في يديه إلى صخر فيهبط الصخر، وصوت هبوطه إلى مسامعها فيتجسم في عينيها الخطر.
وما زال هذا موقفه وموقفها إلى أن وصل إلى موضع تلك الأزهار، فجنى منها ضمة وعاد أدراجه، فاطمأنت مرسلين؛ لأن الصعود ليس فيه شيء من الخطر.
حتى إذا وصل إليها أعطاها الضمة وهو يحسب أنه قد ملك الدنيا، وكان يعد نفسه أسعد خلق الله بإعطائها هذه الأزهار، فأخذتها مرسلين بيد ترتجف ولم تتمالك عن وضعها فوق فمها كأنها تقبل بها من تحب، ثم أغمي عليها من فرط التأثر، فلما استفاقت من إغمائها جعلت تبكي، وقد ذهبت شجاعتها وكل ما كانت عولت عليه من الصبر، فكانت تلك الدموع تنم عما كانت تحاول أن تخفيه، ونسيت في تلك الساعة كل شيء من خيانة داغير إلى تدنيس شرفها إلى ولدها الصغير، وأخذت يد بوفور في يديها وشدت عليها وقالت: ما هذا الجنون! ألا تعلم أنك لو أصبت بمكروه لقتلت نفسي في أثرك ... رباه أتخاطر بنفسك من أجل زهرة؟ قال: بل في سبيل حبك.
وكانت هذه أول مرة صرح لها فيها بحبه بعد أن وعد عمتها بالكتمان، فحنث بوعده مكرها.
وقد أقام الثلاثة هنيهة يتحدثون ويمعنون النظر في ذلك الوادي الجميل ثم عادوا، فاغتنمت مرسلين فرصة بعد عمتها عنها، وهمست في أذن بوفور قائلة: ... أرجوك ألا تعود إلينا وأن تنساني.
فنظر إليها نظرة المأخوذ، وهو لا يفهم شيئا مما تقول، وقبل أن يحاول سؤالها اقتربت عمتها منهما، فعادوا جميعا إلى المنزل، وهناك افترقوا عند بابه، فسار بوفور مفكرا وهو مطرق حزين، فدخلت مرسلين إلى مخدعها فاسترسلت إلى البكاء.
وفي اليوم الثاني جاء بوفور على عادته إلى المنزل، فقالت له الخادمة: إن السيدتين ليستا في البيت. وجعل يجيء في كل يوم فتقول له الخادمة القول نفسه.
إلى أن جاء يوما ونقد الخادمة بضعة من الدنانير وقال لها: إنك تكذبين فدعيني أدخل.
وليس أفصح من الدينار، فقالت له الخادمة: إني كذبت في نصف قولي، وصدقت في النصف الآخر، فإن العجوز غير موجودة في المنزل، وأما الصبية الحسناء فهي فيه.
ودخل بوفور واستقبلته مرسلين وهي مطرقة برأسها، فقال لها: إذا كنت لا تحبين ولا تريدين أن أعود كما تقولين فلماذا قبلت أزهار البنفسج؟
قالت: إنها ثورة عصبية غلبتني، وبعد أفلا يجب أن أشكرك؟
قال: ولماذا أغمي عليك إذا كنت لا تحبيني؟
قالت: ذلك لأني خفت عليك. - وماذا حدث بالأزهار؟ - لا أعلم؛ فقد تكون الخادمة رمتها بعد ذبولها.
فابتسم ابتسامة تشف عن الحزن الشديد.
وقال: إذا كان ذلك؛ فهو لا يدل على أنك صادقة فيما تقولين.
فأغمضت عينها كأنها لا تجسر أن تنظر إليه؛ حذرا من أن تكذبها عيناها وقالت: نعم، لا أحبك، وإن كنت تستحق أن تحب كثيرا. - لماذا ألححت علي بالسفر؟ - لأني شعرت بأني لن أحبك، وأية فائدة من اجتماعنا؟ - هذه هي إرادتك الجازمة. - نعم؛ فإني يسرني كثيرا ألا تكون خير صديق لي إذ يستحيل ... - إذن أستودعك الله، وأنا مسافر كما تشائين. - سر بأمن الله وثق أنك ستنساني قريبا.
فانحنى أمامها مسلما، ومضى حتى إذا دخل إلى الباب التفت فرآها مغميا عليها، ورأى رأسها منقلبا على عضادة المقعد، فأسرع إلى مناداة الخادمة وقال لها: إن سيدتك مغمى عليها، فأسرعي إلى فك أزرار صدرها. فدنت الخادمة منها وفكت الأزرار فسقط من صدرها ضمة من الزهر الذابل، وهي تلك الضمة نفسها التي جناها بوفور من الوادي.
ولما فتحت عينيها خرجت الخادمة، فركع بوفور وأخذ يقبل يديها بلهف عظيم، فقالت له بصوت يقطعه اليأس: ماذا تفعل يا سيدي أنسيت ما قلته لك؟
فأراها ضمة الزهر، وقال لها بلهجة المنتصر: كلا، لم أنس، ولكنك كاذبة وإنك تحبينني.
فأطرقت برأسها عند ذلك وأخذت تشهق بالبكاء، فتركها تبكي؛ لأن البكاء يخفف ما بها، ولكنه لبث راكعا أمامها، وقال لها: إنك تحبينني يا مرسلين، فلماذا تنكرين؟
فمسحت عينيها، ولبثت هنيهة ساكتة إلى أن خطر لها أن سكوتها اعتراف بهذا الحب، فقالت له: لماذا تفتكر بي يا موسيو بوفور؟ - بل؛ لأني لا أفتكر بسواك في هذا الوجود؛ فإنك ممثلة لي بكل مخيل. - ولكن زواجنا على افتراض أني أحبك محال. - لماذا؟ ما الذي يمنعنا عن الزواج؟ - يوجد كثير من العقبات. - اذكريها لي يا مرسلين فأزيلها، إني أحبك ولا عقبة تدوم في سبيل المحبين. - إني حقيرة وليس لي ثروة ولا رجاء بثروة على الإطلاق. - هل خطر لي أن أسألك إذا كنت غنية؟ وماذا يهمني فقرك وأنا قادر على أن أحقق كل أمانيك؟ - إني نشأت على الوحدة ولا أستطيع الاختلاط بالناس، ألم ترني كيف أني اجتنبت كل مجتمع إلى الزواج؛ فإنه يقضي علي بمعاشرة الناس وهذا فوق طاقتي. - وأنا مثلك أوثر العزلة والانفراد، وسترين معي كيف يكون هناء المحبين؛ فإني لا أسألك غير اليسير من الحب. - ولكني أخاف من الزواج؛ لأنه يقيدني بسيد وأنا كثيرة الكبرياء. - إن الزواج لا يجعلني سيدا عليك بل عبدا لك. - وفوق ذلك فلا بد من موافقة أبي، ومن يعلم ما يكون منه؟ - إنه سيرضى بي زوجا لك إلا إذا كان مقيدا مع سواي.
فاغتنمت مرسلين هذه الفرصة، واتخذت من قوله الحجة التي كانت تبحث عنها ولا تجدها، وقالت: لقد أصبت فقد وقع اختياره على سواك، ولا بد لي من طاعته؛ فهو أبي. - هذا ممكن، ولكن أباك إذا كان يحبك لا يكرهك على الزواج مرغمة، وإني أسألك سؤالا واحدا قبل انصرافي يا مرسلين، وهو هل تحبين الذي اختاره أبوك زوجا لك؟ وأنك إذا كنت تحبينه أذهب فلا ترينني إلى الأبد، وإذا كان الأمر على العكس أبقى.
وقد قال هذا القول ونظر إليها نظرة نارية، فلبثت مطرقة واجمة لا تعلم ما تجيب؛ لأنها إذا أجابت بما يرضيه تكون كأنها قد اعترفت بأنها تحب بوفور، ولا فرق بين هذا الاعتراف وبين الجناية؛ لأنها بنت في عرفه وهي أم في عرف الحقيقة.
ثم وقفت فجاءة فأخذت يده بين يديها فضغطت عليها حتى أوشكت أن تلثمها وقالت: إني سأسألك أمرا أرجو قضاءه.
قال: هو مقضي مقدما.
قالت: لا تعد إلي قبل ثلاثة أو أربعة أيام، فسأكتب إلى أبي ومتى تلقيت جوابه أكتب إليك.
فتردد في البدء، ثم رأى أن طلبها عدل، فقال: ليكن ما تريدين فسأعود إليك يوم السبت؛ أي بعد ثلاثة أيام.
وقد تركها وانصرف، فكسبت مرسلين بذلك فرصة ثلاثة أيام، ولكن ما عساها تصنع في خلالها، فإنها إذا كتبت إلى أبيها أجابها بقوله: «إن الواجب والشرف يقضيان عليك بأن تبوحي بكل شيء.»
وكيف تبوح له بسرها الذي كانت ترجو أن ينزل معها إلى القبر؟ وكيف تخونه وتكتم عنه وهي ستكون زوجته مثل هذا لسر؟
وما زالت تتردد في أمرها حتى خطر لها أن تكتب إليه، فأقامت كل ليلها وهي تكتب حكايتها، حتى إذا فرغت منها ورأت ما كتبته قالت: كلا، إن هذا لا يكون. فمزقت الرسالة وألقت بها إلى المستوقد.
وفي يوم السبت قالت لعمتها: أريد أن نسافر اليوم، فأعدي معدات الرحيل.
ولكنها قبل أن تخرج إلى المركبة الواقفة عند الباب للسفر دخل بوفور فوجف قلبها، ووقف بوفور أمامها، وقد كاد أن يتلعثم لسانه وقال لها: ماذا تفعلين، أتهربين مني؟
فلم تعلم كيف تفعل، وحاولت الرجوع إلى الحديقة، ولكنه استوقفها وقال لها بلهجة جافية: إنك حنثت بوعدك، وصار يحق لي أن أسألك لماذا تهربين مني؟
فتدخلت عمتها عند ذلك وقد أشفقت عليها، فقالت له: كلا، إننا لا نسافر اليوم، وثق بما أقول.
فجال الدمع في عيني بوفور، وقال: لماذا لا تفتحين لي قلبك يا مرسلين؟
قالت: لقد أصبت فعد إلي في الغد يا بيير؛ فإنك إذا عدت علمت أنك تحبني بالرغم عن كل الموانع.
وكتبت إليه تاريخ حياتها وكيف كانت زلتها، بكتاب طويل، فلم تكتم عنه شيئا من أمرها، ثم وضعت الكتاب في غلاف وعنونته، ونهضت به كي تدفعه إلى الخادمة فتوصله إليه.
وعند ذلك ارتعشت؛ ليس لأنها ترددت في إرسال الكتاب؛ فإن عزيمتها قد صحت هذه المرة على إرساله، ولكنها سمعت صوت رجل يغني في الشارع وعلمت أنه صوت كلوكلو، ذلك الجندي القديم الذي كان في خدمة أبيها، فأسرعت إلى مناداته، وقالت له: إنك تحب أبي وأنت مخلص لي أليس كذلك؟ - إني أقطع ذراعي الثانية في سبيل خدمتك. - إذن إني أعهد إليك بإيصال هذا الكتاب إلى الموسيو بيير بوفور المقيم في فندق جنيف، على أن تسلمه إليه يدا بيد.
فأخذ الكتاب وانحنى مسلما وانصرف.
وقد أقامت يومها تتجاذبها الهواجس والهموم، وسألتها عمتها عما فعلت، فأخبرتها بكل ما كتبته، وقالت لها: ماذا ترين يا عمتي، أتحسبين أنه يعود؟
فهزت رأسها وقالت: كلا يا ابنتي، لا أظن أنه يعود.
وقد ضمتها إلى صدرها والدموع تهطل من عينيها وهي تقول: يجب أن نهرب منه يا ابنتي، وسنذهب إلى إيطاليا، فماذا تقولين؟
فلم تجبها بشيء.
وفي اليوم التالي عادت إليها عمتها وقد تعالى النهار، فوجدتها لا تزال في موضعها فقالت لها: إنه لم يعد يا ابنتي فلا تفتكري به، واجعلي كل اهتمامك بولدك جيرار.
فجعلت تنظر إليها نظرات المجانين، وقد ضحكت ضحكا عصبيا وجف له قلب عمتها فقالت لها: تشجعي يا ابنتي وكفى.
فعادت إليها حالتها الطبيعية وقالت لها: أنت تعلمين أني أحبك، فاطمئني ودعيني وحدي؛ فإني في حاجة إلى الانفراد.
فخرجت عمتها وهي تبكي، وحانت الساعة الحادية عشرة دون أن يأتي بوفور، فاسترسلت إلى اليأس، غير أن يأسها لم يطل؛ فقد رأته من النافذة قادما فقالت: رباه! أهو حلم ما أراه؟ أم لعله قرأ حكايتي وغلبه الحب فصفح؟ نعم، إنه يحبني بالرغم عن زلتي فهو لا شك أشرف الرجال.
وقد كادت تسقط مغميا عليها حين دخل بوفور لو لم يسرع إلى إعانتها.
وقد أجلسها على كرسي وركع أمامها فقال لها: لقد رأيت يا مرسلين أني عدت إليك فهل تريدين أيضا برهانا على حبي؟
قال هذا القول جوابا على ما اقترحته عليه من قبل، وهو قولها له: «إنك إذا عدت بعد ثلاثة أيام كنت حقيقة تحبني بالرغم عن الموانع.» أما مرسلين فقد اعتقدت أنه يجيبها على كتابها الذي أباحت له فيه بسرها، وقد اشترطت فيه ألا يقول لها كلمة عما مضى إذا صفح ورضي بعد ذلك أن يكون زوجها، فذهب انقباض نفسها واستحال إلى زهو وانتعاش، فكانت كالزهرة التي تصيبها أشعة الشمس فتحييها.
ومرت بهما عدة أيام وهما على أهنأ حال حتى لقد كانت مرسلين توجس خوفا من هذه السعادة وتتوقع أن تفاجأ بعدها بنكبة.
وقد كتبت إلى أبيها تنبئه بما حدث لها، وأنها لم تكتم خطيبها شيئا من ماضي حياتها، فأجابها مهنئا وسألها أن تعود إليه مع خطيبها.
وعاد الاثنان إلى الكونت الشيخ، واتفقوا على أن يعقد الزواج في شهر تيموز، ولكن قدر على مرسلين أن تحضر حفلة إكليلها وهي بملابس الحداد فقد توفي أبوها الكونت قبل زواجها بأسبوع.
ولنعد الآن إلى سياق الحديث الأول؛ أي إلى ما جرى بعد اختفاء مرسلين؛ فإن قاضي التحقيق ومعاونه وقومسيير البوليس وجدوا بوفور مغميا عليه في غرفة امرأته، فعالجوه حتى استفاق.
وكانوا قد بحثوا بحثا دقيقا في المنزل، ونظروا في جميع ما وجدوه من الأوراق فسألهم بوفور قائلا: ماذا اكتشفتم؟
فقال له القاضي: لا شيء.
والحقيقة أنه كان كاذبا؛ فقد عثر بين الأوراق التي وجدها على نسخة من الكتاب الذي أرسلته إلى بوفور، ولم تكن قد أشارت فيه إلى أسماء، فعلم أنها تزوجت وهي أم، وأن بوفور لم يكن عالما بشيء من حقيقة أمرها، فرأى أن واجباته تقضي عليه بكتمان هذا السر عن الزوج المنكود، ولكنه قال له: إن قلبي يحدثني، بالرغم عن جميع الظواهر، أن امرأتك لا تزال في قيد الحياة، فلا تقنط من لقائها، فرفع بوفور عينيه إلى السماء قانطا؛ إذ لم يكن يرى ما يراه قاضي التحقيق.
ولنبسط الآن ما جرى لمرسلين؛ فإنها في اليوم التالي لزواجها؛ أي حين اجتمعت هي وزوجها بداغير الذي أغواها قبل الزواج، رأت من مقابلتهما أن زوجها لم يكن عالما بشيء من حكايتها مع صديقه داغير، وأيقنت أن الكتاب الذي أرسلته مع كلوكلو إلى بوفور لم يصل، فأصيبت بما يشبه الجنون، ورأت أن بوفور سيلح عليها بالسؤال حتى تعترف، فيعلم عند ذلك أن هذه المرأة التي كان يحسبها فتاة نقية طاهرة قد عبثت به، وأنه لا يستطيع طردها بعد فوات الأوان؛ لأنها أصبحت الآن تدعى باسمه، فكيف تعيش معه وقد أورثته هذا العار؟
على أنها لم تكن مخطئة؛ فقد نهجت خير مناهج الشرف، وكتبت إليه كل حكايتها بالتفصيل قبل أن تتقيد معه بقيد الزواج، وأين له أن يصدقها لو قالت له: إني كتبت إليك وأي ذنب لي إذا لم يصلك الكتاب؟
هذا ما كانت تناجي به نفسها، وهذا ما دعاها إلى إيثار الفرار على الوقوف مع زوجها في هذا الموقف الرهيب، فنظرت إلى ما حواليها نظرات المجانين، فلم تجد غير ضمة ذابلة من الزهر كان قدمها لها بوفور، فوضعتها في صدرها وخرجت هائمة على وجهها.
وكان كل ما تفكر به أن تسرع بالابتعاد عن المنزل كي لا يدركها حين التفتيش عنها.
وما زالت ممعنة في الفرار حتى انتصف الليل، فوجدت نفسها في غابة كثيفة الأشجار، وقد أنهك التعب قواها، فلم تعد تستطيع المسير، وسقطت واهية القوى. بينما كان زوجها يبحث عنها في ظلام الليل وهو ينادي من حين إلى حين: مرسلين، مرسلين.
وفيما هي تلتمس الراحة في الغابة كي تستطيع استئناف السير سمعت صوت رجل يغني، وكل ما اقترب منها زاد وضوحا؛ حتى تبينت أنه صوت كلوكلو.
وبعد هنيهة دنا منها ورأى وجهها على ضوء القمر، فعرفها ولم يصدق عينيه فقال: ماذا أرى؟ سيدتي مرسلين دي مونتكور هنا؟ في هذه الساعة؟!
قالت: نعم، أيها الشقي الناكر الجميل؛ فإني لم أصل إلى هنا إلا بسببك.
فدهش وقال: أنا أنكر جميلكم علي يا سيدتي؟! لا شك أنك محمومة، فتوكئي علي، وإذا كنت غير قادرة على المسير فأمهليني إلى أن آتيك بمركبة.
قالت: بل، أريد أن تجيبني على ما أسألك عنه.
قال: سلي ما تشائين يا سيدتي، فأنت تعلمين أني لا أكذب.
قالت: أتتذكر يوم أعطيتك رسالة في سويسرا كي توصلها إلى الموسيو بوفور؟ فأطرق برأسه دون أن يجيب.
فهزت كتفيه بيديها وقالت: يجب أن تجيب، فماذا فعلت بالرسالة؟ أما أوصلتها لصاحبها؟
فلبث مصرا على السكوت. فقالت: ويحك! أتريد أن أنتزع الكلام من فمك أيها الشقي؟
قال: ما هذه الحالة التي أنت فيها يا سيدتي؟ ولماذا؟ نعم، إني مخبرك بكل ما حدث، فلقد أصبت بقولك إني ناكر للجميل لأني جحدت نعمتكم علي، نعم، إني شقي كما وصفتني، ولكن ليس الذنب ذنبي، بل ذنب تلك العادة الذميمة التي تملكتني وهي عادة السكر، والله يعلم كم أكابد منها؛ فقد صرت إذا شربت مقدار أصبع من الخمر أشعر أن المنازل تدور بي، وأصبر إلى أن يمر بي منزلي فأدخل إليه.
نعم، إني أذكر الكتاب الذي أعطيتني إياه، وقد سرت به إلى الفندق، ولكن لا بد للوصول إليه من المرور في الطريق، وقد سرت فيها امتثالا لأمرك، فلقيت زمرة من الأصحاب يشربون الخمر فشربت معهم، وكان مبيتي تلك الليلة تحت مائدة الشراب.
ولما صحوت من سكرتي ذكرت الرسالة فقمت مهرولا إلى الفندق، ولكني حين بلغته وجدت - وا أسفاه - أني فقدتها، ولم أجسر أن أخبرك بما اتفق لي؛ لأني خفت من تأنيبك، وقد برحت سويسرا في ذلك اليوم؛ لأني شعرت أني أسأت إليك إساءة قد تغفرينها لي، ولكني لا أغتفرها لنفسي.
هذه هي حكايتي يا سيدتي، فقولي لي بالله أني لست أنا الذي أوصلتك إلى ما أنت فيه، أو ألقي نفسي في أول واد أمر به وأستريح.
وقد تنهد تنهدا طويلا، فلم تؤنبه بعد اعترافه؛ إذ أية فائدة من التأنيب؟ ولكنها كانت واثقة من وفائه، فأرادت أن تستفيد فرصة التقائها به، فقالت له: أريد أن تقسم لي بأمك التي تحبها كثيرا أنك لا تخبر أحدا بأنك لقيتني هنا.
قال: أقسم يا سيدتي. - إني تركت القصر الآن على ألا أعود إليه، وفارقت زوجي وهو يبحث عني بحث القانطين، فلن أراه ولن أرى موطني بعد الآن، وكل ما أريده هو أن يتوهموا أني ميتة، أفهمت؟ - ماذا تقولين يا سيدتي؟ - أقول أني أريد أن يحسبوني في عداد الأموات، وكل ذلك بخطئك، ولكني غير حاقدة عليك، فهذا ما أراده لي الله. - لا يمكن أن أكون السبب في شقائك، وأنا أضحي في سبيلك ... - هذه هي الحقيقة يا كلوكلو فلا تنسها. - الويل لي فإني سأجن إذا لم أنتحر. - لا تجن ولا تنتحر، بل اذهب بي إلى أمك فإني واثقة من أنها تكتم سري كما تكتمه أنت، وسأختبئ عندها بضعة أيام ثم أبرح البلاد. - ولكن ما عسى يكون يا سيدتي من زوجك الذي يحبك؛ فإن بعدك عنه قد يقتله أو يصيبه بالجنون؟
فقالت في نفسها: بل إن وقوفه على الحقيقة يقتله أو يصيبه بالجنون، ثم قالت له: أترضى أن أختبئ عند أمك؟ - كيف تسألينني يا سيدتي؟ أعندك شك في ذلك؟ - إذن لنسر منذ الآن؛ فإن ليالي الصيف قصيرة والفجر على وشك البزوغ. - ولكنك تعبة والطريق طويلة إلى البيت، تبلغ للآن مراحل أقطعها أنا بساعتين، أما أنت فلا تستطيعين اجتيازها في أقل من أربع ساعات، فمتى وصلنا تكون الشمس قد أشرقت فيراك جميع الفلاحين. - هذا أكيد، ولا سبيل إلى البقاء هنا، فماذا أصنع؟ - يوجد على مسافة ربع ساعة من هنا غابة لا يمر فيها أحد، وفيها كوخ تعودت أن آوي إليه فسأعد لك فيه فراشا من العشب الأخضر تنامين عليه، ولا خوف عليك؛ لأني سأتولى حراستك، وفي أول الليلة القادمة أسير بك إلى أمي.
فوافقته على ذلك، وبعد هنيهة كانت مرسلين مقيمة في ذلك الكوخ، وكان كلوكلو يجمع العشب ليعد لها منه فراشا، فلما عاد به إليها وجدها نائمة، فلم يجسر على إيقاظها.
وعند الصباح جاءها بشيء من الطعام، فأقامت كل يومها في الكوخ لم تخرج منه؛ حذرا من أن يراها أحد.
وفي الليل سارت وإياه إلى منزل أمه، فأعدت لها غرفة وباتت فيها وهي تناجي زوجها فتقول: أتغفر لي يا بيير؟ ثم تناجي ولدها فتقول: جيرار، إنك عزائي الوحيد في هذا الوجود.
القسم الثاني
الميتة الحية
لم يكد يفتح المعمل أبوابه في مدينة كليشي من أعمال فرنسا، حتى دخلت امرأة إلى مديره تلتمس عملا.
كانت هذه المرأة في ريعان الشباب، وعليها ملامح الحزن الشديد، وهي لابسة ملابس السواد، فسألها المدير قائلا: من أين أتيت، وأين كنت تشتغلين؟ - إني قادمة من أرنواصي، وأنا أرملة لم يبق لي مورد إلا من العمل، وأنا لم أشتغل قبل، ولكني كثيرة التجلد على مشاق الأعمال. - لا يكفي التجلد وحده، بل يجب أن يكون لك قوة على العمل، فكيف تشتغلين بهاتين اليدين المترفتين؟! - بالله لا تصدني يا سيدي، وجرب عملي فإني لا أطلب من الأجرة إلا ما يقيني من الجوع. - ماذا تدعين؟
فترددت قليلا ثم قالت: مرسلين لونجون. - إذن سأشغلك في مكتب الإدارة لا في المعمل؛ فإن الشغل فيه يغنيك، وأنت تحسنين الكتابة لا شك، فسأشغلك بتبييض المكاتيب. - أشكرك يا سيدي؛ فإنه عمل سهل علي. - إذن ستبدئين العمل منذ الغد، فابحثي اليوم عن غرفة في الضواحي؛ لأن راتبك سيكون ستين فرنكا فقط؛ لأن هذا آخر ما أستطيع أن أعينه الآن. - وإني سأحفظ جميلك فلا أنساه مدى الحياة. - بقي أن أقول لك كلمة، وهي أن أخص ما نتطلبه من العاملات عندنا الحرص على الطهارة وحسن السلوك.
فأطرقت برأسها وتورد خدها من الخجل؛ ثم سالت الدموع من عينها، فقال لها برفق: أسألك المعذرة عما قلته، فلم أقله لشيء من الريبة، ولكن قوانين المعمل تقضي علي بإبداء هذا التنبيه لكل عاملة عند بدء العمل فيه.
فتمتمت بضع كلمات شكر وانصرفت، فبحثت كل يومها عن منزل تقيم فيه، حتى اهتدت إلى منزل عجوز فاستأجرت غرفة عندها، وفي اليوم التالي ذهبت مبكرة إلى المعمل وبدأت عملها فيه.
وقد اتفق أن رئيس عمال ذلك المعمل كان مقيما مع امرأته عند تلك العجوز، فكانت تراه كل يوم في المعمل وفي البيت. •••
ولقد عرف القراء أن هذه المنكودة كانت مرسلين نفسها، فمر بها شهران وهي لا تفتكر إلا بزوجها وولدها، فكانت تشتري الجرائد كل يوم علها تقف على شيء من أخبار زوجها، فقرأت فيها أنهم لا يزالون يبحثون عنها، ثم انقطعت تلك الأخبار فانقطعت هي عن شراء الجرائد.
وكان مدير المعمل راضيا عنها لما رآه من اجتهادها، أما هي فقد أبت الأقدار إلا أن تبلوها بنكبة جديدة؛ إذ شعرت أنها حامل من زوجها بوفور فكبر عليها الأمر في البدء؛ إذ كيف تستطيع أن تقوم بأودها وأود طفلين وهي على ما هي فيه من الفاقة.
ثم لم يلبث هذا الهم أن تبدد فكانت تشعر بسرور عظيم حين تفتكر أنها ستضم بين ذراعيها ولد ذلك الزوج الذي تحبه حبا خالدا في قلبها، فيكون ذلك الطفل خير تذكار من خير زوج، فإن المولود الأول كان ابن الجريمة، ولكن الثاني هو ابن بوفور.
وقد كثر انشغالها بهذا الحادث الجديد، حتى لم تعد ترى ما يجري حولها؛ فإن الموسيو فلون رئيس العمال الذي يقيم معها في البيت وفي المعمل كان يحبها وهي لا تعلم؛ إذ لم تبدر منه بادرة تدل على شيء من هذا الحب.
غير أنها لو كانت على غير ما هي فيه لقرأت في عينيه ذلك الحب الذي يتأجج في صدره.
غير أن امرأة فولون كانت ترى تلك النظرات فيخامرها الشك بمرسلين.
وقد قالت لزوجها يوما: ألم تلاحظ شيئا على هذه الأرملة؟ - كلا، فماذا تلاحظين؟ - إن أمرها لا يخفى إلا على العميان، ولم يبق ما يحمل على الريب. - إني لا أفهم ما تقولين فإن الظواهر تغش أحيانا.
فقالت له ما يخالج فكرها وسمعها، وهو مطرق الرأس، والعرق يتصبب من جبينه.
وفي اليوم التالي راقبها عند ذهابها إلى المعمل؛ فقال في نفسه: لقد صدقت امرأتي فيما قالته، وبعد فما هذا الاستياء الذي يتولاني؟ وأي سلطان لي على هذه المرأة؟ أما هي حرة في أعمالها.
وفي اليوم نفسه استوقفها المدير في أحد أروقة المعمل، وقال لها بلهجة القسوة والاحتقار: لقد أنبأتك يا مدام لونجون يوم دخولك إلى المعمل أننا لا نقبل فيه غير الطاهرات من النساء، وقد أقلتك من الخدمة فلم يبق لك عمل عندنا من اليوم.
فشمخت بأنفها مستكبرة، ولكنها ما لبثت أن أطرقت برأسها؛ فإن حالتها كانت ظاهرة للعيان يستشهد بها كل محب للنمائم، وهي لا تستطيع الدفاع عن نفسها إلا بأمر واحد؛ وهو أن تذكر اسم زوجها، ولكن هذا محال، ففضلت الخجل والعار وخرجت من ذلك المعمل للدنيا لا تكاد تسعها لبأسها، فكان أول من لقيته فولون رئيس العمال.
وقد أوشك هذا الرجل أن يتدله بحبها، وتنازعه عاملان من الغضب واليأس؛ أما الغضب فلأنه أحب امرأة غير جديرة بالحب، وأما اليأس فلأنه سيفترق عنها. فقال لها حين رآها: نعم، لقد عرفت، فإني سمعتهم يتحدثون بشأنك في المعمل، وكنت مشككا ولكن لم يبق مجال للشك.
ولم يستطع أن يتم حديثه، فقال بصوت مختنق: لقد أسأت يا مرسلين إلي وإلى نفسك ...
وهنا سالت عبراته، فمسحها بيده وهرب كي لا يفتضح أمره.
ولكن أمره افتضح فإن مرسلين قرأت سور الحب الصادق في قلبه، فقالت في نفسها: لم يبق بد من مبارحة هذا المنزل؛ فإن الواجب يقضي علي ألا أبقى ساعة فيه.
ثم أسرعت إلى غرفتها فوضعت ثيابها في ملاءة وودعت صاحبة المنزل، فقالت لها: إلى أين تذهبين يا ابنتي؟
قالت: لا أعلم، على أن ذلك سيان عندي؛ فقد بقي لي بضع دريهمات تعينني على الولادة، وبعد ذلك يفعل الله ما يشاء.
وعندما همت بالانصراف التقت برئيس العمال فكانت شفتاه ترتجفان من الاضطراب، فوقف في وجهها وقال لها: إذن أنت ترحلين هكذا كأننا لا يعرف أحدنا الآخر إلا من ساعة، وما الذي يدعوك إلى هذا الرحيل، وما الذي تشكينه منا وأنت تعلمين أننا لم ننهج معك غير مناهج الأصحاب.
قالت: إني شاكرة لكم مروءتكم، وليس الذنب ذنبي إذا رحلت.
قال: كلا، لا تسافري وسأبذل جهدي في إقناع صاحب المعمل فتعودين إليه.
ثم مسح العرق عن جبينه، وقال بصوت يبدو فيه الاضطراب: وبعد فإن المعمل ليس بدير، وما أنت مدينة بأعمالك لأحد.
قالت: أشكرك يا سيدي، ولكني مسافرة. - لماذا؟ فإني سأجد لك عملا. - كلا، فلا بد لي من السفر.
وقد نظر كل إلى صاحبه نظرة، فكانت نظرة فولون نظرة استعطاف كأنه يلتمس منها أن تبقى وأن شقاءه ببعدها، ونظرة مرسلين نظرة رحمة وإشفاق؛ كأنها تقول له: لقد علمت أنك تحبني، ولكن واجباتي كامرأة شريفة بالابتعاد، فيعود الهناء إلى قلبك وبيتك.
فتنهد تنهدا عميقا وقال: لقد خلقت المرأة عنيدة، وما زلت متشبثة بأفكارك، فاسمحي لي أن أسديك نصيحة، وهي أنه إذا جار عليك الزمن فعودي إلينا تجدي خير ملجأ، وإذا لم تجدي لك عملا فاذهبي من قبلي إلى الموسيو مونتمايور المهندس في معامل سانت المعدنية؛ فهو يدخلك من فوره إلى أحد هذه المعامل.
