ويصح لنا بناء على هذا الإثبات للأصلية أن نقول: إن أهالي دمشق ودعوا عبد الله باشا خيرا، فقال: إنه اتعد، وإنهم قالوا: إنهم فعلوا ذلك لخروج محمد علي باشا على السلطان، وإن عبد الله شدد عزائمهم ونشط قلوبهم، ولكننا نجد أنفسنا مضطرين لطلب تزكيتين على الأقل مستقلتين، الواحدة عن الأخرى، لتأييد كلام الدمشقيين في سبب انقباضهم عن إسعاف الباشا المصري، ومقاومتهم إياه، ولما كان هذا العدد والنوع من التزكيات الفنية غير متوفر لدينا الآن، لا نرى مناصا من الاكتفاء بالقول إن الدمشقيين «قالوا»: إنهم قاوموا المصريين لأن هؤلاء خرجوا على السلطان، وإنهم - أي الدمشقيين - اشتهروا بتعصبهم ومحافظتهم على التقاليد القديمة، دينية كانت أم اجتماعية.
22
ولكن هل هذا كل ما في الأمر؟ أم هناك دخلة مكنونة لا بد لنا من إظهار بعضها وإماطة اللثام عنها. نقول: نحن على مرية من أمر مقتل الباشا كما ورد في الرسالة الأولى، وقد ترددنا ولا نزال نتردد في صحته لغرابته ومخالفته الأصول المعروفة. قال المؤرخ الدمشقي المجهول واضع مخطوطة برلين المشار إليها سابقا: «وفي الساعة الواحدة من الليل أحضروا كيخية سليم باشا، وخاله من بيت المفتي إلى عنده، وقالوا لهم: إن الوزير طالبكم، ودخل أولاد البلد الساعة الرابعة من الليل، قتلوا كيخية الوزير وخاله والقبجي والسلحدار والخزندار والمهردار، وكان الوزير حينئذ في القاعة، فسمع العكرة بأرض الدار فسكر الباب من جوا، وكان عنده مملوك وطواشي، صاروا يدكوا له، وهو يقوص حتى قتل ستة أنفار من أولاد البلد، وبعد هذا طلع ناس إلى ظهر القاعة، حفروه ونقبوه وقوصوه فرموه، وأناس علقت النار في باب القاعة ... وهو وقع من القواص، فلحقته النار احترقت ذقنه وشواربه وتشلوط كل بدنه ولا يعاد ينعرف شكله.»
23
ويزكي قول هذا المؤرخ ما جاء في الجواب على اقتراح الأحباب للدكتور مشاقه، وفي حوادث الشام ولبنان، ولعلها لمخائيل الدمشقي، وكتاب الروضة الغناء لنعمان القساطلي.
24
ولا يخفى ما في هذا القول المزكي من المناقصة لقول الدمشقيين أنفسهم، فهم يقولون: إن سليما قتل نفسه، والمؤرخون المعاصرون يقولون: إنهم هم قتلوه. فأي القولين نقبل؟ نقول: تدل محتويات المخطوطة البرلينية أن كاتبها كان دمشقيا
25
من وجهاء الطائفة الأرثوذكسية المسيحية، وأنه كان في إمكانه أن يشاهد بعض ما يرويه عن مقتل الباشا، وأنه كان يدون رواياته حين وقوع حوادثها أو بعد ذلك بزمن يسير. هذا ولا نعرف له مصلحة؛ كان بإمكانه أن يخدمها بقوله هذا أو ظروفا كانت تضطره لتزوير شيء عن مقتل الباشا، أو أنه كان يتودد للعامة فيكتب ما يرضيهم، فهو لم يذكر اسمه ولا مهنته، ولم يقصد نشر مخطوطته على ما نعلم.
26
Unknown page