مقدّمة [التحقيق]
الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين في كل حين، وعليه نتوكل وإليه ننيب، نحمده حمد المقر بنعمه المستغفر لذنبه، الراغب بقربه، الراجي لعفوه ﷾ هو الغفور الرحيم.
والصلاة والسلام على المصطفى من العرب والعجم من باتّباع دعوته ننجو من النّقم، نبي الرحمة، البشير النذير والسراج المنير، والداعي إلى الله بإذنه، من أرسله الله بدين الهدى والحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، النبيّ الأميّ الطاهر الأمين، سيد ولد آدم، وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه الغر الميامين ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد عزيزي القارىء.
امتاز الأدب العربي عن سواه من الآداب العالمية بمصنفات جمع فيها مؤلفوها مادة أدبية ليست من إنتاجهم، وأشعارا ليست من نظمهم.
وقد تنوعت هذه المصنفات، فمنها ما اختص بالشعر الجاهلي مثلا، كجمع الزوزني للمعلقات وشرحها، ومنها من اختص بشعر الحماسة كحماسة أبي تمام، ومنها ما اختص بجمع طرائف أخبار النحويين أو الأعراب أو اللغة، أو ما استعجم من الألفاظ. إلخ ...، ومنها ما اختص بجمع أخبار فئة معينة ككتب الجاحظ.
إلا أن هذه الجمع والتصنيف الذي اصطبغ في أكثره بصبغة معجمية تبعه جمع آخر وتصنيف مختلف، فظهرت في فترة لاحقة مصنفات جمعت من كل باب من أبواب الأدب أطرفه ومن كل فن أظرفه.
وقد اختار كل مؤلف ومصنف منهجا عمل من خلاله، لذلك نجد أنه رغم كثرة المصنفات في هذا اللون من ألوان الأدب فإن لكل منها نكهة مختلفة وفي كلّ منها مادة جديدة لم تذكرها المصنّفات الأخرى، مما يجعل كل مصنف منها فريدا في بابه، لا يغني عن سواه ولا يغني سواه عنه.
إلا أن أقرب هذه المصنفات إلى قلوب القراء عبر العصور، وأكثرها تداولا هو كتاب «المستطرف في كل فن مستظرف» الذي أعده وجمع مادته وألّف بين أخباره ونوادره وحكمه ومواعظه شهاب الدين محمد بن أحمد أبي الفتح الأشبيهي.
ولقد لقي هذا الكتاب من عناية المحققين المعاصرين ما جعله يصدر في طبعات كثيرة تتفاوت في قيمتها ودقتها لرغبة القراء في اقتنائه ورغبة الناشرين بإصداره.
1 / 5
لذا رأينا أنه لا بد من تحقيقه على أصول معتمدة لتنقيته من شوائب الأخطاء والتصحيف التي امتلأت بها طبعاته المختلفة، وأنه لا بد أن نقوم على تصحيحه بأنفسنا لكي لا تفسد أخطاء التنضيد ما أصلحناه من شوائب النسخ والتصحيف.
ولم نكتف بذلك، فالكتاب صار في متناول كل يد وكل أسرة، وكل فرد من أفراد الأسرة، وما يقرأه البعض ويستحسنه لا يصح أن يقرأه الكل، وفي الكتاب من الشعر ما لا يستحب نشره فكيف بقراءته لذا قمنا بتهذيب الكتاب وتنقيته فحذفنا ما وجب حذفه دون أن نخل بترتيب الأبواب أو الفصول وهذبنا ما وجب تهذيبه دون أن نفقد الطرفة طرافتها ولا الخبر ظرفه ولا الحكاية معناها وفحواها وهدفها، ثم شرحنا ما يدق معناه ويستغرب لفظه فلم نغرق في شروح تبعد الكتاب عن مقصده ككتاب لإمتاع الأسماع بما لذ وطاب من طرائف الأخبار والأشعار، ويحوله إلى كتاب تعليمي بحت.
إن كل كتاب أدبي هو شاهد على العصر الذي ألّف فيه، وكتاب المستظرف، شاهد على عصره في أخباره وطرائفه ونوادره وأشعاره، وهو مع ذلك ما يزال حيّا يقرأ في كل عصر وكأنه كتب بالأمس القريب.
نأمل أن يحقق الجهد الذي أوليناه لهذا الكتاب غايته، والاهتمام الذي بذلناه هدفه، بنيل إعجاب وتقدير وتشجيع القارىء العزيز، على الله توكلنا وإليه أنبنا هو نعم المولى ونعم النصير.
سعيد محمد اللحام
1 / 6
[مقدمة التأليف]
بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله الملك العظيم العلي الكبير، الغني اللطيف الخبير، المنفرد بالعز والبقاء، والإرادة والتدبير، الحي العليم الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، تبارك الذي بيده الملك، وهو على كل شيء قدير، أحمده حمد عبد معترف بالعجز والتقصير، وأشكره على ما أعان عليه على قصد ويسر من عسير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا مشير، ولا ظهير له ولا وزير، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله البشير النذير السراج المنير، المبعوث إلى كافة الخلق من غني وفقير، ومأمور وأمير، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه صلاة يفوز قائلها من الله بمغفرة وأجر كبير، وينجو بها في الآخرة من عذاب السعير، وحسبنا الله ونعم الوكيل فنعم المولى ونعم النصير.
أمّا بعد: فقد رأيت جماعة من ذوي الهمم، جمعوا أشياء كثيرة من الآداب والمواعظ والحكم، وبسطوا مجلدات في التواريخ والنوادر، والأخبار، والحكايات، واللطائف، ورقائق الأشعار، وألفوا في ذلك كتبا كثيرة، وتفرد كل منها بفرائد فوائد لم تكن في غيره من الكتب محصورة، فاستخرت الله تعالى وجمعت من جموعها هذا المجموع اللطيف، وجعلته مشتملا على كل فن ظريف، (وسميته المستطرف، في كل فن مستظرف) واستدللت فيه بآيات كثيرة من القرآن العظيم. وأحاديث صحيحة من أحاديث النبي الكريم، وطرزته بحكايات حسنة عن الصالحين الأخيار، ونقلت فيه كثيرا مما أودعه الزمخشري في كتابه «ربيع الأبرار» وكثيرا مما نقله ابن عبد ربه في كتابه «العقد الفريد» ورجوت أن يجد مطالعه فيه كل ما يقصد ويريد، وجمعت فيه لطائف وظرائف عديدة، من منتخبات الكتب النفيسة المفيدة، وأودعته من الأحاديث النبوية، والأمثال الشعرية، والألفاظ اللغوية، والحكايات الجدية، والنوادر الهزلية، ومن الغرائب والدقائق، والأشعار والرقائق، ما تشنف بذكره الأسماع وتقر برؤيته العيون، وينشرح بمطالعته كل قلب محزون (شعر) .
من كلّ معنى يكاد الميت يفهمه ... حسنا ويعشقه القرطاس والقلم
وجعلته يشتمل على أربعة وثمانين بابا من أحسن الفنون، متوجة بألفاظ كأنها الدر المكنون، كما قال بعضهم شعرا في المعنى:
ففي كل باب منه درّ مؤلف ... كنظم عقود زيّنتها الجواهر
فإن نظم العقد الذي فيه جوهر على غير تأليف فما الدرّ فاخر وضمنته كل لطيفة، ونظمته بكل ظريفة، وقرنت الأصول فيه بالفصول، ورجوت أن يتيسر لي ما رمته من الوصول. وجعلت أبوابه مقدمة، وفصلتها في مواضعها مرتبة منظمة، ليقصد الطالب إلى كل باب منها عند الاحتياج إليه، ويعرف مكانه بالاستدلال عليه، فيجد كل معنى في بابه إن شاء الله تعالى والله المسؤول في تيسير المطلوب، وأن يلهم الناظر فيه ستر ما يراه من خلل وعيوب، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير، وهذه فهرست الكتاب والله سبحانه المهون للصعاب.
(الباب الأول) في مباني الإسلام: وفيه خمسة فصول، (الباب الثاني) في العقل والذكاء والحمق والذم وغير ذلك. (الباب الثالث) في القرآن العظيم وفضله وحرمته وما أعد الله تعالى لقارئه من الثواب العظيم، والأجر الجسيم. (الباب الرابع) في العلم والأدب وفضل العالم والمتعلم. (الباب الخامس) في الآداب والحكم وما أشبه ذلك. (الباب السادس) في الأمثال السائرة وفيه فصول.
(الباب السابع) في البيان والبلاغة والفصاحة، وذكر الفصحاء من الرجال والنساء، وفيه فصول. (الباب الثامن) في الأجوبة المسكتة والمستحسنة، ورشقات اللسان وما جرى مجرى ذلك. (الباب التاسع) في ذكر الخطب والخطباء، والشعراء، وسرقاتهم، وكبوات الجياد،
1 / 7
وهفوات الأمجاد. (الباب العاشر) في التوكل على الله تعالى، والرضا بما قسم والقناعة، وذم الحرص والطمع، وما أشبه ذلك وفيه فصول، (الباب الحادي عشر) في المشورة والنصيحة، والتجارب، والنظر في العواقب.
