يقول: «إن الله سيفتح عليكم بعدي مصر، فاستوصوا بقبطها خيرا، فإن لهم فيكم صهرا وذمة، فكفوا أيديكم، وعفوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، ولا أعلمن ما أتى رجل قد أسمن جسمه وأهزل فرسه، واعلموا أني معترض الخيل كاعتراض الرجال، فمن أهزل فرسه من غير علة حططته من فريضته قدر ذلك، واعلموا أنكم في رباط إلى يوم القيامة لكثرة الأعداء حولكم، وتشوف قلوبهم إليكم وإلى داركم، معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة النامية، فاحمدوا الله - معشر الناس - على ما أولاكم، فتمتعوا في ريفكم ما طاب لكم، فإذا يبس العود، وسخن الماء، وكثر الذباب، وحمض اللبن، وصوح البقل، وانقطع الورد من الشجر، فحي إلى فسطاطكم، على بركة الله، ولا يقدمن أحد منكم ذو عيال إلا ومعه تحفة لعياله، على ما أطاق من سعته أو عسرته، أقول قولي هذا وأستحفظ الله عليكم.
وفي سمنود مساجد كثيرة قديمة العهد، كانت كلما تهدمت، رممت وأصلحت، وفي جهتها القبلية - كما روي في الخطط التوفيقية - «وابور» لورثة البدراوي بك أنشئ لحلج القطن وسقي المزروعات، ولكنه أزيل اليوم وأقيمت في موضعه المدرسة الابتدائية التي أنشأها من قبل وقف البدراوي، وضمت الآن إلى وزارة المعارف عقب قيام مصطفى النحاس باشا أخيرا بالنظارة عليه. وكانت في الجهة القبلية من المدينة أيضا «ورشة» قماش لورثة البدراوي، فأصبح موضعها اليوم فناء للمدرسة، ومضيفة للوقف لإيواء النازلين، ومثوى للطارئين وقرى للطاعمين. وثم كذلك «وابور» كان لرجل من الإنكليز يدعى مستر ماجور في الجهة البحرية، ولكنه آل بعد ذلك إلى رجل فرنسي يدعى مسيو فوميه، من تجار الأقطان، واستحال أخيرا إلى أنقاض دارسة، وفي تلك الجهة أيضا دار أنشأها عبد العال بك، مشرفة على البحر، ذات سياج من حديد ورصيف، وقد رتب صاحبها قراءة القرآن فيها كل ليلة، وهذه الدار قائمة إلى اليوم كما كانت في عهد منشئها الأول، ولكنها أصبحت وقفا، وقد أجرى عليها الواقف مالا لقراءة القرآن وإقامة الأذكار، وهي اليوم مقابلة تماما لدار أسرة الرئيس، ولكن للأسف سوف تزال تلك الأبنية القديمة لإقامة كوبري سمنود الحديث.
وفي سمنود من البيوت المشهورة بيت أحمد البدراوي رئيس المشيخة بحارة الشيخ سلامة، وبيت أحمد الصعيدي بحارة الدوار، ومنزل الشعراوي نصير على البحر، ومنزل السيد عبد العال رئيس مجلس مركزها، ومنزل مصطفى أفندي سبلة، وقد آلت هذه المنازل جميعا إلى ورثة أصحابها، وقد ظلت باقية على حالها، كما بقيت الأزقة والشوارع مسماة بتلك الأسماء.
وتحوي سمنود في رواية الخطط التوفيقية معملا للدجاج، أنشأه البدراوي الكبير، وكان يستخرج منه في كل سنة مائة ألف دجاجة، ولكن هذا المصنع قد أتت عليه الأيام، ثم أعيد إلى مكانه بالذات من عشر سنوات، واسترد سيرته الأولى وشأنه القديم.
وكان عدد المسلمين في سمنود لذلك العهد الذي نروي عنه اثني عشر ألفا، فأصبح اليوم قرابة سبعة عشر ألفا. وكان الأقباط فيها يبلغون خمسمائة، ولكنهم اليوم لا يبلغون على الأرجح أكثر من مائتين، وكان عدد الإفرنج (الأجانب) نحو العشرين، ولكنه كان قد زاد فترة من الزمن، ثم عاد اليوم قريبا من ذلك أو نحوه.
