الموسيقى
أما الموسيقى، فإن من أطلع على تاريخ مصر الحديثة، وتدبر ما للمصريين في أساليب معيشتهم من شديد الميل إلى المرح والجذل، وحب الغناء العربي بالفطرة، وتفضيله على سواه أيقن أن ديدنهم ومذهبهم توجيه عزائمهم إلى الاتساع والإبداع في أساليب الغناء بشرط ألا تشرد عن قواعدها الأساسية، وألا تصيبها عجمة تسأمها الطباع. وليس ذلك بغريب لديهم لما أن المغفور له محمد علي باشا الكبير نابليون الشرق المصلح العظيم، وبالرغم من أن أصله من قوله يعد أول المولعين بالموسيقى الشرقية؛ فأسس في مصر مدرسة للأصوات والطبول سنة 1824، ومدرسة بناحية الخانقاه في شهر أغسطس سنة 1827، ومدرسة للعزف بالنخيلة في أبريل سنة 1829، ومدرسة للمحترفين (الآلاتية) سنة 1834. وانتقل هذا الميل بالوراثة منه إلى أبنائه وأحفاده، بدليل أن الخديو إسماعيل شغف بها شغفا شديدا وأرهف غرار عزمه لتوسيع نطاقها، فأصبح للعلوم والفنون الجميلة نصيرا، وللموسيقى الشرقية والغناء العربي حاميا وظهيرا. فما كاد يظهر عبده الحمولي في عالم الغناء في القاهرة حتى قربه الخديو إسماعيل إليه، لما ألفى فيه من عبقرية ورخامة صوت، وكان له من أكبر المشجعين على التصرف في وضعه واشتقاقه، ليكسوه لباسا يستوفي به زينته وجماله، فأوفده في الحال على حسابه الخاص إلى الأستانة ليقتبس عن الموسيقى التركية الغنية ما يروق له، وليختار من نغماتها ما يلائم الذوق المصري، ويطابق الروح الشرقية. فأدمج في الموسيقى العربية من النغمات التركية، النهوند، والحجاز كار، والعجم عشيران، وسائر الآهات، مما جعل الفن مدينا لعبده، وبالتالي لساكن الجنان الخديو إسماعيل الذي هيأ له جميع أسباب النجاح، وأطلق له العنان في مجال الإصلاح حتى ألحقه بمعيته، وخصص الشيخ: عبد الهادي نجا الإبياري لتعليم أبنائه.
في تعضيده للأدب والأدباء والصحافة
وقد عين الشيخ: علي الليثي شاعرا بالمعية السنية، والدكتور: أحمد حسن الرشيدي طبيبا له، وقرب إليه الشيخ علي أبا النصر المنفلوطي الشاعر الكبير، وعبد الله باشا فكري، وألحق نقولا بك توما بإحدى وظائف الحكومة، وأجزل لإبراهيم المويلحي بك العطاء الذي به استعاض عما جرته عليه التجارة من خسارة، وله اليد الطولى في تشجيع الصحافة على الانتشار في أنحاء القطر في الزمن الذي لم يكن به في مصر إلا الجريدة الرسمية تنويرا لأذهان الأمة، وتوسيعا لنطاق النهضة الأدبية التي بها ترفع من كبوة الجهل السائد فيها، وحض رجالها على إدمان البحث والكتابة فيما ينمي ثروة البلاد، والحث على إحياء الصنائع وترغيب الأغنياء من المصريين في إنشاء المعامل طلبا للاستغناء عن المصنوعات الأجنبية، أسوة بجده المغفور له محمد علي باشا الذي شجع عائلة الزند اللبنانية على تربية دود القز؛ بأن منحها على ساحل بحر مويس بجوار الزقازيق أرضا واسعة سميت بكفر الزند، وزرعت بأشجار التوت لتغذية دود الحرير؛ حتى نمت تلك الصناعة وازدهرت في عهده.