(الباب الثاني عشر) في الوصايا الحسنة، والمواعظ المستحسنة، وما أشبه ذلك. (الباب الثالث عشر) في الصمت وصون اللسان، والنهي عن الغيبة والسعي بالنميمة، ومدح العزلة وذم الشهرة، وفيه فصول. (الباب الرابع عشر) في الملك والسلطان وطاعة ولاة أمور الإسلام، وما يجب للسلطان على الرعية، وما يجب لهم عليه. (الباب الخامس عشر) فيما يجب على من صحب السلطان والتحذير من صحبته. (الباب السادس عشر) في الوزراء وصفاتهم وأحوالهم، وما أشبه ذلك. (الباب السابع عشر) في ذكر الحجاب والولاية، وما فيها من الغرور والخطر. (الباب الثامن عشر) فيما جاء في القضاء وذكر القضاة، وقبول الرشوة والهدية على الحكم، وما يتعلق بالديون، وذكر القصاص والمتصوفة وفيه فصول، (الباب التاسع عشر) في العدل والإحسان والإنصاف، وغير ذلك. (الباب العشرون) في الظلم وشؤمه وسوء عواقبه، وذكر الظلمة وأحوالهم وغير ذلك. (الباب الحادي والعشرون) في بيان الشروط التي تؤخذ على العمال، وسيرة السلطان في استجباء الخراج وأحكام أهل الذمة وفيه فصلان. (الباب الثاني والعشرون) في اصطناع المعروف، وإغاثة الملهوف، وقضاء الحوائج للمسلمين، وإدخال السرور عليهم. (الباب الثالث والعشرون) في محاسن الأخلاق ومساويها. (الباب الرابع والعشرون) في حسن المعاشرة، والمودة، والأخوة، والزيارة، وما أشبه ذلك. (الباب الخامس والعشرون) في الشفقة على خلق الله تعالى والرحمة بهم، وفضل الشفاعة وإصلاح ذات البين، وفيه فصلان. (الباب السادس والعشرون) في الحياء والتواضع، ولين الجانب وخفض الجناح، وفيه فصلان: (الباب السابع والعشرون) في العجب والكبر والخيلاء، وما أشبه ذلك. (الباب الثامن والعشرون) في الفخر والمفاخرة والتفاضل والتفاوت. (الباب التاسع والعشرون) في الشرف والسؤدد وعلو الهمة. (الباب الثلاثون) في الخير والصلاح، وذكر السادة الصحابة وذكر الأولياء والصالحين، ﵃ أجمعين. (الباب الحادي والثلاثون) في مناقب الصالحين وكرامات الأولياء، ﵃. (الباب الثاني والثلاثون) في ذكر الأشرار والفجّار، وما يرتكبون من الفواحش والوقاحة والسفاهة. (الباب الثالث والثلاثون) في الجود والسخاء والكرم، ومكارم الأخلاق واصطناع المعروف، وذكر الأمجاد وأحاديث الأجواد. (الباب الرابع والثلاثون) في البخل والشح وذكر البخلاء، وأخبارهم وما جاء عنهم.
(الباب الخامس والثلاثون) في الطعام وآدابه والضيافة وآداب المضيف والضيف، وأخبار الأكلة وما جاء عنهم وغير ذلك. (الباب السادس والثلاثون) في العفو والحلم والصفح، وكظم الغيظ، والاعتذار وقبول المعذرة، والعتاب، وما أشبه ذلك. (الباب السابع والثلاثون) في الوفاء بالوعد وحسن العهد ورعاية الذمم. (الباب الثامن والثلاثون) في كتمان السر وتحصينه، وذم إفشائه. (الباب التاسع والثلاثون) في الغدر والخيانة والسرقة والعداوة والبغضاء والحسد، وفيه فصول. (الباب الأربعون) في الشجاعة وثمرتها والحروب وتدبيرها وفضل الجهاد.
وشدة البأس والتحريض على القتال، وفيه فصول. (الباب الحادي والأربعون) في ذكر أسماء الشجعان، ذكر الأبطال وطبقاتهم وأخبارهم، وذكر الجبناء وأخبارهم، وذم الجبن. (الباب الثاني والأربعون) في المدح والثناء وشكر النعمة، والمكافأة، وفيه فصول. (الباب الثالث والأربعون) في الهجاء ومقدماته. (الباب الرابع والأربعون) في الصدق والكذب، وفيه فصلان. (الباب الخامس والأربعون) في بر الوالدين وذم العقوق وذكر الأولاد وما يجب لهم وعليهم، وصلة الرحم والقرابات، وذكر الأنساب، وفيه فصول. (الباب السادس والأربعون) في الخلق وصفاتهم وأحوالهم، وذكر الحسن والقبح والطول والقصر والألوان واللباس، وما أشبه ذلك.
(الباب السابع والأربعون) في ذكر الحلي والمصوغ والطيب والتطييب، وما جاء في التختم. (الباب الثامن والأربعون) في الشباب والشيب والصحة والعافية وأخبار المعمرين، وما أشبه ذلك، وفيه فصول. (الباب التاسع والأربعون) في الأسماء والكنى والألقاب، وما استحسن منها. (الباب الخمسون) في الأسفار والاغتراب، وما قيل في الوداع والفراق والحث على ترك الإقامة بدار الهوان، وحب الوطن والحنين إلى الأوطان. (الباب الحادي والخمسون) في ذكر الغنى وحب المال والافتخار بجمعه.
(الباب الثاني والخمسون) في ذكر الفقر ومدحه. (الباب الثالث والخمسون) في ذكر التلطف في السؤال، وذكر من سئل فجاد. (الباب الرابع والخمسون) في ذكر الهدايا
1 / 8
والتحف، وما أشبه ذلك. (الباب الخامس والخمسون) في العمل والكسب والصناعات والحرف، والعجز والتواني وما أشبه ذلك. (الباب السادس والخمسون) في شكوى الزمان وانقلابه بأهله، والصبر على المكاره، والتسلي عن نوائب الدهر، وفيه ثلاثة فصول. (الباب السابع والخمسون) فيما جاء في اليسر بعد العسر والفرج بعد الشدة، والسرور بعد الحزن، ونحو ذلك. (الباب الثامن والخمسون) في ذكر العبيد والإماء والخدم، وفيه فصلان.
(الباب التاسع والخمسون) في أخبار العرب، وذكر غرائب من عوائدهم وعجائب أمرهم. (الباب الستون) في الكهانة والقيافة والزجر والعرافة والفأل والطيرة والفراسة والنوم والرؤيا. (الباب الحادي والستون) في الحيل والخدائع المتوصل بها إلى بلوغ المقاصد، والتيقظ والتبصر، ونحو ذلك. (الباب الثاني والستون) في ذكر الدواب والوحوش والطير والهوام والحشرات، مرتبا على حروف المعجم.
(الباب الثالث والستون) في ذكر نبذة من عجائب المخلوقات وصفاتهم. (الباب الرابع والستون) في خلق الجان وصفاتهم (الباب الخامس والستون) في ذكر البحار وما فيها من العجائب، وذكر الأنهار والآبار، وفيه فصول.
(الباب السادس والستون) في ذكر عجائب الأرض وما فيها من الجبال والبلدان وغرائب البنيان، وفيه فصول. (الباب السابع والستون) في ذكر المعادن والأحجار وخواصها.
(الباب الثامن والستون) في ذكر الأصوات والألحان وذكر الغناء واختلاف الناس، ومن كرهه واستحسنه. (الباب التاسع والستون) في ذكر المغنين والمطربين وأخبارهم، ونوادر الجلساء في مجالس الخلفاء. (الباب السبعون) في ذكر القينات والأغاني. (الباب الحادي والسبعون) في ذكر العشق ومن بلي به، والافتخار به والعفاف، وأخبار من مات بالعشق، وما في معنى ذلك، وفيه فصول. (الباب الثاني والسبعون) في ذكر رقائق الشعر والمواليا والدوبيت، وكان وكان، والموشحات، والزجل، والقومة، والألغاز، ومدح الأسماء والصفات، وفيه فصول. (الباب الثالث والسبعون) في ذكر النساء وصفاتهن ونكاحهن وطلاقهن، وما يمدح وما يذم من عشرتهن، وفيه فصول، (الباب الرابع والسبعون) في ذم الخمر وتحريمها والنهي عنها. (الباب الخامس والسبعون) في المزاح والنهي عنه، وما جاء في الترخيص فيه، والبسط والتنعم، وفيه فصول. (الباب السادس والسبعون) في النوادر والحكايات، وفيه فصول. (الباب السابع والسبعون) في الدعاء وآدابه وشروطه، وفيه فصول.
(الباب الثامن والسبعون) في القضاء والقدر وأحكامهما والتوكل على الله تعالى. (الباب التاسع والسبعون) في التوبة وشروطها والندم والاستغفار. (الباب الثمانون) في ذكر الأمراض والعلل والطب والدواء، والسنة والعيادة وثوابها، وما أشبه ذلك، وفيه فصول. (الباب الحادي والثمانون) في ذكر الموت وما يتصل به من القبر وأحواله.
(الباب الثاني والثمانون) في الصبر والتأسي والتعازي والمراثي ونحو ذلك وفيه فصول (الباب الثالث والثمانون) في ذكر الدنيا وأحوالها وتقلبها بأهلها والزهد فيها، ونحو ذلك. (الباب الرابع والثمانون) في فضل الصلاة على النبي ﷺ وهو آخر الأبواب، ختمتها بالصلاة على سيد العباد. أرجو بذلك شفاعته ﷺ يوم المعاد.
1 / 9
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الباب الأول في مباني الإسلام
وفيه خمسة فصول
الفصل الأول في الإخلاص لله تعالى والثناء عليه
وهو أن تعلم أن الله تعالى واحد لا شريك له. فرد لا مثل له. صمد لا ند له. أزلي قائم، أبدي دائم، لا أول لوجوده، ولا آخر لأبديته. قيوم لا يفنيه الأبد، ولا يغيره الأمد، بل هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، منزه عن الجسمية لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
«١»، وهو فوق كل شيء، فوقيته لا تزيده بعدا عن عباده، وهو أَقْرَبُ
إلى العبيد مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ
«٢»، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
«٣»، وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ
«٤»، لا يشابه قربه قرب الأجسام، كما لا تشابه ذاته ذوات الأجرام «٥»، منزه عن أن يحده زمان، مقدس عن أن يحيط به مكان، تراه أبصار الأبرار في دار القرار، على ما دلت عليه الآيات والأخبار، حيّ قادر جبار قاهر لا يعتريه عجز ولا قصور، لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ
«٦»، له الملكوت والعزة والجبروت، خلق الخلق وأعمالهم، وقدر أرزاقهم وآجالهم، لا تحصى مقدوراته «٧»، ولا تتناهى معلوماته، عالم بجميع المعلومات، لا يعزب عنه «٨» مثقال ذرة في الأرض ولا في السموات، يعلم السر وأخفى «٩»، ويطلع على هواجس الضمائر وخفيات السرائر، مريد للكائنات، مدبر للحادثات، لا يجري في ملكه قليل ولا كثير، ولا جليل ولا حقير، خير أو شر، نفع أو ضر، إلا بقضائه وقدره وحكمه ومشيئته، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فهو المبدىء المعيد «١٠»، الفاعل لما يريد، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، ولا مهرب لعبد عن معصيته إلا بتوفيقه ورحمته، ولا قوة له على طاعته إلا بمحبته وإرادته. لو اجتمع الإنس والجن والملائكة والشياطين على أن يحركوا في العالم ذرة أو يسكنوها دون إرادته لعجزوا «١١» . سميع بصير متكلم بكلام لا يشبه كلام خلقه، وكل ما سواه ﷾، فهو حادث أوجده بقدرته، وما من حركة ولا سكون إلا وله في ذلك حكمة دالة على وحدانيته، قال الله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
«١٢» الآية. وقال أبو العتاهية:
فيا عجبا كيف يعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد
ولله في كلّ تحريكة ... وتسكينة في الورى شاهد
وقال غيره:
1 / 11
كلّ ما ترتقي إليه بوهم «١» ... من جلال وقدرة وسناء
فالذي أبدع البرية أعلى ... منه، سبحان مبدع الأشياء
وقال علي ﵁ في بعض وصاياه لولده: «إعلم يا بني أنه لو كان لربك شريك لأتتك رسله، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته، ولكنه إله واحد لا يضاده في ملكه أحد» . وعنه ﵊:
«كل ما يتصور في الأذهان فالله سبحانه بخلافه» .
