وفي سيشل، الجزيرة النائية، القائمة وسط الأوقيانوس العظيم، الحارة الرطبة في آن واحد، تلك الجزيرة الخاملة التي اشتهرت بسعد، كما كانت جزيرة القديسة هيلانة في المحيط الأطلسي، على الجانب الآخر من أفريقيا، خاملة، فاشتهرت بنابليون؛ تبارى الحب في مبالغ الإيثار، وتنافس الإخاء في إنكار الذات، وتزاحم الإخلاص على التضحية، وتدافع الوفاء عند الحاجة إلى التلبية. وفي سيشل، تلك القطعة الناتئة في بهرة المحيط، اجتمعت في ستة أصدقاء إخوة أعزاء أبرار، كل الأسنان ومختلف الأعمار؛ شيخوخة وكهولة وشباب، كلها في ذاتها متفانية، وكلها على بعضها حانية، والجميع تسرى عنهم أشد الألم روحانية عميقة مواسية، فهم في سياحة من سياحات النفوس، مهما تلق من عذاب، ومهما تصادف من محن وأهوال وخطوب، تجد عزاءها البليغ في رفقتها، وسلوتها الحاضرة في شركتها، وكلما كان الخطب موزعا هان، وكلما كان الألم مشتركا، راح المحتمل اليسير.
في سيشل جرت قصة من أروع القصص، قصة الحب الإنساني في أسمى مراتبه، وعليا درجاته، وأروع صوره وآياته، وهو الحب الأخوي في خاصة ذاته، والحب الوطني في عمومياته، وقد تلاقى الحبان في نفوس ستة أبطال شجعان؛ فعرفوا بذلك الحب المزدوج العظيم كيف يصبرون لأشد الألم، ويتجلدون لأقسى العيش، ويصمدون لأعنف البلاء والامتحان.
إن ذكريات سيشل لتزخر بأعجب الأمثلة على الإنسانية الرفيعة إذ تمتحن بالألم، وعلى الأخوة الوفية إذ تبتلى بالشدائد، وعلى الرفقة في العذاب إذ تبتسم للعذاب، وعلى النفوس العالية كيف يزيدها تقاسم الآلام علاء.
لقد كانت أيام سيشل عهد كرب ونكد، وصبر وتجلد، وأرق وتسهد؛ ولكن كانت أيضا أيام مجد لسعد وأصحاب سعد، وقد اندمج هذا المجد في معاني الخلد، بالنسبة للذين رحلوا من هذه الحياة بعد سعد، وبقي هو قائما إلى اليوم لمصطفى ومكرم، هو جوازهما إلى كل قلب، ومدخلهما على كل نفس، وسبيلهما إلى كل عاطفة.
وقد خدمهم في سيشل الوفاء المتقاسم، وبر بهم الولاء المتبادل، وإن راح كل منهم ناسيا بره، ذاكرا بر أخيه، وحنان رفقته. فأما سعد فقد جعل يتحدث إلى الناس في المناسبات قائلا: «لقد مكثنا معا في تلك القرية، وكان وجودنا معا يخفف كثيرا من الألم، إذ كان إخواني يبذلون غاية جهدهم في مواساتي ومجاملتي، وقد كان مكرم بك عبيد في السفينة بجانبي، هو الذي يواسيني بلطفه، وحسن مجاملته، وكان في الحقيقة لي أبر من ابن.»
ويتحدث مكرم فيقول: «كنا في ذات ليلة من ليالي يوليو سنة 1922، وكان الرئيس متعبا مريضا منذ أيام، وكانت قلوبنا هالعة عليه؛ فتركنا بعد طعام العشاء على أن ينام مبكرا عسى أن يختلس لنفسه ساعة من الراحة، إذ كان لا ينام أكثر من نصف ساعة طول ليله. وبينما نحن نتأهب لدخول مخادعنا، إذا بالرئيس يخرج إلينا فاقد النطق، محتبس التنفس، وهو يكاد يشرف على الموت.
ولا تسل كيف قضيناها ليلة سوداء نغالب الموت فيها ويغالبنا، حتى انجلى وجه الصباح، وبدأ الرئيس يسترد بعض قواه، فإذا به يطمئننا على نفسه، ويؤكد لنا أنه لا يخشى الموت في سبيل بلاده، وأن في موته بمنفاه حياة لأمته. ولم تكن هذه مجرد ألفاظ، إذ ما لبثنا أياما حتى وزنت ألفاظه بميزان الحوادث، وامتحنت شجاعته امتحانا ما كان أقساه لولا أنه لاقى صخرة لا يلين جامدها؛ فقد كان سعد لا يزال مريضا، وقد جاءه تلغراف يعرض عليه أن يتنازل عن الاشتغال بالسياسة مقابل نقله إلى فيشي بأوروبا في أقرب فرصة! ... فلتصوروا لأنفسكم ما كنا فيه وما كنا نعانيه، ثم تخيلوا شيخا مريضا في منفاه، يرى في هذا النبأ باب الفرج بل باب الحياة، ثم تأملوا جوابه، فقد كان جوابه أخيرا، جوابه أولا، وهو الرفض بإباء وكبرياء.
إن للقوة أن تفعل به ما تشاء، وقد فعلت، وللمنية أن تهدد حياته، وقد هددت، ولكن للأمة كرامة، وقد حفظت، وديونا، وقد أديت ...!»
لقد تفانى الرفقاء في المنفى أعجب التفاني، وحملوا الآلام الطوال بينهم أروع المحتمل، وراحوا يتناسونها في حلقات الدرس وجلسات السمر. فكان سعد بعد الفراغ من الطعام يجلس إلى مكرم لدرس اللغة الإنكليزية. وينصرف المرحوم عاطف بركات إلى درس الفرنسية على مصطفى النحاس.
وإذا تنفس الصبح، نهض مصطفى يؤدي بعض الألعاب والحركات الرياضية مع المرحوم فتح الله بركات، والأستاذ مكرم عبيد. وكثيرا ما كان يشترك مع فتح الله في لعبة «الدومينو»، ولم يكن يجيد غيرها من الألعاب.
Unknown page