وقد ظهرت سنة 1873 في عالم الصحافة جريدة مصرية شكلا وعثمانية النزعة فعلا باسم «كوكب الشرق» لصاحبها سليم حموي بك آنئذ، وكانت تصدر في الإسكندرية، ولما احتجبت عن قرائها لحاجة صاحبها إلى مال؛ عمد إلى طلب إعانة من الخديو إسماعيل، فلما مثل بين يديه، سأله عن المقدار اللازم من المال لاستئناف عمله فأجابه قائلا «إن خمسين جنيها تكفيني يا أفندينا» فامتعض من جوابه وأمر بصرف هذا المبلغ الضئيل له، وكان يود من صميم قلبه أن يعطيه ما يكفيه أعواما لا شهرا ولا يوما، إذ لم يخلق في العائلة العلوية المحمدية من هو أسخى منه يدا، ولا أطيب نفسا. فأخذ المبلغ حموي بك نادما ندامة الكسعي، لأنه تحقق بعد فوات الفرصة أنه لو ضاعف مبلغه أضعافا مضاعفة لما تأخر الخديو عن صرفه؛ لينهض به من كبوة العوز، ويتمكن من استئناف إصدار جريدته التي قضى عليها بعد حين.
أما جريدة «الأهرام» التي أنشأها المرحوم: بشارة باشا تقلا - شيخ الصحافة وكبيرها - بمعاونة أخيه المرحوم سليم بك الشاعر المفلق، والكاتب المتفنن سنة 1875 فإنها تعتبر أول جريدة عربية أنشئت في القطر المصري في عهد الخديو إسماعيل بعد كوكب الشرق والجريدة الرسمية. وكانت تصدر بادئ ذي بدء في الإسكندرية حتى سنة 1898، وبعد ذلك نقلها صاحبها إلى القاهرة. وكانت المورد العذب الوحيد الذي استمد منه الشعب المصري الأدب وأصدق الأخبار، وأدق المباحث المفيدة للمجتمع ماديا أو أدبيا.
قنال السويس
أما قنال السويس، فكان تمامه على عهد الخديو إسماعيل، وفتح في اليوم السابع عشر من نوفمبر 1869 باحتفال باهر دعا إليه إمبراطور النمسا والإمبراطورة أوجينيا زوجة الإمبراطور نابليون الثالث. وأقيمت في وسط ساحة الاحتفال ثلاث منصات خشبية مرتفعة مكسوة بالديباج والحرير، جلس على المتوسطة منها أصحاب التيجان، وأولياء العهد، والأمراء، والعواهل. وعلى المنصة التي على اليمين جلس من علماء الدين الإسلامي الشيخ: مصطفى العروسي، شيخ الجامع الأزهر، والشيخ: محمد المهدي العباسي، مفتي الديار المصرية. ولما توفي تعين بدله نجله الشيخ: محمد أمين المهدي، ولم يتجاوز السادسة عشرة من عمره، على ما رواه لي السيد: أمين المهدي حفيده، ولكن الخديو إسماعيل استصدر فرمانا شاهانيا بتعيين قيم عليه بصفة استثنائية إلى أن يبلغ رشده؛ لأنه يعطف على البيوت المصرية الطيبة العنصر. وقد اشتهر بغزارة العلم وطول الباع في أصول الشريعة الغراء حتى كانت تعد فتاويه المسماة بالفتاوى المهدية مرجعا من المراجع الشرعية الراجحة التي يعمل بها على المذهب الحنفي.
أما المنصة الثالثة فجلس عليها الأحبار، وفي مقدمتهم القاصد الرسولي، ونصبت «ألمظلات» لجماهير المتفرجين والزائرين على الشاطئين الأسيوي والإفريقي، وعند نهاية الاحتفال قدم العلماء الشكر لله على نعمه الجزيلة، وتلاهم الأحبار فأنشدوا ترتيلة الشكر المعروفة ب
Te Deum
Unknown page