وقال لبيد بن ربيعة:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل «٢»
وكلّ ابن أنثى لو تطاول عمره ... إلى الغاية القصوى فللقبر آيل
وكلّ أناس سوف تدخل بينهم ... دويهية «٣» تصفرّ منها الأنامل
وكلّ امرىء يوما سيعرف سعيه ... إذا حصلت عند الإله الحصائل
وروي أن النبي ﷺ قال وهو على المنبر: أن أشعر كلمة قالتها العرب: «ألا كل شيء ما خلا الله باطل» .
ثم بعد هذا الاعتقاد الإقرار بالشهادة بأن محمدا رسول الله بعثه برسالته إلى الخلائق كافة وجعله خاتم الأنبياء، ونسخ بشريعته الشرائع وجعله سيد البشر والشفيع المشفّع في المحشر، وأوجب على الخلق تصديقه فيما أخبر عنه من أمور الدنيا والآخرة، فلا يصح إيمان عبد حتى يؤمن بما أخبر به بعد الموت، من سؤال منكر ونكير، وهما ملكان من ملائكة الله تعالى يسألان العبد في قبره عن التوحيد والرسالة، ويقولان له: منّ ربك وما دينك ومن نبيّك. ويؤمن بعذاب القبر وأنه حق، وأن الميزان حق، والصراط حق، والحساب حق، وأن الجنة حق، والنار حق، وأن الله تعالى يدخل الجنة من يشاء بغير حساب وهم المقرّبون، وأنه يخرج عصاة الموحدين من النار بعد الانتقام، حتى لا يبقى في جهنم من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان. ويؤمن بشفاعة الأنبياء ثم بشفاعة العلماء ثم بشفاعة الشهداء، وأن يعتقد فضل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ويحسن الظن بجميعهم على ما وردت به الأخبار وشهدت به الآثار. فمن اعتقد جميع ذلك مؤمنا به موقنا فهو من أهل الحق والسنة، مفارق لعصابة الضلال والبدعة.
رزقنا الله الثبات على هذه العقيدة، وجعلنا من أهلها، ووفقنا للدوام إلى الممات على التمسك والاعتصام بحبلها، إنه سميع مجيب. فهذه العقيدة قد اشتملت على أحد أركان الإسلام الخمسة، قال رسول الله ﷺ: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا» .
الفصل الثاني في الصلاة وفضلها
قال الله تعالى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ ٢٣٨
«٤» . وقال تعالى:
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ
«٥» وقال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتابًا مَوْقُوتًا ١٠٣
«٦» واختلفوا في اشتقاق اسم الصلاة مم هو، فقيل هو من الدعاء، وتسمية الصلاة دعاء، معروفة في كلام العرب، فسميت الصلاة صلاة لما فيها من الدعاء. وقيل: سميت بذلك من الرحمة. قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ
«٧» فهي من الله رحمة ومن الملائكة استغفار، ومن الناس دعاء. قال ﷺ: «اللهم صل على آل أبي أوفى أي ارحمهم» «٨» . وقيل: سميت بذلك من الاستقامة من قولهم صليت العود على النار إذا قومته، والصلاة تقيم العبد على طاعة الله وخدمته وتنهاه عن خلافه، قال الله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ
«٩» وقيل لأنها صلة بين العبد وربه.
وعن رسول الله ﷺ قال: «علم الأيمان الصلاة، فمن فرغ لها قلبه وحافظ عليها بحدودها فهو مؤمن» . وعن عمر بن
1 / 12
الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال وهو على المنبر: «إن الرجل ليشيب عارضاه في الإسلام وما أكمل لله تعالى صلاة» قيل: وكيف ذلك؟ قال: «لا يتم ركوعها وسجودها وخشوعها وتواضعه وإقباله على الله فيها» . وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: «كان رسول الله ﷺ يحدثنا ونحدثه فإذا حضرت الصلاة فكأنه لم يعرفنا ولم نعرفه» . وقيل للحسن «١»: ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوها؟
فقال: «لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نورا من نوره» . وقال بعضهم: «لا تفوت أحدا صلاة في جماعة إلا بذنب» .
وكانت رابعة العدوية تصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، وتقول: والله ما أريد بها ثوابا ولكن ليسر ذلك رسول الله ﷺ. ويقول للأنبياء عليهم الصلاة والسلام:
أنظروا إلى امرأة من أمتي هذا عملها في اليوم والليلة. وقال بعضهم: صليت خلف ذي النون المصري، فلما أراد أن يكبر رفع يديه وقال: «الله» ثم بهت وبقي كأنه جسد لا روح فيه إعظاما لربه جل وعلا، ثم قال: «الله أكبر» فظننت أن قلبي انخلع من هيبة تكبيره. وقيل: أوحى الله تعالى إلى داود ﵇: يا داود كذب من ادّعى محبتي. وإذا جنّ عليه الليل نام عني، أليس كل محب يحب الخلوة بحبيبه؟.
ولعبد الله بن المبارك رضي الله تعالى عنه:
إذا ما الليل أظلم كابدوه ... فيسفر عنهم وهم ركوع «٢»
أطار الخوف نومهم فقاموا ... وأهل الأمن في الدنيا هجوع «٣»
وكان سيدي الشيخ الإمام العلامة فتح الدين بن أمين الدين الحكم التحريري ﵀، كثيرا ما يتمثل بهذه الأبيات:
يا أيها الراكد كم ترقد ... قم يا حبيبي قد دنا الموعد
وخذ من الليل ولو ساعة ... تحظى إذا ما هجع الرقد
من نام حتى ينقضي ليله ... لم يبلغ المنزل لو يجهد
وكان سيدي أويس القرني «٤» لا ينام ليلة ويقول: «ما بال الملائكة لا يفترون ونحن نفتر» وقال حذيفة ﵁:
«كان رسول الله ﷺ إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» «٥» وقال هشام بن عروة: «كان أبي يطيل المكتوبة «٦» ويقول هي رأس المال» .
وقال أبو الطفيل: «سمعت أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يقول: «يا أيها الناس قوموا إلى نيرانكم فأطفئوها، سمعت رسول الله ﷺ يقول الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر» . وجزّأ محمد بن المنكدر، عليه وعلى أمه وعلى أخته، الليل أثلاثا، فماتت أخته. فجزأه عليه وعلى أمه، فماتت أمه. فقام الليل كله.
وكان مسلم بن بشار إذا أراد أن يصلي في بيته يقول لأهله:
تحدثوا فلست أسمع حديثكم. وكان إذا دخل البيت سكت أهله فلا يسمع لهم كلام. فإذا قام إلى الصلاة تحدثوا وضحكوا ووقع حريق إلى جنبه وهو في الصلاة فما شعر به حتى أطفىء، وكان الحمام يقع على رأس ابن الزبير في المسجد الحرام يحسبه جذعا منصوبا لطول انتصابه في الصلاة. وكانت العصافير تقع على ظهر إبراهيم بن شريك وهو ساجد كما تقع على الحائط.
وختم القرآن في ركعة واحدة، أربعة من الأئمة:
عثمان بن عفان وتميم الداري، وسعيد بن جبير وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنهم.
ورأى الأوزاعي شابا بين القبر والمنبر، فلما طلع الفجر استلقى ثم قال: عند الصباح يحمد القوم السّرى «٧» .
فقال: يا ابن أخي لك ولأصحابك لا للجمّالين.
وكان خلف بن أيوب لا يطرد الذباب عن وجهه في الصلاة، فقيل له: كيف تصبر؟ فقال: «بلغني أن الفساق
1 / 13
يتصبرون تحت السياط ليقال فلان صبور. وأنا بين يدي ربي أفلا أصبر على ذباب يقع علي.
وقال أبو صفوان بن عوانة: «ما من منظر أحسن من رجل عليه ثياب بيض وهو قائم يصلي في القمر كأنه يشبه الملائكة» وقال الحسن: «ما كان في هذه الأمة أعبد من فاطمة ﵍ بنت رسول الله ﷺ، وكانت تقوم بالأسحار حتى تورمت قدماها» . وقام رسول الله ﷺ حتى تورمت قدماه، وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وكانت دموعه تقع في مصلاه كوكف المطر «١»، وكان إبراهيم الخليل ﵊ يسمع لقلبه خفقان وغليان، هذا خوف الحبيب والخليل مع ما أعطيا من الإجلال والإكرام وشرف المقام. فالعجب كيف يطمئن قلب من أزعجته الآثام.
وقال رسول الله ﷺ لرجل قال له: ادع الله أن يجعلني رفيقك في الجنة؟ فقال: «أعني على نفسك بكثرة السجود» .
وقال حاتم الأصم رحمه الله تعالى: «فاتتني صلاة الجماعة مرة فعزّاني أبو إسحق البخاري وحده، ولو مات لي ولد لعزاني أكثر من عشرة آلاف لأن مصيبة الدين عندهم أهون من مصيبة الدنيا» وكان السلف رضي الله تعالى عنهم يعزون أنفسهم ثلاثة أيام إذا فاتتهم التكبيرة الأولى، وسبعا إذا فاتتهم الجماعة. وقال ابن عباس ﵄: «ركعتان مقتصدتان في تفكر، خير من قيام ليلة والقلب ساه» .
(وأنشد بعضهم):
خسر الذي ترك الصلاة وخابا ... وأبى معادا صالحا ومآبا
إن كان يجحدها «٢» فحسبك أنّه ... أضحى بربّك كافرا مرتابا
أو كان يتركها لنوع تكاسل ... غطّى على وجه الصواب حجابا
فالشافعي ومالك رأيا له ... إن لم يتب حدّ الحسام عقابا
والرأي عندي للإمام عذابه ... بجميع تأديب يراه صوابا
اللهم أعنّا على الصلاة وتقبلها منا بكرمك ولا تجعلنا من الغافلين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
ومما يستحسن إلحاقه بهذا الفصل ذكر شيء من فضل السواك والأذان.
