Mutalacat Fi Lugha Wa Adab
مطالعات في اللغة والأدب
Genres
لا تحيا لغتنا إلا إذا كانت لغة التعليم، إلا إذا استعملناها تكلما وقراءة وكتابة، ولا بأس هنا من التفصيل ولو باختصار تتمة للفائدة.
أما التكلم فيجب على الأستاذ أن لا يخاطب تلاميذه إلا باللغة الصحيحة وأن لا يستعمل اللغة المحكية في حال، وإلا انطبعت هذه اللغة المحكية العامية التي يخاطبهم بها على ألسنتهم أكثر من اللغة الصحيحة التي يحاول أن يعلمهم إياها. وإذا كانت أحسن الطرق لاكتساب ملكة اللغة هي مشافهة أهلها ومعايشتهم، وإذا لم يكن هذا العصر عصر فصاحة، فلا بد أن يمثل الأستاذ بنفسه الأمة العربية في عهد فصاحتها؛ ولذلك يجب أن يكون الأستاذ مهذب اللفظ، جميل الذوق، بصيرا بحال الملكة؛ لأن التلميذ يتعلم من لغة أستاذه أكثر مما يتعلم من شواهد كلام العرب. وليس شيء أضر باللغة وأدعى بفساد الملكة من الأستاذ العيي الذي يعلم قوانين اللغة وأصول الفصاحة والبلاغة وهو عامي اللفظ يرمي الكلام على عواهنه. ما أشبه أستاذ اللغة العربية الذي يعلم اللغة الصحيحة ولا يتكلم إلا بالعامية بمن يعلم اللغة الإنكليزية وهو يخاطب تلاميذه بالإفرنسية أو غيرها، وما أحراه أن يفشل. إذا أردت أن تكلف تلميذك القيام أو القعود أو القراءة أو الكتابة فقل له: قم، اقعد، افتح الكتاب، اقرأ السطر الأول، اكتب، امح اللوح، أمسك القلم، فيتعلم الأمر من قام وقعد وقرأ وكتب ومحا وأمسك، ويتعلم أن ينصب المفعول به في: «افتح الكتاب» و«اقرأ السطر» و«امح اللوح» و«أمسك القلم»، من فوره وبدون عناء، ويقيس أمثالها عليها، ولا يفيده شيئا أن يعرف قاعدة بناء الأمر من الصحيح والمضاعف والمثال والأجوف والناقص واللفيف المفروق واللفيف المقرون والمهموز من الثلاثي والرباعي والخماسي والسداسي، ولا يفيده شيئا أن يعرف أحكام المفعول به بحذافيرها، وإنما يفيده أن يسمع غيره يستعمل اللغة على الوجه الصحيح فيقلده، وكذلك يجب على الأستاذ أن يكلف تلاميذه ألا يتكلموا إلا باللغة الصحيحة وهم إذا سمعوها فألفوها ففهموها هان عليهم التكلم بها.
وأما القراءة فهي من أهم مصادر اللغة. أين توجد اللغة؟ اللغة لا توجد في كتب النحو ولا في معاجم اللغة، وإنما توجد في أدبياتها، في أشعارها، في أمثالها، في كتب تاريخ الأمة وأخبارها، في كتب علومها؛ كالحساب والجغرافيا وسائر الفروع، وما أجدر الأستاذ أن يتناول دروسه في القراءة كل هذه الموضوعات لا أن يقتصر على موضوع واحد، وليعلم أن المقصود من دروس القراءة ليس التمرين عليها؛ فإن هذا يكفيه الكتاب الأول في الفصول الابتدائية، وإنما الغرض من دروس القراءة التعرف باللغة والتفقه في تراكيبها وأساليبها ومخالطة عباراتها، ولكل ذلك أصول دقيقة ليس هذا محل التبسط فيها. ليرغب الأستاذ تلاميذه في المطالعة؛ ولذلك يجب أن يكون في كل مدرسة مكتبة صغيرة للتلاميذ تجمع فيها الكتب النقية العبارة، الصحيحة الأسلوب، المنزهة عن العجمة والركاكة والتعقيد. وليحذر أن يجعل في أيديهم تلك الكتب التي توخى فيها أصحابها العناية بالصناعة اللفظية فخرجوا باللغة عن حالتها الطبيعية، فقد آن للأمة العربية أن تخلص من هذا المرض، واحتفاظا برغبة التلاميذ في المطالعة يجب عليه أن ينوع الكتب ويجددها من وقت لآخر.
وأما الكتابة فبعد أن يمرن تلاميذه عليها في الفصول الابتدائية يجدر به أن ينشئ لهم جمعية يقدمون فيها الخطب والمناظرات، ويلقون فيها أجمل ما يستظهرون من القصائد على مثال الأسواق الأدبية التي كان العرب يجتمعون فيها للمفاخرة والمناشدة والمناضلة، كسوق عكاظ في الجاهلية، وسوق المربد في الإسلام، ثم لينشئ لهم جريدة يتولون كتابتها بأنفسهم، ولكن ليحذر من أن يكثروا أبوابها، ومن أن يتقاضاهم أن يطيلوا في مقالاتهم، ومن أن يكتبوا في موضوعات لا يعرفون عنها شيئا؛ فإن ذلك يرهقهم ويسئمهم وينفرهم من الكتابة. •••
ومما لا بد منه استدعاء الانتباه إليه أن كل دروس اللغة من قراءة ومحادثة وإنشاء وإملاء يجب أن تمزج معا، لا أن يؤخذ كل منها على حدة. فكل درس يجب أن يقرأه التلميذ، وأن يفهمه، وأن يتكلمه، وأن يمليه، وأن يتمرن على الإنشاء فيه، فإذا كان درس القراءة القصة التالية:
كان صبي مرة يصيد الجراد فوجد عقربا فظنها جرادة، فمد يده ليأخذها، ثم تباعد عنها. فقالت له: لو أنك قبضتني بيدك لتخليت عن صيد الجراد.
فبعد أن يقرأها التلاميذ ويفهموها، ليكن السؤال والجواب على الوجه الآتي:
ماذا كان الصبي مرة يصيد؟ كان الصبي مرة يصيد الجراد.
ماذا وجد الصبي؟ وجد الصبي عقربا.
ماذا ظن الصبي العقرب؟ ظن الصبي العقرب جرادة.
Unknown page