يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب (39) العقل في الغربة وطن والجهل في الوطن غربة
إن العاقل إذا حل بأرض اختبر أهلها وعرف أهواءهم وأخلاقهم ومجاري رزقهم، فيعرف خزائن خيرها، ويطلبها من وجوهها، ويجاري القوم في أعمالهم، ويتخلق ببعض أخلاقهم، فيميل إلى ما تميل إليه نفوسهم، ويبتعد عما ينفرون منه، فيقبلون عليه، ويرغبون في معاملته، وبذلك يمكنه التمتع بخيرات بلادهم ومزاحمتهم عليها بحسن تلطفه ودهائه، فهو إذ ذاك كأنه في بلاده؛ لقربه من نفوس القوم، وتمتعه بخيرات البلاد التي ربما حرم منها بعض أهلها؛ لجهلهم، وسوء تصرفهم.
هؤلاء العرب في الصدر الأول من الإسلام دخلوا بلاد الأندلس، وهي قاحلة، فجعلوها جنة بجدهم وسداد رأيهم، فانتفعوا من خيراتها بما عجز عن استخراجه أهلها، وأسسوا دعائم الملك، وأقاموا معالم العلم في جميع أنحائها، فدامت عامرة بحكمة ملوكها وعزمهم، حتى إذا استولى عليهم الغرور وحب الترف، وتركوا الأخذ بالحزم، وغلب عليهم الجهل اضمحلت قوتهم وذهب ملكهم كأن لم يكن، فهذه مملكة أسسها العقل والحزم، وهدمها الجهل والعجز.
أما الجاهل فهو في وطنه بعيد عن آراء أهله وأخلاقهم وأهوائهم؛ جاهل بمنابع رزقهم، محروم من خيرات بلاده، ذليل بين قومه، خامل لا يعرفه إلا القليل فهو كالغريب لعدم انتفاعه بخيرات البلاد وبعده عن أحوال أهلها، ولو كان عاقلا لوجد في الغربة عزا وغنى بإعمال الفكرة فيما يفيده، وبلغ آماله، فبئس الداء الجهل، ونعم الدواء العقل. (40) وصف نزول المطر في قرى مصر
إن نزول المطر في القاهرة مما يشوه جمال منظرها، ويجعل الإنسان يكره الخروج من بيته؛ ولذلك كنت أحسب المطر من الأشياء الممقوته، وأعجب من اهتمام العرب به، وتغاليهم في مدحه حتى شبهوا به النوال، ولم أقدر هذه النعمة حق قدرها حتى نظرت نزول المطر في القرى، فإذا هو من أجمل المناظر وأحسنها، فأخذ منظره بمجامع قلبي، وراقتني نضرته، ومالت إليه نفسي التي لم يكد يعجبها شيء من زخارف هذه الحياة، فكان هذا اليوم عندي من أفضل الأيام.
نزلنا من القطار وقد نفدت بدر السماء من دارهم الماء، فانقطع نزول المطر بعد أن كسا الأرض رداء كافوريا، وغسل الأشجار من التراب، فظهرت حلتها الزبرجدية في أبهى مناظرها، فأخذت الغصون تميل طربا بحسنها، وكأنها تشير إلى السماء شكرا لها على ما أهدته إليها من كنوزها النفيسة، وعمت السكينة جميع الأنحاء، وسكن الغبار، واختفت الطيور في أوكارها، فصرنا لا نسمع إلا خرير المياه، واهتزاز الغصون، ووقع حوافر مطايانا التي كانت تثير من عنبر تلك الأرض ما قد تعطر بماء السماء، فما أبهى تمايل النبات على هذا الثرى الذي ابتل بالمطر، فصار كافورا أصفر، ونفحت عليه الأزهار من شذاها، ففاق المسك ريحا ، فكأن الأرض بساط سنجابي مزركش بأنواع الجواهر من زبرجد الغصون، وياقوت الأزهار ودرها، وقد خيم الضباب، واختفى كوكب السماء، فرفعت نجوم الأرض رءوسها؛ لتراه من تحت السحاب.
وما زالت تسير بنا الركاب بين رياض وغدران، كأن ماءها سبائك الفضة حتى انتهينا إلى حيث قصدنا، وبودي لو زاد طول الطريق أضعاف ما كان عليه حتى أتمتع بمرأى تلك المناظر الطبيعية، التي تعجز عنها يد الصناعة، وتشهد لخالقها بالتفرد والقدرة على جميع ما أراد، وتذكرت إذ ذاك حال العرب، وفرط ولوعهم بهذا المطر، بل الرحمة التي أنزلها الله - سبحانه وتعالى - على خلقه، فعلمت أنهم لم يفوا بحق مدحها مع بلاغتهم وحسن بيانهم. (41) من سره زمن ساءته أزمان
كان لأحد الأغنياء ابنة واحدة قد رباها على الترف والدلال، فكانت مخيرة في جميع أعمالها، ليس لأحد عليها سيطرة؛ لذلك شبت لا تعرف شيئا إلا الانغماس في الملاهي، حتى إذا بلغت الثامنة عشرة من العمر حلت بأبيها بعض مصائب ذهبت بأكثر ماله، فمات حزنا وأسفا على أثر ذلك، ولم تلبث والدتها أن تبعته، وتركت الفتاة فريدة في الدنيا، ليس لها من يرشدها سواء السبيل.
فما زالت لاهية عن الزمان مشغولة باللهو واللعب، غير شاعرة بعاقبة إسرافها وتفانيها في الغرور، تلبس من الملابس أغلاها، وتأكل من المآكل أشهاها، حتى نفد ما بقي معها من مال أبيها، واحتاجت إلى اكتساب ما تقتات به، ولما كانت لا تعرف حرفة تعيش بها، اضطرت إلى خدمة الناس.
واتفق أن إحدى جاراتها المثريات علمت وليمة عظيمة، حضر إليها كثير من الفتيات، وحضرت هذه الفتاة الوليمة لمساعدة الخدم، حتى إذا انتهى عملها جلست ناحية تنظر إلى من حضر من المثريات، وزخرفة ملابسهن المختلفة، فتذكرت إذ ذاك حالتها القديمة، وأطرقت إلى الأرض برهة تفكر فيما آل إليه أمرها، فانحدرت الدموع من آماقها، وجعلت تلوم نفسها على ما ضيعته من نفيس وقتها فيما لا يفيد، وبينما هي كذلك إذ دخلت سيدة يحيط بها كثير من الخدم وعليها من الحلي والحلل ما يدل على اتساع ثروتها وعظيم شأنها، فقامت لاستقبالها الحاضرات، وأجلسنها في محل يليق بمقامها الرفيع، ونظرت الفتاة إلى القادمة، وإذا هي فتاة كانت تلميذة معها في المدرسة، وكان أبوها من فقراء الباعة لا يمتلك شيئا إلا رداءه وصندوق بضاعته الحقيرة، فعجبت من ذلك، وأخذت تردد طرفها فيها؛ لتتحقق من معرفتها، ولاحت من السيدة التفاتة، فرأت الفتاة وعرفتها، ولكنها تجاهلت حتى اشتغلت عنها الحاضرات بشيء آخر.
Unknown page