وقد أثبت التاريخ أن أرقى النساء الزعيمات وأرفعهن زعامة وأكبرهن سلطانا هن اللاتي «بقين أنفسهن» طيلة الحياة؛ أي لزمن حقيقة طباعهن، ولم يتكلفن ضد نزوعهن وفطرتهن، بل هن اللاتي ظللن فخورات بنسويتهن غير مزورات على الناس ولا مزيفات.
الزعامة في الشرق
ظهور غاندي
كان الشرق مهد الحضارات، ومعلم الدنيا فيما غبر من الأجيال، بينما كان الغرب يعيش على البداوة، وتسوده الهمجية، وتغمره الجهالة، وتتعاقب عليه القرون المظلمة، وقد ظل أمر الشرق في سمو وصعدة حتى أوفى على الغاية، ثم مضى يكر راجعا، ويهبط منحدرا؛ على حين بدأ الغرب يستيقظ، وراح يفيق من هجعته ويستوي على سياقه، ويتحرك ويمشي، ثم يثب ويطفر، فدارت بذلك دائرة السوء على الشرق وأهله، وتقدم الغرب يرقى ويسمو صعدا، وتزدحم بشعوبه أرضه وأقطاره، وذهب يلتمس آفاقا جديدة، ويرتاد لمنازله ومعايشه، وينتجع لمتنفس زحمته، والتخفيف من ضغط سكانه، فبدأ تاريخ الاستعمار من ذلك الحين، وهو تاريخ حفل بكثير من مشاهد الوحشية والمجازر الدامية والفواجع المتناهية؛ وما نعرف في ذلك التاريخ فتوحا ولا غارات ولا منزل دولة غربية ببلد من البلاد، خلت من هذه الحوادث البشعة، ومخاض الدماء الجارية، والاستعانة بكل وسائل الهمجية والعدوان.
ولعل القرن التاسع عشر كان بين القرون الأخيرة أحفلها بنشاط الاستعمار، فإن الدول العظمى راحت تتقاسم خلاله خريطة الدنيا جملة، على نسب متفقة مع شأن كل منها وقوته وسلطانه؛ فسقطت بذلك أمم كثيرة في أيدي المستعمرين ووقعت فريسات للمطامع، ونهبا مقسما بين الدول المستعمرة، وكانت الدولة المغيرة تجد في ذلك متعة الظفر بأمم كبار، ومتعة المجد بالغلبة على حضارات قديمة، والسيادة فوق شعوب ذات عظمة ماضية وتاريخ مجيد.
وكانت بريطانيا العظمى المتفوقة على دول الغرب جميعا في حصصها من الغنائم ، وأنصبتها من التقسيم، ومكاسبها من الاستعمار؛ إذ أتيح لها في ظروف عجيبة، وبمدخل غريب، وأساليب تجارية داهية، أن تستولي على الهند في آسيا الشرقية، وهي أكبر من بلادها بأضعاف متعددة، ولها في الحضارة القديمة مكان بارز، وموضع رفيع، ومجد تليد، وكان عمل الكشاف الأكبر روبرت كلايف وحيلته العجب في التمكين لسلطان بلاده في أرض الهند، نهاية في براعة العبقرية الاستعمارية وحذق المغيرين، وافتنان الساسة في ناحية الوطنية المهاجمة المعتدية المستعلية.
روبرت كلايف.
ولكن الوطنية المدافعة - وطنية الشعب المغلوب على أمره - لم تمت تحت وطأة الوحشية الاستعمارية، وإنما ونت يومئذ وانزوت لكي تجد مسارب لها خافية، ومنافس لها متوارية، ومكامن لها في أعماق النفوس وأغوار الجوانح والقلوب.
ومهما يفعل الظلم وتحدث وطأة المستعمر، فإن الوطنية في الحق لا تموت، وإن لاحت يوما متراخية، أو ظن أنها قد أسلمت أنفاسها وسكنت نأمتها؛ لأنها إنما تسكن حينا على الألم، وتكمن حينا على المضض، وتختفي دهرا ما لتحتقن وتنحبس، ثم تنفجر في الساعة المعلومة وتنبجس، وتقذف من جوفها الحمم المدمرة فعل البراكين. •••
كذلك ظلت الهند إلى نهاية القرن الماضي تحت نير الاستعمار البريطاني صبورة محتملة، ساكنة على الأذى، مقيمة على الضر؛ بينما كانت الأقدار تهيئ لها الظروف الصالحة لظهور الزعيم المناسب لها، والقائد الوطني الذي يلائم حياتها ويتفق وبيئتها ومحيطها، بل لقد احتاج الأمر إلى فترة من الدهر يقضيها ذلك الفرد الذي ارتضته الطبيعة لزعامتها خارج حدودها، للمرانة على القيادة، والتدرب على الجهاد، والاستعداد للموعد المعلوم والأمر المنتظر؛ فهيأت له موضعا خارج الهند يتدرب فيه ويتجهز، وينغمس - بادي الرأي - في الحضارة الغربية ليعرفها معرفة المجرب، ويمتزج بالمدنية الإنكليزية ليعاينها معاينة الخبير المحنك، حتى إذا استكمل علمه بها، واستتم تدربه للدور الخطير الذي أعد له، ويبتلى بالظلم ذاته الذي أرسلته العناية الإلهية لمحاربته حتى يمتحنه في نفسه، ويشهده بخبرته وحسه، أطلعته فجأة في ساحة الجهاد ليؤدي رسالته إلى وطنه، ويستحوذ على إعجاب الدنيا كافة بأمره العجب وخليقته المستغربة، ودينه الجديد ...!
Unknown page