وقال آخر: إن أصوات آلات الطرب ونغماتها - وإن كانت بسيطة - ليس لها حروف معجم، فإن النفوس إليها أشد ميلا ولها أسرع قبولا؛ لمشاكلة ما بينهما؛ وذلك أن النفوس أيضا جواهر بسيطة روحانية ونغمات آلات الطرب كذلك، والأشكال إلى أشكالها أميل.
وقال آخر: نعم وإن كانت ليست بحيوان، فهي ناطقة فصيحة، تخبر عن أسرار النفوس وضمائر القلوب. ولكن كلامها أعجمي يحتاج إلى الترجمان
2 .
وقال آخر: إن جوهر النفس لما كان مجانسا ومشاكلا للأعداد التأليفية، وكانت نغمات آلات الطرب موزونة وأزمان حركات نقراتها وسكونات ما بينها متناسبة، استلذتها الطباع، وفرحت بها الأرواح، وسرت بها النفوس؛ لما بينهما من المشاكلة والتناسب والمجانسة - وهكذا حكمها في استحسان الوجوه وزينة الطبيعيات؛ لأن محاسن الموجودات الطبيعية هي من أجل تناسب أصباغها، وحسن تأليف أجزائها.
وقال (العلامة ابن خلدون) في سبب اللذة الناشئة عن الغناء: إن اللذة هي إدراك الملائم - والمحسوس إنما تدرك منه كيفية، فإذا كانت مناسبة للمدرك وملائمة كانت ملذة وإذا كانت منافية له منافرة كانت مؤلمة تدرك منه كيفية، فإذا كانت مناسبة للمدرك، وملائمة كانت ملذة، وإذا كانت منافية له منافرة كانت مؤلمة، فالملائم من الطعوم ما ناسبت كيفيته حاسة الذوق في مزاجها، وكذا الملائم من الملبوسات - وفي الروائح ما ناسب مزاج الروح القلبي البخاري؛ لأنه المدرك وإله تؤديه الحاسة؛ ولهذا كانت الرياحين والأزهار والعطريات أحسن رائحة وأشد ملاءمة للروح؛ لغلبة الحرارة فيها التي هي مزاج الروح القلبي.
وأما المرئيات والمسموعات، فالملائم فيها تناسب الأوضاع في أشكالها وكيفياتها، فهو أنسب عند النفس وأشد ملاءمة لها، فإذا كان المرئي متناسبا في أشكاله وتخاطيطه التي له بحسب مادته، بحيث لا يخرج عما تقتضيه مادته الخاصة من كمال المناسبة والوضع، وذلك هو معنى الكمال والحسن في كل مدرك - كان ذلك حينئذ مناسبا للنفس المدركة فتلتذ بإدراك ملائمها - ولهذا نجد العاشقين المستهترين في المحبة يعبرون عن غاية محبتهم وعشقهم بامتزاج أرواحهم بروح المحبوب، وفي هذا سر تفهمه إن كنت من أهله، وهو اتخاذ المبدأ وإن كل ما سواك إذا نظرته وتأملته رأيت بينك وبينه اتحادا في البداية يشهد لك به اتحادكما في الكون، ومعناه - من وجه آخر - أن الوجود يشرك بين الموجودات كما تقوله الحكماء، فتود أن تمتزج بما شاهدت فيه الكمال، لتتحد به، بل تروم النفس حينئذ الخروج عن الوهم إلى الحقيقة التي هي اتحاد المبدأ والكون.
ولما كان أنسب الأشياء على الإنسان وأقربها إلى أن يدرك الكمال في تناسب موضوعها هو شكله الإنساني، فكان إدراكه للجمال والحسن في تخاطيطه وأصواته من المدارك التي هي أقرب إلى فطرته، فيلهج كل إنسان بالحسن من المرئي أو المسموع بمقتضى الفطرة - والحسن في المسموع أن تكون الأصوات متناسبة لا متنافرة؛ وذلك أن الأصوات لها كيفيات من الهمس والجهر والرخاوة والشدة والقلقلة والضغط وغير ذلك، والتناسب فيها هو الذي يوجب لها الحسن؛ فأولا: ألا يخرج من الصوت إلى حده دفعة، بل بتدريج، ثم يرجع كذلك، وهكذا إلى المثل - بل لا بد من توسط المغاير بين الصوتين - وتأمل هذا من افتتاح أهل اللسان التراكيب من الحروف المتنافرة أو المتقاربة المخارج، فإنه من بابه. وثانيا: تناسبها في الأجزاء فيخرج من الصوت إلى نصفه أو إلى ثلثه أو جزء من كذا منه على حسب ما يكون التنقل مناسبا على ما حصره أهل الصناعة - فإذا كانت الأصوات على تناسب في الكيفيات كما ذكره أهل تلك الصناعة، كانت ملائمة ملذة - ومن هذا التناسب ما يكون بسيطا، ويكون الكثير من الناس مطبوعا عليه لا يحتاجون فيه إلى تعليم ولا صناعة، كما تجد المطبوعين على الموازين الشعرية وتوقيع الرقص وأمثال ذلك، وتسمي العامة هذه القابلية بالمضمار، وكثير من القراء بهذه المثابة يقرءون القرآن فيجيدون في تلاحين أصواتهم كأنها المزامير، فيطربون بحسن مساقهم وتناسب نغماتهم - ومن هذا التناسب ما يحدث بالتركيب، وليس كل الناس يستوي في معرفته، ولا كل الطباع توافق صاحبها في العمل به إذا علم، وهذا هو التلحين الذي يتكفل به علم الموسيقى.
وإن حسن الصوت مما أنعم الله به على صاحبه، فقال - عز وجل -:
يزيد في الخلق ما يشاء
جاء في التفسير من ذلك الصوت الحسن. وذم الله - سبحانه - الصوت الفظيع
Unknown page