Mutalacat Fi Lugha Wa Adab
مطالعات في اللغة والأدب
Genres
يقول الأمير - أعزه الله: «إذا كان لهؤلاء مذهب - أي للجاحظ وعلي بن أبي طالب، فاستعمل «هؤلاء» للمثنى - فلست أنت الذي يأتي بنقيضه.» إذن يجوز أن ينقض ولكن على يد أمير مثله لا على يد صعلوك مثلي. ثم ما باله يصرف النقد عنه إلى الجاحظ وعلي بن أبي طالب وغيرهما؟ أنا لم أتعرض لأحد من هؤلاء، أم لعله يريد أن يحتمي بهم كما احتمى بأديبين من أدباء العصر.
مع إقلاع الأمير عن مذهبه كما ترى من مقابلة رده الأخير بمنشوره إلى العامة ورده السابق، ومع تواضعه في انتحال المذهب الجديد لم يسعه في رده علي إلا أن يظهر بمظهر المحافظين، فقال: «إن الطبيعة البشرية في هذا العصر وفي كل عصر واحدة، وإن الذي قرره علماء الأدب هو المنطقي المعقول الملازم للبشرية، الذي ليس فيه قديم وجديد؛ لأن العقل ليس فيه قديم وجديد. إذا كان هذا مذهبك أيها الأمير - ولا أخال أحدا يقرك عليه - فقد انقطع الجدال وكفى الله المؤمنين القتال، وصار يحق لي الآن أن أقول: «لك مذهبك ولي مذهبي»، وإنهما لمختلفان جدا، ومن المستحيل أن أقنعك، ومن المستحيل أن تقنعني، وما أحراني أن أقف هنا وأترك بقية تعليقاتي على ردك.
العربي شرط لازم في القديم والجديد1
قرأت في جريدة «السياسة» فصلا عنوانه: «القديم والجديد» لأديب لم أعرف اسمه؛ لأنه لم يضع إمضاءه تحت ما كتبه، ولا أعلم هل يقصد من إبقائه رسالته غفلا هكذا أنه يتكلم بلسان «السياسة»، وكل ما يرد فيها بدون إمضاء يعتبر منسوبا إليها أم هناك وجه آخر؟
أنا لم أقل في وقت من الأوقات إنه لا يوجد أسلوب جديد، وإنه يحرم على الناس التجدد، وإنه إن جاز في شيء فلا يجوز في البيان، وإنما قلت إن لكل لغة أسلوبا أصليا أو نصابا معروفا لا بد من المحافظة عليه، وليس هذا خاصا بالعرب وحدهم. وإن اللغة العربية يمكنها أن تسع من المعاني الجديدة ومن المواضيع العصرية كل ما يعن للكاتب ويتوخاه المؤلف مع مراعاة ديباجتها الأصلية التي إن خرج البيان عنها كان عند العرب مستهجنا.
وقلت في موضوع التجدد: إن العقل البشري هو بنفسه لا يتغير؛ بل المعلومات هي التي تتغير، فأما الميزان الذي هو الراجع إليه الحكم بأن هذا صحيح وهذا فاسد، وأن هذا أصح من هذا، فإذا كان قابلا للتغيير فقد بطلت جميع الأحكام. وإن رقم 2 مع رقم 2 مجموعهما أربعة، كان ذلك منذ عشرة آلاف سنة، وهو الآن كذلك وسيبقى إلى ما شاء الله، ولو مضت مائة ألف سنة لا تصير الاثنان والاثنان خمسة.
وإن تناسب الأعضاء أو الأقسام هو الجمال أو الطلاوة استحسنهما الناس من زمان نوح كما استحسنهما الناس اليوم، ولا يمكن أن يصير الحلو مرا والمر حلوا بسبب تغيير الأيام وتجدد الأزمان؛ فالخلق استحلوا العسل من زمان سيدنا آدم ، واستمروا الصاب، ولا يزالون يستحلون هذا ويستمرون هذا إلى هذه الساعة، ولا يجوز أن يغمزوا من أجل ذلك بالجمود والنفور من كل شيء جديد؛ وذلك أن هناك ذوقا خلق في فطرة الإنسان لا يزول إلا بزوال هذه الفطرة أو استئناف فطرة ثانية مباينة للأولى. وليس المراد من ذلك حظر التجدد في الطرق والأساليب والزيادة والنقصان، ومراعاة المكان والزمان والتلون بصبغة الألوان المختلفة، كلا، إن التجدد في هذه العوارض هو مما لم يخل منه زمان ولا قال بمنعه عاقل، كما أن هذا لا يمنع القول بوجود مبادئ ثابتة راهنة لا تقبل التغيير ولا التبديل.
إذن لست ممن يعترضون على أولئك الذين يريدون «أن يأخذوا بحظهم من الحياة ويريدون أن يفهموا الناس ويفهمهم الناس ويعيشون مع الجيل الذي هم فيه دون أن يقطعوا الصلة بينهم وبين الأجيال الماضية»، كلا لأني من هؤلاء القوم أنفسهم لي ماض يشهد لي بذلك، و38 سنة في عالم المطبوعات؛ من أهرام، ومؤيد، ومقتطف، ومقتبس، وجرائد ومجلات عديدة عشت فيها مع الجيل الذي أنا فيه، واجتهدت أن أفهم الناس وأن يفهمني الناس، وجلت في أكثر المواضيع العصرية، وطالما ألبست يدي عند الكتابة قفازا. ولكنني حرصت على أن يبقى أسلوبي عربيا، وأن أقتدي بنغمة السلف في دولة فصاحتهم، وأن لا أقطع علاقتي مع الأجيال الماضية كما يوصي الأديب الذي يكتب في «السياسة»، ولو أردت أن أعيد نشر ما سبق لي في معنى حضارة المعاني في بداوة الألفاظ لظهرت لكل قارئ صحة دعواي هذه.
ولست بمن ينكر أن لكل عصر من الأعصر أسلوبا يمتاز عن غيره متلونا بلون ذلك العصر، ولا بمن يجحد أنه لو تلي الكلام المترجم في زمان بني العباس على أعرابي في الفلاة أو على من يألف هاتيك الألفاظ والاصطلاحات الجديدة لما فقه منه شيئا. إلا أنني أقول إن ذلك النسق لم يفارق نصاب اللغة، وأن للنزوع إلى الجديد حدا ينبغي أن يقف عنده، وهو الحد الذي لا يخرج به عن روح العربية ولا عن طريقة القوم أفصح وأبلغ ما كانوا.
وأما كون كل قديم في الأصل جديدا، وكل جديد سيعود قديما، فقد سبق إلى هذا الشاعر القائل:
Unknown page