Mutalacat Fi Lugha Wa Adab
مطالعات في اللغة والأدب
Genres
ومن كلام الزرقاء بنت عدي بن قيس الهمدانية يوم صفين أيضا: «أيها الناس، ارعووا وارجعوا؛ إنكم أصبحتم في فتنة، غشتكم جلابيب الظلم، وجارت بكم عن قصد المحجة، فيا لها فتنة عمياء صماء بكماء، لا تسمع لناعقها، ولا تسلس لقائدها.»
وقال سعيد بن عثمان بن عفان حين دخل على معاوية: «ائتمنك أبي واصطنعك حين بلغك باصطناعه إياك المدى الذي لا يجارى والغاية التي لا تسامى ... إلخ.» فقال له معاوية: «أما ما ذكرت يا ابن أخي من تواتر آلائكم علي وتظاهر نعمائكم لدي فقد كان ذلك ووجب علي المكافأة والمجازاة.» ا.ه.
فانظر أيها القارئ إلى: المدى الذي لا يجارى، والغاية التي لا تسامى، وإلى: تواتر الآلاء وتظاهر النعماء، وإلى: المكافأة والمجازاة، هل ترى في هذا الترادف فرقا عن: «ترامت به عن منبته الأقطار وتباينت به عن أهله الأوطان والأوطار» أم أسلوب سعيد بن عثمان ومعاوية بن أبي سفيان غير عربي؟
والعربي هو أسلوب الأستاذ صاحب مقالة التطور! الذي هو مع هذا كله ينسى أنه قال في هذه المقالة ما يأتي: وانتقل من حالة الخشونة والبربرية والجهل إلى حالة الظرف والأنس والمعرفة، فما هو يا ترى ذلك الفرق العظيم بين البربرية والجهل، وبين الظرف والأنس، وما هو البون بين هذه المترادفات هنا، وقوله أحزنني وأمضني وأقض مضجعي على فرض ورودها على الشكل الذي أورده.
وكنا نحب أن نطلع على كتابات هذا الفاضل ونقرأ له أكثر من مقالة واحدة (كذا)؛ لننظر هل تمكن من جعل كلامه كله من قبيل (كلا ولا)؟ وهل راعى شروط الاقتصاد الذي يقتضيه هذا الزمان؟ وهل أفرغ جميع فصوله في قالب تلغرافات؟
فليعلم أن الاقتصاد في غير موضعه هو تبذير وتفريط وهو أشبه باقتصاد من يهمل استدعاء الطبيب وشراء العلاج حبا في التوفير فتطول علته ويتعطل عمله ويخسر أضعاف ما وفر. وكذلك لغة التلغرافات تبقى إلى الأبد لغة تلغرافات لا تصلح لتفصيل مجمل ولا للإحاطة بموضوع ولا لشفاء غليل من مبحث. ومن قرأ كتب الغربيين وطالع مقالاتهم اليومية وسمع محاضراتهم المستمرة علم أنهم يذهبون مذهب التطويل أكثر منا، وأن لا وجه للمقايسة بيننا وبينهم في الإطناب والشرح.
وربما يعترض بأن تطويلهم هذا إنما هو لتوفية الجزئيات حقها وإيضاح الغوامض وتشريح الدقائق العلمية حال كون العرب إنما يعيدون المعنى فيقولون: أمضني وأرمضني وأقلقني وأقض مضجعي. والجواب ماذا نقول في كتب القصص «الرومان» التي تصدر بالألوف وليس فيها شيء من المباحث الفنية، نجد الكاتب إذا أراد أن يصف لك أقل منظر أو أدنى حادث أو أخف حالة نفسية لم يزل يعيد لك المعنى ويصقله ويقربه إلى الفهم ويبدي فيه ويعيد حتى تمر الصفحات بعد الصفحات وأنت لم تزل في ذلك المعنى نفسه. أفهذه لغة التلغرافات؟!
ولنأت لك بشيء من كلام الجاحظ الذي كان يعرف أن يكتب العربية ... قال في وصف الكتاب: «نعم الأنيس ساعة الوحدة، ونعم المعرفة ببلاد الغربة، الكتاب وعاء ملئ علما وظرف حشي ظرفا.» ثم يقول: «فما رأيت بستانا يحمل في ردن وروضة تنقل في حجر.» ثم يقول: «ولا أعلم جارا أبر، ولا خليطا أنصف، ولا رفيقا أطوع، ولا معلما أخضع، ولا صاحبا أظهر كفاية وعناية، ولا أقل إملالا ولا إبراما، ولا أبعد عن مراء، ولا أترك لشغب، ولا أزهد في جدال، ولا شجرة أطول عمرا ولا أطيب ثمرا، ولا أقرب مجتنى ولا أسرع إدراكا، ولا أوجد في كل إبان من كتاب. ولا أعلم نتاجا في حداثة سنه وقرب ميلاده، ورخص ثمنه وإمكان وجوده، يجمع من التدابير العجيبة والعلوم الغريبة، ومن آثار العقول الصحيحة ومحمود الأذهان اللطيفة.» إلى أن يقول: «ولو لم يكن من فضله عليك وإحسانه إليك إلا منعه لك من الجلوس على بابك ونظرك إلى المارة بك ... إلخ.» إلى أن يقول: «ولولا ما رسمت لنا الأوائل في كتبها، وخلدت من عجيب حكمها، ودونت من أنواع سيرها حتى شاهدنا بها من غاب عنا وفتحنا بها كل منغلق علينا ... إلخ .»
ثم يقول في جواب شرط: «علم أن ذلك أتم وأبلغ وأكمل وأجمع.» ويقول في محل آخر: «فرأى الكتاب أبهى وأحسن وأكرم وأفخم.» ويقول في مكان آخر: «وربما كان الكتاب هو المحفور إذا كان ذلك تاريخا لأمر جسيم أو عهدا لأمر عظيم كما كتبوا على قبة غمدان وعلى باب قيروان.» ويقول أيضا: «ويضعون الخط في أبعد المواضع من الدثور وأمنعها من الدروس.»
ويقول: «وأهل العلم والنظر وأصحاب الفكر والعبر والعلماء بمخارج الملل وأرباب النحل وورثة الأنبياء وأعوان الخلفاء يكتبون كتب الظرفاء والملحاء وكتب الملاهي والفكاهات وكتب أصحاب المراء والخصومات ... إلخ.»
Unknown page