تصدير الطبعة الجديدة
مقدمة في المصطلح
1 - العلوم الطبيعية منطق تقدمها
2 - العلوم الإنسانية منطق تخلفها النسبي
3 - منطق مشكلة العلوم الإنسانية
4 - الخاصة المنطقية المميزة للعلوم الطبيعية
5 - التساوق المنهجي للخاصة المنطقية
6 - الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة والخروج من مشكلة العلوم الإنسانية
7 - إمكانية حل مشكلة العلوم الإنسانية
الختام
ثبت المراجع
تصدير الطبعة الجديدة
مقدمة في المصطلح
1 - العلوم الطبيعية منطق تقدمها
2 - العلوم الإنسانية منطق تخلفها النسبي
3 - منطق مشكلة العلوم الإنسانية
4 - الخاصة المنطقية المميزة للعلوم الطبيعية
5 - التساوق المنهجي للخاصة المنطقية
6 - الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة والخروج من مشكلة العلوم الإنسانية
7 - إمكانية حل مشكلة العلوم الإنسانية
الختام
ثبت المراجع
مشكلة العلوم الإنسانية
مشكلة العلوم الإنسانية
تقنينها وإمكانية حلها
تأليف
أ.د. يمنى طريف الخولي
تصدير الطبعة الجديدة
ونحن الآن في مطالع القرن الحادي والعشرين، نشهد تفجرا معرفيا باذخا غير مسبوق، ونبدو على أعتاب مرحلة جديدة من التقدم العلمي، يعلو فيها دور العلوم الآلية؛ أي: علم المنطق ومناهج البحث وعلوم المعلوماتية والكمبيوتر وعلم اللغة العام. تلوح في الأفق ثورة تنتزع العرش من الفيزياء لتعتليه علوم الوراثة والبيولوجيا الجزئية لتتآزر مع العلوم الآلية في منظومة مستجدة تماما، تستغل الإمكانات المعرفية للتكويد والتشفير والقوة التوليدية للأنساق الاستنباطية ... إلخ، لكن يظل التجريب دائما سلاحا أوليا للبحث العلمي لا مندوحة عن حسن استغلاله وتشغيله وشحذه. ولا تتوانى فلسفة العلم ومناهج البحث عن القيام بدورها في هذا. ومن كل صوب وحدب سوف تعلو مؤشرات التقدم العلمي والتفجر المعرفي قرننا الحادي والعشرين.
وفي كل هذا يزداد إلحاح دور العلوم الإنسانية في العقل وفي الواقع. ولا تزال سيطرة العقل العلمي التجريبي على الظواهر الطبيعية والحيوية تفوق كثيرا سيطرته على الظواهر الإنسانية. أجل، قطعت العلوم الإنسانية خطوات واسعة في طريق اصطناع المنهج العلمي التجريبي، وعلى مدار القرن العشرين أحرزت إنجازات متوالية. ولكن لا تزال الحاجة ملحة إلى مزيد من سيطرة العقل العلمي على الظواهر الإنسانية، وإلى دفع الطاقة التقدمية للعلوم الإنسانية.
ومن هنا تأتي أطروحة هذا الكتاب. إنه ينطلق من منظور مستقبلي، هادفا أن تبلغ العلوم الإخبارية بالظواهر الإنسانية، ما بلغته العلوم بالظواهر الطبيعية من معدلات نجاح متسارعة في أداء وظائف العلم التجريبي من وصف وتفسير وتنبؤ وسيطرة تقانية، عسانا أن نحقق عالما أفضل وأكثر توازنا.
يقف الفصل الأول على منطق التقدم المتوالي للعلوم الطبيعية، الذي تبلور، بل تفجر بثورة العلم في القرن العشرين. ثورة النسبية والكوانتم، وهي من أعظم ثورات البشر طرا، وكانت ثورة المعلوماتية والهندسة الوراثية المذكورة آنفا إحدى نواتجها، وتظل تحمل إمكانات واعدة لا حصر لها، يعنينا منها هنا فتح الطريق لقهر صعوبات محيطة بالعلوم الإنسانية تعوق تسارع معدلات تقدمها، وتسبب مشكلة تخلفها النسبي عن العلوم الطبيعية. ويتكرس الفصلان الثاني والثالث لفلسفة العلوم الإنسانية: عوامل نشأتها وتناميها، ثم نجاحها في التوصيف العلمي للظواهر، لكن تباطؤ المعدلات والافتقار للتكامل حين التفسير. وفي هذا الإطار نحيط بمنطق مشكلة العلوم الإنسانية بمنتهى الدقة المستطاعة لمنطق العلم التجريبي. في الفصل الرابع نجد الخاصة المنطقية المميزة للعلوم التجريبية - كما تتبلور في العلوم الطبيعية - أي القابلية للاختبار التجريبي والتكذيب، تفتح الطريق لحل مشكلة العلوم الإنسانية. لا سيما أن هذه الخاصة تتساوق مع نظرية المنهج التجريبي المعاصرة التي تفتح بدورها الطريق لقهر عوامل تحول بين العلوم الإنسانية والتجريبية، وبين تحقيق درجة أعلى من النجاح في أداء وظائف العلم. وهذا يعني أن الاستيعاب الكامل لأبعاد الإبستمولوجيا العلمية - المنهجية والمنطقية - كفيل بدفع الطاقة التقدمية للعلوم الإنسانية والإسهام في حل مشكلتها.
وكما هو معروف، كارل بوبر هو الذي صاغ هذه الخاصة المنطقية؛ أي القابلية للتكذيب كمعيار للعلوم التجريبية، وجعلها عماد معالجته الرصينة النافذة لمنطق العلوم التجريبية. وها هنا تطبيق للقابلية للاختبار التجريبي وللتكذيب، وتشغيل واسع النطاق لها، أبعد كثيرا من إسهامات بوبر في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية. وربما نكون في هذه الزاوية بوبريين أكثر من بوبر نفسه!
على أي حال، ليس ينطوي هذا على اختزال العلوم الإنسانية أو ردها إلى العلوم الطبيعية، بل فقط استغلال ما هو مشترك في الممارسة العلمية التجريبية - كمبدأ تنظيمي - بالاقتراب منه يتسم المشروع العلمي بالإحكام. إنه لهذا تنامى اقتفاء العلوم الإنسانية لشروط القابلية للاختبار التجريبي، فعرفت طريق التقدم العلمي. والهدف أن يزداد الطريق وضوحا، فيزداد التقدم صعودا. وتلك أولى مهام فلسفة العلم التي هي المعقل الرسمي لأصول التفكير العلمي والثقافة العلمية وأصول البحث العلمي.
إنه حديث في الفلسفة، موجه لباحثي العلوم الإنسانية، لكن يهم أيضا باحثي العلوم الطبيعية، فضلا عن المثقف العادي في عصر لم تعد الثقافة فيه منعزلة عن حركة العلم بحال. وقبل كل هذا وبعده يظل احتياجنا القومي لجرعات مكثفة من أصوليات التفكير العلمي والبحث العلمي على السواء.
إن الاحتياج القومي والهم القومي لا يغيب أبدا عن بال المثقف الجاد، مهما أوغل في غياهب التخصص الدقيق. وفي هذا، فإن الطبعات السابقة من هذا الكتاب قد لاقت - بحمد الله تعالى - استقبالا حسنا. وأجمل ما في الأمر أنه في طبعته الأولى المجملة تحت عنوان «إمكانيات حل مشكلة العلوم الإنسانية على ضوء الخاصة المنطقية للعلوم الطبيعية وتساوقها المنهجي» عام 1990-1991، قد حصل في هذا العام نفسه على جائزتين عربيتين، فكان عاملا لفوزي بجائزة العلماء العرب الشبان في مجال العلوم الإنسانية، من مؤسسة عبد الحميد شومان - الفلسطيني - في الأردن. حصل الكتاب أيضا على جائزة سعاد الصباح للإبداع الفكري بين الشباب العربي، في العام نفسه. إنه عام الطوفان وكارثة الخليج المشئومة. بل إنني تسلمت الجائزة الكويتية في معرض القاهرة الدولي للكتاب أواخر يناير 1991، والحرب دائرة. ورغما عنها اجتمعت الجائزتان في هذا الكتاب، تأكيدا أن البحث العلمي العربي كالإبداع العلمي العربي لن تقف في وجهه حدود سياسية، ولو كانت بضراوة الأسلاك الشائكة وحقول الألغام. ويلتقي تقدير الطرفين المتقابلين، وفي صلب الزمن العصيب، مصداقا لثابت باق يعلو على الكوارث ومؤامرات الفرقة، فليست العروبة ترهات وألاعيب سياسية، بل هي وحدة ثقافية وحضارية غير قابلة للفصم أو القصم مهما كانت ضراوة الوقائع والمتغيرات. ومن ثم فإن القومية العربية أشد حقيقة من الدم في الشرايين، ومن أهوال الحروب والفرقة بين الأشقاء.
وإذا جمع هذا الكتاب بين الجائزتين العربيتين المتزامنتين والمتقابلتين، ليقف حجة دامغة في وجه كل من تسول له نفسه التطاول على مفهوم العروبة، وحقيقة القومية العربية، فإن هدفه المعرفي الأساسي هو الحيلولة دون التشويه الأيديولوجي للعلوم الإنسانية!
وقدمت دار قباء طبعته الجديدة مع بدايات القرن الحادي والعشرين.
1
وفقنا الله لما فيه السداد.
يمنى طريف الخولي
منيل الروضة. مايو 2001
هوامش
مقدمة في المصطلح
حضارة العرب هي حضارة اللغة والفصاحة والبلاغة وفن القول، فالشعر فنها الأول وديوانها الأكبر، وتتيه على الحضارات طرا بأنها تتحدث اللغة ذات العدد الأكبر من المفردات التي تعد بالملايين، بينما لا تتجاوز مفردات اللغة الإنجليزية - مثلا - سبع مئات من الألوف. ومع هذا فإن أخبث مواطن الداء في الثقافة العربية هي عدم الحرص على دقة المصطلح، حتى إن معظم المصطلحات المهمة والخطيرة فضفاضة تتسم بالهلامية، قد تستخدم للدلالة على مدلولات شتى متداخلة أو متقاربة أو متباعدة أو حتى متضاربة ... على الإجمال قد يدل المصطلح على أشياء كثيرة فلا يدل على أي شيء محدد، ونعجز في معظم الأحايين عن ربط الاسم بمسماه، ومن ثم عن الإتيان بالقول المحكم الدقيق، وكأننا نعاني فقرا لغويا مدقعا!
على ذلك يبدو هذا التمهيد مهما لتحديد مصطلحات عنوان الكتاب أو موضوعه، ما دام بحثا في منطق «العلم»، ومجرد هذا المصطلح: العلم
Science
مصطلح حديث. ولم تتم صياغة مصطلح العالم
Scientist
إلا في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، حين اشتق - آنذاك - من الفعل اللاتيني
Sciere
أن يعرف؛ ليدل فقط وبتميز شديد على المنشغل بذلك النسق المعرفي النامي والمتعملق حديثا - وعلى وجه الخصوص - الطبيعة والكيمياء بمنهجهما الصارم، وطابعهما المحكم، ثم توالى اجتياح العلم لمجالات شتى، أتت كلها
Science
وفقا لهذا المصطلح المدقق. ولكن لم يوضع له مقابل في اللغة العربية إلا مصطلح «علم» العريق جدا والمترامي النطاق في ثقافتنا؛ حيث يدل على أي نشاط معرفي وأي درس عقلي على وجه الإطلاق. ولعله لم يظفر بتحديد ما إلا على يد بعض الفقهاء - كابن تيمية وابن حنبل - الذين أصروا على أن «العلم» يقتصر على أصول الدين وتفسير القرآن والشريعة والسنة ... بل وذهبوا إلى أن أي استعمال آخر له هو من قبيل التجديف والكفر. وبطبيعة الحال نهض المستنيرون من الفقهاء والفلاسفة والعلماء، وأيضا من المتكلمين ذوي المنزع العقلاني، نخص منهم بالذكر أبا الحسن العامري (متوفى 381ه)، لتأكيد أن «العلم» - هذا النشاط الشريف المعلى - يتطرق إلى مجالات أخرى كالرياضيات والنظر العقلي في شتى المواضيع والأمور. وفي كل حال كان مصطلح «العلم» في ثقافتنا العربية - ولا يزال - مصطلحا شديد العمومية، يشير - وعلى أحسن الفروض - إلى أي بناء عقلي نظامي وأي دراسة منهجية، في مقابل مصطلح
Science
الدقيق والمحدد الذي سوف نستعمله في هذا الكتاب.
إذن فمصطلح «العلم» يرد في هذا الكتاب بذلك المفهوم الدقيق المحدد ليدل فقط على: «أنساق تفيد مضمونا إخباريا، ومحتوى معرفيا، وتوصيفات دقيقة، وقوة شارحة، وقدرة تفسيرية، وطاقة تنبؤية، منصبة على ظواهر العالم التجريبي والواقعي الواحد والوحيد الذي نحيا فيه»، معنى هذا أن مصطلح «العلوم الإنسانية» يشير إلى الدراسات التي تستهدف الإحاطة المنهجية الوصفية والتفسيرية بالظواهر الإنسانية، كعلوم الاجتماع والاقتصاد والنفس والأنثروبولوجيا والجغرافيا ... إلخ، بفروعها العديدة. ولا ينطبق على الدراسات الإنسانية الأخرى المعيارية والتنظيمية من قبيل فقه اللغة، والقانون، والشريعة، والنقد الأدبي، وأنظمة المحاسبة والإدارة ... إلخ؛ أي أنها تخرج عن مجال بحثنا، وعن مجال فلسفة العلوم التجريبية. ولا ينفي هذا بطبيعة الحال خطورتها، وأهميتها الحضارية الكبيرة. بل إن التطور الكبير للسانيات واللغويات في القرن العشرين قد توغل كثيرا داخل حدود العلم، ومجرد أصول له قد انعكست على مسار العلوم الإنسانية فيما يعرف بالاتجاه البنيوي، وما تلا هذا من تطورات معرفية مهمة حدثت بفعل الحاسب الآلي (الكمبيوتر). ولكننا ملزمون بالتحديد المنطقي التجريبي الذي يحول بيننا وبين التعرض للدراسات الإنسانية المعيارية والتنظيمية.
ولما كان علم الاجتماع وعلم النفس هما القطبان اللذان يحصران كل موضوعات أو فروع العلوم الإنسانية التجريبية في تردداتها بين الجمعي العام والفردي الخاص، فإننا سنصوب عليهما الأنظار ونوليهما عناية خاصة.
ولا يمنع هذا بطبيعة الحال من التعرض للفروع الأخرى حسبما يقتضي السياق. غير أننا آثرنا الابتعاد عن «التاريخ»؛ لأننا لو اعتبرناه علما فلا بد أن يكون ذا طبيعة خاصة جدا.
ولا يفوتنا التوقف لتوضيح ضرورة استخدام مصطلح العلوم الإنسانية
Human Science ، فالكثيرون وعلى رأسهم كلود ليفي شتراوس يطابقون بين مصطلحي
Human Sciences
و
Sciences Social ، ولكن مصطلح
Human Sc.
الذي بدأ يسود في السنوات الأخيرة يبدو أصوب؛ لأن الإنسان - وإن كان لا يتواجد إلا في صورة جمعية - فإنه الموضوع المحوري، والوحدة النهائية التي ترتد إليها الدراسة في كل حال. على أن التقاليد الأنجلوسكسونية وبجذور تعود لعصر النهضة وما قبيله، تضع مصطلح الإنسانيات
Humanties
ليدل على الآداب والفنون والمسائل المعيارية والقيمية واتجاهات لتفسير النصوص ... إلخ، وكلها مسائل مفارقة للعلم، ولا ينبغي أن تختلط به. وهذا جعلهم يفضلون مصطلح
Social Sciences
للدلالة على مجمل العلوم الإنسانية. وساعدهم في هذا وجود اشتقاق آخر هو
Sociological
ليدل فقط على ما ينتمي لعلم الاجتماع بالذات.
ورحنا نحن ننقل هذا بغير مراعاة للشائع من اشتقاقات لغتنا، فنستخدم الترجمة الحرفية لمصطلح
Social Sciences
أي «العلوم الاجتماعية» للدلالة على مجمل العلوم الإنسانية، ونستخدم أيضا مصطلح «العلوم الاجتماعية» للدلالة على ما ينتمي لعلم الاجتماع؛ أي كترجمة للمصطلح
Sociological
في خلط ينبغي تجنبه عن طريق استخدام مصطلح «العلوم الإنسانية»، وقصر مصطلح «العلوم الاجتماعية» على علم الاجتماع وفروعه. وعلى ذلك التزم هذا الكتاب بمصطلح «العلوم الإنسانية» الأصوب، حتى حين ترجمة الاقتباسات من مصادر استخدمت مصطلح
Social Sciences ، بل وحين الاستفادة من مصادر عربية استخدمت مصطلح «العلوم الاجتماعية» للدلالة على مجمل العلوم الإنسانية.
وأخيرا فضلنا مصطلح مشكلة
؛ لأنه يفيد تحديدا منطقيا، ما يجعله أفضل من المصطلح المستحدث الذي ذاع استخدامه؛ أي إشكالية
؛ لأنه يعني مشكلة تتوالد عنها مشكلات، ما يوحي بالهلامية التي لا يناسبها، ولا يجدي معها منطق.
الفصل الأول
العلوم الطبيعية منطق تقدمها
بلغ القرن العشرون خواتيمه متوجا بحصاد علمي يتيه به على القرون أجمعين، لقد تفجرت فيه الطاقة التقدمية للعلوم الطبيعية، وفاقت كل معدلات التقدم العلمي المعهودة من قبل بنسبها البسيطة والمركبة. وفور أن انتهى نصفه الأول قيل: «إن أكثر من ثلاثة أرباع علم الفيزياء المعروف لنا اليوم قد أنتجه هذا القرن العشرون.»
1
وفي نصفه الثاني تضاعف هذا النتاج، وما زال يتضاعف. ولحقت بالفيزياء - وهي العلم الطبيعي الأم - بقية أفرع العلوم الطبيعية. ونشأت فروع أخرى، ولا تزال تنشأ.
ولا نحسبن الأمر يعوزه استطراد. فتعملق العلوم الطبيعية «أوضح من شمس النهار» كما قال الأقدمون، لكن الأقدمين قالوا هذا التمثيل مجازا، ونحن نقوله حقيقة ففي إمكان العلوم الطبيعية الآن أن تجعل شمس النهار تتوارى بضع لحظات مثلا أمام التفاعلات الذرية لانفجار القنبلة الهيدروجينية، وهي واحدة من بنات حصائلها المتواضعات. هذه الحصائل تملأ آفاق عصرنا، بدءا من وسائل المواصلات والاتصالات التي قهرت الزمان والمكان، حتى غزو الفضاء، والصحراء. وثورة الهندسة الطبية، فضلا عن الهندسية الوراثية التي تعاظمت معها استطاعات الإنسان، وتتابع أجيال الحاسوب ... إلخ، ومع هذا «سيظل العلم دائما شيئا ما أعظم من تقانة (تكنولوجيا)، وأكثر من فروع للمعرفة. إنه شيء حي، شيء من أشياء المتعة والجمال، يتوشج بطبيعته توشجا داخليا في شئون الحياة، وهو مع هذا شيء مميز عنها، إنه ميدان للخبرة يلعب فيه الخيال دورا كاملا.»
2
لقد قيل إن العلم شيء حي، بمعنى أنه بناء صميم طبيعته الصيرورة. وهو نسق متتالي التوالد والتنامي والتغير، ما يعني أن منطقه منطق نظام ديناميكي، وهو منطق للتقدم المستمر؛ لذلك فحين نقف على خاصية البنية المنطقية للعلوم الطبيعية، سنرى كيف أن نسقها يحمل في صلب طبيعته إمكانية التقدم المستمر دائما استمرارية البحث العلمي. إن هذه الإمكانية متوشجة في صميم البنية المنطقية، حتى أمكن القول إن منطق العلم التجريبي منطق «تصحيح ذاتي» فنجد جاستون باشلار
Gaston Bachelard (1884-1962) شيخ فلاسفة العلم في فرنسا، يؤكد ضرورة الربط بين العلم والفلسفة، ويحرص على تأكيد أهمية الخيال والأحلام الشاعرية للعقل العلمي.
وباشلار يطلق نظرياته ورؤاه النافذة المحيطة بأعماق ظاهرة العلم كشاعر ملهم، يقول: «العلم لا يخرج من الجهل كما يخرج النور من الظلام؛ لأن الجهل ليس له بنية، بل يخرج من التصحيحات المستمرة للبناء المعرفي السابق، حتى إن بنية العلم هي إدراك أخطائه. والحقيقة العلمية هي تصحيح تاريخي لخطأ طويل، والاختبار هو تصحيح الوهم الأولي المشترك.»
3
فيؤكد باشلار كثيرا أهمية النقد. أو حسب تعبيره «هذا الشك المسبق المنقوش على عتبة كل بحث علمي، يتصف بأنه متجدد، وهو سمة أساسية لا موقوتة في بنية التفكير العلمي.»
4
لذلك ينتهي باشلار إلى أن العقل العلمي يتنكر دائما لما ينجزه، من حيث دأبه على نقده وتصويبه. ألم نتفق على أن منطق العلم «منطق تصحيح ذاتي»؟! إنه لهذا يكفل لتواتر محاولات العلماء الإبداعية، ومحض توالي البحوث المنهجية ... يكفل لها التقدم المستمر، من حيث يفتح أمامها آفاقا أوسع. معنى هذا أنه مهما أحرزت العلوم الطبيعية من تقدم، فسوف يظل إحرازها هذا يحمل في صلب ذاته إمكانية التقدم الأبعد، فلا ركون ولا سكون البتة. بعبارة أخرى كل إجابة يطرحها العلم يطرح معها تساؤلات جديدة أبعد مراما. وكما يقول كلود ليفي شتراوس
C. Levi Strauss (1908-؟): «سوف تكون هناك دائما فجوة بين الإجابة التي يكون العلم قادرا على إعطائها لنا، وبين السؤال الجديد الذي سوف تثيره هذه الإجابة.»
5
فلن يتوقف أبدا تقدم مسيرة العلم الطبيعي الظافرة، التي انطلقت في طريقها الصاعد الواعد، فور أن وضع نيقولا كوبرنيقوس
N. Copernicus (1473-1543) فرض مركزية الشمس - التي سبق أن طرحها أرسطارخوس الساموسي في القرن الثاني الميلادي - بدلا من مركزية الأرض في النظام البطلمي القديم، المعتمد طوال العصور الوسطى. وتعد مركزية الشمس الكوبرنيقية - بضعف حجمها، وما فيها من أوجه قصور - هي المنعطف الجذري بألف ولام التعريف، الذي تحول معه العقل البشري من شعاب العلم الطبيعي القديم، ليستهل الخطوة الأولى ونقطة البدء في تشييد «نسق العلم الحديث».
لقد قيل إن العلم الطبيعي أقدم عهدا من التاريخ. فالمعطيات الأساسية التي يرسو عليها تأملها الإنسان وأسلافه لعشرات ومئات الآلاف من السنين، وقبل أن تخترع الكتابة. والواقع أن رموز الأعداد اخترعت قبل الكتابة. فأول ما ينبغي أن نقره بشأن العلم، هو أنه متأصل في صلب أقدم مناحي الإنجاز الإنساني.
6
وحين نتقدم قليلا في مسيرة الحضارة الإنسانية سوف نلقى - بصفة أكثر تحديدا - الميراث العلمي الواضح المعالم للحضارات الشرقية القديمة، وعلى رأسها الحضارة الفرعونية، أعظم الحضارات طرا وفجرها الناصع. ثم هل كان يمكن تشييد «نسق العلم الحديث» بغير الأصول النظرية العميقة التي أرساها فلاسفة الإغريق، والفروض المثمرة التي طرحها بعضهم، خصوصا قبل السقراطيين منهم، وعلى رأسها فرض الذرة. وبصفة أكثر عينية لم تكن إنجازات جاليليو (1564-1642) - وهو في طليعة الآباء العظام للعلم الحديث - ممكنة دون إنجازات أرشميدس، هو الذي علمه التآزر الخصيب الولود بين لغة الرياضيات ووقائع التجريب. ومعلوم جيدا دور العلماء العرب في العصور الوسطى في مواصلة مسيرة البحث التجريبي، وعلى رأسهم وعلى رأس العلماء الطبيعيين القدامى طرا، ابن حيان، وابن الهيثم، والبيروني، والرازي.
ولئن كان العلم الطبيعي في هذا المسار الطويل قد أنجز بضع محصلات، ربما تتخذ مواقعها حتى الآن في نسق العلم الحديث، ولو كأصول تمهيدية فإنها كانت نتائج ضئيلة نسبيا والأهم متناثرة؛ لأن البحث العلمي نفسه كان نشاطا متناثرا، مشتتا مبعثرا، ملحقا بالاحتياجات العملية المباشرة في العهود السحيقة، ثم بالكهنوت في الحضارات القديمة، ثم بالفلسفة والإطار الثقافي في الحضارة الإغريقية، وفي الحضارة الوسيطة التي كان إطارها إطارا دينيا. فلم يكن العلم الطبيعي القديم كيانا مستقلا بذاته، حتى انبثق العلم الحديث في صورة نسقية؛ أي مهيأة للاستقلال، بحيث تحمل في صلب ذاتها حيثياتها وإمكانات تناميها، وفاعلية عوامل تقدمها ذي المعالم الواضحة.
والنسقية تعني إحكام المشروع العلمي فيرتكز في شتى ممارساته على أصوليات منهجية صارمة، ترتد في صورة خصائص منطقية دقيقة تحدد للمشروع العلمي تخوما واضحة، ما يكفل تآزر الجهود العلمية، فيجعلها تمثل متصلا صاعدا، يواصل تقدمه باستمرار، ويلقي في جوانحنا الثقة المدعمة بأن غده أفضل من يومه، تماما كما أن يومه أفضل من أمسه، الذي كان أفضل من أمسه الأول. فتمثل كل ممارسة من ممارسات العلم الطبيعي إضافة لرصيده، أو بالأحرى لرصيد الإنسانية، لكن إضافة رأسية.
أجل، يمثل العلم الطبيعي متصلا صاعدا، دونا عن شتى مناحي الإبداع الإنساني كالفن والأدب والفكر والفلسفة والأنظمة ... إلخ، التي تنمو في صورة تراكم كمي واتساع أفقي، لا يلغي القديم فيه الجديد، ولا يتجاوزه، ولا يفوقه، بل يقف بجواره. وأن تمثل الإنجازات المتوالية متصلا صاعدا، يقترب دوما من الصواب، متجاوزا مثالب الوضع السابق - أو مواطن كذبه - وباحثا عن مثالب أخرى في وضعه الجديد ليقترب من الأصوب. فذلك هو التعبير المنطقي عما يعرف بمقولة تقديم العلوم الطبيعية. وسوف نرى أن الخاصة المنطقية المميزة للعلوم الطبيعية، والتي تعطي أشمل معالجة لمنطق النظرية العلمية التجريبية، هي في حد ذاتها بلورة لعامل التقدم المتوشج في نسيج العلم الطبيعي. •••
وقد بذلت عدة محاولات فلسفية للوقوف على طبيعة هذا التقدم العلمي المستمر. وبنظرة شاملة يعطينا بوليكاروف أربعة آراء تجمل تصورات تقدم العلوم الطبيعية أو نموها
7
وهي: (أ)
تبعا لتتالي الأحداث الذي لا يحكمه أي اطراد عام، فإنه لا يمكن تفسير تقدم العلوم الطبيعية، يمكن فقط وصفه، وهذا هو تصور الوضعيين المناطقة على الخصوص. (ب)
تقدم العلم يتم كسلسلة من التحولات أو الثورات التي ربما تحدث بغير رابطة داخلية
internal link . هذه هي النظرية الثورية. (ج)
وكنقيض للرأي السابق نجد الرأي التراكمي، الذي يؤكد استمرارية المعرفة العلمية. وهذا رأي شائع بين العلماء وفلاسفة العلم ومؤرخيه الكلاسيكيين، أمثال ويليم ويول وبيير دوهيم وكارل بيرسون وجورج سارتون. ولعل أبرز ممثليهم عالم الفيزياء المتطرف أرنست ماخ
E. Mach (1838-1916)، فقد استنفد قواه الفلسفية والمنطقية في شن حرب شعواء على الكمومية «الكوانتم» والنسبية، ما يوضح إلى أي حد كان تفكيره أسير مرحلة العلم الكلاسيكي، وعجز عن تجاوزها. ونظرا لبساطة مسلمات العلم الكلاسيكي، وتوافقها مع الحس المشترك، فإن ذلك الموقف لا يزال دارجا ويتكرر كثيرا، وحتى يومنا هذا. فيعرب باشلار عن أسفه؛ لأن القرن الثامن عشر لا يزال يحيا فينا. «وأحد أهداف هذا الكتاب الكفاح ضد الموقف العاجز عن مواكبة التقدم في العلم. وهو - أي العلم - المجال الذي يعنينا منه أنه التمثيل العيني لمقولة التقدم في أجلى وأصفى صورها.» (د)
التصور الجدلي (الديالكتكي) لهيجل وماركس وإنجلز وأشياعهم. وتبعا له يؤدي التقدم الكمي التدريجي؛ أي «التراكمي» إلى قفزات كيفية أو «ثورية» تصبح بدورها نقطة البدء لتراكم كمي جديد، يؤدي عند نقطة معينة إلى قفزة كيفية ... وهكذا، وفقا لقانون «الكم والكيف» الجدلي؛ أي الذي ينتقل عبر مراحل الجدل الثلاث: القضية ثم نقيضها، ثم المركب الذي يجمع خير ما فيهما ويتجاوزهما إلى الأفضل، فيصبح بدوره - في مرحلة أعلى من الجدل - قضية تنقلب إلى نقيضها ... وهلم جرا ... وعلى الرغم من النقد العنيف، بل الرفض الحاد الذي يلقاه الجدل من قبل فلاسفة العلم ذوي الولاء الشديد للعقلانية
8
فإننا نرى في التصور الجدلي وسيلة ناجحة للربط بين التصورين التراكمي والثوري في مركب متسق لمن شاء الاستفادة من التصورات الثلاثة معا في كل متآزر.
بيد أن الغاية المرومة في النهاية من كل فلسفة للعلم هي أن تبلور روحه، فتضع الأصبع على أشد ما يفجر الطاقة التقدمية للبحث العلمي والتفكير العلمي، ومن ثم للعقل الإنساني والحضارة الإنسانية. والنظرية الثورية - بداهة - أقوى ما يدفع الطاقة التقدمية للعلم، أوليست تجعله ثوريا؟
ولا بد قبلا من الوقوف عند مصطلح «الثورة» وقفة لغوية، لنميز بين جانبين للدراسة السيمانطيقية للمصطلحات هما الجانب الإشاري المباشر، والجانب الدلالي الإيحائي. من الناحية المباشرة نجد «الثورة» تعني - دائما - نمطا من التغيير المفاجئ السريع، مغايرا لمجرد النمو، أو حتى التطور الذي هو تغير تدريجي بطيء «يوازيه في تفسير التقدم العلمي النظرة التراكمية»، لذلك قيل: إن «الثورة مقابلة للتطور، فهي سريعة وهو بطيء، وهي تحول مفاجئ وهو تبدل تدريجي.»
9
وهذا المعنى الإشاري المباشر مقصود بعينه، ولكن فيما يختص بالجانب الدلالي الإيحائي، نلاحظ تفاوتا بين لفظة المصطلح الأوروبي
Revolution
وبين المقابل العربي «ثورة». إذ تعود ثورة إلى: ثار الغبار: سطع، وأثاره غيره، وتثويرا: هيجه، وثورانا: هاج. ومنه قيل: فتنة ثارت، وأثارها العدو، وثار الغضب: احتد، وثار إلى الشر: نهض، وثور الشر تثويرا.
10
فنجدها في النهاية مردودة إلى «ثار» بمعنى يفيد هاج وماج، فيأتي الرفض والتغيير الجذري بفعل قوى انفعالية. وليس هذا مقصودا تماما، ولكن في الإنجليزية نجد المصطلح: «ثوري
Revolutionary »، جذري متطرف. وأيضا دوار؛ لأنه مأخوذ من
Revolution
التي تعني ثورة، وتعني أيضا إتمام دورة كاملة (مثلا دورة الجرم السماوي في مداره) ولنلاحظ أواصر القربى الفيلولوجية بين «ثورة
Revolution » وبين «نماء أو تطور
Evolution ». على هذا نجد المصطلح الإنجليزي لا يجعل الرفض هياجا مفاجئا، بل هو تقدم مكثف شديد الفاعلية، وانتقال جذري إلى مرحلة أعلى آن أوانها؛ لانتهاء المرحلة السابقة أو استنفاد مقتضياتها. وهذا هو المقصود على وجه الدقة من القول بالطابع الثري للتقدم العلمي.
وسوف نرى أن هذه النظرية الثورية لتقدم العلوم الطبيعية، والتي هي الضد الصريح لنظرية التراكم الكمي، والتعديل الحق للقول بالتطور العادي، إنما هي النظرة التي يفرضها منطق العلم ذاته، منطق الكيان المطرد التقدم ذي الثورات الحقيقية في تاريخ البشر، ذلك أننا سنلقاها محصلة للخاصة المنطقية المميزة للعلوم الطبيعية. ومن ثم فهي أي: النظرية الثورية - وفي أقوى صورها - هي المعتمدة في كتابنا هذا، المتسقة مع مسلماته وأهدافه، وإنها لنظرة شديدة الحداثة، ولكن قبيل أن ينتصف القرن العشرون، سبق أن بشر بها مؤرخ العلم هربرت بترفيلد.
