62

Mustafa Nahhas

مصطفى النحاس

Genres

ولكن طاغور لا يؤمن بهذا ولا يقتنع به؛ لأنه في تأملاته ونظراته الشعرية إلى الحياة إنما ترضيه الأشياء كما هي، ويجد المسرة والغبطة في الإعجاب بانسجامها، ويروح يشرح وجهة نظره في سطور بالغة الجمال ولكنها منفصلة بعيدة من الحياة الحقيقية وواقعية الأشياء، حتى لتشبه كلماته رقص «ناتاراجا» أو ألفاظ رواية من صنع الخيال، وإن طاغور يقول ويجاهر بأنه إنما يحاول أن يؤلف بين روحه وبين نزعة المرح التي تغمر العالم، ولكنه لا يستطيع ذلك؛ لأن في فؤاده على الرغم منه روح المقاومة، فهو يقول: «في ظلام يأسي أرى ومضة ابتسام، وأسمع صوتا يهتف بي: إن مكانك مع الأولاد لتلعب على شواطئ هذا العالم، وأنا ثم معك.»

وهكذا يلعب طاغور ويلهو بالحياة كالأطفال يتراقصون في الشمس ويضحكون وهم يختفون، إذ كل الخليقة عند طاغور سعيدة هنية رغيدة، حتى الأزاهر وأوراق الشجر ليست عنده سوى ألحان وأنغام لا تنقطع، بل إن الله ذاته في نظره «الحاوي» الأكبر الذي يلعب بالزمن، يرمي بالنجوم والكواكب من أفلاكها، على مجرى الظواهر، ويسقط زوارق من الورق مفعمة ملأى بالأحلام في نهر القرون والأحقاب، حتى ليقول: «وحين أتضرع إليه أن يدعني أتبعه وأضع بعض اللعب التي اخترعتها في أحد قواربه المرحة، يبتسم فأسير خلفه متشبثا بذيل ردائه.»

كذلك يعتقد طاغور أن هذا هو موضعه، ولا يرضى أن يختلط بالناس ويمتزج بالجماهير، وإنه ليقول في ذلك: «ولكن أين أنا وسط الزحام الحاشد محصورا من جميع جوانبي؟! ومن ذا في وسعه أن يفهم الضوضاء التي أسمع؟! إذا أنا سمعت أغنية استطاع معزفي أن يلقط النغم واستطعت أنا أن أشترك في اللحن وأساهم في النشيد؛ لأنني مغن، ولكن وسط جلبة الزحام يضيع صوتي ويتبدد جرسي وأحس دوارا برأسي.»

وقد حاول طاغور في بهرة الصياح والجلبة المنادية بعدم التعاون أن يجد نغما صالحا يشترك فيه فلم يفز بطائل وراح يقول: «إذا أنت لم تستطع أن تساير معاصريك في أشد أزمات تاريخهم فاحذر أن تقول إنهم على خطأ وإنك أنت على حق، ولكن اترك مكانك من الصفوف، وعد إلى زاويتك أيها الشاعر فانتبذ من الناس مكانا قصيا واستعد لتلقى سخرية الناس منك واشمئزازهم.»

هذا صوت شاعر كجوته، ولكنه جوته الهندي، بل من ذلك الحين ونفس طاغور هي كذلك، فكأنما راح الشاعر يودع العمل ليفرغ بكليته إلى الشعر والتأمل؛ لأن العمل أصبح «سلبيا» في كل ما حوله، وهو لذلك يتراجع إلى نسيج السحر الذي ينسجه بنفسه، ولكنه لا ينسحب فقط ولا يتراجع فحسب، وإنما قد أرادت الأقدار به - كما يقول - أن يسير بقاربه ضد التيار ذاته، وكأنما قد راح يومئذ بجانب قيامه كشاعر السفير الروحي للشرق عند الغرب، فقد عاد من أوروبا يومئذ حيث كان ينادي الناس إلى التعاون على تأسيس جامعة دنيوية، فإذا القدر الساخر يضحك منه إذ يأبى إلا أن يدعه ينادي بالتعاون في ناحية من العالم، بينما يدفع بغاندي مناديا بعدم التعاون في الناحية الأخرى منه!