وكانت سمنود تحوي آثارا كثيرة، ولكن اليوم ليس فيها غير أثر يدعى «فدان الحجر»؛ لكثرة الأحجار الأثرية فيه، والتماثيل القديمة والنقوش الهروغليفية التي ترجع إلى حضارة قدماء المصريين. وكانت بجوار هذا الأثر هضبة مرتفعة يقال لها التل، وكان أهل سمنود يقتطعون من ذلك التل الأثري ترابا لتسميد الأرض وتخصيب التربة، ولم يكن ذلك محظورا في ذلك الحين، وقد اغتنى خلق كثير من اقتطاع الأتربة من ذلك التل؛ إذ كانت تحوي آثارا ونفائس من ذهب وفضة، فأصابوها لأنفسهم فيما حملوا من ترابه، ولكنه اليوم قد زال، وأصبح مكانه أرضا زراعية، وإن ظلت مشهورة باسم «التل» إلى الآن.
مصطفى النحاس باشا.
وكان شيخ الناحية في ذلك العهد هو المرحوم علي بك البدراوي، وكان رجلا ذا نفوذ كبير، حتى لقد عهد إليه محمد علي الكبير بجباية الضرائب، وكان واسع الحيلة، شديد البطش، فاقتنى أملاكا كثيرة، وأرضا مترامية الأرجاء، بقي له منها ألف وسبعمائة فدان، غير المنازل والدور، فأوقفها جميعا على وجوه البر وسبل الخير، ولم يجعل لأولاده منها غير مرتبات محدودة تجري عليهم، وقد عهد بهذه الأوقاف أخيرا إلى مصطفى النحاس باشا، فأحسن إدارتها، ورد الحقوق إلى صاحبها، وقام عليها خير قيام.
ويعود تاريخ بناء الدار التي كان فيها مولد مصطفى النحاس وإخوته إلى عهد جده المرحوم الشيخ سالم النحاس، فهو الذي شيدها وجعلها واسعة الرحاب، فسيحة الأفنية، على طراز ذلك العهد وأسلوب عمارته، وهي لا تزال إلى اليوم حسنة الطلاء، مدهونة بالزيت، جميلة النقوش، وقد آلت الدار إلى ولده المرحوم الشيخ محمد النحاس والد الزعيم؛ فابتنى فوقها طبقتين زوج فيهما ولديه المرحوم محمد بك النحاس والأستاذ سالم النحاس، وهي إلى اليوم منزل العشيرة، ولها في سمنود مقام كبير وشأو عظيم، استمدته من مكان عميدها اليوم الذي نبت منها أطيب منبت، ونشأ خير تنشئة، وأرسل اسم سمنود ذاتها مع مطار الشمس، ورفع ذكرها في العالم بجملته.
وكانت سمنود إلى عهد غير بعيد مركز تجارة واسعة للأخشاب، فاشتغل المرحوم الشيخ محمد النحاس والد زعيمنا بهذه التجارة، ولم يكن تاجرا كبير الثروة متسع النطاق مترامي المعاملة؛ ولكنه كان مع ذلك غنيا باسمه الحسن، وشهرته النقية، وسمعته الطاهرة في الأسواق ، وهو أنه التاجر المستقيم، أو «التاجر الذي لا يكذب»، فوثق الناس به، وسكنوا إلى ذمته حتى لقد كان التجار الآخرون إذا جاءهم أحد يريد معاملتهم لجئوا إليه يسألونه رأيه فيه، فإذا ما شهد له أخذوا بشهادته ووثقوا برأيه. ولقد كان في سمنود تجار أخشاب أكبر منه ثروة، وأوسع من متجره نطاقا، ولكنهم لم يصيبوا من حسن السمعة مثل الذي ترامى له، وتسامع الناس به من أمر استقامته ونقاء ذمته، فكان مآل تجارتهم من بعدهم إلى زوال وفناء.
Unknown page