96

Mustafa Nahhas

مصطفى النحاس

Genres

ألا ثقي بما أنا قائل لك. إن هذا الغلام العزيز نجم سوف يروح كوكبا فرقدا متألق الضياء، وسوف يصيب في يوم من الأيام إعجاب أوروبا المستنيرة كلها، ومن ثم ينبغي للناس جميعا أن يعدوه كشيء هو ملك لهم، لا ملك أحد خاصة، ومن الخير للناس مجموعا، ولمصلحة الإنسانية ذاتها، أن ينتفع بمواهبه الخارقة المألوف التي حبته الطبيعة بها، وأن توجه أحسن التوجيه. وإن عليك لواجبا عظيما، وهو أن تضحي بكل ما يمكن التضحية به في سبيل تربية هذا الوليد وتنشئته.

وقد كانت هذه الكلمات نبوءة من الكولونيل حققتها الأيام، وقد راح في الكتاب ينصح لوالدة مازيني أن تقصر دراسة الطفل على ما يكسبه المعارف الصحيحة والعلم المحض والثقافة النقية من أخلاط النظريات والقضايا الجدلية، وأن تجنبه تناول الكتب الحاوية لصنوف الحوار، ومختلف وجهات النظر، قائلا في ختام رسالته: «إن ذهنا عبقريا كذهنه سوف يسهل عليه أن يختار لنفسه الكتب الصالحة من هذا الطراز في الأوان الموافق، والحين المناسب.»

ولعل والد مصطفى قد وجد نفسه في الموقف الذي وجدت والدة مازيني نفسها فيه حيال ما ذر من ذكاء وليده، وما بدر من مخايل نجابته، فاستنصح الصحب في أمره، واستشار أهل مودته فيما عسى أن يسلكه بشأنه. وكان فيهم صالح باشا ثابت وعبد الحميد أفندي حافظ وغيرهما؛ فكانت النصيحة أن يدخله في إحدى مدارس القاهرة، وكأنما أحس القوم يومئذ حيال هذا الغلام الذكي من الحداثة، القوي الذاكرة في الطفولة، أنهم أمام ظاهرة غير مألوفة، وأن لهذا الغلام شأنا في غده، وهي النبوءة التي كثيرا ما صحبت طفولة العظماء، واستبقت في الصغر مصائر النوابغ والمتفوقين.

وأدى البحث في أي المدارس أصلح له إلى اختيار المدرسة الناصرية، وكانت يومئذ أكبرها شأنا، يختلف إليها أبناء اليسار وأولاد أهل الجاه والعظاميين، وكان ناظرها أمين سامي باشا المربي المعروف.

وكان خروج مصطفى من البلد الذي درج من المهد فيه، والوسط الناضر الذي كان يحتويه، والأفق المنزلي الوادع الذي يكتنفه إلى القاهرة في تلك السن الباكرة، منظرا في البيت مؤثرا، وموقفا أحسبه لا يزال إلى الساعة منطبعا على صفحة خاطره. ولا ريب في أن وداع والدته الحنون الرءوم له كان أليما، ولا بد من أن يكون قد جرى مقترنا بنصائح الأم ووصاتها للطفل الذي راح يغترب عن أفقه الصغير ليعيش في أفق جديد غريب عليه، وسط الحاضرة المليئة بالإغراء، المزدحمة بالمفاتن، الجديدة على طفل من الريف نقي الصفحة بريء الخاطر.

لقد دعت أمه الله له بأن يتولى حراسته ويجنبه السوء ويرعاه، وهي في إشفاق ودموع. وصحبه والده في سفره ليدخله المدرسة وهو مستخير الله في أن يسلك بولده مسالك التوفيق.

وكان مجيء مصطفى إلى «الناصرية» في الثلاثة الأشهر الأخيرة من السنة الدراسية، فأمر الناظر بامتحانه ليعلم أي الفرق هو لها الصالح المناسب؛ فظهر يومئذ أنه يليق للسنة الثانية، فسلك في تلاميذها. وكان من المشقة عليه - ولا ريب - أن يجاري زملاءه وإخوانه فيها، وهو لم يدخلها معهم من بداية السنة، ولكنه جاء من الريف يحمل أول بوادر النبوغ، فلم يلبث أن تفوق على أقرانه جميعا في امتحان النقل إلى السنة الثالثة.

وعاد مصطفى في الإجازة الصيفية إلى سمنود ليجد أحضان أمه المشوقة إليه، وتوق أبيه المتوسم الخير فيه. عاد إلى المروج النضرة، والحقوق الممرعة، وحرارة الشمس الساطعة، ومنظر النهر وأمواهه المتدفقة، ورجع إلى البيت الذي غاب أشهرا عنه، وهو أبدا في خاطره، كما هو في أخلاد أهله؛ ففرح بهذه المتعة النفسية، واستروح لهذه اللقاءة اللاهفة، ومضى يغشى معاهد الطفولة، ويطوف ملاعب الحداثة؛ ولكن بنفسية جديدة، نفسية الصغير الذي نجح في الامتحان، وتفوق على الأقران؛ فحركت هذه المشاعر في نفسه طماحة النبوغ الباكر، ونفث النجاح في روحه أن يطوي وحده السنة الرابعة باستذكار دروسها، حتى إذا حل العام الدراسي الجديد، انتظم في سلك الدراسة الثانوية قافزا طافرا.

مصطفى النحاس.

ولكن أمين سامي باشا لمح في مصطفى تلك البوادر السراع المتوثبة، فخشي أن تخمد تلك الجذوة بإرهاقها، وتخبو حرارتها بالحمل عليها وإجهادها؛ فنصح بأن يسير الطفل في الدراسة سيرة طبيعية، وأشفق والده عليه من تلك الطفرة الخطرة؛ فأشار عليه بالترفق، خيفة الإيغال، وبالتؤدة؛ لأنها أعون على شقة المسير، فأطاع مصطفى ورضي النصيحة، ودخل السنة الرابعة الابتدائية، فكان في نهايتها أول الناجحين.

Unknown page