لقد أفسدت هذه الفكرة «الغاندية» عليه عمله في الحياة كما أفسدت عليه نظرته إليها، فشعر بأنه قد جرح منها مرتين، أو جرحا مزدوجا؛ لأنه كان يعتقد وجوب الاتحاد الحقيقي بين الشرق والغرب، ويؤمن به كل الإيمان.

وكان يومئذ يقول: لقد ساد الغرب العالم في عصرنا الحالي؛ لأن له رسالة ينبغي أن يؤديها، وعلينا نحن أهل الشرق أن نتعلم منه ونأخذ عنه، ومما يؤسف له بلا ريب أننا قد فقدنا ملكة تقدير ثقافتنا؛ ولهذا لم نعرف كيف نضع الثقافة الغربية في المحل الواجب لها، ولكن القول بأن من الخطأ التعاون مع الغرب هو تشجيع شر أنواع النزعات الإقليمية - أي الشعور القومي - ولا يمكن أن ينتج هذا غير الفقر العقلي للإقليم نفسه، إن هذه المشكلة هي إحدى المشاكل العالمية، إذ ليس في ميسور أمة من الأمم أن تهتدي إلى سبيل خلاصها بانتزاع نفسها من الأمم الأخرى وقطع روابطها بها؛ إنما ينبغي أن ننجو جميعا، أو نفنى كلنا معا ...»

وكما رفض جوته شاعر ألمانيا الأكبر تحريم الثقافة الفرنسية والمدنية الفرنسية في سنة 1813، رفض طاغور في القرن العشرين نفي الحضارة الغربية وتحريمها. ولئن كانت فكرة غاندي في الواقع لا تقيم حائلا ولا تبني سدا منيعا بين الشرق والغرب - كما ظن طاغور - فإن هذا الشاعر جعل مع ذلك يقول إنه يخشى أن تفسر هذا التفسير إذا ما ثارت ثائرة الوطنية الهندية وجاشت قدرها فوق نار الحماسة ووقودها، ويشفق من نمو روح العزلة في الهند والانفصال عن بقية العالم، ويصارح بمخاوفه هذه حين جاء الناس يلتمسون نصيحته ويطلبون رأيه، وهو في ذلك يقول: «إذا لم يكن ما أقول صحيحا، فما المراد من مقاطعة المدارس والمعاهد والكليات؟! ألكي يقدم الطلاب تضحية، ولكن علام هذه التضحية التي يراد أن تتقدم منهم؟! هل هي في سبيل تلقي تعليم أرقى من تعليمها وأكمل وأوفى؟! أم هي - كما هو الواقع - انقطاع عن التعليم كلية؟!»

وقد جاءه جمع من الطلاب في سنة 1921 قائلين له إنهم على استعداد لترك مدارسهم إذا هو أمرهم بذلك؛ ولكنه رفض وأبى، فغادروه غضابا هائجين، واتهموه في وطنيته.

وغضب طاغور من هذا التعصب للرأي، واتهم الحركة غير التعاونية بأنها المسئولة عن بثه في النفوس؛ فكان جواب غاندي على هذا الاتهام: «لست أريد أن يكون بيتي مسورا من جميع جهاته، ولا نوافذي محشوة مغلقة، أريد أن تهب ثقافة جميع البلاد وتخفق أرواحها من حول بيتي طليقة المهاب فسيحة مدى الأنفاس ... ولكني لا أريد أن تكتسحني هذه الثقافات الأجنبية وتطير بي في الفضاء ... إن عقيدتي ليست تعاليم السجن ولا هي عقيدة المحبس والاحتجاز، ولكن لها مدى فسيحا لكل شيء حتى لأحقر مخلوقات الله، وإنما هي مع ذلك في منعة من زهو الجنسية وكبرياء الدين والمذهب واللون.»

Unknown page