أما السواك: فقد قال الرسول ﷺ: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» . وقال أيضا:
«صلاة على أثر سواك أفضل من خمس وسبعين صلاة على غير سواك» . وقال حذيفة بن اليمان ﵁: «كان رسول الله ﷺ إذا قام ليتهجد شاص فاه «٣» بالسواك» .
وقال ﷺ: «السواك مطهرة للفم مرضاة للرب» . وعنه ﷺ أنه قال: «لو يعلم الناس ما في السواك لبات مع الرجل في لحافه» . وقال أيضا: «أفواهكم طرق لكلام ربكم فنظفوها» . والاختيار في السواك أن يكون بعود الأراك «٤» .
ويجزي بغيره من العيدان وبالسعد والأشنان «٥»، والخرقة الخشنة وغير ذلك مما ينظف. ويستاك عرضا مبتدئا بالجانب الأيمن من فيه، وينوي به الإتيان بالسنة.
والسواك بعود الزيتون يزيل الحفر من الأسنان. وقال الأصحاب يقول عند السواك: «اللهم بارك لي فيه يا أرحم الراحمين» . ويستاك في ظاهر الأسنان وباطنها، ويمر السواك على أطراف أسنانه وأضراسه وسقف حلقه إمرارا لطيفا، ويستاك بعود متوسط لا شديد اليبوسة ولا شديد اللين، فإن اشتد يبسه لينه بالماء، وقد قيل: إن من فضائل السواك أنه يذكر الشهادة عند الموت ويسهل خروج الروح.
وأما الأذان فقد روي عن النبي ﷺ أنه قال: «يد الرحمن على رأس المؤذن حتى يفرغ من أذانه» . قيل في قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحًا
«٦» . نزلت في المؤذنين.
وعن أبي سعيد الخدري ﵁ عن النبي ﷺ قال: «يغفر الله للمؤذن مدى صوته، ويشهد له ما سمعه من رطب ويابس» . وعن معاوية ﵁ قال:
سمعت رسول الله ﷺ يقول: «المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة» . رواه مسلم.
1 / 14
وعن أبي هريرة ﵁ عن النبي ﷺ قال: «إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين» . رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي سعيد الخدري ﵁ قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا أنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة» رواه البخاري.
والأحاديث في فضله كثيرة مشهورة والله ﷾ أعلم.
الفصل الثالث في الزكاة وفضلها
قرن الله ﷾ الزكاة بالصلاة في مواضع شتى من كتابه. قال الله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ
«١» . وقال تعالى: رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ
«٢» . وقال تعالى:
وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ
«٣» . وعن بريدة رضي الله تعالى عنه، عن النبي ﷺ أنه قال: «ما حبس قوم الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر» «٤»، وعن عائشة ﵂ عن النبي ﷺ قال: «ما خالطت الزكاة مالا قط إلا أهلكته» «٥» . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي ﷺ قال: «من كان عنده ما يزكي ولم يزك ومن كان عنده ما يحج ولم يحج سأل الرجعة» «٦» . يعني قوله تعالى: قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ٩٩ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحًا فِيما تَرَكْتُ
«٧» .
ولنلحق بهذا الفصل ذكر شيء من الصدقة وفضلها وما جاء فيها وما أعد الله تعالى للمتصدقين من الأجر والثواب، ودفع البلاء. قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ
«٨» . وقال تعالى: وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ
الآية «٩» . والآيات الكريمة في ذلك كثيرة، والأحاديث الصحيحة فيه مشهورة، وروى الترمذي في جامعه بسنده، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ﵄ قال:
قال رسول الله ﷺ: «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره» . وفي صحيح مسلم، وموطأ مالك، وجامع الترمذي، عن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «ما نقص مال من صدقة» . أو قال: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع عبد إلا رفعه الله تعالى» .
ودخلت امرأة شلّاء على عائشة ﵂ فقالت:
«كان أبي يحب الصدقة وأمي تبغضها، لم تتصدق في عمرها إلا بقطعة شحم وخلقة «١٠»، فرأيت في المنام كأن القيامة قد قامت، وكأن أمي قد غطت عورتها بالخلقة وفي يدها الشحمة تلحسها من العطش، فذهبت إلى أبي وهو على حافة حوض يسقي الناس، فطلبت منه قدحا من ماء فسقيت أمي، فنوديت من فوقي ألا من سقاها، فشل الله يدها فانتبهت كما ترين» .
ووقف سائل على امرأة وهي تتعشى فقامت فوضعت لقمة في فيه، ثم بكرت إلى زوجها في مزرعته، فوضعت ولدها عنده وقامت لحاجة تريد قضاءها، فاختلسه الذئب. فوقفت وقالت: «يا رب ولدي»، فأتاها آت فأخذ بعنق الذئب، فاستخرجت ولدها من غير أذى ولا ضرر، فقال لها: «هذه اللقمة بتلك اللقمة التي وضعتها في فم السائل» .
وعشش ورشان «١١» في شجرة في دار رجل، فلما همت أفراخه بالطيران زينت امرأة ذلك الرجل له، أخذ أفراخ ذلك الورشان، ففعل ذلك مرارا، وكلما فرخ الورشان أخذوا أفراخه، فشكا الورشان ذلك إلى سليمان ﵇ وقال: «يا رسول الله أردت أن يكون لي أولاد يذكرون الله تعالى من بعدي، فأخذها الرجل بأمر امرأته، ثم أعاد الورشان الشكوى، فقال سليمان لشيطانين: «إذا رأيتماه يصعد الشجرة، فشقاه نصفين» . فلما أراد الرجل أن يصعد الشجرة اعترضه سائل فأطعمه كسرة من خبز شعير، ثم صعد وأخذ الأفراخ على عادته. فشكا الورشان ذلك إلى سليمان ﵇، فقال للشيطانين: «ألم
1 / 15
تفعلا ما أمرتكما به؟» فقال: «اعترضنا ملكان فطرحانا في الخافقين» .
وقال النخعي: «كانوا يرون أن الرجل المظلوم إذا تصدق بشيء دفع عنه البلاء» . وكان الرجل يضع الصدقة في يد الفقير ويتمثل قائما بين يديه ويسأله قبولها حتى يكون هو في صورة السائل، وقال رسول الله ﷺ:
«الصدقة تسد سبعين بابا من الشر» . وعنه ﷺ قال: «ردوا صدمة البلاء ولو بمثل رأس الطائر من الطعام» . وروي عنه ﷺ أنه قال: «اتقوا النار ولو بشق تمرة» «١» . وقال عيسى صلوات الله وسلامه عليه: «من رد سائلا خائبا لم تغش الملائكة ذلك البيت «٢» سبعة أيام» . وكان نبينا محمد ﷺ يناول المسكين بيده، وعنه ﷺ: «ما من مسلم يكسو مسلما ثوبا إلا كان في حفظ الله ما كانت عليه منه رقعة» .
وقال عبد العزيز بن عمير: «الصلاة تبلغك نصف الطريق والصوم يبلغك باب الملك والصدقة تدخلك عليه» .
وعن الربيع بن خيثم أنه خرج في ليلة شاتية وعليه برنس خز «٣»، فرأى سائلا فأعطاه إياه، وتلا قوله تعالى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ
«٤» . وروي عن رسول الله ﷺ أنه قال: «لا يرد القضاء إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر وإن سوء الخلق شؤم وحسن الملكة نماء، والصدقة تدفع ميتة السوء» .
وقال يحيى بن معاذ: «ما أعرف حبة تزن جبال الدنيا إلا من الصدقة»، وعن عمر ﵁: «أن الأعمال تباهت فقالت الصدقة: أنا أفضلكن» .
وعن أبي هريرة ﵁ أن رسول الله ﷺ قال:
«تداركوا الهموم والغموم بالصدقات يدفع الله ضركم وينصركم على عدوكم»، وعن عبيد بن عمير قال: «يحشر الناس يوم القيامة أجوع ما كانوا قط، وأعطش ما كانوا قط، فمن أطعم لله أشبعه الله، ومن سقى لله سقاه الله، ومن كسا لله كساه الله» .
وقال الشعبي: «من لم ير نفسه إلى ثواب الصدقة أحوج من الفقير إلى صدقته فقد أبطل صدقته وضرب بها وجهه» .
وكان الحسن بن صالح إذا جاءه سائل، فإن كان عنده ذهب أو فضة أو طعام أعطاه، فإن لم يكن عنده من ذلك شيء أعطاه دهنا أو غيره مما ينتفع به، فإن لم يكن عنده شيء أعطاه كحلا أو أخرج إبرة وخيطا فرقع بهما ثوب السائل.
ووجّه رجل ابنه في تجارة فمضت أشهر ولم يقع له على خبر، فتصدق برغيفين وأرخ ذلك اليوم، فلما كان بعد سنة رجع ابنه سالما رابحا، فسأله أبوه: هل أصابك في سفرك بلاء؟ قال: نعم غرقت السفينة بنا في وسط البحر، وغرقت في جملة الناس، وإذا بشابين أخذاني فطرحاني على الشط، وقالا لي: قل لوالدك هذا برغيفين فكيف لو تصدقت بأكثر من ذلك؟! وقال علي رضي الله تعالى عنه وكرم الله وجهه: «إذا وجدت من أهل الفاقة من يحمل لك زادك فيوافيك به حيث تحتاج إليه، فاغتنم حمله إياه» «٥» .