11
وخلاصة رؤيته هي أنه على قدر ما يمكننا اقتفاء الثورات العلمية بهدى العوامل الخارجية، فالوضع يتمثل في أن العلماء في مرحلة ما يحدثون تغييرا في مخططات تفكيرهم، يرون الأشياء القديمة بطريقة جديدة، ويحاولون التوصل إلى فكرة تمثل مفتاحا (
Key Idea
وهو تعبير بترفيلد المفضل) يفض مغاليق التعثر الطارئ. وحينما يتوصلون إلى فض هذه المغاليق تتدفق الاكتشافات بمنتهى السهولة، ويرفض بترفيلد اعتبار تاريخ العلم تاريخا للأفراد العظام، أو سلسلة من قصص النجاح، أو تراكم الاكتشافات والمعرفة بالوقائع. فذلك لا يعبر البتة عن التناول السليم لتاريخ العلم
12
هذا التاريخ المتقد لا تحيط به إلا الرؤية الباحثة عن ثوراته.
ولعل أشد فلاسفة العلم حرصا على إبراز الطابع الثوري للتقدم العلمي إنما هو باشلار. إذ يرى أن الخطأ الأساسي والأولي، هو الذي يظل مسيطرا على العقل البشري ما لم يعمل هذا العقل على إزاحته عن مواقعه واحدا بعد الآخر بجهد وكفاح وصراع لا يتوقف. فكل حقيقة لا بد أن تكتسب بنوع من النضال والانتصار. وكل معرفة لا بد أن تحارب لكي تحتل مواقع الجهل؛ لذلك فالتقدم في العلم يتم من خلال صراع بين الجديد والقديم. ولا يتحقق إلا بنوع من التطهير الشاق لهذه الأخطاء. المعرفة لا تسير في طريق ميسر معبد مباشرة إلى الحقيقة، بل إن طريقها ملتو متعرج ، تمتزج فيه الحقيقة بالبطلان، ويصارع فيه الصواب الخطأ صراعا مريرا كيما يخلص نفسه منه. وهكذا نلاحظ أن فعل المعرفة في كل حال ينطوي في حد ذاته على ثورة ما، من حيث ينطوي على صراع. يتبلور هذا الصراع في السلب في «اللا» التي أصبحت مقولة لا يستغني عنها العلم المعاصر (لاحتمية، لاتعين، ميكانيكا لانيوتنية، وهندسات لاإقليدية ...) ذلك أن الجدة العلمية لم يعد من الممكن اكتسابها، إلا عن طريق السلب المنظم، الذي يصارع القديم ويرفضه، ويعبر عما يطرأ على العلم من تحولات أساسية، عندما يعيد النظر في مفاهيمه الكبرى، ويراجعها من جديد. ومن ثم يصر باشلار إصرارا على رفض فكرة الاتصال في فلسفة العلوم. فالمعرفة العلمية تتصف أساسا بعدم الاتصال في صورتها أو في مضمونها.
13
والبنية الإبستمولوجية لفرضية علمية مختلفة تماما عن بنية الفرضية التالية لها في تاريخ العلم في «جدليات ناشطة حقا».
14
والفيلسوف الذي يتبع بالتفصيل حياة الفكر العلمي سيدرك التزويجات غير المألوفة بين اللزوم والجدلية؛
15
لذلك كان مصطلح الجدل (الديالكتيك) الذي يعبر عن عدم اتصال المعرفة والانتقال من القضية إلى سلبها، شديد الشيوع في أعمال باشلار، ويحتل عناوين فرعية جمة. وفي عام 1951 أخرج كتابه «جدلية الزمان
La Dialectique De La Duree » «له ترجمة عربية».
على أساس الصراع مع الخطأ، السلب والجدلية، والاتصال. يتضح لنا عمومية التصور الثوري. ويغدو التقدم العلمي مرهونا بحدوسات جريئة تمثل بدورها قفزات ثورية، تعقبها أفكار تصحح أفكارا، فروح العلم هي تصحيح المعرفة، وتوسيع نطاقها، أو ما أسميناه منطق التصحيح الذاتي. وهذا الأفق من الأفكار المصححة هو ما يميز الفكر العلمي،
16
وكل هذا يعني أن الفكر العلمي فكر قلق، فكر يترقب الشيء، يبحث عن فرص جدلية ليخرج من ذاته، وليكسر أطره الخاصة، إنه الفكر الذي يسير على درب الموضوعية، ومثل هذا الفكر لهو الفكر المبدع.
17
هكذا يؤكد باشلار عمومية الثورة، فيقول: «تتضمن أزمات النمو الفكري إعادة نظر كلية في منظومة المعرفة.»
18
وأيضا على عمقها فيقول: «إن الإنسان يصبح بواسطة الثورات الروحية التي يستلزمها الإبداع العلمي جنسا مغايرا.»
19
فهي تؤثر تأثيرا عميقا في بنية العقل المتجددة دوما «وحتى الثورات المتصلة بمفهوم واحد تواكب في الزمان ثورات عامة ذات تأثير عميق في تاريخ الفكر العلمي»،
20
وكل شيء يمضي جنبا إلى جنب، المفاهيم وإنشاء المفاهيم «فليس الأمر مجرد كلمات يتبدل معناها، بينما يظل الترابط ثابتا، كما أنه ليس أمر ترابط متحرك حر قد يفوز دائما بالكلمات ذاتها التي يترتب عليه أن ينظمها.»
إن العلاقات النظرية بين المفاهيم تبدل تعريفها كما يبدل تغير المفاهيم علاقاتها المتبادلة. وليس يهتم باشلار كثيرا بالصياغات المنطقية، بل بالأحرى بما أسماه «نفسانية المعرفة»؛ لأنه فيلسوف أولا وأخيرا وليس منطقيا، ولكن يمكننا أن نعبر عن هذا تعبيرا منطقيا، فنقول: إن الفكر لا بد حتما أن تتبدل صورته؛ إذ ما تبدل مضمونه.
فينفي باشلار أي سكونية تراكمية عن نمو المعرفة العلمية. فالمعرفة التي تبدو ثابتة تجعلنا نؤمن باستمرارية الأشكال العقلية وثباتها، واستحالة قيام أي طريقة جديدة للفكر. في حين أن قوام البنية العلمية ليس بالتراكم، وليس لكتلة المعارف العلمية تلك الأهمية الوظيفية المفترضة. فإذا قبلنا حقا أن الفكر العلمي في جوهره يعني إنشاء الموضوعية، وجب استخلاص أن مستنداته الحقيقية هي التصحيحات وتوسيعات الشمولية. وعلى هذا النحو تتم كتابة التاريخ الحركي للفكر. فالمفهوم يحظى بمعنى أكبر في تلك اللحظة بالذات، التي يغير فيها معناه، وإذ ذاك تصبح حدثا من أحداث إنشاء المفاهيم.
21
ويمكننا أخيرا - وعلى ضوء ما سبق - التوقف عند فكرة جوهرية أبدعها باشلار في إطار فلسفته الجدلية الرافضة للاتصال، لتلعب فيها دورا محوريا، بحيث تناظر تكذيب النظرية المقبولة عند كارل بوبر، وتحطيم النموذج القياسي عند كون، وتكون من أقوى تجسيدات النظرية الثورية، وأعتى رفض للنظرية التراكمية، ألا وهي «فكرة القطيعة المعرفية
La Ruptare Epistemologique » التي تكاد تكون تلخيصا لما سبق من خطوط فلسفة باشلار، ولكنها خرجت من أعطاف فلسفته، بل ومن حدود فلسفة العلم بأسرها، وشاعت وذاعت وترددت في سائر جنبات الفكر المعاصر، حتى كادت تصبح من معالمه، لا سيما أنها أبدت خصوبة وفاعلية في تفسير التحولات الحضارية.
والقطيعة المعرفية تعني أن التقدم العلمي مبني على أساس قطع الصلة بالماضي، فهو شق طريق جديد لم يتراء للقدامى، ولم يرد لهم بحال، بحكم حدودهم المعرفية الأسبق، ومن ثم الأضيق والأكثر قصورا. والمثال الأثير لباشلار «المصباح الكهربي»
22
فهو ليس استمرارا لأساليب الإضاءة الماضية التي تقوم على الاشتعال والاحتراق، بل قطيعة لكل هذه الأساليب لحد الشروع في مرحلة تعتمد الإضاءة فيها على الحيلولة دون أي اشتعال أو احتراق، فهي خلق وإبداع جديد تماما.
القطيعة المعرفية هي التجاوز النشط المسئول للماضي، فالمبدع الخلاق للحاضر، فلا تعود اللحظة تكرارا كميا للتاريخ، بل هي عمل دءوب، هي إنجاز - إنجاز للحداثة. وعن طريقها يؤكد الإبداع العلمي حدس اللحظة التي تمثل حقيقة الزمان، من حيث هي الكائنة، وبين غير الكائنين: الماضي والمستقبل. وتغدو الشجاعة الذهنية في المحافظة على لحظة المعرفة نشيطة حية «وأن نجعل منها منبعا لحدسنا، متدفقا دوما، وأن نرسم انطلاقا من التاريخ الذاتي لأخطائنا النموذج الموضوعي لحياة تكون أفضل وأوضح».
23
ولا يفوتنا في هذا الصدد الإشارة إلى نظرية توماس كون
Thomas Kuhn
فهو من أهم من عنوا بتفسير التقدم العلمي، وطرح في كتابه الشهير «بنية الثورات العلمية» نظرية «تتضمن عناصر من كل من النظريتين الثورية والجدلية»،
24
ولكن ليس على طريقة باشلار؛ حيث تسخر الجدلية فقط لخدمة الثورية، بل ولإذكائها. أما نظرية كون فهي - إن صح التعبير - ثورية، لكن متهاودة إلى حد ما. إذ تقوم على التمييز في تقدم العلم بين العلم العادي
Normal Science
وبين المراحل الثورية في هذا التقدم.
25
تقدم العلم العادي يحدث داخل إطار النموذج القياسي للعلم
Scientific Paradigm
الذي يقبله المجتمع العلمي بوصفه بناء علمنا اليوم، فهو الإنجازات العلمية المقبولة بصفة عامة، والتي تزود جمهرة المشتغلين بالعلم بأنماط المشاكل وحلولها، تقدم العلم العادي يسير داخل إطار هذا النموذج. فالعلم العادي لا يبدأ عمله بالبحث في النظرية الأساسية للنسق العلمي، أو محاولة الثورة عليها، كما أنه لا يهتم باختبارها، وظهور مثال معارض لا يعامل مباشرة كتفنيد للنسق - كما يوضح جون ويزدم الفيلسوف التحليلي الكبير - فربما عالجناه بفرض مساعد
Auxiliary Hypothesis .
26
إذن فنمو العلم العادي يسير من خلال التنقيح المعرفي المستمر لمحتوى نظريات أقل عمومية، أو حسابات دقيقة وتنبؤات، وأيضا من خلال عملية تنقيح الإضافات التي تلحق بالنسق، وتنقيح تطبيقاته. وعملية التنقيح هذه تأخذ طابع حل المتاهات
Solving Puzzle . وخلال حلها تثار مشاكل جديدة في حاجة للحل. بعبارة أخرى: العلم العادي هو حل المتاهات، من خلال تلقيح وتنقيح النظريات الموجودة بالفعل.
27
وكل هذا داخل إطار النموذج القياسي للبناء العلمي. وقد استعمل كون مفهوم المستويات المختلفة للعمومية، وميز على وجه الخصوص بين النماذج القياسية الميتافيزيقية وهي النظرة العامة
Outlook
والنماذج القياسية السوسيولوجية - كمجموعة العادات العلمية - وبين النموذج القياسي المصطنع أو المشيد لحل المشاكل العلمية، المهم أن العلم العادي ينمو داخل إطار النموذج القياسي، بيد أن الفرض المتطور فيه يتحول من «ل» إلى «لا - ل»: «ل ← ل». أما في مرحلة العلم الثوري، فإن الإطار نفسه يتحطم، ويحل محله نموذج قياسي ذو أطر مختلفة. فيتحول الفرض من «ل ← د»
28
إذن ما يميز العلم الثوري عن العلم العادي، هو أن الأخير يتحرك داخل النموذج القياسي. بينما الأول يحطمه، ويحل محله نموذج آخر، يمثل العلائم البارزة في تاريخ العلم.
هكذا نلاحظ أن توماس كون يتمسك بنظرية ثورية معدلة، أو مخففة إلى حد ما، مقارنة بالنظرية الثورية الجذرية المعتمدة في هذا البحث، والتي رأيناها - مثلا - مع جاستون باشلار، وسوف نراها أعمق مع كارل بوبر، وثلاثتهم - بوبر وباشلار وكون - أساطين فلسفة العلم، لا سيما في النصف الثاني من القرن العشرين، وعلى وجه التعيين الربع الثالث منه، وفلسفة العلم - لأنها الوجه الآخر لمنطقه - لا تسمح كثيرا بالتناقضات الحادة في وجهات النظر، التي تترعرع في فروع الفلسفة الأخرى. والحق أنه لا تناقض حادا أو لا تناقض البتة بين الرأي الثوري الجذري، الفلسفي مع باشلار والمنطقي مع بوبر، أو مع سواهما، وبين الرأي الثوري المعدل مع كون.
كل ما في الأمر كما لاحظ بريان ماجي
Bryan Magee
أن كون يدخل في اعتباره سوسيولوجية العلم وسيكولوجية العالم، وعوامل أخرى يمكن أن نسميها العوامل الخارجية، أما باشلار وبوبر فينصب اهتمامهما على العوامل الداخلية للعلم وبنيته ، وبوبر بالذات يقتصر تفكيره على منطق العلم؛ لذلك كانت ثوريته جذرية، ويؤكد أن حالات التقدم الحقيقي «لا نجد فيها شيئا مشتركا، أو خط استمرارية بين النماذج القياسية المختلفة».
29
وبعبارة أخرى، لا يوجد علم عادي وعلم ثوري، كل علم طبيعي هو علم ثوري من حيث هو مطرد التقدم، فقط بدرجات متفاوتة لهذه الثورية.
ولما كان بحثنا هذا مختصا بمنطق العلم - صميم بنيته الداخلية - بات واضحا لماذا نعتمد النظرية الثورية في طبيعة التقدم العلمي.
وعلى أي حال فإن التقدم المطرد للعلوم الطبيعية هو - كما أوضحنا - متصل صاعد، ولكن بحيث يمثل متوالية منطقية. فلا يعني البتة مجرد تراكم كمي رأسي، في مقابل التراكم الكمي الأفقي لبقية مناحي الإبداع الإنساني - كالفنون والآداب والفلسفات والأنظمة ... إلخ - بل يعني تضاعف القوة المنطقية لنظريات النسق العلمي، خصوصا في تصديها للمهمة التفسيرية التي هي تحد لا نهاية له، تمثل وقائع التجريب محكمه النهائي، وفيصل الحكم على مصير الفروض والنظريات العلمية.
من هنا كان العلم الطبيعي في كل حال علما تجريبيا، حتى الفيزياء البحتة دونا عن الفيزياء التجريبية أو المعملية - التي هي نسق فرضي استنباطي - فتبدو من الناحية الصورية أقرب إلى الرياضيات، أو لعلها من ناحية المناهج الإجرائية هكذا فعلا، فإنها - أي الفيزياء البحتة - ومهما روعي فيها الاتساق الرياضي والقوة الاستنباطية للفروض، لا مندوحة لها عن المواجهة مع الواقع، فتلتجئ في النهايات البعيدة إلى وقائع التجريب بشأن الاستنباطات الجزئية العينية القصية - بصفة خاصة التنبؤات - المشتقة من فروضها الأولية، لنحكم على هذا وذاك بواسطة التجريب. إن كل علم هو تجريبي من حيث هو إخباري؛ أي يخبرنا عن الواقع وظواهره.
والهدف من أي علم تجريبي إخباري هو الإجابة عن السؤال: كيف ولماذا تحدث الظاهرة موضوعه؟
المرحلة الأولى من العلم - منطقيا وليس تاريخيا
30 - هي المرحلة الوصفية التي تجيب عن السؤال: كيف تحدث الظاهرة؟ كيف تتبدئ؟ ولكن هذا لا يكفي. فتمهيد الطريق لإحكام السيطرة على الظاهرة فيما يعرف بالتقانة التي ارتهنت بنسق العلم التجريبي الحديث - دونا عن سواه من أنساق جمة أنشأها العقل البشري .
هذا يستلزم الانتقال من المرحلة الوصفية، وبناء عليها إلى المرحلة التالية عليها. وهي المرحلة التفسيرية التي تجيب عن السؤال: لماذا تحدث الظاهرة؟ أما التنبؤ، وهو الغاية النهائية المرومة من العلوم الطبيعية، فليس يفترق عن التفسير، بل هو - أولا - معلم نجاح التفسير، خصوصا الفيزيائي. وهو - ثانيا - يتخذ نفس البناء المنطقي الصوري للتفسير؛ أي الاستنباط. كلاهما يشتمل على: (أ)
شروط مسبقة أو مبدئية. (ب)
تقريرات عامة أو قوانين. (ج)
نتائج مستنبطة من (أ) و(ب).
31
لذلك يذهب بعض فلاسفة العلم أمثال همبل وأوينهايم إلى المطابقة بينهما. وإن كان البعض الآخر يرى التمييز بينهما، على أساس أنه قد يوجد تفسير بغير قدرة تنبؤية. وإن كان بالطبع يستحيل وجود تنبؤ علمي بغير تفسير. إن التفسير هو الإحاطة الحقيقية بالظاهرة، وإذا كان الوصف معيار وجود العلم، أو عدم وجوده معيار إمكانيته، فإن التفسير هو معيار التقدم العلمي؛ إذ يمكن أن تقاس درجة تقدم العلم بمدى توغله في المرحلة التفسيرية، ومدى نجاحه فيها، أو درجة دقة هذا النجاح.
وتبلغ المرحلة التفسيرية اكتمالها المنطقي في النظرية العامة أو البحتة التي تعني الدامغ المعتمد للنسقية العلمية، فهي في حد ذاتها تتخذ صورة النسق الفرضي الاستنباطي، القادر على احتواء ظواهر موضوعه بشتى متغيراتها. •••
وقد سار العلم الطبيعي الحديث بخطى حثيثة نحو هذه النسقية، ففور أن وضع كوبرنيقوس فرضية مركزية الشمس، أنجز يوهان كبلر
J. Kepler (1571-1630) البولندي أساسيات المرحلة الأولى، أو إطارها النسقي.
وذلك حين وضع قوانين حركة الأجرام السماوية في مداراتها الأهليلجية - وليست الدائرية - حول الشمس. ثم أنجز جاليلو الإيطالي أساسيات المرحلة الثانية حين وضع قوانين حركة الأجسام على سطح الأرض، وفي عام 1687 جاء فرض الجاذبية لنيوتن الإنجليزي المأخوذ عن سلفه روبرت هوك الأقل حظا وقدرات رياضية
32
ليجمع الحركتين السماوية والأرضية معا، فيضع لأول مرة في تاريخ البشرية نظرية واحدة تحكم كل وأي حركة تدركها الحواس في هذا الكون، حتى أيقن الجميع أن نيوتن قد اكتشف حقيقة هذا الكون، وهي أنه قد قد على قد آلة ميكانيكية ضخمة، ولم يبق إلا رتوش تفصيلية لتكتمل الصورة النهائية لنسق العلم التام!
على أي حال، كانت نظرية نيوتن في الجاذبية بقوانينها الثلاثة للحركة هي النظرية الفيزيائية العامة أو البحتة؛ أي التي تضع الأسس والأطر المنطقية لنسق العلم الفيزيائي، الذي يضع بدوره - نظرا لعمومية الفيزياء، وشموليتها، وتربعها على قمة نسق العلوم الإخبارية - الأسس والأطر المنطقية لنسق العلم ككل.
33
وبفضل هذه الأسس التي أحكم نيوتن صياغتها كانت نشأة ونمو سائر أفرع العلم الحديث، الطبيعية والإنسانية.
ومع نجاح النيوتنية الذي كان يتأكد يوما بعد يوم، ساد الظن أنها أشمل - أو بالتعبير المنطقي الدقيق أعم - نظرية ممكنة، أحاطت بالحقيقة القصوى للكون الذي نوجد فيه. واستمرت تمضي قدما في طريقها المظفر حتى نهايات القرن التاسع عشر وبواكير القرن العشرين؛ حيث وصلت إلى طريقها المسدود بتطرق العلم إلى الظواهر الميكروسكوبية التي لا تدركها الحواس المجردة: الحركة الغازية، الحركة البراونية، أو الحركة الدائمة لجزيئات السائل نسبة إلى روبرت براون مكتشفها، وظواهر الديناميكا الحرارية. فهي ظواهر تخل بقوانين نيوتن.
على أن الغرور العلمي الأهوج الذي ساد جراء نجاح النيوتنية قد تلقى الضربة القاضية من الذرة والإشعاع. قد عجزت النيوتنية عن الإحاطة، أو حتى التعامل مع عالم الذرة، وما دون الذرة من جسيمات دقيقة، وأصبح من الضروري البحث عن طريق جديد أبعد أكثر تقدما من كل ما أحرزته الفيزياء الكلاسيكية. لا سيما بعد أن سقط فرض «الأثير» جراء تجربة ميكلسون مورلي. وكان الأثير الكاذب ضروريا لكي تستوعب الفيزياء الكلاسيكية ظواهر الضوء والإشعاع المتأبية على التفسير الميكانيكي السطحي. لقد أدركنا أن نظرية نيوتن بكل ما أحرزته من نجاح طبق الخافقين، محض فرض تفسيري ناجح في حدوده، حدود التعامل مع العالم الأكبر، كتل الطبيعة الماردة البادية للحواس، ولا تجرؤ على اقتحام الفيزيقي الرابض خلفها، وفي أعماقها.
فشهدت مطالع القرن العشرين ثورتي: النظرية الكمومية
34
التي طرحها ماكس بلانك في 17 ديسمبر 1900، والنظرية النسبية، لا سيما الخاصة التي أعلنها ألبرت أينشتين عام 1905.
إن ثورة النسبية والكمومية لهي قطعا أعظم ثورة على وجه الإطلاق أحرزها العقل البشري حتى الآن ، وأجرأ وأوسع قفزة تقدمية أنجزها الإنسان. لقد أقامتا نسق العلم الإخباري على مصادرات مختلفة، وقلبتا - رأسا على عقب - مسلمات الفيزياء الكلاسيكية: كالحتمية الميكانيكية والعلية واطراد الطبيعة وثبوت ويقين قوانينها، والضرورة لكليهما، والموضوعية المطلقة ... إلخ، وسوف يتعرض الفصل السادس من البحث (الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة) لهذا بشيء من التفصيل. يهمنا الآن تأكيد أن هذه المبادئ لم يكن أحد يجرؤ على مجرد رفضها، فضلا عن قلبها، بحيث أصبح لدينا الآن حد فاصل بين الإبستمولوجيا العلمية الكلاسيكية قبلهما، وبين الإبستمولوجيا الحديثة، أو بالأدق المعاصرة بعدهما.
35
وكل بحث مستقبلي استشرافي في منطق العلم عقيم غير مجد إن لم تستنفد طاقته في استيعاب الدلالة الإبستمولوجية لثورتي الكمومية والنسبية. وحتى الآن لم تستجل بعد كل مضامينها المنطقية، وإمكاناتها التقدمية للعقل العلمي. ويكفينا ها هنا أن هذه الثورة هي التي ساعدت على جلو الخاصة المنطقية للعلوم الطبيعية وتساوقها المنهجي.
وقد تأكدت الإبستمولوجية العلمية الجديدة، واتضحت معالمها حين تقدمت عام 1927 نظرية الكمومية الجديدة، لتجتاح الكمومية العالم الذري، وتصبح الفيزياء الذرية هي الفيزياء الكمومية؛ حيث ثبت أن كشف بلانك الألمعي المدهش هو أعظم نصر أحرزته الفيزياء الذرية والأكثر جدة وأصالة. وكما يقول لويس دي بروي، أبو الميكانيكا الموجية التي تعد من أجرأ الخطوات التقدمية التي أحرزت في ظل الكمومية (الكوانتم) يقول: إن فرضية الكوانتم «لم تكن محض مثير أو دافع للفيزياء الذرية التي هي أكثر فروع العلم حيوية وطموحا، ولكنها أيضا وبلا جدال قد وسعت الآفاق، وطرحت عددا من أساليب التفكير الجديدة، وستظل نتائجها العميقة في المستقبل البعيد للفكر البشري.
36
لقد أدرك الفيزيائيون - والحديث ما زال لدى بروي - أنهم بغيرها كانوا سيظلون عاجزين عن فهم استيعاب أي شيء بخصوص الطبيعة الحقة للظواهر الفيزيائية لا ظواهر الضوء، ولا ظواهر المادة».
37
على أن الكوانتم الكمومية تقتصر على العالم الأصغر، عالم الإشعاع والذرة. وتأتي النسبية - النظرية الفيزيائية البحتة - لتحيط بمجمل الكون الفيزيائي - العالم الأكبر - «ولتعبر عن الواقع الفيزيائي الذي نعيش فيه بشكل تعجز الفيزياء الكلاسيكية عن التعبير عنه».
38
لقد حطمت النسبية أطر آلة نيوتن الميكانيكية العظمى، وشيدت لنا عالمها الرباعي الأبعاد بمتصله الزماني، المكاني. إنه عالم، أو بالأحرى تصور لعالم محدب، يختلف بل يتناقض مع عالمنا المستوي الواحد والوحيد، المعهود في تجربة الحس المشترك، والذي ثبتته في أذهاننا خبرتنا العادية السطحية، وحواسنا الفجة الغليظة. وجاءت نظرية نيوتن لتصدق عليه، وعلى حدودها فتكسب بهذا يقينا فوق يقين.
ولكن لقصور تلك الحدود، تفجرت ثورة النسبية، لتعلمنا أنه ليس ثمة تساؤل حول التصور الوحيد المطلق للمكان «أو للزمان»، فثمة إطار مكاني «زماني» مناسب لملاحظي الأرض، وآخر لملاحظي الأفلاك السماوية، وآخر لملاحظي السدم ... وبالمثل الطول والعرض وكل الأبعاد. لقد أحدثت النسبية تغييرا جذريا في أفكارنا حول الزمان والمكان والجاذبية ... إلخ، وثورة في الكوزمولوجيا الكلاسيكية بطريقة لا يمكن لأي فلسفة ملائمة أن تتجاهلها، وأثرت تأثيرا عميقا على مبادئ إبستمولوجية راسخة، ولن يفيدنا في شيء إنكار هذه الحقيقة، وادعاء أن تلك النظرية الفيزيائية غيرت فقط مفاهيم الفيزياء، بينما ظلت الحقائق الفلسفية مصونة لا تمس. فإنها وإن كانت محض علاقات فيزيائية، فقد قضت بصورة حادة على المبادئ الفلسفية التي يمثلها كانط.
39
وهي المبادئ الإبستمولوجية السطحية، لكن الراسخة في خبرة الحس المشترك، والتي كستها النيوتنية برداء الفيزياء الرياضية المهيب.
ثم أتت النسبية بصورتها الإبستمولوجية الأنطولوجية المناقضة تماما، ولتحرز درجة من الدقة لا تدانيها النيوتنية بحال. فتستطيع تفسير ظواهر، بل وظواهر فلكية عجزت الفيزياء الكلاسيكية عن تفسيرها «مثلا الحضيض الشمسي لكوكب عطارد؛ أي أبعد نقطة في مداره عن الشمس. وهي تتغير تغيرا طفيفا من دورة لأخرى»، والأهم من هذا - من منظور المنطق - أن النسبية تنطبق بنفس القوانين على العالمين الأصغر والأكبر، فأعطتنا صورة للعمومية الحقة. في عالم النسبية تدخل الذات العارفة - بمعنى مواقعها وسرعاتها بأجهزتها للرصد - كمتغير في معادلة الطبيعة، ولتحرز بهذا درجة أعلى من الموضوعية، أو بالأحرى درجة مباينة تماما، قامت على أنقاض موضوعية نيوتن المطلقة، لكن الموهومة. إن النسبية مرحلة أعلى من التقدم العلمي والعقلي.
وأهم ما يعنينا منها الآن أنها جعلتنا ندرك خطل غرور الكلاسيكيين الذي يوصد أبواب التقدم ، خطل الحكم على أي محاولة ناجحة ينجزها العقل البشري بأنها اليقين المطلق، الإمساك بجمع اليدين على الحقيقة، والوصول إلى خاتمة التقدم المنشود، وأن الأوان أوشك أن يئون للهجوم والبرء من سعينا المحموم الدائم نحو درجة من التقدم العلمي الأبعد ... إن هذا التصور الإبستمولوجي لحدود التقدم ارتد فعليا في صورة الطريق المسدود الذي وصلت إليه الفيزياء الكلاسيكية، حين تطرقت لظواهر العالم الأصغر (الميكروكوزم).
فليس الأمر أننا اكتشفنا حدود نيوتن، وأن أينشتين هو الذي أمسك بالحقيقة. كلا، بل الأمر أن نيوتن محاولة ناجحة، وأينشتين محاولة أنجح. والمستقبل مفتوح بدوره لمحاولة أفضل من أينشتين، فقد أدركنا أن الآفاق المفتوحة أمام العقل العلمي لا حدود لها.
ولنعد إلى رفيقة النسبية، ميكانيكا الكوانتم التي أزاحت وهم اليقين الكلاسيكي، وأحلت المصادفة والاحتمال في بنية الطبيعة. لنجد أن العلم الاحتمالي بقوانينه الإحصائية لن يصل هو الآخر إلى مثل ذلك الطريق المسدود. فكما يقول موريس كوهين: «النظرة الاحتمالية تصوب وتثري مفهومنا عن الأسس الميتافيزيقية التي يرسو عليها البحث العلمي، إنها تجعلنا أقل غرورا، وتفضي بنا إلى ضرورة تأييد استدلالاتنا باعتبارات عديدة مختلفة، بدلا من الارتكان إلى سلسلة علية واحدة، وتجذب انتباهنا إلى حقيقة عظمى مؤداها أن نتائج العلم تصوب نفسها باستمرار. فيقين العلم ليس اليقين المطلق في أي نتيجة معينة، بل اليقين في أن كل خطوة غير دقيقة أو خاطئة يمكن تصويبها.»
40
إن الدرس العميق الذي تعلمناه من ثورتي الكمومية
Quantum
والنسبية
Relativity
أن كل تقدم علمي فقط نسبي، والنسبوية
Relativism
تعني الحدود المؤقتة للقوى المعرفية للبحوث الإنسانية المنصبة على هذا العالم الفيزيقي الذي نحيا فيه.
41
هذه النسبوية
Relativism
تجعل كل تقدم علمي يحرزه الإنسان، ومهما ثبت نجاحه هو فقط أعلى نسبيا من المرحلة السابقة ... معنى هذا أن المرحلة التالية تحمل معها إمكانية التقدم بدرجة أعلى، هكذا دواليك إلى قيام الساعة، أو على الأقل إلى حين انتهاء الحضارة الإنسانية الراشدة التي أصبحت علمية. وهذا الدرس الإبستمولوجي المنطقي الميثولوجي العظيم يتأكد فعليا بالإنجازات العظمى المتواترة للعلم المعاصر، المتدفقة حتى هذه اللحظة وما سيتلوها .
على الإجمال: أصبحت الكمومية (الكوانتم) والنسبية معا الأساس العام، أو البحث للفيزياء المعاصرة، ومن ثم لنسق العلم الطبيعي في القرن العشرين، فكانتا - بإبستمولوجيتهما العلمية الجديدة أو المعاصرة، وسنفصلها في الفصل السادس من الكتاب - إيذانا بمعدلات التقدم المبهرة التي استهللنا هذا الفصل من الكتاب بالتنويه إليها. ونختمه أيضا بهذا التنويه ... مسك الختام.
هوامش
الفصل الثاني
العلوم الإنسانية منطق تخلفها النسبي
نأتي للعلوم الإنسانية، لنلقاها هي الأخرى - بلا جدال - تحمل في حد ذاتها ما يضاف إلى الرصيد العلمي للقرن العشرين، لكن (وهذه ال «لكن» هي محور دراستنا) لم يتكون بعد نسق متكامل من القوانين التفسيرية في أي مجال من مجالات العلوم الإنسانية، يماثل من حيث القوة المنطقية أنساق القوانين التفسيرية في أقل فروع العلوم الطبيعية حظوة من التقدم.
وهذا التخلف النسبي هو أساس ما يعرف بمشكلة العلوم الإنسانية، إنها إشكالية ملحة، تؤرق باحثيها والمهتمين بشأنها أجمعين. ويندر أن يتعرض عمل لفلسفة العلوم الإنسانية ومناهجها، ولا يشير إلى تخلفها النسبي عن العلوم الطبيعية، حتى قيل إن وجود علوم طبيعية على أساس منطقي مقنن ومنهجي راسخ، مثل بالنسبة لباحثي العلوم الإنسانية «التحدي الذي ينبغي عليهم مواجهته للوصول بعلومهم إلى مستوى يقارب مستوى العلوم الطبيعية».
