Mutalacat Fi Lugha Wa Adab
مطالعات في اللغة والأدب
Genres
ثم أخذ قول حافظ:
أيأذن لي المليك البر أني
أهنئ مصر بالأمر الكريم
فقال: «أترى فيه لفظا من ألفاظ الشعر أو معنى من معاني الشعر؟» مما يستفاد منه أن الشعر قد يكون شعرا بلفظه، وقد يكون شعرا بمعناه، وقد يكون شعرا بهما معا، فما هي ألفاظ الشعر؟ وما هو جنس المعاني الذي يكون به الشعر شعرا؟ إلى غير ذلك مما لا نشك أن الأستاذ من أقدر الناس على التبسط فيه، ولعل وقته يتسع له إن شاء الله.
اللغة العربية في نهضتها الأخيرة1
لم تستيقظ الأمة العربية منذ جيل أو أقل من سباتها الطويل، إلا وقد انقطع عهد الألسنة باللغة الفصحى، ولم يبق من صلة بين الأمة والسلف الصالح إلا ألفاظ قليلة تبدلت مقاطعها وتغيرت هيئاتها، وإلا تعبيرات مشوشة مختلة.
ولو أن داعيا دعا في ذلك العهد إلى استبدال اللغة العامية من الفصحى، واعتمادها في الكتابة لم يجد من ينكر عليه ذلك؛ لأن الأمة بأسرها كانت غريبة عن اللغة الفصحى وآدابها، فكيف تتعصب لها وتذود عنها وهي لا تعرفها؟ وفوق ذلك لم يكن التعليم في يدها، بل كان في يد غيرها.
ولكن من حسن حظ هذه اللغة أن جعل التعليم بها، وكان أول ما فعله أولئك الرؤساء الغرباء الكرام أن جمعوا ما وصلت إليه أيديهم من الكتب العربية - وكانت مبعثرة هنا وهناك لا يعرف أحد قيمتها - وأوعزوا إلى من استعانوا بهم من الأساتذة أن يتصفحوها ويستقروا ألفاظها، ويستخرجوا مخبآتها بحيث كانت النهضة لأول عهدها لغوية.
ومن تصفح أول ما وضع من الكتب المدرسية في اللغة والرياضيات والجغرافيا والهيئة والطبيعيات والطب وسائر الفروع؛ رأى من صنع أولئك المؤلفين أنهم حرصوا كل الحرص على اقتباس ألفاظ القدماء العلمية والفنية، ومع تقصيهم في التنقيب والاستقراء لم ينزلوا من اللغة العربية منزلة أهلها؛ بل كانوا منها مكان الغرباء عنها، عرفوا الشيء الكثير من ألفاظها وتراكيبها وأحكامها، ولكنهم لم يحسنوا استعماله واستثماره، فكنت ترى كتاباتهم خليطا من الفصيح والركيك، والجيد والرديء، فالفصيح والجيد مما ينسخونه، والركيك والرديء مما يمسخونه؛ بل ما كان أشبه اللغة الفصحى عندهم باللغة اللاتينية أو اليونانية عند الغربيين اليوم؛ يأخذون منهما ألفاظهم العلمية والفنية وهم غرباء عنهما، وهما ميتتان عندهم.
لم يكن هناك علم لغة أو أدب أو شعر؛ إذ لم يكن اللغوي لغويا إلا على قدر ما يعي في صدره من ألفاظ اللغة وغرائبها وشواردها، فكان أشبه بالحفاظ والرواة منه بالعلماء، ولم يكن الأديب أديبا إلا على قدر ما يغير على ألفاظ المتقدمين فيسردها سردا ويكيلها جزافا، فكان أبرعهم في الأدب من إذا كتب في موضوع نسخ كل كلمة فيه من كلام متقدمي الأدباء والكتاب، ولو سلخ في تفقد اللفظة والتفتيش عنها في مظانها الأسبوع والأسبوعين، فإذا أراد أن يقول: «رجع فلان خائبا» قال: «رجع بخفي حنين»، وإذا أراد أن يقول: «ليس لفلان في الأمر دخل» قال: «لا ناقة له فيه ولا جمل»، وإذا أراد أن يقول: «إن فلانا استقصى أطراف علم كذا» قال: «ملك عنانه وقياده ورسنه» و«له فيه القدح المعلى»، و«إليه تشد الرحال وتضرب أكباد الإبل»، وإذا أراد أن يقول: «إن هذه المسألة لا يختلف فيها اثنان» قال: «لا ينتطح فيها عنزان»، وإذا أراد أن يقول: «إن فلانا يشبه فلانا» قال: «حذوك التمرة بالتمرة، والقذة بالقذة، والغراب بالغراب، والنعل بالنعل»، وإذا أراد أن يقول: «إن فلانا منقطع النظير» قال: «فلان قريع وحده» إذا مدح، و«جحيش وحده» إذا ذم، وإذا هنأ بزواج قال: «بالرفاء والبنين»، وإذا رثى قال: «انقض علي نعي فلان انقضاض الصاعقة» و«ثل بموته عرش المجد ونضب معين الأدب»، وإذا وصف قوما بالإطراق والتفكير، قال: «كأن على رءوسهم الطير»، إلى غير ذلك.
Unknown page