لله در القائل حيث قال:
يبكي على الذاهب من ماله ... وإنما يبقى الذي يذهب
وحكي أن رجلا عبد الله سبعين سنة، فبينما هو في معبده ذات ليلة إذ وقفت به امرأة جميلة فسألته أن يفتح لها، وكانت ليلة شاتية فلم يلتفت إليها، وأقبل على عبادته، فولت المرأة، فنظر إليها، فأعجبته فملكت قلبه وسلبت لبه، فترك العبادة وتبعها وقال: إلى أين؟ فقالت:
إلى حيث أريد. فقال: هيهات صار المراد مريدا والأحرار عبيدا. ثم جذبها فأدخلها مكانه، فأقامت عنده سبعة أيام، فعند ذلك تذكر ما كان فيه من العبادة، وكيف باع عبادة سبعين سنة بمعصية سبعة أيام، فبكى حتى غشي عليه، فلما أفاق قالت له: يا هذا والله أنت ما عصيت الله مع غيري، وأنا ما عصيت الله مع غيرك، وإني أرى في وجهك أثر الصلاح، فبالله عليك إذا صالحك مولاك فاذكرني. قال فخرج هائما على وجهه. فآواه الليل إلى خربة فيها عشرة عميان، وكان بالقرب منهم راهب يبعث إليهم في كل ليلة بعشرة أرغفة، فجاء غلام الراهب على عادته بالخبز، فمد ذلك الرجل العاصي يده، فأخذ رغيفا، فبقي منهم رجلا لم يأخذ شيئا، فقال: أين رغيفي؟ فقال الغلام: قد فرقت عليكم العشرة. فقال: أبيت طاويا،
1 / 16
فبكى الرجل العاصي وناول الرغيف لصاحبه وقال لنفسه:
أنا أحق أن أبيت طاويا لأنني عاص، وهذا مطيع، فنام واشتد به الجوع حتى أشرف على الهلاك. فأمر الله تعالى ملك الموت بقبض روحه فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. فقالت ملائكة الرحمة: هذا رجل فر من ذنبه، وجاء طائعا. وقالت ملائكة العذاب: بل هو رجل عاص، فأوحى الله تعالى إليهم أن زنوا عبادة السبعين سنة بمعصية السبع ليال، فوزنوها فرجحت المعصية على عبادة السبعين سنة، فأوحى الله إليهم أن زنوا معصية السبع ليال بالرغيف الذي آثر به على نفسه. فوزنوا ذلك، فرجح الرغيف فتوفته ملائكة الرحمة، وقبل الله توبته.
وحكي أن رجلا جلس يوما يأكل هو وزوجته وبين أيديهما دجاجة مشوية، فوقف سائل ببابه، فخرج إليه وانتهره، فذهب، فاتفق بعد ذلك أن الرجل افتقر وزالت نعمته، وطلق زوجته، وتزوجت بعده برجل آخر، فجلس يأكل معها في بعض الأيام وبين أيديهما دجاجة مشوية، وإذا بسائل يطرق الباب، فقال الرجل لزوجته ادفعي إليه هذه الدجاجة، فخرجت بها إليه فإذا هو زوجها الأول، فدفعت إليه الدجاجة ورجعت وهي باكية، فسألها زوجها عن بكائها، فأخبرته أن السائل كان زوجها، وذكرت له قصتها مع ذلك السائل الذي انتهره زوجها الأول، فقال لها زوجها: أنا والله ذلك السائل.
وذكر عن مكحول أن رجلا أتى إلى أبي هريرة ﵁ فقال: ادع الله لا بني فقد وقع في نفسي الخوف من هلاكه. فقال له: ألا أدلك على ما هو أنفع من دعائي وأنجع وأسرع إجابة؟ قال: بلى. قال: تصدق عنه بصدقة تنوي بها نجاة ولدك وسلامة ما معه، فخرج الرجل من عنده، وتصدق على سائل بدرهم وقال: هذا خلاص ولدي وسلامته وما معه، فنادى في تلك الساعة مناد في البحر: ألا إن الفداء مقبول وزيد مغاث. فلما قدم سأله أبوه عن حاله فقال: يا أبت لقد رأيت في البحر عجبا يوم كذا وكذا في وقت كذا وكذا. وهو اليوم الذي تصدق فيه والده عنه بالدرهم، وذلك أنّا أشرفنا على الهلاك والتلف، فسمعنا صوتا من الهواء: ألا أن الفداء مقبول وزيد مغاث.
وجاءنا رجال عليهم ثياب بيض فقدموا السفينة إلى جزيرة كانت بالقرب منا وسلمنا وصرنا بخير أجمعين. والآثار والحكايات في ذلك كثيرة وفيما أشرت إليه كفاية لمن وعى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى والله أعلم.
الفصل الرابع في الصوم وفضله وما أعد الله للصائم من الأجر والثواب
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ١٨٣
«١» . قيل: الصوم عموم وخصوص وخصوص الخصوص: فصوم العموم هو كف البطن والفرج وسائر الجوارح عن قصد الشهوة، وصوم الخصوص هو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام، وصوم خصوص الخصوص هو صوم القلب عن الهمم الدنية وكفه عما سوى الله بالكلية. قال رسول الله ﷺ: «زكاة الجسد الصيام» .
وعنه ﷺ أنه قال: «للصائم فرحتان: فرحة عند إفطاره، وفرحة عند لقاء ربه»، وقال وكيع في قوله تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ ٢٤
«٢» . إنها أيام الصوم تركوا فيها الأكل والشرب.
وعن أبي هريرة ﵁ عن النبي ﷺ أنه قال:
«من أفطر يوما في رمضان من غير رخصة رخصها الله له، لم يقض عنه صيام الدهر» . وروي في صحيح النسائي عنه أيضا ﷺ أنه قال: «إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين» .
وروى الزهري أن تسبيحة واحدة في شهر رمضان أفضل من ألف تسبيحة في غيره.
وروي عن قتادة أنه كان يقول: من لم يغفر له في شهر رمضان فلن يغفر له في غيره. وقال رسول الله ﷺ: «لو يعلم الناس ما في شهر رمضان من الخير لتمنت أمتي أن يكون رمضان السنة كلها، ولو أذن الله للسموات والأرض أن تتكلما لشهدتا لمن صام رمضان بالجنة» . وقال ﷺ:
«ليس من عبد يصلي في ليلة من شهر رمضان إلا كتب الله له بكل ركعة ألفا وخمسمائة حسنة، وبنى له بيتا في الجنة من ياقوتة حمراء لها سبعون ألف باب، لكل باب منها مصراعان من ذهب، وله بكل سجدة يسجدها شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام» .
وقال ﷺ: «إن لكل صائم دعوة فإذا أراد أن تقبل، فليقل في كل ليلة عند فطره: يا واسع المغفرة اغفر لي» .
1 / 17
وعن عبد الله بن مسعود ﵁: «من صام يوما من رمضان خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فإذا انسلخ عنه الشهر وهو حي لم يكتب عليه خطيئة حتى الحول، ومن عطش نفسه لله في يوم شديد الحر من أيام الدنيا كان حقا على الله أن يرويه يوم القيامة» .
وقال بعضهم: الصيام زكاة البدن ومن صام الدهر فقد وهب نفسه لله تعالى» .
وروي في صحيح مسلم عن أبي هريرة ﵁ أن النبي ﷺ قال: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر» .
وعنه ﷺ أنه قال: «صيام ثلاثة أيام من كل شهر كصيام الدهر» وهي الأيام البيض وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر.
وفي صحيح البخاري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة ﵁ عن النبي ﷺ أنه قال: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» .
وفضل الصوم غزير لأنه خصه الله تعالى بالإضافة إليه كما ثبت في الصحيح من الحديث عن النبي ﷺ أنه قال مخبرا عن ربه ﷿: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به» . وقد يكتفى في فضله بهذا الحديث الجليل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
الفصل الخامس في الحج وفضله
قال الله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا
«١» . وقال رسول الله ﷺ: «من خرج من بيته حاجا أو معتمرا فمات. أجرى الله له أجر الحاج والمعتمر إلى يوم القيامة» . وقال ﷺ: «من استطاع الحج ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا» .
وفي الحديث: «إن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها إلا الوقوف بعرفة» . وفيه: أعظم الناس ذنوبا من وقف بعرفة فظن أن الله لم يغفر له وهو أفضل يوم في الدنيا» . وفي الخبر: إن الحجر الأسود ياقوتة من يواقيت الجنة، وأنه يبعثه الله يوم القيامة وله عينان ولسان ينطق به يشهد لمن استلمه بحق وصدق.
وجاء في الحديث الصحيح: أن آدم ﵊ لما قضى مناسكه لقيته الملائكة. فقالوا: يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام.
وقال مجاهد: إن الحجّاج إذا قدموا مكة لحقتهم الملائكة فسلموا على ركبان الإبل، وصافحوا ركبان الحمر، واعتنقوا المشاة اعتناقا. وكان من سنة السلف ﵃ أن يشيعوا الغزاة، ويستقبلوا الحجاج ويقبلوهم بين أعينهم، ويسألوهم الدعاء لهم، ويبادروا ذلك قبل أن يتدنسوا بالآثام.
وعن النبي ﷺ: «أن الله قد وعد هذا البيت أن يحجه كل سنة ستمائة ألف، فإن نقصوا كملهم الله تعالى من الملائكة، وإن الكعبة تحشر كالعروس المزفوفة فكل من حجها يتعلق بأستارها ويسعى حولها حتى تدخل الجنة فيدخل معها.
وحكي أن جميلة الموصلية بنت ناصر الدولة أبي محمد بن حمدان حجت سنة ست وثمانين وثلاثمائة فصارت تاريخا مذكورا. قيل إنها سقت أهل الموسم كلهم السويق بالطبرزد والثلج، واستصحبت البقول المرزوعة في المراكن على الجمال، وأعدت خمسمائة راحلة للمنقطعين، ونثرت على الكعبة عشرة آلاف دينار، ولم تستصبح فيها وعندها إلا بشموع العنبر، وأعتقت ثلاثمائة عبد ومائتي جارية، وأغنت الفقراء والمجاورين.
ولما بنى آدم ﵊ البيت وقال: يا رب إن لكل عامل أجرا، فما أجر عملي؟ قال: إذا طفت به غفرت لك ذنوبك. قال: زدني. قال: جعلته قبلة لك ولأولادك، قال: يا رب زدني. قال: أغفر لكل من استغفرني من الطائفين به من أهل التوحيد من أولادك.
قال: يا رب حسبي.
وفي الحديث: «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» .
وقيل للحسن: ما الحج المبرور؟ قال: أن ترجع زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة.
وأول من كسا الكعبة الديباج عبد الله بن الزبير، وكانت كسوتها المسوح والأنطاع «٢» وكان يطيبها حتى يوجد ريحها من خارج الحرم. وكان حكيم بن حزام يقيم عشية
1 / 18
عرفة مائة بدنة ومائة رقبة، فيعتق الرقاب عشية عرفة وينحر البدن يوم النحر، وكان يطوف بالبيت فيقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له نعم الرب ونعم الإله أحبه وأخشاه.
