إن اتباع الأسلوب القصصي في التأريخ يتطلب شيئا أكثر من ترتيب الحقائق المفردة بموجب زمن وقوعها، ولو اكتفينا بذلك وحده لأصبح التاريخ مجرد ضم الحقائق بعضها إلى بعض. فلا بد للمؤرخ في مثل هذه الظروف من النظر في الأسباب والمسببات، وإظهار العلاقات المنطقية التي تربط حقائق الماضي بما قبلها وما بعدها، وذلك لأجل تبيان التطور في التاريخ، وهو من أهم أهداف المؤرخ وأنفع الوسائل التي يتذرع بهم لفهم الحاضر. (3)
إن للظروف أحكاما، والمؤرخ مربوط بقرائه. فقد يؤثر القصة في مخاطبة الجمهور، وقد ينظم حقائقه على أساس مضمونها، إذا هو خاطب طبقة معينة من طبقات القراء، وقد يرى في ترتيب حقائقه على أساس جغرافي ما يضمن له نجاحا باهرا في بعض الظروف. (4)
على أنه لا بد من التصريح بأفضلية الأسلوب القصصي في غالب الأحيان؛ وذلك لأن وقائع الماضي حدثت على هذا الشكل. فإذا ما حاول المؤرخ أن يرويها كما وقعت فإنه يكون أقرب للحقيقة، والتاريخ علم من هذه الناحية؛ وكعلم يتطلب الحقيقة كما هي لا كما نريدها أن تكون.
الباب التاسع
الاجتهاد
وقد تتوفر الحقائق المفردة في ناحية من نواحي الماضي وتعدم في الناحية الأخرى؛ فيجتهد المؤرخ في تلافي ما قد يقع من فراغ، والاجتهاد في اللغة كما قال أبو حامد الغزالي: «هو عبارة عن بذل الجهود واستفراغ الوسع في فعل من الأفعال، ولا يستعمل إلا فيما فيه كلفة وجهد. فيقال: اجتهد في حمل حجر الرحا، ولا يقال: اجتهاد في حمل خردلة. لكن صار اللفظ في عرف العلماء مخصوصا ببذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة، والاجتهاد التام أن يبذل الوسع في الطلب بحيث يحس من نفسه بالعجز عن مزيد الطلب.»
1
وقد يقع مثل هذا الفراغ في علم من العلوم الطبيعية، فيتلافاه العلماء بالتجربة والاختبار وإعادة المشاهدة، فلا ينفكون عن ذلك حتى يتم لهم ما أرادوا، فيضيفونه إلى سائر المعلومات، ويسدون الثلم. أما المؤرخ فإنه بعيد عن المشاهدة عديم التجربة؛ فيضطر، والحالة هذه، أن يجتهد في الأمر فيتذرع بالمنطق، ويعمل أحيانا بما نريد أن نسميه الاجتهاد السلبي، وأحيانا أخرى بالاجتهاد الإيجابي.
والاجتهاد السلبي هو ما عبر عنه المناطقة بقولهم: «السكوت حجة.» ومعناه أن يتمكن المؤرخ من القول بأن كذا وكذا لم يحدث لأن الأصول خالية، وهو أمر خطير للغاية؛ فقد يكون السكوت حجة وقد لا يكون، ولا بد من التثبت من أمور ثلاثة قبل التذرع بمثل هذه الحجة، وهي ما يأتي: (1)
أن يكون المؤرخ على يقين جازم من أمر اطلاعه على جميع الأصول. (2)
Unknown page