تعيرنا أنا قليل عديدنا ... فقلت لها إن الكرام قليل
وما ضرنا أنا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل
وإنا لقوم لا نرى سبة ... إذا ما رأته عامر وسلول
يقرب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول
قد أخلني من الطرب ما لا مزيد عليه إلى أن عاجلني السكر وإياه فلم أستيقظ إلا بعد المغرب، فعاودني فكري في نفاسة هذا الحجام، وحسن أدبه وظرفه، وكيف اقتضاني من الغناء ما أراد به أن يسليني وغنائي ما فيه إشارة لتخصصه، فقمت وغسلت وجهي وأيقظته، وأخذت خريطة كانت صحبتي فيها دنانير لها قيمة كبيرة فرميت بها إليها وقلت له: أستودعك الله فإني ماض من عندك، وأسألك أن تصرف ما في هذه الخريطة في بعض مهماتك، ولك عندي المزيد إن أمنت من خوفي فأعادها إلي منكرا وقال: يا سيدي إن الصعلوك منا لا قدر له عندكم من ذوي الرياسات، وتظن به الظنون الردية، أآخذ على ما وهبنيه الزمان من قربك وحلولك عندي ثمنا؟ فألححت عليه فأومأ إلى موسى له وقال: والله لئن راجعتني في ذلك لأقتلن نفسي، فخشيت عليه وأخذت الخريطة وأعدتها إلى كمي، وقد أثقلني حملها، فلما انتهيت إلى باب داره معولا على الخروج قال: يا سيدي إن هذا الموضع أخفى لك من غيره وليس في مؤنتك فأقم عندي إلى أن يفرج الله عنك، فرجعت وسألته أن يكون منفقا من تلك الخريطة فلم يفعل، وكان في كل يوم يفعل مثل ما فعل في يوم حلولي به، فأقمت أياما في أطيب عيش، فتذممت من الإقامة في مؤنته، واحتشمت من التثقيل عليه فتركته، وقد مضى يجدد لنا أحوالنا، فقمت وقد تزينت بزي النساء بالخف والنقاب وخرجت، فلما صرت في الطريق داخلني من الخوف شيء شديد، وجئت لأعبر الجسر فإذا الماء بموضع قد رش حتى صار زلقا فبصر بي جندي ممن كان يخدمني فعرفني، فقال: هذه حاجة المأمون وتعلق بي فمن حلاوة الروح ودفعته وفرسه فرميتهما في ذلك الزلق فصار عبرة، وتبادر الناس ليقتلوه، فاجتهدت في المشي حتى قطعت الجسر، ودخلت زقاقا فوجدت باب دار وامرأة في دهليزه فقلت: يا سيدة النساء أحقني دمي فإني رجل خائف، فقالت: على الرحب، وأطلعتني إلى غرفة، وفرشت لي وقدمت لي طعاما، وقالت ليهدأ روعك فما يعلم مخلوق بك عندي، ولو أقمت سنة، فهي معي في ذلك وإذا الباب يدق دقا عنيفا فخرجت ففتحت الباب وإذا بصاحبي الذي دفعته على الجسر وهو مشدود الرأس ودمه يجري على ثيابه وليس معه فرس فقالت له: ما دهاك؟ فقال لها: إن حديثي عجيب، ظفرت بالغنى وانفلت مني، قالت: وكيف ذاك؟ قال: إبراهيم بن المهدي لقيته وعنقت به فدفعني والفرس، فأصابني ما ترين وانفلت مني، ولو كنت حملته إلى المأمون لجعلت مائة ألف درهم فأخرجت له حراقا علته في جرحه وعصبته، وفرشت له في القاعة ونام عليلا، وطلعت إلي وقالت أظنك صاحب القصة فقلت: نعم قالت: لا بأس عليك. ثم جددت الكرامة لي وأقمت عندها ثلاثا. ثم قالت: إني خائفة عليك من هذا الرجل لئلا يطلع على أمرك فينم بك فانج بنفسك. فسألتها إمهالي إلى الليل ففعلت. فلما دخل الليل لبست زي النساء وخرجت من عندها فأتيت إلى بيت مولاة كانت لي. فلما رأتني بكت وتوجعت لي وحمدت الله على سلامتي، وخرجت كأنها تريد السوق للاهتمام في الضيافة، فظننت خيرا، فما شعرت إلا بإبراهيم الموصلي بنفسه في خيله ورجله وحفله والمولاة معه حتى سلمتني إليه، فرأيت الموت عيانا، وحملت بزيي إلى المأمون، فجلس مجلسا عاما وأدخلني إليه، فلما قمت بين يديه سلمت عليه بالخلافة فقال: لا سلم الله عليك، ولا حياك ولا رعاك، فقلت: على سرلك يا أمير المؤمنين إن ولي الثار محكم في القصاص، والعفو أقرب للتقوى، ومن تناوله الاغترار بما مد له من أسباب الرجاء لم يأمن عادية الدهر، وقد جعلك الله تعالى فوق كل عفو، كما جعل كل ذنب دون عفوك، فإن تأخذ فبحقك وإن تعف فبفضلك ثم أنشدت:
ذنبي إليك عظيم ... وأنت أعظم منه
فخذ بحقك أولا ... فاصفح بحلمك عنه
إن لم أكن في فعالي ... من الكرام فكنه
فرفع رأسه إليه فبدرته وقلت:
أتيت ذنبا عظيما ... وأنت للعفو أهل
فإن عفوت فمن ... وإن جزيت فعدل
Page 22