ورؤي الحسن بن علي ﵄ يطوف بالبيت، ثم صار إلى المقام فصلى ركعتين، ثم وضع خده على المقام فجعل يبكي ويقول: عبيدك ببابك خويدمك ببابك سائلك ببابك مسيكينك ببابك «١» . يردد ذلك مرارا ثم انصرف ﵁، فمر بمساكين معهم فلق خبز يأكلون، فسلم عليهم فدعوه إلى الطعام، فجلس معهم، وقال: لولا أنه صدقة لأكلت معكم. ثم قال: قوموا بنا إلى منزلي. فتوجهوا معه، فأطعمهم وكساهم وأمر لهم بدارهم.
وحج عبد الله بن جعفر ﵁ ومعه ثلاثون راحلة وهو يمشي على رجليه حتى وقف بعرفات فأعتق ثلاثين مملوكا وحملهم على ثلاثين راحلة وأمر لهم بثلاثين ألفا، وقال: أعتقهم لله تعالى لعله يعتقني من النار. وقال الحسن بن علي ﵄: إني لأستحي من ربي أن ألقاه ولم أمش إلى بيته، فمشى من المدينة إلى مكة عشرين مرة.
ومن لطيف ما أنشد عمرو بن حبان الضرير حين لم يهد إليه الحجاج شيئا:
كأنّ الحجيج الآن لم يقربوا منى ... ولم يحملوا منها سواكا ولا نعلا
أتونا فما جادوا بعود أراكة ... ولا وضعوا في كفّ طفل لنا نقلا «٢»
وقال غيره:
يحجون بالمال الذي يجمعونه ... حراما إلى البيت العتيق المحرّم
ويزعم كلّ منهمو أنّ وزره ... يحطّ ولكن فوقه في جهنم «٣»
وقال آخر:
حجّ في الدهر حجة ... حجّ فيها وأحرما
وأتانا من الحجا ... ز كما راح محرما
فهو ذو الحجة الذي ... ما توقى محرّما
وتخاصم بدوي مع حاجّ عند منصرف الناس فقيل له أتخاصم رجلا من الحجاج فقال:
يحجّ لكيما يغفر الله ذنبه ... ويرجع قد حطت عليه ذنوب «٤»
وقال أبو الشمقمق:
إذا حججت بمال أصله دنس ... فما حججت ولكن حجّت العير «٥»
ما يقبل الله إلّا كلّ طيبة ... ما كلّ من حجّ بيت الله مبرور
والله ﷾ أعلم.
الباب الثاني في العقل والذكاء والحمق وذمه وغير ذلك
نص الله ﷾ في محكم كتابه العزيز ومنزل خطابه الوجيز على شرف العقل، وقد ضرب الله ﷾ الأمثال وأوضحها، وبيّن بدائع مصنوعاته وشرحها، فقال تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ١٢
«٦» .
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: «أوّل ما خلق الله تعالى العقل فقال له: أقبل، فأقبل ثم قال له: أدبر، فأدبر، فقال
1 / 19
عز من قائل: «وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أعز عليّ منك. بك آخذ وبك أعطي وبك أحاسب وبك أعاقب» «١» .
وقال أهل المعرفة والعلم: العقل جوهر مضيء خلقه الله ﷿ في الدماغ، وجعل نوره في القلب يدرك به المعلومات بالوسائط والمحسوسات بالمشاهدة.
واعلم أن العقل ينقسم إلى قسمين: قسم لا يقبل الزيادة والنقصان، وقسم يقبلهما. فأما الأول فهو العقل الغريزي المشترك بين العقلاء. وأما الثاني فهو العقل التجريبي وهو مكتسب، وتحصل زيادته بكثرة التجارب والوقائع، وباعتبار هذه الحالة يقال أن الشيخ أكمل عقلا وأتم دراية، وإن صاحب التجارب أكثر فهما وأرجح معرفة، ولهذا قيل: من بيّضت الحوادث سواد لمته «٢»، وأخلقت التجارب لباس جدته، وأراه الله تعالى لكثرة ممارسته، تصاريف أقداره وأقضيته كان جديرا برزانة العقل ورجاحة الدراية. وقد يخص الله تعالى بألطافه الخفية من يشاء من عباده، فيفيض عليه من خزائن مواهبه رزانة عقل وزيادة معرفة تخرجه عن حد الاكتساب ويصير بها راجحا على ذوي التجارب والآداب، ويدل على ذلك قصة يحيى بن زكريا ﵉ فيما أخبر الله تعالى به في محكم كتابه العزيز حيث يقول: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا
«٣» . فمن سبقت له سابقة من الله تعالى في قسم السعادة، وأدركته عناية أزلية، أشرقت على باطنه أنوار ملكوتية وهداية ربانية، فاتصف بالذكاء والفطنة قلبه، وأسفر عن وجه الإصابة ظنه، وإن كان حديث السن قليل التجربة، كما نقل في قصة سليمان بن داود ﵉ وهو صبي حيث رد حكم أبيه داود ﵇ في أمر الغنم والحرث.
وشرح ذلك فيما نقله المفسرون أن رجلين دخلا على داود ﵇ أحدهما صاحب غنم، والآخر صاحب حرث «٤» . فقال أحدهما: إن هذا دخلت غنمه بالليل إلى حرثي فأهلكته وأكلته ولم تبق لي فيه شيئا، فقال داود ﵇: الغنم لصاحب الحرث عوضا عن حرثه، فلما خرجا من عنده مرا على سليمان ﵇، وكان عمره إذ ذاك على ما نقله أئمة التفسير إحدى عشرة سنة، فقال لهما: ما حكم بينكما الملك؟ فذكرا له ذلك. فقال: غير هذا أرفق بالفريقين. فعادا إلى داود ﵇ وقالا له ما قاله ولده سليمان ﵇ فدعاه داود ﵇ وقال له: ما هو الأرفق بالفريقين؟ فقال سليمان: تسلم الغنم إلى صاحب الحرث.- وكان الحرث كرما قد تدلت عناقيده في قول أكثر المفسرين- فيأخذ صاحب الكرم الأغنام يأكل لبنها وينتفع بدرها ونسلها، ويسلم الكرم إلى صاحب الأغنام ليقوم به، فإذا عاد الكرم إلى هيئته وصورته التي كان عليها ليلة دخلت الغنم إليه سلّم صاحب الكرم الغنم إلى صاحبها وتسلم كرمه كما كان بعناقيده وصورته، فقال له داود: القضاء كما قلت. وحكم به كما قال سليمان ﵇.
وفي هذه القصة نزل قوله تعالى: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ ٧٨ فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْمًا وَعِلْمًا
«٥» . فهذه المعرفة والدراية لم تحصل لسليمان بكثرة التجربة وطول المدة، بل حصلت بعناية ربانية وألطاف إلهية، وإذا قذف الله تعالى شيئا من أنوار مواهبه في قلب من يشاء من خلقه اهتدى إلى مواقع الصواب، ورجح على ذوي التجارب والاكتساب في كثير من الأسباب، ويستدل على حصول كمال العقل في الرجل بما يوجد منه وما يصد عنه، فإن العقل معنى لا يمكن مشاهدته، فإن المشاهدة من خصائص الأجسام.
فأقول: يستدل على عقل الرجل بأمور متعددة منها:
ميله إلى محاسن الأخلاق وإعراضه عن رذائل الأعمال، ورغبته في إسداء صنائع المعروف وتجنبه ما يكسبه عارا ويورثه سوء السمعة.
وقد قيل لبعض الحكماء: بم يعرف عقل الرجل؟
فقال: بقلة سقطه في الكلام، وكثرة إصابته فيه. فقيل له:
فإن كان غائبا، فقال؛ بإحدى ثلاث إما برسوله وإما بكتابه وإما بهديته، فإن رسوله قائم مقام نفسه، وكتابه يصف نطق لسانه، وهديته عنوان همّته، فبقدر ما يكون فيها من نقص يحكم به على صاحبها.
وقيل: من أكبر الأشياء شهادة على عقل الرجل حسن
1 / 20
مداراته للناس، ويكفي أن حسن المداراة يشهد لصاحبه بتوفيق الله تعالى إياه؛ فإنه روي عن النبي ﷺ أنه قال:
«من حرم مداراة الناس فقد حرم التوفيق» فمقتضاه أن من رزق المداراة لم يحرم التوفيق.
وقالوا: العاقل الذي يحسن المداراة مع أهل زمانه.
وقال رسول الله ﷺ: «الجنة مائة درجة تسعة وتسعون منها لأهل العقل وواحدة لسائر الناس» وقال علي بن عبيدة، العقل ملك والخصال رعية، فإذا ضعف عن القيام عليها وصل الخلل إليها. فسمعه أعرابي فقال: هذا كلام يقطر عسله.
وقيل: بأيدي العقول تمسك أعنّة النفوس «١»، وكل شيء إذا كثر رخص إلا العقل فإنه كلما كثر غلا. وقيل:
لكل شيء غاية وحدّ، والعقل لا غاية له ولا حدّ، ولكن الناس يتفاوتون فيه تفاوت الأزهار في المروج «٢» .
واختلف الحكماء في ماهيته فقال قوم: هو نور وضعه الله طبعا وغريزة في القلب كالنور في العين. وهو يزيد وينقص ويذهب ويعود وكما يدرك بالبصر شواهد الأمور كذلك يدرك بنور القلب المحجوب والمستور، وعمى القلب كعمى البصر. قال الله تعالى: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ
«٣» . وقيل محل العقل الدماغ وهو قول أبو حنيفة رحمه الله تعالى.
وذهب جماعة إلى أنه في القلب كما روي عن الشافعي رحمه الله تعالى واستدلوا بقوله تعالى: فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها
«٤» . وبقوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ
«٥» . أي عقل، وقالوا: التجربة مرآة العقل، ولذلك حمدت آراء المشايخ حتى قالوا: المشايخ أشجار الوقار لا يطيش لهم سهم ولا يسقط لهم فهم وعليكم بآراء الشيوخ فإنهم إن عدموا ذكاء الطبع فقد أفادتهم الأيام حيلة وتجربة.
قال الشاعر:
ألم تر أنّ العقل زين لأهله ... ولكن تمام العقل طول التجارب
وقال آخر:
إذا طال عمر المرء في غير آفة ... أفادت له الأيام في كرّها عقلا
وقال عامر بن عبد قيس: إذا عقلك عقلك «٦» عما لا يعنيك فأنت عاقل. ويقال: لا شرف إلا شرف العقل ولا غنى إلا غنى النفس. وقيل: يعيش العاقل بعقله حيث كان كما يعيش الأسد بقوته حيث كان. قال الشاعر:
إذا لم يكن للمرء عقل فإنّه ... وإن كان ذا بيت على الناس هيّن
ومن كان ذا عقل أجلّ لعقله ... وأفضل عقل عقل من يتدين
وقالوا العاقل لا تبطره المنزلة السنية، كالجبل لا يتزعزع وإن اشتدت عليه الريح، والجاهل تبطره»
أدنى منزلة كالحشيش يحركه أدنى ريح.