1
في هذا الصدد لا بأس من ذكر فيلهلهم دلتاي
W. Dilthey (1838-1911) على الرغم من الخلاف الحاد بين طريقنا وطريقه؛ ذلك لأنه في طليعة الرواد الذين استشعروا بعمق وأصالة مشكلة العلوم الإنسانية حديثة النضج والنماء، وعجزها النسبي عن تحقيق التقدم الذي أحرزته العلوم الطبيعية، كان أن حصره دلتاي في مشكلتين: «الأولى أن العلوم الإنسانية ما زال يعوزها تصور واضح، ومتفق عليه عن أهدافها ومناهجها المشتركة والعلاقات بينها، إذا ما قورنت بما هو سائد في العلوم الطبيعية. والمشكلة الثانية هي أن العلوم الطبيعية تزداد منزلتها ومكانتها نموا واطرادا بحيث ترسخ في الرأي العام مثلا أعلى للمعرفة لا يتلاءم مع التقدم في العلوم الإنسانية».
2
ورفض دلتاي موقف كل المثاليين والتجريبيين، أو باصطلاح كارل بوبر المعارضين للمذهب الطبيعي والمؤيدين له. وتعهد دلتاي بتأسيس العلوم الإنسانية على نحو أكثر نسقية ومنهجية، وبوصفها شديدة التباين - منهاجا وتطبيقا - عن العلوم الطبيعية، هذا من حيث كونها نسبية متغيرة وفقا للأنماط والإيقاعات التاريخية للسياقات الاجتماعية، أو الثقافية حسب اصطلاحه المفضل. فكان لدلتاي تأثير كبير على الدراسات التاريخية، بحيث أصبح المؤرخون في حل عن تحقيق السمة العلمية الدقيقة في أبحاثهم.
3
وكان له أيضا أثر أقل في الدراسات الإنسانية أو الاجتماعية. وهو رائد مهد الطريق الذي اختطته فيما بعد الفينومينولوجيا، وسوف نعرج عليها في مقبل حديثنا.
لقد تنامى من بعد دلتاي الوعي بهذا التخلف النسبي للعلوم الإنسانية، وكثر الحديث فيه ربما لدرجة مملة، حتى أصبح أمرا مألوفا، ما يدفعنا لمحاولة جادة لاستشراف إمكانيات حل مشكلة العلوم الإنسانية، مقارنة بتقدم العلوم الطبيعية، أو على ضوئه.
والحق أن ذلك الأمر المألوف، مألوف بقدر ما هو عجيب، فمسائل العلوم الإنسانية كانت منذ الأزمنة البعيدة موضع الاهتمام الأكبر، وتستقطب أعاظم العقول، فكان تناولها أكثر نضجا من تناول مسائل العلوم الطبيعية.
4
وأي مقارنة بسيطة بين دساتير أرسطو وبين فيزيائه، أو بين تناول أفلاطون وفلاسفة الإسلام لمشاكل الأخلاق والمجتمع والسياسة «أو الإمامة» وبين تناولهم لمشاكل الطبيعة والمعادن، تثبت هذا، ودع عنك المحاولة الناضجة الباسقة التي قام بها عبد الرحمن بن خلدون (+ 808ه = 1406م) لتأسيس العلم الإنساني، علم العمران، أو علم الاجتماع بمصطلحات عصرنا، وبصورة تدهش أكثر العلميين تقدما حتى الآن. وإن كانت محاولة لم تؤت في عصرها ثمارها الممكنة أو المرجوة؛ لأنها تأتت وشمس الحضارة العربية توشك على الأفول، فلم تلق خلفا صالحا يحمل ميراثها العظيم، والذي يبدو حتى يومنا هذا قابلا للاستثمار المربح كمحاولة سان سيمون، أو حتى أوجست كونت، وسواهما من الغربيين الذين قدر لمحاولاتهم التواصل والسيرورة والنماء. وفي مقابل هذا نجد ما قاله ابن خلدون فيما يختص بمسائل الطبيعة لا يساوي شروة نقير، ولا يستحق إضاعة أي وقت أو جهد، وابن خلدون هو السلف الحقيقي لفيكو (+ 1744)، ومشروعه العظيم لتأسيس العلم الجديد - علم الإنسان وتاريخه.
فابن خلدون وفيكو يترأسان معا المحاولات الطموحة في مجال الدراسات الإنسانية ، والتي تألقت طوال العصور الماضية، وإذا كانت لم تستطع أن تكون علما ذا قوة منطقية حقيقية، وصفية أو تفسيرية، فإنها كانت - على أي حال - أنضج كثيرا من الطبيعيات. وفي ذلك التفاوت الحاد بين مستوى التفكير في الإنسانيات ومستواه في الطبيعيات، طوال العصور القديمة، يقول جون بيرنت: «في الأيام الباكرة كان اطراد الحياة الإنسانية موضوعا للإدراك الجلي أكثر من سياق الطبيعة. وقد عاش الإنسان في دائرة خلابة من القانون والعرف، أما العالم من حوله فعلى ما يبدو ظل مفتقرا للقانون.»
5
ولنلاحظ أن القانون أساسا يخص مجتمع الإنسان، وفرض النظام عليه، وتحقق العدل والقسطاس فيه. وفور أن لوحظ أي اطراد في الطبيعة وصيغ، على الفور انسحب هذا المفهوم الإنساني الخالص «القانون
Law »، ليخلع على الطبيعة.
ولكن الفروق النوعية للظاهرة الإنسانية، وما قد تختص به من إسقاطات ذاتية حميمة أو عاطفية ومثاليات غائية ... إلخ، هي ربما التي جعلتها موضع الاهتمام الأكبر منذ الأزمنة البعيدة، وجعلتها من الناحية الأخرى تبدو مستعصية على أصوليات النسق العلمي النامي حديثا، فتنأى عنه، وتتخلف عنه مسيرته، وتنكشف قصورات المحاولات السابقة الجمة عن شروط ما هو علمي، «وحتى بدايات القرن التاسع عشر لم يكن أحد يفكر تفكيرا جديا في فكرة العلوم الإنسانية والأخلاقية.»
6
بالمعنى الدقيق لمصطلح العلم المتفق عليه في بحثنا هذا، على الرغم من أن الرائد الرسمي للتفكير العلمي الحديث: فرانسيس بيكون
F. Bacon (1626 +) قد دعا أو بشر بهذا في «الأرجانون الجديد».
7
أو شريعة العلم الحديث، البديل لأورجانون أرسطو، ومنطقه القياسي البالي، شريعة العلم القديم والعقيم. ومع التطور المذهل للتفكير العلمي الذي تأتى في سياق المشروع الكلاسيكي النيوتني، وتهاوى الأوثان الواحد بعد الآخر أمام مده، واجتياحه العاتي، شهد منتصف القرن التاسع عشر الميلادي الرسمي لكثير من فروع العلوم الإنسانية. على نفس أسس الإبستمولوجيا العلمية آنذاك، بمستوى طموحاتها، وطبيعة مسلماتها، وتأثير استجاباتها للحدود، والظروف المعرفية ... هذه الأسس الإبستمولوجية يلخصها ويبلورها مبدأ الحتمية
Determinism
الميكانيكية، وهي تعني نظاما شاملا لا تخلف فيه، ولا مصادفة، ولا استثناء ولا احتمال، كل حدث لا بد أن الضرورة ويستحيل ألا يحدث ، أو أن يحدث سواه، فثمة قوانين ميكانيكية يقينية دقيقة دقة رياضية، تحكم هذا الكون، وتجعل أحداثه في صورة أشبه بالسلسلة المحكمة الحلقات، كل حلقة تلزم عن سابقتها، وتفضي إلى لاحقتها، حتى إذا توصلنا إلى تلك القوانين، وعرفنا تفاصيل حالة الكون في لحظة لاحقة معينة، لاستطعنا أن نتنبأ يقينا بتفاصيل حالته في أي لحظة، فهذه الحتمية لها وجه آخر هو العلية
Causality
التي تضفي على الطبيعة انتظامها الحتمي، والعلية بدورها مبدأ كوني يعني أن كل حادثة في الكون لها علة أحدثتها، ولكل علة معلول ينشأ عنها، فتسير أحداث هذا الكون في تسلسل علي، ليغدو التفسير العلمي هو ربط الحادث اللاحق بالحادث السابق من خلال قانون.
8
وقد كانت الحتمية الميكانيكية بعليتها هي عقيدة العلم الكلاسيكي، ديدن العلماء وعملهم إبستمولوجيا، وإطار عالم العلم أنطولوجيا، لا سيما بعد أن وضع نيوتن تفسيره الميكانيكي للكون الذي بدا وكأنه الإحراز النهائي لمشروع التصور الحتمي. وتأكد ذلك المشروع بالنجاح الخفاق لنظرية نيوتن، حتى إنها مثلت النبراس والهادي الحادي. ولم يعد أمام الدراسات الإنسانية إلا اقتفاء مثالياته الآمنة المطمئنة، ويجمل الفيلسوف المعاصر أشعيا برلين - وهو من المعنيين بشتى إشكاليات الدراسات الإنسانية - يجمل الموقف بدوافعه ومبرراته وطموحاته كالآتي: «والآن إذا كان نيوتن قادرا من حيث المبدأ على تفسير كل حركة وكل مكون من مكونات الطبيعة الفيزيقية، وفي حدود عدد صغير من القوانين ذات العمومية المطلقة، أفلن يناقض العقل الافتراض القائل: إن استخدام مناهج مماثلة لن يفسر الأحداث والوقائع الاجتماعية والسيكولوجية؟ صحيح أننا نعرف عنها أقل كثيرا مما نعرفه عن الوقائع الفيزيوكيميائية، ولكن هل ثمة اعتراض من حيث المبدأ على أننا يمكن أن نكتشف يوما ما قوانين قادرة على أن تعطينا تنبؤات في نفس دقة تنبؤات العلم الطبيعي؟ إذن لا بد من العمل على كشف هذه القوانين بواسطة بحوث في الإنسان على قدر كاف من الحذر والخيال.»
9
والحق أن هذا هو عينه نص العقلانيين في القرن الثامن عشر هولباخ، ودولامبير، ولامتري، وكوندرسيه. إنهم أكدوا إمكانية الرياضة الاجتماعية والفيزياء الاجتماعية وفسيولوجيا كل شعور أو اتجاه أو نزوع، في نفس دقة وجدوى أصولها في العلوم الطبيعية، وإن الميتافيزيقيين ضحية الوهم والخداع، فلا شيء في الطبيعة غائي، وكل شيء خاضع للقياس، وفي الإجابة عن الأسئلة التي تؤرقنا، سيشرق علينا الفجر بنور العلم.
10
بل إن أصحاب الدراسات الإنسانية، خصوصا النفس والاجتماع، نازغهم الحلم الطوباوي بالظفر بمنزلة تساوي منزلة الفيزياء بمناهجها الرياضية وتطبيقاتها القوية، وربما الظفر بمنزلة تفوق الفيزياء، وذلك عن طريق إعادة تشكيل البشر والمجتمعات.
11
كان هذا هو الحلم الذي أينع طوال القرن الثامن عشر، حتى عرف كيف يتلمس طريقه إلى أرض الواقع خلال القرن التاسع عشر بفضل الاسترشاد بالمثال الحتمي. ولئن كانت رواسب المثاليات المنطقية لحتمية نيوتن الميكانيكية العلية، بكل قصوراتها التي هي قصورات المشروع العلمي آنذاك، والتي لا تزال عالقة بأذهان بعض العلميين حتى الآن، من العوامل التي تعرقل حل مشكلة العلوم الإنسانية، حتى إن التخلص من براثنها، واستيعاب الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة للنسبية والكمومية كفيل بمعالجة الإشكالية - كما سنرى - بل ولئن كانت فكرة الحتمية في حد ذاتها، وبعد أن اندثرت من العلوم الطبيعية، من الأفكار التي لا يزال يتمسك بها بعض الباحثين في العلوم الإنسانية، وبطريقة قد تجعلهم ينتهون إلى أنها ليست ضرورية ولا حتمية، فنخرج بموقف شديد الغرابة في العلوم الإنسانية، يعني حتمية ولاحتمية، تناقض ذاتي
12 ... نقول مع هذا، فإن الذي يهمنا الآن أن نلاحظ دور الحتمية في إطار عصرها، وكيف فتح المشروع الكلاسيكي الطريق أمام الدراسات الإنسانية، لتلحق بمسيرة العلم الظافرة، وتتفتح أكمامها العلمية بري إبستمولوجيته، فشهد القرن التاسع عشر النشأة الناضجة لعلم الاقتصاد على يد آدم سميث.
13
ثم التطور الجذري على يد ماركس، ولعلم الاجتماع الذي نشأ على يد أوجست كونت، لحق به علم النفس، واستقام الجذع العلمي لعلوم السياسة ... إلخ.
ولا ننسى في هذا الصدد استبسال الجبهة الأعمق من فلاسفة العلم في القرن التاسع عشر. وعلى رأسهم جون ستيورات ميل
J.S. Mill (1806-1873) المتحدث الرسمي باسم العلم الكلاسيكي الحتمي العلي، في آخر مراحل هيله وهيلمانه. فقد أخلص في دفاعه المنطقي المجيد - لكن الاستقرائي السطحي البالي - لتأكيد إمكانية العلوم الإنسانية. فتعرض في الجزء السادس من كتابه الأكبر «نسق المنطق
System Of Logic » «لمنطق العلوم الاجتماعية أو الإنسانية
On The Logic Of Social Science » حيث دعا إلى مضاعفة الجهد لتأسيسها تماما كالعلوم الطبيعية. هذه الدعوة التي لاقت أقوى استجابة مع أوجست كونت، صديق ميل الشخصي ورفيقه الفكري،
14
الذي أنجز مشروعه العلمي العظيم على أساس أن المعرفة بالمجتمع تاج المعرفة العلمية. •••
حتى إذا دلفنا إلى قلب القرن العشرين، وجدنا العلوم الإنسانية، وقد قطعت شوطا طويلا، وبذلت جهودا مضنية وناجحة إلى حد كبير في تحديد موضوعاتها، وتعريف ظواهرها، وصياغة مفاهيمها ومصطلحاتها. وقد أرست مناهجها وأساليبها الإجرائية كالتحليلات الرياضية مثلا الاقتصادية، والمناهج الإحصائية، والقياسات العددية، والوسائل الإمبيريقية كالاختبارات والمقاييس السيكوميترية، والتجربة المعلمية والتجربة الميدانية، والعينة التجريبية، والعينة الضابطة، والاستبار، وقوائم الاستبيان، وكشف الأسئلة، واستمارة المقابلة والمشاهدة بالمشاركة، فضلا عن الأساليب الدقيقة لتحليل وتنظيم واستخلاص ما تفيد به المعطيات ... إلى آخر ما يدرب عليه الباحثون - تبعا لتخصصاتهم المختلفة - من منهجيات إجرائية دقيقة أفضت بالعلوم الإنسانية إلى محصلات جليلة الشأن، ولا تزال تفضي، خصوصا بعد ظهور الكمبيوتر الذي يسر السيطرة على جماع هائل من المعطيات الإمبيريقية.
ومنذ الربع الثاني من القرن العشرين، كان قد اتضح تماما أن الدراسات الإنسانية الإخبارية قد شقت لنفسها طريق «العلم» بالمعنى الدقيق، وقطعت منه شوطا كبيرا، واستقام عودها. وهذا النضج اللافت جعلها في منزلة تؤهلها للمقارنة الصريحة مع العلوم الطبيعية، ليتضح عجزها عن تحقيق ما أحرزته العلوم الطبيعية من تقدم، وبلغ الوعي بهذا التخلف النسبي حدا جعل الفكر الأوروبي آنذاك يسوده ما يعرف باسم أزمة العلوم الإنسانية، والتي قد تصل لحد يجعلها أزمة العلوم الأوروبية إجمالا
15
كما نص عنوان كتاب لهوسرل.
وشهد هذا القرن دعوات تأتت كرد فعل، ومحاولة لتخطي الأزمة. ولعل أبرزها تيار مستقل وقوي من تيارات الفكر المعاصر، ألا وهو فينومينولوجيا أدموند هوسرل
E. Husserl (1891-1938) التي تصادر منذ البداية على استحالة شق طريق العلوم الطبيعية، وإحراز ما أحرزته من تقدم؛ أي تواجه مشكلة العلوم الإنسانية، بواسطة التسليم بها كأمر واقع لا سبيل البتة إلى تجاوزه. والفينومينولوجيا شأنها شأن سائر التيارات الفلسفية التي خرجت من أعطاف القرن العشرين، منهج أكثر منه مذهبا، وأسلوب للبحث أكثر منه تشييدا لبناء. فقد كانت جهدا مستميتا لإزالة الهوة بين العلوم الطبيعية والإنسانية، مدعية أنها تصلح من شأن الأخيرة، مهما كانت نظرتنا لطبيعة الظاهرة الإنسانية. وهي كما ذكرنا تصادر على أن هذه الهوة من صميم طبائع الأمور وليست مشكلة. وهي بهذا التطرف في تأكيد الوضع أو المشكلة تقابل الاتجاهات الإمبيريقية كالوضعية والسلوكية في تطرفها بمواجهة المشكلة عن طريق نفيها، وإنكار خصوصية الظاهرة الإنسانية.
وراحت الفينومينولوجيا في محاولة دءوبة لاستكشاف الشعور، تيار الشعور الزماني؛ لذلك اعتنى هوسرل في كتابه «دراسات منطقية
Logische Untersuchungen » عناية بالغة بالوعي الباطن بالزمان، والتوصيف الفينومينولوجي له.
16
وكانت فينومينولوجيته في هذا «تحاول البحث عن بعد إنساني خاص بعلوم الإنسان يتمثل في التصورات العقلية كما كانت الحال عند العقليين ابتداء من ديكارت حتى آخر ممثليهم، وهو برنشفيج
Brunschvick
ولا يتمثل في التجارب الحسية كما كان عند التجريبين، ابتداء من بيكون حتى الوضعية بكل صورها.»
17
ومع هذا كانت الفينومينولوجيا طريقا ثالثا لضم المثالية والمادية - طريقا شقه دلتاي. «فهي دعوة للحياة التي لا يمكن وضعها في نطاق العقل ولا في نطاق المادة.»
18
على اعتبار أن التجربة الحية هي المدخل الوحيد للعلم. ولئن كانت التجربة الحية ذاتية، فإن الآخر - التشارك في التجربة - هو الذي يضمن الصدق والموضوعية. على العموم حاولت الفينومينولوجيا إحكام العلاقة بين الذات والموضوع، أو بمصطلحاتنا بين الباحث وموضوع البحث عن طريق «القصدية، والإحالة» - كما هو معروف - ولكننا نرى الفينومينولوجيا شقت طريقا موازيا لطريق العلم - الطريق المنطقي الذي نسلكه ها هنا - ونعتقد أنها بصورتها تلك وكمنهج للبحث، أليق بالدراسات الإنسانية الحضارية الأيديولوجية والمعيارية، منها بالعلوم الإنسانية الإخبارية بمهامها المنطقية الدقيقة.
ونظرا لانكباب روادهم خصوصا فندلباند وريخرت على التفرقة في العلوم والوقائع والأحكام بين النومطيقي
nomothetic
وهو الكوني العام الطبيعي وبين الأيديوجرافي
ideographic
الفردي الخاص الإنساني، وهي تفرقة سبق أن أشار إليها أرسطو، فإننا يمكن أن نترك لهم علم التاريخ فقط ، ولكننا لا نعتقد أن الفينومينولوجيا يمكن أن تجدي في تحليلات علم الاقتصاد مثلا، أو التغير في علم الاجتماع، أو حتى الفروق الفردية في علم النفس ...
ولسنا نغفل تطورات الفينومينولوجيا بعد هوسرل، خصوصا مع موريس ميرلوبونتي
M. Merleau
(1908-1961) الذي حرص على إيضاح أنها تقع في مكانة أعلى من الرياضيات والمنطق، بمعنى أنه عن طريق استقصائها البنيات الأساسية للخبرات الخاصة بالتفكير، والمعرفة تساعد في توضيح أسس المعرفة ذاتها، المعرفة بالظواهر الإنسانية. ولسوف يعتمد علم النفس بالذات - في رأي ميرلوبونتي - على الفينومينولوجيا من أجل توضيح تصوراته الأساسية، مثلما تعتمد الفيزياء على الرياضيات من أجل توضيح أفكارها الرئيسة.
19
ومهما يكن الأمر، فإن الفينومينولوجيا - مرة أخرى - تسلك طريقا موازيا لبحثنا هذا، ليس بمتلاق معه، والتوغل فيها، وتحديد مدى جدواها،
20
أكثر مما فعلنا استطرادا وخروجا عن التسلسل المنطقي لعناصر بحثنا هذا.
من الناحية الأخرى نلاحظ أن الفينومينولوجيا شأنها شأن كل فلسفة قامت كي تناهض مثاليات العلم الطبيعي وتنشق عنها؛ لأنها تشيء الإنسان وتموضعه وتجرده من إنسانيته، أو على الأقل لا تلائمها ... إنما تناهضها؛ لأنها وقفت بتفكيرها عند مرحلة العلم الكلاسيكي الحتمي، وتعجز عن استيعاب ثورتي الكوانتم والنسبية (أي الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة) التي نفت الحتمية، وقلبت مثالياتها.
يتضح هذا من موقف الفينومينولوجيين في علمي الاجتماع والنفس. فقد لجئوا إلى الفينومينولوجيا عزوفا عن أي افتراضات حتمية، ورؤية الإنسان واقعا في شراك الأبنية الوراثية والاجتماعية التي تحدد له سلوكه، وما سوف يفعله، وسعيا وراء نظرة أخرى تؤكد حرية وتفرد الإنسان، وقدرته على خلق وتشكيل عالمه الاجتماعي. باختصار يرى الفينومينولوجيون الإنسان باعتباره كائنا خلاقا يتمتع بسمة أساسية هي إضفاء المعاني، ويتشكل سلوكه في إطار وعيه.
21
بينما ينفي العلم الكلاسيكي هذا من حيث كانت الحتمية تنفي حرية الإنسان.
22
وفي كل هذا قامت الفينومينولوجيا أساسا لتفادي الأخطاء المنهجية التي وقعت فيها العلوم الإنسانية، بتبنيها الأعمى لمسلمات المنهج في العلوم الطبيعية الكلاسيكية، واتخاذها مثالياتها التي يلخصها مبدأ الحتمية. ويتمثل هذا التبني على وجه الخصوص في الوضعيين من علماء الاجتماع وزملائهم السلوكيين في علم النفس. •••
ولكن الحق الذي لا مراء فيه، والذي تؤكده النظرة الأولى لتاريخ العلوم الإنسانية الحديثة، هو أن فيالق باحثي الوضعية والسلوكية قد أنجزت حصادا هائلا، وهو الذي جعل العلوم الإنسانية تقف على قدميها، وتشق طريق العلم لتمخر عبابه، وتؤهلها أصلا للدخول في مقارنة مع العلوم الطبيعية، وتنامى هذا الحصاد منذ أواسط القرن العشرين، لا سيما بعد أن تسلحت بمناهج الإحصاء والاحتمال التي كانت ترفضها في القرن الماضي سعيا وراء وهم اليقين النيوتوني، والتحديد الفردي المطلق للفيزياء الكلاسيكية برياضياتها الإقليدية.
بيد أن هذا الحصاد الهائل يقتصر فقط على المرحلة الوصفية للعلم، دونا عن المرحلة التفسيرية فضلا عن البحتة، وليس الوصف أمرا يسيرا، أو هينا، أو حتى مجرد مرحلة تمهيدية، وها هو ذا هومانز يسمي المرحلة الوصفية باسم مرحلة الاكتشاف
Discovery ، فالوصف يطابق الاكتشاف؛ لأنه عملية تعيين واختبار علاقات أكثر أو أقل عمومية بين خواص الظاهرة موضوع البحث. وهو اكتشاف لأن تلك العلاقات غير معروفة قبل البحث الذي يكشف عنها. ولا يستعمل هومانز أبدا مصطلح الوصف
Description ، ويستعمل دائما مصطلح الاكتشاف، مؤكدا أن الاكتشاف - الوصف بمصطلحاتنا - معيار وجود العلم أو إمكانيته أصلا، لكن التفسير هو معيار درجة نجاحه أو تقدمه.
23
وهذا ما سبق أن أوضحناه في الفصل السالف، وأوضحنا أيضا كيف يتجاوز التفسير الوصف، فيستعين به، ويضيف إليه القوانين، أو النظريات «قضايا عامة» كي يحقق هدفه فيمثل التقدم الحقيقي للعلم. باق أن نؤكد الآن - مع هومانز - أن الوضع في العلوم الإنسانية لا يختلف كثيرا عن الوضع في العلوم الطبيعية من حيث العلاقة بين الوصف والتفسير. «ولن يكون ثمة تفسير دون قضايا عامة».
24
قوانين في مقدمات الاستنباط. «ولا شك أن محتوى القضايا العامة والتفسيرات مختلف في العلوم الإنسانية عنه في العلوم الطبيعية، ولكن مطلب القضايا العامة والتفسيرات واحد في الاثنين».
25
هذا إذا أردنا قوة إخبارية ومحتوى معرفيا، يعني سيطرة العقل على الظواهر الإنسانية، كما سيطر على الظواهر الطبيعية.
إن السلوكية - التقليدية ثم الحديثة أو المعدلة - ومهما تذرعت باختباراتها السيكوميترية، أو أساليبها الإحصائية، التي برعت وتمادت في تطبيقها واستغلالها لضبط البحوث الإمبيريقية، والحصول على نتائج دقيقة، ومعها الوضعية وسليلاتها الوظيفية، ثم البنيوية، حتى السوسيوميترية ... في علم الاجتماع، التي اقتبست من علم النفس أساليب الإحصاء والقياس الكمي الدقيق، كلها معا - وهي المتربعة على عرش المنطق العلمي في عالم الدراسات الإنسانية - تحوي نفس القصور الذي يحول بينها وبين العبور المتمكن إلى المرحلة التفسيرية والخوض فيها خوضا ذا عمومية منطقية، ومحتوى معرفي غزير، ويتمثل القصور في - أو يتأتى من - الوقوف على سطح الظاهرة بالاستسلام الكامل للمعطى التجريبي، وتفتيت موضوع الدراسة إلى ذرات، مغفلة الطبائع التكاملية للكيانات الإنسانية. وإن كان ثمة إيجابيات للجشطلت فإن السلوكية خطفت منها الأضواء العلمية.
إن السلوكية بزت كل مدارس علم النفس قولا وفعلا في الولاء لمنطق العلم التجريبي، لكن بخطوط الإبستمولوجيا الكلاسيكية للعلم الميكانيكي. فحولت العلة والمعلول، الفعل ورد الفعل، إلى المثير والاستجابة القابلة للملاحظة، ثم التعميم الاستقرائي. وصمت الآذان عن الانهيار المدوي للآلة الميكانيكية العظمى، وتطورات العلم المعاصر. والمحصلة هي اقتصار السلوكية على الوقائع الملاحظة، والتأكيد أن التجريب المعملي هو فقط الذي يؤدي إلى نتائج يعتمد عليها. وهذا جعل اهتمامها بعمليات التفكير والمعرفة في الذهن يتراخى، وتعجز عن تفسير الظواهر شديدة التعقيد، التي لا يمكن الإحاطة بها عن طريق تعميم تجريبي مباشر يفترض أن الإنسان مجرد متلق سلبي لعوامل البيئة والوراثة، وتتفاقم المشكلة حين نصل إلى مستوى علم النفس الاجتماعي، وهو من معاقل السلوكية، عرفت كيف تتوغل في وصفه أو اكتشافه، ولكن تفسيره يحتاج إلى تركيب أكثر منه إلى تحليل وتفتيت. وتظل مشكلة علماء النفس السلوكيين - كما يقول هومانز وهو في طليعة أشياعهم - أنهم لم يكن لديهم روح المغامرة والإقدام في قضاياهم، بحيث تسع تفسيرا للسلوك الاجتماعي.
وبتطرف قد لا يكون مقبولا، يؤكد هومانز نفسه - مع آخرين بالطبع - أن القضايا الأساسية لكل العلوم الإنسانية هي قضايا علم النفس السلوكي، إلا أنه قد نهض بمهمة مد نطاقها علماء النفس الاجتماعيون، الذين أخطئوا - والحديث ما زال لهومانز - في اعتقادهم أن علم النفس السلوكي محدود في مداه، وليس له أن يتجاوز الجرذان وغيرها إلى البشر.
وعلى هذا يمكننا الحكم بأن العجز عن الاقتراب من التفسيرات المقتدرة ذات العمومية المنطقية متوشجا في صميم مصادرات السلوكية. ولعل هذا أحد الأسباب التي أدت إلى الانقلاب عليها الذي شهده النصف الثاني من القرن العشرين - الخمسينيات منه - بعد أن كادت تستأثر طوال نصفه الأول - بالأخص ربعه الثاني - بعلمية علم النفس. هذا الانقلاب أو بالأصح التجاوز، تأتى على وجه التعيين من مدرسة علم النفس المعرفي
Cognitive Paychology
وبفضل الجهود الدءوبة لرواده العظام نخص منهم بالذكر أولريك نايسر
U. Neisser
وجيروم برونر
J. Bruner
تبلور علم النفس المعرفي خلال الستينيات وشق طريقه الواعد، مستفيدا بإيجابيات شتى من العلم المعاصر وإبستمولوجيته وتقانته، لا سيما الذكاء الصناعي وأنظمة تشغيل الحاسوب الإلكتروني (الكمبيوتر) كمناظرة تخطيطية لفهم أنظمة الذكاء الطبيعي، أو العقل الإنساني في حل المشكلات. وبحثنا هذا إذ يحاول دفع وتعميق استفادة العلوم الإنسانية من ثورة العلم المعاصر، إنما يأخذ في الاعتبار علم النفس المعرفي. فقد أصبح معقد الآمال في مستقبل الدراسات السيكولوجية، والإمكانات المستشرفة بإزاء علم النفس في مرحلة ما بعد السلوكية، القادرة على استيعابها بإمبيريقياتها الفعالة، لكن السطحية القاصرة، ثم تجاوزها إلى ما هو أعمق وأشمل.
26 «لتوضيح وإثبات ذلك راجع
الفصل السادس
من هذا الكتاب»، ومن علماء النفس ننتقل إلى الشق الثاني من عمداء العلوم الإنسانية؛ أي علم الاجتماع. لنجد الوظيفية بالذات قد قامت هادفة الإضافة إلى مسلمات الوضعية، بما يكفل إحراز الهدف التفسيري العلمي، رافضة التفسيرات الغائية التي تفسر الظاهرة بأهدافها المستقبلية على عكس منطق العلم العلي - الميكانيكي - الذي يفسر الظاهرة بعللها السابقة، أو بماضيها، فكانت الوظيفية منهجا لتفسير الظواهر أو الأحداث والأنظمة الاجتماعية عن طريق ذكر الوظيفة التي تؤديها. وتركز على فهم المجتمع باعتباره مجموعة من الأنساق المرتبطة بعلاقات، فيكفي التفسير الرجوع إلى الوقائع الملاحظة، ولسنا في حاجة إلى المخيلة أو الحدس.
27
ويعتبر مالينوفسكي
B. Malinowski (1873-1920) أبو الوظيفة؛ لأنه أول من استخدم «الوظيفة» للتعبير عن منهج معين، أو اتجاه للبحث. لكن الوظيفة دخلت علم الاجتماع من خلال تدريس ردكليف براون
A. R. Redcliffe Brown (1881-1955)، ثم قويت بفضل تالكوت بارسونز
T.
(1902-؟) وظهر في أعمالهما مفهوم البنية بجانب الوظيفة، وأصبح «الوظيفي - البنيوي» هو الإطار العام للتفسير المنشود في علم الاجتماع، ورأى ردكليف أن المشكلة هي إمكان التوصل إلى علم طبيعي للمجتمعات الإنسانية. ومعنى ذلك تطبيق نفس الطرق المنهجية، والمنطقية، المستخدمة في العلوم الفيزيقية والبيولوجية على ظواهر الحياة الاجتماعية الخاصة السياسية والاقتصادية وعلى الفنون والعلوم وعلى اللغة «ذلك بهدف التوصل إلى صيغ دقيقة علميا، من التعميمات المحتملة ذات المعنى»،
28
والحق أن فكرة «الوظيفية» عن النسق «العضوي» للمجتمع و«الوظيفية الحيوية» تداني بينها وبين تحقيق العلم الطبيعي بالمجتمع.
