ولما أخذت على عاتقي إحياء ذكرى النابغين الراحلين من المصريين وبدأت بذكرى عبده الحمولي وما له من الأيادي البيضاء على الموسيقى الشرقية والغناء العربي، وتقدمت ما أتاه المجددون من ضروب التضليل فيها، كتبت بعض كلمات إلى المقطم الأغر، الذي فسح لها مكانا ونشرها غير مرة، فصادف قبوله ما هو كامن في نفسي من حب مفرط للموسيقى، وغيرة عليها، وتنبهت الأمة إلى ما أبديته من الاعتراضات على التجديد الذي لا يرتكز على قواعد، ولا يقصد به إلا تشويه محاسن مويسقانا، وإزالة طلاوتها وصبغتها الشخصية، ومسخ نغماتها التي تولد منها في الغرب حاسة الخيال والجمال.
الدكتور فارس نمر صاحب المقطم.
فيرجع إذا كل الفضل إليهما في هذا التشجيع الذي دفعني إلى وضع هذا الكتاب المفيد، وقد أحجم المقطم عن نشر كلمة الشكر المقدمة مني مرتين لهما، وكانا يختبئان اختباء البنفسج بين العوسج؛ فنمت رائحة إنكار ذاتهما عنهما، ولذا لا يسعني إلا أن أقدم لحضرتيهما جزيل الشكر واعترافي بجميل صنعهما، ولحضرات أفاضل الأدباء وأكابر الشعراء الأستاذ: خليل مطران، وصاحب الفضيلة الشيخ: مصطفى عبد الرازق، وسيادة المطران: كيرلس رزق، والدكتور: عبد الرحمن شهبندر، والأستاذ: محمود فؤاد الجبالي، على مقالاتهم النفيسة التي بعثوا بها إلي، مع اعتذاري للآخرين الذين لم أتمكن من نشر مقالاتهم لضيق نطاق هذا الكتاب، وفقنا الله إلى ما فيه كل الخير للوطن وللفن.
الفصل الثاني والثلاثون
مذهب: كنت فين والحب فين
تلحين المرحوم: عبده الحمولي، ووضع الأستاذ: قسطندي منسي
تجدون أعلاه ما دونه بالنوتة الإفرنجية الأستاذ: قسطندي منسي عن عبده الحمولي، وهو مذهب حجاز كار تلحينه الخاص، والغرض من تدوين هذا الدور إعطاء القارئ صورة مصغرة لنغماته، والإشارة إلى ابتكاره الذي يأتيه بما توحي به إليه نفسه، وتراه عينه من المرئيات المتنوعة الكثيرة، وما أقلها في عينه الصغيرة على حد قول البارودي باشا:
كالعين وهي صغيرة في حجمها
تسع الوجود بأرضه وسمائه
وبيانه أن النوتة مهما بلغت من الدقة لا يمكن بها تصوير نغماته لعدم وجود ربع المقام في العلامات الإفرنجية، وبدونه لا يمكن الإحاطة بتموجات صوته ولعبه بالألحان، وغريب تصرفه وبحته، ناهيك بالروح الذي به يؤدي نغماته ونبراته الخاصة به، وتعتبر حينئذ كتصميم لبناء نغماته، أو خطوط أولية مرسومة لتصوير شكل من الأشكال، ومما يؤيد ذلك ما قاله الأستاذ: منصور عوض بعدد 7004 من مقطم 13 إبريل سنة 1912 وهو بحروفه كما يأتي «أن الأنغام الشرقية لا يمكن تصويرها بالعلامات الإفرنجية التي وضعت وألفت بها قبلا عدة أدوار وموشحات وبشارف وخلافها، والسبب في ذلك أن «سكك» التصوير عبارة عن وضع الأنغام في غير محلها عند اللزوم، والاستزادة من التبحر في الفن، وهي تنطق كما كانت في محلها مع اختلاف الطبقة الأصلية، وذلك يحتاج طبعا إلى ربع المقام دائما، ولما لم يكن ربع المقام موجودا على الإطلاق في العلامات الإفرنجية؛ فيستحيل والحالة هذه وضع سكك التصوير بهذه العلامات».
Unknown page