وقيل لعلي ﵁: صف لنا العاقل؟ قال: هو الذي يضع الشيء مواضعه. قيل: فصف لنا الجاهل؟
قال: قد فعلت. يعني الذي لا يضع الشيء مواضعه.
وقال المنصور لولده: خذ عني ثنتين: لا تقل من غير تفكير ولا تعمل بغير تدبير. وقال أزدشير: أربعة تحتاج إلى أربعة: الحسب إلى الأدب، والسرور إلى الأمن، والقرابة إلى المودة، والعقل إلى التجربة.
وقال كسرى أنوشروان: أربعة تؤدي إلى أربعة: العقل إلى الرياسة، والرأي إلى السياسة، والعلم إلى التصدير، والحلم إلى التوقير.
وقال القاسم بن محمد: من لم يكن عقله أغلب الخصال عليه كان حتفه من أغلب الخصال عليه.
وقيل: أفضل العقل معرفة العاقل بنفسه. وقيل: ثلاثة هن رأس العقل: مداراة الناس، والاقتصاد في المعيشة، والتحبب إلى الناس. وقيل: من أعجب برأي نفسه بطل رأيه، ومن ترك الاستماع من ذوي العقول مات عقله.
وعن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه أنه قال: أهل مصر أعقل الناس صغارا، وأرحمهم كبارا.
1 / 21
وقيل: العاقل المحروم خير من الأحمق المرزوق «١» .
وقيل: لا ينبغي للعاقل أن يمدح امرأة حتى تموت، ولا طعاما حتى يستمرئه، ولا يثق بخليل حتى يستقرضه «٢» .
وقيل: طول اللحية أمان من العقل. وسئل بعضهم:
أيما أحمد في الصبا الحياء أم الخوف؟ قال: الحياء لأن الحياء يدل على العقل، والخوف يدل على الخبن. وقيل:
غضب العاقل على فعله وغضب الجاهل على قوله.
وقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: قال لي رسول الله ﷺ: «يا عويمر ازدد عقلا تزدد من الله تعالى قربا» قلت: بأبي وأمي ومن لي بالعقل؟ قال: «اجتنب محارم الله تعالى وأدّ فرائض الله تعالى تكن عاقلا، ثم تنقل إلى صالح الأعمال تزدد في الدنيا عقلا، وتزدد من الله قربا وعزا» .
وحكى بعض أهل المعرفة قال: حياة النفس بالروح، وحياة الروح بالذكر، وحياة القلب بالعقل، وحياة العقل بالعلم. ويروى عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه كان ينشد هذه الأبيات ويترنم بها:
إنّ المكارم أخلاق مطهرة ... فالعقل أوّلها والدين ثانيها
والعلم ثالثها والحلم رابعها ... والجود خامسها والعرف ساديها «٣»
والبر سابعها والصبر ثامنها ... والشكر تاسعها واللين عاشيها «٤»
والعين تعلم من عينيّ محدثها ... إن كان من حزبها أو من أعاديها
والنفس تعلم أني لا أصدقها ... ولست أرشد إلا حين أعصيها
وقال بعض الحكماء: العاقل من عقله في إرشاد، ورأيه في إمداد، فقوله سديد، وفعله حميد. والجاهل من جهله في إغراء، فقوله سقيم، وفعله ذميم. ولا يكتفي في الدلالة على عقل الرجل الاغترار بحسن ملبسه وملاحة سمته وتسريح لحيته وكثرة صلفته ونظافة بزته، إذ كم من كنيف مبيض، وجلد مفضّض. وقد قال الأصمعي: رأيت بالبصرة شيخا له منظر حسن وعليه ثياب فاخرة، وحوله حاشية وهرج، وعنده دخل وخرج، فأردت أن أختبر عقله، فسلمت عليه وقلت: ما كنية سيدنا؟ فقال: أبو عبد الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، قال الأصمعي:
فضحكت منه وعلمت قلة عقله وكثرة جهله، ولم يدفع ذلك عنه غزارة خرجه ودخله. وقد يكون الرجل موسوما بالعقل مرموقا بعين الفضل، فيصدر منه حالة تكشف عن حقيقة حاله وتشهد عليه بقلة عقله واختلاله.
وقيل: إن إياس بن معاوية القاضي كان من أكابر العقلاء، وكان عقله يهديه إلى سلوك طرق لا يكاد يسلكها من لم يهتد إليها، فكان من جملة الوقائع التي صدرت منه وشهدت له بالعقل الراجع والفكر القادح أنه كان في زمانه رجل مشهور بين الناس بالأمانة، فاتفق أن رجلا أراد أن يحج. فأودع عند ذلك الرجل الأمين كيسا فيه جملة من الذهب، ثم حج فلما عاد من حجه جاء إلى ذلك الرجل وطلب كيسه منه فأنكره وجحده، فجاء إلى القاضي إياس وقص عليه القصة، فقال القاضي: هل أخبرت بذلك أحدا غيري؟ قال: لا. قال: فهل علم الرجل أنك أتيت إلي؟ قال: لا. قال: انصرف وأكتم أمرك، ثم عد إلي بعد غد. فانصرف. ثم إن القاضي دعا ذلك الرجل المستودع فقال: قد حصل عندي أموال كثيرة ورأيت أن أودعها عندك فاذهب وهيىء لها موضعا حصينا. فمضى ذلك الرجل وحضر صاحب الوديعة بعد ذهاب الرجل، فقال له القاضي إياس: امض إلى خصمك واطلب منه وديعتك، فإن جحدك فقل له امض معي إلى القاضي إياس أتحاكم أنا وأنت عنده، فلما جاء إليه دفع إليه وديعته فجاء إلى القاضي وأعلمه بذلك. ثم إن ذلك الرجل المستودع جاء إلى القاضي طامعا في تسليم المال، فسبه القاضي وطرده. وكانت هذه الواقعة مما تدل على عقله وصحة فكره.
ولما مات بعض الخلفاء اختلفت الروم واجتمعت ملوكها. فقال: الآن يشتغل المسلمون بعضهم ببعض، فتمكننا الغرة منهم «٥» والوثبة عليهم، وعقدوا لذلك المشورات، وتراجعوا فيه بالمناظرات، وأجمعوا على أنه فرصة الدهر. وكان رجل منهم من ذوي العقل والمعرفة
1 / 22
والرأي غائبا عنهم، فقالوا: من الحزم عرض الرأي عليه.
فلما أخبروه بما أجمعوا عليه قال: لا أرى ذلك صوابا.
فسألوه عن علة ذلك فقال: في غد أخبركم إن شاء الله تعالى. فلما أصبحوا أتوا إليه وقالوا: قد وعدتنا أن تخبرنا في هذا اليوم بما عولنا عليه، فقال: سمعا وطاعة. وأمر بإحضار كلبين عظيمين كان قد أعدهما، ثم حرض بينهما وحرض كل واحد منهما على الآخر، فتواثبا وتهارشا حتى سالت دماؤهما، فلما بلغا الغاية فتح باب بيت عنده وأرسل على الكلبين ذئبا كان قد أعده لذلك، فلما أبصراه تركا ما كانا عليه وتآلفت قلوبهما ووثبا جميعا على الذئب فقتلاه. فأقبل الرجل على أهل الجمع فقال: مثلكم مع المسلمين مثل هذا الذئب مع الكلاب، لا يزال الهرج «١» بين المسلمين ما لم يظهر لهم عدو من غيرهم، فإذا ظهر تركوا العداوة بينهم وتألفوا على العدو. فاستحسنوا قوله واستصوبوا رأيه فهذه صفة العقلاء.
وأما ذم الأحمق: فقد قال ابن الأعرابي «٢»: الحماقة مأخوذة من حمقت السوق إذا كسدت فكأنه كاسد العقل والرأي، فلا يشاور ولا يلتفت إليه في أمر من الأمور.
والحق غريزة لا تنفع فيها الحيلة وهو داء دواؤه الموت.
قال الشاعر:
لكلّ داء دواء يستطبّ به ... إلّا الحماقة أعيت من يداويها
والحمق مذموم. قال رسول الله ﷺ: «الأحمق أبغض الخلق إلى الله تعالى إذ حرمه أعز الأشياء عليه وهو العقل» ويستدل على صفة الأحمق من حيث الصورة بطول اللحية لأن مخرجها من الدماغ، فمن أفرط طول لحيته قل دماغه، ومن قل دماغه قل عقله، ومن قل عقله فهو أحمق. وأما صفته من حيث الأفعال فترك نظره في العواقب وثقته بمن لا يعرفه، والعجب وكثرة الكلام وسرعة الجواب، وكثرة الالتفات والخلو من العلم، والعجلة والخفة والسفه والظلم والغفلة والسهو والخيلاء، إن استغنى بطر وإن افتقر قنط، وإن قال أفحش وإن سئل بخل، وإن سأل ألحّ، وإن قال لم يحسن، وإن قيل له لم يفقه، وإن ضحك قهقه، وإن بكى صرخ، وإن اعتبرنا هذه الخلال وجدناها في كثير من الناس، فلا يكاد يعرف العاقل من الأحمق.
قال عيسى ﵇: «عالجت الأبرص والأكمه فأبرأتهما، وعالجت الأحمق فأعياني» والسكوت عند الأحمق جوابه. ونظر بعض الحكماء إلى أحمق على حجر فقال: حجر على حجر.
وحكي أن أحمقين اصطحبا في طريق، فقال أحدهما للآخر: تعالى نتمن على الله فإن الطريق تقطع بالحديث.
فقال أحدهما: أنا أتمنى قطائع غنم أنتفع بلبنها ولحمها وصوفها. وقال الآخر: أنا أتمنى قطائع ذئاب أرسلها على غنمك حتى لا تترك منها شيئا. قال: ويحك أهذا من حق الصحبة وحرمة العشرة. فتصايحا وتخاصما، واشتدت الخصومة بينهما حتى تماسكا بالأطواق، ثم تراضيا من أن أول من يطلع عليهما يكون حكما بينهما، فطلع عليهما شيخ بحمار عليه زقان من عسل، فحدثاه بحديثهما، فنزل بالزقين وفتحهما حتى سال العسل على التراب، قال:
صب الله دمي مثل هذا العسل إن لم تكونا أحمقين.