قال هذا وتركها مسرعا؛ لأن الدمع جال في عينيه.
وفي تلك الليلة باتت مرسلين في أحد فنادق باريس الصغرى، وكانت النقود التي احتفظت بها من ثمن عملها تكفيها للانتظار حتى تلد، وقد عزمت على أن تأتي بولدها جيرار بعد الولادة.
وبعد شهرين وضعت طفلة دعتها مودست، وجاءت بولدها فجعلت تعتني بالطفلين مدة عام إلى أن فرغت جيوبها، ورأت أنه لم يبق بد من العمل، فذكرت وصية فولون وذهبت إلى ذلك المهندس؛ فكان انذهالها عظيما إذ رأت أن فولون أصبح مديرا لهذا المعمل.
وقد اضطربت حين رأته وقالت: لم أكن عالمة، ولولا ذلك ...
فأجابها بلهجة الحزين الكئيب فقال: تريدين أنك لو علمت أني مدير هذا المعمل لما أتيت إليه؟ فلم تهربين مني؟! فهل قلت لك كلمة أو نظرت إليك نظرة تنكرينها؟
قالت: كلا، فأنت أشرف من عرفت من الرجال. - إذن، ألا تكونين ظالمة فيما تفعلين؟ - لقد ندمت لما بدر مني، والحق أني لو علمت أنك مدير هذا المعمل للجأت إليك؛ لأني مضطرة الآن إلى العمل لإعانة ولدين. - ولدين؟!
نعم؛ فقد كان الأول عند المرضع يوم كنت عندكم، وعمر الثاني لا يتجاوز العام، فتصور ما يكون من هذين الطفلين لو قضي علي بالموت. - أليس لك مورد من غير العمل؟ - كلا. - ولكن أين والد الطفلين؟ أهو فقير إلى حد أنه لا يستطيع إعالة طفلين، أو أنه فقد الشعور البشري فتخلى عنك وعن ولديه؟ - لا تهنه فهو من الأموات.
فأخذ يجول في الغرفة ذهابا وإيابا، وكان يتعذب كثيرا؛ لأنه يحبها كثيرا، فقال لها بصوت يرتجف: أكنت متزوجة؟ - بربك لا تسألني. - نعم، يحق لك أن تكتمي سرك فاغفري لي، ولكني أخبرك أن امرأتي المنكودة كانت تدعوك المتنكرة الحسناء، وقد فارقت الحياة.
فعزته، ثم قالت له: كيف حال ولدك روبير؟ - أشكرك لأنك لم تنسيه، فهو ينمو نموا حسنا، وهو ذكي كريم القلب. ولنبحث في شأنك الآن، فإنك في حاجة إلى العمل للارتزاق. - بل في أشد حاجة. - إنك لا تستطيعين فراق ولديك، ولكني سأذلل هذه العقبة وأخالف نظام المعمل، فأسهل لك العمل في البيت، وذلك أنك تأتين في كل صباح فتأخذين الرسائل المراد نسخها، وتعودين بها في اليوم التالي فتأخذين سواها، وقد عينت لك مائتي فرنك في الشهر، فهل أنت في حاجة إلى سلفة الآن؟
فشكرته وقالت: كلا. قال: إذن إلى اللقاء في الغد.
مضى على ذلك عامان ومرسلين تشتغل في المعمل نفسه، وقد زاد راتبها فعاد 250 فرنكا وهو فوق حاجاتها.
وقد استأجرت منزلا صغيرا على ضفاف الترعة، ولم يكن لها من أنواع التسلية غير حديقة وراء المنزل كانت تجني منها الأزهار.
على أن العمل كان أعظم سلوى لها؛ إذ كانت تشتغل إحدى عشرة ساعة في اليوم.
وقد اتفق يوم أحد أنها كانت جالسة في الحديقة وولداها يلعبان بالقرب منها، وأن رجلا يدنو من الحديقة قادما إليها وهو الموسيو فولون، فدنا منها ووقف أمامها فحياها باحترام ولبث صامتا يبتسم.
فنظرت إليه مرسلين نظرة تدل على الامتنان وقالت له: إني لا أنسى فضلك ما حييت يا سيدي، فإني مدينة لك بحياتي وحياة أولادي.
فحلت عقدة لسانه وقال: إني أتيتك يا مرسلين كي أحدثك بأمور جدية.
قالت: إني مصغية إليك يا سيدي. - إنك تشتغلين في المعمل منذ عامين، وقد يكون خيل لك بأني نسيتك مع أنك ممثلة لي الليل والنهار بكل مخيل.
فاضطربت مرسلين؛ إذ توقعت أنها ستكون السبب في نكبة جديدة، وقالت: لقد عرفت من عهد بعيد أنك تحبني، ولكني كنت أرجو ألا تعود إلى هذا الحديث. - ثقي أنك لا تسمعين مني كلمة يخجلك سماعها؛ فإني أراقبك منذ عامين بنفسي وبواسطة غيري، حتى أيقنت أن ظواهر سلوكك تنطبق على بواطنه، وإني أسألك المعذرة فقد كنت مضطرا إلى هذه الثقة قبل أن أقترح عليك ما سأقترحه الآن. - يحق لك أن ترتاب. - وقد علمت بالتدقيق كيف تعيشين، وأنك مثال الطهارة وخير قدوة للأمهات، وهذا الذي دعاني إلى زيارتك اليوم لأقول لك: إني أنا أيضا أرمل ولي طفل يتيم يحتاج إلى حنو أم، فهل تريدين أن تكوني امرأتي يا مرسلين؟
فوقفت وقد طاش صوابها لهذا الطلب الذي لم تكن تتوقعه، وجعلت تنظر إليه نظرات تشف عن الرعب، وهي لا تعلم ما تقول.
فابتسم لها فولون، وقال: إني لا أسألك أن تتسرعي بإجابتي دون إمعان، ولكني سأعود إليك بعد بضعة أيام، وكل ما أرجوه ألا تنسي في انتظار ذلك أني أحبك بملء جوارحي أصدق حب.
اعلمي يا مرسلين أنه ليس بيني وبينك ما يريب؛ فإن ماضيك لك وأنا واثق أنه ماض شريف، وسأنتظر صابرا إلى أن أصير زوجك فتقصي علي حكايتك، ولك الخيار بكتمانها إلى الأبد؛ فإن تكتمك لا ينقص ذرة من حبي، على أني لم أقترح ما اقترحته إلا بعد التروي الشديد، وإنك تعرفينني حق العرفان، فتعلمين أني أضحي كل عزيز في سبيل إسعادك.
فلم تجبه ، ولكنها جعلت تبكي، وكان بكاؤها لتأثرها من هذا الإخلاص، فودعها وقال: إلى اللقاء القريب يا مرسلين، وكل ما أرجوه في هذا الوجود أن تكوني أما لولدي وأكون أبا لولديك.
فلما انصرف هزت مرسلين رأسها وقالت: ويح لنفسي؛ فقد صرت السبب في شقاء رجلين، وكلاهما مخلص شريف، وكلاهما جدير بأن يكون سعيدا في هذه الحياة.
بعد ذلك بيومين ذهبت مرسلين إلى المعمل حسب عادتها في كل صباح، ودخلت إلى غرفة السكرتير لتعطيه ما اشتغلته ولتأخذ شغلا جديدا.
ولكنها حين دخلت إلى باب تلك الغرفة رأت رجلين خارجين من غرفة فولون وهما يتحدثان، فجمد الدم في عروقها؛ لأن الأول كان فولون، وأما الثاني فقد كان زوجها بوفور.
فأسرعت بالدخول إلى الغرفة، وجعلت تقول: رباه ما جاء به إلى هذا المعمل، ألعله يقتفي أثري فاهتدى إلي؟
وقد أطلت من النافذة فرأت الاثنين يتحدثان في الرواق، وتمعنت في وجه زوجها فانقبض صدرها إشفاقا عليه؛ فقد رأته هزيلا غائر العينين واليأس منطبع على وجهه، فلو مثل لما مثل بغير هذا الوجه.
أما زيارة بوفور لهذا المعمل فهي أن المعمل أذاع أن لديه مقدارا من الحديد للبيع، فجاء ليشتريه، وهو إنما يشتغل بالتجارة ليتعزى بها عن فراق مرسلين، وهيهات أن يسليه الانهماك في العمل، ولكنه كان يجرب.
وقد خرج مع فولون من المعمل، وسارا إلى جهة الترعة، فأقامت مرسلين مع السكرتير نحو ساعة في تسليم الشغل القديم واستلام الجديد، وانصرفت عائدة إلى المنزل.
عندما برحت مرسلين منزلها إلى المعمل أوصت ولدها بالانتباه إلى أخته الصغيرة، فأقام الطفلان هنيهة في البيت، ثم خطر لجيرار أن يتفرج على السفن الراسية في الترعة، فأخذ بيد أخته وخرجا إليها.
وقد وقفا ينظران إلى السفن وبجانبهما بوفور وفولون يتنزهان على الرصيف، فابتسم فولون حين رآهما وقال: إنهما ولدا امرأة صبية تشتغل عندي، ثم دنا من جيرار فقبله بينما كانت مودست تنظر إلى بوفور فحملها وقبلها، ثم أرجعها إلى الرصيف، فتنهد وواصل سيره مع فولون فلم يسيرا بضع خطوات حتى سمعا صياح الناس، فالتفتا، وعلما أن الطفلين المتماسكين زلت قدم أحدهما فهبط الاثنان إلى الترعة.
وكان بوفور وفولون يجيدان السباحة فألقيا بنفسهما إلى المياه، فأنقذ فولون جيرار وأنقذ بوفور ابنته مودست، وأسرع البحارة فحملوهم في القوارب إلى الشاطئ.
وكان الطفلان قد أغمي عليهما فعالجوهما حتى استفاقا، وطلب فولون إلى بوفور أن يصحبه لإرجاع الطفلين إلى أمهما، فاعتذر وقال له: اذهب وحدك أيها الصديق.
قال: ولكنك أنقذت أحد الطفلين، ولك الحق في شكر أمهما. قال: أية فائدة من ذلك فقد فعلت ما يقضي به الواجب الإنساني، وإني ذاهب لتغيير ملابسي ثم أعود إليك. - افعل ما تشاء، على أن ذلك لا يمنعني عن أن أخبر مرسلين لنجون بعنوانك.
فارتعش بوفور وقال: كيف تدعى هذه المرأة؟ - مدام لنجون. - أتعرفها منذ عهد بعيد؟ - منذ بضعة أعوام وأنا أحبها وسأتزوج بها.
فأطرق بوفور برأسه، وقال: ما هذا الخاطر الذي عرض لي! فلا شك أني مجنون.
ثم ودعه وانصرف. فذهب فولون إلى منزل مرسلين.
أما مرسلين فإنها عادت من المعمل إلى المنزل فلم تجد ولديها فيه، فنادتهما فلم يجيبا، فبحثت عنهما في الحديقة فلم تجد لهما أثرا، فركضت مهرولة إلى جهة الترعة فرأت عن بعد كثيرين من الناس محتشدين على ضفتها، فوجف قلبها من الرعب وحدثها بالمصيبة، فقالت: رباه إنك إذا أذنت بهذه النكبة أنكرت وجودك.
وانطلقت راكضة، وقد كاد قلبها يثب من صدرها، فكان أول من لقيته فولون وهو يحمل الطفلين بين ذراعيه والمياه تقطر من ثيابهم جميعا، فبادرها بقوله: اطمئني فليس ما يدعو إلى الخوف؛ فقد سقطا في الترعة ولم يصابا بسوء، ألا تسمعينهما يناديانك؟
فأخذت منه ولديها وضمتهما بعنف إلى صدرها، وقالت: لا شك أنك أنت الذي أنقذتهما فكيف أشكرك؟
قال: لقد أخطأت يا مرسلين؛ فإني لا أستطيع وحدي إنقاذ الاثنين، ولكني أنقذت جيرار. - ومن أنقذ مودست؟ - رجل أبى أن يسمع تشكراتك فلم يصحبني؛ لأنه يرى أنه لا شكر على الواجب. - قل لي اسمه كي أحفظ جميله ما حييت. - إنه يدعى بيير بوفور، وقد قلت له إنك لا بد أن تزوريه فتشكريه، وهو يقيم في شارع رومه نمرة 79.
فبذلت جهدا عنيفا كي تخفي اضطرابها، ثم ودعها فولون كي يغير ملابسه، فذهبت بولديها إلى المنزل، وهناك استرسلت إلى اليأس؛ إذ عاودتها الهموم القديمة، فجعلت تقول في نفسها: رباه ماذا أصنع؟ أأراه؟ كلا؛ فإن هذا محال، أم أهرب من هذا البلد؛ فإنه يتردد إلى المعمل الذي أشتغل فيه؟ ألا يمكن أن يراني فجاءة فيه أو في الطريق؟ مسكين إنه شديد النحول، فلا بد أن يكون قد تعذب كثيرا، ومع ذلك فإن هيئته ليس فيها ما يدل على الحقد.
ولكن ما عساه يقول عني إذا لم أشكره.
وبعد الإمعان رأت أن تكتب له كلمة الشكر، فكتبت إليه كتابا لطيفا ملؤه الامتنان، وفي المساء ألقته في صندوق البوسطة.
وبعد ذلك بيومين جاءها فولون فاطمأن على الولدين، ثم جلس بإزائها وقال لها: أتذكرين يا مرسلين ما قلته لك منذ ثمانية أيام؛ فقد أنبأتك أني سأعود إليك لالتماس جوابك بعد أن أمهلتك المهلة الكافية للتمعن.
قالت: نعم، أذكر. - إذن بماذا تجيبين؟
فتنهدت تنهدا عميقا، واغرورقت عيناها بالدموع فقالت: أسألك العفو عما سأسيء به إليك، فإن طلبك وإلحاحك فيه يشرفانني، ولكني لا أستطيع أن أكون امرأتك. - لماذا؟ - لا تسألني، وتذكر أني ألقب بالمتنكرة الحسناء؛ فإن في حياتي سرا لا يحق لي الإباحة به، فأتوسل إليك أن تنساني. - أأنا أنساك يا مرسلين؟! أتحسبين هذا سهلا علي؟ - نعم، إذ يكفي أن تريد.
فوضع يديه على عينيه، وقال: رباه لماذا قضيت علي أن أراها؟
ثم وقف وقال: ألا سبيل للرجوع عن عزمك؟
قالت: وا أسفاه. - ولكن هل تمعنت مليا في الأمر؟ - كلا. - لماذا؟ - لأن تمعني يدل على أني مترددة في أمر يمكن قبوله، وأية فائدة من التمعن وقبولي بزواجك من المستحيلات؟ - ما هذه الألغاز التي أسمعها؟ ألا ترين مقدار عذابي؟ - وأنت يا موسيو فولون أتحسب أني لا أتألم؟ - ولكن قولي لي على الأقل إنك تحبينني. - إني أحبك بملء جوارحي، وكيف لا أحبك وأنت المحسن إلي ؟ - لست أطلب هذا النوع من الحب. - إني سأحبك مدى الحياة حبي لأعز إخوتي. - لا أجد في قلبك غير عاطفة الحب الأخوي؟ - إن القلب لا يتسع لغرامين. - إذن أنت تحبين؟ - نعم.
فأطرق مليا ثم قال: إنك قضيت علي بالعذاب الدائم يا مرسلين، ومع ذلك فإني أحبك وأغفر لك.
ثم تركها وانصرف وهو من القانطين، أما هي فلم تكن أقل منه عذابا، وقد أقامت يومها تفكر في أمرها، وعادت في اليوم التالي إلى المعمل، ولكن فكر الابتعاد كان قد تغلب عليها، فلما عادت إلى المنزل كتبت إلى فولون أنها لن تعود إلى المعمل.
وكانت قد اقتصدت شيئا من المال في خلال خدمتها يعينها على الانتظار إلى أن تظفر بعمل جديد، ثم إنها كانت بارعة في الموسيقى فتمكنت من تعليم العزف على البيانو في أحد البيوت، وكثر زبائنها فعاشت بفضل هذا التعليم.
مضى على هذه الحوادث عشرون عاما لم يحدث في خلالها لأبطال روايتنا أمر جدير بالذكر.
وقد بلغت مرسلين خمسة وأربعين عاما فكانت كأنها ابنة ستين؛ إذ تجعد وجهها وابيض شعرها، ولم يبق لها من دلائل الصبا غير صفاء عينيها ونظراتها الحلوة.
وبلغ ولدها جيرار الخامسة والعشرين، وهو جميل الوجه واللسان متين العضل، وقد جعلته أمه طبيبا؛ فإنها كانت تشتغل ليل نهار في سبيل تعليمه.
أما أخته مودست فهي الآن صبية شقراء يفتن جمالها القلوب.
وكم كانت مرسلين تتعذب حين خرج جيرار من دور الطفولية، وجعل يسألها عن أبيه فيقول لها: لماذا لا تخبرينني عن أبي، أليس لي أب كجميع الأولاد؟ فتقول له: كان لك أب ولكنه مات.
ثم أصبح الطفل فتى فلم يبق بد من التصريح، ولكنها قالت له يوما: لا تسألني بعد الآن عن أبيك؛ فإنك تحبني أليس كذلك؟
قال: بل أحبك وأحترمك، وهل تشكين بذلك يا أماه؟
وكان جيرار وأخته يعتقدان أنهما من أب واحد؛ فإن أمهما لم تذكر لهما شيئا عن حقيقة أمرهما، فكان الحب الصحيح يؤلف بين أعضاء هذه العائلة.
وقد اتفق أن جيرار عاد يوما إلى المنزل وهو مقطب الجبين فسألته أمه عما به، فقال: إن مهنتنا صعبة شاقة، وهي هائلة في بعض الأحيان؛ فقد جيء اليوم إلى المستشفى بامرأة عجوز من الضواحي كان يحملها ولدها، وهي مصابة بسرطان يحتاج إلى عملية جراحية لاستئصاله، ولكن رئيس الأطباء في المستشفى يرى أن العملية يعقبها الموت لا محالة، فأبى إجراءها، والمنكودة تتألم آلاما لا تطاق.
قالت: وأنت ماذا ترى يا بني؟
قال: إني لا أرى ما يراه الرئيس، وفي اعتقادي أن العملية قد تنجح وتنجو المسكينة من آلامها. - إذن لماذا لا تعملها؟ - لأن الرئيس يمنعني. - ماذا تدعى هذه العجوز؟ - لا أذكر اسمها، ولكني أذكر اسم ولدها لغرابته، فهو يدعى كلوكلو. فاصفر وجه مرسلين وقالت: ماذا تقول؟ كلوكلو! - نعم، فهل تذكرين هذا الرجل؟ - كلا، ولكن ما زلت واثقا من نجاح العملية، فلماذا لا تجريها هنا؟ فإنه يوجد عندنا غرفة لا نحتاج إليها فتقيم فيها، ويقيم ولدها معها. - لقد خطر لي ذلك يا أماه، ولكني خشيت أن تحزنك آلام تلك المسكينة ويأس ولدها، بل إني أخاف أن يؤلمك موتها إذا لم أنجح. - بل إني واثقة بك، فجئ بها إلى هنا غدا وسأعد الغرفة.
وفي اليوم التالي جيء بالعجوز محمولة على محمل يصحبها ابنها كلوكلو، وكانت مرسلين قد تغيرت كثيرا كما تقدم، فلم يعرفها كلوكلو حين شكرها، فسارت به إلى قرب النافذة وقالت له: انظر إلي بإمعان لعلك تعرفني.
فتفرس في وجهها مليا وقال: كلا يا سيدتي فإني لم أرك قبل الآن، فهل تذكرين أني تشرفت بالمثول أمامك؟ - نعم، ولكن مضى على ذلك عهد بعيد لا يقل عن ربع قرن، وقد تغيرت كثيرا كما يظهر حتى بات كلوكلو لا يعرفني، فافترض أنه ليس في وجهي تجاعيد وأن شعري لا يزال أسود و... - اصبري اصبري يا سيدتي، فأنت ... ولكني أخاف أن أذكر اسمك. - قل يا كلوكلو فليس يسمعنا أحد. - أما أنت يا سيدتي مدموازيل مرسلين دي مونتكور؟ - نعم أنا هي، ولكن احذر أن تذكر اسمي أمام أحد. - لله! ما أسعدني بلقائك! فإني اليوم أسعد البشر؛ فقد كنت يئست من لقائك، ولو تعلمين يا سيدتي ما أصاب الموسيو بوفور بعدما توهم أنك من المائتين؛ فقد كان في حالة تدعو إلى الإشفاق، ولكني مخطئ في إعادة هذه الذكرى المؤلمة فاعذريني. - لا بأس، ولكن اعلم أني أدعى أمام الناس وأمام ولدي وابنتي مرسلين لنجون، فاحذر أن تغلط وتنادي بغير هذا الاسم؟
فدهش مما سمع! وقال في نفسه: ألها أولاد؟! ولكنه خشي أن يسألها وعاد إلى أمه.
وبعد يومين أجرى جيرار العملية للعجوز، فنجحت أتم النجاح، ولم يمر بها أسبوعان حتى صارت قادرة على السفر، ولكن جيرار قال لولدها: إني أنصحك ألا تذهب بأمك إلى برين فإن مناخ هذه البلد لا يوافقها الآن وهي محتاجة إلى الراحة.
قال: سأعمل بنصيحتك، وسأبقى معها في هذه المدينة.
وقد ذهب إلى مرسلين يشكرها، فقال لها: إن أمي مدينة بحياتها لولدك.
أما أنا فإني مدين لك بأكثر من الحياة، فهل أستطيع أن أخدمك في شيء؟ - كلا. - ولكن عديني يا سيدتي أنك إذا احتجت إلى ساعد قوي وقلب مخلص يتفانى في خدمتك؛ تدعيني لهذه الخدمة. - إني أعدك. - أشكرك يا سيدتي، وإن قلبي يحدثني بأني لا أموت قبل أن أخدمك خدمة تدل على امتناني.
وقد ودعها وانصرف، وبعد شهر عاد إليها فقال: لقد جئتك باقتراح يا سيدتي لا أعلم إذا كنت توافقين عليه. - ما هو؟ - إني بعت منزلي في بلدي، وأقمت مع أمي في مدينة كريل المجاورة لكم، وصرت فيها كأني في موطني. - والاقتراح؟ - لقد سمعت أهل تلك المدينة الصغيرة وفلاحي القرى المحدقة بها يشكون قلة الأطباء فيها؛ إذ لا يوجد هناك غير طبيب واحد، فلو أقام جيرار فيها، على ما خصه الله من الذكاء والمهارة، لأصبح جميع أولئك السكان من زبائنه. - لا شك عندي أنك من كرام الرجال، وسأفاوض جيرار باقتراحك فيدرسه، ورجائي أن يعمل به. - إذن أسرعي يا سيدتي كي لا تفوت الفرصة؛ فإن الأطباء كثيرون في هذه البلاد.
وقد شكرته، فتركها وانصرف. وأخبرت ولدها باقتراح كلوكلو فاستصوب ذلك الرأي ، وقال لها: إنك اشتغلت يا أماه مدى الحياة لإعالتنا وقد آن لك أن تستريحي، فسترين ذلك وستكونين سعيدة.
وقالت لها بنتها: نعم، يجب أن تستريحي يا أماه فإننا لا يشغلنا اليوم غير راحتك، فأخذت مرسلين تعتقد أن الليالي السوداء قد انتهت، إلا إذا كانت الأقدار خبأت لها نكبة جديدة.
وقد دخل جيرار إلى غرفته وذهبت مرسلين إلى السوق، فبينما كانت مودست جالسة وحدها تتلهى بالتطريز، طرق باب المنزل، ثم دخل فتى جميل الوجه لا يتجاوز الثامنة والعشرين من العمر، وعليه علائم الاضطراب الشديد.
فقال: أسألك المعذرة يا سيدتي لما ترينه من دلائل اضطرابي؛ فإني ابن لويس فولون صاحب المعمل المعروف في هذه المدينة، وقد أصيب أبي الآن فجاءة بفالج، وطبيبه غائب فأرشدوني إلى الدكتور جيرار، فهل هو هنا؟ - نعم، وسأخبره من فوري. - بالله لا تتأخري لحظة يا سيدتي فإن حياة أبي بخطر.
وبعد هنيهة عادت مع أخيها، فسأله روبير فولون قائلا: هل تستطيع الذهاب معي يا سيدي؟
قال: هلم بنا.
فخرج الاثنان إلى المركبة التي كانت تنتظر عند الباب، وسارت بهما تنهب الأرض إلى قصر فولون؛ فإنه أصبح من أهل القصور.
وقد اضطر جيرار إلى الإقامة طول الليل مع المريض حتى سكن روعه وزال الخطر عنه.
وعند الصباح أراد فولون أن يستبقيه، فقال له: إني لست طبيبك الخاص يا سيدي، ولا أحب أن يتهموني بالاعتداء على حقوق زميلي، وسيأتي الدكتور كورديه طبيبك، فأرجو أن تخبره كيف أتيت.
فقال له روبير: بل ابق يا سيدي، فهذه أول مرة احتاج فيها أبي إلى طبيب، وفوق ذلك فإن الدكتور كورديه صديق العائلة، وأرجو أن تكون مثله.
وقال له فولون: هل أنت من عهد بعيد في هذه المدينة؟
قال: منذ شهر. - هذا هو السبب في أني لا أعرف شيئا عنك، حتى إني لا أعرف اسمك. - إني ادعى الدكتور جيرار. - أهو اسمك الأول أم اسم عائلتك؟ - بل هو اسمي الأول الذي تعودوا أن ينادوني به، أما اسم عائلتي فهو لنجون.
فأطرق فولون مفكرا حين سمع هذا الاسم، ثم قال: لقد عرفت من عهد بعيد امرأة تدعى بهذا الاسم وكان لها ابن وابنة. - لي أخت يا سيدي. - اصبر فقد عادت إلي الذكرى، إن الولد يدعى جيرار والابنة تدعى مودست. - هذا اسم أختي. - إذن أنت ابن مرسلين لنجون؟ - نعم. - وأمك ألا تزال في قيد الحياة؟ - إنها تقيم معي في كريل. - إذن قل لأمك أيها الدكتور إني أدعى لويس فولون؛ فإنها لم تنس هذا الاسم، وقل لها إنك أنقذت حياتي؛ فإن ذلك يسرها. - سأفعل يا سيدي.
وقد ودعه وانصرف، فلما لقي أمه قال لها: لقد عالجت هذه الليلة رجلا تعرفينه، وأنقذته من الموت، وهو يدعى لويس فولون.
فذهلت وقالت: نعم؛ فقد عرفته منذ عشرين عاما حين كان مديرا لأحد المعامل، أما إنك أنقذته من الموت بالفالج فهو قد أنقذك في حداثتك من الموت غرقا، فواحدة بواحدة. - ولكنه لم يقل لي شيئا من هذا. - ذلك لأنه بقي شريفا كريما كما أعهده، وقد سررت كثيرا لسلامته.
بعد ذلك بأسبوعين جاءها فولون زائرا فلم يعرفها، ولم تعرفه في البدء، ثم تعارفا، فحكى لها وحكت له كل ما مر بهما في ذلك العهد البعيد، وحدثها مليا بشأن ولدها ومستقبله، وضمن لها أنه سيجعله سعيدا، ثم قال لها: إني أحتفل كل عام بعيد مولد ولدي روبير، فأحيي ليلة راقصة، وإني أتيت لأدعوك إليها فإن موعدها الأسبوع القادم.
قالت: أأنا أحضر حفلات راقصة، وقد مضى عهد الرقص؟
قال: بل تحضرين إكراما لي ولولديك، ولا سيما جيرار؛ فإنه سيتعرف عندي بكبار أهل المدينة، وهذه فرصة يجب اغتنامها.
فوافقته على ما أراد مشترطة عليه ألا يعرفها بأحد هناك.
وفي اليوم المعين ذهبت مع ولديها إلى الحفلة، فكانت مودست زينة الفتيات، كما كان جيرار زين الفتيان.
وكان لفولون كثير من الأصدقاء في المدينة وضواحيها، وكان كثير العناية بعيد ولده الوحيد، فلما دنت الساعة المعينة غصت قاعات القصر بالمدعوين على اختلاف مقاماتهم.
وقد بهرت مرسلين بما رأته من ظواهر ثروة فولون وسرها أن يكون قد بلغ هذا المبلغ منها؛ لأنها كانت تحترمه وتعتقد أنه كريم القلب طاهر النفس جدير بأن يكون سعيدا في الدارين.
فلما وصلت إلى القصر جلست في إحدى قاعاته واختلط ولداها مع الناس، وكان ثلاثة رجال جالسين على مسافة غير بعيدة منها بينهم فولون، وهم يتحدثون ويضحكون، فعرفها فولون بالرغم عن كثافة برقعها، وقام إليها فحياها وشكرها لقدومها، ووراءه ولده روبير.
غير أنه ما لبث أن صافحت يده يدها حتى شعر أن يدها ترتجف، ثم رأى أن رجليها تصطكان وأنها على وشك السقوط، فأسرع إلى إجلاسها على الكرسي، وأمر ولده أن يأتيها بشراب منعش وقال لها، لا شك أنك أصبت بضيق في التنفس لكثرة الزحام. - هو ذاك.
ولكن الحقيقة أنها عرفت الرجلين اللذين كانا مع فولون وهما؛ جان داغير أصل نكبتها، وبير بوفور زوجها.
وقد رأى بوفور اضطراب مرسلين دون أن يعرفها فجاء إلى صديقه فولون، وقال له: أأدعو الطبيب؟
فقالت مرسلين: كلا لا حاجة إلى طبيب؛ فقد زال ما أصابني.
فقال لها فولون: الحق أنك أخفتني كثيرا. - أسألك المعذرة، وقد كان خيرا لي لو لم أحضر. - ابقي هنا نتحدث، بينما ولدي روبير يراقص مودست، وسأخبر هذين السيدين كيف أني كنت مدلها بك وكيف تلقيت غرامي.
فقالت له بصوت منخفض يشبه الهمس: بربك لا تفعل. - ليكن ما تريدين. ثم قال لرفيقيه: أتشرف بأن أكون صديق مدام لنجون والدة الدكتور جيرار، وقدم لمرسلين صاحبيه وهما داغير وبوفور، فشعرت المنكودة أن الأرض تميد بها لاتفاق اجتماعها بهذين الاثنين، وهما الغاوي والزوج.
وكان زوجها قريبا منها ولكنه لم يعرفها لكثافة برقعها، فقال: لقد أذكرتني هذه الأسماء وهي مرسلين وجيرار ومودست ذكرى بعيدة منذ عشرين عاما على الأقل، فهل نسيت يا فولون؟ - لقد أصبت أيها الصديق، فهذه هي التي أنقذت بنتها من الترعة.
فقالت مرسلين: وأنا لم أنس مروءتك يا سيدي، فهي محفورة في قلبي، وفي كل يوم أدعو لك في صلاتي. - أشكرك، ولكن الله لم يصغ بعد إلى صلواتك.
وقد أسفرت هذه الحفلة الراقصة عن أمور كثيرة منها أن [...]
1
المخاوف بعد اجتماعها مع غاويها وزوجها في مرقص واحد، وبعد علمها أنهما يقيمان معا في بلد واحد، ومنها أن زوجها بوفور طلب إلى ولدها جيرار أن يعوده كلما وجد فرصة سانحة؛ لأنه في حاجة إلى المعالجة، وفي ذلك ما يسهل على بوفور اكتشاف الحقيقة، ومنها أن روبير ابن فولون أحب مودست ابنة مرسلين، وكانت نظرات حبه ظاهرة؛ حتى إنها لم تخف عن أبيه فقال لمرسلين: إني سأعمل على تزويج ولدي ببنتك فأكون قد انتقمت لنفسي، وأنلت ولدي من بنتك ما لم أستطع نيله منك.
أما بوفور وداغير فقد كانا صديقين من عهد التلمذة كما تقدم لنا في الفصل الأول.
ولم يكن داغير قد تزوج فأقام بضعة أعوام في بلده بعد سفر مرسلين، ثم باع أراضيه بمائة وخمسين ألف فرنك وجاء إلى باريس، فلم يكن يشغله غير السعي لنيل ثروة كبيرة كيفما اتفق، حتى لو أمكنه أن يسرق أو يقتل في هذا السبيل لما تردد.