فهل قفزت الوظيفة بعلم الاجتماع إلى مرحلة التفسير العلمي الناضج المقنن منطقيا؟ في الإجابة عن هذا نلاحظ أن الوظيفة في خاتمة المطاف نظرية اجتماعية، وسوف نرى أن الخلل المنطقي في حدود النظرية الاجتماعية بصفة عامة من أشد ما يدفعنا لمحاولة تلمس التقنين المنطقي لإقالة العلوم الإنسانية من تعثرها في المرحلة التفسيرية. وثانيا نلاحظ أن الوظيفية - بصفة خاصة - يؤخذ عليها أن مفهوم الوظيفة غير محدد، وأنها تحيز أيديولوجي محافظ يهدف إلى إبقاء الوضع القائم، ما يجعلها تنكب بلا موضوعية على تفسيرات استاتيكية واستقرارية للمجتمع، وأنها من ثم تنطوي على تقدير غير متناسب لدور الأنظمة المغلقة في الحياة الاجتماعية، تفشل في تناول مشكلة التغير الاجتماعي بنجاح، فتعجز عن تفسير ظواهر من قبيل الصراع والتفكيك، فربما استطاعت أن تفسر جيدا لماذا تستمر الأشياء، لكنها لم تفسر أبدا لماذا تتغير؟ إنه نفس المأخذ الذي كان يؤخذ من قبل على الوضعية. بينما يؤخذ على الماركسية مغالاتها في تفسير التغير، ومن ثم عجزها عن تفسير الثبات النسبي الذي تتمتع به بعض الأنظمة الاجتماعية. وقد يبدو أن البنيوية تمثل الوسط الذهبي في هذا الصدد، من حيث إنها تنص على التحول
Transformation
بجانب الكلية والضبط الذاتي. وسرعان ما يخيب هذا الأمل حين نجد أهم أعلامها، ألا وهو كلود ليفي شتراوس - أعظم من قام بتطبيقها خصوصا في الأنثربولوجيا - يؤكد أن صلب المنحى البنيوي ليس شيئا أكثر من «البحث عن الثابت، أو هو البحث عن العناصر الثابتة فيما بين الاختلافات السطحية»،
29
وقد ظلت البنيوية دائما أقرب إلى الطابع المحافظ السكوني المناهض لديناميكية الماركسية. وبرفقة الماركسية يقف التيار النقدي في علم الاجتماع الأمريكي (على أن نفصل بين الماركسية كمدرسة علمية وبينها كمشروع سياسي). والذي يعنينا الآن أن الوظيفية التي انتقيناها مثلا تعجز عن التفسير العلمي بسبب اهتمامها منذ البداية بقضايا خاصة بشروط التوازن الاجتماعي، هي قضايا لا يمكن أن تشتق منها نتائج نهائية في نسق استنباطي، ويؤكد إرسنت ناجل استحالة اعتبارها تفسيرا لافتقارها إلى الاتفاق مع الأدلة التجريبية المتوافرة، وهناك أدلة على أن المجتمعات ليست أنساقا عضوية مغلقة كما تدعى الوظيفية.
30
على الإجمال نجد التفسيرات المدعاة للوظيفية تفتقر إلى المحتوى المعرفي، ما أدى إلى الحكم بأنها تنزع إلى التفسير الغائي بافتراضها فروضا غير قابلة للاختبار؛ أي أنها محاولات غير علمية، والبنيوية هي الأخرى تلقى نقدا مريرا؛ لأن بعض فروضها غير قابلة للاختبار التجريبي. لقد توقفنا عند الوظيفية؛ لأنها معبرة عن اتجاه علم الاجتماع المخلص في اقتفاء أصوليات المنطق التجريبي، الذي يمتد من الوضعية وحتى البنيوية، والوضعية الجديدة أو المحدثة في الربع الثاني من القرن العشرين، والاتجاه السوسيولوجي الأمبيريقي والسوسيوميترية ... إلخ؛ وذلك لكي تعطينا الوظيفية تمثيلا عينيا شاهدا على تعثر الدراسات الاجتماعية في طريقها نحو النظريات التفسيرية العلمية حقيقة، فنكون على بينة حية من جزئية معبرة، حين نتناول في الفصل التالي من الكتاب إشكالية المنطق التفسيري للعلوم الاجتماعية، وافتقار النظرية الاجتماعية من حيث هي هكذا للتقنين المنطقي الدقيق، الذي يجعلها علمية حقا.
ومن المهم أيضا أن نكون على بينة من أن تلك الاتجاهات؛ أي السلوكية والوضعية وسليلاتها ... إلخ، في محاولتها الإخلاص لمثاليات العلم التجريبي، الكلاسيكي، تبنت الإمبيريقية المتطرفة بحماس فائق، على حساب طبيعة العلم المبدعة الخلاقة، وطبيعة الظاهرة الإنسانية على السواء، فراحت تواجه مشكلة التخلف النسبي للعلوم الإنسانية بالعود المباشر إلى الوقائع التجريبية الملاحظة إمبيريقيا، وهذا ليس حلا للمشكلة، بل على العكس هو المشكلة عينها؛ لأن الوقوف على الواقعة التجريبية فقط، يعني في حد ذاته عدم القفز إلى المرحلة التفسيرية ، اكتفاء بالوصف.
إذن، نخلص مما سبق إلى تحديد مشكلة العلوم الإنسانية، أو منطق تخلفها النسبي عن العلوم الطبيعية فقط بعجزها عن بلوغ المرحلة التفسيرية المقتدرة، أو بالأدق اضطراب محاولاتها التفسيرية، وافتقارها للتقنين المنطقي، كما أشار هومانز ليس ثمة كلمة تستخدم في العلوم الإنسانية أضخم وأجل من كلمة «النظرية»، ولكن نادرا ما يسألون أنفسهم: ما النظرية؟ إن النظرية تفسير لظاهرة، وكل شيء ليس تفسيرا لا يستحق اسم «نظرية».
31
وهومانز يتفق معنا على أن صعوبات العلوم الإنسانية تقع في التفسير أكثر منها في الكشف أو الوصف، وأن المشاكل المميزة للعلوم الإنسانية هي مشاكل التفسير.
32
ذلك أنه بينما تتكامل التفسيرات في العلوم الطبيعية، أو يتجاوز بعضها البعض في متصل التقدم الصاعد، وعلى أقصى الفروض يميل تفسير إلى التأكيد على زاوية دون الأخرى، نجد التفسيرات في العلوم الإنسانية تتنازع وتتناقض، وقد تبلغ حد التضاد الصريح، ومن أوضح الأمثلة على هذا تحليلية فرويد وسلوكية واطس، اللتان احتلتا قصب السبق في علم النفس في نفس الفترة التاريخية، وتنازعتا نفس الحلبة، وعلى حين نجد خطأ التفسير التحيلي في أنه يبالغ في تعميق الظاهرة النفسية وتعقيدها، نجد خطأ التفسير السلوكي في أنه يبالغ في تسطيح الظاهرة النفسية وتبسيطها، وإن كان تبسيطا لحساب منهج العلم وإبستمولوجيته.
وتعجز التفسيرات المطروحة في العلوم الإنسانية عن التكامل؛ لأنها تفتقر إلى الخصائص المنطقية الدقيقة. لسنا نقصد إنكار أي قيمة لها، أو الحط من شأنها، أو أنها محض هراء أو لغو! كلا بالطبع فلا شك أنها تضمنت محاولات جسورة جبارة، ولكن ينقصها شيء من الدقة لتكون مثمرة حقا. بعبارة أخرى، يغدو التقنين المنطقي الدقيق للتفسيرات في العلوم الإنسانية كفيلا بأن يجعلها تتجاوز الكثير من تخلفها النسبي عن العلوم الطبيعية.
على هذا النحو يتأتى تحديد منطق التخلف النسبي للعلوم الإنسانية، فقط بافتقاد المرحلة التفسيرية تقنينا منطقيا أدق. فلا يوجد البتة أي مسوغ منطقي لتطرف البعض، حتى يذهب إلى أن مشكلة العلوم الإنسانية «هي أنها ليست علوما»، فلا يعود السؤال المطروح: كيف يمكن مواجهة تخلفها النسبي أو معوقات تقدمها؟ بل يصبح: هل يمكن أصلا قيام علوم إنسانية، وسرعان ما تأتينا الإجابة بالنفي.
33
هذه الإجابة المتطرفة عادة ما تستند في إنكارها لإمكانية العلوم الإنسانية على أساس من التسليم المبدئي بأن العلم لا يكون إلا في صورة العلم الدقيق
exact science
الذي يتحول إلى صورة نسق رياضي يخلو من أي ألفاظ كيفية، ولا يتحدث إلا بالرموز والأعداد، ويا حبذا لو راحت الفوارق الشكلية بينه وبين الرياضة. فذلك هو شأن الفيزياء البحتة التي تستنبط من معادلاتها فقط بالأساليب الرياضية ما لا يكشف عنه الواقع التجريبي إلا بعد سنوات، كما حدث حين توصل ديراك
Dirac
بالمعادلات الرياضية إلى ضديدات الجسيمات الذرية
Antiparticles ، ثم أثبتتها التجارب بعد ذلك بسنوات، أو كالنيوترون، توقعه العقل نظريا، ثم وجده تجريبيا بعد ثلاثين عاما،
34
وجسيمات أخرى للذرة
w. z.
ومن قبل لم يطرح كوبرنيقوس فرضية مركزية الشمس إلا على أساس حجة وحيدة، هي حجة البساطة الهندسية وبساطة الاستدلالات الرياضية، فهي أبسط من مركزية الأرض البطلمية، وإذا أضفنا إليها فرضية أن الأرض تتحرك، سنكون أقدر على تفسير الظواهر الفلكية، ولم تتأت الشواهد التجريبية إلا بعد وفاة كوبرنيقوس مع ملاحظات تيكو براهة، وجاليليو عن وجه الخصوص. هكذا تتصدر الرياضيات الجبهة الأمامية في معركة العلم الدائمة لفرض سلطان أكبر على الطبيعة الفيزيائية.
ولئن كانت الفيزياء الحديثة ذاتها مرت بمرحلة معينة من تاريخها - تتحدد بمنتصف القرن الثامن عشر - سادتها فكرة «تعتمد على الوثوق بالتجربة أكثر من الرياضيات باعتبار الرياضيات شديدة الحصر ما يصعب قراءتها للطبيعة»
35
فعم الانكباب على التجربة، وتراجعت الرياضيات للدرجة الثانية. وراح ديدرو - وهو من زعماء الموسوعيين الفرنسيين ذوي الاتجاه العلمي القوي - يشكك في طبيعة الرياضيات وجدواها؛ لأنها تقطع الصلة بالتجريب. وساعد على هذا دفقة التقدم المذهل في الميكانيكا، حتى شهدت تلك المرحلة ميلاد «الحرفي العالم» المعروف باسم المهندس، وأصبحت الورش الصناعية هي ملتقى العلماء، ومكان تجمعهم وعملهم، ومناقشاتهم ومسامراتهم،
36
حتى ينعت جيمس جينز هذه المرحلة باسم «عصر العالم المهندس»
37 ... لئن كان هذا حقا، فنحن نقول إنه ظاهرة سطحية لتفجر نجاح الميكانيكا النيوتونية التي هي أصلا نظرية رياضية. ثم إنها مرحلة - بل ظاهرة - محدودة من تاريخ علم الطبيعة الحديث. والآن في القرن الحادي والعشرين لم يعد ثمة جدال طبعا في أن الفيزياء البحتة بلغت أعلى درجة من الدقة مسلحة باللغة الرياضية، أو حتى لأنها هكذا. فهذه خاصة أساسية من خواص العلوم الطبيعية أن لها قطبين فلسفيين هما وقائع التجريب، ولغة الرياضيات بتعبير باشلار الذي يعرف الطبيعيات بأنها «حقل فكري يتعين برياضيات وتجارب، كما ينشط إلى أقصى حد في اقتران الرياضيات والتجربة».
38
ما يحدد الطبيعيات بأنها أبنية تركيبية
Synthesis
ذهنية، هي تجريدية عينية. من الناحية الأخرى لا شك أيضا - وإطلاقا - في كفاءة اللغة الرياضية؛ لأنها أدق لغة امتلكها الإنسان، أو قل: إن كل لغات الإنسان طرا متساوية، ولا توجد لغة أدق وأكثر صرامة من غيرها. فما دام ثمة بشر متحضرون ارتضوها وسيلة لما بينهم من إشارة وتعبير ووصف وجدل ونقاش ... فلا بد أنها قادرة على هذه المهام المنوطة باللغة أي لغة، عدا لغة المنطق الرمزي وسليلته الرياضيات، فهذه ليست أدق لغة امتلكها الإنسان فحسب، بل إنها اللغة الوحيدة الدقيقة، وكل ما عداها سواء.
وعلى الرغم من كل هذا، فإن اصطناع اللغة الرياضية في صياغة الفروض والاستدلالات والأنساق العلمية، ليس في حد ذاته هدفا، بل هو وسيلة الضبط، التي تواءمت تواؤما كاملا مع موضوع الفيزياء، ودرجة تقدمها، ولكن إن تعذر عليها التواؤم مع موضوع البحث، وأمكن تحقيق الضبط لدرجة كافية بوسائل أخرى، فلا ينبغي أن نتشبث بالوسيلة (اللغة الرياضية) إلى الدرجة التي تلهي عن الغاية (المرحلة التفسيرية المقتدرة)، أو إنكار إمكانية بلوغها.
39
لذلك لا نجد مبررا منطقيا لقطع الطريق على العلوم الإنسانية بدعوى أنها غير دقيقة كالفيزياء ولن تكون، ولا حتى إرجاع تخلفها النسبي إلى أنها ليست علوما دقيقة. فالعلم الدقيق بهذا المفهوم الرياضي ليس في حد ذاته هدفا، بل وسيلة، والرموز الرياضية بدورها عرض، وليست خاصة أساسية للبنية العلمية، وإن كانت قد تحققت في العلوم الفيزيائية، فهي لم تتحقق في علوم أخرى لا يجادل أحد في علميتها، وقدراتها المنطقية، كالجيولوجيا وعلوم الطب والأمراض ... فهي علوم منضبطة إلى حد مقبول، وتزداد انضباطا وتقدما، ولكنها غير دقيقة بهذا المفهوم، ولا هي تبحث عنه؛ لأنها لا تعتمد على الاستدلال الرياضي.
وكما أوضح برتراند رسل
B. Russell (1872-1970) عميد عمداء التفكير العلمي والرياضي في النصف الأول من القرن العشرين، أول انتصارات المنهج التجريبي كانت في الفلك وأعظمها في العلوم الذرية، وإن كانت هذه العلوم، وتلك تستلزم الرياضيات، بحيث لا تقل أهمية الرياضيات فيها عن أهمية التجريب، فإن ثمة علوما أخرى ينفرد التجريب بقصب السبق فيها، وأهمها علم الحياة، ويعطينا دارون مثالا نموذجيا على الاستعانة بالمنهج التجريبي الخالص بغير حاجة إلى الرياضيات،
40
كما هو حال معظم فروع البيولوجيا. ومن الناحية الأخرى نجد في الوقت نفسه فروعا في علم الاقتصاد، وفي علم السكان تعطي استدلالات رياضية وتنبؤات دقيقة، بل إن علم السكان وهو علم إنساني خالص - فرع من فروع الجغرافيا - به أجزاء متميزة بوجود نظرية رياضية، مصوغة ومشابهة منهجيا للأجزاء الدقيقة من الفيزياء. وقد تبنى ماشلوب هذه القضية في بحثه «هل العلوم الإنسانية حقا في منزلة أدنى»؛ حيث يرفض الدقة بمعنى القياس والقدرة على التنبؤ بنجاح بأحداث مستقبلية، أو التحول إلى لغة رياضية، موضحا أن المعنى الصحيح للدقة هو إمكان بناء نسق من النماذج التي تحتوي على أبنية مجردة من المتغيرات، ويمكن منها استنباط كل القضايا الخاصة بارتباطات معينة، ويعقب ماشلوب بأن أمثال هذه الأنسقة لا توجد في كثير من العلوم الطبيعية، هي مواضع جمة من العلوم الحيوية، بينما توجد في موضع واحد على الأقل من العلوم الإنسانية، هو علم الاقتصاد. والخلاصة أن صفة الدقة الرياضية لا يمكن نسبتها إلى كل العلوم الطبيعية، كما لا يمكن رفضها بالنسبة لكل العلوم الإنسانية، وتبقى الإشارة إلى أن رفض معيار الدقة الرياضية قد تطور وتنامى في السنوات الأخيرة، حتى يحمل الآن مارجوليس لواء الدعوى إلى أن مجرد التعيين الصوري لقيم مماثلة الصدق
Truth-like Values
مسألة نسبية، ملائمة فقط لنطاقات معينة من البحث دون سواها!
41
إن الذي يجعل العلم علما ليس لغته أو نتائجه، بل أهدافه
42
وأسلوب تحقيقها الملتزم بالمواجهة مع الواقع التجريبي، والمهم أنه لكي تتجاوز العلوم الإنسانية تخلفها النسبي على الطريق العلمي، عليها أن تضع نصب أعينها هدفا محددا، وهو الوصول إلى تفسيرات أعلى وأكفأ مما هو متاح لها الآن. وكما أوضحنا آنفا، التفسير العلمي في كل حال يتخذ دائما الشكل أو النموذج الاستنباطي، وصحيح أن الرياضيات أكمل وأوضح أشكال الاستنباط، إلا أنها ليست الشكل الوحيد، والاستنباط قد يكون منطقيا، وعلى درجة مقبولة من الضبط والكفاءة. المهم أن يكون ثمة المقدمة الاستنباطية (قوانين عامة وشروط مبدئية) لنستنبط منها نتائج. الغاية هي التفسير الذي هو استنباطي وليس من الضروري أن ينصب في اللغة الرياضية، إذا ما أبدت طبيعة الظواهر الإنسانية بصفة عامة، وفي هذه المرحلة من تاريخ العلم بصفة خاصة، استعصاءها على هذه اللغة. مرة أخرى وأخيرة، التفسير هو الغاية والرياضة مجرد وسيلة يمكن طرحها جانبا، كما هو حادث في الجيولوجيا والعلوم الحيوية مثلا. والحق أن التفسير لا يعدو أن يكون المصطلح الخاص بالاستدلال العلمي، فهو مجموعة القضايا التي يلزم عنها، وبالضرورة القضية المراد تفسيرها.
43
والتفسير في العلوم الطبيعية والإنسانية على السواء، إنما هو الإحاطة بالظاهرة، والتمكن منها. فإذا سار بشكل سليم يمكن أن يتضمن توجيهها، فيما يعرف بالتقانة (التكنولوجيا أو فعالية العلم) التي قد تتضمن بدورها التغيير. «فمثلا إذا أخذ التفسير في اعتباره العوامل التاريخية وتطور المجتمعات، فإن معنى ذلك هو كشف التغيير والتطور والأزمات التي هي جزء من الظواهر الاجتماعية التي ندرسها.»
44
وإذا تذكرنا العلاقة بين التفسير والتنبؤ - وكلاهما استنباط - التي أشرنا إليها في الفصل السابق من البحث فسوف نجد كلود ليفي شتراوس - رائد الإنثروبولوجيا البنيوية التي هي محاولة جادة للوصول إلى مبدأ للتفسير - يرى أن العلوم الاجتماعية أو الإنسانية - وهو يؤكد أن المصطلحين مترادفان - تقع وظيفتها في منتصف الطريق بين التفسير والتنبؤ، ويذهب إلى أن «الإشكالية أو الصعوبة في هذه العلوم تأتي من أن مختلف أنساق تلك العلوم لا تقع على نفس المستوى من الناحية المنطقية ، كما أن المستويات التي ترتبط بها متعددة ومعقدة. وكثيرا ما تكون تعريفاتها غير دقيقة.»
45
وهذا بالطبع يمثل معوقات للمرحلة التفسيرية.
وهومانز بعد تأكيده أن الصعوبات المحيطة بالعلوم الإنسانية تقع في التفسير دونا عن الوصف - الكشف بمصطلحاته - يختم محاضراته في طبيعة العلوم الإنسانية أو الاجتماعية بأن العمل العلمي لن ينجز فيها إلا حينما تؤخذ الوظيفة التفسيرية بجدية، و«إن نفسر هو أن نحكم وننظم، فلنحاول - على أبسط الفروض - تفسير أكثر ملامح الحياة الاجتماعية شيوعا.»
46
نخلص من كل ما سبق إلى أنه بعد الاطمئنان إلى المرحلة الوصفية يغدو التفسير حدا ومعيارا لمدى تقدم العلوم الإنسانية؛ لقدرتها على الوقوف في استقلال عن العلوم الطبيعية، ثم تعاون الأنداد معها في أداء مهمة العلم الإخبارية بشأن مجمل ظواهر هذا الكون الفيزيائية والحيوية والإنسانية. وهذا يرتبط بقدرة العلوم الإنسانية على الاستفادة من العلوم الطبيعية، وإفادتها، واحتفاظها في الوقت نفسه بالنظرة الموضوعية المراعية للنوعية الخاصة لظواهرها، وسيرها على أسس ومبادئ منهجية. وبينما وجدنا التفسير في العلوم الطبيعية يطرد تقدمه لقيامه على قاعدة صلبة متماسكة تتمثل في اتفاق العلماء على تخوم واضحة، وداخلها قد يتلاقى الرأي والرأي الآخر تلاقي التكاتف والتآزر، فوجئنا بعكس ذلك في العلوم الإنسانية «حيث لا يزالون مختلفين حول موضوع الدراسة، وأيضا حول الموقف الذي يتخذونه بإزاي (أي المنهج). ولا شك أن إحدى المهام الخطيرة لفلسفة العلم هي حل تلك المشكلة والتقريب بين وجهات النظر المتباينة.»
47
السؤال الآن: كيف يتم هذا التقريب كوسيلة لتآزر الجهود وتكاملها في خوض غمار المرحلة التفسيرية عسيرة المراس خوضا أكثر اقتدارا ... أكثر إخبارا ... أكثر علمية؟
إن الإجابة عن هذا السؤال المحوري لدراستنا لا تتأتى إلا من خلال التقنين المنطقي الدقيق لمشكلة العلوم الإنسانية.
هوامش
الفصل الثالث
منطق مشكلة العلوم الإنسانية
سواء اتفقنا أو اختلفنا مع وجهة النظر المعروضة في الفصل السابق بتحديد التخلف النسبي للعلوم الإنسانية في تعثر مرحلتها التفسيرية، فلا نحسب أن ثمة اختلافا كبيرا يمكن أن يثار حول القضية المطروحة في هذا الفصل، والتي ترد إشكالية العلوم الإنسانية برمتها إلى افتقارها للتقنين المنطقي الدقيق. وليس يتعارض هذا مع ما سبق، بل يؤكده من حيث إن التفسير ذو منطق استنباطي أعقد من منطق الوصف، يحتاج إلى تقنين منطقي أدق، إذا ما أريد له أن يكون تفسيرا علميا بحق.
لقد قيل الكثير في حيثيات مشكلة العلوم الإنسانية، لتجول الصعوبات المحيقة بها بين عدة خصائص تتميز بها الظاهرة الإنسانية دونا عن الطبيعية: من قبيل صعوبة التكميم واستخدام ألفاظ كيفية، ومن ثم صعوبة صياغة قوانين دقيقة، وأن الباحث جزء لا يتجزأ من الظاهرة التي يبحثها، فلا بد أن يشعر تجاهها بميول وأهواء معينة، تفرضها الأيديولوجية السياسية والاجتماعية والبيئة الثقافية والبيئة الحضارية التي ينتمي إليها، فتؤدي به إلى إضفاء الإسقاطات التقييمية أو الأحكام على مادة بحثه، ما يناقض طبيعة العلم الذي يأبى تدخل عنصر القيمة المراوغ الفضفاض، وهو عنصر يصعب استئصاله من البحوث الإنسانية، فثمة قيم الباحث التي تؤثر على أحكامه، بل ومجرد رصده الوقائع، وثمة القيم الموجهة لموضوع البحث ذاته، هذا فضلا عن تعقد الظواهر الإنسانية والاجتماعية بصورة تجعلها - بخلاف الظواهر الطبيعية - «متعددة الملامح والأبعاد والخصائص، ما يصيب محاولات وصفها بالقصور الشديد».
1
ويمكن القول أيضا إنها بوصفها ظاهرة موضوعها الإنسان العاقل، فهي ثنائية النسق، فكما أن للإنسان جانبا جوانيا باطنا، وآخر برانيا ظاهرا فلا بد أن ينقسم البحث إلى قسمين أحدهما براني يتعلق بما يتبدى للحواس، والآخر جواني هو غرفة العمليات.
2
هذه الثنائية تميزها عن الظواهر الطبيعية، وتجعل التجريب لا يصلح لها. وفضلا عن الظواهر الطبيعية، وتجعل التجريب لا يصلح لها. وفضلا عن كل ذلك ثمة عامل الحرية الإنسانية، والكثيرون يقيمون الهوة بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية على أساس حرية الإنسان، دونا عن أي موضوع من موضوعات العلم في الاختيار، وتحديد المسير والمصير تحديدا يند عن سيطرة القوانين، إن لم ينقض فكرة القانون العلمي، ولعله يخضع للأغراض والغايات البعيدة في مقابل العلل الميكانيكية السابقة، «بالإضافة إلى أن التنبؤ لا يقع على غير الكليات الشاملة التي لا تصل إليها موضوعات العلوم الإنسانية.
3
والعلية لن تعود هنا موضوعية فحسب، بل أيضا شخصية؛ لأن موضوعات هذا العلم ليست مجردة، بل محسوسة حية وإنسانية بنوع خاص، كل هذه العوامل توضح الفارق الكبير بين موضوع العلوم الإنسانية وبين حدث كيميائي، أو كهربائي، أو حتى نظرية»،
4
في العلوم الطبيعية، وإليها يرجع الفارق الكبير بين درجة التقدم في الأولى ودرجته في الثانية. ولعل أشهر الصعوبات التي تختص بها العلوم الإنسانية هو ما يسمى بتفرد
Uniqueness
الظاهرة، ومحاولة التجريد والتعميم وإسقاط خصوصية الظاهرة، وتميزها قد ينطوي على تشويه لطبيعتها.
5
ويتصل بهذا ما يسمى بالتغيير السهل السريع للظواهر الإنسانية أو الاجتماعية.
6
وكل هذا «يجعل الاطراد في مجالها أقل ظهورا منه في الظواهر الطبيعية، ما يتعذر معه أن نعزل جانبا من جوانب البحث - كما نفعل في البحوث الطبيعية - عزلا يمكننا من تتبع ذلك العامل وحده في تكرار وقوعه، فإذا نحن اضطررنا إلى الاقتصار على مشاهدة الوقائع في حالة تركيبها دون تحليلها إلى عناصرها عنصرا عنصرا، وجدنا تلك الوقائع ذات طابع لا يحتمل لها أن تتكرر تكرارا يتيح لنا الفرصة أن نلحظ الاطراد فيها. فعالم الاجتماع مثلا لا يستطيع - كما يستطيع زميله العالم الطبيعي - أن يعيد الظاهرة التي هي موضوع بحثه، كلما أراد أن يخضعها للمشاهدة؛ لأن الظواهر الاجتماعية فريدة في نوعها، تجيء كل ظاهرة منها مرة واحدة، ثم تمضي فتصبح حادثة تاريخية لا يتكرر حدوثها»
7
كل هذه الفوارق بين العلوم الإنسانية والطبيعية
8
تثير الشك في إمكان وجود قوانين تحكم ظواهر العلوم الإنسانية؛ أي وجود تماثلات مختلفة في أوقات مختلفة، تستعمل كبينة على قوانين مطردة للجنس البشري في كل الأوقات، وتحت كل الظروف، وهذه التماثلات تفترض مسبقا وجهة نظر الباحث، بالإضافة إلى أن صياغتها في قانون تحتاج عددا كبيرا من المتغيرات، يبعد عن أن تكون دالة بسيطة كقوانين الطبيعة.
ويمكن أن نضيف إلى هذه العوامل ما يعرف بمعوقات البحوث الإنسانية، لا سيما في البلاد المتخلفة من قبيل ضعف التمويل نتيجة التشكيك في جدواها وحصائلها التطبيقية، مقارنة بالعلوم الطبيعية. والانبهار بالآلة عنوان التقدم، لحد اعتبار الدراسات الإنسانية ترفا يمكن - بل يجب - تأجيله! وانعدام التخطيط والتساوق بين هيئات البحث. وثمة نظام التعليم وإعداد كوادر الباحثين، الذي يركز على باحثي العلوم الطبيعية، ويخصهم بالقروض والمنح والبعثات والمراكز دونا عن باحثي العلوم الإنسانية، فتستأثر الأولى بالطلبة النابهين، وربما تعنينا بصفة خاصة أمثال هذه المعوقات؛ لأنها - كما ذكرنا - تتركز في الدول المتخلفة أو النامية، والواقع أن الموقف في قضية العلوم الإنسانية يماثل الموقف من قضية المرأة من حيث إنه يصلح مؤشرا شديد الدلالة على درجة نمو الوعي العام، ومن ثم درجة التقدم الحضاري، نظرا لمعامل الارتباط الثابت بين درجة الوعي ودرجة التقدم.
على أن تلك المعوقات تخرج عن نطاق فلسفة العلم، لعلها تندرج تحت سوسيولوجية المعرفة أو عواملها الاجتماعية. •••
ونعود إلى فلسفة العلم لنجد أن منهج الاختزال المنطقي شديد الفعالية فيها، وبواسطته يمكن اختزال كل حيثيات أو أسباب مشكلة العلوم الإنسانية في عاملين أساسيين تنفرد بهما عن العلوم الطبيعية، فيرتد إليهما تخلفها النسبي عنها: (1)
طبيعة العلاقة بين الباحث وموضوع بحثه. (2)
نوعية الظاهرة الإنسانية.
وخلاصة تفاعل العاملين معا ينجم عنه «افتقاد الإحكام في المشروع العلمي»
9
حين البحث في الظواهر الإنسانية. وهذا ما اصطلحنا على أنه افتقار العلوم الإنسانية إلى التقنين المنطقي (لا سيما في المرحلة التفسيرية).
العامل الأول المختص بطبيعة العلاقة بين الباحث وموضوع البحث يتعلق بمنطق العلم من حيث تحديد وإحكام البنية المنطقية لصوغ الفروض ومحكات قبولها، أو تعديلها، أو رفضها بموضوعية تنأى عن التحيز والهوى والإسقاطات اللاعلمية. العامل الثاني المختص بنوعية الظاهرة الإنسانية يتعلق بمنهج العلم الإخباري، أصوليات البحث التجريبي في تعامله مع الظاهرة. والمفروض أن دراستنا هذه تنصب على منطق العلم، فتحمل إمكانية درء العامل الأول، لكن التساوق المنطقي المنهجي يلزمنا بالعروج على منهج العلم ... منطق المنهج التجريبي في أكثر تطوراته حداثة التي تكشفت في ضوء ثورة العلم في مطالع القرن العشرين، ثورة النسبية والكوانتم.
وبالصورة المعاصرة لمنطق المنهج التجريبي سنلقى الطريق مفتوحا أمام إمكانية درء العامل الثاني. بهذا وذاك تتأتى إمكانيات حل مشكلة العلوم الإنسانية، على ضوء الخاصة المنطقية المميزة للعلوم الطبيعية وتساوقها
10
المنهجي. إن التحديد الدقيق لهذه الخاصة، وإيضاح مدى قدرتها على الإحاطة بمنطق النظرية العلمية الإخبارية، وما يستتبعها من فصل القول في إشكالية المنهج التجريبي، هذا من شأنه أن يرسم مشروعا واعدا، أو على الأقل يشق طريقا ممهدا لتحقيق الإحكام المتحقق في مباحث العلوم الطبيعية.
على أن الفصل بين عاملي المشكلة وأسلوبي معالجتها يكاد يكون مبدأ تنظيميا لهذه الدراسة فحسب، فهما في واقع الأمر أو واقع العلم ليسا منفصلين بهذه الحدة، وليس العامل الثاني في حد ذاته مقطوع الصلة بمنطق العلم. لو بدأنا منه؛ أي من نوعية الظاهرة الطبيعية الإنسانية، فسوف نلقى اختلافها وتميزها عن الظاهرة الطبيعية - أي تلك النوعية الخاصة - إنما تتمثل في أنها تختص بعنصر الوعي كثير المتغيرات، شديد التعقيد. وهذا في حد ذاته يمكنه أن يفضي بنا إلى قلب منطق العلم توا.
ذلك أنه تبعا لمنطق العلم - وليس تاريخ العلم - وعلى وجه التحديد تبعا لقاعدة العمومية
generality
المنطقية، ولا بد أن نسلم بالتقسيم أو التصنيف المبدئي للعلوم الإخبارية إلى ثلاث مجموعات كبرى، متدرجة منطقيا تبعا لدرجة عمومية موضوعها، وهي درجة تتناسب تناسبا عكسيا مع درجة تعقيده (أي تناسبا طرديا مع درجة البساطة). هذه المجموعات الثلاث - بالطبع بعد مجموعة أو نسق العلوم الصورية علوم المنطق والرياضيات - هي أولا مجموعة العلوم الطبيعية أو الفيزيوكيميائية، وثانيا مجموعة العلوم الحيوية أو البيولوجية. هاتان المجموعتان يمكن أن تندرجا معا في مجموعة علوم المادة - الجامدة والحية - وليقابلا معا المجموعة الثالثة وهي مجموعة العلوم الإنسانية.
