وجاء في مخطوطة لندن ما نصه: «ومحمد سليم باشا كان يفتكر يجيه إسعاف من جهات، وجميع الناس صاروا ضده من الجملة؛ عبد الله باشا والي عكا، كان يرسل يقوي عبارة أهل الشام كذا شاع عنه.»
20
وكذلك الدكتور مشاقه، فإنه قال في مخطوطته المشار إليها سابقا ما يأتي: «ثم حضر من عكا الجربجي الداراني الذي كان نازحا إليها من وجه سليم باشا، والقول إن عبد الله باشا أرسله لإتمام ما جرى بعد ذلك، لغاية ما؛ لأنه كان صاحب سطوة جسيمة بين كبراء دمشق.»
21
ولا يخفى ما في هذا القول جميعه من صيغة التمريض والإبهام، كما يتضح من قول المؤرخ المجهول في المخطوطة البرلينية «وظهر» وقول ميخائيل الدمشقي «وشاع» واكتفاء الدكتور مشاقة بكلمة «والقول»، وكذلك فإن قول المؤرخين الإفرنج المشار إليهم آنفا لا يخلو من الترجيم، ولا يخرج بعضه عن حد المظنونات. غير أننا مع إقرارنا بهذا التمريض والترجيم والإبهام كله كنا نأمل أن نستبصر بهذا القول عن مقتل محمد سليم باشا، فنكشف القناع عن موقف الدمشقيين الحقيقي تجاه النزاع الذي وقع بين والي عكة وعزيز مصر وقتئذ، ونحسر اللثام عن أميالهم السياسية.
وهكذا جرى فإننا توفقنا عام 1927 فوجدنا في سجل المحكمة الشرعية بمدينة دمشق رسالتين من عبد الله باشا إلى أهالي هذه البلدة يرجع عهدهما إلى سنة 1831، ويدور منطوقهما حول مقتل سليم باشا وخروج محمد علي باشا إلى سوريا، ومع أننا لم نجد في هاتين الرسالتين نصا صريحا على حقيقة موقف الدمشقيين، فإننا بدأنا آنئذ بالخروج من حيز الظن إلى جهة الترجيح واليقين - ترجيح ما أومأته إلينا تلك المقدمات وما صوره لنا ذلك الظن.
نص الرسالة الأولى: «بيورلدي بختم كبير من حضرة عبد الله باشا، والي عكا صدر الموالي العظام، عمدة العلماء الكرام ونخبة الفضلاء الفخام ذو الفضل واليقين، رافع أعلام الشريعة والدين وارث علوم الأنبياء والمرسلين، المختص بمزيد عنايت الملك (المعين) قاضي محروسة دمشق الشام حالا أفندي زيدت فضائله، وافتخار العلماء الكرام وزبدة الفضلاء الفخام المأذون بالإفتا أفندي زيدت علومه وفرع الشجرة الزكية وطراز العصابة الهاشمية، قائمقام نقيب الأشراف أفندي، زيد شرفه ومفاخر أقرانهم علماء المدينة وأعيانهما ووجوهها وأرباب التكلم بوجه العموم زيدت مقاديرهم، بعد السلام التام بمزيد الإعزاز والإكرام المنهي إليكم، اطلعنا على عرض محضركم المتضمن التخبير عما حصل من المرحوم محمد سليم باشا وقتله كتخداه، وما حصل بهذه الحركة بينه وبين الحراس وقتله ثلاثة أنفار منهم، وإنه أخيرا جلس على صندوق باروت، وقوصه بيده فاحترق هو والأوده بما فيها، فلما بلغ ذلك أعيان البلدة توجهوا اخرجوا أتباعه بالسلامة، وسيروهم من الشام بالأمن والحراسة، وحررتم الموجودين التي بالأودة التي احترقت بالمشار إليه، وأما أمين بك أفندي المأمور من طرف حضرت ولي نعمتنا الدولة العلية صانها وحرسها رب للبرية، فهو مقيم بالراحة والرفاه في قوناق أسدكم الحاج محمد أغا الداراني، وجميعها شرحتوه وأعرضتوه صار معلوم، فنخبركم أن قبل تاريخه عرض محضركم الذي أرسلتموه لطرفنا قدمنا أعراضه لجناب العتبة العليا الملوكية، فلا زالت على الدوام مصانة ومحمية، صحبة سر تاتاران بابنا، والآن عرض محضركم هذا قدمنا أعراضه أيضا لجانب العتبة العالية الملوكية صحبة تاتاران بابنا، ونحن بانتظار الأوامر الشريفة والإرادة السامية الشاهانية بمصلحة إيالت الشام المراد تكونوا متنبهين لحفظ الموجودات، وراحة البلدة إلى حين ورود الأجوبة لنا من جانب حضرة ولي نعمتنا الدولة العليا والسلطنة السنية أعز الله - تعالى - أنصارها وقوى شوكة اقتدارها، فبناء على ذلك أصدرنا لكم بيور لدينا هذا من ديواننا في قلعة النصر، داخل دار الجهاد محروسة عكا المحمية عن يد رافعه، فبوصوله ووقوفكم على مضمونه تعلموه وتعملوا بموجبه، وتعتمدوه غاية الاعتماد في غرة ج سنة 1247 قيد سند في 6 ج سنة 47 بختم صغير.»
