68

Mustafa Nahhas

مصطفى النحاس

Genres

كان ذلك يوما مشئوما، ولكنه كان أيضا يوما جليلا عظيما؛ فقد استطاعت «القوة» وفي جانبها الظلم والباطل والطمع والعدوان ، أن تفتك «بالحق» وفي جانبه العدل والشجاعة والشهامة والمروءة والإقدام، وبقدر ما كسبت «القوة» في الظاهر، ربح الحق كذلك في الباطن وإن بدا خاسرا صريعا؛ إذ سجل لكرامته، وأثبت لعزته، وكتب ليومه ووقفته، بدم الشهادة الزكي، ومداد الأرواح الذاهبة، وصمدة الوطنية للموت في أشرف مصارعه، وأسمى أنواعه، وأرفع معانيه.

واليوم بعد أن ذهب أكثر من نصف قرن على مصرع أولئك الشهداء الأوائل، وذهاب أولئك الضحايا الباكرين، وقد تم لبلادهم ما بدءوه هم وانتهوا منه في يومهم بدمائهم؛ بل اليوم وقد ظفر وطنهم بحقه الذي استشهدوا غضابا له، وقدموا نفوسهم رخيصة في أعينهم بالنسبة لقيمته - ينبغي أن نسجل في هذا الكتاب لجلال تلك البداية المشرفة للوطنية المصرية في أروع المواطن وأرهب الأيام، ويجب أن تستشعر نفوسنا الاحترام والإكبار لذكراهم، وأرفع التقدير لميتتهم، وهم في أحر مسرى الدماء لم يموتوا فاترين ولا لفظوا أنفاسهم الأخيرة باردة، ولكن سقطوا في ميدان الشرف مسبغي السروج، ملتمعي اللجم، مشتعلي النفوس، متقدي الأنفاس، مغسلين في دمائهم، مكفنين في لفائف من المجد، ملففين في أكفان من نسيج الملائكة.

وقد تلا ضرب الإسكندرية دخول الإنكليز القاهرة في الرابع عشر من سبتمبر سنة 1882، وبين هذين اليومين التاريخين كانت حرب وجرى قتال، وبرزت فيه الوطنية المصرية صادقة، ولكنها تجاهد في غير أمل، مخلصة ولكن في موقف يأس، ومن حولها عناصر جبانة ومكر وختل ودس، فكان دفاعها في الواقع استماتة؛ لأن عدوها قد أصبح في أرضها، ولأن قوته وموارده وسلطانه من وراء البحر أكبر وأزخر من قوتها، وكان موقفها في الحق موقف الاستبسال المؤمن بالهزيمة، ولكنه القانع بشرفها، المؤثر لمواجهتها على التسليم بغير مقاومة، والإذعان بغير عناد، والامتثال المتطوع الراضخ المهين.

كذلك كان موقف «عرابي» من تلك النكبة التي رأى وطنه قد أصيب بها، ولم يكن هو سببا من أسبابها، ولا كان يدور في خاطره أنها سوف تطم على بلاده وتفجأ قومه وتنزل بدياره؛ فقد أراد من بداية الأمر خيرا، وابتغى عدلا وحقا، ووقف موقف صدق، ولكن بريطانيا الطامعة كانت على مرصد ، فرأت في هذه الثورة الداخلية فرصة لتحقيق مطامعها التي طالت عليها السنون ودورة الأعوام.

وأنا لست من الذين يذهبون مذاهب الاتهام في أمر عرابي ووطنيته ويقولون بخيانة العصر وغدر بنيه، ولكني أعتقد أن «عرابي» كان جنديا وطنيا وعسكريا شهما أبيا، ولكنه لم يكن «سياسيا»، ولا أخا مكر وحيلة، ولا ذا لباقة ولطف مدخل ودقة علاج؛ فاندحرت جنديته، وانهزمت وطنيته البريئة في موطن لم يكن منتظرا لها فيه الغلب، ولا متوقعا لمثلها النصر والكسب؛ لأنه موطن التكاثر بالقوى والمغالبة بالموارد، والفوز فيه محقق للإنكليز، والخسر فيه مؤكد للمصريين.

أحمد عرابي باشا.

ولكن عرابي الذي غلبت فيه الروح العسكرية على السياسة وأفانينها، رأى المغير على وطنه قد نزل بأرضه؛ فدافع عنه مستبسلا في استماتة اليائسين، ويكفي للشهادة على بسالته واستيئاسه ما أقامه من الاستحكامات في «كفر الدوار» لصد القوات الإنكليزية الزاحفة عقب ضربة الإسكندرية بقيادة الجنرال ولسلي في شهر أغسطس من ذلك العام المشئوم.

لقد أوجد عرابي خطوطا حصينة في ذلك الموقع، وأكثر فيه من أساليب الاستحكام، مبالغة في الدفاع، وحرصا على بلاده، ولئن كان من الميسور للإنكليز القضاء على خطوط دفاعه، والتغلب على وسائل تحصنه واستحكامه، فلا شك في أن ذلك كان مقتضيا منهم عدة الضحايا، مستنفدا منهم بالغ القوة، مؤخرا لهم طويلا عن الزحف والاقتحام؛ إذ كان عليهم إذا هم راموا التقدم من هذه الناحية أن يخترقوا الدلتا، ويعبروا عدة ما فيها من الترع والأقنية والجداول ومجاري الماء، وهي كما لا يخفى عائق كبير في طريق الجيوش المغيرة والقوات الزاحفة المتغلغلة في البلاد.

وقد فطن الإنكليز لمناعة هذا الموقع عليهم، فلم يطيلوا المكث حياله، وإنما بادروا إلى التحول عنه والتماس مدخل إلى القاهرة سواه، فراحوا يحاولون الزحف من طريق الشرقية، ومن ورائهم الأسطول يقي ظهورهم من جانب قناة السويس؛ إذ كانت الخطة المرسومة من قبل لاحتلال مصر هي الدخول إليها من ذلك الطريق، وجاء الابتداء «بكفر الدوار» تجربة أو خدعة لكي يصرف «عرابي» كل قواه في التجمع عند موضع واحد ، وتركيز جهده في ذلك المكان بالذات، على حين يغيرون هم من طريق القناة ليخلو لهم وجه الزحف بغير مقاومة ولا اعتراض.

ولو كان عرابي بعيد مطارح البصر لكان أول شيء عمد إليه يومئذ هو البدار إلى القناة لردمها، ولكنه استمع إلى القائلين له إن القناة ينبغي أن تظل سليمة؛ لأنها طريق العالم، وسكة الدنيا، ومنفذ الإنسانية جمعاء؛ فارتبك ولم يدر ماذا هو صانع، وقد وجد نفسه وحيدا وسط غمرة مظلمة، بين عدو أجنبي مغير على الوطن، وبين دولة مصرية للأسف تناصره عليه وتحتمي به منه، وتحسب نجاتها من خطره على يديه، بل ألفى نفسه مترددا بين شعوره الوطني، وبين خيفته من غضب الإنسانية واستهدافه لنقمة الحضارة إذا هو سوى التراب على ذلك الطريق الجديد.

Unknown page