وكان يعلم أن بوفور غني فكان يبالغ في إظهار التودد له ويغتنم فرصة يأس صديقه، فيعبث به كما يشاء، فكان خير عزاء له؛ لأنه كان يكلمه عن مرسلين.
وقد اتفق أن بوفور خطر له أن يشتغل بصب الحديد ليس للربح، بل للتلهي بالعمل عما هو فيه من الحزن المبرح، فاقترح عليه داغير أن يشاركه وهو لم ينفق ثمن أراضيه بعد، فنجحت أعمال الشركة في البدء، ثم جاء دور الخسارة على أثر الحرب، فكان بوفور يساعد الشركة بماله الخاص، فأنقذها مرتين من الإفلاس، وقد قال لشريكه في المدة الأخيرة: إني لا أجد أقل دليل على إمكان نجاح الشركة، فخير لك أيها الصديق أن تسترجع رأسمالك اليوم؛ فقد لا تستطيعه غدا؛ لأني لا أخاطر بكل ثروتي في عمل خاسر، وقد أنذرتك فتدبر.
قال: سوف نرى، ولكني لا أرى مشروعنا بالعين التي تراه فيها. - بل أنت المخطئ؛ فإن الإفلاس على الباب وفي ذلك خرابك.
فابتسم داغير ابتسام الحاسد الناقم، وقال: لقد أصبت فإني أخسر ثروتي بجملتها، أما أنت ...؟ - أما أنا فأكون قد خسرت خمسمائة ألف فرنك، ولولا مساعدتي لحدث من [...]
2
حدوثه اليوم، فلا تكن ظالما أيها الصديق وكن من المنصفين.
فلم يجبه بشيء، ولكن مراجل الحسد كانت تغلي في قلبه الحقود.
وجاء دور التصفية على أثر الخسارة التي كان يتوقعها بوفور، فقال لصديقه: هو ذا الخراب قد حدث، أما أنذرتك من قبل؟ - لماذا لا تمد الشركة بنجدة من مالك؟ - هذا محال الآن، وقد كان يجمل بك العمل بنصيحتي يوم كنت أتوقع هذا الموقف، فلو أخذت يومئذ رأس مالك الذي أرجعته إليك مرتين فما كنت في هذا الموقف الآن. - إذن أنت ترفض مساعدة الشركة؟ - كل الرفض.
فضم داغير قبضتيه، ولكنه لم يقل شيئا إذ لم يبق له ما يقوله.
هذه كانت حالة الاثنين حين وجدناهما في قصر فولون، أما مرسلين فقد لزمت البيت حذرا من أن يراها داغير أو بوفور فيعرفانها بالرغم عن تغيير وجهها.
بعد ذلك بيومين وردت رسالة من بوفور إلى جيرار يدعوه فيها إلى عيادته، فذهب إليه وأقام عنده ست ساعات أصبحا بعدها صديقين حميمين، ولكن جيرار خرج من عنده وهو منقبض الصدر، وعلائم الحزن بادية على وجهه.
وكانت أمه قد اطلعت على رسالة بوفور إليه، فلما رأته حزينا ثارت الهواجس في قلبها، وأخذت تستدرجه في الأسئلة فقالت له: هل ذهبت لعيادة الموسيو بوفور؟ - نعم، لقد أحزنني كثيرا. - لماذا ألعل مرضه شديد؟ - نعم، وهو يدعو إلى الإشفاق. - ألا ترجو أن ينفعه طبك؟ - لا حيلة في الطب على هذا المرض. - ما هو هذا المرض الذي يعجز عنه الطب؟ - هو مرض اليأس المستعصي من ذكرى أليمة توقعه كل يوم إلى هوة القبر. - ألعله أخبرك شيئا عما يشكوه؟ - كلا، ولكني علمت من خلال الحديث أنه نكب في شبابه بحب امرأة عبثت بقلبه، والغريب أنه لا يزال يهواها.
ثم ضرب المائدة بيده، وقال: ويح لهذه الشقية فقد قتلته.
فقالت له أمه بصوت المحتضر: اسكت يا بني ولا تقض عليها بحكم قبل أن تعرفها، فهل عرفتها أو عرفت شيئا عنها؟ - كلا ، ولكن كل ما عرفته أنها سحقت قلب رجل لم أر أكرم منه خلقا ولا ألين طباعا؛ ولهذا قلت إنها شقية. - لا تتسرع يا بني بأحكامك وارحمها فقد تكون جديرة بالرحمة. - لماذا تدافعين عنها وأنت لا تعرفينها؟ - وأنت لا تعرفها أيضا، فلماذا تحمل عليها هذه الحملات؟! - لقد أصبت يا أماه، ولكن دموع هذا المنكود أثرت بي أبلغ تأثير. - ألعله يبكي؟ - إنه بكى بكاء الأطفال، وهذا يدل على أن جرحه لا يزال داميا. - ماذا وصفت له؟ - النسيان؛ أي المستحيل، وما عساي أصف له وعلته روحية، وأنا طبيب أجسام لا طبيب أرواح؟ - إذن فهو يكره هذه المرأة ويحتقرها؟ - كلا، بل إنه يحبها ويفتكر بها في كل حين؛ فقد احتجبت عنه فجاءة، وهو إلى الآن لا يعلم سبب احتجابها مع بحثه عنها خمسة وعشرين عاما، ولو سمعت هذا المسكين كيف كان يصف لي نكبته لشبهته بمصباح يفرغ منه الزيت تباعا، ولا يريدون تجديد زيته، وإني أعجب كيف أنه لا يزال باقيا في قيد الحياة، إلا إذا كان باقيا له شيء من الأمل، ولكن الزيت لا بد أن ينتهي فينطفئ المصباح. - أتحسب أنه في خطر سريع؟ - بل إني أخاف أن يفضي به الأمر إلى الانتحار للنجاة من عذاب ذلك التذكار؛ فإنه لم يندفع في الأشغال إلا بغية النسيان، فخسر قسما كبيرا من ثروته ولم ينس؛ ولذلك لم يعد يخيفه الموت، بل صار يعده الراحة الكبرى. - مسكين! - ألا ترين يا أماه أن حالته تستوجب الإشفاق؟ - دون شك. - وإذا أمكنك تخفيف آلامه أتفعلين؟ - بملء الارتياح. - إذن فاعلمي أنه لا يوجد علاج في الطب يخفف عذاب هذا المسكين؛ لأنه مصاب بروحه لا بجسمه، فلا يغير فيه غير العلاج الأدبي، وهذا الذي دعاني إلى الاستعانة بك في معالجته.
فقالت، وهي تحاول أن تضحك: ألعلي عديت منك يا بني فصرت من الأطباء؟ - كلا، ولكنك ذكية الفؤاد طيبة القلب، وإن العزلة هي التي ستقتله وتوحي إليه هذه الأفكار السوداء. - لماذا؟ ألم يتزوج؟
وقد قالت هذا القول بصوت مختنق، فقال لها: لا أعلم، ولكنه قد يكون متزوجا وقد تكون علته من هذا الزواج. وعلى أية حال فإنه يجب أن تعالج فيه تلك العزلة، فإذا أقام بيننا ورأى ذلك الحب المؤلف بين قلوبنا تعزى بعشرتنا وردت إليه الحياة؛ لأنه في أشد الاحتياج إلى صداقة صادقة يشتغل بها قلبه، وسنعرف كيف نجد الطريق إلى ذلك القلب، فهو لا يعيش بيننا عيش غريب مريض مع طبيبه، بل عيش صديق مع أصدقاء. - لا شك أنك هازل يا جيرار. - كيف أهزل في هذا المقام يا أماه؟ - ولكن تمعن في الأمر يا بني فإن ما تقوله لي محال. - ولماذا ترينه محالا وأنا لا أطلب إليك غير أن تشاركيني في شفاء رجل كريم منكوب؟ - أقول محالا لأننا لا نعرف هذا المريض؛ فقد تندم إذا أقمناه في منزلنا. - أراك تريدين التدرج في سوء النية بهذا الرجل، فلماذا لا تسرعين إلى القول بأنه من السفاكين؟ - إن المرء متى بلغ إلى عمري لا يبحث عن علائق جديدة، وستدرك حقيقة قولي متى دخلت إلى عمري، ثم أنت تعلم أني أحب العزلة؛ فإني لم أعش إلا لأجلك ولأجل مودست فلم يكن يشغلني سواكما في الوجود، وقد رضيت أن أحضر حفلة فولون إكراما لك ولأختك، ولكني لا أستطيع المزيد، فإن هذا الرجل لا يشفى بطريقتك إلا إذا كنت وأختك توده، ولسنا على شيء من هذا.
فقالت لها مودست: أسألك المعذرة يا أماه؛ فإني شعرت بميل عجيب إلى هذا الرجل منذ نظرته.
فقال جيرار بلهجة المنتصر: أسمعت؟ - لا أنكر من أن مودست قد تميل إليه ... وقد ترددت عن إتمام جملتها وما عساها تقول؟ أتقول إنه أبوها؟ ولكنها قالت بعد ترددها: غير أني أعجب لعطفها عليه وهي لم تكد تراه. - بل اسمحي لي يا أمي العزيزة أن أعجب أنا أيضا لإنكارك عليها هذا العطف، وهو الذي أنقذها من الموت؛ أليس من العدل أن تنقذه وهي قادرة على إنقاذه؟ ولذلك أسألك قبول طلبي الذي يوحيه عرفان الجميل. - كلا، كلا.
فرأى جيرار أنه لم يبق فائدة من الإلحاح، فسكت ، ودخلت مرسلين إلى غرفتها وهي تقول: كلا، هذا محال.
ومضى أسبوع كان روبير بن فولون يختلق كل يوم فيه سببا لزيارة مرسلين، بحيث اتضح أن الذي يجذبه إلى هذا البيت غرامه بمودست؛ فقد علق بها منذ الحفلة الراقصة.
ولم يكتم حبه عن أبيه، فقال له: إني أعرف هذا البيت وأوافق على زواجك بالفتاة، ولكني أحب أن تعلم إذا كان هذا الحب متبادلا بينكما؛ فإن الزواج من غير حب يعقبه التنغيص. - لست واثقا كل الثقة، ولكن تبين لي من أدلة كثيرة أنها تحبني. - إذن أتريد أن أخطبها إلى أمها؟ - ما أكرم قلبك يا أبي! - إن ما أقوله طبيعي معقول، وبعد فإني مخبرك بالحقيقة؛ وهي أني أحببت مرسلين بعد وفاة أمك وأردت أن أتزوجها فتكون لك أما ثانية، ولكنها أبت أن ترضى بي زوجا، فأنا اليوم سعيد بهذا الاتفاق؛ لأني سأذهب إليها فأقول لها أنك أبيت أن تكوني امرأتي فسينتقم لي ولدي فيتزوج بنتك. - إنك يا أبي خير الآباء. - وأنا أرجو أن تكون قريبا خير الأبناء، فاذهب والبس خير ملابسك، إني أردت أن تصحبني إليها. - نعم؛ فإن الأفضل أن أكون هناك.
وبعد ساعة كان الاثنان في منزل مرسلين فأحسنت استقبالهما.
وسألها فولون عن مودست فقالت: إنها تتنزه مع أخيها، فهل تريد محادثتها؟ - بل أريد مباحثتك في شأنها.
فتظاهرت بالاندهاش، ومضى فولون في حديثه، فقال: إن كلمة تكفي بالتعبير عن مرادي وهي أن ولدي يحب ابنتك، وله من الثروة ما يكفي اثنين، فهل تريدين أن يكونا زوجين؟
فأطبقت عينيها إخفاء لاضطرابها ونسيت أن تجيب، فقال لها: ما بالك لا تجيبين، ألا تجدينه كفئا لها؟ - بل هو خير كفء وفي ذلك تشريف لنا، ولكني لا أعلم إذا كان ذلك من الممكنات.
فقال لها روبير: لماذا لا ترينه ممكنا؟ - لأنه يشترط رضى مودست. - هو ذاك، ولكني كنت أتوهم أنها راضية؟ - قد تكون مخطئا يا موسيو روبير. - أتحسبين أنها لا تحبني؟
فوجمت ساكنة، ولكنها عولت على الكذب، ليس لأنها أرادت أن تبقي بنتها عندها من قبيل المبالغة في حب الذات؛ بل لأنها إذا زوجتها تضطر إلى الاعتراف بأنها ابنة الكونت دي مونتكور، وأن مودست بنت بوفور ففضلت الكذب على الاعتراف بهذه الحقيقة، وأجابت روبير قائلة: أظن أن مودست لا تحبك كما تتوهم. - هل سألتها؟ - نعم، فعلمت منها أنها تعدك بمثابة صديق.
فنظر فولون إليها نظرة المرتاب، وقال لها وهو يحدق بها: أواثقة فيما تقولين؟ فإني أحب روبير قدر ما تحبين مودست فانظري إلى ما فعلت به.
وهنا وقفت مركبة عند الباب فاضطربت مرسلين، وقام روبير فأطل من النافذة وعاد فقال: هو ذا الآنسة مودست مع أخيها. ثم قال لمرسلين: اسمحي لي يا سيدتي أن أتولى سؤالها بنفسي أمامك، أو سليها أنت أمامي يتضح لك أنك واهمة. - أية فائدة من سؤال يزيد جوابه حزنك؟ - أتوسل إليك أن تفعلي.
ودخلت مودست وهي لا تعلم أنها ستجد روبير وأباه فلم تتمكن من إخفاء سرورها، ولكنها أجفلت حين رأت ملامح الحزن بادية في وجه روبير، فقالت له: رباه، ماذا حدث ولماذا هذا الانقباض؟ - لم يحدث ما يؤثر عليكم مباشرة يا سيدتي، ولكني أعده أعظم نكبة علي. - إن ما يؤثر عليك يؤثر علينا يا سيدي، فهل تأذن لي أن أسألك؟ - لا أجسر أن أفوه بكلمة لأني أخاف أن أسمع ما يجعل علتي غير قابلة للشفاء فسلي أمك.
فالتفتت إلى أمها وكلتاهما شبه الريشة في الهواء من فرط الاضطراب.
وقالت لها: ما هي هذه النكبة التي يشير إليها يا أماه؟
قالت: لا أعلم، ولكن الموسيو فولون جاء يخطبك لولده.
فخفق قلبها سرورا، وقالت: ماذا أجبت؟ - قلت الحقيقة: أي إن هذا الطلب يشرفنا، ولكنه سابق لأوانه لأنك لا تحبين الموسيو روبير. - أماه ... أماه ...!
وقد أرادت أن تقول لها: إنك مخطئة وإني أحبه بملء جوارحي. ولكنها رأت أنها مقطبة الجبين فأطرقت ساكنة وقد سحق قلبها؛ لأن احترامها لأمها كان أشد من حبها.
وكان روبير جالسا بالقرب منها فقال لها: بربك أجيبي فهل كنت مخطئا؟ أجيبي بالله. - أما سمعت يا سيدي ما قالته أمي؟ - أحق ما قالته؟ - هي وحدها التي يحق لها أن تجيب، فإذا رأت أن تجيب بما أجابته كانت واثقة بأنها ... تقول ... الحقيقة.
وقد رأت أمها أنها تكاد يغمى عليها، فأسرعت إلى نجدتها، ونهض فولون، وقد ظهرت عليه علائم الاستياء فقال لولده: هلم بنا فلم يبق لنا ما نعمله هنا.
فنهض روبير وخرج مع أبيه وهو قانط، ولكنه نظر إلى مودست فرآها تبكي.
أما مودست فإنها قالت لأمها بعد انصرافهما: لماذا قلت إني لا أحبه؟ ولماذا رفضت طلب أبيه؟ - أتريدين أن تفارقيني ... أتريدين أن تنسيني؟ - ألا يمكن للفتاة أن تحب أمها وزوجها معا، فلماذا أسأت إلي هذه الإساءة؟
وقد حاولت أمها أن تعزيها ولكنها صدتها عنها، وقالت لها: دعيني أبكي.
وفي اليوم التالي زار روبير صديق أبيه بيير بوفور وروى له ما جرى بالأمس، وما كان من رفض مرسلين، ثم قال له: إنك صديق مودست فإنها مدينة لك بالحياة كما أعلم، ألا يمكن أن تغتنم فرصة لتسألها إذا كانت تحبني؟ فإني أعتقد أنها تحبني بالرغم عما سمعت من أمها. - سأفعل، ولكني أستغرب أخلاق مدام لنجون وأرى منها تجانبا ظاهرا، فلماذا لا تباحث جيرار في هذا الشأن؟ - لقد خطر لي ذلك وسأفعل.
وحسنا تفعل؛ فإن جيرار لا يكتمك الحقيقة.
وقد فعل، وبعد بضعة أيام خلا جيرار بأخته، وقال لها: أريد أن أباحثك في أمر يا مودست. - ما هو؟ - هو أني عارف بسبب حزنك. - لست بحزينة كما تتوهم. - لقد لقيت روبير وأخبرني.
فاغرورقت عيناها بالدموع وقالت: ماذا أخبرك؟ - أخبرني أنه يحبك أصدق حب وأنك جعلته يقنط من الحياة، فقولي لي؛ أحق أنك لا تحبينه؟ - الحقيقة أني أحبه. - لماذا قلت له ما يوهم بالعكس؟ - لأن هذه هي إرادة أمك. - إن أمك لا تريد لك اليأس.
وعند ذلك دخلت مرسلين فقال لها جيرار: إن أختي تحب ابن فولون، وأنا واثق بأنه يحبها، وهو خير كفء لها فلماذا تعارضين في سبيل زواجها؟ - قد يوجد أسباب يا بني. - لماذا تكتمين عنا هذه الأسباب؟ - لا تسألني. - بل أسألك وأريد أن تجيبي. - متى كان يوجد هنا إرادة غير إرادتي، أهكذا تحترم أمك يا جيرار؟ - أسألك العفو يا أمي، فإني أحترمك وأحبك، ولكن انظري ما صارت إليه مودست. - لا أستطيع أن أفيدها في شيء. - إذن أنت تصرين على الرفض؟
فأحنت رأسها مرتين إشارة إلى الإيجاب، وانقطع الحديث، فانصرف جيرار وهو معجب بهذا السر لوثوقه أنه لا بد من وجود سر غريب تكتمه أمه حتى عن أولادها الراشدين وهذا أغرب.
ولنعد إلى بوفور فإنه ذكر ما وعد به روبير، وخرج من المنزل ليقابل مودست وأمها، ولكنه لم يصل إلى الحديقة حتى شعر بدوار شديد فجلس على كرسي فيها ونادى الخادم، فأعانه على الرجوع إلى المنزل، وأرسله ليدعي الدكتور جيرار، وهو يقول في نفسه: هذا بدء النهاية فقد قدر لي أن أموت دون أن أقف على سر احتجاب مرسلين.
وجاء جيرار فكان أسفه شديدا إذ رآه على أسوأ حال فوصف له علاجا مقويا، وأقام عنده ساعة ثم عاد إلى منزله وظواهر الكآبة بادية بين عينيه، فسألته أمه عن بوفور، فقال لها: لم يبق رجاء.
فدقت يدا بيد وقالت: لا سبيل لإنقاذه؟ - لا ينجو إلا بأعجوبة؛ فإن ذلك فوق قدرة الطب، ولكني أراك تهتمين به كثيرا فما هذا الاهتمام؟ - أما هو صديقك يا جيرار؟ - لقد قلت لك من قبل إنه إذا عاش بيننا نجا وتكونين قد وفيت ما عليك من الدين.
فاختلجت اختلاجا عنيفا، وقالت: إذا كان في ذلك شفاؤه فليقم بيننا؛ فإن مودست ستحبه وسيكون معنا كأنه مع عائلته. - لقد فات الأوان. - فات الأوان؟ ألم يبق شيء من الرجاء؟ - كلا وا أسفاه.
وأقامت طول ليلها وهي تقول: رباه، ماذا أصنع؟
وفي صباح اليوم التالي عادت إلى سؤال ولدها عنه، فقال لها: إنه ينطفئ تباعا كالمصباح حين يفرغ منه الزيت، ولماذا تسألينني وماذا تريدين أن تصنعي؟ - لا شيء، وما عساي أصنع؟
وعادت إلى غرفتها وهي تناجي نفسها فتقول: من يعلم، ألا يمكن أن يفتكر بي دائما كما أفتكر فيه، ألا يمكن أن أضع شيئا من الرجاء في حياته الآخذة بالزوال، وإذا عادت إليه الحياة ألا أكون قد كفرت عن ذنبي؟
وقد فتحت درجا بمفتاح كان معلقا بسلسلة في عنقها وأخرجت منه غلافا أصفر لتقادم العهد به ففضته، وأخرجت ضمة من الزهر جافة كانت تحتفظ بها كأنها من الكنوز، وهي الضمة التي جناها لها بوفور قبل الزواج مخاطرا بحياته في وادي سويسرا، وهي كل ما بقي عندها من التذكارات.
وقد وضعتها في غلاف جديد وأرسلت من جاءها بكلوكلو فأعطته الغلاف، وقالت له: خذه للموسيو بيير بوفور، واحذر أن تفوه بكلمة عني أو تدعه يعلم أني أنا مرسلة الكتاب. ثم يجب أن تذكر أن هذه هي المرة الثانية التي أئتمنك فيها على هذا الكتاب.
فأطرق برأسه مستحييا، وقال: ثقي يا سيدتي أني لا أضيعه هذه المرة.
وقد أخذ الكتاب وذهب به من فوره إلى منزل بوفور، فسلمه إلى خادمه وانصرف، ففض بوفور الغلاف فلم ير فيه غير ورقة بيضاء مكتوب عليها تاريخ 25 أيار سنة 1855 وضمة ذابلة جافة من زهر البنفسج، فلم يحفل في البدء؛ حتى لقد توهم أن الرسالة أرسلت إليه خطأ.
وفيما هو ينظر تارة إلى الضمة وتارة إلى التاريخ ارتعش فجاءة ووثب من فراشه، وقال: كلا، فما أنا بمجنون ولا حالم ولكنها الحمى.
ولكن ما هذا البنفسج الذابل؟ إنها تذكرني بتلك الضمة التي جنيتها من الوادي ولقيتها يوما مخبوءة في صدرها حين أغمي عليها، وفككت الخادمة أزرارها، ما هذا بالتاريخ؟ إنما هو تاريخ زواجي بها، فمن عساه يحتفظ بهذه الضمة خمسة وعشرين عاما ويرسلها لي غير مرسلين.
إذن فهي لا تزال في قيد الحياة، وهي تعلم أين أنا، والكتابة تدل على أنها حديثة بنت ساعتها، وكل هذا يدل أنها موجودة معي في بلد واحد.
وكأنما هذا الرجاء قد رد إليه الحياة؛ فإنه وقف وقد شعر أن قوته عادت إليه.
وعند ذلك جاءه الطبيب جيرار، ورأى تغيره الفجائي فبرقت عيناه، وقال له: ماذا حدث؟
قال له: لقد أظفرت بدوائي وهذا هو.
وقد أراه الضمة وقال: ألم تقل لي إن مرضي روحي، وهذا دوائي بهذه الضمة فإنها كل روحي.
وبعد انصراف الطبيب نادى بوفور خادمه، وقال له: من الذي جاء بهذا الكتاب؟
قال: فقير من الذي يغنون في الشوارع وهو مقطوع اليد. - أما هو المدعو كلوكلو؟ - هو بعينه يا سيدي. - أريد أن تأتيني به كيفما اتفق ومهما كلفك ذلك من المال والعناء، وإن من عادته أن يتجول في الضواحي، فخذ مركبتي وابحث عنه في كل مكان فلا تعد إلا به.
فامتثل الخادم وما زال يبحث عنه حتى لقيه وجاء به بعد ثلاث ساعات.
وقد خلا به بوفور، وقال له: ليست هذه المرة الأولى التي أتيح لنا أن نجتمع يا كلوكلو؛ فقد رأيتك مرة منذ خمسة وعشرين عاما في قصر بتافان يوم زواجي بمرسلين دي مونتكور، فهل تذكر ذلك؟ - نعم، أذكره. - أتذكر أيضا بعد ذلك التاريخ بيومين حين جاءوا بك إلى بتافان وما كانوا يريدونه منك يومئذ؟ - اسمح لي بأن أراجع ذاكرتي. - إني أعينك على التذكر فإن قاضي التحقيق كان يريد أن يسألك بعض أسئلة في أمر يتعلق بمادة اختفاء. - لقد ذكرت، فإن المدموازيل مرسلين كانت قد اختفت، ولكني برحت تلك البلاد من عهد بعيد فلم أعد إليها.
فقال بوفور في نفسه: إن هذا الرجل يكذب أو أنه يحاول الكذب. ثم سأله قائلا: من أعطاك الرسالة التي جئتني بها؟
فحك أذنه وقال: يعز علي يا سيدي أني لا أستطيع إفادتك بشيء. - لماذا؟ - لأني لا أعرف الذي أعطاني إياها. - هذا محال. - بل هو الحقيقة يا سيدي؛ فإني بينما كنت أجول في الشوارع حسب عادتي دنا مني رجل لا أعرفه فأعطاني الرسالة التي تسألني عنها. - أهو رجل؟ - نعم، وهو يكاد يكون من عمري؛ أي بين الخمسين والستين. - ماذا كان يلبس؟ - كما يلبس كالناس، فلم يكن في لباسه شيء من المميزات. - أليس من الغريب أن يبحث عنك هذا الرجل حتى يجدك، ثم يأتمنك على هذه الرسالة وأنت لا تعرفه؟ - كلا يا سيدي؛ فإني لا أشتغل بالغناء وحده، بل إن أكثر مرتزقي من إرسالي في مثل هذه المهمات، وفي كل يوم يرسلونني بمثل هذه الرسالة وأنا لا أعرفهم. - وماذا قال لك هذا الرجل حين أعطاك الرسالة؟ - قال لي: هل تعرف الموسيو بوفور؟ قلت: نعم. قال: خذ هذين الفرنكين واذهب إليه بهذه الرسالة. وهذا كل ما كان بيننا.
فأخذ بوفور يسير ذهابا وإيابا في الغرفة، ويقول في نفسه: إنه لا يريد أن يتكلم، ومع ذلك يجب أن يتكلم. ثم قال له: ألست تكذب يا كلوكلو؟
قال: كلا يا سيدي، فما قلت غير الحقيقة. - أما هي المرأة التي أعطتك الرسالة وأوصتك بالكتمان، أم تحسب أنه يجب عليك كتمان السر، إن جميع الناس يعرفونك بالإخلاص ويثنون عليك وإني لاجئ إلى إخلاصك. - أي معنى للإخلاص في هذا الموقف؟ فإن كل ما في الأمر أنك تسألني عما أجهله. - أما أنا فإني واثق بأنك لا تقول الحقيقة، فأصغ إلي. - كلي أذان للسمع. - إنك منذ خمسة وعشرين عاما حين سألك قاضي التحقيق عن المرأة التي كانت تصحبك لم تقل الحقيقة.
وإني واثق أن الذي أعطاك الرسالة اليوم لتوصلها إلي إنما هو امرأة لا رجل، وأنك تعرفها حق العرفان.
فجعل يضحك ضحكا مغتصبا دون أن يجيب، وحاول بوفور أن يتوعده؛ فرأى أنه ليس من الذين يخافون الوعيد، فأراد أن يستجلبه بالوعود الخلابة فقال له: إني لا أعيد عليك حكايتي؛ فإنك تعلم كيف كان اختفاؤها، وإني أفرغ مجهودي منذ ربع قرن فلم يتيسر لي كشف الحجاب عن هذا السر، ولم أعلم كيف لم أجن، بل كيف أني باق في قيد الحياة، على أني إذا لم أمت فإني شبه الأموات، وهيهات أن أشفى من هذا الجرح الذي أصابني في قلبي.
وكنت أحسب بالأمس أن ساعتي قد دنت، فكنت أستقبل الموت بملء الارتياح، إلى أن جاءني هذا الكتاب، فكان بارق رجاء أنار حياتي حتى لقد يقال إن التي أرسلته كانت عارفة بعلتي وعلاجها، فأرسلت لي الدواء لتنقذني بالرغم عني؛ ولهذا قلت لك يا كلوكلو إنك تعرف فوق ما تقول، قل الحقيقة، بل أتوسل إليك أن تقولها. - يسوءني جدا يا سيدي أن تكون واهما، وألا أكون قادرا على خدمتك في شيء. - تمعن يا كلوكلو فإن حياتي بين يديك، وإنك قادر على قتلي أو إحيائي بكلمة تخرج من شفتيك. - إنك تبالغ كثيرا يا سيدي. - إني عظيم الثروة، فما عليك إلا أن تريد فتصبح من الأغنياء فماذا تريد؟ - لا أريد شيئا؛ فإن أشتغل وأعيش مع أمي. - إن أمك عجوز فإذا كنت ميسورا زدت في راحتها، فإذا رفضت مساعدتي تكون قد أسأت إليها وإني أعطيك عشرين ألف فرنك الآن مقابل هذه الكلمة. - ولكن كيف أستطيع أن أقول هذه الكلمة وأنا لا أعرفها؟ - أعطيك خمسين ألف فرنك. - إنك لو أعطيتني يا سيدي مليونا لما استطعت أن أفيدك بشيء. - بل إنك رجل شرير. - أأكون شريرا لأني أرفض ثروة وأنا لا أملك درهما. - اعلم يا كلوكلو أني لا أعيش الآن إلا على رجاء أن أرى مرسلين، فإذا فقدت هذا الرجاء فقدت الحياة فانظر ما أنت فاعل. - أواه لو كنت أستطيع. - من الذي يمنعك عن إنقاذ حياتي؟
فأطرق برأسه دون أن يجيب، وأيقن بوفور أنه لا يبوح بما يعلمه مهما بالغ بالعطاء والدعوى، فخطر له أن يعمد إلى الحيلة، وقال له: افعل ما تشاء ولكنك ستندم الندم الشديد، وسيقتلك تقريع الضمير؛ لأنك رأيت رجلا يتعذب وأنت قادر على إنقاذه، فما فعلت. اذهب فلم يبق لك عندي غير الكره والاحتقار.
فخرج وهو على أسوأ حالات الاضطراب، ونادى بوفور خادمه وقال له: اصحبه وسر به إلى إحدى الحانات ومل عليه بالشراب، حتى إذا سكر عد إلي وأخبرني.
فامتثل الخادم مسرعا وأدركه قبل أن يخرج من المنزل وسار وإياه، وبعد ساعة بلغ الخادم الغاية منه فتركه يغني من سكره، وعاد إلى مولاه فأخبره بما فعل.
كان روبير فولون قد توله بحب مودست فلم يخفف رفض أمها غرامه، بل زاده هياما.
وكان قد أخبر جيرار بأمره، وقال له: إذا قلت لي إنها لا تحبني يكون حزني عظيما، ولكن لا يبقى لي حجة بخطبتها. فلقيه جيرار بعد بضعة أيام، وقال له: لقد سألت أختي فقالت إنها تحبك.
فعانقه مرارا وقال له: لقد صيرتني أسعد الناس بما قلته لي، ولكن ما الذي يحمل أمك على رفض طلبي؟
قال: لا أعلم، فإنها لا تزال مصرة على الرفض، وقد أبت أن تجيب على أسئلتي. - ومودست؟ - تبكي وتأبى الخروج من المنزل؛ حتى إنها برحت وقد نهيتها مرارا عن التمادي في الحزن، ونصحتها نصيحة أخ وطبيب، فكنت كالنافخ في رماد. - ألم تشفق أمك لأحزانها؟ - يظهر أنها لا تريد أن تسمع أو ترى شيئا.
وفي اليوم نفسه أخبر أباه بما كان بينه وبين أخيها، وسأله أن يعود إلى الطلب فقال له: لا أجد فائدة من ذلك؛ فإن أمها شديدة العناد وأنا أعرفها من عهد بعيد.
غير أن روبير ألح على أبيه وفاز بإقناعه، فخلا فولون بمرسلين وقال لها: إني أتيت بالرغم عني؛ لأن ولدي ألح علي بمراجعة الطلب.
قالت: أية فائدة من العود إلى هذا الحديث؟ - هذا ما قلته له ولكني علمت أنهما متحابان، وهذا ما يحملني على الاعتقاد بأنك لا تحبين بنتك.