تبعا لهذا نجد الفيزياء - وفي حوزتها الفلك - على قمة نسق العلم الإخباري، فموضوع الفيزياء مجرد المادة والطاقة في الزمان والمكان. هي إذن الأكثر عمومية، حتى إن موضوعات العلوم الأخرى زوايا في عالم الفيزياء، الذي هو إطار الكون ... مجمل عالم الظواهر، موضوع العلم أو العلوم الإخبارية. قوانين الفيزياء لهذا تنطبق على مجمل موضوعات العلم، فلا بد أن تسلم بمسلماتها كل فروع العلم الأخرى، ولكن العلم ينتقل إلى المجموعة الثانية، مجموعة العلوم الحيوية التي تدرس موضوعا أعقد من مجرد المادة. إنه المادة وقد أضيفت إليها القدرة على القيام بوظائف الحياة. فلا بد أن نضيف الفروض العلمية المختصة بظاهرة الحياة ووظائفها، ثم لكي يحيط العلم بالظواهر الإنسانية - وهي أعقد وأعقد - لن تكفي قوانين الفيزياء والبيولوجيا، وإن كانت بداهة تنطبق على الإنسان حين يسقط من عل وفقا لقانون سقوط الأجسام الفيزيائي، وحين تؤدي أعضاؤه وظائف الحياة وفقا لقوانين البيولوجيا، ومن أجل الإحاطة بالظواهر الإنسانية لا بد أن ينضاف إلى هذا وذاك قوانين، أو فروض، أو نظريات تتناول ظاهرة الوعي الجمعي بسائر تشكلاته وتمثلاته ونواتجه. ويمكن ملاحظة أن ذلك التدرج المنطقي للعلوم تبعا لمستوى تعقيد موضوعها يوازيه تدرج عكسي في مستوى تقدمها، ولعله أيضا تبرير منطقي لتدرج مستوى التقدم، فالفيزياء أكثر العلوم تقدما وموضوعها أبسط، والبيولوجيا درجة تقدمها أقل؛ لأن موضوعها أعقد، والعلوم الإنسانية درجة تقدمها أقل وأقل؛ لأن موضوعها أعقد وأعقد.
والجدير بالذكر الآن أن هذا التصنيف المبدئي مجرد قواعد منطقية صورية لنظام العلاقات النسقية بين فروع العلوم، ولا ينطوي البتة على ضرورة رد العلوم الإنسانية إلى الفيزياء البحتة أو سواها، ومن ثم فإن هذا التصنيف لا يستلزم إطلاقا فكرة العلم الواحد أو الموحد، إن رد العلوم إلى الفيزياء في بناء العلم الموحد هي فكرة مرتهنة بالإبستمولوجيا الكلاسيكية، إبستمولوجية الحتمية الميكانيكية، التي اتفقنا على أن هذا البحث يروم الخلاص، أو الانتقال الجذري منها إلى الإبستمولوجيا المعاصرة، إبستمولوجيا النسبية والكمومية. وفي الفصل السابع من هذا الكتاب سنفند بتفصيل وبراهين أوضح فكرة رد العلوم إلى الفيزياء في بناء العلم الموحد.
ونعود إلى موضوعنا الحالي، إلى ارتباط منطق العلم بنوعية الظاهرة الإنسانية المختصة بعنصر الوعي كثيرة المتغيرات التي تجعل ظواهر العلوم الإنسانية أكثر تعقيدا من ظواهر العلوم الطبيعية، وأيضا الحيوية، لنجد أنه ليس مجرد الدرجة الكمية للتعقيد في الموضوع تبريرا منطقيا كافيا ومحيطا لتخلف العلوم الإنسانية عن العلوم الطبيعية، بل إن اللافت حقا في العقد الأخير من السنين أن التعقيد
complexity
في حد ذاته، التعقيد عموما، وتعقيد الظواهر الإنسانية خصوصا، أجل ... عين ومحض التعقيد بأنظمته البنائية، وتفاعلاته الجدلية، وعلاقاته النفسية، ومتطلباته المنهجية قد أصبح موضوعا لعلم ناشئ حديثا، مبحث يتكاتف لتشييده علماء من تخصصات عديدة، لإرساء الأطر النظرية، وأساسيات الممارسات الإجرائية لهذا المبحث أو العلم الذي سيكون بحق درة من درر الإنجازات العلمية في القرن العشرين.
11
أما إذا كانت مجرد الدرجة الكمية للتعقيد هي ببساطة معامل الارتباط القياسي لدرجة التقدم العلمي للزم عن ذلك منطقيا أن بذل جهد أكثر كما، ومن قبل عدد أكبر من الباحثين، كفيل تماما كي تحرز العلوم الإنسانية درجة التقدم المنشودة، وتتجاوز مشكلتها. وليس هذا هو الأمر الواقع ولا المتوقع.
وتفسير هذا فيما أوضحناه في الفصل الأول من الكتاب، من أن اطراد التقدم العلمي ليس مجرد تراكم كمي رأسي، بل يعني تضاعف القوى المعرفية للنظريات في متوالية منطقية، وتبعا لمبدأ الطرح المنطقي يمكن ملاحظة أن هذا يطرح أيضا على موضوع العلم، ليصبح تعقيد الموضوع بدوره مسألة متوالية منطقية، وليس مجرد دالة كمية بسيطة. ومواجهة التعقيد بدورها لا بد أن تتم على هذا الوجه، وتغدو النسقية المنطقية هي الأسلوب القادر على الإحاطة الصورية بالموقف شديد التركيب والتعقيد، وتتبع تمثلاته ونواتجه: فالعلم - كل علم سواء طبيعيا أو إنسانيا - يتناسب ما يحرزه من اطراد التقدم مع درجة تقنينه المنطقي ونسقيته. ولئن كانت الفيزياء قد فاقت كل فروع العلم في درجة تقدمها، فذلك ببساطة؛ لأنها تفوق كل فروع العلم في درجة نسقيتها وتقنينها المنطقي، في مقابل العلوم الإنسانية التي أوجزنا منطق مشكلتها في «افتقاد المشروع العلمي للإحكام والتقنين المنطقي».
وقبل تحديد كيفية تحقيق هذا الإحكام المفتقد، لا بد قبلا من طرح السؤال: لماذا هذا الافتقاد؟ وسبيلنا الآن إلى الإجابة عنه. •••
تجرى العلوم الطبيعية في طرق حددت معالمها ممارسات عريقة وراسخة متفق عليها، فتسير عبر تخوم واضحة، وتصاغ قوانينها وفروضها ونظرياتها في حدود منطقية مقننة بدقة. فقدر لها - كما أوضحنا - أن يتوالى تقدمها وتتجاوز سرعة تقدم العلوم الإنسانية. وكان ذلك لعوامل متعددة أفضت إلى نسقيتها التامة، وهي عوامل تتبلور أخيرا في بساطة وحياد موضوعها، ومن ثم إمكانية انفصالها واستقلالها عن مختلف مجالات النشاط الإنساني الحضارية والروحية، فكان انتصارها على منافساتها من بني ثقافية أخرى أمرا ميسرا، وتمكنت من فرض ذاتها أو نسقها المحكوم بمنطقها «حكم ذاتي» يبلغ منتهى الشرعية والدستورية بما أوضحناه آنفا من منطق «تصحيح ذاتي». وأصبحت العلوم الطبيعية كيانا مستقلا تماما فلا تبعية، ولا وصاية، ولا اقتحام لقوى دخيلة على بناء العلم. إنه تحرر العلوم الطبيعية من الأوضاع أو المؤثرات الخارجية الذي بات جليا في عصرنا هذا. أما العلوم الإنسانية فيعود افتقارها لدرجة أعلى من التقنين المنطقي الدقيق إلى أنها لا تستطيع مثل هذا التحرر التام من مؤثرات خارجية دخيلة على العلم.
وابتغاء للدقة في هذه القضية المهمة لا بد وأن تميز بين نوعين من المؤثرات. النوع الأول هو المحددات الحضارية والثقافية التي تعبر عن مستوى وعي العصر، أو ما وصلت إليه المعرفة الإنسانية في مرحلة معينة.
والنوع الثاني هو المؤثرات التي تعبر عن تحيز حضاري أو ثقافي أو اجتماعي. فالنوع الأول شأنه شأن القصور العلمي في مجال جمع المعلومات، وتصنيفها وإجراء أنواع من الحسابات عليها، فهو مشروط مثلها بمرحلة معينة من تطور العقل البشري، ويتم التغلب عليها خلال الزمن بتراكم الجهد الإنساني. أما النوع الثاني فلا يؤدي اكتشافه إلى التخلص منه؛ لأنه يعبر عن مصالح.
12
مصالح أمة، أو نظام، أو طبقة، أو مصالح أقل عمومية من ذلك. قوة وفاعلية النوع الأول من المؤثرات - أي مستوى الوعي المعرفي في العصر - واضحة تماما على منطق العلم ومنهجه، وأيضا سوسيولوجيته. وقد ازدادت وضوحا في ضوء ثورتي الكوانتم والنسبية. إن هذا النوع من المؤثرات يحدد الأطر والآفاق المستهدفة في العلوم الطبيعية، وأيضا الإنسانية، ويذهب جوزيف مارجوليس «إلى أن هذا النوع من المؤثرات يبرر القول بأن العلوم الفيزيائية ذاتها هي مشاريع أو مغامرات. فإذا كانت تفترض على وجه الدقة وجود عالم فيزيقي مستقل، فإنها أولا وأخيرا تقبع داخل تساؤلات باحثين من البشر المثقلين بالإثقالات الثقافية».
13
ويقول مارجوليس إنه في هذا يأخذ برأي توماس كون في «بنية الثورات العلمية» بأننا يمكن أن نتساءل عن عالم مستقل، ولكننا لا يمكن أن نقيم طبيعته بوصفه مستقلا عن تساؤلاتنا.
14
والواقع أن هذا التصور ليس قصرا على كون ومارجوليس أو سواهما، بل هو عام في الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة، حتى يذهب جاستون باشلار إلى أن الذات في العلم ذات تاريخية. فتقدم العلم المتتالي الذي عرضنا له في الفصل الأول من الكتاب، وأوضحنا كيف أنه بصميم طبيعيته غير منته، ولن يتوقف أبدا، ذلك يعني - كما يقول فيرنر هيزنبرج - «أن بناء أو نظريات العلم في أي مرحلة ليست سوى حلقة من السلسلة اللامتناهية لحلقات الحوار بين الإنسان والطبيعة، ولم يعد من الممكن أن نتحدث ببساطة عن طبيعة بحد ذاتها. علوم الطبيعة إذن تفترض سلفا وجود الإنسان، وعلينا كما يقول بور
Bohr
أن نأخذ في الحسبان أننا لسنا المشاهدين، بل الممثلين في مسرح الحياة.»
15
وإذا كان عالم نيوتن تلك الآلة الميكانيكية التي تسير وفقا لقوانينها الذاتية، وبفعل عللها الداخلية في زمان ومكان مطلقين بإزاء أي مراقب في أي وضع كان، وبأي سرعة كانت، وكل ما عليه فقط أن يراقبه من وراء ستار إذا كان هذا هو عالم نيوتن، فإن عالم النسبية ليس هكذا البتة، ولا بد لنا من خلق أو على الأقل تحديد منظور وسرعة المراقبة. ولا تتأتى الملاحظة أصلا في العالم الكمومي - عالم الكوانتم - بغير فرض يفترضه العقل، ويستنبط منه وقائع الملاحظة.
16
وهكذا أصبحت فصول المسرحية العلمية تنبثق من قلب الواقع الإنساني بحدوده المعرفية، وأصبح العلماء - كما أشار بور - ليسوا فقط مراقبين، أو مشاهدين، بل هم أيضا الممثلون والمخرجون والمؤلفون؛ لذلك حق قول مارجوليس بأن العلوم الفيزيائية مغامرة. وطبعا العلوم الإنسانية هي الأخرى مغامرات أو مشاريع بهذا المعنى الذي ينطلق من قلب الحدود المعرفية للعصر المعين. فمن الواضح أن العالم التاريخي الاجتماعي للإنسان لا يمكن تأويله، أو مجرد فهمه فهما معقولا بوصفه منفصلا - ولو من حيث المبدأ - عن الأهليات والإمكانات الاستقصائية المتاحة في عصر معين،
17
أو ما أسميناه: مستوى الوعي المعرفي للعصر. إذن فهذا نوع من المؤثرات، ومن أي وجهة للنظر، مشترك بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية على السواء، والأهم أنه نوع لا خطورة منه، بل إنه يحمل البعد المقابل في جدلية التقدم العلمي المستمر.
ولكن الخطورة في النوع الثاني من المؤثرات المتمثل في ضغوط عناصر أخرى للبناء الحضاري تسفر عن تحيزات للمصالح ليس من بينها مصلحة البحث العلمي النازع للوصف والتفسير، أو الفهم والسيطرة. وهذا النوع هو فقط المقصود حين القول باطراد تقدم العلوم الطبيعية لتحررها منه. والآن في عصرنا هذا أصبح هذا النوع من المؤثرات الخارجية - التحيزات لمصالح - مختصا فقط بالعلوم الإنسانية مسببا مشكلتها وافتقادها لتقنين منطقي. ولسوف يعترض جوزيف مارجوليس على أن العلوم الإنسانية فقط تختص بهذه المؤثرات، فهو يتفانى ويتعمق في عرض طويل مسهب، وبلغة شديدة الحرص على الإغراب والتعقيد، ليثبت قضية محورية، مؤداها أن العلم نشاط إنساني. ومن ثم فكل العلوم - ومهما كان موضوعها فيزيقيا أو حيويا - إنما هي علوم إنسانية من حيث هي إنجاز فعلي للإنسان. وهي جميعا لا يمكن تعيين خصائصها تعيينا دقيقا بمعزل عن ملامح الثقافة الإنسانية، والخبرة، والاهتمامات الإنسانية.
18
وكل العلوم - أو بتعبير مارجوليس كل شعاب العلم - في هذا سواء، فلا تغدو الاهتمامات والاحتياجات وسائر العوامل الخارجية في البناء الثقافي والحضاري - مختصة بالعلوم الإنسانية دون الطبيعية، وأبسط ما يقال في الرد على مارجوليس هو أننا الآن معنيون بمنطق العلم لا سوسيولوجيته؛ لذلك لا نبحث في العلوم من حيث هي «إنجاز»، بل من حيث هي بناء منطقي ذو محتوى معرفي، ومضمون إخباري نرومه أكثر كفاءة. وهذه المؤثرات والتحيزات تنطوي على عناصر تصلب تشل أطراف المحتوى المعرفي للعلوم الإنسانية دونا عن الطبيعية.
إن المحتوى المعرفي للعلوم الطبيعية ينصب على ظواهر محايدة لخلوها من الوعي والإرادة، فيمكن للإطار الثقافي والسياق الحضاري - المؤثرات الخارجية أو الأوضاع الخارجية للعلم - أن ترفع يدها عنه تماما. وحين رفض الإطار الثقافي هذا - كما حدث حين فرضية مركزية الشمس لكوبرنيقوس أو فرضية التطور لدارون - انهزم السياق الثقافي تحت وطأة القوة المنطقية للنظرية العلمية. ودرجة التقدم التي تحرزها العلوم الطبيعية الآن، جعلتها تبلغ من العمر رشدا وتنال الاستقلالية الكاملة، وأجبرت كل حيثيات السياق الثقافي أن ترفع اليد تماما عن صميم محتواها المعرفي، وأصبح الآن لا يجرؤ على التدخل في صوغ فروضها أو عناصر نظرياتها، ويقتصر على التفاعل معها مع حصائلها التطبيقية أو تقانتها من الخارج، لتغدو الأوضاع «الخارجية» للعلم تتفاعل معه فقط من «الخارج» فلا يحدث أي اضطراب أو خلط منطقي.
أما بالنسبة للعلوم الإنسانية فالأمر يختلف. وافتقادها للإحكام المنطقي راجع أولا وقبل كل شيء إلى تشابك الإطار الثقافي - أي الأوضاع الخارجية - مع صميم المحتوى المعرفي للعلوم الإنسانية، حتى قيل: «إن الأوضاع الخارجية هي التي أملت على البحث في هذه العلوم اختيار القنوات التي يمكن أن تجرى فيها التصورات عن طريق التحكم في الإنسان وللمجتمع، وتتألف هذه الأوضاع الخارجية من القوى السياسية والاجتماعية إلى جانب البدائل الثقافية الأخرى كالأديان والتقاليد والعرف والفلسفات «وكلها معا تشكل الأيديولوجيات» وبيانات رجال السياسة والإصلاح. فهذه أو تلك تنطوي على تصور معين للإنسان والمجتمع، مثل أعلى تلتزم به مصالحها ويطابق آراءها».
19
وهذه البدائل التي تحظى بالرعاية والتوقير من جماهير الناس وأصحاب السلطان على السواء، جعلت البحوث في العلوم الإنسانية «تتخبط في شعاب متفرقة، وتتخفى فيها شراك الأيديولوجيات».
20
إن المنافسة القوية التي تلقاها العلوم الإنسانية في صلب حلبتها، وفي صميم قضاياها وتصوراتها للإنسان والمجتمع على الإجمال في منطوق محتواها المعرفي داخل بنية العلم، من قبل بدائل ثقافية أخرى تقع في نطاق الظروف الخارجية للعلم هو ما نجم عنه افتقادها للإحكام المنطقي.
ومن الجهة الأخرى يتضاعف هذا الافتقاد، حين نجد حدود العلوم الإنسانية - وطبعا دونا عن العلوم الطبيعية - إنما هي حدود مستباحة أيضا من قبل الحس المشترك
Common Sense ، أو الفهم الشائع؛ أي الموقف العادي للإنسان العادي. «يؤكد هذا ما نراه في حياتنا اليومية. فكلنا أقررنا بمشروعية العلم الاجتماعي أم أنكرناه، نصدر أحكامنا على ما يواجهنا من مواقف اجتماعية، بل نتطرف في أحكامنا إلى الحد الذي يجعلها مصبوبة فيما يسمى بالقوالب أو الأنماط الجامدة ، فنقسم البشر إلى أنماط أو أصناف تيسيرا للحكم عليهم، وتعجيلا باتخاذ قرارات سريعة بشأنهم؛ لأن ضغوط الحياة لا تسمح لنا بإهدار الوقت والجهد في الدراسة المتأنية، وحسبنا ما يتاح لنا من تلق مستتر نتلقاه من وسائل التنشئة والتربية والإعلام، فضلا عما تمليه علينا مصالحنا المباشرة، التي غالبا ما تتخفى في ثوب أنيق نسيجه المبادئ، والمثل العليا، والقيم الروحية.»
21
هكذا كانت مشاريع العلوم الإنسانية - أو بالأدق حدودها المنطقية - فريسة لتأثيرات عوامل ثقافية تتراوح بين قطبين أو قوسين، هما الأيديولوجية الحضارية المعينة كحد أقصى، والحس المشترك كحد أدنى، وعوامل أخرى تتدرج بين هذا وذاك. جميعها تقع خارج البنية المنطقية للعلم، ولها ثقلها الوبيل على المحتوى المعرفي داخله، فكان حصاد هذا أن قصرت الأساليب والطرائق عند كل فريق «عن استيعاب جوانب الظاهرة الإنسانية والاجتماعية»، فهي إما تميل إلى جانب من آخر، وإما لا تقبل التطبيق إلا عند من سلم أولا بالافتراضات الفلسفية، والالتزامات الأيديولوجية التي صادر بها أصحابها منذ البداية. بيد أننا نجد من وراء هذه الفروق الفلسفية والأيديولوجية ضروبا من الاتفاق المعلن أو المضمر، وهو ذلك الاتفاق حول مصادرات أو مسلمات العلم، مثل افتراض إمكان الفهم والتعميم.
22
هذا الاتفاق المبدئي هو الذي أقام المرحلة الوصفية، وذلك التنازع هو الذي يعوق النجاح المنشود للمرحلة التفسيرية. فذلك التنازع - وبسبب تدخل العوامل الخارجية وضغوطها - على وجه الدقة العامل الذي تسبب فيما أسلفنا الإشارة إليه من تناقض التفسيرات الإنسانية، مقابل تكامل التفسيرات الطبيعية.
إن تكامل التفسيرات الطبيعية يتمخض فعليا وإجرائيا في التساوق والتآزر الجميل، والخصيب المثمر، بين اتجاهات النظرية وممارسات التجريب، مثلا بين الفيزياء النظرية أو البحتة وبين الفيزياء التجريبية أو المعملية. الأولى ترسم للثانية خطاها وتحدد أطرها. والثانية تحمل اختبارات الأولى ومحكاتها وشواهدها، وأيضا مواطن كذبها، بل أحيانا ضرورة تعديلها، أو حتى الثورة عليها، وسرعان ما يستجيب منظرو الفيزياء أنفسهم، كما حدث مثلا حين أثبتت تجربة مكلسون مورلي كذب «الأثير»، وكان ضروريا للفيزياء النظرية الكلاسيكية. وعبر استجابات نظرية عديدة لنتائج هذه التجربة - كمحاولات فيتزجيرالد ولورنتز وسواهما - أتتنا في النهاية الاستجابة العظمى، ألا وهي نظرية النسبية، هكذا يتساوق التجريب والتنظير في الفيزياء، وفي العلوم الطبيعية عموما، فتتآزر الجهود، وتتسارع معدلات التقدم، ويهتف باشلار: «أي تفاهم ضمني يسود الحاضرة الطبيعيانية.»
23
وبالمثل تماما، نجد تناقض التفسيرات الإنسانية يرتد فعليا وإجرائيا في الانفلاق الذي تشهده العلوم الإنسانية بين اتجاهات التنظير واتجاهات التجريب، ما يسهم في تباطؤ معدلات التقدم، والجدير بالذكر ها هنا أنه في الثلث الأول من القرن العشرين ساد علم الاجتماع، بتأثير من المدرسة الأمريكية، خصوصا مدرسة شيكاغو، انكباب محموم على التجريب، وعزوف تام عن التنظير؛ لأنه يذكر الاجتماعيين بالمرحلة قبل العلمية حين كانت المباحث الاجتماعية مشاكل فلسفية. طبعا سرعان ما أثبتت التجريبية المحضة عقمها وقصورها، وربما كانت سيادة البنيوية في المرحلة التالية من مسار علم الاجتماع في القرن العشرين، بمثابة رد فعل عكسي لهذا. وسادت البنيوية أمريكا وأوروبا، وارتفع لواؤها في البحوث العربية أيضا، وكما هو معروف تعتمد البنيوية التجريد غير الرياضي إلى أقصى حد ممكن في بحثها الدءوب عن الهيكل الثابت. والمحصلة لكل هذا أن تزايد في الآونة الأخيرة إحساس الباحثين بالبون الذي أخذ يتسع بين التنظير والتجريب، بحيث أصبحنا «نرى العلوم الاجتماعية صنفين في منهجياتها إما تجريبا مفرطا، وإما تلاصقا مع الواقع، أو بالأحرى فإن الاتجاهين يمثلان قطبين يتمركز حولهما عديد البحوث حسب الاهتمامات، والأغراض المتبعة، والمدارس الفكرية. ومما لا شك فيه أن البحوث الاجتماعية تنفلق حسب هذين التوجيهين الكبيرين: توجه نحو مزيد من البحوث الميدانية، وتوجه نحو تكثيف البحوث البنيوية».
24
وبالطبع الحال عينه في علم الاقتصاد، وأيضا في علم النفس؛ حيث يبز السلوكيون جميع باحثي العلوم الإنسانية في انكبابهم على التجريب وعزوفهم التام عن التنظيرات، بل حتى عن مناقشة النظرية السلوكية ذاتها! ربما كرد فعل عكسي لما كان من إفراط التحليليين المضجر بشأن الصروح النظرية الشاهقة والسحيقة التي ابتدعها خيال فرويد، وأصر على إقحامها في دهاليز ودياجير مفترضة للنفس الإنسانية. «مرة أخرى نشير إلى علم النفس المعرفي كوسط ذهبي يحمل إمكانية تقدمية بتدارك هذا الانفلاق.»
إن افتقاد التآزر المنطقي السليم بين اتجاهات التنظير واتجاهات التجريب لهو - في آن واحد - علة ومعلول لاضطراب الحدود المنطقية للعلوم الإنسانية، وهو في النهاية تمثل من تمثلات منطق مشكلتها، وحلها ينطوي على تدارك لهذا؛ لأنه شرط ضروري لمعدلات التقدم المنشود؛ ولأنه لا تفسير علميا بغير تنظير ملتحم بالتجريب. فغني عن الذكر أنه لا علم إخباريا أصلا بغير التجريب. أما النظرية فهي البوصلة الموجهة والعقل الهادي الضروري للم شتات المباحث الإمبريقية، لتوجهها وترسم إطارها، بل وترسم خطتها أصلا، فتحدد الوقائع المطلوب ملاحظتها، وبغير النظرية الكفء تغدو النتائج الإمبريقية هشيما يذروه الرياح، لا يعني شيئا، ولا يفضي إلى شيء، خصوصا إذا يممنا الأبصار صوب الهدف التفسيري بنجاح ملموس. إن النظرية الكفء بمثابة التتويج النهائي للمشروع العلمي، وبتعبير مجازي يمكن القول إن البحوث التجريبية والإمبريقية هي جسد العلم، والنظرية هي روحه، وكفاءة الممارسات والإنجازات العلمية تنطوي على كفاءة التوازن والتآزر بينهما، وهذا يعتمد على محكات علمية قوية - سنحاول طرحها - تحدد تخوم الطريق في متصل تقدمي صاعد صوب الهدف العلمي، وهو سيطرة العقل على الظاهرة موضوع البحث، ودائما نهدف إلى أن يكون هذا أعلى من المطروح في وقتنا، ليطرد التقدم العلمي.
الخلاصة أن تناقض التفسيرات في العلوم الإنسانية، ومعها قصور الممارسات سواء تطرفت في التنظير، أو أفرطت في التجريب ترتد إلى تأثيرات العوامل الخارجية المذكورة التي تجعل المشروع العلمي ليس نقيا خالصا، ليس علميا تماما، بل يمتزج ويتشابك مع أمور كثيرة غير علمية. والأرض التي يتأسس عليها المشروع العلمي الإنساني لم تمهد بما يكفي؛ إذ لم تحدد تخومها بدقة منطقية.
إن مهمة العلوم الإنسانية هي دراسة كل نشاط إنساني في كل مجال يزاوله الفرد أو الجماعة في الفكر والعمل، دراسة إخبارية؛ أي تهدف إلى الوصف والتفسير، ومن ثم التنبؤ والتحكم، تماما كما تهدف العلوم الطبيعية. ومع هذا فكما قيل بحق: «لا ريب أنها تختلف عن العلوم الطبيعية؛ لأن موضوعها العام هو «الإنسان في المجتمع إزاء العالم» فهي بذلك لا تستطيع أن تعتصم بعزلتها بحجة التخصص العلمي الدقيق، ولا بد أن تجد نفسها منخرطة في صميم الواقع الإنساني الاجتماعي، غير أن هذا يوجهه الالتزام العلمي بقدر ما كان يسيره نفوذ عناصر أخرى خارج العلم، وبذلك جاءت أنساقها مفتوحة الطرفين تدلف من قمتها الفلسفات أو الأيديولوجيا أو التقويمات، وتتسرب من قاعدتها التعميمات التجريبية دون أن تؤسس رصيدا متفقا عليه من الفروض المتحققة.»
25
ومن أوضح هذه التمثيلات على هذا هو النظرية في علم الاجتماع الذي يتميز بطبيعة خاصة، فهو يتعامل مع النسق الاجتماعي - نسق الأوضاع الإنسانية - حيث تتفاعل شتى الجوانب ككل متكامل، وكل علم من العلوم الإنسانية ينفرد ببحث جانب معين من جوانب هذا النسق أو النشاط. إن علم الاجتماع أكثر العلوم الإنسانية عمومية، شأن الفيزياء البحتة في علوم الطبيعة الجامدة والحية، وفي نسق العلم ككل. إنه - أي الاجتماع - الإطار المنطقي الضام لشتى مباحث العلوم الإنسانية، ونظرا لاتساع المدى المنطقي لعلم الاجتماع كانت النظرية الاجتماعية أكثر من سواها من نظريات فروع العلوم الإنسانية نهبا مستباحا للمؤثرات الثقافية الخارجية، بحيث أصبحت في حقيقتها خليطا يجمع بين الأيديولوجيا وبين الفلسفة والقيم الحضارية، بل والأهداف المعيارية وتصورات الحياة اليومية، وأحكام الحس المشترك، وبغير أن يصب هذا في إطار أو قالب منطقي مقنن؛ لذلك لا نجد نظرية اجتماعية علمية بالمعنى الدقيق، وقد أوضحنا هذا حين توقفنا لمناقشة النظرية الوظيفية، وأشرنا إلى سليلاتها، وحاولت السوسيومترية تدارك هذا بالإفراط في التجريب، أو معالجة الخطأ بالخطأ المضاد.
النظريات الاجتماعية المطروحة لا تتحقق فيها السمة العلمية الدقيقة الفعالة؛ لأنها ليست نظريات علمية بالمعنى المنطقي. النظرية العلمية ينبغي أن تشكل نسقا محددا يقوم على مجموعة من المفاهيم والقضايا التي تربط بين المفاهيم، بحيث تتخذ النظرية دورا استنباطيا، شكلا يعتمد طائفة من التعريفات والمصادرات المفضية إلى فروض جزئية حسب قواعد منطقية تفضي إلى تعميمات، بشرط أن تكون التعميمات الناتجة قابلة للاختبار التجريبي، أو التحقق الواقعي. أما النظرية أو النظريات الاجتماعية في وضعها الراهن فتفوق الجميع من حيث كونها نسقا مفتوحا من قمته وقاعدته على السواء، من قمتها تتسلل التقويمات، ومن قاعدتها تتسلل التعميمات الإمبريقية، خصوصا حين الإفراط في التجريب كالسويسوميترية. وهذا لأن الأيديولوجيا تخص النظرية الاجتماعية بالذات لاتساع مداها المنطقي بتوجهاتها أو بتشويهاتها إن لم تستأثر بها، وكانت السوسيوميترية رد فعل عكسيا لهذا، ومعها بالطبع الاتجاه السوسيولوجي الإمبيريقي الذي ساد في أمريكا ردحا من الزمن.
والحق أن كارل ماركس - والكثيرون يرونه المؤسس الحقيقي لعلم الاجتماع، علم الاجتماع الديناميكي مقابل علم الاجتماع الوضعي السكوني الزائف - هو أول من لفت الأنظار إلى «التشويه الأيديولوجي» عموما ولعلم الاجتماع خصوصا، موضحا أن الأيديولوجيا هي نقيضة العلم، ويرى الفيلسوف الفرنسي المعاصر بول ريكور
أن ماركس استعار «التشويه الأيديولوجي» من نابليون. «فالأيديولوجيا» مصطلح نبت ونما في فرنسا، مع دي تراسي الذي استحدثه عام 1797م ليبشر بأسس نظام سياسي اجتماعي جديد يقوم على العلم بدلا من كل ترهات الماضي، ثم خرج المصطلح عن ارتباطه المزعوم والزائف بالعلم، على يد كوندياك. و«الأيديولوجيون» أصلا هم الذين ورثوا في فرنسا فكر كوندياك، واعتبروا الأيديولوجيا دراسة تحليلية للأفكار التي يكونها العقل البشري عن الأشياء، غير أن نابليون اتهم هؤلاء الأيديولوجيين المسالمين اتهامات كثيرة، واعتبرهم خطرا على النظام الاجتماعي، وهو بذلك أول من أعطى الأيديولوجيا دلالة سلبية قدحية. فيقول بول ريكور: «لا شك أنه خلف كل هجوم أو رفض للأيديولوجيا يختفي نابليون معين.»
26
والواقع أننا لا نهاجم الأيديولوجيا، ولا نعطيها دلالة سلبية قدحية، ولا دلالة إيجابية تقريظية، فإذا كانت الأيديولوجيا مجموعة الأفكار المبدئية العامة لكل جماعة معينة بشأن أصولها وأهدافها ومعاييرها ومصالحها الحضارية، فلا شك أن الأيديولوجيا إذن مقوم جوهري للمجتمع أو الجماعة، ولا يتأتى وجود القومية الواعي دون أيديولوجيا، بل يمكن أن نسير مع الإنثربولوجيين ونقول إن أي جماعة - مهما كانت بدائية - لها أيديولوجيا تقدمية، إن الأيديولوجيا تقوم بأدوار حضارية مهمة، ولكن ليس من بينها الدور المنوط بمنطق العلم، وحين تقتحم الأيديولوجيا مسار البحث العلمي، فلا بد أن ينتابه اعتوار يحول بينه وبين تحقيق أدق وأفضل لهدف العلم الإخباري، ووصف وتفسير ما هو كائن.
ونعود إلى ماركس - أول من رفع لواء التشويه الأيديولوجي - وسواء أكان نابليون يختفي فيه كما يرى ريكور أو لا يختفي، فإن الذي يهمنا الآن أن مبدأ فلسفة ماركس «المادية» يعني أن الحياة الواقعية للإنسان تسبق مبدئيا تمثلاته الذهنية، قد انعكس هذا في تناول ماركس لمسألة «التشويه الأيديولوجي»، بمعنى أنه بدأ بالتشويه الأيديولوجي للواقع، ثم ارتفع إلى التشويه الأيديولوجي للعلم. ففي عام 1844 أخرج ماركس الشاب كتابه الشهير «الأيديولوجيا الألمانية» حيث استفاد من أبحاث لودفيج فيورباخ في كتابه «ماهية الديانة المسيحية» ليوضح كيف تشوه الأيديولوجيا الواقع بأن تعكسه في وعي زائف. والحق أن مفهوم ماركس نفسه آنذاك عن الأيديولوجيا هو الذي كان شائعا. فقد كانت الأيديولوجيا عند ماركس في تلك المرحلة المبكرة تقوم على أن «الخيال الإنساني هو مجرد انعكاس لحياة الإنسان الواقعية ولممارساته، ذلك الانعكاس هو الأيديولوجيا بالتحديد. وهكذا تصبح الأيديولوجيا هي العملية العاملة التي بواسطتها تعمل التمثلات الخيالية للإنسان على تشويه حياته الواقعية وممارساته الفعلية، ويمكن أن نلاحظ مباشرة كيف ترتبط المهمة الثورية بنظرية الأيديولوجيا عند ماركس، فإذا كانت الأيديولوجيا مجرد صورة مشوهة، أو قلب، أو تزييف للحياة الواقعية، فإن المهمة الثورية ستعمل على إعادة الأمور إلى نصابها».