نص الرسالة الثانية: «بيورلدي باختم كبير من عبد الله باشا والي عكا صدر الموالي العظام عمدة العلماء الكرام، ونخبة الفضلاء (الفخام) معدن الفضل واليقين رافع أعلام الشريعة والدين وارث علوم الأنبياء والمرسلين، قاضي محروسة الشام حالا مولانا أفندي زيدة فضائله وافتخار العلماء الكرام ونخبة الفضلاء الفخام المأذون بالإفتا بها أفندي زيدة علومه، وفرع الشجرة الزكية وطراز العصابة الهاشمية قائمقام نقيب السادة الأشراف أفندي زيد شرفه ومفاخر العلماء الكرام، ونخبة المدرسين الفخام وزبدة العلماء العظام علماء المدينة ومدرسينها وصلحائها زيدة علومهم وفضلهم وصلاحهم، ومفاخر الأماجد والأعيان وجوه وأعيان المدينة وأرباب التكلم ومقارشين الأمور زيد مجدهم وقدرهم، بعد التحية والتسليم بمراسم الإعزاز والتكريم، والسؤال عن خواطركم المنهي إليكم، اطلعنا على عرض محضركم المتضمن توارد الأخبار لطرفكم عن قدوم عسكر والي مصر إلى إيالات بر الشام، ودخوله إلى غزة ويافا وإنه مرسل مراكبه بحرا وبوجه الفراسة تحققتم إن ذلك خروج على السلطان، لزم عقدتم مجلس عمومي بحضور جميعكم وتفاوضتم بأمر هذا الخارجي، والجميع منكم بقول واحد وقلب واحد اتفقتم، أن جميعكم عبيد حضرة ولي نعمتنا الدولة العليا والسلطنة السنية أعز الله أنصارها وقوى شوكة اقتدارها وأعدا لمن عاداها وأصدق لمن صادقها وجميعكم بهذا الاتفاق كجسم واحد بإطاعتنا، وتحت أوامرنا وجميع ما شرحتوه ووضحتوه حرفا بحرف صار معلوم، فنخبركم أن الأمر كما تحققتم، ووالي مصر بوجه الخروج على السلطان تجرأ على الفعل الوخيم العواقب، وأرسل عساكره وتكناته المنحوسة لأجل الاستيلاء على هذه المماليك الشامية، التي هي وإيالت مصر أيضا ملك حضرة مولانا السلطان نصره العزيز الرحمن، ومن المحقق تقارب الأجل، وحلول أوان زوال النعم أغراه لهذا الخروج الذي عواقبه الدمار والبوار وقلع الآثار، ولقد أصبتم بما عقدتم عليه رأيكم واتفقتم عليه بقلوبكم، وهو بلا شك موجب لكم سعادة الدارين، ولقد انحظينا الحظ التام من ارتباطكم للخدامة الصادقة أمام حضرة ولي نعمنا الدولة العليا صانها وحرسها رب البرية؛ إذ نحن بحوله تعالى وقوته وباهر جلال عظمته بغاية القوة والاستعداد والنشاط التام لخدامة حضرة ولي نعم العالم، وسبب أمن وراحة بني آدم ظل الله الظليل سلطان السلاطين وخاقان الخواقين - أعزه الله بنصره المبين - وقهر أعداء الخاسرين انكان بلقاء هذا الخارجي وضربه وتدميره، وانكان بجميع الخدامات والمأموريات، فأنتم يلزم تقووا اعتصابكم واعتضادكم هذا، وتنشطوا العزائم الإسلامية بهذا الاتفاق الحسن الذي فيه خير الدنيا والآخرة وتكونوا منتظرين أوامرنا، فبناء على ذلك أصدرنا لكم بيورلدينا هذا من ديواننا في قلعة النصر، داخل دار الجهاد محروسة عكا المحمية بوصوله واطلاعكم على مضمونه تعتمدوه غاية الاعتماد، وتداوموا على خير الدعاء بالأماكن والأوقات المظنونة الإجابة بدوام سرير سلطنة حضرة مولانا السلطان نصره العزيز الرحمن، وخلد سرير سلطنته العظماء إلى انتهاء الأزمان وانقراض الدوران، هذا ما لزم أخباركم والدعاء في 11ج سنة 247 قيد سند 14ج سنة 247.»
إثبات الأصلية وإقرار المضمون
هذا هو نص هاتين الرسالتين كما عرفناه في سجل المحكمة المذكورة، وقد أبقيناه على حاله بحروفه وغلطاته، ونحن نرى في وجود هاتين الرسالتين ضمن سجل رسمي يرجع عهده إلى ذلك الزمن دليلا قويا يثبت أصليتهما ويقرها بوجه الإجمال، ولنا أيضا في صحة أصل الصكوك الشرعية التي ترد قبل هاتين الرسالتين في السجل نفسه، وبعدهما ما يقوي اعتقادنا في سلامة أصلهما وعدم تزويره، وبعد المقابلة بين نص هاتين الرسالتين ونصوص غيرهما من رسائل عبد الله باشا التي تحمل ختمه وإمضاءه، والتي لا تزال محفوظة حتى الآن لدى أرباب البيوت الكبيرة في فلسطين وسوريا تمكنا من الوقوف على دليل آخر يدعم هذا الإثبات ويؤيده. فإنك لو طلبت المجموعة الفاهومية في الناصرة، وأخذت بيدك مراسيم هذا الباشا إلى الشيخ عبد الله الفاهوم وغيره لوجدت فواتحها وخواتمها كفواتح هاتين الرسالتين وخواتمها بالضبط. ثم إننا لا نجد فرقا بين لغة وأسلوب هاتين وتلك.
Unknown page