ومع أن عودتي إلى بلدتي تلك كانت بعد غياب عدة سنوات إلا أنني لم أقترب من بيتنا، ظل والداي ينظران إلي أنا التي لزمت فراش مرض خطيبي الذي أكرهه بشدة، وهما في ذهول. ولكنني عرفت بالطبع أنهما فسرا ذلك على أنه تأنيب ضمير مني، وفرحا به باعتباره بادرة على أن أنوثتي عادت لي.
وكنت أشعر بالرائحة المريبة التي تفوح من مريض السرطان في مرحلة متأخرة، وكأنها عطر سحري إلهي رائع، ظل خطيبي يشكرني؛ لأنني أعمل بسرور ما يكره الآخرون عمله، لدرجة أن يذرف الدموع قائلا: [أنا آسف يا ريكو، أنا آسف.]
فقلت متعمدة الوقاحة: [بعد أن تشفى قل لي كلمات الشكر مجمعة. أنت مزعج وأنت تشكرني على كل فعل صغير أفعله لك على حدة.]
ولقد عرفت أن صورتي بدأت - مع مرور الأيام يوما بعد يوم - تتحول في عيني المريض إلى صورة قديسة. ذلك الرجل الذي اعتدى علي بكل عنفوان في الماضي، الآن قد تبدلت الأحوال، لم يكن بإمكانه إلا أن يكون طوع بناني في كل أمر، وذلك جعله محبوبا بشدة في عيني. عندما أفكر أنني الآن أستطيع أن أسيطر عليه بقوتي بل إني أستطيع كسر ذراعيه بمنتهى السهولة، بدا خطيبي فجأة كأنه طفل رضيع له وجود ساحر وجذاب مع أن ملامح الموت المنفرة الصفراء الجافة تطل من وجهه. والأمر الغريب، أنه كان حتى هذه اللحظة لطيفا وظريفا بالنسبة لي، وأصبحت مستعدة لفعل أي شيء له لو كان ذلك يبعد عنه الموت الذي يقترب منه مع كل لحظة تمر. لقد حزنت حزنا حقيقيا من قلبي؛ إذ إن مرضه ميئوس من شفائه. وألعن ذلك المصير الظالم تجاه مثل هذا الشاب في عمر الزهور، بل لدرجة أنني بدأت أتمنى أن أصبح بديلة عنه لو أن ذلك في استطاعتي. ما ذلك الشعور؟ لقد كدت فعلا أن أصبح قديسة.
في اليوم الثالث لمرافقتي له، في غرفة المريض، التي كانت صدفة خالية من الزوار، فجأة بدأ المريض يناديني بصوت معاناة: [ريكو! ريكو!]
وعندما قربت منه وجهي سائلة ماذا؟ كان بالضرورة تظهر في عينيه السكينة والتبجيل والخشوع . وقال بصعوبة : [إني أتألم ... هات يدك أمسكها.]
فعلى الفور أمسكت بإحكام يده تلك البالغة الذبول. كانت يده ترتعش بين راحة يدي ارتعاشا خفيفا.
بالضبط في ذلك الوقت. ما الذي حدث لي يا دكتور؟ لقد سمعت [الموسيقى] فجأة. تلك الموسيقى التي كنت أشتاق إليها لتلك الدرجة، تغلغلت في كل جسدي. ولم تتوقف الموسيقى في الحال، بل تدفقت مثل سلسال نبع، وروت داخلي الذي كان قد بلغ منتهاه في الجفاف. ليس من خلال أذني، بل من خلال جسدي ... هل يمكن يا دكتور حدوث مثل هذا الأمر الذي لا يصدق؟ لقد سمعت تلك [الموسيقى] بإحساس السعادة التي لا يمكن وصفها بالكلمات، سمعتها بجسدي ...»
17
أحيت رسالة ريكو تلك، مرة أخرى، اهتمامي الذي كان على وشك أن يبرد بالفعل، وجعلت قلبي مجددا أسيرا لتلك المريضة التي تسمى ريكو.
Unknown page