27
هكذا بدا التشويه الأيديولوجي منصبا على الواقع، وداخل هذه المرحلة المبكرة من الفكر الماركسي «مرحلة الأيديولوجيا الألمانية» لم يتم بعد معارضة الأيديولوجيا مع العلم، ما دام هذا العلم المزعوم لن يظهر إلا مع كتاب «رأس المال»،
28
ومن ثم لم يوجه ماركس الأنظار إلى التعارض بين العلم والأيديولوجيا إلا في مرحلة متأخرة مع مراحل تطوره الفكري، وهي المرحلة التي ظهر فيها «رأس المال».
ها هنا لفت ماركس الانتباه إلى أن مصالح الأيديولوجيا البرجوازية تشوه علم الاجتماع الوضعي الناشئ حديثا، والواقع أن أوجست كونت نفسه اعترف بأنه أسس هذا العلم مدفوعا بتمزق المجتمع بين صراعات التقدميين والمحافظين، ليغدو هذا العلم ليس فقط ضرورة معرفية، بل أيضا مطلبا أيديولوجيا؛ إذ إننا ندرس لكي نضبط، وقوانين المجتمع هي الوسيلة الوحيدة لخلق التوافق والانسجام بين قوى التقدم الثائرة وبين النظام الاجتماعي، فنتمكن من الحفاظ أو الإبقاء على الوضع القائم محققين مصالح البرجوازية، لعل ماركس إذن مصيب في هذا، ومصيب أيضا في تأكيده على أن علم الاقتصاد البرجوازي - هو الآخر - يحوي جوانب علمية وجوانب أخرى أيديولوجية، وبطبيعة الحال «استبعد ماركس العلوم الطبيعية من الأيديولوجيا أو من احتوائها على تشويه أيديولوجي، واعتبرها مثال الدقة والضبط والموضوعية (تبعا لما أوضحناه من مادية تعني أسبقية الحياة الواقعية على التمثلات الذهنية) رأى ماركس أن الإنسان لا يستطيع أن يحل في فكره التناقضات التي لا يستطيع حلها في الواقع، ومن ثم فإن دور العلم هو كشف التشويه الأيديولوجي.»
أما القضاء عليه فمرهون بتغيير الواقع.
29
والمشكلة أن ماركس بعد أن قطع كل هذا الشوط عاد ليعالج الخطأ بالخطأ المضاد، فكل ما فعله هو تأسيس علم اجتماع - وأيضا اقتصاد - ليس متحررا من التشويه الأيديولوجي، بل بالعكس أكثر انصياعا للمصالح الأيديولوجية، لكن البروليتارية. وربما كانت حجته أو ذريعته في هذا أنه يهدف إلى مرحلة علمية تكون نهاية الأيديولوجيا بظهور المجتمع اللاطبقي «أو بتحقيق المصالح البروليتارية في دوران منطقي واضح سيؤدي إلى نتائج عكسية كما سنوضح الآن.»
إذ يمكن القول إن لينين
V. I. Lenin (1870-1924) عمل على تدارك هذا بأن أعطى الأيديولوجيا مفهوما يختلف عن مفهوم ماركس لها، فبينما أعطاها ماركس معنى ودورا معرفيا، فإن لينين اعتبر الأيديولوجيا هي مجموع أشكال المعرفة والنظريات التي تنتجها طبقة معينة للتعبير عن مصالحها، ومن ثم يغدو ثمت أيديولوجيا بروليتارية، كما أن ثمت أيديولوجيا برجوازية، وبذلك ارتبطت الأيديولوجيا بالطبقة بصرف النظر عن تقييمها المعرفي، وأصبحت تعيينا للوعي الطبقي، وبعد أن كانت الأيديولوجيا نقيضة العلم فقدت هذا المعنى الماركسي النقدي، وأصبح من الممكن مع لينين التحدث عن أيديولوجيا علمية، وأخرى غير علمية، وطبعا الأيديولوجيا «العلمية» عند لينين هي البروليتارية! فأصبح العلم فريسة للأيديولوجيا أكثر من أي وقت مضى - مهما كان برجوازيا - واستأثرت الأيديولوجيا اليسارية بتشويهها علم الاقتصاد بالذات لتتسرب إلى خلاياه، وهو من أوثق العلوم الإنسانية ارتباطا بالرياضات، والنمذجة الرياضية، والإحصاء الرياضي خصوصا في علم الاقتصاد التحليلي، وعلم الاقتصاد الرياضي، ولم تنج من هذا الفيزياء ذاتها، هكذا لفت ماركس الانتباه لمسألة التشويه الأيديولوجي، ولكن بدلا من أن تعمل الماركسية - أي الاشتراكية العلمية - من بعده على تلافي هذا التشويه راحت ترسخه، وتستغله لتحقيق مصالحها لا مصالح البحث العلمي، وسيظل تغني الماركسيين الزاعق بالعلم البرجوازي والعلم البروليتاري «وأيضا الفن البرجوازي والفن البروليتاري» من أوضح الأمثلة على قوى التشويه الأيديولوجي، وحين تتعاظم حتى تصبح تبريرا وتسويغا للمشروع العلمي ذاته، أو لممارسة النشاط العلمي أصلا، أو بتعبير بول ريكور بعد أن كانت الأيديولوجية تزييفية أصبحت تبريرية، وقد لامس ماركس نفسه هذا المعنى الثاني للأيديولوجيا؛ حيث أعلن أن أيديولوجية الطبقة السائدة تتحول دائما إلى أفكار سائدة بفعل سطوتها وقدرتها على تقديم ذاتها كأفكار كونية شمولية
30
فيسهل عليها التسلل إلى معاقل العلم.
ومع هذا استمر الفكر الماركسي في إغفاله خطورة التشويه الأيديولوجي للعلم وفي استغلاله. وأكد جورج لوكاتش
G. Lukace (1885-1971) أن الأيديولوجيا هي الوعي الطبقي، ومن ثم لكل طبقة أيديولوجيتها، كما سبق أن أعلن لينين، بينما رفض أنطونيو جرامشي
A. Gramscis (1891-1937) الانفصال الأيديولوجي بين طبقات المجتمع، وجعل الأيديولوجيا هي جملة الأفكار التي تحرك مجتمعا بأسره وليس طبقة معينة، واستعان في هذا بفكرة الهيمنة أو السيطرة التي أشار إليها ماركس بأن الطبقة السائدة تفرض أيديولوجيتها، «وأيضا الدولة السائدة سياسيا واقتصاديا تفرض أيديولوجيتها على المجتمع الدولي العالمي، أو على قطاع منه يمتد إليه نفوذها»، ولكن لأن هذه توهن من مقولة الصراع الطبقي، ولعناصر أخرى في فلسفة جرامشي - التي تعد من أسبق المعالم التجديدية للماركسية - اتهم جرامشي بتهمة المراجعية أي إعلاء الولاء للماركسية للتسلل إلى صفوف الطبقة العاملة من أجل إشاعة التشكيك في المبادئ الماركسية والعمل على تقويضها.
31
وفي عام 1926 اعتقل موسوليني جرامشي، وظل في السجن حيث كتب مؤلفاته الضخمة حتى وفاته في ريعان العمر شهيدا من شهداء الإخلاص الحقيقي للماركسية.
ولكن الماركسية أو الاشتراكية العلمية عادت لتعين من جديد تضاد العلم والأيديولوجيا وخطورتها عليه، وذلك مع الماركسي الفرنسي والبنيوي الثائر لويس ألتوسير، الذي اختلف مع لينين ولوكاتش وجرامشي في تأكيده أن العلم نقيض الأيديولوجيا، واختلف أيضا مع ماركس بإضافة أن المعرفة تبدأ بالأيديولوجيا، ولكن يتعين التخليص منها، وإحلال العلم محلها فيما أسماه بالانقطاع المعرفي، واستفاد التوسير من البنيوية في تخطيط لهيكل الماركسية الثابت، ووضعها بين الأيديولوجيا والعلم، أو تحديد جوانبها الأيديولوجية وجوانبها العلمية، لتتخلص من الأولى وتبقى علما، وكانت محاولته للخلاص من تشويهات الأيديولوجيا للعلم دءوبة حتى ذهب إلى ما وراء، أو ما قبل الماركسية، وأيضا وضعية كونت، وراح يوضح كيف أن مونتسكيو وروسو قد أعاقهما أنهما ظلا ضحية لأيديولوجيا الطبقة والعصر، ولولاها لتمكنا من إحراز مشروع العلم السياسي بنجاح أكبر.
32
إن الماركسية التي فطنت إلى قوى التشويه الأيديولوجي، ثم وقعت أسيرة لها استنامت لسلطانها، وعادت من جديد يراودها الأمل في المشروع العلمي حقا، ويبدو أملا عسيرا لوطأة الأيديولوجيا الماركسية. نقول إن الماركسية بهذا تعطينا مثالا شديد الدلالة فقط مثال، فليس هذا التشويه قصرا على الماركسية، بل هو - وربما بصورة أشد - كامن فعال من قبل الأيديولوجيات الشتى، لا سيما إذا كانت لمجتمع مغلق بتعبير كارل بوبر، ويعطينا ريكور عرضا ثاقبا لكيفية تسرب أي أيديولوجيا، وفقط من حيث هي أيديولوجيا إلى معاقل العلم، وعبر مراحلها الثلاث من تشويه إلى تبرير إلى إدماج، أوضحنا كيف أصبح في عصرنا هذا إدماج بنسق العلوم الإنسانية دونا عن الطبيعية، يقول بول ريكور:
لننطلق من المثال المتعلق بتخليد المجموعة الإنسانية لأحداث تعتبرها مؤسسة لوجودها الخاص، فاستمرار شعلة الأصول وعظمتها يظل أمرا صعبا جدا؛ ولذلك كثيرا ما يتمازج - ومنذ البداية - مع كل من التواطؤ الجماعي، وتكرير الطقوس الاحتفالية والتمثيل المبسط والمعمم، وكأن الأيديولوجيا لا تحافظ على قوتها المحركة إلا حينما تتحول إلى وسيلة لتبرير السلطة التي تمكن المجموعة الإنسانية من التعبير عن ذاتها وتأكيدها - كفرد كبير على الساحة العالمية - وهذا ما نلاحظه فعلا من خلال الكيفية التي عبرها يتحول تخليد الحدث الجماعي بسهولة كبيرة جدا إلى برهنة متكررة دائما، وذات شكل واحد تقريبا، بواسطة تخليدنا الجماعي هذا نثبت للآخرين أن وجودنا بالطريقة التي نوجد عليها فعلا أمر جيد ومقبول، وهكذا تستمر الأيديولوجيا في فسادها واختلالها، خصوصا حينما نأخذ بعين الاعتبار التبسيط المبالغ فيه، والتمثيل المضخم اللذين بواسطتهما تمتد عملية الإدماج داخل عملية تبرير السلطة، وشيئا فشيئا تصبح الأيديولوجيا شبكة لقراءة سطحية وسلطوية لا لطريقة حياة الجماعة الإنسانية فقط، بل أيضا للموقع الذي تحتله في تاريخ العالم، إلى أن تتحول إلى نظرة عامة للعالم
Vision du Monde ، وهي إذ تصل إلى هذا المستوى العام تصبح عبارة عن قانون ثابت أو شفرة رمزية شمولية يتم بواسطتها تفسير كل أحداث العالم، وهكذا يزداد توسع الوظيفة التبريرية للأيديولوجيا تدريجيا إلى أن تتسرب إلى الأخلاق الاجتماعية وإلى الدين، بل وتلحق حتى العلم.
33
ويبقى كارل مانهايم
K. Mnheim
في كتابه الشهير «الأيديولوجيا واليوتوبيا» - وله ترجمة عربية - من أقدر من استطاعوا تجسيد الفارق بين العلوم الطبيعية والإنسانية بأن المحتوى المعرفي في الأولى يتحرر تماما من الأيديولوجيا التي هي مجمل الأفكار والآراء والنظريات والقيم التي تعبر عن جماعة معينة في إطار تاريخي معين، وهي بهذا نظرة شاملة؛ أي مضادة للنظرة العلمية. •••
وهي مضادة للنظرة العلمية من أكثر من وجهة، فإذا كان المنهج العلمي يقف على العامل المشترك بين الذوات أجمعين، نجد «الأيديولوجيا تؤدي إلى تباين شديد في الآراء، وتجعل نفس الموضوع يراه الناس بطرق مختلفة جدا»،
34
حتى «يمكن اعتبار عدم الثقة والشك اللذين يبديهما الناس تجاه خصومهم في كل مكان، وكل مراحل التطور التاريخي السلف المباشر لفكرة الأيديولوجيا.»
35
وثمة أيضا علاقتها بالطوباوية (التفكير اليوتوبي). والحالة الذهنية تكون طوباوية أو يوتوبية حين تتعارض مع الأمر الواقع الذي تحدث فيه،
36
بينما العلم ينصب على الواقع، ويتساوق معه. والحق أنه لا يمكن الفصل في الفكر الإنساني بين العنصرين الأيديولوجي واليوتوبي (الطوباوي)، إنهما يتولدان معا، وعادة ما تمتزج أيديولوجيات الطبقات الصاعدة بيوتوبياها.
وقد عرض مانهايم بشيء من التفصيل لطوباويات أو يوتوبيات التيارات الأيديولوجية الرئيسية، بطبيعة الحال فقط في مسار الفكر الأوروبي.
37
فكان الشكل الأول للعقلية اليوتوبية هو العقيدة الألفية ذات الطقوس الدينية الصاخبة، والشكل الثاني هو ليبرالية الطبقة البرجوازية الصاعدة ، وكانت يوتوبياها هي فكرة الحرية، والشكل الثالث مع يوتوبيا المثل الأعلى المحافظ، الذي يقبل البيئة كما هي، وكأنها النظام المناسب للعالم، ولا يتحرك إلا لصد هجوم الطبقات التي تريد تغيير الوضع القائم، وتقدم الاشتراكية الشيوعية الشكل الرابع للعقلية اليوتوبية، والهجوم عليها يأتي من المصادر الثلاثة السابقة، وأخطرها الليبرالية، وفي الوضع المعاصر تنزل اليوتوبيا بالتدريج نحو الواقع، فتخضع لكثير من التغيرات في الوظيفة والمضمون؛ ولأن مانهايم يقر استحالة الوصول - في الوقت الراهن على الأقل - إلى الحقيقة بصورة مستقلة عن المعاني الاجتماعية والتاريخية، فقد عمل على توضيح دور الأيديولوجيا واليوتوبيا في العلوم الإنسانية، «وإذا كان مقياس الأهمية العلمية لأي مفهوم هو قدرته التفسيرية، فإن الأيديولوجيا واليوتوبيا من المفاهيم المهمة في تفسير الظواهر النفسية والاجتماعية والتاريخية.»
38
فهما وسيلتان لتجنب المزالق الفكرية؛ أي يلزماننا بأن نختبر كل فكرة بدرجة تطابقها مع الواقع، وبأن السعي للخلاص من التزييف والتمويه الأيديولوجي والطوباوي، وهو في نهاية المطاف السعي للوصول إلى الحقيقة.
39 •••
بعد هذا العرض المنطقي، وأيضا التمثيل والتوضيح السريع لمشكلة العلوم الإنسانية في صراعها مع القوى الهائلة لضغوط أو تأثيرات أو تحيزات الأيديولوجيا، يتوجب علينا أن نضع المشكلة بحيث تسير نحو الحل، ولا ندعها طريقا مسدودا لا يفضي إلى اتفاق بين الباحثين أو تكامل لجهودهم، بل يغدو هذا الوضع تحديا علينا أن نواجهه باحثين عن الأسس والمعايير التي نميز بمقتضاها بين ما هو علمي وما هو أيديولوجي، وافتقاد هذه المعايير وغيابها لا يخدم أيا من النظرية العلمية أو الأيديولوجيا على السواء، فلكل منهما أهميته وضرورته، لكنهما رغم ذلك أمران مختلفان،
40
وهذا هو عينه ضرورة تحديد تخوم واضحة لمشاريع العلوم الإنسانية.
وسوف نصل أيضا إلى هذا الطريق نفسه لو سرنا من الوجه الآخر للعملة، أو للمشكلة المقابل لتسرب أو تدخل الأيديولوجيا، وهو تدخل الحس المشترك.
فلا شك أن الطبيعة النوعية لموضوعات العلوم الإنسانية - ولعلم الاجتماع بالذات - تفتح الباب لتدخل الحس المشترك، حتى يذهب ميردال إلى أن العلم الاجتماعي لا يعدو أن يكون حسا مشتركا على درجة رفيعة من الصقل والإحكام، ومن ثم يشارك العلماء الاجتماعيون سائر الناس في تصوراتهم عن الواقع، ويفرق ميردال بين نمطين من التصورات هما الاعتقادات
beliefs
والتقويمات. ويمتزج النمطان في آراء
Opinions
الناس ومنهم العلماء، رغم اختلاف الفحوى المنطقية لكل منهما. فالنمط الأول - أي الاعتقادات: عقلي عرفاني، النمط الثاني - أي التقويمات: انفعالي لا إرادي.
41
وعمق هذا التداخل بين العلم وبين الحس المشترك يبرز هو الآخر مدى الاحتياج لمحك يفصل بحسم بين ما هو علمي، وما هو لا علمي. ومن أي زاوية «يجب أن نميز في قضايا العلوم الإنسانية بين ما يخص العلم، وما يخص غيره.»
42
والخلاصة أننا ننتهي الآن إلى أن الطريق نحو حل مشكلة العلوم الإنسانية يتطلب التمييز بين ما هو علمي يتعلق بالمحتوى المعرفي، وما هو لا علمي يتعلق بأيديولوجيا، أو فلسفة، أو تقويم، أو إسقاطات، أو رأي شائع ... على ألا يتم التمييز بطريقة مباشرة؛ أي ليس بالوعي والتصريح بما هو غير علمي، بل بجعله عاجزا عن التدخل المباشر في القضية العلمية، ولن يكون ذلك إلا بصياغة قضايا العلوم الإنسانية على النحو الذي لا يجعل الحكم عليها معتمدا على مقاييس الأيديولوجيا، أو الفلسفة، أو سواهما، ومعنى هذا أن تطوع القضية العلمية في بحوث العلوم الإنسانية لشروط صياغة الفرض العلمي الذي يقبل المواجهة مع الواقع، من حيث المبدأ، وكل ما لا يقبل هذا التطويع يظل خارج المحتوى العلمي، حتى يجد طريقه فيما بعد لهذا التطويع، وهنا يمكن أن نبدأ الطريق نحو حل مشكلة العلوم الإنسانية.
43
وحين تحديد صياغة الفرض العلمي ومعيار التمييز بين ما هو علمي وما هو غير علمي، لا مندوحة البتة عن الالتجاء إلى الخاصة المنطقية للعلوم الطبيعية التي هي عينها معيارها المميز إياها، فالنجاح اللافت للعلوم الطبيعية المتسارعة التقدم في أداء مهمة العلم الإخبارية في الوصف والتفسير - وفضلا عنهما السيطرة والتحكم والتنبؤ - قد بلغ درجة أصبحت تعني أن خاصيتها المنطقية هي التمثيل العيني لشروط الفرض العلمي كيما يتكفل بتلك المهام المنوطة بأي علم إخباري. ولما كانت الخاصة منطقية، فإنها تحدد طريق أو أسس التآزر المتحقق في العلوم الطبيعية، والمنشود في العلوم الإنسانية. إنها على الإجمال، أو على حد تعبير باشلار: تعطينا المثال الثقافي الذي يجب أن يتأكد في جميع مباحث الفكر العلمي؛ حيث لا عقلية في الفراغ، ولا تجريبية مفككة. هاتان هما الفرضيتان الفلسفيتان في الطبيعيات المعاصرة.
44
والواقع أن الخاصة المنطقية للعلوم الطبيعية لا تعدو أن تكون الصياغة أو الصك المنطقي الدقيق لتساوق جهود العلماء؛ ولهذا التآزر الحميم الملتزم المسئول بين العقل والممارسة المعملية، أو بين التنظير والتجريب.
فما هي هذه الخاصة وعلى وجه التحديد المنطقي الدقيق؟
هوامش
الفصل الرابع
الخاصة المنطقية المميزة للعلوم الطبيعية
تكاد تتفق الأطراف المعينة على أن كارل بوبر من أهم فلاسفة العلوم الطبيعية والمنطقي الميثودولوجي الأول في النصف الثاني من القرن العشرين.
1
والعالم المتحدث بالإنجليزية يسلم بهذا؛ حيث تحظى أعمال بوبر باهتمام كبير، وانتشار واسع، مثلما تنتشر في كل الأرجاء المعنية بالعلم وفلاسفته، من إيطاليا وألمانيا وإنجلترا حتى الولايات المتحدة، وإذا كانت أعمالا أقل انتشارا في فرنسا، فإن «إدكار فور في طريقه إلى تأسيس مركز للدراسات البوبرية فيها».
2
ولعله أسسه فعلا. ويعود هذا الاهتمام بفلسفة بوبر إلى أنه أقدر من استوعب وتمثلا ومثل أحدث التطورات للعلوم الطبيعية، فتحمل فلسفته التجديدية الثرية العميقة أكمل وأنضج نظرية للعلم، عرفت حقا كيف تبلور روحه، فتضع الأصبع على شد ما يفجر الطاقة التقدمية للعلوم.
ولما كان بوبر أساسا رجل منطق، كانت نظريته في منطق العلم آية في الدقة والرصانة والصرامة الأكاديمية، ومع هذا عرفت كيف تنساب في تيار الحياة العلمية الجارية والبحث العلمي الدافق. فنجد العلماء التجريبيين الحاصلين على جائزة نوبل، أمثال سير بيتر مدور
وسيرجون أكسلس وجاكس موند
J. Monod
يؤكدون أنهم وصلوا إلى إنجازاتهم العلمية الباهرة بفضل تعاليم بوبر المنهجية والاسترشاد بفلسفته للعلوم، وكانت نصيحة أكسلس للعلماء الآخرين هي أن يقرءوا ويتأملوا كتابات بوبر عن فلسفة العلوم، وأن يتخذوا منها أساسا للعمل في حياة الفرد العلمية.
3
لم يتبن هذا الرأي العلماء التجريبيون فقط، فعالم الفلك البحت والرياضي الشهير سير هرمان بوندي
H. Bondi
قال: «ببساطة ليس العلم شيئا أكثر من منهجه، وليس منهجه شيئا أكثر مما قاله بوبر، أثر بوبر إذا امتد ليشمل كلا من العلماء التجريبيين وعلماء العلوم البحتة.»
4
وحصافة فلسفة بوبر للعلوم الطبيعية تأتت بفعل عوامل عديدة، أهمها أن نقطة بدئها كانت ما ينبغي أن يمثل الأساس المكين لفلسفة العلم المنطقية، ولنسق العلم بأسره، ألا وهو تحديد المعيار المنطقي الفاصل بين ما هو علمي، وما هو لا علمي، أي تحديد الخاصة المنطقية المميزة للقضية العلمية، دونا عن أي قضية أخرى تركيبية تتخذ الشكل المنطقي «أ هو ب» وهي لا تحمل خبرا حقيقيا، ولا تقوم بمهام العلوم الإخبارية. يقول بوبر: «بدأ عملي في فلسفة العلم منذ خريف 1919، حينما كان أول صراع لي مع المشكلة، متى تصنف النظرية على أنها علمية؟ أو هل هناك معيار يحدد الطبيعة أو المنزلة العلمية لنظرية ما؟ لم تكن المسألة التي أقلقتني آنذاك متى تكون النظرية صادقة؟ ولا متى تكون مقبولة؟ كانت مشكلتي شيئا مخالفا؛ إذ أردت أن أميز بين العلم والعلم الزائف
وأنا على تمام الإدراك أن العلم يخطئ كثيرا، وأن العلم الزائف قد يحدث أن تزل قدمه فوق الحقيقة.»
5
فتوصل بوبر إلى أن معيار القابلية للتكذيب
Criterion Falsifiability
هو ما يميز العلم دونا عن أي نشاط عقلي آخر، فالخضوع المستمر للاختبار، وإمكانية التفنيد بالأدلة التجريبية هي الخاصة المنطقية المميزة للقضية العلمية دونا عن أي قضية تركيبية أخرى، عبارات العلم التجريبي - أي العلم الذي يعطينا محتوى معرفيا، ومضمونا إخباريا، وقوة تفسيرية شارحة، وطاقة تنبؤية عن العالم الواقعي الواحد والوحيد الذي نحيا فيه، هي فقط التي يمكن إثبات كذبها؛ لأنها تتحدث عن الواقع الذي يمكن الرجوع إليه ومقارنتها به؛ لذلك فهي في موقف حرج حساس، فنجد نظرية بوبر في «منهج العلم» تؤكد مطلب الجرأة، فالجرأة هي فقط التي تمكن من اقتحام المجهول، واكتشاف الجديد، الحقيقة ليست ظاهرة، بل تكمن خلف ما يبدو لنا من العالم، وما يفعله العالم العظيم هو أن يخمن بجرأة، ويحدس بإقدام كيف تكون هذه الحقائق الداخلية الخفية، ويمكن أن تقاس درجة الجرأة بقياس مدى البعد بين العالم البادي وبين الحقيقة المفترضة حدسا، أرسطارخوس وكبرنيقوس عالمان عظيمان؛ لأنهما افترضا أن الشمس هي مركز الكون في حين أن المظهر البادي يقول إنها قابعة في سماء الأرض، غير أن ثمة نوعا آخر من الجرأة لا يتعمق، بل هو متعلق بالمظاهر البادية: إنه جرأة التنبؤ، جرأة المواجهة المسبقة المسئولة مع الواقع، هذا النوع من الجرأة هو الأهم، وهو ما يميز الفرض العلمي بالذات، الفرض الميتافيزيقي يمكن أن يحقق الجرأة بالمعنى الأول، يمكن أن يحدس الحقيقة الكامنة التي لا تبدو للعيان، لكن لا يمكن أن يحقق الجرأة بالمعنى الثاني، لا يمكن للفرض الميتافيزيقي الخروج بمشتقات أو التنبؤ بوقائع تجريبية تحدث أمامنا في العالم التجريبي، وقابلة للملاحظة، إنه لو فعل هذا لتعرض لمخاطرة كبيرة، مخاطرة الاختبار والتفنيد، ومن ثم إمكانية التكذيب، مخاطرة التصادم مع الخبرة، إنها مخاطرة لا يقوى عليها إلا العلم؛ لذلك نكتشف كل يوم أخطاء بعض من نظرياته، فنتركها ونصل إلى الأفضل، فبفضل إمكانية التكذيب كان العلم التجريبي هو البحث المطرد التقدم، فإمكانية تكذيب العبارات العلمية هي قابليتها الشديدة للنقد والمراجعة؛ لأن تترك وتحل محلها عبارات أفضل. من هنا كان رفضنا فيما سبق لنظرية التراكم في تفسير طبيعة التقدم العلمي، والأخذ بالنظرية المضادة لها؛ أي الثورية. ومن هنا أيضا رأى بوبر أن تكون الجرأة من النوع الثاني، والبعد المنهجي الذي يقابلها؛ أي الاستعداد للبحث عن الاختبارات والتفنيدات هي ما يميز العلم التجريبي - البعد المنطقي والبعد المنهجي هما وجها عملة التكذيب الواحدة - حيث إن القابلية للتكذيب هي ذاتها القابلية للاختبار
Testability ، الاختبار التجريبي بالطبع.
والقابلية للاختبار قد ترتبط بالقابلية للتحقيق
Verifiability ، ولكن الخاصة المنطقية المميزة للعبارة وللنظرية العلمية هي إمكانية التكذيب؛ أي التفنيد والنفي، وليس مجرد التحقيق، مثلا العبارة «السماء ستمطر غدا» عبارة علمية؛ لأنها قابلة للاختبار التجريبي بمجيء الغد، وقد تمطر السماء؛ أي قد نتحقق منها، ولكن ليس هذا هو المناط في علميتها، بل المناط في إمكانية ألا تمطر السماء غدا. إمكانية تكذيبها وهي إمكانية قائمة خاصة منطقية لها، وبالبحث عن التكذيب، وليس التحقيق يمكن استبعاد عبارات مثل «غدا قد تمطر السماء أو لا تمطر»، وهي واجبة الاستبعاد؛ لأنها لا تعطينا محتوى إخباريا، فهي تحصيل حاصل من الصورة المنطقية (ق 7 ق)؛ أي (إما ق أو لا ق).
وحينما يأتي الغد فأيا كانت الخبرة الحسية فسوف نتحقق منها، ولكن تكذيبها مستحيل، فنستطيع الحكم بأنها لا علمية، هكذا يمكننا معيار القابلية للتكذيب من استبعاد تحصيلات الحاصل المتنكرة في هيئة إخبارية، وهي واضحة متجلية في الفروض الميتافيزيقية الموغلة في غياهب العقل الخالص، وأيضا في الفكر الثيولوجي، وهما نمطان من التفكير غير قابلين للتكذيب. لا أصلا ولا فروعا، ولا مطلوب منهما هذا، فهما ليسا علما.
وبالطبع ثمة فارق بين القابلية للتكذيب وبين التكذيب، وليست تعني الخاصة المنطقية التثبت بالفعل من كذب كل عبارة علمية وتفنيدها، كلا بالطبع، فهذه كارثة محققة، وإلا فما هو علمنا اليوم؟ إنه نسق العبارات القابلة للتكذيب من حيث المبدأ، من حيث القوة بمصطلحات أرسطو أن نتثبت من أن إمكانية التكذيب قائمة في النظرية، لا أن النظرية كاذبة بالفعل، إن القابلية للتكذيب مجرد معيار يحدد الخاصة المنطقية للنظرية العلمية، أما التكذيب فهو حكم عليها، تقييم نهائي لها، رفض، ومن ثم تجاوزها، وإحراز خطوة تقدمية أبعد، قابلة بدورها للتكذيب، ويتم تكذيبها يوما ما بفرض أبعد قابل للتكذيب ... وهلم جرا في مسيرة العلم المطردة التقدم.
ولما كانت القابلية للتكذيب هي ذاتها القابلية للاختبار كانت محاولة تكذيب النظرية هي ذاتها اختبار النظرية، وهذا الاختبار يفضي إما إلى التكذيب، وإما إلى التعزيز
Corroboration
على النحو التالي:
التكذيب:
نحكم به على النظرية إذا لم تكن نتيجة الاختبار في صالحها، أي إذا تناقضت النتائج المستنبطة منها مع الوقائع التجريبية؛ لأن تكذيب النتائج تكذيب للنظرية ذاتها، فتستبعد من نسق العلم، رغم أنها علمية، لكننا وضعنا الأصبع على موطن خطأ أو كذب، فيمكن تلافيه فيما سيحل محلها، فيكون أكثر اقترابا من الصدق، وأغزر في المحتوى المعرفي، وفي القوة التفسيرية ... لذلك فكل تكذيب ظفر علمي جديد، وليس خسارة كما يبدو للنظرة العابرة.
التعزيز:
وهو يتم إذا تجاوزت النظرية الاختبار، والتعزيز هو جواز مرور الفرض إلى النسق العلمي، المرور من اختبارات منهج العلم القاسية، وكلما كانت الاختبارات أقسى حازت النظرية التي تجتازها درجة تعزيز أعلى، وكانت أعظم؛ أي أغزر في المحتوى المعرفي، وأجرأ في القوى التفسيرية؛ لذلك يؤكد بوبر دائما على قوة الاختبارات حتى لا تستطيع النظرية أن تعزز وتعبر إلى نسق العلم بسهولة.
إن التعزيز هو النتيجة الإيجابية لكل ممارسة منهجية ناجحة، فالنجاح يعني التوصل إلى فرض جديد يحل المشكلة بكفاءة أعلى من سابقه، ويمكن التعبير عن هذا منطقيا كالآتي:
ء (ف1، ش ت) < ء (ف2، ش ت)
حيث إن (ف1) الفرض الموجود في الحصيلة المعرفية السابقة، و(ف2) الفرض الجديد الذي يناقشه، و(ء) درجة تعزيز الفرض في ضوء (ش)؛ أي المناقشة في الوقت الراهن (ت)، (<) أقل من، وهذه الصياغة تقنين منطقي لمسيرة العلم التقدمية من حيث إنها تبرير قبول (ف2) فنسق العلم سيحذف منه (ف1)، ويوضع بدلا منه (ف2)؛ لأنه أكثر تعزيزا ... أكثر تقدما. مفهوم التعزيز يشير إلى قوة الفرض الإبستمولوجية، ولا علاقة له البتة «بالاحتمالية» بالمعنى «الموضوعي» المسلم به في العلم المعاصر الذي يعني احتمالية حدوث الحدث، وتكراره أنطولوجيا وهو بالطبع المعنى الذي يعمل بوبر به دائما.
على أن التعبير عن درجة التعزيز التخصصية لفرض معين بالصيغة المنطقية المذكورة يبرز اختلافا ما بين بوبر وبين جمهرة من المناطقة المعاصرين؛ إذ توضح أن قياس تفاوت درجة التعزيز يعني مقارنة الفرض الجديد بسابقه المطروح في الحصيلة المعرفية، وبينما يرى دوهيم ومن بعده المنطقي الكبير كواين أن اللزومات المنطقية
Consequences ؛ أي النتائج المستنبطة التي تخضع للاختبار لا تخص الفرض الجديد وحده، بل تخص النسق المعرفي بأسره الذي انتمى إليه الفرض، يرفض بوبر هذه النظرية الكلية، ويرى أن اختبار الفرض على حدة، وبصورة منفصلة مسألة جوهرية لتقدم العلم، وقياس ما يضاف إليه حقيقة، وعلى الرغم من هذا الخلاف الكبير بين بوبر وكواين فإن كواين نفسه لم يملك إلا استصواب ما أسماه بالطبيعة النافية لنظرية بوبر المنهجية ، بمعنى أن البينة قد تفند الفرض، ولكن لا تؤيده بحال، أو تؤيده بمعنى سلبي ناف، هو غياب التفنيد.
