91

Mustafa Nahhas

مصطفى النحاس

Genres

ولعلنا في هذا الكتاب قد أطلنا في المقدمات، وترامى بنا البحث بعيدا من موضوعه، ولكنا أردنا ذلك ليجيء الكلام دراسة صالحة في باب جديد لم يعالج، وبحثا حسنا في ناحية خطيرة لم تتناول، وليكون الشطر الأول منه بسطا وتقريرا، والشطر الثاني تطبيقا وتقديرا، وليست النية فيه - كما أسلفنا - أن نضع تاريخا أو نسوق الكتاب مساق المديح، فإن التاريخ لا يكتب بعد، والمديح لا يجدي شيئا ولا يرد، فقد أوفى مصطفى النحاس على الغاية التي يستوي عنده فيها الذم والمدح؛ لأن كل الذم أعرج لا يصعد إليه، وكل المديح زيادة لا خير فيها لديه، وإنما أردنا أن نسجل جهودا صالحة أثمرت، ومعارك سياسية انتهت بفوز مبين.

لقد جاء هذا الكتاب «المتواضع» تحية لذلك الفوز وتقديرا لبراعته، وقصا لظروفه وحوادثه، وسردا لجملة حوافزه، فلم يكن غناء عن حديث الزعامة وأسرارها، والقيادة الوطنية وطرازها وغرارها، وبيان صفاتها ومزاياها، ولم يكن بد من حديث الزعيم الذي قاد الأمة إلى هذا النصر، ووجه الشعب هذا التوجيه، وسار بالسفينة وسط الأنواء هذا المسير.

مصطفى النحاس نشأته وتكوينه

كان سعد من أهل الريف، وجاء مصطفى كذلك منه، بل من الإقليم ذاته، ولم يكن بين مولد سعد ومنبت مصطفى غير مسافة قصيرة وأميال معدودة، وكلا المنبتين طيب ، خصيب في الزرع، والحرث والنسل معا، حتى ليعد أخصب أقاليم مصر على الجملة منابت، وأكثرها في النوابغ معدا، وأغناها بالمشهورين والأذكياء ثراء.

من مديرية الغربية كان مجيء الزعيمين، كأنما أريد لهذا الإقليم أن يفخر بما ندر أن يتهيأ لإقليم سواه، وإن كانت أقاليم مصر في المنابت والموالد والمساقط أجوادا طيبة كرائم. ولم يكن الناس يعرفون مولد سعد على التحقيق أيام حياته؛ فقد شغلتهم عظمته عن كل شيء خارج عن دائرة نفسه ونطاق بطولته، ولكنهم عرفوا حين مرتحله من هذا العالم «القرية» الصغيرة التي كانت أول ما شهد فيه نور هذه الحياة، فاشتهرت من ذلك الحين، وترددت على الشفاه، وقام لها في الناس ذكر كريم.

ولكن مولد مصطفى عرف من نبوغه، واشتهر معه من كثرة اختلافه إليه وبره به ومزاره في كل عام، وجعل الناس إذا ذكروا المنبت الذي أنبته، أقروا له شهرته، وارتضوا له إنجابه، ولم يعجبوا له أن يكون للزعامة منبتا.

وبين القرية التي ولد سعد فيها والبندر الذي جاء مصطفى منه - مع التماثل في الإقليم، والتشابه في التربة، والجوار في الجو والأفق - وجه شبه آخر في التاريخ، يردهما إلى عصور فيه زاهرة، وقرون فيه حفلت بالعظائم واشتهرت بأعجب الحضارة؛ وهي عصور الفراعنة وبداية مصر القديمة ذات المجد العظيم.

أما إبيانه - موطن سعد - فكانت في أيام الفراعنة من جملة بحر الروم - البحر الأبيض المتوسط - فلما انحسرت أمواهه عنها بسبب «طمي» النيل، ارتفع نشز من الأرض أو يفاع في البحر أنشئت فوقه تلك القرية، وكانت أرضها تصل إلى بحيرة البرلس، كما كانت يومئذ تابعة لمدينة «فوه» كشأنها الآن، وكانت فوه تعرف يومئذ بمدينة «متليس»، وظلت تنمو وتزدهر حتى اشتهرت في القرن الخامس عشر للميلاد، وأصبحت أعظم مدينة في مصر بعد القاهرة، حتى لقد اتخذت مستقرا للقناصل الإفرنج بعد الفتح العثماني.

ويرجع نسب أهل هذه النواحي إلى «المليذيين» الذين نزحوا إلى مصر في القرن السابع قبل الميلاد على ظهور السفن في عهد «ابسماتيك»، وهم الذين أسسوا مدينة «فوه» - أو متليس كما أسلفنا عليك - وقد دخلوا في دين المصريين وصاهروهم واندمجوا فيهم بعدما أقاموا زمنا مستمسكين بديانتهم، متأبين النزول عن قوميتهم، وقد استعان فرعون بهم فأعانوا، وذلك في رواية المؤرخ المشهور «استرابون»، حتى إن من يتأمل وجوه أهل هذا الإقليم وسكانه - وبخاصة شعرهم ولونه - لا يشك في أنهم من سلالة أولئك النازحين النازلين.

وتقع «منية المرشد» شمال شرق «إبيانه»، وقد زارها ابن بطوطة الرحالة المشهور حين قدم إلى هذه البلاد من «طنجة» في أوائل القرن الثامن من الهجرة، وتقوم إلى اليوم في الجنوب الشرقي من إبيانه - مهبط سعد - تلال قديمة وآكام وربى عالية.

Unknown page