فلم تجبه بشيء. فقال: ولكن بنتك وولدي يتحابان؟ - كلا، فسل مودست. - لقد سئلت وأجابت. - من الذي تجاسر على سؤالها؟ - رفقا يا مرسلين ولا تغضبي. - لقد سألتك يا سيدي من الذي تجاسر على سؤال ابنتي بغياب أمها؟ - واحد من الذين لهم الحق بسؤالها. - من الذي يحق له هذا السؤال غيري؟ - ولدك؛ أي أخوها، وهو الذي قال لولدي: لا تقنط فإنها تحبك، ولا بد لأمي أن توافق في النهاية. - محال. - مرسلين، اسمحي لي أن أكلمك كما لو كنت أقرب أقربائك؛ فإني أراقبك منذ عرفتك فوجدت فيه أخلاقا غريبة، ولا سيما حين أردت الاقتران بك، فمن أين أتيت ومن هو أبو ولديك؟ - وأنت لماذا تسألني هذه الأسئلة، ألعلي تدخلت في شئونك؟ إني أحب الظلماء وأريد أن أبقى على ما كنت عليه من التنكر، ألم تلقبوني بالمتنكرة الحسناء؟ - هو ذاك، ولكن أي ذنب لي في الأمس إذا كنت أحببتك؟ وأي ذنب لولدي اليوم إذا أحب بنتك؟
وبعد، أيوجد أعجب من رفضك مصاهرتنا؟ إن معظم الأمهات يتمنين مصاهرة ولدي، ليس لأنه من كبار الأغنياء، بل لأن له من الأخلاق الكريمة ما لا ينكره عليه أحد، وعلى الجملة فإنك إذا أصررت على الرفض أسأت إلى ولدينا إساءة لا تغتفر، فهل تتحملين تبعة هذه الإساءة؟
إن مرسلين لو خيرت بين الموت وبين الإباحة بسرها لآثرت الموت، وتلقته بملء الارتياح، ولكنها إذا وافقت على هذا الزواج تحتم عليها أن تبوح بسرها، وأن تذكر اسم بوفور زوجها ووالد بنتها، وأن تذكر اسم داغير غاويها ووالد ابنها، وقضي عليها أن تكشف كل ماضيها لزوجها، وقد أصبح كالخيال، فتكون كأنها قتلته بيدها؛ ولذلك لم تجب بشيء.
أما فولون فإنه مضى في حديثه فقال: لقد قلت لك حين أحببتك من قبل إني لا أسألك شيئا عن ماضيك إذا رضيت بي زوجا؛ ذلك لأن الأمر كان منوطا بي وحدي في ذلك العهد، أما اليوم فإنه منوط بولدي؛ ولذلك يحق لي حين أخطب له ابنتك أن أسألك إماطة الحجاب عن سر تنكرك، فإذا أبيت الجلاء حق لنا ولولديك أن نشكك في ماضيك بالرغم عما لك في صدورنا من الاحترام، فإذا تعاظم الشك ألا ينقص الاحترام.
أما إذا بحت بسرك فإنك لا تجدين بيننا غير المشفق المعزي مهما كان سرك رهيبا.
قالت: لقد أصبت يا موسيو فولون فإن في حياتي سرا، ولكني لا أريد الإباحة به. - لماذا لا تأتمنينني عليه وأنا صديقك كما تعلمين؟ - لا أريد أن أئتمن عليه أحدا. - ألعله يتعلق بشرفك؟ - إنه لا يمس شرفي، ويحق لي أن أسير شامخة الرأس. - ولكنك بكتمانك تفسحين المجال للظنون. - لا أبالي. - وقد يتهمونك أشنع التهم؛ من المرأة الساقطة التي تعاقب بالاحتقار إلى المرأة السارقة التي تعاقب بالسجن. - يحق لهم أن يتوهموا ما يشاءون. - وولداك ألا تخافين ظنونهما؟
فوقفت وقد اصفر وجهها كالأموات، وقالت: إنك تقطع قلبي ولا فائدة من أقوالك؛ فإني لا أبوح.
فخرج من عندها مطرق الرأس مضطرب القلب، وهو لا يعلم أكان اضطراب قلبه من الغضب أم الإشفاق، وذهب للقاء ولده.
ولما علم جيرار نتيجة هذه المقابلة قال لأمه: ألا تخشين على مودست من عاقبة هذه الخطة؟ - أية عاقبة تخشاها؟ - إن الفتاة في هذا العمر تكون حادة المزاج، تكره الظلم كما يكرهه الأطفال، وأخاف أن يدفعها تصرفك إلى اليأس، وكل ما أسألك إياه هو أن تراقبيها بملء العناية؛ لأني أرى حزنها يشتد في كل يوم لتأثرها من ظلمك. - لا تجر علي بحكمك يا بني. - لست بجائر ولكنك علمتني الحرية والجلاء بالقول والعمل، ولا أعرف اسما غير هذا الاسم لتصرفك. - إنك شديد القسوة علي يا جيرار. - ذلك لإشفاقي على أختي؛ فإنك غير عادلة معها. - لا تتسرع بالحكم على أمك. - إني أصبحت رجلا، بل إني الآن رئيس العائلة، وبهذه الصفة أكلمك؛ ولذلك أعيد ما قلته وهو أنه يجب أن تراقبي مودست فإني أخاف حدوث نكبة تكونين أنت المسئولة عنها. - ما الذي تخشاه؟ - إني أخاف كل شيء.
وقد تركها دون أن يزيد كلمة على ما قال، فحاولت مرسلين أن تلازم بنتها، ولكن مودست كانت تهرب منها وتحبس نفسها في غرفتها؛ حتى إنها حاولت مرة أن تدخل إليها، فأبت أن تفتح لها الباب، فعادت وهي في أشد الانقباض، وقد أخذت تخاف غوائل هذه الوحدة، وتقول في نفسها: رباه إني أخاف أن يفضي بها اليأس إلى الانتحار.
وقد اتفق بعد ذلك بيومين أنها بحثت عنها في المنزل فلم تجدها، فعاودها ذلك الفكر الهائل، وأسرعت راكضة إلى جهة النهر وهي تخشى أن تكون قد ألقت نفسها فيه، فوجدتها جالسة عند الضفة وهي تائهة في مهامه التفكير.
وكانت الشمس قد أخذت تتوارى في حجابها، وأقفرت الطريق، ولا يزال بين مرسلين وبنتها بضعة أمتار فرأتها قد وقفت، ورسمت علامة الصليب وسمعتها تقول: روبير ... حبيبي روبير ... وألقت نفسها إلى المياه، ولكنها لم تسقط فيها، بل بين ذراعي أمها؛ فإنها أدركتها عند الوثوب، وقبضت عليها بملء قوتها حذرا من أن تفلت منها.
غير أن مودست كانت أشد منها فجعلت تحاول الإفلات بملء قوتها وهي تقول: دعيني أموت. إلى أن تمكنت من الإفلات، وألقت بنفسها إلى النهر. فصاحت أمها صيحة منكرة وسقطت مغميا عليها، فلما استفاقت نظرت نظرة هائمة إلى ما حولها فوجدت بنتها بين ذراعي أخيها.
ذلك أن جيرار أدرك أخته حين وثوبها إلى النهر فسقط في أثرها وتمكن من إنقاذها.
وقد سار الجميع عائدين إلى المنزل، ومودست لا تزال مضطربة الحواس لا تذكر ما فعلت، وجيرار يحملها بين يديه وهو ينظر إلى أمه ويقول: أرأيت يا أمي كيف صح تكهني؟
ألم أنبئك بتوقع مثل هذا المصاب، فلماذا لم تسهري عليها؟
أما مرسلين فكانت تطرق برأسها فلا تجيب، وقد غلبت الآن على أمرها وامتناع اعترافها؛ لأن خوفها من كتمان سرها كاد يقتل بنتها، فعولت على الإباحة به، ولكن ما أشد ما كانت تعانيه.
ودخلوا إلى البيت فأخذ جيرار يعالج أخته، فلما عاد إليها صوابها رأت أخاها بجانبها يبتسم ورأت أمها واقفة تبكي وتكلمها بأعذب أقوال الأمهات، فقالت لها مودست: أسألك العفو يا أماه.
قالت: بل أنا التي أسألك أن تعفي، فأنا المخطئة وأنا التي أسأت إليك. أما الآن فكفاك تبكين فإنك تحبين روبير وستكونين امرأته.
ثم عانقتها عناقا مؤثرا، وتنهدت تنهدا طويلا كأن قلبها كان يحدثها بأن أيام عذابها لم تنته بعد.
ولكنها لم تكن تخاف على نفسها هذه المرة، بل على ولديها، وقد انقبض صدرها كما تنقبض الصدور حين توقع المصيبة.
القسم الثالث
الاعتراف
بعد هذه الحادثة ببضعة أيام كان بوفور وداغير عند النوتير؛ فإن بوفور كان يدير بيع معمله الجديد وتصفيته لما لقيه من الخسارة فيه.
وكان قد قال لشريكه داغير من قبل: إنك مخطئ بعدم أخذك رأسمالك؛ فإن ما تستطيعه اليوم لا تستطيعه غدا.
وقد حان الوقت لتصفية هذه الشركة الخاسرة، فكان داغير ينظر إلى شريكه نظرات تتوهج من الحقد، ثم يقول في نفسه: ترى ما عسى أن يحل بي، وكيف أعيش بعد هذا؟
وقد طال حديثهم عند النوتير، ولكن الحديث كان منحصرا بين بوفور والنوتير خلافا لداغير، فقد كان ساهي الطرف مشتت البال لا يشترك في الحديث كأنما لا يعنيه، بل كان إذا سألاه عن أمر لا يجيب.
وفيما هم على ذلك دخل خادم وقال للنوتير: إن في الباب يا سيدي الموسيو فولون. قال: قل له ينتظرني قليلا فسأتفرغ له.
فاعترضه بوفور قائلا: ليدخل الآن إذا شئت فإنه صديق لنا لا نكتمه شيئا من أمورنا.
فأمر الخادم أن يدخله، فلما دخل قال له النوتير: لك عندي يا سيدي أربعمائة وخمسون ألف فرنك قيمة معملك الذي بعته باسمك في سانت دنيس، فماذا تريد أن تصنع بهذه القيمة؟
قال: ما جئتك إلا لهذا؛ فإني في حاجة إلى قسم من هذا المال، وأود لو نلته اليوم.
قال: هذا سهل ميسور، ولكني أخاف أن تودع مثل هذا المبلغ الجسيم في قصرك وهو في عزلة تامة كما تعلم.
قال: لقد خطر لي ذلك، وإني مخبرك عن السبب الذي يدعوني إلى قبض نصف هذا المبلغ على الأقل، وهو أن ولدي روبير يريد أن يسافر متجولا في أكثر أنحاء الأرض، وقد يغيب بضعة أعوام.
فقال له بوفور: أيفارقك، ولماذا؟
قال: لأنه أصبح قانطا، وأخاف أن يؤذيه هواء فرنسا إذا أقام فيها طويلا، فقلت له: سافر إلى أفريقيا وآسيا وتجول في الهند؛ اذهب إلى أي مكان شئته، وأنفق قدر ما تشاء بشرط أن تعود إلي معافى، بل إني مستعد أن أنفق عليه كل ثروتي.
فقال النوتير: إني سأنقدك المبلغ كله على الفور، ولكني أرجوك أن تتعشى معي دون كلفة ما زلت في كرسل.
قال: إني أقبل دعوتك بملء الشكر.
قال: وأنت يا موسيو بوفور ويا موسيو داغير أرجوكما قبول دعوتي أيضا.
فقبل بوفور الدعوة، خلافا لداغير؛ فقد اعتذر عن قبولها، فألح عليه النوتير فأبى وتركهم وانصرف دون وداع، فجعل يسير في الشوارع يشبه السكران، وهو تارة يقف وتارة يمشي وقد ظهرت على وجهه علائم التفكر في أمر خطير، فكان يقول همسا من حين إلى حين: «إنه خاطر خطير ... إنه فكر هائل.» وقد استمر على هذه الحالة ساعة أو تزيد، إلى أن مر بعطفة وكاد يصطدم برجل لو لم يسرع إلى تنبيهه.
أما هذا الرجل فكان فولون، فقال له: ما بالك يا موسيو داغير فقد كدت تصدمني؟
قال: أهذا أنت؟
قال: نعم أنا هو، فلماذا تنظر إلي هذه النظرات الغريبة؟ - لا شيء ... لا شيء. - إنك رأيتني منذ ساعة، فهل حسبت أني مت فبعثت؟ فارتعد وتركه وهو مطرق الرأس.
وكان فولون يعلم أنه خسر كل ثروته، وأن شركته تحت التصفية فحسب أن اضطرابه لهذا السبب، وجعل ينظر إليه مشفقا، ولكن داغير عاد إليه فقال له: ألا تخاف أن يتعرض لك شقي حين تعود في الليل ومعك هذا المبلغ الجسيم؟
قال: لا خوف علي فإني مدجج بالسلاح.
فلم يجبه وانصرف مسرعا، فتجول نحو ساعات لا يفكر إلا بأمر واحد، ثم عاد إلى المنزل الذي كان يقيم فيه مع بوفور فلم يدخل إلى غرفته، بل وقف في نافذة تشرف على الطريق وقد امتقع وجهه بصفرة الموت، فقال بصوت مرتفع: أربعمائة وتسعون ألف فرنك، إنها ثروة.
ثم سار فجأة إلى غرفة بوفور وحاول أن يدخل إليها، ولكنه سمع صوتين من داخلها، فعلم أن أحدهما صوت بوفور وأن الثاني صوت امرأة لم يعرفه حق العرفان، ولكنه ذكره؛ صوتا كان يعرفه من عهد بعيد فوقف عند الباب مصغيا، وقد كاد يحبس أنفاسه كي لا تفوته كلمة من الحديث. •••
كان اضطراب مرسلين لا تستطيع وصفه الأقلام؛ فقد رأت ابنتها تنتحر.
ولم تكن تفارق بنتها لحظة؛ فإنها كانت طريحة الفراش إلى أن تعافت في اليوم الثالث، فنظرت إلى أمها نظرة كأنها تقول لها: ألعلك نسيت أني أحب روبير، فلماذا لم أره هنا بعد ما سبق إلي وعدك؟
وقد فهمت مرسلين معنى هذه النظرة وعلمت أنه لم يبق بد من الإباحة بسرها لبوفور ولفولون؛ أما الأول فلأنه زوجها، وأما الثاني فلأنها لا تستطيع تزويج بنتها إلا بعد أن تظهر حقيقة اسمها واسمي أمها وأبيها، ولما كان أبوها لا يزال في قيد الحياة فقد تحتمت مصادقته على الزواج .
وهنا بدأ عذابها، وما عساها تقول لبوفور وقد جعلته أشقى رجل في الوجود مدة ربع قرن؟ وما عساه يجيب حين يقف على زلتها ويعرف حقيقة مولد جيرار؟
وكانت تعلم أن بوفور ضعيف البنية شديد الانفعال؛ فكانت تخاف عليه بوادر هذا النبأ، وأن ينتهي بفاجعة، ولكنها لم تجد بدا من الإباحة أو تعرض بنتها لموت محتم، فكتبت إلى بوفور ما يأتي:
إن الذي أرسل إليك منذ بضعة أيام ضمة البنفسج الذابلة يستطيع أن يخبرك بأنباء مرسلين، فإذا كان قلبك قد نسيها ولم تعد تكترث لأمرها فلا تجب على هذا الكتاب، وإذا كان الأمر على العكس فادع صاحبة هذا الكتاب بكلمة تحضر إليك اليوم.
ولما فرغت من كتابته عنونته باسم بوفور، وأرسلته إليه مع كلوكلو وقالت له ينتظر الجواب.
وبعد ساعة عاد إليها بجواب لا يتضمن غير كلمة واحدة وهي: «احضري.» فتنهدت وقالت: رباه هبني من لدنك قوة تعينني على لقائه.
وبعد هنيهة كانت في منزل بوفور فأدخلها الخادم إلى غرفته واختلى الزوجان.
وقد نظر إليها بوفور محدقا وقال لها: أذكر أني رأيتك يا سيدتي قبل الآن، ولكني لا أذكر أين. - عند الموسيو فولون. - لقد ذكرتك، فأنت مدام لنجون التي أنقذت بنتها من الغرق. - نعم يا سيدي، وشهد الله أني أذكرك كل يوم في صلاتي.
تفضلي يا سيدتي بالجلوس، ولنبحث فيما أتيت لأجله، أما أنت التي أرسلت إلي الكتاب اليوم؟ - نعم. - إذن عرفت امرأتي مرسلين؟ - لقد عرفتها كثيرا حتى إنها ائتمنتني على سر حياتها ودموعها.
فوضع يده على عينيه كأنما مرسلين قد تمثلت له بالذلوى وخاف أن يراها، بل خاف أن يقف على سر شقائها، فقال لها: بالله يا سيدتي اذهبي ودعيني وأحزاني؛ فقد كنت على وشك الموت، وكانت راحتي الكبرى فيه، ولكن قولي لي أين رأيتها؟ - في باريس. - أكان ذلك من عهد بعيد؟ - منذ عشرين عاما. - ماذا كانت تعمل وكيف كانت تعيش؟ - كانت تشتغل لتعيش. - أهي حية الآن؟ - نعم. - لماذا أرسلتك، ألعلها في حاجة إلي؟ - كلا؛ فقد خف شقاؤها الآن. - ماذا عملت في ذلك العهد الطويل؟ - كانت عاملة، ثم جعلت تلقي دروسا في الموسيقى. - أين تقيم الآن؟ - لم تأذن لي أن أخبرك بعنوانها. - لماذا؟ ألعلها تخاف أن أراها؟ وبعد فلماذا أرسلتك إلي وماذا تريد؟ - إنها تريد عفوك. - كيف يخطر لها أن أعفو بعد أن قتلتني كل يوم مرة مدة ربع قرن؟ - إنها تاعسة منكودة منسحقة القلب. - وأنا، أتحسبين أني كنت من السعداء، إني كنت شقيا بهجرانها، فهل استحقيت هذا الهجران؟ قولي يا سيدتي ماذا تريد مني؟ ولماذا أرسلتك إلي؟ - إنها تريد أن تعرف كل شيء منذ مقابلتكما الأولى في سويسرا إلى اليوم. - كلمة أيضا، هل أعادت لي بواسطتك تلك الضمة الذابلة التي خاطرت بحياتي في سبيل جنيها كي تعلم أني أحبها؟ - نعم، وأنا عهدت بإبقائها إلى كلوكلو. - لماذا أعادت لي تلك الضمة؟ - لأنها علمت أنك مريض. - من أنبأها بمرضي؟ - لا أستطيع أن أجيب. - ألعلها كانت ترجو أن أشفى من علتي الزوجية فأرسلت لي هذا التذكار؟ - هو ذاك. - إذن هي تظن بأني لا أزال أحبها؟ - كلا، وا أسفاه فهي تعلم أن الحب لم يعد من الممكنات. - إني مصغ إليك يا سيدتي، فقولي ما عهدت إليك أن تقوليه. - إن مرسلين تحبك يا موسيو بوفور.
فضحك ضحك القانطين وقال: كيف أصدق ذلك؟ - إنها تحبك بملء جوارحها، وأنا أعرف ذلك منها؛ لأني لزمتها خمسة وعشرين عاما، فكانت كل يوم تكلمني عنك. - إذن ستخبرينني بكل أمرها؟ - نعم. - ولكن إذا كانت تحبني كما تقولين فلماذا تركتني؟ - هنا تبدأ صعوبة مهمتي يا سيدي، وتبدأ تلك الحكاية المحزنة؛ فاسمح لي أن أذكرك ببعض أمور. أتذكر حين عرفت مرسلين أنها كانت تفرغ مجهودها في سبيل اجتنابك؟ - نعم؛ فقد كانت كذلك في البدء. - إن مرسلين علمت أنك تحبها وشعرت أنها تحبك، وهذا الحب كان يرعبها. - كيف تقولين ذلك وقد كانت حين تزوجتها من أسعد النساء؟ - دعني أتم حديثي؛ فإن مرسلين لم تكن تستطيع أن تتزوج بك فقد كنت خير كفء لها، ولكنها لم تكن كفئا لك. - كيف ذلك؟ - ذلك أن رجلا شقيا أثيما كان قد أغواها وخدعها، وحين لقيتها في سويسرا كانت لاجئة إليك لستر زلتها. - زلتها؟ - نعم؛ فقد كانت يومئذ أما. - فصاح المنكود صيحة يأس، وقال: لقد خطرت لي أمور كثيرة أردت أن أعلل بها هربها، ولكن هذا لم يخطر لي في بال، ويح لنفسي، أتزوجت امرأة ملطخة بالإثم وأنا أحسبها من الملائكة الأطهار. - لا تقض عليها ولا تلعنها واسمع بقية الحديث. - وما عساي أسمع بعد؟ - تبرئتها.
فضحك ضحك المجانين، وقال: أتريدين تبرئتها أيضا. - نعم؛ فقد كانت لا تزال من أشرف النساء. - وقد برهنت على شرفها بخيانة زوجها حين أوهمته أنها عذراء وهي من الأمهات؟ - اسمع بقية حديثي يا موسيو بوفور ولك بعد ذلك أن تحكم عليها بما تشاء.
فهز كتفيه وقال: تكلمي. - إن مرسلين كانت مجرمة؛ لأنها وقعت في الفخ الذي نصب لها.
ولكن المجرم الحقيقي هو ذلك الأثيم الذي أغواها وهي لم تكد تبلغ سن الرشاد؛ فقد كانت غنية وكان فقيرا، فطمع بثروتها ثم تركها حين علم بخسارة أبيها، وقد ذهبت إلى سويسرا لإخفاء زلتها، وعرفتها هناك بعد ولادتها ببضعة أشهر، وإنك تذكر دون شك كيف أنها كانت تهرب منك، فلماذا لم تفهم سبب ابتعادها عنك على يقينك يومئذ من تعلقها بك؟ - كيف يمكن أن يخطر لي هذا السبب وأنا أتوهم أنها نقية طاهرة؟ وكيف يخطر لي أنها تعبث بي هذا العبث؟ - أتحسب أنها لم تكن تتألم؟ - يجب أن يكون لها قلب كي تشعر بالعذاب، ولكنها من غير قلب. - بل إنك ذهبت إليها حيث كانت تختبئ، وتبعتها إلى حيث كانت تهرب، فأي ذنب لها، أما دعتك مرارا إلى تركها؟ أما كنت ترى تألمها حين كنت تبثها غرامك.
لم تجتنبها، ولماذا لم تطعها وتتخلى عنها؟ - إنها كانت تمثل رواية؛ إذ لم تكن تقصد بما تفعله غير تشويقي وحملي على التعلق بها. - أقسم لك بأنك مخطئ وأن ذلك لم يخطر لها في بال. - من أنبأك؟ - هي. - لقد خدعتك كما خدعتني. - كلا، ودليل ذلك أنها كانت تهرب منك دون أن تدعك تعلم أين هي، فكانت تجمعكما الصدفة إلى أن غلبتها بحبك وبإلحاحك، فصحت عزيمتها بعد التردد الكثير على إخبارك بكل أمرها. - إنها لو فعلت لفعلت واجبا يقضي به الشرف، نعم إنها كانت سحقت قلبي باعترافها ولكنها كانت أنقذتني. - إن مرسلين فعلت كل ما يقضي به الشرف. - ماذا تقولين؟ - أقول إن مرسلين قامت بواجبها، وأرادت أن تخبرك شفاها بحكايتها الهائلة، ولكن أية امرأة تجسر على مشافهة رجل بهذه الأبحاث؟ - كان يجب أن تكتب. - وهذا الذي فعلته. - أهي كتبت لي؟ - نعم، إنها كتبت لك كتابا مسهبا، وشرحت لك فيه كل تاريخها منذ عهد طفولتها إلى يوم التقائها بك. - وماذا جرى لهذا الكتاب، إذ لا حاجة إلى القول أنه لم يصلني. - نعم، وا أسفاه إن مرسلين علمت أنه لم يصلك. - إذن ماذا جرى لهذا الكتاب؟ - عندما كانت في سويسرا قالت لك مرة هذا القول الذي لا تزال تذكره فيما أظن وهو: «ارجع غدا يا بيير، فإذا رجعت كان رجوعك برهانا على أنك لا تزال تحبني بالرغم عن كل شيء.»
وإني أذكرك بهذا القول الذي طالما أعادته لي مرسلين، وفي اليوم التالي كتبت إليك كتابها المسهب وأرسلته مع رجل يدعى كلوكلو، فسكر قبل أن يصل إليك وأضاع الكتاب، ولكن مرسلين لم تعلم بذلك؛ لأن الرجل لم يجسر على إخبارها بضياع الكتاب، وبرح سويسرا عائدا إلى ترن.
ثم عدت أنت في اليوم التالي بعد قولها لك: «إذا رجعت كنت تحبني بالرغم عن كل شيء.» فحسبت أنك اطلعت على كتابها وغفرت. - وماذا افتكرت حين رأت أني لم أشر أقل إشارة إلى كتابها؟ - قالت في نفسها إنك أكرم الناس خلقا؛ لأنها كانت كتبت لك في كتابها هذه الجملة:
ورجائي إذا عدت ألا تقول لي كلمة عما كتبته إليك، وألا تنظر إلي نظرة تدعني أخجل. - إذا كانت مرسلين كتبت إلي حقيقة هذا الكتاب فإنها لا تكون جانية. - أتشكك في أنها كتبت إليك؟ - ماذا يبرهن لي على صحة قولها. - شهادة كلوكلو؛ فإنه يقول الحقيقة حين تأذن له مرسلين. - أتريدين أن أصدق شهادة سكير؟ - إنه صادق كريم، ولك ألا تصدقه، ولكن يوجد برهان آخر؛ وهو أنها لو لم تكتب إليك هذا الكتاب فما الذي حملها على اليأس والهرب في اليوم التالي لزواجها؟ ألا تعلم السبب في فرارها؟ ألم ينبئك قلبك به؟ إذن فاعلم أنها كانت تحبك وأنها تزوجت بك على اعتقادها أنك تعرف ما فيها، ففي اليوم التالي لعرسها علمت أن الكتاب لم يصل إليك، وأنك لا تعلم حكاية ذلك الشقي الذي أغواها، وأنها أم أنت تحسبها نقية عذراء، فكبر عليها هذا الخطأ ورأت أنه لا بد أن يجيء يوم تقف فيه على الحقيقة وتتهمها أنها خانتك وخدعتك أقبح خداع، فهربت وهي لا تريد غير الموت، ولكنها ذكرت أن لها ولدا يموت بموتها فسافرت على ألا تعود. - أراك تدافعين عنها بملء الحماسة. - أما أتيت لهذا؟ - ولماذا أرسلتك إلي بعد ربع قرن، وإذا كان ما تقولينه حقيقة ولم تكن مجرمة فلماذا لم تحضر بنفسها؟ - إنها خافت غضبك أو دموعك. - وأخيرا فبأية مهمة أتيت إلي؟ - إن مرسلين عاشت بعد فراقك خمسة وعشرين عاما كانت في خلالها خير قدوة للناس، وكان الجميع يحترمونها ويحبونها، ولا يذكر أحد أنه رآها يوما تبتسم، وقد علمت ولدها خير تعليم على فقرها، فكان عزاءها الوحيد. - ماذا يشتغل؟ - إنه طبيب. - لماذا تترددين في قول ما جئت لأجله؟ - الحق أني أتردد. - لماذا، ألعل الذي ستقولينه أشد هولا مما سبق قوله؟ - إن مرسلين شقية؛ هي في حاجة إليك. - مهما كان ذنبها فإني أمنحها كل مالي. - ليست هي في حاجة إلى المال. - إذن ماذا تريد مني؟ - تريد مصادقتك على زواج بنتها. - لها بنت أيضا، ثم تقولين إنها مثال العفة والطهارة! فإذا قالت إن مولودها الأول كان من غاويها أفلا تكون بنتها من عشيقها؟ - كلا يا سيدي لم يكن لها عشاق، بل لها الحق أن تدعو بنتها بلقب أبيها. - من هو هذا؟ - اعلم يا سيدي أن مرسلين حين خرجت هائمة على وجهها من منزلك، وحين كانت تعاني عذاب الفقر والجوع شعرت أنها حاملة ، فارتعش بوفور وقال: متى كان ذلك؟ - بعد ما فارقتك بشهرين أو ثلاثة. - رباه ماذا أسمع! - أتريد أن أقول لك الآن ماذا تدعو مرسلين والد بنتها، إنها تدعوه بيير بوفور؛ زوجها.
فغطى وجهه بيديه وجعل يقول: رباه! رباه، هذا أكيد؟!
قالت: إني أقسم لك على صحة ما أقول، وفوق ذلك فإذا خطر لك أن تهين مرسلين الإهانة الكبرى وتتهمها بخيانتك؛ فما عليك إلا مراجعة التاريخ. - وثقت، وثقت. إذن إن لي بنتا. - نعم، وهي حسنة ممتازة بصفاتها. - وقد قلت لي إن مرسلين محتاجة إلى مصادقتي على زواج بنتها. - نعم؛ فإنها تحب فتى ويحبها وهو خير كفء لها، ولكنها لا تستطيع تزويجها إلا بمصادقة أبيها، وقد ترددت كثيرا في الأمر ولكن عاطفة الأمومة تغلبت عليها، وأبت أن تكون بنتها من غير نسب، وهي يحق لها أن تنتسب إليك، ولا سيما أنها حاولت الانتحار حين أرادت أمها أن تحول دون زواجها، فألقت نفسها في نهر الواز. - إذن أين تقيم؟ - في كريل. - أتقيم هنا معي وأنا لا أراها، ومن يعلم فقد أكون رأيتها فلماذا لم تصحبك؟ - أتريد أن تراها؟ - أتسألينني إذا كنت أريد ابنتي وأنا أعيش منذ خمسة وعشرين عاما في عزلة أندب حظي بزواجي، واليوم وقد بلغت حد الشيخوخة وعلمت أن لي بنتا تسألينني إذا كنت أريد أن أراها؟ - اذهبي بي إليها من فورك فلم أعد أطيق الصبر. - ولكن اذكر أنها ليست وحدها، بل مع أخيها وأمها، فكيف أذهب بك إلى البنت قبل أن أثق من صفحك عن الأم؟ - كيف يمكن أن أصفح بعد ما عانيت من العذاب؟ - إنها تعذبت فوق عذابك، ويجب أن تصفح عن الأم التي ليس لها ذنب يستوجب طلب الصفح. - أأنا أصفح ...؟ كلا، كلا لا أستطيع. - إذن لقد انتهت مهمتي، فأستودعك الله. - كلا، إنك لا تذهبين، فإني أريد أن أعرف ابنتي، وسأتبعك إلى أين سرت وأكون ألزم لك من ظلك. - اصفح عن الأم. - أهي مساومة تقترحينها علي؟ فإذا لم أصفح عن الأم ألا تردين إلي بنتي؟ إن ابنتي تحب ولا تتردد عن الانتحار في سبيل حبها ثم تؤثرين أن تموت، فقولي لمرسلين إنها ليست أما، وإنها غير جديرة بما تطلبه من الصفح. نعم، إني لا أرضى بهذه المساومة وأريد أن ترد إلي ابنتي من غير شرط، وإذا علمت بعد ذلك أن امرأتي استحقت الصفح بما عانته من الشقاء وبحسن سيرتها وحنوها على ولديها فقد أعفو، أما الآن فإني أريد ابنتي دون شرط.
فاصفر وجه مرسلين حتى خيل له أنها سيغمى عليها وركعت أمامه فقالت: لقد رضيت يا بيير ما تريده دون شروط، وسأرد لك بنتك فلا تصفح عني إلا بعد أن تعلم أني أستحق صفحك.
فطاش صواب بوفور، وقال لمرسلين: أأنت هي مرسلين؟ - نعم، أنا هي. - أتكونين مرسلين ولا أعرفك، نعم، إنها عيناك. نعم، أنت هي مرسلين.
