ويوم قام مصطفى في مكان الرياسة لم تلبث النفوس أن هدأت بعد جزع، والقلوب اطمأنت بعد قلق، والأذهان سكتت بعد لهفة، والأخلاد قرت بعد اضطراب؛ فقد ظهر الرجل الذي احتاجت الحياة إليه، والزعيم الذي دفعت الأقدار به، ورب الشخصية ذات السلطان العظيم على كل من لم يرتفع رفعتها، ولم يبلغ مستوى أفقها، بل برز القائد الوطني، أو الضمير والعنصر الحساس المتنبه الذي تحيا به الأمم وتعيش عليه الجماعات.
لقد كان ظهور مصطفى النحاس دورا آخر من أدوار الثورة، ومرحلة جديدة من مراحلها؛ فإن الثورات بطبيعتها لا تستطيل، ولكن إذ تبلغ مداها وتفور أشد فورتها، تعود فتعيش في نتائجها، وتظل تحيا في أعقابها، ومن الخطر البالغ عليها أن تتلاشى بعد قيامها، وتتبدد عقب فورانها؛ لأن ذلك ينتهي إلى ردة مؤلمة، ويعقب نكسة وخيمة. ولكن إذا هيأ الله لها في هذا الدور الدقيق القائد الحكيم الذي يتعهد معانيها الكامنة في النفوس، والسياسي القوي الرصين الذي يعرف كيف يغذي مواردها القائمة في أعماق الصدور وأغوار الأرواح ، ويمسك بالروح المعنوي العام فيوجهه أحسن توجيه، ويدفع به إلى خير مندفع، فإن البلاد كذلك تعرف كيف تستجيب له وتتجه معه، وتمضي في أثره، مطمئنة النفس، هادئة الجأش، بالغة الإيمان.
وكان مصطفى النحاس هو ذلك القائد، وكان خليفة سعد هو ذلك السياسي، ولسنا ندري ماذا كانت تكون صورة الحركة الوطنية، وماذا كان يمكن أن تروح نتيجتها لو لم يأت مصطفى النحاس بعد سعد ليقودها، وينبر عقب سعد ليوجهها، وهو الذي جاء طبيعيا في مكانه؛ إذ كان أمام السياسي الذي يتولاها - في خطة الأقدار - دور خطير، ومرحلة شاقة، وصعاب جمة. بل كانت منتظرة مقدمه، مرتقبة زعامته، سلسلة مستطيلة من التجاريب الخطرة، والمحن المترادفة، والخطوب المتزاحمة، ووجوه عديدة من الخصومات، وألوان غرائب من الأذى والبلاء؛ إذا لم يكن باستعداده جلدا لها صرعته، أو صبورا حطمته، أو قويا أضعفته، أو مؤمنا أشد الإيمان بقوته نزعت به إلى اليأس، وأسلمته إلى القنوط، وأزاحته آخر المحاولة من طريقها، متغلبة فائزة، وهو المنهزم المدحور.
وقد شهد مصطفى النحاس بجانب سعد خطوبا، واشترك مع سعد في محن، وتعرض معه للمعتقل والمنفى، واستهدف للآلام والحرمان. وكان مرتقبا له بعد تلك المساهمة الأليمة أن يكتوي وحده بأشباهها أو أشد منها، مقدورا عليه أن يخوض أشد حوالك السنين شقوة وعظم تجربة؛ لكي يتعذب مرتين، ويتحمل من الألم ضعفين، ويذوق من الخطوب مذاقين، وهو ما لم يقع للزعماء في تاريخ الزعامة الوطنية مثله فيما نعرف من سير الحوادث، وقضايا الاستقلال، إذ كان كل زعيم في الغالب يأتي في زمن معين، ويظهر في عصر بذاته، وكانت الزعامات تجيء على فترات انقطاع، ومهلات طوال، وانتظار فسيح المدى؛ فلا تقوم الصلة بينه وبين الزعيم الذي سبقه إلا من بعيد، ولا تتماثل التجاريب في عهديهما، ولا تتشابه الحوادث في دوريهما، وإنما تتفاوت في ذلك كله، وتتباين في أشباهه وأمثاله؛ ليظل كل زعيم ممتحنا غير امتحان سواه، ويروح كل قائد أمام ظروف خاصة به، على قدر تناوله لها، ومكافحته إياها، ومقدار صبره عليها، بروح مبلغ استحقاقه لمكانه ، ومطمأنه في موضعه، ونصيبه من الفوز، وسهمه من النجاح والتوفيق.
