Mutalacat Fi Lugha Wa Adab
مطالعات في اللغة والأدب
Genres
وقال في موضع آخر: «ولولا خوفي أن أمل القارئ الكريم وأن أشغل من صفحة الأدب على حسابي ما لا يجوز لي أن أشغله لحللت تلك الأقوال وأظهرت أنها لا تعني ما يريد الأمير أن تعنيه لأنها لم تزد على أن للإيجاز مقاما وللإطناب مقاما» إلى أن يقول: «ولو فرضنا أنها تعني ما يريد فأرجو أن أنبه من الأمير غير غافل إلى أننا نتكلم عن مذهب جديد لا مذهب قديم.»
لا، بل والله كنت غافلا عن أنك صاحب مذهب، ولم يخطر ببالي أن أسلوب الجاحظ صار قديما باليا وأن مثلي ومثلك صرنا مجددين في اللغة. لا تحمل كلامي محمل التهكم فليس بتهكم أن يقال لك: لست بالجاحظ ولا علي بن أبي طالب، وإذا كان لهؤلاء مذهب فلست أنت بالذي يقدر أن يأتي بنقيضه ... فاربع على ظلعك ولا تركب في غير سرجك، فلسنا وإياك من تلك الطبقة. أما قوله إنه لو شاء لحلل تلك الأقوال وأظهر أنها لا تعني ما أريده ... إلخ، فليت شعري ماذا تعني تلك الأقوال؟ وقوله: «فهي في واد ومسألتنا في واد» فأي واد نحن فيه غير هذا الوادي؟ أنكر جواز استعمال المترادف مطلقا فأوردنا له نقطة من بحر من كلام الأئمة الذي فيه ما فيه من المترادف. زعم أن للإطناب مواطن غير المواطن التي أطلنا فيها فأوردنا له النصوص والشواهد التي هي مثل فلق الصبح على كون الإطناب مألوفا في المناشير العامة - التي هي في موضوع منشورنا إلى الأمة العربية - فكيف تكون تلك الشواهد في واد ومسألتنا في واد؟ ورحم الله القائل:
وليس يصح في الأفهام شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل
وقال: «اعتمد الأمير في رده على أصول اقتبسها من كلام صبح الأعشى، وعلى شواهد اقتبسها من أقوال من يسميهم بلغاء وفصحاء.»
أنا اعتمدت على أصول البيانيين التي وردت في صبح الأعشى وغير صبح الأعشى؛ لأن الأصول أصول أينما وجدت، فهل يريد أن نأتي له بنصوص أخرى من غير صبح الأعشى على أن للإطناب مقاما وللإيجاز مقاما، وأن التأكيد غير منكر في المناشير العامة، لا، بل الإيجاز فيما يخاطب به الجمهور مخالف لشروط الكتابة. أنا استشهدت في ردي السابق بكلام الرسول
صلى الله عليه وسلم
وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية وأبي عبيدة وزياد ابن أبيه والحجاج بن يوسف وعبد الملك بن مروان وسعيد بن عثمان بن عفان والزرقاء الهمدانية وأم الخير البارقية ثم الجاحظ وعلي بن الجهم وبديع الزمان والخوارزمي وابن خلدون والصابئ، وغيرهم. وهذا ما حضرني قبسة عجلان. أفهؤلاء الذين يقول صاحبنا «من يسميهم بلغاء وفصحاء» أي إنني أنا أسميهم بلغاء وفصحاء والحقيقة أنهم ليسوا كذلك.
نشدت الله كل قارئ منصف أليس مراد الأديب السكاكيني بقوله: «من يسميهم بلغاء وفصحاء» أنني أنا وحدي أسمي هؤلاء الرجال المار ذكرهم بلغاء وفصحاء وأنه لا يسميهم كذلك إذ لا يجد لهم بلاغة ولا فصاحة؟ لا جرم أن هذا هو مراده بهذه الجملة وكان الأولى أن أمسك القلم عن مناظرته من بعد هذا ولكنني أكمل هذا الفصل ليزداد القراء بصيرة بالأمر وبعد ذلك أترك هذا العناء في مناظرة من لا يعجبه إلا رأيه. وقال: «فأحالني على صبح الأعشى في كلامه على التفاضل بين المساواة والإيجاز والإطناب. ليسمح لي الأمير أن أتجرأ على فضله فأقول لا تفاضل بينها ؛ لأن كلا منها غير الآخر ولأن لكل محلا لا يجوز أن يحل فيه غيره.»
والله قد أعيتني الحيلة، ما أصنع لأقنع مناظري بالعدول عن هذا المراء الذي لا يليق بأديب مثله. أعيد ما قلته بحرفه بعد إيراد النصوص. «إذن ليست هناك مسألة تطويل ممل وإيجاز مخل؛ بل مسألة الإيجاز في محل الإيجاز، والإطناب في محل الإطناب، فإذا خوطب الحكماء والعظماء والملوك بالكلام المشبع المبسوط المؤكد كان ذلك خللا بأصول الكتابة، ومنافيا للذوق السليم، كما أنه إذا خوطب الجماهير الذين لا تجد فيهم خاصيا إلا كان بجانبه ألف عامي بدقائق من البلاغة وإشارات وكنايات تقتضي إعمال الفكر، ولا يدرك الجمهور مغزاها كان ذلك مخالفا لآداب الكتابة، وفات الغرض المقصود من الخطاب. نعم كان العرب يميلون إلى الإيجاز، ولكن كانوا يميلون أكثر إلى وضع الشيء في محله.»
Unknown page