وقد سقط عن الكرسي شبه مغمى عليه من فرط التأثر وقال: إذن إن الدكتور جيرار ذلك الفتى النابه الذكي الذي أخلصت له الود ... - إن جيرار هو الذي ولد في سويسرا. - من هو أبوه الذي أغواك وصيرك أما ثم نبذك حين علم أنك صرت فقيرة؟ - لماذا تسألني عنه؟ - لأني أريد أن أعرف ذلك، وهل هو حي؟ - لا أعلم. - بل تعلمين؛ لأنه لو كان ميتا لما ترددت لحظة عن قول اسمه، أريد أن أعرف اسمه يا مرسلين إذ يجب أن أعاقب هذا السافل. - ويلاه هذا الذي كنت أخشاه! - اسمه ... إني آمرك أن تقولي اسمه؟ - ارحمه يا بيير كما عفوت عني. - أتطلبين له الرحمة، ألعلك تحبينه وتخافين عليه؟
فقالت بلهجة تبين فيها الكره والاحتقار: أأنا أحبه؟ - إذن، لماذا تدافعين عنه؟ - لخوفي عليك. - لا تهينيني. - ليفعل الله ما يشاء؛ فإني لا أحب أن يبقى في قلبك أثر للريب. - اسمه؟ - جان داغير. - هو ... هو ... ألا تكذبين؟ - أقسم بولدي أني أقول الحق. - إذن سأقتله لا محالة، والآن لنهتم بأمورنا؛ فإن مودست التي رأيتها في حفلة فولون زينة الفتيات هي بنتي. - نعم، وأنت أبوها مرتين، فأنت الذي أنقذتها من الغرق منذ عشرين عاما، وهي تحب روبير بن فولون، فلم أكن أستطيع عقد الزواج بينهما؛ إذ لا بد من مصادقة أبيها، وأنت تعرف أن فولون لا يزوج ولده ببنتي قبل أن يعرف ماضي حياتي، بقي عليك أن تزيل هذا الحاجز. - وسأذيله دون شك؛ فإن فولون لا يتردد في الموافقة متى وقف على الحقيقة. - إذن قابله في أقرب وقت ممكن؛ فإن مودست في حالة اليأس وإني أشكرك لعواطفك النبيلة التي لم أشك فيها قط.
نعم، سأقابله اليوم، فهو هنا وقد لقيته صباحا عند النوتير الذي دعاني وإياه إلى العشاء، وسأصحبه عند عودتنا إلى قصره فأخبره بكل شيء. - ثم تخبرني عن جوابه. - دون تأخير، والآن فإني أريد أن أرى ابنتي فهلمي بنا إليها. - تمعن في الأمر يا عزيزي، فماذا تقول لها الآن إذا رأيتها؟ أليس الأجدر أن تأتي إلينا بعد اتفاقك مع فولون فأكون قد هيأتها لمقابلة أبيها؟ بل أكون قد نلت صفحها وصفح أخيها. - لا يحق لأولادك أن يكونوا قضاتك، وليس لهم أن يصفحوا عنك، بل كل ما عليهم أن يمسحوا دموعك، ولكن الأجدر أن تهيئيها لمقابلتي كما تقولين، أما أنا فإني ذاهب إلى النوتير حيث أجتمع بفولون.
فركعت أمام زوجها، وقبلت يده وهي تقول: اصفح عني.
قال أظن أني سأصفح، ولكن ذلك لا يكون قبل اجتماعي ببنتك.
فمسحت دموعها وقالت له: أستودعك الله.
قال: إلى اللقاء القريب.
وقد خرجت وهي في أشد حالات الاضطراب، بحيث إنها لم تر رجلا كان مختبئا وراء الستائر.
أما هذا الرجل فإنه حين رآها خرجت من القاعة خرج من مكمنه، وقال: إنها مرسلين دي مونتكور! وإن الدكتور جيرار ولدي! فما هذا الاكتشاف؟! وكان هذا الرجل جان داغير يتنصت من وراء الباب وقد سمع كل الحديث. - ولما خرج من مكمنه خرج بوفور أيضا من غرفته والتقى الاثنان وجها بوجه، فجعل كل منهما ينظر إلى صاحبه وشفتاه ترتجفان إلى أن بدأ بوفور الحديث فقال له: أرأيت هذه المرأة التي خرجت من عندي الآن؟
قال: كلا. - لقد كذبت؛ إذ يستحيل ألا تكون قد رأيتها، أما وقد كذبت فإما أن تكون قد عرفتها وإما أن تكون قد سمعت حديثي معها. - أتحسب أني من الذين يصغون إلى الأحاديث من وراء الأبواب؟ وأية فائدة لي من ذلك؟ - إن هذه المرأة هي مرسلين دي مونتكور؛ أي امرأتي. - أوجدتها بعد هذا الفراق الطويل؟ - وإن هذه المرأة كانت خليلة لك من قبل. - أظن أنك تريد الممازحة.
فقبض بوفور على كتفيه فهزهما بعنف، وقال له: أتجسر على الإنكار أيها الشقي؟
وقد كان داغير أشد كثيرا من بوفور، فلو أراد التخلص لاستطاع بأهون سبيل، ولكنه لم يفتكر بذلك، فهزه بوفور أيضا وقال له: لقد عرفت الآن أنه لا بد لواحد منا أن يموت وسنتبارز غدا مبارزة لا تنتهي إلا بالموت، وسأرى ساعتئذ إذا كنت تظهر من البسالة ما أظهرته من السفالة يوم أغويت تلك الفتاة.
ثم نظر إليه نظرة ملؤها الاحتقار وتركه وانصرف، فلبث داغير هنيهة في موقفه، ثم دخل إلى غرفة بوفور فعثر بما كان يبحث عنه فيها؛ إذ وجد فوق المغسلة مسدس بوفور، فأخذه وفحصه فوجده محشوا بست رصاصات، فوضعه في جيبه وانصرف.
عندما خرج بوفور ذهب مسرعا إلى منزل النوتير على رجاء أن يلقى فيه فولون.
وقد لقيه هناك وحده؛ لأن النوتير لم يكن قد رجع بعد، فقال له: إني أراك حزينا يا موسيو فولون لسفر روبير.
قال: هو ذاك؛ فإني لا أستطيع إخفاء كدري. - وإذا فزت بمنع ولدك عن مبارحة فرنسا؟ - هذا محال فقد أفرغت مجهودي في هذا السبيل، فلا يمكن أن تفوز. - من يعلم؟ - أوضح ما تقوله يا موسيو بوفور. - إن ولدك يسافر لأنه يريد الزواج بابنة مرسلين لنجون. - ولأن مدام لنجون لا تريده زوجا لابنتها. - أيوجد مانع يحول دون هذا الزواج؟ - بل يوجد مانعان؛ أحدهما: رفض مرسلين، والثاني: الأسرار المحيطة بما فيها. - إن المانع الأول قد زال. - ماذا تقول؟ أرضيت مدام لنجون؟ - نعم، رضيت زواج روبير لمودست. - أأنت الذي حملتها على الموافقة؟ - بل هي وافقت من نفسها. - والمانع الثاني؟ - أتريد به سر ماضي هذه المسكينة؟ - نعم. - أنا أكشفه لك. - ألعلك من السحرة؟ - ربما. - وهنا سمعا صوت النوتير، فقال بوفور: إن الحديث طويل، فعين موعدا لاجتماعنا غدا فأقصه عليك. - لماذا تؤجله إلى الغد؟ - كيف نجتمع اليوم؟ - هذا بسيط؛ فإنك تذهب معي هذه الليلة إلى قصري فتقص علي الحكاية في الطريق، ثم إنك تذود عني إذا التقينا بلصوص؛ فإني سأحمل أربعمائة وخمسين ألف فرنك ورقا نقديا، فتبيت عندي وغدا نتصيد في الغابة. - لقد رضيت.
وعند ذلك دخل النوتير فانقطع الحديث بهذا الموضوع، وأرسل بوفور رسالة إلى مرسلين لم تتضمن غير هاتين الكلمتين:
الرجاء حسن.
وقد أطلعت مرسلين بنتها على هذه الرسالة، وقالت لها: إن الرسالة بشأنك يا ابنتي فاطمئني، ولا أستطيع أن أزيد شيئا على ما قلته، ولكنك ستعلمين غدا كل شيء. •••
في الساعة التاسعة من مساء هذه الليلة خرج بوفور وفولون من منزل النوتير، فوضع فولون المال في محفظة وركب مركبته مع صاحبه وسافرا.
ولم تكد تسير بهما حتى طلب فولون إلى صديقه أن يقص عليه الحديث.
قال: إني أدخل توا إلى الموضوع؛ فإنك أردت فيما مضى أن تتزوج مدام لنجون. - نعم. - لماذا لم تتزوجها يومئذ؟ - لأنها أبت. - أعرفت سبب رفضها؟ - كلا. - لقد رفضت؛ لأنها متزوجة. - أأنت واثق مما تقول؟ - دون شك. - أتعرف الموسيو لنجون؟ - إنه غير موجود. - الحق أني غير متمرن على حل الألغاز. - لا يوجد ألغاز؛ فقد قلت إنه غير موجود؛ لأن مرسلين كانت تتنكر بهذا الاسم. - ومن هو زوجها ألعلك تعرفه؟ - نعم. - قل لي اسمه فقد سئمت الاصطبار. - إن زوج مرسلين يدعى بيير بوفور. - فاهتز فولون اهتزازا عنيفا، وقال له بصوت مختنق: أأنت هو؟ - نعم أنا هو، وإنك تعجب دون شك كيف أني أكتم عنك هذا الأمر إلى الآن. - هو الحق ما تقول. - إني كتمته لأني لم أكن أعلم قبل اليوم أن مرسلين لنجون امرأتي.
فنظر إليه منذهلا كأنما ظنه مجنونا، وأدرك بوفور معنى ابتسامه فهز رأسه وقال: كلا، لست مجنونا فثق بما أقوله لك، ولكن لا بد لكلامي من إيضاح، وإني موضحه لك فاسمع.
وكان القمر قد تلألأ في السماء، ودخلت المركبة التي كان يسوقها فولون إلى غابة، وساد السكون، فمضى بوفور في حديثه، ولكنه قبل أن يتم جملته سمع وقع خطوات بين الأدغال، فقال لفولون بصوت منخفض: ألا تسمع؟
قال: كلا، لا أسمع شيئا.
قال: أما أنا فقد سمعت وقع خطوات. - إن الوحوش تكثر في هذه الغابة. - ولكن خيل لي أني سمعت خطوات إنسان. - بل إنك واهم. - قد أكون متوهما ولكن الحذر محمود، فهل لديك سلاح؟ - لقد وضعت في المركبة مسدسا وسأضعه إلى جانبي كي أزيل مخاوفك.
وعاد بوفور إلى حديثه الأول، فقص عليه حكايته بتمامها منذ عرف مرسلين في سويسرا إلى أن اعترفت له بكل ماضيها، فلما فرغ من حديثه قال له: كيف رأيت؟
قال: إن هذه المنكودة تستحق صفحك، وإن حكايتها لم تزدني إلا احتراما لها، أما أنت ...
وهنا قطع بوفور عليه الحديث وقال: والآن أما سمعت ...؟
قال: لقد قلت لك إن الأرانب تكثر في هذه الغابة. - وأنا أقول لك إني أسمع خطوات رجل يتبعنا، وإنه على قيد بضعة أذرع منا. - اطمئن أيها الصديق فإن مسدسي معي وأنا لا أخطئ المرمى.
وفي تلك اللحظة ومض برق من الأدغال وتلاه صوت طلق ناري، فأجاب فولون بمثله، فدوى طلق ثالث من الأدغال.
وحدث كل ذلك بثانية، فصاح فولون بصوت مختنق قائلا: ويح للأشقياء.
قال: ألعلك أصبت؟
فلم يجبه وجعل يقول بصوت متقطع: إلي ... إلي.
ثم وقف في المركبة وقد سقط العنان من يده، وجمح الجواد، فانقلب فولون على دولاب المركبة وسقط على الأرض، واستمر الجواد على جموحه فكان ينطلق انطلاق السهم، وبوفور ممسك بحديد المركبة حذرا من أن يقع، وقد شعر بمادة تسيل من رأسه على وجهه فعرف أنها دم، وحسب أنه دم فولون، ولكنه أحس بألم شديد فعلم أنه جريح، وأن الرصاصتين اللتين أطلقتا من الغابة أصابت إحداهما فولون فقتلته وأصابته الثانية في رأسه فجرحته.
غير أنه لم يفتكر بنفسه، بل بصديقه، وحاول إيقاف الجواد الجامح فلم يستطع.
وقد التطمت المركبة بصخر فسقط بوفور منها وأصيب برضوض شديدة فأغمي عليه نحو خمس دقائق، حتى إذا استفاق وجد المركبة واقفة حيث اصطدمت، فصعد إليها وذهب بها إلى حيث كان صديقه فولون؛ فوجده ميتا لا حراك به.
وقد خطر له أن سبب الاعتداء قد يكون لمجرد السرقة؛ فإن فولون كان يحمل نحو نصف مليون فرنك، فبحث عن المحفظة المالية في المركبة حيث كانت بينهما على المقعد فلم يجدها، ثم بحث عنها بين الأدغال في مكان اصطدام المركبة فأيقن أن السارق القاتل قد ظفر بها وهرب.
ولم يكن يوجد أحد في تلك الغابة، وهي قريبة من قصر فولون، فأسرع بالمركبة إلى القصر وأخبر روبير بتلك النكبة، فذهب الاثنان يصحبهما بعض الخدم إلى مكان الحادثة وعادوا بالقتيل إلى القصر.
وكان أول ما فعله روبير بعد ذلك أنه أخبر النيابة برقيا بقتل أبيه فجاء القاضي يصحبه أحد أنفار البوليس.
وقد أرسل القاضي برقية إلى الدكتور جيرار أخبره فيها بقتل فولون، وسأله أن يوافيه إلى قصر القتيل لفحص الجثة ووضع التقرير، فعرفت عائلته بهذه النكبة، وكان وقعها عظيما عليها.
وقد وصل جيرار في الوقت المعين فعزى صديقه روبير تعزية صادقة، ثم انصرف إلى فحص القتيل.
وبعد ذلك ذهب الجميع إلى المكان الذي حدثت فيه الجناية وبحث القاضي بحثا دقيقا، فوجد في مكان قريب من المكان الذي وقعت فيه المركبة مسدسا ملقى على الأرض، فأخذه وفحصه، وجعل كلا من الحاضرين يفحصه إلى أن استلمه بوفور، فظهرت عليه علائم الانذهال وقال: إنه يشبه مسدسا موجودا عندي كل الشبه؛ حتى يقال إنه هو بعينه.
فنظر قاضي التحقيق نظرة منكرة إلى بوفور وقد خامره الريب، وخلا بمعاونه فقال له: أتعرف شيئا عن حالة بوفور؛ فقد رابني قوله إن مسدسه يشبه مسدس القاتل؟
قال: إن الأمر بسيط إلا إذا بحثنا عن مسدسه في منزله ولم نجده.
قال: يقال إن حالته المالية على غير ما يرام وإنه أعلن تصفية أعماله. - والذي أعلمه أنه رجل غني. - لقد كان غنيا ولكنه خسر أموالا كثيرة في تجارة الحديد، وفي كل حال فسيجلي التحقيق الحقيقة.
وقد خلا بعد ذلك بالدكتور جيرار وسأله أن يضع له تقريرا مدققا عن جرح بوفور، ففحصه ووضع تقريره، فكانت نتيجة ذلك التقرير أن الرصاصة التي أصابت رأسه كان مطلقها في مكان أرفع من مكانه؛ فأصابته من فوق إلى تحت، خلافا للرصاصة التي أصابت صدر فولون فقد كانت مستقيمة السير وهو ما زاد شك القاضي ببوفور، بدليل أنه حين أراد أن يعود مع جيرار في مركبته منعه، وقال له: لا أزال محتاجا إليك، وستعود في مركبتي إلى كريل.
عندما عاد الدكتور جيرار إلى منزله قالت له أخته إنه أتى خادم يسأل عنه وإنه ينتظره، فذهب جيرار إليه ووجد أنه خادم بوفور، فقال له: ماذا حدث، أعاد سيدك إلى المنزل؟ وهل يتألم كثيرا من جرحه؟
قال: إنه لم يعد إلى المنزل وليس هو الذي أرسلني. - إذن ماذا؟ - إنك تعلم يا سيدي أن الموسيو داغير شريك الموسيو بوفور يقيم مع شريكه في منزل واحد؛ فقد تركه خادمه منذ أسبوع، فلما رأيته اليوم لم يخرج من غرفته، حسب عادته، دخلت إليه وقد أحسنت بما فعلت. - ألعلك وجدته مريضا؟ - بل وجدته بحالة تشبه الاحتضار فناديته فلم يجب؛ إذ لم يستطع أن يجيب. - ماذا أصابه؟ - لا أدري؛ ولكني وجدت دما كثيرا على ثيابه ولعله من رعاف شديد، وهو الآن فاقد الصواب. - ألعله مات؟ - كلا، ولكنه على وشك الموت.
قال: إني ذاهب إليه. وبعد ربع ساعة كان هناك فقال للخادم: ابق في الغرفة المجاورة فإذا احتجت إليك دعوتك.
لم يكن داغير يحتضر كما توهم الخادم، ولكن ثيابه كانت ملطخة بالدم والوحول، وقد تمعن في وجهه فأيقن أنه لم يصب بالرعاف، وأن هذا الدم لم ينزف من أنفه أو فمه، فقال في نفسه: إنه جريح أيضا فما معنى هذا؟
وقد أقفل باب الغرفة من الداخل كي لا يزعجه أحد، ثم عاد إلى داغير فكشف عنه الغطاء وقال في نفسه: لم أكن مخطئا فهو جريح فإنه كان مصابا برصاصة بكتفه، فعالج الرصاصة حتى أخرجها وخمد الجرح .
وكان قد أغمي عليه لكثرة ما نزف من دمه، فلما استفاق نظر إلى ما حواليه نظرة تشف عن الرعب، وقال لجيرار بصوت خافت: من أنت يا سيدي؟
قال: أنا الدكتور جيرار فلا تتكلم ولا تتحرك؛ لأن ذلك يؤذيك. - ولكن يجب أن أقول لك ... - ستقول لي ما تريد قوله فيما بعد. - كلمة فقط ... لا تقل لأحد ... فإني أنا جرحت نفسي خطأ.
وإني أستحلفك بشرفك وبشرف مهنتك التي تقضي عليك بكتمان الأسرار. - لا فائدة من تنبيهي فإني أعرف واجباتي.
فأراد أن يشكره، ولكنه لم يستطع الكلام؛ إذ أغمي عليه، فقال جيرار في نفسه: لقد كذب هذا الرجل؛ إذ يستحيل أن يكون جرح نفسه كما قال؛ لأن الرصاص إذا أطلق من مدى قريب ترك أثرا للبارودة في مكان الإصابة ولا يوجد شيء من هذا، فلماذا كذب؟
وهنا عاد إلى ذاكرته مقتل فولون، فنظر إلى الرصاصة التي أخرجها من الجرح بإمعان ثم وضعها في جيبه.
وصحا داغير ثانية وقد استراح بعد إخراج الرصاصة، فتنهد تنهد الراحة، ولكن كانت تدل على الخوف، ولا سيما حين كان ينظر إلى ملابسه الملوثة بالدماء والملقاة في زاوية من الغرفة.
ولم يخف معنى هذه النظرات عن جيرار، فقال له: أود أن أعلم لماذا ادعيت أنك جرحت نفسك؟ - ماذا يهمك؟ - إنك قد تكون ضحية هجوم، فإذا كان ذلك فلماذا لم تبلغ الحكومة؟ - أي شأن للحكومة فقد قلت لك إني جرحت نفسي خطأ وكفى، فعالجني ولا تهتم لمعرفة سبب جرحي. - لقد وعدتك ألا أقول شيئا عن جرحك لأحد عملا بواجب مهنتي؛ إذ لا فرق بين الكاهن والطبيب في وجوب كتم الأسرار.
ولكن لا شيء يمنع الطبيب أن يبحث عن حقيقة أمر يشك به، فأنا لا أعلم كيف جرحت، ولكني أسألك أن تقول لي الحقيقة. - إني أعيد عليك ما قلته وهو أن هذا الأمر لا يعنيك. - ولكنك لو عرفت ما يجول من خاطري من الشكوك لذعرت. - ولم؟ ألعلك تظن أنهم حاولوا قتلي؟ - ربما. - إذن؛ افترض ذلك. - وإذا افترضته يبقى أن أعلم لماذا لم تبلغ الحكومة.
فاضطرب لذكر الحكومة، وأجال نظره بين الطبيب وبين الملابس الدامية، وقال: إن ذلك يعنيني دون سواي ألا يمكن أن يكون ذلك الجرح نتيجة مبارزة خفية بسبب امرأة، فكيف يجوز أن أبلغ الحكومة في هذه الحالة؟ - فلم يعترض جيرار؛ لأن هذا التعليل كان ممكنا، ولكنه بقي مشككا، فودع الجريح وانصرف على أن يعود في الغد، واحتفظ بالرصاصة.
بقي داغير منصتا إلى أن أيقن من انصراف الطبيب، فنهض من فرشه يمشي إلى الباب مشية السكران، فأقفله بالمفتاح وهو يقول في نفسه: ترى كيف أعلل وجود الوحل والدم على ملابسي؛ فقد يوجد إخصائيون يعرفون أن هذا التراب من تراب الغابة، فمن جاءني بهذا الطبيب الذي رأى كل شيء، ولكنه لم يفهم شيئا فيما أظن، وقد جازت حيلة المبارزة عليه، ولكنها كيف تجوز على الحكومة؟ ولا سيما حين تسألني عن اسم مبارزي.
على أنه لا يبوح بما رآه عملا بواجب مهنته، ولنفرض أنه أراد أن يبوح فإني أعرف كيف أمنعه.
وبعد فما هذا الاتفاق الغريب، فإن جيرار ولدي وحياتي بين يديه، إذا عرف سر الجناية، ولكنه لو عرفه يكتمه لا محالة، فلأنظر الآن إلى الأهم وهو إخفاء أثر الجرح.
وقد أخذ سكين صيد فقطع ملابسه قطعا صغيرة وألقاها في المستوقد، ثم فتح الباب وعاد إلى فراشه، فنادى الخادم وسأله أن يأتيه بحساء، وشيء من اللحم البارد، وكأس من الخمر، فقال له: أرجوك يا سيدي معذرتي لإبطائي في الحضور إليك؛ فقد ذعرت مما حدث. - ماذا حدث؟ - إن رجال التحقيق هم الآن في المنزل؛ فقد قتل الموسيو فولون في الليل حين كان يجتاز الغابة، وأصيب الموسيو بوفور برصاصة فجرح جرحا غير خطر، والحمد لله. - وأي شأن لرجال التحقيق في منزل بوفور؟ - إنهم عادوا به إلى منزله؛ لأنهم لم يستطيعوا نقله في الليل. - كل هذا طبيعي، فما الذي أخافك؟ - لقد سمعتهم يتحدثون عن مسدس، ورأيت الاضطراب باديا على الموسيو بوفور والدكتور جيرار. - ألا يزال الطبيب هنا؟ - إنه لقي المحققين في الطريق حين انصرافه فعاد معهم. - ألم يسأل الموسيو بوفور عني؟ - كلا. - إذا سألك أحد عني فقل إني مريض وإني نائم.
وانصرف الخادم فقال داغير في نفسه: إنه سيذكر أننا متفقان على المبارزة، ولكنه متى علم أني مريض أرجأها إلى حين شفائي، ومتى شفيت ...
أما جيرار فإنه أخرج الرصاصة من كتفي ورأيته يفحصها وهو قد أخذها دون شك؛ لأني لم أجدها، وكل هذا يدل على ريبه، وإلا فما يريد من احتفاظه بها، فإذا عرف بأمرها رجال التحقيق كنت من الهالكين.
وبعد هنيهة عاد الخادم بالطعام وعليه علائم الاضطراب الشديد، فقال له داغير: ماذا حدث؟
قال: نكبة عظيمة يا سيدي فقد أوقفوا الموسيو بوفور. - بوفور ... قبضوا عليه؟ - نعم يا سيدي كأنه من الممكن الظن بأن يتهم بقتل صديقه فولون، وهو مثال الدعة ومكارم الأخلاق، فما هذا المصاب؟
وقد وضع الطعام على مائدة بجانب السرير وانصرف، فابتسم داغير ابتسام الأبالسة وقال: ما هذه الشهية للطعام فإني لم أكن أجدها في زمن العافية.
ولنقص الآن على القراء ما جرى في المنزل؛ فإن قاضي التحقيق جاء مع بوفور إلى المنزل فقال له: هل لك أن تريني مسدسك؟
قال: دون شك فتفضل بالدخول معي إلى منزلي لترى أني لست من الكاذبين، على أني لا أعلم أية علاقة لي بالشبه بين المسدسين.
فلم يجبه القاضي ودخل معه إلى الحديقة، وهناك رأى بوفور جيرار خارجا منها، فقال له: هل أتيت لتراني؟
قال: كلا، بل أتيت لعيادة الموسيو داغير.
قال: أهو مريض؟ وما هي علته؟
فأجابه بلهجة مضطربة: لم أعرف بعد.
قال: إلى أين أنت ذاهب ألا تستطيع أن تبقى معي ربع ساعة؟
قال: كما تريد.
وصعد الجميع إلى المنزل ودخل بوفور إلى غرفته كي يأتي بالمسدس، فعاد صفر اليدين، ولكنه كان يبتسم، فقال له القاضي: أين المسدس؟ قال: لم أجده ولا شك أن الخادم أخذه لينظفه.
وقد دعا الخادم وقال له: أين مسدسي؟
قال: إنه في موضعه يا سيدي. - قال: لم أجده فاذهب وابحث عنه.
فامتثل الخادم وعاد فقال: لم أجده فقد نظفته أمس ووضعته في موضعه بعد انصراف السيدة التي كانت عندك.
فقال القاضي: من هي هذه السيدة؟
قال: هي مدام مرسلين لنجون والدة الدكتور جيرار.
فقال جيرار: ما أتت تعمل أمي عندك؟
قال: أتت تباحثني بشأن بنتها مودست وروبير بن فولون؛ ولهذا صحبت فولون إلى منزله، وقد باحثته بشأن زواج أختك وولده يا جيرار. - بأية صفة كنت الوسيط؟ - بصفة كوني صديق فولون وصديق أمك.
فقال القاضي: لنبحث في المسدس، فكيف تعلل اختفاءه من منزلك؟
قال: لا أدري كيف أعلله. - إنك تجيبني كما يجيبون عن أمر بسيط، ألا تعلم خطورة هذا الأمر؟ - دون شك. - إذن أجبني كيف ضاع مسدسك؟ - لقد أجبتك بأني لا أعلم. - ألا تشتبه بأحد؟ - كلا. - أما تعود أحد أن يستخدم مسدسك؟ - كلا، إلا إذا كان شريكي الموسيو داغير قد أخذه في مدة غيابي. - أيمكن أن يكون هو الذي أخذه؟ - لا أظن؛ فإن لديه مسدسه. - إنه يقيم في جناح من هذا المنزل كما أظن. - نعم، وهو الآن في غرفته لأني علمت من خادمي أنه مريض. - أريد قبل أن أزعجه بالسؤال أن أعرض على خادمك المسدس الذي وجدناه في الغابة.
ثم نادى الخادم وأراه المسدس، فلما رآه الخادم قال: هذا هو، فأين وجدتموه؟
قال: أواثق أنت أنه هو بعينه؟
قال: كل الثقة فإن في قبضته البيضاء لطخة سوداء لم أستطع إزالتها.
فنظر القاضي إلى القبضة فوجد اللطخة في المكان الذي عينه، فقال لبوفور: إذن لم يبق شك أن هذا المسدس لك.
قال: كلا، فهو لي. - هل لك أن توضح لي كيف أنه أخذ من منزلك واتفق وجوده مع القاتل؟ - كيف أستطيع أن أعلم؛ فإن حل هذه الألغاز من واجباتك. - إن حلها سهل؛ وهو أن خادمك نظف مسدسك ووضعه في مكانه فأخذته وخرجت به. - هذا خطأ. - بل هي الحقيقة فقد أخذته وأنت الذي أضعته في الغابة. - لماذا لا تسرع فتقول إني أنا قاتل صديقي الحبيب فولون؟! - إني لا أشكوك يا موسيو بوفور، ولكن لا يسعني إلا أن أخبرك أني وجدت منذ هذا الصباح أدلة كثيرة تقضي علي بإيقافك. - أتوقفني أنا؟ ما هذا المزاح؟ - لا يمزحون في القضاء؛ فتفضل واتبعنا. - إذا كنت لا تشكوني كما تقول فدعني أبقى في منزلي، وإني أقسم بشرفي ألا أبرحه قبل أن تنجلي الحقيقة، وإذا كنت لا تثق بيميني فأقم معي من تشاء من رجال البوليس.
فلم يقبل القاضي وساروا به، فودعه جيرار بالنظر، وهو يكاد يذوب حزنا عليه.
فلما عاد إلى منزله سألته أمه: كيف حال الموسيو بوفور؟ وهل وجدوا القاتل؟
قال: لقد قلت لك إن جرحه بسيط، ولكن ... - ولكن ماذا؟ - إن الموسيو بوفور أوصاني ألا أكتمك شيئا، فاعلمي إذن أنه يوجد كثير من الأدلة تشهد عليه. - بماذا؟ أسرع بالإيضاح. - إنهم قبضوا عليه. - لماذا؟ - لأنهم يتهمونه بقتل الموسيو فولون. - لا شك أنك تمزح! - بل هي الحقيقة أقولها بملء الأسف.
ثم روى لها جميع ما حدث تفصيلا، وقال لها: لا شك أن الصدفة قد قضت عليه بهذه التهمة، وفي اعتقادي أنه بريء. - إذا كان ذلك فلا بد لك من السعي لإنقاذه. - كيف أستطيع ذلك؟ - لا أعلم، فسنبحث معا عن الطريقة، نعم يجب إنقاذه يا بني فلو تعلم ... - ماذا؟ - ستعلم كل شيء فيما بعد، ولكن يجب عليك أن تحترم الموسيو بوفور وأن تحبه بملء جوارحك. - ماذا تعنين يا أماه، فإنك لا تعرفين الموسيو بوفور، وعندما رجوتك أن تأذني بإقامته بيننا أبيت كل الإباء، فما الذي غيرك اليوم هذا التغيير؟ - ستعلم فيما بعد كما قلت لك.
وفي اليوم التالي عاد جيرار إلى داغير واستقبله باسما، وقال له: لقد أفادني علاجك فأنا اليوم في خير حال.
قال: هو ما تراه، ولكن يجب أن تحذر الانتكاس؛ فإنك لا تزال شديد الضعف.
قال: نعم؛ فقد أردت أن أنهض اليوم فلم أستطع.
فجس نبضه ونظر إلى زاوية الغرفة فلم يجد الثياب الملوثة بالدم، فقال له متظاهرا بعدم الاكتراث: من الذي نظف غرفتك؟
قال: الخادم. - أظن أنك أصبت ببرد. - كيف عرفت ذلك؟ - من النار التي أشعلتها في المستوقد. - نعم؛ فقد بردت أمس فكلفت الخادم أن يوقد النار، فدنا جيرار من المستوقد وجعل ينظر إلى الرماد، فاضطرب داغير وقال له: ماذا تفعل؟
فلم يجبه الطبيب، ولو أراد إجابته في تلك اللحظة لما استطاع لفرط اضطرابه، ثم قال له بعد هنيهة: إنك ارتكبت خطأ عظيما. - ما هو؟ - أما أوصيتك بالسكون وألا تنهض من فراشك؟ - وأنا امتثلت. - أين هي الثياب التي كانت أمس في زاوية الغرفة؟ - لقد أخذها الخادم حين نظف الغرفة. - أين وضعها؟ - لماذا تسألني هذا السؤال؟ - ستعرف يوما ما السبب. - إذن سأقول لك الحقيقة، وهي أني نهضت من فراشي حقيقة، ووقفت في النافذة فرأيت فقيرا يتسول فألقيت إليه هذه الثياب. - أهذا هو كل شيء؟ - ماذا تريد أيضا؟ - أريد أن أعرف الحقيقة يا موسيو داغير؛ فإن كل ما قلته كذب محض. - إنك تغتنم فرصة ضعفي فتهينني، وليس هذا عمل شريف، بل ليس هذا من الشجاعة في شيء. - وأنت قد انحطيت حتى وصلت إلى الكذب، وليس هذا من شروط البسالة. - وأخيرا ماذا تريد؟ - أريد أن أعرف لماذا أحرقت ملابسك، ولا فائدة من الإنكار؛ فقد رأيت في المستوقد قطعة منها لم تأكلها النار، وهذا يفيد كثيرا قاضي التحقيق لو خامره بك ريب. - ماذا عسى يريبه مني؟ أما قلت لك كيف جرحت؟ فلا تنس أن شرف امرأة متعلق بهذا الجرح، ألا يحق لي أن أتخذ وسائل الحذر؟
فحدق به جيرار كأنه يريد أن يخترق بنظراته أعماق قلبه، ولم يطق داغير احتمال تلك النظرات فأغمض عينيه كي يتقيها، فتجسم الشك في قلب جيرار، وقال له: سأعودك في كل يوم.