ولكن مصطفى النحاس جاء أولا آخذا عن سعد قبل أن يتولى الأمر بنفسه، ثم آخذا ثانيا عن نفسه، بعد أن وكل الشأن إليه، وهذا نادر في الزعامات؛ لأنها لا تتلاحق هكذا، أو لا يندمج بعضها في بعض على هذه الصورة، ثم تتقارب في المعالم، وتتشابه في الصفات واللوازم على هذا النحو الغريب، ولكن كذلك كانت تصاريف الأقدار الرحيمة الحانية على مصر، الناصرة لها، فقد أبت إلا أن ينشأ الزعيم الثاني على إيمان عظيم وثقة كبيرة بصاحبه، وولاء صادق له، وحماسة متقدة للغاية التي يعمل لها والقضية التي يدافع عنها، حتى لقد خشي الإنكليز حين بويع في موضعه من وقوع الرياسة له خيفة مما وصفوه من أمر «تطرفه».
وقضت الأقدار كذلك أن يجعل نظره إلى الفكرة كأنها ممثلة للزعيم، وإلى الزعيم كأنه ممثل للفكرة، وأن يعمل على تعزيز سلطان صاحبه وتوطيد نفوذه بكل وسيلة وسبيل، كأن يتوسط بينه وبين خصومه، أو يجلب له جددا من أنصار، ومزيدا من أعوان ومشايعين، أو يتسمع الأرض بأذنه؛ ليدرك الهمس المخافت، والكيد اللائذ بالخفاء، والدس المتسربل بالظلام، أو يدلي إليه برأيه في أصلح الأعضاء للمهام المعينة، وأنسب الأعوان للأعمال المطلوبة، أو يشير عليه بالأفكار الصالحة والمقترحات الملائمة لبعض الظروف والحالات والأزمات الطارئة.
وكذلك جعلته يوفر على زعيمه كثيرا من وقته، ويقصد من مجهوده، ويغني عنه حمل كل صغيرة ودقيقة في ذاكرته، بأن ينوب عنه في عديد المناسبات والمقابلات والوفادات، ويعمل على تسهيل الأعمال على قدر الإمكان، وموافاته بكل المذكرات والمدونات، والملاحظات والمحاضر التي عني بقيدها، وحفل بتدوينها وإثباتها؛ لكي يكون كل شيء في كتاب مرقوم.
وكان الزعيم يرى منه ذلك فيفرح به ويرتضيه، ويبعثه على التزيد فيه وهو المطمئن إليه، الملمح في أحاديثه أمام الناس إلى مبالغ ثقته به واعتماده عليه؛ لكي يشعرهم بأنه قد وجد الرجل الذي يسلمه الزمام إذا حان الوقت لتسليمه، والشخصية القديرة الكافية لتتولى الأمر عنه إذا آذن الرحيل.
كذلك اندمج مصطفى في سعد قبل أن يحل دوره، فكان محل ثقته وموضع سره، وقد اكتسب من هذا الاندماج أكثر ما عند سعد، فأضافه إلى ما اكتسب هو بطبيعته، فاستتم فيه الزعيم المطلوب للغد، واستكمل القائد الوطني المحتاج إليه في المستقبل، واستوفى سائر مطالب القيادة الصالحة التي قضى الله أن تتولى الجهاد في أحرج المواطن وأسوأ السنين.
وقد انفرطت تسع سنوات اليوم، ومصطفى النحاس في مكان الزعامة وقد عبرها خواض أزمات، ومواجه شدائد، وملاقي مكاره، مكافحا أكثر من خصم، مقاوما أكثر من عاصف، وهو الصبور الجلد الشجاع الجريء في كل موطن وموقف، حتى عرف كيف يسير بالسفينة وسط هذه التيارات الصاخبة، واللجج المتقاذفة، والأعاصير المترادفة نحو الساحل الآمن، والغاية الحسنة، وصخرة النجاة. •••
Unknown page