6
ويرى كواين أن هذا المنحنى النافي يجب أن يكون أساس التعامل مع العلم؛ لأنه كفء لهذا، خصوصا إذا أخذنا في الاعتبار أنه لا يتعلق إلا بالعبارات الكلية، وهي صورة القانون العلمي. فبالطبع العبارات الجزئية (أ هي ب) لا يجدي التعامل معها بالمنهج النافي شيئا، وإذا انتقلنا من هذا الوجه المنطقي إلى الوجه الميثودولوجي (المنهجي) وجدنا أن مهمة التجربة هي تفنيد الفرضيات، لا تأييدها؛ لأن الفرضيات لا يمكن إثباتها، يمكن فقط عدم تفنيدها.
ويعلق عالم الإحصاء الروسي الكبير ناليموف على هذا بأن بوبر قد أضفى صبغة فلسفية منطقية على هذا القول المعروف لكل عالم إحصائي.
7
أما الذي يجعل القابلية للاختبار والتكذيب خاصة منطقية مميزة للقضية العلمية، ومعيارا قادرا على تمييز العلم التجريبي؛ فذلك لأنها ترسو على أسس تجريبية هي العبارات الأساسية
Basic Statements
وهي عبارات تجريبية مفردة لها الصورة المنطقية للعبارات الوجودية المحددة، أو بتعبير ألفرد تارسكي: القضايا ذات الطابع الوجودي
Existential Character
التي تقرر وجود أشياء معينة متصفة بصفة معينة، إن وجود شيء معين في زمان معين، ومكان معين يجعل العبارة تشير علانية لموضوع مادي يمكن ملاحظته، مما يجعل من الممكن مباشرة إقرار العبارة، أو إنكارها على أنها إما صادقة أو كاذبة، أما العبارات الوجودية غير المحددة مثل «هناك س في مكان ما من زمان ما»، فهي تبعا لمعيار القابلية للتكذيب ليست علما؛ ذلك لأنها لا يمكن أن تخبر بشيء ما، ما لم ننسب إليها الشروط التي تحددها؛ أي التي تجعلها وجودية محددة، ما دامت العبارة الأساسية لها صورة العبارة الوجودية المحددة، فهي إذن عبارة خصوصية
عن واقعة خصوصية.
وهذه العبارات تمثل عمود التكذيب الفقري ودماءه، وهي التي خولت له إمكاناته في منطق العلم التجريبي.
8
فلنفرض أننا فتتنا العالم التجريبي على طريقة برتراند راسل مثلا إلى أقصى درجة ممكنة، أي إلى عدد لا نهائي من الأحداث
Events
كل حدث واقع في آن معين من الزمان، ونقطة معينة من المكان، جماع هذه الأحداث هو العالم التجريبي، ولنضع لكل حدث جملة تنقله بتعبير راسل جملة ذرية، هذه الجمل الذرية وارتباطاتها معا هي فئة «العبارات الأساسية» إنها جميع العبارات الخصوصية الوجودية الممكن تصورها عن الواقع؛ لذلك ستحتوي الفئة على عبارات كثيرة ليس بينها تساوق أي توافق متبادل؛ إذ إنها تعبر عن كل الوقائع التجريبية الممكنة، أي التي قد تحدث، وقد لا تحدث.
ونظريات العلم الطبيعي، أي محاولات الكشف عن القوانين التي تحكم العالم التجريبي، هي محاولات رسم حدود وفواصل بين هذه العبارات الأساسية، حدود تحدد الممكن الذي سوف نلقاه في خبرتنا، وتمنع ما خارجها من الحدوث؛ لذلك يقول بوبر: «إن إمكانية التكذيب هي إمكانية الدخول في علاقات منطقية مع عبارات أساسية محتملة؛ أي من فئة كل العبارات الأساسية الممكنة، وإن هذا لهو المطلب الجوهري والمبدئي؛ لأنه متعلق بالصورة المنطقية للفرض.»
9
ويكون التعبير المنطقي عن القابلية للتكذيب كالآتي: تكون النظرية قابلة للتكذيب - أي علمية - إذا كانت تقسم فئة كل العبارات الأساسية المحتملة تقسيما واضحا إلى الفئتين اللافارغتين:
فئة كل العبارات الأساسية التي لا تتسق النظرية معها، أي التي تستبعدها وتمنعها، فإن حدثت أصبحت النظرية كاذبة، وهذه هي فئة المكذبات المحتملة
للنظرية.
فئة كل العبارات الأساسية التي تتسق النظرية معها ولا تناقضها، وهي العبارات التي تسمح بها النظرية.
الخطورة والتعويل في السمة العلمية على الفئة الأولى بحيث ننتهي إلى الآتي: تكون النظرية قابلة للتكذيب إذا كانت فئة مكذباتها المحتملة ليست فارغة، هكذا تتم عملية الكشف عن القابلية للتكذيب - أي التحقق من السمة العلمية - وتتم عملية التكذيب؛ أي التحقق من السمة العلمية، وتتم عملية التكذيب؛ أي إمكانية مواجهة القضايا بالواقع التجريبي، مواجهة تتم بناء على العبارات الأساسية.
بالنسبة للعبارات المفردة فإن إثبات كذبها - إذا كانت كاذبة - يمكن في التو واللحظة، وعلى الرغم من أن هذه العبارات أساس عملية التكذيب، فإنها ليست موضوع مشكلة التمييز بين العلم واللاعلم، فهذه مشكلة القضايا الكلية، صورة القوانين والنظريات، والطبيعة الكلية العمومية لقوانين ونظريات العلم تعني استحالة مواجهتها بالواقع التجريبي؛ لأنها تتحدث عن أفق لا نهائي، يستحيل حصره في فئة عبارات أساسية معينة في زمان ومكان معينين، يمكن إخضاع ما يضمانه لنطاق اختبار تجريبي، فكيف يمكن الكشف إذن عن كونها قابلة للتكذيب أو غير قابلة له؟ يمكن هذا عن طريق استنباط عبارات مفردة من النظرية، يسهل أن نواجهها بالوقائع، فيكون الاستدلال التكذيبي استدلالا استنباطا صرفا هابطا من الكليات إلى جزئيات، لكن مجرد استنباط عبارات مفردة من النظرية لا يعني أن النظرية علمية؛ إذ لكي نستنبط عبارات مفردة من النظريات - التي هي كلية - سنحتاج حتما إلى عبارات مفردة أخرى تمثل الشروط المبدئية لما يجب أن تخضع له متغيرات النظرية، وفي اختبار التكذيب تكون النظرية إحدى مقدمات الاستنباط، وبقية المقدمات عبارات مفردة أخرى تخدم - كشروط أساسية - لحدوث ما تخبر به النظرية، والذي سيكون نتيجة الاستنباط التي نقابلها بالوقائع التجريبية.
ولكن هل مجرد استنباط عبارات مفردة من النظرية بمساعدة عبارات مفردة أخرى هي عينها القابلية للتكذيب، أو إمكانية التكذيب التي تميز النظرية العلمية؟ بالطبع كلا! فأي عبارة لا تجريبية مثلا ميتافيزيقية، أو تحصيل حاصل يمكن استنباط عبارات مفردة أخرى منها، مثلا: (إذا كانت أ هي أ لكانت السماء ستمطر غدا، لكن أ هي أ إذن السماء ستمطر غدا)، وهي نتيجة تمثل عبارات أساسية، فهل يمكن أن نبحث عن إمكانية استنباط عبارات مفردة تخبر بشيء جديد لم تخبر به العبارات المفردة التي خدمت كشروط أساسية؟ هذه الإضافة سوف تستبعد تحصيلات الحاصل، لكن لن تستبعد العبارات الميتافيزيقية مثلا «كل حادث لا بد له من علة غائية، وقد حدث اليوم زلزال في أثينا، إذن زلزال أثينا له علة غائية» إنها أكثر من المقدمات، لكنها ليست عبارة تجريبية مفردة، ولكي نتجنب كل هذا، وتصبح القابلية للتكذيب معيارا يميز العلم بكفاءة، نضع مطلب القاعدة الآتية: «يجب أن تسمح النظرية بأن تستنبط منها عبارات تجريبية مفردة أكثر من العبارات التي يمكن استنباطها من العبارات التجريبية التي تمثل الشروط الأولية فقط»، فإذا سمحت النظرية بهذا أمكن مواجهة تلك العبارات المستنبطة بالوقائع التجريبية، الواقع الذي قد يكشف عن كذبها، أي إذا كانت النظرية قابلة للتكذيب فهي إذن علمية، هذه العبارات المستنبطة منها تمثل محتواها المعرفي الذي تخبرنا به عن العالم التجريبي.
10 •••
وكما يقول بوبر: «إن النظرية التي تقبل مخاطرة التفنيد، أي القابلة للتكذيب ستصف عالمنا المعين، عالم خبرتنا الوحيد، وستفرده عن فئة كلما العوامل الممكنة منطقيا، وبمنتهى الدقة المستطاعة للعلم».
11
كلما ازدادت النظرية في محتواها المعرفي، وفي عموميتها، وفي دقتها، عينت هذا العالم أكثر. إن إمكانية التصادم مع الواقع - أي القول بما قد لا يحدث في الواقع، فيكذب النظرية - هي التي تميز النظرية العلمية، إنها قدرتها على استبعاد، على منع بعض الحوادث المحتملة من الحدوث، وكلما منعت النظرية أكثر أخبرتنا أكثر، وعرضت نفسها لإمكانية انتهاكات أكثر، ومن ثم زادت قابليتها للتكذيب، مثلا أبسط عبارات العلم (الماء يغلي في درجة 100° مئوية) طبعا يمكن مواجهتها بالواقع، ويمكن - منطقيا - ألا يغلي الماء في هذه الدرجة، هي إذن قابلة للتكذيب، لكن نلاحظ أن العبارة تمنع حدوث غليان الماء في أي درجة مئوية أخرى، في 60 أو 80 ... وإذا أضفنا إليها تحديدا آخر وقلنا إن (الماء يغلي في درجة 100° في مستوى سطح البحر) كانت هذه العبارة تخبر أكثر؛ لأنها منعت أكثر. فقد منعت كل ما منعته سابقتها، بالإضافة إلى أنها منعت غليان الماء في 100° فوق سفح جبل أو في هوة سحيقة، أو في أي مكان ضغطه الجوي مختلف عن الضغط فوق سطح البحر، وإذا أضفنا إليها تحديدا آخر، وقلنا (في مستوى سطح البحر يغلي الماء في درجة 100° في الأوعية المكشوفة) كانت هذه العبارة تخبر أكثر؛ لأنها تمنع غليان الماء في هذه الدرجة عند سطح البحر في الأنابيب، أو في المراجل المغلقة، إنها تمنع الأكثر؛ ولهذا قابليتها للتكذيب أكثر.
هذا المثال يوضح كيف ترتبط القابلية للتكذيب بالمحتوى المعرفي ارتباطا مباشرا، يجعل العلاقة بينهما تناسبا طرديا، فمثلا تزيد عمومية
Universality
العبارة بزيادة المحتوى، النظرية الأكثر عمومية ذات محتوى معرفي يفوق محتوى النظرية، أو النظريات الأقل منها عمومية؛ إذ إنها تمنع ما منعته، بالإضافة إلى منع ما جعلها أعم؛ لذلك فهي أكثر قابلية للتكذيب، وهي أيضا أغزر في محتواها المعرفي؛ لأنها تضم محتوى العديد من العبارات التي تعممها، إن العبارة العلمية هي العبارة ذات المحتوى المعرفي الإخباري عن العالم التجريبي، وهي بهذا العبارة القابلة للتكذيب. «والفيزياء هي الأكثر قابلية للتكذيب؛ لأنها الأكثر عمومية.»
المحتوى المعرفي
Informative Content
للعبارة هو محتواها التجريبي ومحتواها المنطقي:
المحتوى التجريبي:
هو فئة المكذبات المحتملة للنظرية، أي العبارات الأساسية التي تستنبط من النظرية، وإن لم تحدث كذبتها، ولما كانت فئة المكذبات المحتملة - أي التي تجعل النظرية قابلة للتكذيب - هي ذاتها محتواها التجريبي، كان المعيار ببساطة يحتم - بل يعني - وجود محتوى تجريبي للنظرية، وماذا نريد من معيار العلم أكثر من هذا؟
المحتوى المنطقي:
كل نظرية علمية لها أيضا محتوى منطقي، ومفهوم القابلية للاشتقاق
Derivability
هو الذي يحدد المحتوى المنطقي؛ إذ إنه من فئة العبارات التي ليست تحصيل حاصل، والتي يمكن اشتقاقها من النظرية أو العبارة، أي فئة معقباتها
Consequences
أو لزوماتها المنطقية، ما يلزم عنها بالضرورة، على هذا تكون تحصيلات الحاصل فارغة بغير أي محتوى معرفي؛ لأن فئة مكذباتها المحتملة فارغة، وأيضا فئة لزوماتها المنطقية فارغة، أي أن محتواها التجريبي، ومحتواها المنطقي كلاهما فارغ، في حين أن جميع العبارات الأخرى التي ليست بتحصيل حاصل، حتى الكاذبة منها، لها محتوى منطقي غير فارغ، وحيثما ترتبط مقاييس المحتوى التجريبي لنظرية ومقاييس المحتوى التجريبي لنظرية أخرى، فلا بد وأن ترتبط أيضا مقاييس محتواهما المنطقي، بالتعبير الرمزي عن هذا نفترض أن لدينا النظريتين: ن1 ون2، ولنرمز للمحتوى التجريبي بالرمز (ت م) و(>) أكبر من، وكان لدينا الصياغة الآتية: (1) --- م ت (ن1) > م ت (ن2)
فلا بد أن تنطبق أيضا على محتواهما المنطقي، فإذا رمزنا له بالرمز (م ط) نصل إلى الصياغة الآتية: (2) --- م ط (ن1) > م ط (ن2)
وطبعا نفس المقاييس تنطبق على المحتوى المعرفي بصفة عامة.
وباق أن نضع في الاعتبار التناسب العكسي بين درجة غزارة المحتوى المعرفي التي تعني اتساع فئة المكذبات المحتملة وبين درجة الاحتمالية، احتمالية الصدق، احتمالية تكرار الحدث، المعنى «الموضوعي» للاحتمالية المأخوذ به في العلم المعاصر، وليس البتة المعنى المناقض الذي ساد الفيزياء الكلاسيكية، أي «الاحتمالية الذاتية» التي تعني درجة جهل الذات العارفة في وضعها للنظرية القاصرة مؤقتا لا بد من التخلي التام عن ذلك التفسير الذاتي البائد الاحتمال، لكي ندرك كيف تنطبق نفس مقاييس المحتوى أيضا على الاحتمالية - احتمالية حدوث الحدث - لكن بصورة عكسية، فالمحتوى المعرفي للربط بين العبارتين: أ و ب أعلى من، أو على الأقل مساو لمحتوى أي منهما، فإذا كانت (أ) هي «ستمطر السماء يوم الجمعة» و(ب) هي «سيكون الجو لطيفا يوم السبت» و(أ ب) هي «ستمطر السماء يوم الجمعة، ويكون الجو لطيفا يوم السبت» لكان محتوى (أ ب) التجريبي أكبر من المحتوى (أ) ومن محتوى (ب)، ومن ثم تكون احتمالية صدق أو حدوث (أ ب) أقل من احتمالية (ب)، ومن ثم نصل إلى: (3) --- م ت (أ) < م ت (أ ب) > م ت (ب)
ولما كان هذا معاكسا للقانون المناظر للاحتمالية، فإذا رمزنا للاحتمالية بالرمز (ح) نصل إلى: (4) --- ح (أ) > ح (أ ب) < ح (ب)
الصياغتان (3) و(4) تقيمان الدعوى التي تعد أحد المعالم الأساسية لمنطق التكذيب من حيث تجسيده خصائص العلم المعاصر، أي تزايد المحتوى المعرفي بتناقص احتمالية الصدق، وهذا المطلب الجريء الذي لا يتأتى إلا بالاستيعاب الكامل لتطورات العلم المعاصر وإبستمولوجيته، يقينا من النظريات السفسطائية الخاوية التي يمكن أن يتحقق صدقها بكل حدث يحدث؛ لأنها لا تقول شيئا، ولا تحمل أي خبر يمكنه تكذيبها إن لم يحدث، إنها يقين وفقا للاحتمال الذاتي، وصفر وفقا للاحتمال الموضوعي.
12
ويمكن ملاحظة أن فئة محتوى العبارات العلمية حقا، تتضمن فئتين فرعيتين لها، هما:
فئة محتوى الصدق
Truth Content
وهي كل القضايا الصادقة التي يمكن اشتقاقها من العبارة، وجميع العبارات التي ليست تحصيل حاصل - حتى العبارات الكاذبة - لها محتوى صدق؛ إذ من الممكن استنباط عبارة صادقة من أي عبارة كاذبة، مثلا عن طريق الدالة الانفصالية (ق أو ك) التي تتخذ الصورة المنطقية (إما ق أو ك )، فإذا كانت (ق) هي العبارة الكاذبة، يمكن أن نضيف إليها العبارة الصادقة (ك)، ونستنبط العبارة الصادقة (ق أو ك). ومثال آخر: إذا كان اليوم السبت، فإن العبارة «اليوم هو الأحد» عبارة كاذبة، ولكن يمكن أن نستنبط منها العبارة الصادقة «اليوم ليس الاثنين» و«اليوم ليس الثلاثاء» ... ولعل هذه هي الصورة المنطقية الدقيقة الحاسمة لتلك الحقيقة الميثودولوجية العامة المبهمة «والتي تعد عجيبة وطريفة في الوقت ذاته، ألا وهي أن الفرض قد يكون مثمرا جدا، دون أن يكون صحيحا، وهذا أمر لم يغب عن بال فرانسيس بيكون».
13
فئة محتوى الكذب
Falsity Content : وهي فئة كل القضايا الكاذبة التي يمكن اشتقاقها من العبارة. والحكم بتكذيب العبارة فعلا - وليس مجرد قابليتها للتكذيب - يعتمد على هذه الفئة، وإذا استطعنا أن نجعلها ليست فارغة فقد جعلنا النظرية مكذبة، وهي فئة محتوى ومضمون تبعا للارتباط بين مقاييس المحتوى المنطقي ومقاييس المحتوى التجريبي الذي هو فئة المكذبات المحتملة للنظرية، من الناحية المنطقية صحيح أن العبارة الصادقة محتوى كذبها فارغ، ولكن العبارة الكاذبة محتوى صدقها ليس فارغا تبعا لإمكانية استنباط عبارات صادقة منها، وهذا برهان آخر على مدى ثقوب النظرة التي تقف على أن القابلية للتكذيب، وليس التحقق من الصدق هي المعيار، والخاصة المنطقية المميزة للعلوم.
وقد ميز بوبر أيضا في المحتوى المنطقي، بين المحتوي المنطقي المطلق
Absolute
وبين المحتوى المنطقي النسبي
Relative . فإذا رمزنا لفئة المحتوى المنطقي للعبارة (أ) بالرمز (1) ولفئة المحتوى المنطقي للعبارة (م) الصادقة منطقيا - أي تحصيل الحاصل - بالرمز (م)، ستكون (م) طبعا فئة صفرية فارغة، ويكون التمييز بين فئتي المحتوى المطلق والنسبي كالآتي:
المحتوى المنطقي المطلق للعبارة (أ = 1، م) أي في حالة التسليم فقط بالمنطق، والمنطق قوانين صورية، كلها تحصيلات حاصل، لا تزيد شيئا، فئة فارغة؛ لذلك كان محتوى العبارة مطلقا.
لكن ثمة المحتوى المنطقي النسبي، وهو محتوى العبارة في حالة التسليم بمحتوى آخر، كمحتوى العبارة «أ» في حالة التسليم بمحتوى (ي ) مثلا أي بمساعدة (ي)، فيمكن أن نرمز إلى المحتوى المنطقي النسبي هكذا (أ = ا، ي)؛ أي هو فئة كل العبارات القابلة للاستنباط من (ا) فقط بالنسبة لحالة وجود (ي) أو بمساعدة (ي).
المحتوى النسبي له أهمية كبرى في المعالجة الفعلية لمنطق العلم، فإذا كانت (ي) هي الخلفية المعرفية - أي بناء العلم - ولنرمز له بالرمز (ع)، في الوقت الراهن، ولنرمز له بالرمز (ت)، أي أن (ع ت) بناء العلم اليوم، وكانت العبارة (أ) افتراضا مقترحا الآن، فإن ما يعنينا منه هو محتواه النسبي (ا، ع ت) وليس محتواه المطلق، فقط محتوى العبارة (أ) بالنسبة ل (ع) في الوقت (ت)، أي نهتم بالجزء من المحتوى الذي يتجاوز (ع ت) أي بناء علمنا اليوم، ويضيف إليه. ولما كانت المعالجة الفعلية تهتم أساسا بتقديم العلم كان المحتوى النسبي يصلح تماما، فمحتوى العبارة الصادقة منطقيا - أي تحصيل الحاصل - فارغ، من ثم يجعل المحتوى النسبي للعبارة (أ) بالنسبة ل (ع ت) صفرا، إذا كانت (أ) تحتوى فقط (ع ت) أي بناء علمنا اليوم، أو الحصيلة المعرفية الراهنة، ولم تضف أي جديد. هذا إذن محك جيد لاختبار الفروض الجديدة في العلم،
14
وبرهان آخر على مدى ثقوب التكذيب، والمؤسف أن التحقق أكثر شيوعا وذيوعا ربما للإسقاطات المحيقة بالتكذيب، أو الكذب الذي يمثل تماما ما ينبغي على العلم أن يتجنبه.
وبالطبع المنطق هو الوسيلة الناجعة للبرء من كل الإسقاطات، ومعيار التكذيب ينطوي سلفا على أن الصدق هو الغاية النهائية، والمبدأ التنظيمي لشتى الجهود العلمية، وقد تقدم بوبر بتصور منطقي جديد يكفل السير قدما نحو الاقتراب من الصدق أكثر وأكثر، ويجعلنا في مأمن من مغبة أي سمة سلبية قد ترتبط بالكذب والتكذيب، هذا التصور المنطقي هو رجحان الصدق
Verisimilitude
الذي يعني أن النظرية أصبحت أكثر مماثلة للصدق
More Turthlikeness ، وقد توصل إليه عن طريق الربط بين مفهومين هما: مفهوم الصدق، ومفهوم المحتوى المنطقي؛ إذ لا يعني رجحان الصدق إلا «المحتوى المنطقي الأكثر اقترابا من الصدق».
فالنظريات تتنافس في الاقتراب من الصدق، وكل إنجاز علمي هو توصل إلى نظرية جديدة تلافت مواطن كذب في سابقتها، فأصبحت أكثر منها اقترابا من الصدق ؛ ولهذا الاقتراب الأكثر قهرتها وتغلبت عليها، وأزاحتها من نسق العلم، وحلت محلها، من هنا تكون القابلية للتكذيب هي عماد الاقتراب التقديري الأكثر أو الأفضل من الصدق، الذي هو تعبير عن التقدم العلمي المستمر، هذا الاقتراب التقديري الأكثر من الصدق هو ما يسميه بوبر «رجحان الصدق»، ولما كان يعني تلافي مواطن كذب واقتراب من الصدق، كان - أي رجحان الصدق - يزيد بزيادة محتوى الصدق، ويتناقص بزيادة محتوى الكذب.
و«رجحان الصدق» مفهوم نسبي، يتعلق بالمناقشة العلمية المطروحة في الوقت المعين، والمنافسة بين الفروض وبعضها؛ لذلك فهو أساس للحكم بتفوق فرض على آخر، أو نظرية على أخرى، حين تتميز عليها برجحان صدقها، طبعا رجحان صدق النظرية (ن2) على النظرية (ن1) له شروط منطقية، وهي أن تكون (ن1) متضمنة في (ن2) التي تفوقت عليها، وإلا ما أمكنت المقارنة بينهما، وأن تقول (ن2) كل ما قالته (ن1)، ثم تتجاوزها فتفسر جميع الوقائع التي تفسرها (ن1)، ثم تستطيع أيضا أن تفسر بعض الوقائع التي تفشل (ن1) في تفسيرها، ومن ثم ستكون أي معلومة تفند (ن1) تفند أيضا (ن2)، فيكون الحكم بتفضيل (ن2) لا غبار عليه، وأخيرا يجب أن تكون العبارات الصادقة التي يمكن اشتقاقها من (ن2) أكثر من التي يمكن اشتقاقها من (ن1)، والعبارات الكاذبة أقل، وكل ذلك يعني أن (ن2) أجرأ وأغزر في المحتوى المعرفي، أي أكثر قابلية للتكذيب، هكذا يتضح لنا أن النظرية الأكثر قابلية للتكذيب، هي الأقل كذبا. •••
وليس «رجحان الصدق» فحسب، بل أيضا كل مفاهيم منطق التكذيب هي الأخرى نسبية، تتعلق بالمناقشة العلمية في الوقت الراهن، فيؤكد بوبر دائما أن «القابلية للتكذيب مسألة نسبية، مسألة درجات».
15
هكذا يتضح أن فكرة القابلية للتكذيب كخاصية منطقية مميزة للنظرية العلمية، كانت ستبدو حمقاء، بل وبلهاء، لو أنها قدمت قبل ثورة النسبية والكوانتم في عصر التفسير الميكانيكي للكون، والذي ألقى نجاحه المبدئي في روع العلماء أن كل ما يحتاجون إليه هو بذل مجهود أكثر لتظهر الحقيقة النهائية في آخر المطاف سافرة على آلة كاملة.
إنهم سائرون صوب الحقيقة النهائية؛ لذلك فكل إنجاز علمي ناجح هو اكتشاف لحقيقة يقينية قاطعة، كيف إذن تداني النظرية إمكانية التكذيب كي تكون علمية؟ وطبعا انهار كل هذا حين تبدى فشل التفسير الميكانيكي للكون، واتضح أن كل إنجاز علمي مجرد محاولة ناجحة، لكنها قابلة للتكذيب؛ لذلك تتلوها أخرى أكثر نجاحا، أولم ننته في الفصل الأول من الكتاب - الخاص بمنطق التقدم في العلوم الطبيعية - إلى أن خلاصة الدرس المستفاد من ثورتي الكوانتم والنسبية هي أن كل تقدم علمي فقط نسبي؛ أي أعلى من المرحلة السابقة، وهذا يعني أن المرحلة التالية بدورها تحمل إمكانية التقدم بدرجة أعلى، بهذا يتبدى جليا كيف أن منطق التكذيب من حيث استيعابه للإبستمولوجيا العلمية المعاصرة، إنما يتمثل آفاق التقدم العلمي المتوالي في تحديده للخاصة المنطقية للنظرية العلمية، أي العامل الثابت فيها من وراء كل تغير، إنه الثبات الخصب الولود، أو الثبات الديناميكي إن جاز التعبير، وإنه لذلك استهللنا هذا البحث بتوضيح كيف أن منطق العلم منطق نظام ديناميكي، منطق للتقدم المستمر أو المتوالي.
وقبل أن ننتقل إلى الفصل التالي من الكتاب، لا يفوتنا التأكيد أن هذا التقدم المتوالي المستمر إمكانية قائمة في العلوم الطبيعية والإنسانية على السواء، ما دامت قادرة على التميز بهذه الخاصة المنطقية.
هوامش
الفصل الخامس
التساوق المنهجي للخاصة المنطقية
والآن تتلاقى خطوط البحث عند عامل مشترك أو نقطة ارتكاز، ألا وهي الاستنباط
Deduction ، فهدفنا بالنسبة للعلوم الإنسانية مرحلة تفسيرية أكثر تقنينا وكفاءة، وقد أشرنا إلى أن التفسير في العلوم الطبيعية والإنسانية على السواء - كما أكد كارل همبل وأوبنهايم وطبعا بوبر وسواهم من كبار فلاسفة العلم - إنما يتسم بسمة استنباطية أكيدة، إما استنباطا رياضيا يسود العلوم الطبيعية، وإما استنباطا منطقيا فقط يسود العلوم الحيوية والإنسانية. المهم أن الاستنباط هو الشكل الأساسي للتفسير العلمي، فهو يتكون من شقين: تقريرات جزئية بشأن الظاهرة المراد تفسيرها هي شروطها، ثم العبارات الكلية المطروحة، وهي القوانين العامة، على هذا يتضمن التفسير فئتين فرعيتين مفسرتين، ومنهما معا نستنبط الظاهرة المفسرة، وبغير إمكانية هذا الاستنباط لا يعد التفسير صالحا، ولا بد أن تحتوي المقدمات المفسرة على قوانين عامة هي ضرورية للاستنباط، ولا بد أن تكون متسقة مع ذاتها، وتتبع مبدأ البساطة عن طريق قانون «الاقتصاد في التفكير»، فتكون في أقل عدد ممكن من المتغيرات، على أن أهم ما في الأمر، وما يميز التفسير الفعلي في العلوم الإخبارية، هو أن يكون للقوانين العامة في المقدمات التفسيرية محتوى تجريبي، أي تكون قابلة للاختبار عن طريق الملاحظة والتجربة.
1
هكذا نعود إلى القابلية للاختبار والتكذيب التجريبي، وقد رأيناها هي الأخرى تتسم بسمة استنباطية، إنها معدل للكشف عن علمية الفروض أو النظريات أو القوانين، فلن تثير العبارات الجزئية مشاكل حقيقية بشأن خاصيتها، لكن الطبيعة الكلية للفروض العلمية تعني استحالة مواجهتها بالواقع التجريبي؛ لأنها عامة تتحدث عن أفق لا نهائي، يستحيل حصره في زمان ومكان معينين يمكن إخضاع ما يضمانه لنطاق اختبار تجريبي، وكما أوضحنا الكشف عن كونها قابلة للتكذيب، أو غير قابلة له، يتم عن طريق استنباط عبارات جزئية من الفرض، يسهل مواجهتها بالواقع، وقد رأينا أن كل المعالم الأساسية لمنطق التكذيب في تناول للنظرية العلمية كالحكم بالتكذيب أو التعزيز، ودرجته، ومقاييس المحتوى التجريبي، والمحتوى المنطقي، المطلق والنسبي، ومحتوى الصدق، محتوى الكذب ... إلخ، كلها تعتمد على استنباط، لقد تكرر مصطلح «الاستنباط» في الفصل السابق من الكتاب أكثر من أي مصطلح منطقي آخر.
هذه السمة الاستنباطية للقابلية للاختبار والتكذيب توضح هي الأخرى مدى استيعاب تطورات العلم التجريبي والإبستمولوجيا العلمية المعاصرة، من حيث إنه لا استقراء البتة، فنحن لا نبدأ من معطيات تجريبية، ثم نصعد منها، وفور تعميمها إلى الفروض والنظريات - كما يتصور العلماء الكلاسيكيون - بل العكس تماما هو الصحيح، نحن نبدأ من الفروض، ومنها نهبط إلى التجريب ووقائع الملاحظة المستنبطة منها، لتكون محك الحكم على تلك الفروض، بل وبصفة مباشرة كان رفض الاستقراء نقطة انطلق منها بوبر صوب القابلية للتكذيب كخاصة منطقية تحدد معيارا للعلم، إن فلسفة بوبر تدور حول محور تصر عليه إصرارا هو أن الاستقراء خرافة، والبدء بالملاحظة لا يفضي إلى شيء، ومستحيل منطقيا، ولا توجد أي قضية علمية - ولا حتى لا علمية - يمكن أن تكون محض تعميم لوقائع مستقرأة، وكان يظن في العهد النيوتيني الكلاسيكي أن البدء بالملاحظة معيار ما هو علمي، فالقضية إن كانت محض تعميم لوقائع مستقرأة من العالم التجريبي، فلا بد أن تكون إخبارا عنه، ومن هنا قال بوبر: «إيجاد معيار مقبول للتمييز يجب أن يكون المهمة الحاسمة لكل إبستمولوجي لا يقبل المنطق الاستقرائي.»
2
فكان أن تكفل بهذه المهمة، وتوصل إلى القابلية للاختبار والتكذيب التي هي خاصة منطقية للنظرية العلمية، رأينا كيف تستشرف استمرارية التقدم العلمي، من حيث تتمثل تطورات العلم والإبستمولوجيا المعاصرة.
ذلك أن الافتراق الفاصل بين الإبستمولوجيا العلمية الكلاسيكية والإبستمولوجيا العلمية المعاصرة كما يتبلور في منطق العلم، يتبلور أيضا في منهجه التجريبي:
الإبستمولوجيا الكلاسيكية:
يساوقها منهج الاستقراء
Induction
الذي يبدأ من وقائع الملاحظة، ومنها يصعد إلى القانون.
وطبعا الممثل الرسمي لهذه النظرية هو إيزاك نيوتن بقوله الشهير: «أنا لا أفترض الفروض
Hypotheses non fingo » هذه النظرية تخدم الملاحظة.