قال: لم يبق فائدة من ذلك؛ لأني شفيت، فتفضل بإرسال بيان حسابك.
قال: بل أزورك في كل يوم إلى أن تنجلي لي الحقيقة. - وأنا حر في منزلي، فلا تستطيع معالجتي بالرغم عني؛ ولذلك أمنعك عن زيارتي. - ذلك سهل قوله، ولكنك لا تفعله. - لماذا؟ - لأنه يوجد معي طلسم أفتح به باب منزلك حين أشاء، وهو هذا.
وقد أخذ من جيبه الرصاصة التي أخرجها من كتفه وأراه إياها، وهي داخل لفافة من الورق .
فقال له: ما هذا فإني لا أرى؟
قال: هي الرصاصة التي أخرجتها من كتفك؛ فقد وضعتها في جيبي عرضا، وحسنا فعلت؛ لأنك كنت أتلفتها كما فعلت بملابسك، أما إذا بقيت معي فلا خطر عليها من التلف أو الضياع، أتعلم عما أبحث الآن؟ إني أبحث عن المسدس التي خرجت منه الرصاصة، وسأجده لا محالة.
فتلعثم لسانه من الرعب حتى لم يعلم ماذا يجيب، وتركه جيرار على هذه الحالة وذهب من فوره إلى مركز النيابة، ولم يكن قاضي التحقيق هناك فلقي الكاتب، وقال له: هل يمكن أن أرى المسدس الذي وجد في مركبة فولون؟
قال: ذلك سهل.
وقام فأعطاه مسدس القتيل وعاد إلى عمله، ففحصه جيرار، وأدخل فيه الرصاصة التي أخرجها من كتف داغير فأيقن أنها خرجت من المسدس نفسه، وأعاده إلى الكاتب ثم شكره وانصرف، وقد استحال شكه إلى يقين.
وفي اليوم التالي عاد إلى داغير فأقفل الباب من الداخل، وجلس على كرسي بجانب سريره، وقال له: لا شك أنك تستطيع أن تشفى الآن من غير معالجتي، وإني مخبرك الآن بما دعاني إلى الإلحاح بزيارتك. - كلي آذان للسمع. - ثم إني مخبرك بما فعلت وبما أريد أن أفعل. - ماذا فعلت؟ - فعلت ما حملني على الوثوق من أن الرصاصة التي أخرجتها من كتفك إنما أطلقت عليك من مسدس المرحوم فولون. - مسدس فولون؟ - نعم؛ فإنه حين شعر بأنه جريح أطلق مسدسه على قاتله، ولكن النيابة تتهم الموسيو بوفور. - وهذا صحيح، ألم يجدوا مسدسه في مكان الحادثة؟ - من أنبأك بذلك؟ - خادمه الذي يخدمني الآن. - هذا أكيد، ولكن ترى ما يقول قاضي التحقيق لو ذهبت إليه فقلت له: «إن الليلة التي قتل فيها فولون وجرح بوفور وجد فيها أيضا جريح ثالث، وإن الطبيب يثبت بالبرهان أن الرصاصة التي أصيب بها كانت من مسدس فولون، وإن هذا الجريح أحرق ملابسه الملوثة بالدماء كي يخفي أثر الجريمة، وإنه سرق حقيبة فولون وأخفاها ومشى يجر نفسه جرا إلى المنزل، فلو لم يدركه الطبيب لكان من الأموات.»
فقال داغير والرعب ظاهر في وجهه: هذا كذب.
قال: إن الذعر الذي يبدو في عينيك يقول بأفصح لسان هذا أكيد. - والمسدس الذي وجد في الغابة؟ - إنه جريمة أخرى تضاف إلى جريمتك؛ فقد كنت عند النوتير حين قبض منه فولون المال، فتركته مع بوفور وعدت إلى المنزل وأنتما تقيمان فيه معا فسرقته وتركته بعد الجناية في ساحة القتل كي يعرف ذلك المنكود به وليتهم بدلا منك. - لماذا أعرض بوفور لهذه التهمة؟ - سوف أعلم، وقد تكون فعلت ذلك لتبعد التهمة عنك، ربما يتيسر لك الفرار أو لأنك تكره بوفور بعد أن خسرت مالك في شركته، والآن فإني أعتقد أنك أنت القاتل، فادحض براهيني إذا استطعت. - أية فائدة من دحض البرهان؟ - افترض أني قاضيك، وأني أشكوك أتجيبني هذا الجواب التافه أم تدافع عن نفسك؟ - ولكنك لست بقاض. - إن الطبيب قد يكون قاضيا في بعض الأحيان. - إنك تغتنم فرصة ضعفي لتهينني، ولو كنت في عافيتي لقذفت بك إلى الخارج. - ليس هذا الجواب، فقل لي من الذي جرحك، إلا إذا أردت أن أخبر قاضي التحقيق بأمرك فيسألك عني هذا السؤال. - لقد قلت لك إن الشرف يمنعني عن ذكر اسمه. - لو كان قولك صحيحا لما امتنعت عن أن تبوح لي به، وأنت تعلم أن سرك يدفن في صدري، إني إذا شئت أقسمت ألا أبوح به لأحد. - هذا محال. - إذن قل لي أين كنت ليلة الجريمة؟ - إذا قلت لك أين كنت أكون قد بحت لك بالسر. - تكتم قدر ما تشاء فسيتولى غيري سؤالك. - من هو؟ - قاضي التحقيق.
فجلس في سريره وقال: كلا، إنك لا تفعل هذا. - من يمنعني؟ - أنا. - كيف؟ - بتذكيرك أنك طبيب، وأنك لا تقف على سري إلا حين مزاولة مهنتك، فشرف المهنة يدعوك إلى التقيد بهذا السر، وأنت تعرف ذلك أكثر مني، فليس علي أن أرشدك إلى واجباتك.
وكان جيرار يعرف هذا الواجب؛ فإن المؤتمر الطبي تناقش في واجبات الطبيب، وطرح عليه هذا السؤال وهو: «إذا اتفق أن رجلا بريئا اتهم بجريمة هائلة وأن أحد الأطباء عرف الجاني الحقيقي حال ممارسة مهنته؛ هل يجوز أن يظهر الجاني الحقيقي؟»
فاتفق المؤتمر بعد الجدال على الجواب، وكان أنه لا يجوز، فتسجل في نظامهم وتحتم على كل طبيب أن يحترم هذا القرار.
ولذلك أجاب جيرار داغير فقال: نعم، إن واجبات الطبيب تقضي علي بكتمان سرك، ولكنك لم تستند بدفاعك إلا إلى هذه الواجبات، وعجزت عن كل دفاع، وهو ما يدل على أنك مجرم، وإذا كنت لا تخافني فلماذا لا تعترف لي، وأية فائدة من الإنكار وأنا أعلم علم اليقين أنك القاتل؟
فأطرق هنيهة مفكرا ثم قال: لقد أصبت؛ فإني إذا بالغت في الإنكار حق لك أن تعتقد أني بريء، فحق لك أن تخبر أني جريح، فلا أعلم ما يكون من قاضي التحقيق؛ ولذلك أرى أن أخبرك بالحقيقة فتكتمها كما لو كنت شريكي، نعم إني أعترف للطبيب جيرار الذي وقف على سري بسبب معالجتي، وأقول: إني أنا الذي قتلت فولون وجرحت بوفور، فانس الآن هذه الحكاية واعمل بواجباتك كطبيب. - وهذا البريء المقبوض عليه والمتهم بدلا منك؟ - إنه قليل الحظ فليتدبر بأمره. - ولكن هل خطر لك أنهم سيحاكمونه في محكمة الجنايات؟ - نعم، وسيبرئونه وأنجو. - قد يبرئونه ولكنه سيوصم بوصمة عار من شكوك الناس لا تمحى أبد الدهر. - إنك تبالغ أيها الطبيب. - وإذا حكم عليه بالإعدام، وهذا أيضا من الممكنات؟ - عند ذلك تكون نجاتي مضمونة. - أليس في قلبك ذرة من الحنان فتشفق على رجل يموت عوضا عنك؟ - أتطلب الرحمة إلى رجل اعترف لك أنه قاتل؟ لا شك أنك من المجانين. - ويح لك أيها الشقي. - نعم إني شقي كما تقول، ولكني أريد أن أنقذ نفسي، ولو كنت من أهل العواطف الطيبة لما كنت قاتلا سفاكا، فلنبحث في غير هذا الموضوع. - لا أكتم عنك أني لم أقر على شيء بعد فيما يتعلق بجنايتك. - لا تستطيع أن تقر إلا على أمر واحد وهو الكتمان. - بل أستطيع وسأتمعن، ولكني أعدك أني إذا اعتمدت على إخبار قاضي التحقيق فسأدعك تسلم نفسك كي يخف عقابك. - أشكرك لاهتمامك بتخفيف عقابي، ولكني أوثر ألا أحتاج إلى ذلك. - سأعود غدا إليك وسنرى. - وأنا أنتظرك.
وقد تركه جيرار وعاد إلى منزله، فأخذ قانون الأطباء وقرأ مرارا عله يجد مخرجا يعينه على الإباحة بسر المريض الذي يعالجه، والذي لم يكتشف سره إلا بسبب هذه المعالجة، فلم يجد نصا يعينه على ذلك، فأقفل الكتاب مغضبا، وقال في نفسه: إني سأذهب إلى قاضي التحقيق فأقول له إن الذي قبضت عليه بريء، فابحث عن الجاني الحقيقي، ولا أزيد كلمة على هذا فأكون نبهت قاضي التحقيق، وكتمت سر الجاني المريض.
وقد ذهب من فوره إلى قاضي التحقيق فأحسن استقباله، ولكنه رأى الاضطراب باديا في وجهه فسأله عن أسبابه فقال له: إني أتيت لأبلغك أمرا خطيرا على رجاء أن تأخذ كلامي على علاته فلا تحوجني إلى تصريح.
قال: لقد أدهشتني بهذه المقدمة؛ إذ لا أستطيع التقيد بها قبل أن أسمع أقوالك.
قال: كل ما أريد قوله هو أنك مخطئ في سير التحقيق في قضية فولون، ومخطئ في قبضك على بوفور. - تريد أن تقول إنه بريء؟ - نعم. - هذا كل ما أتمناه له، ولكن لا بد لهذه الجناية من جان، فإذا كنت واثقا من براءة بوفور فاذكر لي اسم الجاني؟
فأجابه بصوت مختنق: لا أعرف اسمه. - هذا ممكن، ولكن اذكر لي الأسباب التي حملتك على الاعتقاد ببراءة بوفور؟ - لا أستطيع أن أزيد كلمة على ما قلته، وهو أنه بريء وأنك مخطئ خطأ هائلا بالقبض عليه، فلا تسألني زيادة.
فضحك القاضي وقال: لا شك عندي أنك صادق في اعتقادك، ولكن أتحسب أن القانون يجيز لي إطلاق سراح متهم بشهادة رجل يقرر أنه بريء دون أن يؤيد قوله ببرهان؟ فقل أيها الصديق ماذا اكتشفت وكيف تولد عندك هذا الاعتقاد؟
فأطرق ولم يجب، وجعل القاضي يسير ذهابا وإيابا في غرفته ثم وقف وقال له: ألعلك اكتشفت سرا يدعوك نظام مهنتك إلى كتمانه؟ - ليس لي ما أزيده على ما قلت. - ألا تجيب حتى على هذا السؤال البسيط؟ - حتى على هذا السؤال. - إذن جوابك هذا يعتبر بمثابة إجابتي بالإيجاب؛ لأنك لو أردت أن تجيب سلبا لما احتجت إلى التردد. نعم إنك اكتشفت سر الجناية وأنت تزاول مهنتك، فلا ألح عليك بالسؤال؛ لأن الشرف يقضي عليك بالكتمان. - ولكني أقسم لك بشرفي أن بوفور ضحية الخطأ وأقسم بشرفي أنه بريء. - لا شك عندي أنك تعتقد صحة ما تقول. - إذن هلا أرجو أن يطلق سراح هذا البريء؟ - هذا أمر آخر؛ فقد قلت لك إني أثق باعتقادك أن ما تقوله حق، ولكن القانون لا يسمح لي بإطلاق سراحه، والأدلة متوفرة ضده إلا إذا نقضت بالبرهان، ورجائي أن تتمكن بطريقة من الطرق من إرشاد النيابة إلى المجرم دون أن تخل بواجباتك. - إذن إني لم أغير شيئا بما قلته من حالة هذا المنكود؟ - كلا، ولكنا نستأنس بشهادتك.
فودعه آسفا وانصرف، وبقي القاضي يناجي نفسه فيقول: ألعله وقف على سر الجناية ... لا شك عندي أنه يعرف سرا يأبى الإباحة به فكيف أنتزعه منه؟ إن هذا محال؛ فإنه شديد التمسك بنظامه الطبي فلم يبق إلا أن أحتال.
وقد دعا إليه أحد معاونيه وقال له: أريد أن أعهد إليك بمهمة سرية، وهي مراقبة الدكتور جيرار؛ فقد أقسم لي بشرفه الآن أن بوفور بريء، فلما سألته البرهان أبى أن يظهره بحجة نظام الأطباء الذي يقضي بالكتمان، والظاهر أنه اكتشف هذا السر لدى معالجته الجاني؛ ولذلك أريد أن تكون له أتبع من ظله، فتعلم في كل لحظة أين يكون.
قال: لك أن تعتمد علي.
قال: احذر أن يعلم أنك تراقبه. - دون شك، فإذا علم فأية فائدة من المراقبة؟ - وأريد أن تأتيني بتقريرك في كل مساء.
سأفعل، وها أنا الآن ذاهب لأتنكر.
عندما خرج جيرار من عند القاضي لم يعد من فوره إلى المنزل، بل ذهب إلى داغير.
أما المعاون فإنه ذهب بعد أن تنكر إلى منزل جيرار، وجعل يرود حوله على اعتقاده أنه فيه، وأنه سيقفو أثره حين خروجه منه.
وكان جيرار قد ذهب إلى داغير كما تقدم فقال له: إني قادم من عند قاضي التحقيق، وقد قابلته وأخبرته بما علمته.
فاصفر وجهه وقال: إنك بحت بسر اؤتمنت عليه وما هذا شأن الأشراف.
قال: كلا، إني لم أبح بالسر في حين أنه كان يجب أن أفعل؛ لأن عدم إنقاذ رجل بريء شريف كالموسيو بوفور يعد جريمة أعظم من جريمة الإباحة بالسر. - إذا كنت لم تبح به فأي شأن لك مع قاضي التحقيق؟ - أردت أن أخبره أنه مخطئ بسير التحقيق؛ فإن لدي براهين تدل على خطئه. - أيها التاعس؛ إنك ولدت في نفسه الريب، وسيقتفي أثرك ويراقبك أين ذهبت. - هذا حقه. - إذن لقد أصبحت من الهالكين. - وهذا ما أتمناه؛ فليس في قلبي ذرة من الشفقة عليك. - احذر؛ فإنك تندم. - إن وعيدك لا يؤثر علي في شيء فأنت قاتل سفاك، وأنا طبيب شريف، فأية صلة بيننا فأخاف وعيدك؟ - إن بيننا من الصلات فوق ما تظن، ومتى عرفت الصلة التي تجمع بيننا تأسف لما قلته للقاضي، ولكن الأوان لم يفت لحسن الحظ. - إني لا أفهم ما تقول فما الذي تعنيه؟ - أصغ إلي يا موسيو جيرار؛ فإنك ابن رجل مجهول. - ماذا يهمك مولدي؟ - وإنك لم تعرف أباك حتى الآن، فإذا كنت تريد أن تعرف حقيقة أمرك فأنا أكشف لك سره. - أنت؟ - نعم أنا. - وكيف عرفت هذه التفاصيل؟ - سوف ترى؛ فاعلم أن أمك من أسرة نبيلة وهي ابنة الكونت دي مونتكور، فعندما بلغت الثامنة عشرة من عمرها أحبت فتى وهو أيضا من النبلاء، غير أن أباها أبى تزويجها به وهما متحابان كما قلت لك، فكنت أنت الدكتور جيرار ثمرة هذا الحب.
ولكن ما بالك لا تسألني تمام الحديث ألا تريد معرفته؟ - من يضمن لي أنك غير كاذب فيما تقول؟ - يضمنه أمك، فلك أن تسألها حين عودتك. - إذن امض في حديثك. - إن الكونت دي مونتكور حين علم بزلة ابنته وافق على زواجها، ولكن الفتى كان قد مل الانتظار وحالت موانع دون زواجه بها، فاضطرت إلى السفر إخفاء لزلتها. - لا يوجد في الأرض موانع تحول دون زواج الشريف بفتاة يحبها وهو يريد الزواج.
ثم أطرق هنيهة ساكتا وقال: وعلى ذلك فإن هذا الرجل كان أبي. - نعم. - إلى أين تريد أن تصل بحكايتك، وأي شأن لها بما نحن فيه، ألعلها تغير الواقع وهو أنك لص سفاك. - كلا إنها لا تغير اعتقادك في ولكني أظن، بل أؤكد أنها تمنع انتقامك مني. - لا أفهم ما تقول. - أني أنتظر أن تسألني سؤالا وأنا مستعد لإجابتك عليه. - ما هو اسم هذا الرجل؟ ما هو اسم أبي أتعرفه؟ - لو لم أكن أعرفه لما قصصت عليك هذه الحكاية. - من هو؟ - ألم تعرف بعد من هو؟ - كيف أستطيع أن أعرفه؟ - إن أباك ... هو أنا.
فتراجع جيرار منذعرا كأنما لسعته أفعى وهو يقول: أأنت أبي؟ أيمكن أن تكون أحبتك أمي؟! - ما عليك إلا أن تسألها.
فسقط على كرسيه وستر وجهه بيديه، فلم يبك ولكنه خجل مما سمعه؛ حتى إنه أنف من النظر إلى الوجود فستر عينيه وهو يقول: أنت أبي ... يا للهول أيمكن ذلك أن يكون؟!
ثم وقف وقد أصيب بما يشبه الجنون، فقال: كلا، كلا إن هذا الوحش لا يمكن أن تحبه أمي؛ فقد يكون خدعها وهي في أول حلقات العمر، وبين الانخداع والحب بون بعيد.
أما داغير فإنه نظر إليه بعين المنتصر، وقال له: اذهب الآن إلى قاضي التحقيق، وقل له ما تعرفه عني فإنك إذا تكلمت تكلمت أنا، فيعلم الناس أن ولدي الذي خانني، وإذا عوقبت بالشنق أو بالسجن مدى العمر كان ذلك بفضل ولدي.
فقال جيرار: الويل لي من القدر! أأنا يكون لي مثل هذا الأب؟! إني ذاهب إلى أمي فأسألها؛ لأني لا أزال مشككا إلى الآن.
قال: اذهب وأنا أنتظرك فإنك قد تعود، ولكن اسمع هذه النصيحة قبل انصرافك واعلم أن قاضي التحقيق سيراقبك؛ لأنك أثرت فيه الظنون، فاحذر حين تأتي إلي، إذا أردت ألا تخونني، وقد أعذر من أنذر، فإذا حدث لي شيء بسببك ولو كان خطأ أعتقد أنه كان منويا، والآن فاذهب إلى أمك وسلها عن داغير دي مورتفال.
فخرج وهو شبه المجانين من اضطرابه حتى وصل إلى شارع منزله، فرآه المعاون الذي عهد إليه القاضي أن يراقبه ولم يخف عليه ذلك الاضطراب.
وصل جيرار إلى المنزل وهو يقول في نفسه: ماذا أقول لها وكيف أخبرها أني أعرف كل شيء؟
غير أن أمه عرفت من اضطرابه أنه جاءها بأمر خطير.
فقال لها: إني أريد أن أجتمع بك يا أماه وحدنا.
قالت: ما الذي يمكن أن تقوله ولا يجوز أن تسمعه مودست؟ - أرجوك يا أماه أن تقبلي رجائي.
فدخلت معه إلى مخدعها وقالت له: يظهر أنك مضطرب جدا يا بني، فماذا حدث؟
فلم يجبها واستخرط في البكاء، فجزعت أمه لبكائه جزعا شديدا، وجعلت تعانقه وتسأله أن يتكلم فقال: إني أعالج الآن الموسيو جان داغير دي مورتفال شريك الموسيو بوفور. - أهو مريض؟ - نعم. - وبعد ذلك؟ - إنه أخبرني بكل شيء.
فانقض هذا النبأ عليها انقضاض الصاعقة، واصفر وجهها وشفتاها وسقطت على الأرض وهي لا تعي، فأسرع إلى معالجتها حتى استفاقت، فقال لها: أماه؛ إن هذا لا يمنعني عن أن أحبك حب عبادة.
قالت: لا أعلم لماذا تأثرت هذا التأثر في حين أنه لا بد لك أن تقف يوما من الأيام على سر مولدك، فأرجو أن تسامحني. - على ماذا أسامحك يا أمي؟ فإن تأثرك هذا لم يحدث إلا لفرط حبك إياي. - هو ذاك يا بني؛ فإني لم أكتم عنك اسم أبيك إلا لأني أضطر إلى الاعتراف بزلتي، وليس هذا بسهل على النساء، والآن قل لي كل ما سمعته من هذا الرجل؟ - خلاصة ما قاله لي أنك ابنة الكونت دي مونتكور، وأنك أحببته ولك ثمانية عشر عاما من العمر، وأنك ولدت مولودا من هذا الحب وهو أنا، وأن أباك أبى أن يوافق على زواجكما ... فلما قلت له إنك كاذب قال سل أمك فهي تخبرك أني لم أكذب، والآن فإني مصغ إليك. - أهذا كل ما قاله لك؟ - نعم. - أتقسم لي؟ - دون شك. - ألم يكلمك عن بوفور؟ - كلا، ولماذا يكلمني عنه؟ والآن أخبريني هل صدق فيما قاله هذا الشقي؟ وهل هو حقيقة أبي؟ - نعم؛ فإن هذا الرجل لم يصدق إلا بقوله إنه أبوك، وقد كذب في سائر ما أخبرك. - بماذا كذب؟ - فقد كذب حين قال إني أحببته. - هذا الذي كنت واثقا منه. - وأنه أراد المتاجرة بي، وكان فقيرا طماعا خلوا من كل مبدأ شريف، وكنت أنا غنية فأغواني لحداثتي على رجاء أن يكره أبي على تزويجي به. - إذن لقد صدق فيما قاله عن أبيك، وهو أنه أبى المصادقة على الزواج. - بل كان أكذب الكاذبين؛ فإن أبي كان يأبى في البدء أن يصاهره مما كان يعلمه من فساد أخلاقه، وأنه لا يطمع إلا بثروتي، إلى أن خسر أبي ثروته في البورصة وعلم داغير بالخسارة فهجرني بعد أن وصمني بالعار، ولما أخبرت أبي بما كان قابله وتوسل إليه أن يكشف عنا هذا العار بالزواج فأبى وتوعده بالفضيحة إذا ألح. - عجبا كيف لم يقتله؟ - لأنه هرب في اليوم نفسه، ولكن أبي تبعه ولقيه في باريس فصفعه كي لا يبقى مانع من المبارزة، وفي اليوم التالي تبارزا، فلما عاد أبي قال لي: لقد انتقمت لك منه، فهو الآن من الأموات. ولكن أبي كان واهما فإن داغير شفي من جرحه. - أهذا كل شيء يا أماه؟ - نعم، يا بني فهذا كل ما يتعلق بهذا الرجل أبيك. - نعم، إنه أبي وإني مدين له بالحياة، ولكني لا أطيق أن أدعوه أبي، وهذا أمر يتعلق بي وبضميري. - وأنا واثقة بما يوحيه إليك ضميرك، فهو لا يوحي إليك غير الحق والواجب. - إنك أخبرتني بكل ما يتعلق بهذا الرجل، ولكن بقي لك سر تكتمينه عني. - أتريد بهذا السر مولد مودست؟ - هو ذاك. - فقامت إلى درج فأخرجت منه ورقة رسمية، وقالت له: اقرأ، فهذه تذكرة مولد مودست، ومنها تعلم حقيقة أمرها.
فقرأ، ثم أعاد القراءة، وقال: مودست ابنة بيير بوفور وزوجته مرسلين دي منتكور؟
فقالت له: إنك لم تقرأ خطأ يا بني. ثم قصت عليه حكايتها منذ عرفت بوفور إلى حين مقتل فولدن فولون.
فأصغى إليها أتم الإصغاء حتى إذا فرغت من حكايتها ركع أمامها، وجعل يقول : أماه، أماه إني أحترمك وأحبك.
فأخذت تشهق بالبكاء وهو يلاطفها؛ إلى أن سكن ما بها فقالت له: لماذا كشف لك سره وبأية مناسبة؟
قال: لا أستطيع أن أقول.
فنظرت إليه نظرة شك ولم تلح عليه بالسؤال لما تعرفه من صحة عزيمته، ولكنها قالت له: أعلمت الآن لماذا أبيت أن يقيم بوفور في منزلنا؟ أعلمت الآن لماذا قلت لك إن بوفور بريء حين قبضوا عليه؟ فهل لا تزال مشككا ببراءته؟ - لم يبق لي أقل أثر من الشك. - أتنقذه؟ - كيف؟ سأفرغ مجهودي في سبيل إنقاذه ما دام بريئا وهو زوجك وأنت تحبينه.
وهنا افترقا، فجعل جيرار يناجي نفسه فيقول: كيف أنقذه وهل أستطيع إنقاذه إلا إذا بحت بسر داغير؟ وكيف أبوح والإباحة محرمة علي؟ فهل توجد طريقة لإنقاذه غير هذه، وما هي، ومن يدلني عليها؟ أأدع ذلك الرجل الشريف البريء يحكم عليه وهو زوج أمي التي تحبه ويحبها وهو أبو أختي مودست؟ كلا، إن هذا محال ولكن كيف العمل؟
وقد لبث مدة على هذه الحالة من التردد والهياج، ثم برح المنزل على نية الذهاب إلى داغير؛ فلم يكد يخرج من المنزل حتى لقي كلوكلو واقفا أمام الباب ينتظره، فحياه وقال له: كيف حال أمك؟
قال: إنها محمومة كما تعلم. - أتريد أن أذهب إليها فأعودها؟ - أظن يا سيدي الطبيب، وأرجو ألا يسوءك قولي إنك تضرها بعيادتها أكثر مما تفيدها.
فلم يتمالك جيرار عن الابتسام بالرغم عما هو فيه من الشواغل، ودنا منه كلوكلو فقال له: أرجو أن تأذن لي يا سيدي الطبيب بكلمة، وهي أني أرى منذ نصف ساعة رجلا كبير اللحية يسير ذهابا وإيابا في هذا الشارع، وهو لا ينفك عن النظر إلى منزلكم. - أهذا كل شيء؟ - كلا؛ فإن هذا الرجل لا يزال في مكانه، وهو الآن ينظر إلينا، ألعلك تعرفه؟
فخطر لجيرار ما قاله له أبوه، وهو أنهم سيراقبونك فاحذر، والتفت متظاهرا بعدم الاكتراث فرأى الرجل دون أن يعرفه، وقال: إنك مخطئ يا كلوكلو فإنه ينصرف.
فهز رأسه وقال: بل إنه يراقبك يا سيدي، أتأذن لي أن أكون في خدمتك؟ - لك ما تشاء؛ فإني ذاهب لعيادة الموسيو داغير وأحب لأسباب خاصة ألا يعلم أحد أني طبيبه، فإذا تبعني هذا الرجل فامنعه. - كيف؟ - لا أعلم، فعليك أن تبحث عن الطريقة. - سأبحث وسأجد، أما أنا فقد كنت واثقا من أن الموسيو داغير مريض. - كيف ذلك؟ - ذلك أنه منذ بضعة أيام؛ أي في ليلة مقتل فولدن كنت عائدا من كريل، وكان البدر يتوهج في السماء بحيث يرى الساري الأشياء على مسافة ميل، فلما وصلت إلى الغابة رأيت رجلا خارجا منها وهو يمشي مشية غريبة استلفتت نظري؛ إذ كان يجر نفسه جرا، وكان يقع وينهض وأحيانا يسير ببطء، وأحيانا يجد في السير ويتألم. - ألم يخطر لك أن تساعده؟ - نعم، لقد خطر لي ذلك واقتربت منه حتى وصلت إليه فقلت: ألعلك مريض أم أنت تحتفل بعيد باخوس إله الخمر؟ فإذا كان الأول، صحبتك إلى منزلك؛ فإن التعاون عندي من أخص واجبات الإنسان، وإذا كان الثاني، أودعتك إحدى الحفر وغطيتك ببركتي.
فلم يجبني، وحاول أن يركض فأدركته وحاولت إسعافه؛ فانتهرني قائلا: اذهب عني فلست في حاجة إليك. فتأمل يا سيدي مقدار دهشتي حين عرفت أن هذا الرجل إنما هو الموسيو داغير. - وماذا فعلت بعد ذلك؟ - تركته وشأنه؛ إذ لا يحق لي أن أساعده بالرغم عنه، ولكني لبثت أنظر إليه حتى توارى، ألست تعالجه لهذا يا سيدي الطبيب؟ - نعم، ولكني لا أريد أن يعلم الرقيب أني ذاهب إلى منزل داغير. - وهو لن يعلم، فاذهب مطمئنا وأنا الضمين. - وماذا تصنع إذا تبعني؟ - يوجد طريقة سهلة يا سيدي، وهي أنك إذا سمعتني أغني النشيد الذي مطلعه:
تبسم الأزهار من بكا الأمطار
فاعلم أنه مجد في أثرك.
وإذا سمعتني أنشد:
يا شقيق البان إن صبري بان
فاعلم أنه تراجع عنك.
وإذا التبس علي أمره أنشدت القصيدة التي مطلعها:
يا طائر البان قد هيجت أشجاني
فتكون بهذه الطريقة على بينة من أمره دون أن تلتفت إليه.
قال: إنها طريقة سهلة، ولكني لا أظن أنك تحتاج إليها فإني أراه يتقدمنا.
قال: إنها خدعة يا سيدي فانظر فإنه وقف بحجة أنه يتفرج على صيد السمك، وإني أراهن بنصف ثروتك أننا إذا اجتزنا عشر خطوات لا يجتاز أكثر من خمس.
قال: إني رضيت باقتراحك في الحالين فابدأ بمراقبته منذ الآن.
ومشى الدكتور في طريق منزل داغير، فلم يسر بضع خطوات حتى علا صوت كلوكلو بنشيد الحذر، فلم يلتفت جيرار؛ إذ عرف المقصود، وسار في عطفة لم يكن يريد السير فيها، فعرف من الغناء أن الرقيب يتبعه فلم ينتبه الرقيب في البدء، ولكن الأمر تكرر حتى لم يبق لديه ريبة.
وكان يعرف كلوكلو بالنظر، ويعلم أنه يرتزق من الغناء فعاد إليه وقال له: كم تكسب في اليوم؟
قال: نحو خمسة فرنكات.
قال: إني أعطيك عشرة الآن بشرط أن تذهب من فورك إلى منزلك فتستريح فيه كل يومك.
قال: إني أرضى هبتك بشرط أن تكون من غير شرط. - لماذا؟ - لأني أضجر من ملازمة البيت. - أنت وشأنك. -وتركه فعاد إلى اقتفاء جيرار، وعاد كلوكلو إلى الغناء، فما شكك الرقيب أن هذا المغني رقيب عليه فارتد إليه، وقال له: ألا يروق لك الغناء في غير هذا المكان؟ - أين؟ - في شارع غير هذا الشارع. - أرى أنك أشد استبدادا من ملوك الصين؛ فإن هذا الشارع لجميع الناس. - ولكني لا أطيق أن أراك في أثري ترهقني بغنائك كيفما مشيت، فلا شك أنك سكران. - الحق أني لم أشرب كأسا بعد منذ الصباح، فإذا أردت أن تجود علي بسكرة، وإني أعرف خمارة قريبة من هذا المكان، فأيقن الرقيب أنه يهزأ منه فقبض عليه وهزه بعنف، وهو يقول: أتريد أن تنصرف من هذا الشارع؟
قال: كلا؛ فإننا جمهوريون وأول شروط الجمهورية الحرية. - إذن أرني الجواز الذي يؤذن لك بالغناء في الشوارع. - لا يحق لأحد أن يسألني هذا السؤال ما خلا رجال البوليس. - وأنا منهم. - هات برهانك.