وعن جابر بن عبد الله ﵁ قال: كان رجل يتعبد في صومعة فأمطرت السماء، وأعشبت الأرض، فرأى حماره يرعى في ذلك العشب فقال: يا رب لو كان لك حمار لرعيته مع حماري هذا، فبلغ ذلك بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهم أن يدعو عليه، فأوحى الله إليه: لا تدع عليه فإني أجازي العباد على قدر عقولهم.
ويقال فلان ذو حمق وافر وعقل نافر ليس معه من العقل إلا ما يوجب حجة الله عليه. وخطب سهل هند ابنة عتبة فحمقته فقال:
وما هو جي يا هند إلّا سجيّة ... أجرّ لها ذيلي بحسن الخلائق «٣»
ولو شئت خادعت الفتى عن قلوصه ... ولا طمت في البطحاء من كلّ طارق «٤»
ويقال للإبله السليم القلب هو من بقر الجنة لا ينطح ولا يرمح، والأحمق المؤذي هو من بقر سقر «٥» والله سبحانه
1 / 23
وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب الثالث في القرآن وفضله وحرمته وما أعد الله تعالى لقارئه من الثواب العظيم والأجر الجسيم
قال الله تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ١٧
«١» وسمى الله تعالى القرآن كريما فقال تعالى:
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ٧٧
«٢» وسماه حكيما، فقال تعالى:
يس ١ وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ٢
«٣» . وسماه مجيدا فقال تعالى:
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ١
«٤» . أنزله الله تعالى على سيد الأنام وخاتم الأنبياء الكرام عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، فكان من أعظم معجزاته أن أعجز الله الفصحاء عن معارضته وعن الإتيان بآية من مثله، قال تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ
«٥» . وقال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ٨٨
«٦» فهو النور المبين والحق المستبين لا شيء أسطع من أعلامه ولا أصدع من أحكامه ولا أفصح من بلاغته ولا أرجح من فصاحته ولا أكثر من إفادته ولا ألذّ من تلاوته، قال رسول الله ﷺ: «القرآن فيه خبر من قبلكم ونبأ من بعدكم وحكم ما بينكم» . وقال أيضا ﷺ: «أصغر البيوت بيت صغّر من كتاب الله تعالى» .
وقال الشعبي: الذي يقرأ القرآن إنما يحدث عن ربه ﷿، ووفد غالب بن صعصعة على عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه، ومعه ابنه الفرزدق فقال له: من أنت؟
قال: غالب بن صعصعة. قال: ذو الإبل الكثيرة؟ قال:
نعم. قال: فما فعلت بإبلك؟ قال؛ أذهبتها النوائب «٧» وزعزعتها الحقوق «٨»، قال: ذلك خير سبلها. ثم قال له:
يا أبا الأخطل من هذا الذي معك؟ قال: ابني وهو شاعر.
قال: علمه القرآن فهو خير له من الشعر. فكان ذلك في نفس الفرزدق حتى قيد نفسه وآلى على نفسه أن لا يحل قيده حتى يحفظ القرآن فحفظه في سنة وفي ذلك قال:
وما صبّ رجلي في حديد مجاشع ... مع القيد إلا حاجة لي أريدها
وقال أنس: ﵁: قال رسول الله ﷺ: «يا بني لا تغفل عن قراءة القرآن إذا أصبحت وإذا أمسيت، فإن القرآن يحيي القلب الميت، وينهى عن الفحشاء والمنكر» .
وحكى الزمخشري في كتابه ربيع الأبرار قال: ومن حكايات الحشوية ما قيل إن إبراهيم الخواص مر بمصروع فأذن في أذنه فناداه الشيطان من جوفه دعني أقتله فإنه يقول القرآن مخلوق.
وكان سفيان الثوري رحمه الله تعالى إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة، وأقبل على قراءة القرآن.
وكان الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى إذا دخل شهر رمضان يفر من مذاكرة الحديث ومجالسة أهل العلم، ويقبل على القراءة في المصحف.
وكان أبو حنيفة والشعبي رحمهما الله تعالى يختمان في رمضان ستين ختمة. وقال عليّ رضي الله تعالى عنه: من قرأ القرآن فمات فدخل النار فهو ممن كان يتخذ آيات الله هزوّا.
وقال الشعبي: اللسان عدل على الأذن والقلب فاقرأ قراءة تسمعها أذنك ويفهمها قلبك.
وقال رسول الله ﷺ: «من قرأ القرآن ثم رأى أن أحدا أوتي أعظم مما أوتي فقد استصغر ما عظم الله» . وعنه ﷺ أنه قال:
«إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد» . قيل يا رسول الله وما جلاؤها؟ قال: «قراءة القرآن وذكر الموت» .
وقال عمر بن ميمون: من نشر مصحفا حين يصلي الصبح فقرأ مائة آية رفع الله له مثل عمل جميع أهل الدنيا.
وقال عليّ كرم الله وجهه: من قرأ القرآن وهو قائم في الصلاة كان له بكل حرف مائة حسنة، ومن قرأه وهو جالس في الصلاة فله بكل حرف خمسون حسنة، ومن
1 / 24
قرأه في غير صلاة وهو على وضوء فخمسة وعشرون حسنة، ومن قرأه على غير وضوء فعشر حسنات.
وقال ابن عباس ﵄: لأن أقرأ البقرة وآل عمران أرتلهما وأتدبرهما أحب إلي من أن أقرأ القرآن كله هذرمة «١» .
وقال رسول الله ﷺ: «اقرأوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا» . وعن صالح المزني. قال: قرأت القرآن على رسول الله ﷺ في المنام فقال لي: يا صالح هذه القراءة فأين البكاء؟
وكان عثمان ﵁ يفتتح ليلة الجمعة بالبقرة إلى المائدة وليلة السبت بالأنعام إلى هود وليلة الأحد بيوسف إلى مريم وليلة الاثنين بطه إلى طسم نبأ موسى وفرعون وليلة الثلاثاء بالعنكبوت إلى ص وليلة الأربعاء بتنزيل إلى الرحمن ويختم ليلة الخميس.
وعن علي ﵁ لا خير في عبادة لا فقه فيها، ولا خير في قراءة لا تدبّر فيها. وكان عكرمة بن أبي جهل رضي الله تعالى عنه ولعن أباه، إذا نشر المصحف أغمي عليه ويقول: هو كلام ربي.
وأبطأت عائشة ﵂ على رسول الله ﷺ ليلة، فقال: ما حبسك؟ قالت: قراءة رجل ما سمعت أحسن صوتا منه فقام فاستمع إليه طويلا ثم قال: هذا سالم مولى أبي حذيفة، الحمد لله الذي جعل في أمتي مثله.
وقال ابن عيينة، رأيت رسول الله ﷺ في المنام فقلت يا رسول الله قد اختلفت علي القراءات فعلى قراءة من تأمرني فقال: على قراءة أبي عمرو «٢» . وعن أبي عمرو أني لم أزل أطلب أن أقرأه كما قرأه رسول الله ﷺ وكما أنزل عليه فقدمت مكة فلقيت بها عدة من التابعين ممن قرأ على الصحابة ﵃ أجمعين، فقرأت عليهم فاشدد بها يدك. فينبغي للإنسان أن يحافظ على تلاوة القرآن ليلا ونهارا، سفرا وحضرا.
وقال الشيخ محيى الدين النووي رحمه الله تعالى في كتابه الأذكار: قد كان للسلف ﵃ عادات مختلفة في القدر الذي يختمون فيه، فكانت جماعة منهم يختمون في كل شهر ختمة وآخرون في كل عشر ليال ختمة، وآخرون في كل ثلاث ليال ختمة، وكان كثيرون في كل يوم وليلة ختمة، وختم جماعة في كل يوم وليلة ختمتين، وختم بعضهم في اليوم والليلة ثمان ختمات، أربعا في الليل، وأربعا في النهار.
وروي أن مجاهدا رحمه الله تعالى كان يختم القرآن في شهر رمضان فيما بين المغرب والعشاء. وأما الذين ختموا القرآن في ركعة فلا يحصون لكثرتهم، فمنهم عثمان بن عفان، وتميم الداري، وسعيد بن جبير رضي الله تعالى عنهم، وروينا في مسند الإمام المجمع على حفظه وجلاله وإتقانه وبراعته أبي محمد الدارمي ﵀، عن سعد بن أبي وقاص ﵁، قال: إذا وافق ختم القرآن أول الليل، صلت عليه الملائكة حتى يصبح، وإذا وافق أول النهار، صلت عليه الملائكة حتى يمسي، قال الدارمي:
هذا حديث حسن عن سعد، وأفضل القراءة ما كان في الصلاة وأما في غير الصلاة فأفضلها قراءة الليل، والنصف الأخير منه أفضل من الأول، والقراءة بين المغرب والعشاء محبوبة، وأما قراءة النهار فأفضلها بعد الصبح، ولا كراهة في وقت من الأوقات، ولا في أوقات النهي عن الصلاة، ويستحب الاجتماع عند الختم لحصول البركة.
وقيل: إن الدعاء يستجاب عند ختم القرآن، وإن الرحمة تنزل عند ختمه، ويستحب الدعاء عقب الختم استحبابا مؤكدا تأكيدا شديدا، ويجب على القارىء الإخلاص في قراءته، وأن يريد بها وجه الله تعالى وأن لا يقصد بها توصلا إلى شيء سوى ذلك، وأن يتأدب مع القرآن ويستحضر في ذهنه أنه يناجي ربه ﷾، ويتلو كتابه فيقرأ على حالة من يرى الله تعالى، فإنه إن لم يكن يراه فإن الله يراه، وينبغي للقارىء إذا أراد القراءة أن ينظف فمه بالسواك وأن يكون شأنه الخشوع والتدبر والخضوع فهذا هو المقصود المطلوب وبه تنشرح الصدور ويتيسر المرغوب، ودلائله أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر، وقد كان الواحد من السلف ﵃ يتلو آية واحدة ليلة كاملة يتدبرها ويستحب البكاء والتباكي لمن لا يقدر على البكاء فإن البكاء عند القراءة صفة العارفين، وشعار عباد الله الصالحين، قال الله تعالى: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ١٠٩
«٣» .
وقال السيد الجليل صاحب الكرامات والمعارف
1 / 25