فأراه رقعة دلت على أنه من البوليس، وأراه كلوكلو جوازه، فقال له الرقيب: أرى أنك من أهل العناد، ولكني أعذرك؛ لأنك سكران كما يظهر، فلماذا لا تدعني وشأني؟
قال: إني أدعك بشرط أن تدخل معي إلى هذه الخمارة فنشرب كأسين.
قال: ليس لي وقت للسكر.
قال: وأنا أسير في الشارع كما أشاء وأغني كما أشاء.
فلما أعيته به الحيلة نادى رجلا من أنفار البوليس فعرفه بنفسه، وقال له: خذ هذا الرجل إلى القومسيير.
قال: هل ارتكبت جرما مشهورا؟
قال: كلا.
قال: إن القومسيير شديد الوطأة كما تعلم فلا أستطيع أن أذهب به دون ذنب، إلا إذا كنت تصحبنا إليه.
فنفر الرقيب مغتما، ومشى وهو يتمتم وتبعه كلوكلو ضاحكا، فسار في أثره وهو يغني.
وكان جيرار قد توارى عن الأنظار، فقنط الرقيب من إدراكه وغير الطريق، أما كلوكلو فإنه سار في طريق منزل داغير؛ إذ كان يعلم أن جيرار ذاهب إليه، وكان يوجد هناك مطعم يشرف على باب المنزل فأقام يأكل فيه وهو يراقب الباب.
أما جيرار فإنه دخل إلى داغير فوجده جالسا على مقعد فأحسن استقباله، وقال له: لقد حسنت حالي كما ترى فإني برحت الفراش.
قال: ذلك؛ لأن نفسك أشد من جسمك، وقد تغلبت إرادتك على آلامك؛ لأنك تحاول الفرار وتضليل الحكومة.
قال: ما أعجب اتفاقنا في الأفكار! فهذا الذي كنت أحدث نفسي به قبل أن يخطر لك؛ لأني عولت على ألا أبقى ساعة في فرنسا حين تشتد قواي، ليس لأني مشكك بوعدك من كتمان سري، بل لخوفي أن تبدر منك بادرة عن خطأ يزج بي إلى أعماق السجون أو يرفعني إلى المشنقة.
والآن قل لي يا بني: هل باحثت أمك بشأني؟ - إنها اعترفت لي بكل شيء. - هل بقي لديك شك بأني أبوك؟ - كلا، وا أسفاه، ولكن أصغ إلي؛ فإنك خدعت أمي وما أردت زواجها إلا طمعا بثروتها، ثم مكرت بها حين وثقت من ضياع الثروة، فكنت أنا ابن الجريمة، أما أنت فهل ندمت حين علمت أنك صرت أبا، وأنك قضيت على شرف تلك المنكودة عندما وثقت بك؟ ثم إنه كان بوسعك أن تعود إليها وتتزوجها، وتجعلني ولدا شرعيا، فكيف تريد أن أبر بك؟ وكيف تطمع أن أحبك؟ - إني لا أطمع إلى هذا الحد. - وقد كان من الممكن أن أشفق عليك لو كنت تركت في قلب أمي ذرة من الرفق بك، ولكنك لم تخلف في قلبها غير البغض والاحتقار، كلا إني لا أستطيع أن أنظر إليك نظر الابن إلى أبيه، بل إني أشفق على الغريب أكثر من إشفاقي عليك؛ لأنك قاتل مجرم، وإذا كتمت سرك فلا أكتمه لأنك أبي، بل لأن واجبات مهنتي تقضي علي بالكتمان.
وقد أتيتك اليوم أرجو أن تكون هذه آخر مرة أراك فيها لأخبرك بما أريد؛ كي لا أكون أخللت بشيء من واجبي. - إني أرفض مقدما ما ستقوله؛ لأن شروطك لا يمكن أن تكون مقبولة. - ربما، ولكن لا بأس من أن تسمعها، فاسمع؛ إنك مجرم تستحق العقاب، وبوفور بريء، وهو متهم بجريمتك، فاهرب من فرنسا، ولكن بشرط أن تعترف بالجريمة اعترافا خطيا، وإني أعاهدك على أن لا أظهر اعترافك هذا إلا بعد أن تصبح في مأمن خارج فرنسا، فينجو بوفور وتنجو أنت. - هذا محال؛ فإنهم لا يطلقون سراح بوفور. - لماذا؟ - لأن برهان إقرار الجاني وحده لا يكفي لتبرئة المتهم، ولا تنتقض البراهين التي ضده حتى تكون براهين تبرئته قوية متوفرة. - أنا أقدم عندئذ البراهين التي لا تدحض؛ إذ أكون قد أصبحت في حل من يميني، ولا سيما حين ترشدني إلى المال الذي سرقته من قتيلك فأرده إلى ورثته. - لا تعتمد علي بإرجاع المال فهذا محال. - ولكن إرجاعه يدل على ندمك. - أما قلت لك إني أرفض شروطك سلفا، وإنها غير مقبولة، فأية فائدة من البحث في هذا الموضوع؟ - لم يبق في قلبك شيء إنساني حتى لا تخاف وعيدا ولا تتأثر لرجاء؟ إني لا أراك بعد الآن، ولكن ثق أني لا أغفل عنك طرفة عين، وسأكون لك أتبع من ظلك حتى يفتضح أمرك بصدفة الأقدار فاحذر. - أشكرك؛ لأنك نبهتني وسأحذر. - إني أتوسل إليك لآخر مرة. - وأنا أقول لك إنك تضرب في حديد بارد. - إذن لتكن مشيئة الله، فأنت الذي أردت.
وقد نهض يحاول الانصراف، فلما وصل إلى الباب تراجع؛ إذ سمع كلوكلو ينشد النشيد الدال على وجود الرقيب.
ورأى داغير ما كان منه فقال له: ما هذا؟
قال: هذا يدل على أنهم يراقبونني، وأنهم دروا بأني دخلت إلى هنا أو أنهم يشكون، وأنهم ينتظرون خروجي ليكونوا على ثقة. - ألعلك خنتني؟ - كلا، فما أنا من أهل الخيانة، ولكن يظهر أن قاضي التحقيق ذكر كلامي فخامره الشك.
فاصفر وجه داغير، وقال له: لا تخرج وانتظر. - أرأيت مبلغ خوفك ولم يحدث بعد سوى أنهم يراقبونني؟ فماذا يكون منك لو خامرهم الشك فيك وراقبوك؟ تمعن في الأمر واكتب لي كتاب الإقرار الذي طلبته منك والله يغفر لك. - كلا. - إذن لا تلم إلا نفسك عما قد يصيبك. - إنك تتمنى بملء قلبك أن يتحقق هذا الخطر الذي يتوعدني. - لا أنكر عليك أنك تقول الحق. - ومع ذلك فإني لم أسئ إليك. - لأنك لم تجدني في طريقك. - لا تنس أنه يوجد بيننا صلة مقدسة؛ فإنك ولدي. - وأنت لا تنس أني أحتقر نفسي حين أذكر أنك أبي؛ فإني حين أفتكر بك أفتكر بأني ابن التي خدعتها أيها السافل، والذي رأيته وأراه أنه لا فائدة من استمالتك. - هو ذاك. - لا يوجد دليل على سفالتك أعظم من هذا الدليل. - إذن سأدافع عن نفسي، ولكن دفاع القانطين؛ أي كدفاع وحش مفترس يعلم أنه سيموت. - وأنا أحب أن تكون كذلك.
وقد تركه ومشى إلى الحديقة مشي المحترس واختبأ بين أشجارها، فلم يطل وقوفه حتى سمع كلوكلو ينشد نشيد زوال الخطر فخرج من الحديقة إلى الشارع، ولقي كلوكلو فأخبره بكل ما اتفق له مع الرقيب، وسار الطبيب عائدا إلى المنزل بعدما أوصى كلوكلو أن يأتي إليه في الصباح.
وقد أخبرته أمه أنه أتى رجل في غيابه وسألها عنه وعن المرضى الذين يعودهم، ووصفت له الرجل، فكانت أوصافه تنطبق على الرقيب الذي كان يقتفي أثره، فأوصاها بالكتمان ودخل إلى غرفته فاختبأ فيها.
أما الرقيب فإنه عاد إلى قاضي التحقيق وقص عليه كل ما جرى له، فاستنتج القاضي من كل تلك الحكاية ومن مجيء جيرار إلى النيابة وفحصه مسدس القتيل، أنه يعرف القاتل وأنه يكتم اسمه لتقيده بواجب مهنته، وأن القاتل جريح وأن الطبيب قد يكون أخرج الرصاصة منه وفحص المسدس كي يعلم إذا كانت هذه الرصاصة هي التي خرجت منه، فأوصى معاونه أن يراقب في الغد جيرار وكلوكلو معا وأن يبالغ في التكتم حذرا من الفشل.
تقدم لنا القول إن مودست لم تر روبير بن فولون منذ مقتل أبيه؛ فإن هذا المنكود كاد أن يجن من يأسه وجزعه على أبيه.
وقد حاول جيرار أن يزوره فيسليه ويعزيه فأبى أن يستقبله، ولكنه كتب إليه يقول:
إني أعلم الغرض من زيارتك، فإنك خشيت علي الجنون وهو كل ما أشتهيه؛ لأنه خير علاج للنسيان.
على أن لكل شيء حدا؛ فإن الحزن أخذ يخف تباعا، فكتب إلى صديقه جيرار يخبره أنه سيزورهم في الغد؛ لأنه في أشد حاجة إلى التعزية بإخلاص الأصدقاء.
وقد كان فرح مودست عظيما وكذلك جيرار خلافا لأمه، فقالت له: ألا ترى يا بني أن هذه الزيارة ستجدد أحزاننا؟ ألا تعلم حقيقة موقفنا بإزاء ابن فولون؟ إن بوفور لم يتفق وجوده مع فولون في تلك المركبة ليلة قتله؛ إلا لأني ذهبت إليه وقلت له: «إن مودست هي ابنتك وإني أنا امرأتك، فإذا وضعت الحواجز في سبيل زواج ابنتي فليس لعدم كفاءة الزوج، بل لأني لا بد لي من كشف سر زواجنا.» فلما علم بوفور أن له بنتا فرح وغفر لي بعض الغفران، وذهب إلى فولون ليخبره بجلية الأمر ويزيل تلك الحواجز، فاعلم يا بني أن موقفنا الآن مع روبير مثل ما كان موقفنا مع أبيه؛ أي إنه يجب إطلاعه على حقيقة أمرنا.
قال: سأتولى إطلاعه عليها.
قالت: ولكن ألا ترى أن زواج أختك به أصبح من المستحيلات؟ - لماذا؟ - لأن بوفور متهم بقتل أبيه، فكيف يتزوج بنته؟ - سأقنعه أنه بريء فيثق بما أقول. - أتمنى ألا تكون منخدعا يا بني.
وفي اليوم التالي جاء روبير وعليه علائم الحزن الشديد، فأحسنوا استقباله وقال لمرسلين: إنه إذا أتيح لي العزاء عن مصيبتي القادمة تكونين أنت السبب الوحيد فيه، فعديني يا سيدتي تذكارا لأبي الذي كان يحبكم كثيرا، وباسم حبي لمودست ألا تعارضي في زواجنا أكن سعيدا مع أحزاني.
فأجابته مودست قائلة: إن الموافقة التي تطلبها قد حصلت عليها من أمي قبل وفاة أبيك ببضعة أيام.
فقال لأمها: أحق ما تقوله يا سيدتي؟
قالت: نعم.
قال: لقد كنت أحسب أن الحياة متعذرة علي بعد فقد أبي، أما وعدك الآن فإنه أحياني وأراني السعادة في الحياة بعد أن كنت أحسبها في الموت.
أما جيرار فإنه قال لروبير بصوت منخفض: يجب أن أختلي بك هنيهة أيها الصديق فتعال معي.
ودخل الاثنان إلى غرفة فاختليا فيها، وبدأ جيرار الحديث فقال: اعلم أيها الصديق العزيز أنه لو كان أبوك في قيد الحياة لقال لك ما سأقوله الآن. - عم تتكلم؟ - عن حالتنا الحاضرة وسأبسطها لك، فأرجو المعذرة لما تراه علي من علائم التأثر؛ لأني لم أخف مرة على الذين أحبهم مثل خوفي الآن. - لقد أرعبتني أيها الصديق فأسرع بحديثك! - إنه حديث طويل مؤثر، فأصغ إلى النهاية دون أن تقطع علي الحديث.
إنك أيها الصديق لم تسألني مرة عن والد مودست. - أية فائدة من ذلك، فهي التي سأتزوجها وإني موفر عليك مؤنة القول؛ فإنك لا تعرف أباك وكذلك مودست، ولكن ماذا يهمني ذلك وقد عرفت بنفسي ومن أبي أن أمك من شريفات النساء؛ فلا أتطلع إلى ماضيها. - ولكن لا بد من معرفة ذلك الماضي. - لماذا؟ - لأن والد مودست موجود. - هل يعترف بها؟ - دون شك! فإن أمي زوجته وابنتها منه شرعية. - إذن لقد عرفت ما مضى؛ فإن أمك لم تكن على وفاق مع زوجها فاضطرت إلى الافتراق عنه والعيش من كسب يديها؛ لأن زوجها لم يكن من كرام الناس، ولكني أحب مودست، والعدل يقضي ألا يؤاخذ أحد بذنب سواه، فإذا كان هذا الذي حدث ... - كلا. - إذن ماذا؟ بل لنفرض أن الأب قد وصم بوصمة عار فإن بنته ستدعى باسمي وتعيش عيشا جديدا. - ما أكرم قلبك أيها الصديق،! ولكن الأب لم يتدنس ولا يمكن أن يوصم بوصمة عار، فاسمع كيف كان زواج أمي.
وقد روى له كل ما عرفه القراء من حكاية مرسلين دون أن يذكر له أسماء الكونت دي مونتكور وداغير وبوفور، فأصغى إليه أتم الإصغاء حتى إذا أتم حديثه قال له: أهذا كل ما تريد أن تقوله؟
قال: نعم.
قال: أتريد أن أحكم بما سمعت؟ إن أمك جديرة بحبك واحترامك؛ بدليل أنها عاشت عيش الشهداء، وكفى بتربية ولديها شاهدا، ولكنك لم تذكر لي اسم أبيك ولا اسم والد مودست، ولك أن تكتم اسم أبيك ولكني أود أن أعرف اسم والد أختك. - يحق لك أن تعرفه، ولا يحق لي أن أكتمه عنك. - من هو؟ - إن زوج أمي ووالد أختي هو ... - ما بالك وجمت؟ - إنه بيير بوفور. - رباه ... ماذا أسمع ... أهو قاتل أبي؟
وقد اصفر وجهه وجعل ينظر إلى جيرار نظرة المأخوذ، وهو لا يدري ما يقول: فأخذ جيرار بيده وقال له: ما هذا الاصفرار الذي تولاك؟ - يا لهول ما سمعت ... أهذا الشقي والد التي أحبها؟ - خفض روعك يا روبير ولا تسترسل في الأحزان. - أتسحق قلبي بهذا النبأ ثم تسألني الصبر، كلا فلم يبق أحب إلي من الموت. - بل يجب أن تعيش. - لمن؟ وقد فقدت مودست إلى الأبد. - كلا، فلم تفقدها. - ماذا تعني؟ - ألم تقل منذ هنيهة إن المرء لا يؤخذ بذنب سواه؟ - نعم، ولكني كنت أجهل أنها ابنة قاتل أبي. - وأنا ألم أجبك أنه لا يمكن أن يوصم بعار. - إنه سيجازى بالإعدام، وأي عار أعظم من هذا؟ - بل إن براءته ستظهر كالشمس في رابعة النهار؛ فإن المحكمة لا يمكن أن تضل عن القاتل الحقيقي، فهل تمعنت في الأمر يا روبير؟ إن بوفور كان صديق أبيك الحميم.
وكان كثير التردد إليه، فهل رأيت من أخلاقه ما يدل على أنه من أهل الشر؟ ثم إنه واسع الشهرة وافر الثروة فلماذا يقتل أباك، أليسرقه كما يتهمونه وهو الغني، أم لينتقم منه وهو صديقه المخلص؟! وفوق ذلك فإنه كان على وشك مصاهرتك، وقد كان مع أبيك في مركبة واحدة وأثبت التحقيق وجود كمين في الغابة. - ولكنك تعرف البراهين المتوفرة ضده أكثر مما أعرفها. - إنها الصدفة يا روبير، ولا بد للحقيقة أن تنجلي، ولو كان يحق لي الكلام لبرأت بوفور بكلمة. - يظهر أنك واثق من براءته؟ - كل الثقة. - من أين تولدت هذه الثقة؟ - أتثق بي أيها الصديق؟ - دون شك. - أتصدق قولي إذا قلت لك إن بوفور بريء؟ - إذا أيدت قولك بالبرهان. - ليس لي من البراهين ما أستطيع أن أقوله لك. - إذن لديك براهين؟ - نعم. - هذا محال؛ لأنه لو كان لديك برهان كما تقول لما كتمته لحظة. - ولكنه برهان سري؛ فلا أستطيع الإباحة به؛ فإن الأطباء يعترفون لهم أحيانا كما يعترفون للكهنة. - أتترك بوفور يحكم عليه وأنت تعتقد أنه بريء؟
فمسح جيرار العرق عن جبينه، وقال: لا أستطيع أن أفعل شيئا لإنقاذه. - ألا تنتقم لأبي على ما بيننا من الوداد؟ - لا أستطيع أن أقول كلمة. - وأنا لا أستطيع أن أصدق حرفا من أقوالك؛ فإنك تريد العبث بي، ولكني أغفر لك. - إني أقسم لك يا روبير. - لا فائدة من الإقسام. - إن الحزن أضاع رشدك، فثق أني أقول الحقيقة.
وعند ذلك طرق الباب وسمع صوت مودست، فقال: هل علمت أن بوفور أبوها؟
قال: كلا.
فقالت مودست من الخارج: أتأذنان لي بالدخول؟
فلم يجيباها، ففتحت الباب ودخلت فرأت الاثنين يضطربان كأوراق الخريف، فقالت لهما: ماذا حدث بينكما؟
فقال لها روبير: اسمعي حكايتنا وكوني حكما بيننا.
فاعترضه جيرار قائلا: ماذا تفعل يا روبير؟
فلم يحفل باعتراضه، وقال: إن زواجنا محال يا مودست.
قالت: لقد توقعت مصابا حين رأيتكما، إذن أنت لا تحبني. - بل أعبدك. - إذا كان الأمر كذلك فكيف تقول إن زواجنا مستحيل؟ - لأن زواجنا معلق على مصير بوفور المتهم بقتل أبي. - إنه بريء، وستعرف المحكمة خطأها، ومهما يكن من مصير بوفور الذي أحبه؛ لأنه أنقذني من الموت فأية علاقة له بزواجنا؟ - لا يحق لي أن أطلعك على هذا السر، ولكن لا بد أن تقفي عليه بعد بضعة أيام، أما الآن فإن أخاك يريد أن يثبت لي براءة بوفور، وأنا أعتقد أنه مجرم، وهو يقول إن لديه براهين تثبت براءته ولكنه لا يستطيع إظهارها، وأنا أقول إني لا أقنع من غير برهان، فاحكمي بيننا.
فقالت لأخيها: أحق أن زواجنا موقوف على براءة بوفور؟
فأومأ برأسه إشارة إلى الإيجاب، فقالت: كيف تكتم عني هذه الصلة بيننا وبينه؟
قال: ستخبرك أمك يا مودست. - وما زلت تعلم أن زواجنا موقوف على براءة بوفور، وتقول إن لديك براهين تثبت براءته فما يمنعك عن إظهارها؟ - الشرف يا مودست فلا تلحي علي. - لا أعلم كيف يمنعك الشرف عن إنقاذ بريء! - بربكما لا تلحا علي، فلا أستطيع القول. - اذكر يا أخي أن حياتي موقوفة على كلمة من فمك، وأني ألقيت بنفسي في النهر، وأني لولاك لكنت في عداد الأموات، أتنتزع مني حياتي بعد أن أنقذتها؟
وقال روبير: اذكر أن أبي كان يحبك، وأنه لو عاش لكان أسعد إنسان بزواجي. - إنكما تعذبانني عذابا لا يحتمله بشر على علمكما أني لا أستطيع أن أقول شيئا. - واذكر أيها الصديق أنه يوجد بريء يتألم ومجرم قاتل يتنعم، فإذا كتمت أمره ألا تكون شريكا له بالجريمة؟ - روبير، روبير! - نعم، إنك تكون شريكه بالجريمة، وإن الجاني يضحك الآن عليك وعلينا؛ لأنه واثق من كتمانك وشرفك، وكيف يكون شريفا من يساعد القتلة واللصوص على الفرار ويرضى بمعاقبة الأبرياء.
وقد قال قوله الأخير بلهجة تبين فيها الغضب، فقال له جيرار: إني أغفر لك يا روبير وأنسى كل ما قلته لي، وأغفر لك أيضا يا أختي ما توعدتني به من الانتحار؛ فقد مزقت قلبي.
ثم خرج ببطء من الغرفة وبقيت مودست فيها مع روبير، فقالت له: إذن لقد انتهى كل شيء بيننا. - نعم، وا أسفاه! ألم تسمعي ما قاله أخوك؟! - ومع ذلك فإنك تحبني؟ - لو كان أبي حيا لأخبرك بما لقيته من البأس حين كانت أمك تعارض في زواجنا. - إذا كان الأمر كذلك فإنك لا تمتنع عن إجابتي على سؤال أعرضه عليك. - ما هو؟ - أية علاقة بين زواجنا وبين مصير بوفور؟ - أتريدين أن تعلمي؟ - نعم، لقد مللت من هذه الأسرار المحدقة بي. - إذن فاعلمي أن بوفور هو أبوك. - بوفور أبي؟ أبي قاتل أبيك!
وقد اصفر وجهها حتى خشي روبير أن يغمى عليها، وأسرع يحاول نجدتها ولكنها صدته، وقالت: لا تخف فإني قوية، ولكن أنت مسكين، روبير ... يالله من هذا الهول.
ثم شمخت برأسها أنفة، وقالت: إذا كان بوفور أبي فقد صدق جيرار ولا يمكن أن يكون أبي من المجرمين. - إذن لماذا لا ينقذه؟ - لا أعلم يا روبير؛ فإن ذلك منوط بضميره الذي لا يطلع عليه غير الله.
كان روبير قد أتى ليتعزى عن نكبته ففوجئ بنكبة أشد، أتى وملء قلبه الرجاء بالزواج فإذا به يجده من المستحيلات، وقال له جيرار: إن بوفور بريء ولكنه لم يأت ببرهان، فعاد إلى منزله وهو أشد الناس نكدا وقنوطا.
في اليوم التالي لهذا الاجتماع كان امرأتان في مركز النيابة؛ وهما مودست ومرسلين؛ فقد كانت مودست أخبرت أمها بما علمته من روبير؛ وهو أن بوفور أبوها، وقالت لها: أريد أن أرى قاضي التحقيق وأن أرى أبي.
وقد استأذنتا من القاضي بمقابلته فأذن لهما وسألهما عن سبب هذه الزيارة، فقالت له مرسلين: لقد أتينا بأخبار قد تفيد التحقيق في مسألة بوفور. - كيف ذلك؟ - إني أستطيع أن أخبرك عن السبب الذي صحب بوفور من أجله فولون ليلة القتل، فنرى منه أنه يستحيل أن يكون بوفور كمن لفولون وقتله. - تكلمي يا سيدتي.
فحكت له مشروع زواج بنتها بابن فولون، والموانع الأولى التي حالت دون الزواج، وكيف أنها حكت حكايتها لبوفور وأخبرته ببنته، واستنتجت من ذلك أنه يستحيل أن يخطر لبوفور قتل صديقه وصهره، ثم ذكرت له أن بوفور ذهب إلى فولون ليطلعه على سر مولد مودست، وكان ذلك في صباح ليلة القتل، ثم قالت له: لا يمكن أن يكون بوفور سمع حديثنا الآن، فسله يخبرك بمثل ما أخبرتك ، فإذا اختلف القولان فلك أن تحسبه من المجرمين.
وقد أصغى القاضي إليها وأثرت أقوالها عليه، فأخرجت مرسلين مكتوبا فأرته إياه وقالت: إنه في اليوم الذي جرت المحادثة التي أقصها عليك بيني وبين بوفور اجتمع زوجي مع فولون فتباحث وإياه، وأرسل إلي هذا الكتاب الذي لا يتضمن غير كلمتين وهما:
الرجاء وطيد.
فاشتد تأثر القاضي من هذه البراهين، ولكنها براهين أدبية يلجأ إليها المحامون، فيؤثرون بها على اعتقاد المحلفين. وقد زاد اعتقاد القاضي ببراءة بوفور عندما استجوبه، فكان كلامه منطبقا تماما على كلام مرسلين.
وقد أذن لهما بمقابلة بوفور أمامه، فكانت مقابلة شديدة التأثير؛ بكى فيها الثلاثة بكاء الأطفال.
وبعد انصرافهم دخل الرقيب إلى القاضي وقال له: هل لديك أوامر تصدرها إلي؟
قال: كلا، ولكني أوصيك بالتدقيق في مراقبة الدكتور جيرار؛ فقد بدأ يداخلني الشك في صحة سيرنا بالتحقيق.
قال: حبذا لو كان جيرار يبوح بما يعلمه.
قال: هذا محال فإنه لن يبوح بحرف، وإذا لم أعثر على براهين جلية اضطررت إلى إحالة بوفور على المحكمة، فاجتهد أن تجد هذه البراهين قبل ثمانية أيام؛ لأني لا أستطيع الصبر أكثر من ذلك.
فخرج الرقيب وهو يقول في نفسه: نعم، سأجدها، ولكن ليس بمراقبة جيرار، بل بمراقبة كلوكلو.
القسم الرابع
يذكر القراء أن جيرار حين افترق عن كلوكلو أوصاه أن يجيء إليه في اليوم التالي.
وقد جاءه في الموعد المعين، فقال له جيرار: إن داغير على وشك الشفاء، ومتى شفي برح المنزل، فأريد أن تراقبه أتم المراقبة فتعلم إلى أين يذهب، فاجتهد أن تقف على كل ما يفعله، وإذا وقفت على شيء غير مألوف فأسرع بإخباري.
قال: سأفعل يا سيدي؛ فاسمح لي أن أسألك إذا كنت مشككا بداغير. - لا أشكك بأحد. - أما أنا فأشك كثيرا بهذا الرجل، وكفاني برهان ذلك الدم الذي رأيته فوق ثيابه ليلة الجريمة، وقد روت الجرائد أن القاتل جريح فلا ريب عندي أن القاتل هو ... - لا تذكر اسم أحد فقد يسمعونك. - سأفعل كل ما تريده يا سيدي، وكل ما أرجوه أن تطلق يدي في العمل. - ولكن بشرط أن تخبرني بكل ما يخطر لك فعله قبل الشروع فيه.
فاتفقا على ذلك، وذهب كلوكلو إلى جهة منزل داغير، وهو لا يعلم أن معاون قاضي التحقيق يسير في أثره وهو متنكر أتم التنكر.
وكان يوجد في تلك الجهة فندق صغير يشرف على باب منزل داغير، فاستأجر غرفة فيه، وبعد هنيهة خلا الرقيب مع صاحب الفندق؛ فأسفر هذا الاختلاء عن اتفاقهما على كلوكلو.
وفي اليوم التالي بينما كان كلوكلو جالسا وراء النافذة يراقب رأى داغير في الحديقة وهو بملابس الصيد، ثم رآه وقف في الباب الخارجي فنظر يمنة ويسرة إلى الطريق، فلما لم ير ما يريبه مشى في الطريق المؤدية إلى الغابة، وهو يمشي لضعفه مشية السكيرين.
وأسرع كلوكلو في أثره، وفيما هو في الطريق، التفت داغير إلى الوراء وخشي كلوكلو أن يرتاب به فدنا منه وقال له: أتريد يا سيدي أن أصحبك فأخدمك في الصيد؟
فأجابه بجفاء: كلا.
وكان كلوكلو يعلم أن داغير وبوفور قد استأجرا مكانا في الغابة للصيد فيه؛ إذ صحبهما مرارا إليه، فتقدم داغير وسار إلى ذلك المكان فكمن بين الأدغال لوثوقه أنه سيأتي إليه، فأقام نحو ساعة دون أن يراه، فقال في نفسه: لا شك أنه ارتاب بي فعاد أدراجه.
والحقيقة أنه عاد إلى المنزل، ولكنه لم يعد لهذا السبب، بل لأنه لم يتمكن لضعفه من مواصلة السير.
أما كلوكلو فإنه عاد إلى الفندق، وقد وثق قبل الدخول إليه أن داغير في المنزل إذ رآه واقفا وراء النافذة.
ودخل إلى الفندق فوجد في قاعة الطعام رجلا غريبا يأكل ويشرب ويكلم صاحب الفندق بلهجة أهل الألزاس، فعرفه صاحب الفندق بذلك الغريب، وكان كلوكلو ولوعا بالشراب، فمال عليه الرقيب بالكئوس حتى سكر وانطلق لسانه، فجعل الرقيب يستدرجه، فعلم منه أن داغير خسر ثروته لشركة بوفور، وأنه جريح، وكاد أن يخبره بكل ما يعرفه ولكنه توقف عن الكلام لما رآه من اهتمام الألزاسي، فعاد إليه شيء من صوابه.
وأدرك الرقيب ذلك منه فألح عليه بشرب كأس ثم بالثانية والثالثة، فعقد لسانه بعد الانطلاق وانقلب صريعا من سكره تحت المائدة.
وعند ذلك سأل صاحب الفندق الرقيب إذا كان يريد أن يعد له مرقدا فقال: كلا، بل أبقى بجانب هذا الصريع حتى يستفيق؛ فأكون أتبع له من ظله.
ونام كلوكلو نحو ساعتين، ثم استفاق من رقاده لا من سكره، فكان أول ما خطر له داغير، فقال في نفسه: ويح لي! أيعهد إلي جيرار بمراقبته فأشتغل عنه بالنوم! وماذا أقول له إذا كان قد سافر دون أن أراه؟ أأقول له لقد شغلني عنه السكر. إن داغير لا بد أن يكون الآن في الغابة، ولا بد لي من الذهاب إليها الآن، فإذا لم أجده فيها عدت إلى مكمني في الفندق.
قال هذا وخرج من الفندق والفجر يكاد ينبثق، فسار في طريق الغابة والرقيب في أثره، حتى إذا وصل إليها شعر بنعاس لا يقاوم فقال لا يشفيني من هذا النعاس غير الاستحمام في البحيرة.
وسار إليها ولكنه قبل أن يبلغها ببضعة أمتار غلبه النعاس فنام بين الأدغال، واختبأ الرقيب بالقرب منه ليعلم ماذا يفعل بعد أن يستفيق.
لنعد إلى داغير؛ فإنه حين رجع إلى منزله كان منهوك القوى؛ فإنه لم يكن يستطيع السير بعد، غير أنه كان واثقا أن الخطر يدنو منه كل يوم، وأنه لا رجاء له بالنجاة إلا إذا تمكن من الفرار، وكيف يهرب دون أن يأخذ المال الذي سلبه من فولون وخبأه في الغابة؛ فإنه لم يرتكب جريمة القتل إلا لهذا المال.
ولم تكن الغابة تبعد أكثر من ساعة، ولكن هيهات أن يستطيع الوصول إليها ماشيا، فافتكر أن يذهب راكبا، ودعا الخادم فأمر أن يعد له مركبة الصيد في الساعة السادسة من الصباح.
ونام ليلته وهو شديد الجزع، وفي الصباح ركب المركبة وحده، وكان هو يسوقها ودفعها إلى الغابة، بينما كان كلوكلو نائما بين الأدغال والرقيب ساهرا مختبئا ينظر إليه من حين إلى حين.
ولما وصل إلى الغابة ومر بالمكان الذي قتل فيه فولون أغمض عينيه بالرغم عنه، وضرب الجواد بالسوط كي يسرع السير ويبعد عن هذه الذكرى، كأنما العواطف الإنسانية عادت إلى قلبه الوحشي، وعطف إلى جهة البحيرة حتى وصل إلى الأدغال المحدقة بها، فأوقف المركبة ومشى بين تلك الأدغال.
كان الرقيب مختبئا بين تلك الأدغال يراقب كلوكلو كما قدمنا، وفيما هو على ذلك سمع وقع خطوات، فالتفت إلى كلوكلو فوجده لا يزال نائما، فقال في نفسه: ترى من يكون هذا القادم؟ فإني إذا بقيت في موضعي لا أراه، وإذا خرجت أخاف أن يراني. وقد التفت عند ذلك إلى كلوكلو فرآه قد فتح عينيه، وأنه ينظر محدقا إلى جهة البحيرة، وقد برقت عيناه، فقال في نفسه: لا شك أنه يحدث ما يدعو إلى انذهال كلوكلو، ولا بد لي أن أرى ما يجري.
وقد أزاح عند ذلك بملء العناية فرعا غليظا كان يحول بينه وبين الطريق، فرأى رجلا يسير إلى البحيرة لم يستطع أن يعرفه؛ لأنه لم يكن يرى غير ظهره، حتى إذا وصل إلى المياه نظر إلى ما حواليه نظرة الفاحص الخائف، ونزل إلى تلك المياه فبلغت إلى ركبتيه، فدهش الرقيب مما رآه ونظر إلى كلوكلو فرآه يكاد يفترس داغير بنظراته، فقال في نفسه: لماذا كلوكلو ينظر إليه هذه النظرات؟ وأي شأن لهذا الرجل في البحيرة، وهو يمشي فيها دون أن يخلع نعليه؟ وما عساه يجد هناك غير الضفادع؟
ثم اختلف المنظر فجأة فرأى أن داغير قد ارتعش ارتعاشا عنيفا؛ فإنه التفت اتفاقا وهو يسير في المياه فرأى كلوكلو مضطجعا بين الأدغال وهو ينظر، فكان ارتعاشه من التقاء النظرات.
ولكنه ملك نفسه بسرعة، وبعد أن وقف بضع ثوان في البحيرة عاد إلى الشاطئ، وجعل يسير باحثا في التراب، كأنه يقتفي أثر طريدة يطاردها، ثم خرج من بين الأدغال وتوارى عن الأنظار، فركب مركبته وانصرف عائدا إلى المنزل وهو على حالة من الاضطراب لا تصفها الأقلام؛ فإنه لو لم ير كلوكلو ينظر إليه لأخرج المال الذي دفنه في البحيرة وافتضح أمره؛ إذ لا برهان على الجناية أمتن من هذا البرهان.
غير أنه أخذ يبحث في الحادثة بحثا مدققا فاطمأن؛ إذ قال في نفسه: إما أن يكون كلوكلو جاء إلى هنا ليصطاد، وإما أنه أتى لينام، وهو في الحالتين غير عالم بشيء من أمر الحقيبة؛ إذ كيف يخطر له أني خبأتها تحت المياه؟ أما انبغاته من اجتيازي المياه فهو أمر طبيعي؛ ولذلك فقد كان خوفي في غير محله.
أما كلوكلو فإنه لبث هنيهة وهو شبه المأخوذ مما رآه، ثم خطر له أن يقتفي أثره ولكنه سمع صوت المركبة تسير به فسار إلى المكان الذي مشى فيه داغير من البحيرة، واقتدى به فنزل إلى المياه، ومشى في نفس طريقه دون أن يعلم سر نزوله إلى الماء، ثم عاد وجلس على الضفة وأخذ يفتكر بحل هذا اللغز.
وعند ذلك قطع الرقيب غصنا ورماه عند قدمي كلوكلو فوقف منذعرا، والتفت إلى ورائه فرأى الألزاسي صاحبه بالأمس يضحك مقهقها ويقول له: ماذا تصنع هنا أيها الرفيق، ألعلك تصيد الضفادع؟
فاصفر وجهه من الغضب وذكر أنه هو الذي أسكره بالأمس، فقال له: وأنت ماذا تصنع هنا بدلا من أن تكون نائما في الفندق؟
قال: إني أتنزه. - وفي مثل هذه الساعة يتنزهون؟ - هي عادة قديمة جريت عليها. - أأنت هنا من زمن طويل؟ - منذ ساعة بالتقريب.
وقد غمز بعينه إشارة إلى أنه رأى ما حدث، وقال: نعم لقد رأيت ذلك الرجل الذي غاص في البحيرة ورأيتك حين اقتديت به. - إذن أصغ لما أقول. - ماذا تريد أن تقول؟ - أريد أن تذهب من هنا في الحال. - كلا لا أذهب. - أترفض طلبي؟ - نعم. - لماذا؟ - لأن الغابة حرة، ألم تقل لي هذا القول مرة حين كنت تراقبني في الطريق؟
فبرقت عيناه ببارق غريب، وقال له: من أنت؟
قال: أصغ إلي الآن بدورك إذ لم يبق فائدة من التنكر.
وقد نزع شعره المستعار ولحيته، وقال: أنا هوبتسون معاون قاضي التحقيق، أعرفتني الآن؟ - أتم العرفان. - إذن فاعلم أن اتفاقنا بعد ما جرى خير لنا من الخلاف، ولنبحث الآن بحث العاقلين؛ فإن كلينا يسعى لغرض واحد؛ فقد اختاروني لكشف الغامض عن مقتل فولون، فأنا أبحث عن القاتل. - كيف تبحث عنه وهو في السجن؟ - لأن السجين بريء، ولا يسر الدكتور جيرار مثل إظهار براءته، فيجب عليك أن تساعدني على إظهار الحقيقة؛ لأنك تبحث عنها مثلي، وأنت مخلص للدكتور فيما أظن. - نعم، وإني أحبه؛ فقد أنقذ أمي، وأنا وأمه من بلد واحد، ولي أسباب أخرى تدعوني إلى هذا الإخلاص. - لا أسألك أن تكشف لي أسرارك، وإني مخبرك بكل ما عرفته بغية نيل ثقتك؛ فإني أريد معرفة القاتل، وإذا عرفته أكون قد خدمت الموسيو بوفور والذين يحبونه أجل خدمة، فاعلم أن أول ما سعيت إليه معرفة المرضى الذين يعالجهم الدكتور جيرار، ولا بد للوصول إلى هذه الغاية من اقتفاء أثره أينما ذهب، فكنت أنت أيضا تقف لي كيفما ذهبت، وتنبه الدكتور بأناشيد اصطلحت عليها معه. - أعرفت ذلك؟ - دون شك، فاستنتجت منه أن الدكتور لا يريد أن يراقبوه، ولا تستطيع أن تنكر أنكما كنتما على اتفاق. - إذا لم يكن لديك غير هذا البرهان ... - [ هناك] برهان آخر، وهو أنك جئت في صباح اليوم التالي إلى الدكتور، فخلوت به هنيهة، وذهبت إلى الفندق الكائن تجاه منزل بوفور فاستأجرت غرفة فيه، فظهر لي جليا أنك تريد المراقبة، ولكني لم أعرف في البدء من هذا الذي تريد أن تراقبه، إلى أن خرجت من غرفتك لتقفو أثر صياد خرج من منزل بوفور، وكان هذا الصياد داغير كما أخبرني صاحب الفندق، فلماذا قفوت أثره؟ ألعلك أردت أن تسأله صدقة؟ - ما أنا من المتسولين، بل سألته إذا كان يريد أن أصحبه فأخدمه في الصيد. - وقد أبى، بدليل أنك ذهبت وحدك إلى الغابة بالرغم عن شدة ضعفه، فلم يبق لدي شك في أنك تراقب داغير. - أي غرض لي من مراقبته؟ - سوف أخبرك؛ أما مرضه فقد عرفته من صاحب الفندق ومن خادم منزله، ويظهر أن القبض على شريكه وصديقه كان السبب في مرضه. - كيف ذلك؟ - ذلك أنه مرض يوم حدوث الجناية ، وفي ذلك اليوم ذهب الدكتور جيرار لعيادته. - إنك تعرف من ذلك فوق ما أعرف. - ربما، فأصغ إلي يا كلوكلو؛ إن الدكتور جيرار ذهب منذ بضعة أيام إلى قاضي التحقيق وقال له: إن لدي برهانا يثبت براءة بوفور، فقال له القاضي: أتعرف القاتل؟ قال: نعم. قال: من هو؟ قال: لا أستطيع أن أذكره لك؛ لأن هذا السر علمته وأنا أمارس مهنتي، وواجباتي تقضي علي بالكتمان.
فلم يلح عليه بالسؤال ليقينه من أنه لا يجيب، ولكنه دعاني إليه وأخبرني بما سمعه من جيرار، ثم قال لي: إن الطبيب يكتم هذا السر ولكنه لا يستطيع أن يمنعنا عن معرفته بما لدينا من الوسائل، فإذا تمكنا من معرفة القاتل كان سرور الدكتور عظيما؛ لأنه ينجو من تقريع الضمير.
فقال له كلوكلو: أتقسم لي بأنك تقول الحقيقة؟ - أقسم لك بأن كل ما قلته صحيح، وأن الدكتور يعرف القاتل، ولكن واجبات مهنته تقضي عليه بالكتمان. - لقد بدأت أن أفهم. - هل أصبحت تثق بي الآن. - كل الثقة. - يسرني أن تثق بي فإننا إذا عملنا يدا واحدة وصلنا إلى الغرض الذي نسعى إليه. والآن فقد قلت لك كل ما أعلمه، بقي أن تخبرني عن هذا الرجل الذي رأيناه في البحيرة؛ فإني لم أر غير ظهره؛ أليس هو داغير؟ - هو بعينه. - هل تعلم لماذا نزل إلى المياه؟ - كلا. - أتقول الحقيقة؟ - نعم؛ فإن الدكتور أمرني أن أراقبه، وأن أخبره بكل ما يصنع، أما قدومي إلى البحيرة فلأجل أن أغتسل فيها على رجاء أن أستفيق من سكري، فغلبني النوم قبل وصولي إليها، ونمت حيث رأيتني. - ألا ترى ما أراه وهو أن داغير لم يأت إلى البحيرة لغسل ساقيه؟ - دون شك؛ فإن له مأربا، ولكن ما هو؟ - إذا بحثنا فقد نجده، ولو لم يرك وهو في البحيرة لعرفنا ما يريد، وقد أتينا إلى هذه الجهة ليلة القتل وبحثنا بحثا دقيقا فلم نظفر بشيء. - عم كنتم تبحثون؟ - عن أموال فولون المحفوظة في كيس من جلد؛ فإن القاتل لا بد أن يكون خبأها هنا . - لماذا لا يمكن أن يكون قد أخذها إلى منزله؟ - كلا، لأنه أصيب بجرح من مسدس القتيل ونزف منه كثير من الدماء، فخشي أن يغمى عليه قبل وصوله إلى المنزل، فإذا وجد الكيس معه كان ذلك أعظم برهان على جريمته. - أتقول إنه كان جريحا؟ - نعم، وهذا مثبوت من وجود الدم في الطريق. - لقد فهمت الآن كل شيء. - ماذا فهمت؟
فأطرق مفكرا ثم قال: لقد وعدت الدكتور جيرار ألا أفعل شيئا قبل إخباره به، فعدني أننا نخبر الدكتور بما نكتشفه قبل قاضي التحقيق. - إنك تطلب مطلبا صعبا. - وأنا لا أقول شيئا إلا إذا وعدتني هذا الوعد. - لقد رضيت؛ فإني واثق من العثور بالقاتل كيفما اتفق. - إذن فاعلم أني لقيت رجلا ليلة الجناية خارجا من الغابة، ورأيت ثيابه ملوثة بالدم ويده على صدره وهو يمشي ويقع شأن السكران، أتعلم من كان هذا الرجل؟ - داغير؟ - هو بعينه. - إذن لم يبق شك، فهو القاتل. - احذر أن تكون مخطئا باتهامه كما أخطأتم حين اتهمتم بوفور. - كلا؛ فإن جريمة هذا أصبحت واضحة لا متسع فيها للخطأ. - والآن ماذا نصنع؟ - ننصب الفخ الذي لا بد لداغير أن يقع فيه. - إني مستعد لمشاركتك فيما تريد. - ولكن لا بد لنا قبل العمل أن نتحقق من أمر؛ فقد قلت لك إننا بحثنا عن الكيس في الغابة فلم نجده؛ لأنه مخبوء في البحيرة، وإني أراهنك على زجاجة من الخمر ... - لا أقبل هذا الرهان؛ فقد عاهدت ربي ألا أذوق الخمر بعد سكرة أمس. - إذن هلم بنا نبحث؛ فقد أرشدنا داغير إلى الطريق. فوافقه ونزل الاثنان إلى البحيرة، فبحثا بحثا دقيقا دون أن يظفرا بشيء؛ إلى أن صاح كلوكلو صيحة فرح، فقال له الرقيب: ماذا حصل؟
قال: لقد لقيته!
وقد أخرجه من تحت المياه، وهو كيس من جلد محكم الإقفال، فأخذه الرقيب ففتحه؛ فوجد فيه الأوراق المالية بتمامها، وفيه أيضا أوراق تختص بأشغال فيلون.
ولما وثق من ذلك أقفله وأرجعه إلى مكانه.
فدهش كلوكلو وقال: ماذا فعلت؟ - قال: اتبعني أخبرك.
وخرج الاثنان من البحيرة فقال الرقيب: إن البرهان الذي نحتاج إليه لإثبات الجريمة هو هذا الكيس، فإذا أخذناه ذهب البرهان، أما إذا تركناه في موضعه فلا بد لداغير أن يأتي يوما ليأخذه؛ فنقبض عليه متلبسا بالجريمة، ولا بد أن يحضر فإنه لم يقتل إلا للحصول على هذا المال، ولا عبرة في أنه رآك هنا فإنه لو خامره شيء من الريب فيك لهرب من فوره، ولكنه حمل وجودك على محمل الصدفة، فذهب مطمئنا على مهل؛ ولذلك لا بد له أن يعود فهو قد يعود الليلة أو غدا أو بعد أسبوعين. - ونحن ماذا نصنع في انتظار ذلك؟
قال: نراقب هذا المكان في الليل والنهار، ولا أنكر صعوبة العمل فإن هذه البحيرة محاطة بالأدغال، وهو سيطوف بها دون شك باحثا مفتشا حتى يثق من خلو المكان، وهو قد يحضر في الليل، ولكني أرجح حضوره في النهار؛ حذرا من الرقباء الذين تسهل عليهم مراقبته في الظلام. - ولكن كيف نكمن له وأين؟ - إني سأبقى وحدي هنا نحو ساعة. - وأنا؟ - تذهب في البدء إلى الدكتور جيرار. - وأخبره بكل ما حدث؟ - هو ذاك. - وبعد ذلك؟ - تذهب إلى الفندق الذي كنا فيه، وتطلب إلى صاحبه باسمي الحقيقي لا المستعار أن يعطيك معولا وطعاما لأربعة أو خمسة أيام وغطائين من الصوف؛ فإن البرد يشتد في الليل، فننام كل بدوره؛ بحيث يكون واحد منا ساهرا للمراقبة.
فانصرف كلوكلو، وبعد ساعة كان عند الدكتور فأخبره بالأمر، وذهب إلى الفندق لإتمام المهمة، ثم ذهب الدكتور إلى قاضي التحقيق وقال له: أتيت أرجوك وفاء أمر، وعسى ألا أخيب. - بمن يتعلق هذا الأمر؟ - بالموسيو بوفور. - لقد خرج أمره من يدي فلم أعد أستطيع شيئا. - كيف ذلك؟ - ذلك أني أحلت أوراق الاتهام إلى المحكمة، وقد علمت الآن أنها عينت يوم المحاكمة في 5 سبتمبر.
فسقط جيرار على كرسيه واهي القوى وهو يقول: يا للشقاء ألا توجد طريقة للتأجيل؟ - ألعلك تريد أن تبلغ النيابة شيئا جديدا؟ - أما اليوم فلا. - إذن؟ - ألا يمكن أن يظهر القاتل الحقيقي بعد بضعة أيام؟ - لا يزال أمامك ثمانية أيام؛ فإن موعد الجلسة 5 سبتمبر كما قلت لك، فإذا حدث أمر جديد تبلغني إياه، فأجري تحقيقا إضافيا، ثم لا تنس أنك مستدعى إلى المحكمة فتقول ما تشاء. - لا أستطيع أن أقول غير ما يمليه علي ضميري، إذ لا أستطيع أن أغير حرفا من تقريري الطبي، ولكني أقول إني واثق من براءة بوفور. - أما المحكمة فتقول لك هات برهانك. - وبوفور أين هو الآن؟ - نقل إلى سجن بوفيه. - مسكين! ألا تعلم أن الحكم عليه يعد أعظم جناية؟ - وهذه الجناية يكون لك اليد الطولى فيها؛ لأنك تعرف أمورا كثيرة تكتمها. - لا أستطيع أن أفعل شيئا، ألا يمكن التأجيل؟ - يمكن. - كيف السبيل إلى نيله؟ فإن براءة بوفور قد تظهر بعد بضعة أيام. - يجب أن تقدم عريضة إلى المحكمة تطلب فيها التأجيل. - أتجيب بالإيجاب؟ - بشرط أن تذكر سببا وجيها يدعو إلى هذا التأجيل. - ولكن، هذا محال. - والتأجيل أيضا محال.
فخرج جيرار قانطا والدموع تكاد أن تسيل من عينيه لإشفاقه على بوفور.
أما كلوكلو فإنه بعد أن ترك الدكتور جيرار ذهب إلى صاحب الفندق، فأخذ المعول والمئونة وعاد إلى صاحبه فقال له: ماذا تريد أن تصنع بالمعول؟
قال: سأحفر حفرة تجاه البحيرة عمقها متر وعرضها متران، وأجعل سقفها من الأدغال، فيبيت فيها واحد منا للمراقبة، ويبيت الآخر على شجرة من هذه الأشجار الضخمة، فإذا جاء وبحث لا يرى أحدا منا، أما نحن فنراه الواحد من خلال الأدغال والآخر من خلال الأوراق في أعلى الشجرة. - وما نصنع بالتراب الذي سنخرجه من الحفرة؟ - ننقله بسلة الطعام إلى البحيرة.
وبعد ساعتين فرغا من إعداد الحفرة ونقل التراب، فدخل كلوكلو إلى الحفرة وصعد الرقيب إلى الشجرة.
مر على ذلك بضعة أيام كان الاثنان في موقفيهما ليل نهار، فلا يغيب كلوكلو غير ساعة كل يوم ليتفقد داغير فيعلم أنه لا يزال في المنزل فيعود.
أما داغير فإنه لم يكن يخاف غير خطر واحد، وهو أن تدرك جيرار الرأفة لبوفور، فيبوح بما يعلم غير مكترث لواجبه الطبي، فكان يؤثر التعجيل لنجاته من هذا الخطر.
ولم يكن التقاؤه بكلوكلو عند البحيرة قد أخافه؛ إذ حمل وجوده هناك على محمل الصدفة، ولكنه رأى أن يصبر بضعة أيام من قبيل الحذر.
وكان يوم المحاكمة يوما مشهودا غصت فيه القاعة بالحضور، وانقسم الناس إلى قسمين بين مشفق على بوفور وواثق من براءته، وبين ناقم عليه يتمنى إعدامه، وقد دافع المحامون عن بوفور خير دفاع. وسئل جيرار، فلم يزد شيئا على ما كان يقوله لقاضي التحقيق، فإذا سأله الرئيس البرهان على براءة بوفور وجم وظهرت عليه علائم القنوط.
وما زال هذا دأبهم بين أخذ ورد حتى تعالى النهار وقد فرغوا من المحاكمة، وطلب المدعي العام معاقبة بوفور معاقبة القاتل عمدا بإصرار، فلما فرغ المحامون من الدفاع طلب الرئيس إلى المحلفين أن يختلوا ليقولوا كلمتهم في المتهم.
وعند ذلك دخل أحد الحجاب، ودنا من موقف الشهود، فنادى جيرار وقال له: هذه رسالة برقية وردتك الآن يا سيدي. فأسرع إلى فض البرقية وقرأ فيها ما يأتي:
إذا لم يكن الحكم قد صدر بعد فأجلوا المحاكمة، إن بوفور بريء ونحن قادمون بالبرهان.
كلوكلو
فاستوقف جيرار الرئيس وهو على أهبة الخروج وصاح قائلا: مهلا يا سيدي الرئيس، مهلا يا أسيادي المحلفين إلى أن تقفوا على هذه الرسالة.
وقد دفعها إلى المحامي فقرأها مسرعا، وقال: إن هذه البرقية تتضمن ظهور براهين تثبت براءة موكلي، فأنا أطلب باسم القانون توقيف الجلسة.
وقد دفع الرسالة إلى الرئيس فقرأها وقرأها القضاة، وعاد إلى بوفور شيء من النشاط، فسأل المحامي قائلا: من الذي أرسل هذه البرقية؟
قال: إنها موقعة بإمضاء كلوكلو.
وسأل الرئيس جيرار قائلا: من هو كلوكلو؟
قال: إنه رجل من المغنين، ولكنه نبيل العواطف مستقيم السيرة، وأنا أضمن صدق ما يقوله، وقد عهدت إليه بمهمة فأتمها كما أظن، ولا أعلم كيف أتمها ولكن ثق يا سيدي الرئيس أن هذه الرسالة عظيمة الخطورة.
فلم يجد الرئيس بدا من توقيف الجلسة، واشتد الهرج بين الناس، وقد مضى ساعتان دون أن يرد نبأ جديد.
ونحن موردون للقراء تفصيل ما حدث خلال محاكمة بوفور.
كان الرقيب وكلوكلو مواظبين على الحراسة لا يملان منها، ولا سيما أن كلوكلو اضطر مكرها إلى الحنث بيمينه وعاد إلى معاطاة الخمر، غير أنه بدأ يخامره الشك بعودة داغير خلافا لرفيقه؛ فقد كان اعتقاده ثابتا لا يتزعزع.
وكان يعلل تأخر داغير عن الحضور إلى البحيرة بقوله: إنه ينتظر يوم المحاكمة فيشغل الناس عن مراقبته بحضورها، ولا سيما جيرار فإنه سيكون من الشهود.
ففي اليوم المعين للمحاكمة قال لرفيقه ادخل إلى الحفرة وسأصعد أنا إلى الشجرة، فإذا رأيته قادما نزلت وأتيت إليك. وأقام كل في مكمنه إلى أن انتصف النهار، فرأى الرقيب من أعلى الشجرة مركبة تتوغل في الغابة قادمة إلى البحيرة، فأيقن أنها مركبة داغير، وأسرع بالنزول فدخل إلى الحفرة؛ حيث كان كلوكلو، وغطاها بالسقف الذي صنعه من الأدغال وشده بالخيوط؛ فجعله قطعة واحدة.
وأقاما ينتظران وقد حبسا أنفاسهما، وبعد هنيهة سمعا صوت المركبة، ثم علما أنها وقفت، ثم سمعا وقع خطوات داغير وقد مر بقرب الحفرة باحثا بين الأشجار والأدغال كي يستوثق من خلو المكان.
فلما استوثق تنفس الصعداء وذهب توا إلى البحيرة فخاض فيها، وعند ذلك رفع الرقيب سقف الحفرة قليلا وجعل يراقبه، فرآه قد مد يده إلى المكان المخبوء فيه الكيس فأخرجه من المياه، وقد برقت عيناه ببارق غريب، فحمل كنزه وخرج به من البحيرة، فسار مسرعا إلى المركبة وهو يحسب أنه نجا بكيسه؛ والحقيقة أن هلاكه كان بهذا الكيس؛ فإنه قبل أن يصل إلى المركبة شعر بأياد قد قبضت عليه من الوراء، فألقى الكيس إلى الأرض، والتفت فرأى كلوكلو والرقيب وهو يعرفهما، فهزهما بكل ما لديه من القوى بحيث تمكن من الإفلات وأطلق مسدسه فأصاب كلوكلو.
ولكنه قبل أن يتمكن من إطلاق النار على الرقيب هجم عليه هجوم المستميت، فانتزع المسدس من يده وضربه بقبضته على رأسه فصرعه وأغمي عليه لضعفه، فاغتنم الرقيب هذه الفرصة وقيد يديه ورجليه بقيد البوليس المعروف.
ثم أسرع إلى كلوكلو ليتفقده، فقال له : ألعلك جريح؟
قال: نعم، ولكن أظن أنه جرح بسيط.
فكشف عن الجرح فوجد أن رصاصة داغير قد اخترقت لحم كتفه دون أن تكسر العظم، فغسله بماء البحيرة وربطه بمنديله، وقال له: هل تتألم كثيرا؟
قال: لا تهتم بي؛ بل بذلك السفاك.
وكان داغير قد استفاق من إغمائه وحاول أن ينهض، فشعر أنه مقيد، وكادت عيناه تخرجان من وجهه.
أما الرقيب فقد وقف أمامه وجعل يضحك، فقال له داغير: ماذا تريد مني؟
قال: لا شيء سوى أن أقبض عليك. - لماذا تقبض علي؟ - لتذهب إلى محكمة الجنايات يوم القبض عليك، وتحاكم في اليوم نفسه، وهذا من غرائب التوفيق. - لا شك أنك من المجانين أو أنك طامع بمالي، فإذا كان هذا قصدك فخذ المال وأطلق سراحي. - هلم بنا؛ فإن الوقت أقصر من أن نضيعه بهذه المباحث التافهة.
فسأل كلوكلو قائلا: ماذا نصنع؟
قال: نذهب في البدء إلى قاضي التحقيق فنريه القاتل والكيس الذي خبأه في البحيرة، ثم نرسل برقية إلى جيرار لتطلع عليها المحكمة لتوقف الحكم إذا كان لم يصدر بعد، ثم ننهب الأرض بمركبة داغير إلى المحكمة لنبسط ما لدينا من البراهين.
أما داغير فقد خارت عزائمه وأيقن أن كل ذلك من صنع جيرار، فحملاه إلى المركبة وسارا به إلى كربل فأرسلا البرقية التي اطلع عليها جيرار في المحكمة، ثم ذهبا إلى قاضي التحقيق وأخبراه بما كان، فجاء بداغير وقال له: أأنت قاتل فولون؟
فضحك ضحك المستهزئ دون أن يجيب.
فقال له: خير لك أن تقر فقد ترحمك المحكمة. - قال: لا أفهم كلمة مما تقول؛ فإن جميع أهل البلد يعرفونني ومن يتهمني بالقتل يتهمونه بالجنون.
فأمر القاضي أن يأتوه بجنديين، وأمرهما أن يسيرا في حراسة القاتل، ثم قال: اصبروا إلى أن أكتب تقريرا كافيا تسلمونه إلى رئيس المحكمة، والآن حلوا قيود المتهم، فامتثلوا وسأله قائلا: ألا تزال مصرا على الإنكار؟
قال: كيف يكون جواب البريء؟ أما كيس النقود فقد خبأته في البحيرة، وهو لي. - ولكن الغريب أنه مكتوب عليه الحرفان الأولان من اسم القتيل، وفيه رسائل باسم فولون، ألا تزال بعد هذا البرهان مصرا على الإنكار؟ - نعم. - لم تبق فائدة من ضياع الوقت في استنطاقك، ولكن القتيل رماك برصاصة من مسدسه فأصابك؟ - هذا كذب. - انزع ملابسك لنرى. - لا أريد، ولا يحق لك أن تتهمني. - إني واثق من أنك القاتل فلا ألح عليك، وإن الذي أبيت أن تفعله هنا ستفعله هناك في المحكمة.
وقد كتب تقريره فختمه، وقال لمعاونه يجب أن تسلم هذا التقرير حين وصولك إلى الرئيس، والآن فاذهبوا بسلام.
فشدوا وثاق داغير وذهبوا به إلى المحكمة.
وكان الرئيس قد سئم الانتظار وأمر بإعادة الجلسة، فدخل الناس أفواجا، ووقف بوفور في مكان المتهمين وجلس جيرار في مكان الشهود، فأمر الرئيس أحد الحجاب أن يدخل إليه معاون قاضي التحقيق.
فارتعش جيرار مسرورا؛ إذ كان يعلم أن هذا المعاون رفيق كلوكلو، ودخل المعاون فقال له الرئيس: من أنت؟
قال: إني أدعى بنسون، وقد عهد إلي رئيسي قاضي التحقيق في كربل أن أهتم بقضية فولون. - ماذا تريد أن تقول؟ - لدي أشياء خطيرة وبراهين لا تدحض، ولما كان لي شريك بالوصول إلى هذه النتيجة فإني ألتمس من حضرة الرئيس أن يأمر بإدخاله فيسمع قولنا، وهذا الشريك يدعى كلوكلو.
فأمر الرئيس بإدخاله، فدخل وأحدقت به الأنظار، وقد كان مصفر الوجه كثير التألم من جرحه، فحيا تحية الجنود القدماء وبشكل أضحك الحاضرين، وأمرهما الرئيس أن يتكلما، فرويا له كل ما عرفه القراء بالتدقيق.
حتى إذا فرغا من أقوالهما أمر الرئيس بإدخال داغير، فقال له بعد الأسئلة المعتادة: إنك متهم بقتل الموسيو فولون وإعداد الكمين له بغية سرقته.
قال: إنها تهمة زور. - إنك تنكر وقد قبضوا عليك ملتبسا بالجريمة؛ إذ كيف تجيب عن وجودك في البحيرة وإخراج الكيس منها ومجيئك إليها مرتين؟ - لا أجيب بشيء سوى أني بريء فما أنا القاتل، وهذه البراهين التي تظهرونها غير كافية. - لقد ثبت لنا أن فولون جرح قاتله وأنت جريح من مسدس؛ فماذا تقول؟ - أقول إن هذا غير صحيح.
فأمر الرئيس اثنين من الجندرمة أن يكشفوا عن صدره فظهر أثر الجرح، وسأل الدكتور جيرار أن يقول رأيه في الجرح، فقرر أنه جرح من مسدس، وأن أثره يدل أنه منذ ثلاثة أسابيع.
فسأله الرئيس قائلا: كيف جرحت؟
قال: كنت أقلب مسدسا فانطلق وأصابتني رصاصته.
فقال جيرار: هذا لا يمكن أن يكون؛ فإن المرء لا يستطيع أن يصيب نفسه في هذا المكان.
فقال الرئيس: أسمعت يا داغير؟ إني أنصحك للمرة الثانية أن تعترف اعترافا تاما إذا أردت أن يرحمك القضاة.
فأطرق برأسه، وقد رأى أنه لم يبق سبيل إلى الإنكار، فقال بصوت أجش: نعم، أنا هو القاتل فاصنعوا بي ما أنتم صانعون.
وعند ذلك انتهت الجلسة، فأخرجوا داغير ودخل المحلفون للمذاكرة في الغرفة المخصصة لذلك، فلم يطل قيامهم فيها، وعادوا، فقال رئيسهم: لقد حكمنا بالإجماع أن داغير مجرم، وحكمنا بالإجماع أن المتهم بوفور بريء، وأنه لا توجد أسباب مخففة.
فأمر الرئيس بإدخال داغير لسماع الحكم واشرأبت إليه الأعناق، فأعطى جيرار خنجرا لبوفور وقال له همسا: أعطه لداغير باسمي؛ فإنك ستقف بجانبه لسماع الحكم.
وتلا الرئيس الحكم، فحكم عليه بالإعدام، ودفع بوفور الخنجر لداغير وقال له: خذه من ولدك.
وكأنما الندم قد ملأ قلبه في تلك الساعة الرهيبة، فنظر إلى جيرار وقال له: اغفر لي، ثم التفت إلى بوفور وقال له: وأنت اغفر لي أيضا.
وقد طعن قلبه بالخنجر قبل أن يتمكن رجال الجندرمة من منعه، فأسرعوا إليه وحاولوا إنهاضه، فقال لهم جيرار: لا فائدة من ذلك فقد مات.
وقد انتهت هذه الرواية كما تنتهي عادة الروايات؛ فإن بوفور غفر لمرسلين وعاش وإياها عيشا حلوا أنساه مرارة الماضي.
وروبير تزوج بمودست بعد انقضاء مدة الحداد.
وأما كلوكلو فقد ضمنوا له رزقه إلى آخر أيامه، ولكنه لم ينقطع عن الشرب والغناء، وهو لا يزال يغني إلى الآن.
Unknown page