الإبستمولوجيا المعاصرة:
يساوقها المنهج الفرضي الاستنباطي
Hypothetic Deductive Method ، الذي يبدأ بفرض ما، ومنه يهبط إلى الوقائع الملاحظة لتحدد مسير ومصير الفرض، وطبعا الممثل الرسمي لهذه النظرة ألبرت أينشتين، الذي يرى أن منهج البحث يتلخص في أن يتخذ الباحث لنفسه مسلمات عامة، أو مبادئ يستنبط منها النتائج، فينقسم عمله إلى جزءين: يجب عليه أولا أن يهتدي إلى المبادئ التي يستند إليها، ثم يتبع ذلك بأن يستنبط من هذه المبادئ النتائج التي تترتب عليها.
3
ويؤكد أينشتين تأكيدا حاسما أن الوقائع التجريبية بمفردها تظل عديمة النفع للباحث ما لم يهتد إلى قاعدة لاستنباطاته.
4
هذه النظرة تستخدم الملاحظة.
إن المنهج الاستقرائي يساوق التفسير الميكانيكي للكون ومبدأه الحتمي، وأيضا يماثله من حيث كونه افتراضا ساد مرحلة مر بها العقل العلمي، كانت مهمة وضرورية في أوانها، ولكن به وبها المزالق والأخطاء والقصورات المعرفية التي تتكشف للعقل العلمي أثناء سيره، أو تقدمه المطرد، فوجب أن يتجاوزها بعد أن أدت دورها، واستنفدت مقتضياتها، ودواعيها، وارتفع التقدم العلمي الذي هو ثوري، إلى مرحلة أعلى مختلفة عن سابقتها، الحق أن استيعاب الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة يرتهن بالرفض المنطقي لمنهاج الاستقراء، وليس هذا أمرا يسيرا؛ لأن الاستقراء أكد حركة العلم الحديث وتأكد بها. •••
فقد انبثق العلم الحديث في مرحلة حضارية ومعرفية تأتت في أعقاب العصور الوسطى، وكانت عصورا دينية حددت معالمها كتب سماوية منزلة، تنطوي على حقائق مسلم بصحتها ويقينها، فيمكن أن نقتصر على استنباط ما يلزم عنها، فكان منهج البحث المهيمن على هذا العصر هو القياس الأرسطي: منهج استنباط القضايا الجزئية التي تلزم عن المقدمات الكلية المطروحة والمتضمنة فيها، ولا جديد، ولا مساس بآفاق المجهول في الواقع الحي.
واقترن إغلاق أبواب العصور الوسطى، وإشراقة العصر الحديث بالضيق البالغ منتهاه من منطق أرسطو (الأورجانون: أداة الفكر)، والبحث عن منهج جديد يلائم روح العصر الجديد، والمنهج الغالب على العصور الوسطى كان استنباطا، أي أنه استدلال هابط من كليات إلى جزئيات، ولكنه كان استنباطا يتطرف في التنظير والعزوف عن التجريب، فتمخض في العصر الحديث عن رد فعل معاكس في الاتجاه، ومساو في المقدار ألا وهو الاستقراء: الضد المنهجي الصريح للاستنباط، الاستقراء معاكس في الاتجاه؛ لأنه تجريب خالص واستدلال صاعد يبدأ من جزئيات، ويصعد منها إلى نتيجة أوسع: قانون عام ينطبق على ما لوحظ وما لم يلاحظ من جزئيات مماثلة في أي زمان ومكان.
وهو مساو في المقدار من حيث إن تطرف العصور الوسطى في التنظير والعزوف عن التجريب يساويه تطرف العصر الحديث في الاتجاه المضاد: التجريب الخالص والاعتماد على معطيات الحواس، والعزوف عن تنظيرات العقل التي أثبتت العصور الوسطى عقمها حين دارت في متاهاتها المنبتة الصلة بالواقع الحي، هكذا بدا للعقلية الناهضة آنذاك أن شق الطريق الحديث للعلم الحديث إنما يعتمد على نبذ القياس الأرسطي والاستنباطات العقلية طرا وسلك الطريق العكسي وهو الاستقراء، أي البدء بالملاحظة، ثم تعميمها. فيقول برتراند راسل: «لم يكن الصراع بين جاليليو ومحاكم التفتيش صراعا بين الفكر الحر والتعصب، أو بين العلم والدين، بل كان صراعا بين الاستنباط والاستقراء.»
5
هنا لا بد من العروج على العوامل الخارجية لنشأة العلم التي دفعت مرحلته السابقة إلى فرضية الاستقراء الزائفة، فحين كان العلم الحديث يشق أولى خطواته الغضة في القرنين السادس عشر والسابع عشر لم يكن يتفتح كالزهر، بل كان ينبجس كالدم، تفاصيل الصراع الدامي بينه وبين السلطة المعرفية التي كانت آنذاك لا تزال في يد رجال الكنيسة معروفة جيدا، رجال الدين استمدوا سلطانهم هذا، لا لأنهم مبدعون أو يفترضون فروضا جريئة، بل العكس تماما؛ لأنهم فقط أقدر البشر طرا على قراءة الكتاب المقدس، ولكي يستطيع رجال العلم احتلال مواقع معرفية والاستقلال بنشاطهم، بدا من الحمق الصراح والخسران المبين إقحام فكرة الفرض صنيعة العقل الإنساني الخطاء القاصر في المواجهة مع رجال الدين المتوسلين بالكتاب المقدس والحقائق الإلهية، فأصر العلماء على أنهم هم الآخرون أقدر البشر طرا على قراءة كتاب آخر لا يقل عن الأناجيل عظمة، ولا دلالة على قدرة الرب، وبديع صنعه، إنه كتاب الطبيعة المجيد، وأصبح تعبير «قراءة كتاب الطبيعة المجيد»
6
ومنذ أن استعمله جاليليو قائلا إنه مكتوب بلغة الرياضيات، تعبير شائع في تلك المرحلة للدلالة على نشاط العلماء، إنه محض قراءة مصوغة باللغة الرياضية، محض مشاهدة لوقائع التجريب، ثم تعميمها، فلا إبداع ولا فروض، بل وفي تجسيد وتجريد الفلسفة لروح الموضوع وعصره، عمل فرانسيس بيكون على تحذير العلماء من مغبة الفروض، وأسماها «استباق الطبيعة» موضحا طرق تجنبها، هكذا لم ينحصر الاستقراء في تلك المرحلة المبكرة من تاريخ العلم الحديث في البدء بالملاحظة، بل وأيضا في الاقتصار عليها.
ومع انتهاء الصراع مع سلطة رجال الدين واستقلال حركة العلم الطبيعي، ثم تحررها التام بفضل قوتها المنطقية المتنامية، شهد القرن الثامن عشر فكرة الفرض العلمي تتقدم على استحياء خصوصا على يد عالم الكهرباء الفرنسي أمبير، ثم تعاظم شأنها وأثبتت ذاتها في القرن التاسع عشر خصوصا بفضل العالم الفرنسي المتوقد الذهن كلود برنار
C. Bernard (1803-1878) الذي أكد وأثبت أن عماد البحث العلمي شقان: الفرض والملاحظة،
7
ولكن ظل الفرض أيضا استقرائيا؛ أي متصورا أنه آت من الملاحظة وتال لها - إن لم يكن مجرد نتيجة لها - ليتم اختباره، وإن اجتاز الاختبار يصاغ في قانون .
هكذا عدنا إلى موقعنا، إلى قلب حركة العلم وعواملها الداخلية لنجد أن المنهج الاستقرائي يتساوق مع إبستمولوجيا العلم الحديث زمانيا وتاريخيا، وهو هكذا لأنه على تمام التساوق والاتساق المنطقي مع تفسيرها الميكانيكي للكون ومبدئها الحتمي، وإذا كانت فرضية الاستقراء كمنهج قد مكنت رجال العلم من خوض صراعهم مع رجال الدين والانتصار عليهم، فإن الحتمية الميكانيكية قد مكنت لفرضية الاستقراء من التربع جاثمة على صدر حركة العلم الحديث «الكلاسيكي». وأولا وقبل كل شيء عملية التعميم الاستقرائي لما شوهد ولوحظ على ما لم يلاحظ تستند منطقيا إلى مبدأ العلية
Causality ، كتبرير للتعاقب المشاهد «مثلا رفع درجة الحرارة، ثم تمدد القضيب 1، 2، 3، ن ... من الحديد» وتبرير لشموليته، فلما كانت العلية كونية فهي تحكم بمثل هذا التعاقب في كل زمان ومكان، فيمكن تعميم ما لوحظ في قانون علمي «في مثالنا: الحديد يتمدد بالحرارة». وكما هو معروف، العلية هي الوجه الآخر للحتمية.
وكل وجوه أو عناصر الحتمية الميكانيكية هي الأخرى تتساوق وتتسق مع الاستقراء كمنهج، فإذا كانت الحتمية تعني - كما ذكرنا - ضرورية قوانين الطبيعة المطردة دائما وثبوتها ويقينها فلا تخلف، ولا مصادفة، ولا احتمال موضوعيا. فسوف يكون الجزء شاهدا على الكل، وتكفي ملاحظة بسيطة، وقائع تجريبية محدودة، ثم تعميمها، لا سيما أن العلم الكلاسيكي تعامل مع ظواهر كبرى، جميعها واقعة في خبرة الحواس، فتبدو موضوعا قابلا للملاحظة المباشرة، بموضوعية مطلقة، بلا أدنى تدخل من الذات العارفة، ويكاد يقتصر عملها على تعميم وقائع الملاحظة المحدودة في قوانين كلية، وسنصل في النهاية إلى الصورة الكاملة لكون ميكانيكي: آلة ضخمة مغلقة على ذاتها من مادة واحدة متجانسة، وبواسطة عللها الداخلية، وتبعا لقوانينها الخاصة تسير تلقائيا في مسارها المحتوم.
فكانت كل خطوة ناجحة يحرزها العلم الكلاسيكي في إطار مشروعه الحتمي الميكانيكي، تؤكد الاستقراء ويتأكد بها. ومنذ الوهلة الأولى بدا للعيان أن هذا النجاح المنقطع النظير الذي أحرزه العلم دونا عن كل محاولات المعرفية التي بذلها الإنسان من قبل لا بد أنه يدور وجودا وعدما مع العنصر المستحدث في هذا النسق المعرفي الجديد - العلم - العنصر المستحدث هو التجربة: الاعتماد النظامي على معطيات الحواس، فبدأ العلم تجريبيا متطرفا - لردة الفعل العكسية للاستنباط الأرسطي - ثم جعله نجاحه يتطرف أكثر وأكثر في تجريبيته، إن الاستقراء الذي يبدأ بالملاحظة التجريبية، ليتقهقر دور العقل والإبداع الإنساني - إن لم يلغ - هو طبعا صورة من صور التجريبية المتطرفة.
وأتى جون ستيوارت ميل
J. S Mill (1806-1873) أكثر التجريبيين تطرفا في نهايات المرحلة الكلاسيكية ليضع الصياغة النهائية والمنتهية لإبستمولوجيتها، وراح يؤكد (في نسق المنطق) أن الاستقراء هو الطريق الأوحد الذي لا طريق سواه لأي معرفة، فكل المبادئ والمفاهيم والأفكار والمعلومات ... باختصار، كل مكونات الذهن ومحتوياته مجرد تعميمات استقرائية لا يستثنى من ذلك، حتى قوانين الرياضة مثل (2 + 2 = 4) والمنطق الصوري مثل (أ هي أ) كلها ليست إلا تعميمات استقرائية لكثرة ما لاحظته حواسنا من أن اقتران 2 و2 ينتج دائما 4، أو نلاحظ دائما أن أ هي أ، فالاستقراء هو منهج العلم، هو ذاته منطق الفكر والعمل والحياة.
8
هكذا كان العلم الكلاسيكي منتشيا بتجريبيته المتطرفة - أي الاستقراء - وحريصا على تأكيدها، والتطرف بها أكثر، ولكن في قلب تلك الأجواء ومن قبل جون ستيوارت ميل بقرن من الزمان نهض شكاك سكوتلندا ديفيد هيوم
D. Hume (1711-1776) ليلفت الأنظار إلى أن التعميم الاستقرائي ينطوي على مغالطة هي قفزة غير مبررة، فلا يوجد مبرر لتعميم الحكم على وقائع لم تلاحظ، ولا توجد بينه على سند هذا التعميم؛ أي على العلية.
والمسألة أننا نلاحظ تعاقبا أو اقترانا بين حدثين، ثم نقحم عليهما عاملا ثالثا هو العلية التي لم يلاحظها أحد لتربط بينهما، هذا فيما يعرف بمشكلة الاستقراء الشهيرة، وحين أثارها هيوم إنما كان يعطي تمثيلا عينيا لمدى ثقوب النظر الفلسفي، كما هو معروف لم يلق أحد مبررا منطقيا لهذه القفزة التعميمية حتى قال وايتهد: إن مشكلة الاستقراء هي يأس الفلسفة
Despai Of Philosophy ، بينما أطلق عليها برود
C. D. Broad
اسم فضيحة الفلسفة
Scandal Of Philosophy .
9
فقد بدا أنها وصلت بالإبستمولوجيا وفلسفة المنهج إلى طريق مسدود.
والواقع أنها كانت إيذانا بالطريق المسدود الذي ستصل إليه الفيزياء الكلاسيكية ذاتها، وضرورة الانقلاب على مسلماتها كما فعلت النسبية والكوانتم ، ومشكلة الاستقراء التي أثيرت قبل أزمة الفيزياء الكلاسيكية بمائة عام ونيف ليست يأس الفلسفة أو فضيحتها، بل هي تأكيد قدرة الفلسفة على استشراف الآفاق المستقبلية، واستعصاؤها على الحل وفقا لمسلمات العلم الكلاسيكي (حتمية، ميكانيكية، علية، اطراد، الطبيعة، يقين ...) لم يكن يعني عقم فلسفة المنهج، وضرورة وأدها، بل كان يعني عقم فرض الاستقراء ذاته، وضرورة الانقلاب عليه من أجل الوقوف على الكنه الحقيقي للنشاط العلمي، بعبارة أخرى لم يكشف عن مثلب في الفلسفة، بل عن مثلب، أو عن مثالب منطقية في فرضية الاستقراء والبدء بالملاحظة. وهذه المثالب كالآتي: (1)
استحالة تبرير القفزة التعميمية (مشكلة الاستقراء المذكورة). (2)
لو كان القانون القانون العلمي محض تعميم لوقائع مستقرأة، فكيف يتسلل إليه الخطأ، هو طبعا أمر واقع في العلم؟ (3)
إذا عجزنا عن تبرير الخطأ، ومن ثم تبرير التصحيحات، فكيف يتأتى التقدم العلمي؟ (4)
الاستقراء يحدد الطريق إلى الفرض أو القانون، وكل من يسلكه؛ أي يتبع خطوات الاستقراء يصل إلى قانون، وكل قانون اكتشاف لحقيقة، حتى أكد بيكون أن البحث العلمي متاح لذوي العقول المتوسطة، إذن فالعلم نشاط آلي، وليس البتة فعالية إنسانية نامية باستمرار. (5)
إذا كان العلم اكتشافا آليا للحقائق، ولا حاجة لفروض من خلق وإبداع الذكاء الإنساني، فما هو تبرير التفاوت في قدرات العلماء وإنجازاتهم؟ (6)
والأهم: ما تبرير بقاء مشاكل علمية «مثلا السرطان» بغير حل مع توافر كم هائل من المعطيات التجريبية بشأنها يمكن ملاحظتها، ثم تعميمها؟
والآن يمكن التقدم خطوة منطقية أبعد وأجرأ ونقول: فكرة «الاستقراء» بوصفه المنهج التجريبي ليس به مثالب وأغاليط منطقية فحسب، بل به استحالة منطقية أصلا، بعبارة موجزة البدء بالملاحظة يستحيل أن يفضي إلى شيء، والمسألة كما طرحها جاستون باشلار أن الواقع هو نقطة نهاية التفكير العلمي لا نقطة بدايته. وهذه فكرة انطلق فيها فلاسفة العلم المعاصرون، وأمعنوا في الانطلاق، فقد أصبح من الممكن بعد كل هذا الشوط من التقدم العلمي والإحاطة الوصفية بالوقائع أن يناقش بول فيير آبند فكرة علم طبيعي بغير خبرة تجريبية، بغير عناصر حسية.
وعلى أي حال كان بوبر أول وأهم من اعتنوا بتوضيح وإثبات أن البدء بالملاحظة الخالصة فقط، ثم تعميمها فنصل إلى قانون أو نظرية علمية، وبغير أن يكون في الذهن أي شيء من صميم طبيعة النظرية هذه فكرة مستحيلة خلف محال، وقد مثل لهذه بأقصوصة عن رجل كرس حياته للعلم، فأخذ يسجل كل ما استطاع أن يلاحظه، ثم أوصى بأن تورث هذه المجموعة من الملاحظات التي لا تساوي شيئا إلى الجمعية الملكية للعلوم بإنجلترا لكي تستعمل كدليل استقرائي! وهي طبعا لن تفيد العلم في شيء، ولن تفضي إلى شيء، وقد حاول بوبر أن يؤكد هذا أكثر، فبدأ إحدى محاضراته في فيينا بأن قال لطلاب الفيزياء: «أمسك بالقلم والورقة، لاحظ بعناية ودقة، سجل ما تلاحظه!» بالطبع تساءل الطلاب عما يريدهم بوبر أن يلاحظوه، ومن هنا أوضح لهم كيف أن «لاحظ» فحسب لا تعني شيئا، فهي خلف محال، العالم لا يلاحظ فحسب، الملاحظة دائما منتقاة توجهها مشكلة مختارة من موضوع ما، ومهمة محددة، واهتمام معين، ووجهة من النظر نريد من الملاحظة أن تختبرها. المشكلة هي ما يبدأ به العالم وليس الملاحظة الخالصة كما يدعي الاستقرائيون، فماذا عساه أن يلاحظ ويسجل، بائع جرائد ينادي وآخر يصيح، وناقوس يدق ... أم يلاحظ أن كل هذا يعرقل بحثه، إن العالم يحتاج مسبقا لنظرية يلاحظ على أساسها. فهو يبدأ من الحصيلة المعرفية السابقة لتحدد له موقف المشكلة، وتعين على فهمها فيقدح عبقريته العلمية للتوصل إلى الفرض الذي يستطيع حلها، ها هنا يلجأ إلى الملاحظة ليختبر فرضه تجريبيا عن طريق النتائج المستنبطة.
10
تلك هي الصورة العامة لمسار البحث التجريبي، إنه المنهج الفرضي الاستنباطي.
والواقع إنه لا كوبرنيقوس، ولا جاليليو، ولا نيوتن، ولا أي رائد من الرواد الذين شيدوا صرح العلم الحديث، ولا أي من العلماء الأقل حجما، ولا من العلماء طرا، توصل إلى إنجازاته عن طريق الاستقراء، بل جميعهم يبدأ بفرض يستنبط نتائجه، ثم يقوم باختبارها تجريبيا، ولكن بفعل العوامل الداخلية والخارجية لحركة العلم الحديث ران الوهم الاستقرائي على العقول، من حيث ران الوهم الحتمي الميكانيكي. •••
وقد تبددت هذه الأوهام في ضوء النسبية والكمومية، ثورة العلم في القرن العشرين (راجع
الفصل الأول )، وأصبح يتعامل مع كيانات غير قابلة للملاحظة أصلا، مثلا لا نستطيع ملاحظة مسارات الإلكترون داخل الذرة، بيد أن الشعاع الصادر من الذرة خلال التفريغ
Discharge
يمكن من استنباط ترددات
Frequencies .
11
فيقول هيزنبرج - صاحب مبدأ اللاتعين
Indeterminacy
الخطير - إننا لا نستطيع التعويل على الملاحظات بوصفها تشير إلى الأشياء في ذاتها
Dinge an Scih
أو الموضوعات.
12
نحن لا نلاحظ الكيانات موضوع الحث أصلا، نلاحظ فقط آثارها على الأجهزة المعملية، فتمكنا من وضع الأصبع على حقيقة المنهج التجريبي: لا بد من فرض يفترضه العقل، يخلقه خلقا ويبدعه إبداعا، ثم يستنبط نتائجه، وهنا ينزل إلى الملاحظة التجريبية، بل أحيانا كثيرة يصعب إجراء التجربة لأسباب فنية، أو لأنها باهظة التكاليف فيحتكم العلماء إلى «التجارب العقلية»؛ أي تخيل التجربة، وافتراض نتائجها المتوقعة، والعلماء الذريون مغرمون «بالتجارب العقلية» هذه.
وفي كل حال «العلم تجريبي» كما أن (أ هي أ)، ولكن في ضوء المنهج الفرضي الاستنباطي ليست الملاحظة التجريبية مصدرا للفرض العلمي، بل محك له، فهو لا يحدد الطريق إلى الفرض. هذا الطريق لا يمكن أن يكون تحديده مسألة منطق أو قواعد منهجية؛ لأنه يعتمد على عنصر العبقرية والإبداع والذكاء الإنساني، فيمكن أن يترك مثلا للدراسة السيكولوجية للإبداع العلمي، معنى هذا ببساطة أن العلم صنيعة الإنسان، وليس البتة نشاطا آليا، وبغير حاجة لتفصيلات واستطرادات يمكن إدراك كيف أن كل المثالب المنطقية المحيقة بالاستقراء تنداح كما تنداح دوائر في لجة ماء ألقي فيه بالحجر، مع رؤية المنهج الفرضي الاستنباطي.
إن العلم صنيعة الإنسان، أي فعالية نامية باستمرار، كل خطوة قابلة للتجاوز، للتقدم؛ لذلك يجعل المنهج الفرضي الاستنباطي كل قانون مجرد فرض ناجح، في حين أن المنهج الاستقرائي يجعل كل فرض ناجح قانونا، اكتشافا لحقيقة، إن الاستقراء - منهج البدء بالملاحظة الصلبة - هو منهج لتأسيس العبارات العلمية على أساس مكين هو الوقائع التجريبية، في حين أن العلم التجريبي بناء صميم طبيعته الصيرورة والتقدم المستمر، وها هنا نجد المنهج الفرضي الاستنباطي نظرية في الإبداع والتقدم المستمر، في أسلوب هذه الصيرورة، بهذا لا يتساوق منهج العلم ومنطقه فحسب، بل وأيضا يتطابقان.
ارتهنت كل هذه الإحرازات المنطقية بالاستنباط، وهذا الاستنباط
13
التجريبي أو المقترن بالتجربة مثمر خصيب، مدعاة للتجديد والتعديل والإضافة، الفرض هو عين الإضافة، إنه بداهة منهاج لا يعود إلى قياس أرسطو العقيم، بل ولا علاقة له أصلا بأرسطو؛ حيث إن منطقه هو منطق العلاقات، المنطق الرياضي أو الرمزي الحديث، وبتأمل هذا لاحظنا أننا بإزاء جدلية واضحة: (أ)
في المرحلة الوسيطة ساد الاستنباط الأرسطي: القضية. (ب)
في المرحلة الحديثة ساد الاستقراء التجريبي: سلب القضية أو نقيضها. (ج)
في المرحلة المعاصرة المنهج الفرضي الاستنباطي: مركب جدلي يجمع خير ما فيهما ويتجاوزهما للأفضل.
ويبرز التساؤل: منهج العلم «وحدة أم تنوع»؟
14
والإجابة أنه واحد، وهو متنوع.
فقد أصبح علم مناهج البحث من أخص خصائص الفلسفة، وهو مركب جدلي من الوصفية والمعيارية، فالفلسفة هي الوعي بموضوعها، الوعي المتميز عن الفهم التفصيلي التفتيتي، بأنه أشمل نظرة لما هو كائن، تأصيلا له، واستشرافا لما ينبغي أن يكون: استشراف الطبائع العامة المميزة للبحث العلمي في أطرها المنطقية الصورية والثبوتية اللزومية، علم مناهج البحث حين يتعرض للمنهج التجريبي بهذه النظرة الجذرية التأصلية والشمولية الاستشرافية، يحاول الاهتداء إلى سمات البنية والقسمات الجوهرية، فيكون المنهج الفرضي الاستنباطي - كما كان المنهج الاستقرائي - هو التصور الفلسفي المنطقي للهيكل العام الذي يحدد أسلوب التعامل العلمي مع الواقع؛ لذلك فهو واحد.
ولكن الواقع العلمي متنوع، فالعلم التجريبي للبكتيريا غير العلم التجريبي للفلك، غير العلم التجريبي للنفس ... وبطبيعة الحال لا بد أن تختلف طرائق البحث وأساليبه الإجرائية وتقاناته الأمبيريقية من علم إلى علم، بل إنها تختلف داخل العلم الواحد أولا تبعا لدرجة تقدمه، وثانيا تبعا لزوايا ومستويات تناوله لموضوعه، وعلى هذه الاختلافات الإجرائية ينصب اهتمام العلماء المتخصصين كل يسخره لخدمة موضوعه، وبما يتلاءم مع الطبيعة النوعية لمادة بحثه بكل تميزها وخصوصيتها عن مواد العلوم الأخرى، بهذا المنظور التخصصي تظهر علوم لمناهج البحث ملحقة بفروع العلوم المختلفة لتعالج الأساليب التقانية والوسائل الاختصاصية المتكيفة مع موضوع البحث، ومادته التي تختلف من علم لآخر، فنجد مثلا «مناهج البحث في علم الاجتماع» و«مناهج البحث في علم الفلك» و«مناهج البحث في الهندسة الوراثية» و«مناهج البحث في علم النفس»، وكل فرع قد ينقسم بدوره إلى فروع، فنجد «مناهج البحث في علم النفس الاجتماعي» و«مناهج البحث في علم نفس الشخصية» و«مناهج البحث في علم النفس الإكلينيكي» ... إلخ، هذه المسائل المتعلقة بنوعيات الأمبيريقيات، وأساليب الممارسة الإجرائية، مسألة تخصصية يعالجها كل علم وفقا لطبيعة مادته، والعلماء المنشغلون بها هم الأخبر ... فهي تخرج إذن عن مجالنا.
إن الفلسفة هي دائما النظرة الكلية الباحثة عن المبادئ العمومية الكامنة في الأعماق البعيدة، وبهذا المنظور نجد الميثودولوجي - علم مناهج البحث الذي يدخل في ذات الهوية مع فلسفة العلوم - يبحث من وراء هذا الاختلاف عن الأسس العامة التي يمكن تجريدها من المواقف العلمية المختلفة؛ لنجدها أسسا منطبقة لا على الفلك دون الاجتماع أو النفس دون الكيمياء، بل هي منطبقة على كل بحث علمي من حيث هو علمي، معنى هذا أن المنهج الفرضي الاستنباطي هو المنهج التجريبي في العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية على السواء.
نعود إذن إلى العلوم الإنسانية، وبعد أن أحرزت كل ما أحرزته من نشأة ناضجة ونماء متواصل، وتقدم لا يستهان به، سوف يظل التسليم بالمنهج الاستقرائي هو الكفيل بجعل مشكلتها إشكالية، بل مأزمة لا مخرج منها، فقد أوضحنا أن الطبيعة النوعية التي تختص بها ظواهر العلوم الإنسانية شديدة التعقيد كثيرة المتغيرات، واستلقاط وقائع للملاحظة وسط كثرة متكثرة من المتغيرات، يجعل محض التعميم الآلي لها مشوبا بالقصورات والتحيزات، إن لم يكن مستحيلا أصلا تأسيسا على ما عرضناه من استحالة البدء بالملاحظة، إن الاستقراء منهج آلي يرسم طريقا للفرض - أي فرض - بغير مراعاة للطبائع النوعية المتغيرة لموضوعات البحوث.
أما التسليم بالمنهج الفرضي الاستنباطي فيفتح الباب على مصراعيه لإمكانية مراعاة الطبائع النوعية المتباينة، ما دام منهجا لا يرسم طريقا للفرض، طريقا ربما يصلح للفروض بشأن ظاهرة ولا يصلح لأخرى.
لقد ارتدت حيثيات مشكلة العلوم الإنسانية إلى عاملين هما العلاقة بين الباحث وبحثه، وطبيعة موضوع البحث، وبديهي أن الطبيعة النوعية لموضوع البحث بكل خصائصها وتميزاتها وتعقداتها، لا بد طبعا أن تنعكس في الفروض المصوغة بشأن الظاهرة، والمنهج الفرضي الاستنباطي يطلق العنان لطاقات العلماء الإبداعية لتنطلق فروض جريئة تلائم الطبائع المعقدة لظواهر العلوم الإنسانية، وتتعامل معها بنجاح. وكلما كانت الفروض أكثر جرأة، كانت محل ترحيب أكبر، وكانت أقدر على الإحاطة بالظواهر، ولا خوف البتة من جنوحات الجرأة ما دامت الفروض المصوغة - ومهما كانت جريئة - منهجيا سوف تخضع النتائج المستنبطة منها للاختبار التجريبي، ومنطقيا لمعيار القابلية للتكذيب، هكذا يحمل التساوق المنهجي (الفرضي الاستنباطي) إمكانات درء العامل الثاني، لا سيما في حالة الاستعانة بالخاصة المنطقية - معيار القابلية للتكذيب - الكفيلة بدرء العامل الأول، وقبل أن نعالج درء العامل الأول بشيء من التفصيل لا بد من الإشارة إلى أن مواجهة الطبيعة النوعية للظواهر الإنسانية لا تقتصر على إطلاق جرأة الفروض، بل إن الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة تعني خروجا منهجيا - أي على مستوى المنهج أو من زاويته - من مشكلة العلوم الإنسانية، ودخولا منهجيا إلى إمكانات تقدمية كالمتاحة للعلوم الطبيعية، وهذا هو موضوع الفصل التالي من الكتاب.
هوامش
الفصل السادس
الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة والخروج من مشكلة العلوم الإنسانية
القابلية للاختبار والتكذيب التجريبي، والمنهج الفرضي الاستنباطي، هما التمثيل المنطقي المنهجي للإبستمولوجيا العلمية المعاصرة، والتي تخرج فعلا من مشكلة العلوم الإنسانية، من حيث إنه يتأتى في سياقها التقارب بين العلوم الطبيعية والإنسانية، وتشارك المشاكل، وتلاقي الطرق والمنعطفات، فيمكن أصلا حل مشكلة العلوم الإنسانية على ضوء الخاصة المنطقية للعلوم الطبيعية، وتساوقها المنهجي. إن الإبستمولوجيا المعاصرة هي معامل التسارع في معدلات تقدم العلوم الطبيعية، كما فصلنا في الفصل الأول من الكتاب، وفي البقية الباقية منه، استغلالها لمسارعة تقدم العلوم الإنسانية.
لقد رأينا كيف كانت الإبستمولوجيا الحديثة أو الكلاسيكية يلخصها ويبلورها مبدأ الحتمية العلمية، وأنه بفضلها وفضله عرفت الدراسات الإنسانية الإخبارية كيف تتلمس طريقها العلمي، وتمخر عبابه، بحيث كانت نشأة العلوم الإنسانية بعدا من أبعاد النجاح الخافق للعلم الحديث وإبستمولوجيته، وذلك النجاح الخفاق بأبعاده المترامية أكسب مبدأها الحتمي هيلا وهيلمانا لا مثيل لهما في عالم العلم، لكن العلم المعاصر يواصل التقدم ويسحق الحتمية ذاتها مؤكدا أنه بلغ من العمر رشدا، وقادر على الاستقلال.
كان العلم الحديث «من القرن 17 حتى القرن 19» مراهقا يشق طريق النمو والنضج، فكان في حاجة إلى راع وجده في مبدأ الحتمية، لكن المبدأ أدى دوره، بصفة خاصة انتهت مرحلة النشأة بالنسبة للعلوم الإنسانية، وبصفة عامة استنفد المبدأ مقتضياته، وتكشفت قصوراته، ووجب تجاوزه لاستيعاب المرحلة الأعلى من التقدم العلمي، وبعد أن تميزت معالمها نستطيع التأكيد أن تجاوز مشكلة العلوم الإنسانية في وقتنا هذا، وتجاوز تخلفها النسبي عن العلوم الطبيعية إنما يرتهن باستيعاب الإبستمولوجيا الجديدة التي تفتح الطريق إلى هذا، وبالتخلص من رواسب الإبستمولوجيا الكلاسيكية، ومبدئها الحتمي الذي أصبح يخلق المشاكل للعلم، ويعرقل انطلاقاته التقدمية، إن أزمة الفيزياء الكلاسيكية التي تخلقت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والتي أشرنا إليها في القسم الأخير، أو الفقرة الأخيرة من الفصل الأول، وأوضحنا أنها أدت في النهاية إلى انقلابة أو ثورة النسبية والكمومية، هذه الأزمة لم تكن إلا عجز التصور الحتمي الميكانيكي عن استيعاب ظواهر وعلاقات جدت. فقد تعاملت فيزياء نيوتن مع الكتل الماردة: العالم الأكبر البادي أمام الخبرة العادية للحواس، ومع مطالع القرن العشرين كان العلم قد اقتحم بنجاح مظفر العالم الأصغر، عالم الذرة والإشعاع الذي ضرب عرض الحائط بكل ما له علاقة بالحتمية، واستعصى تماما على قوانين نيوتن، فلا تجرؤ على الاقتراب منه، ويستقل عنها رسميا ونهائيا بنشأة وتنامي، بل تعملق نظرية الكمومية
Quantum ، ولتقتصر نظرية نيوتن على الكتل الضخمة، ولنعلم أن ما بدا معها من حتمية ميكانيكية أتى من سطحية النظرة، لما يقع مباشرة في خبرة الحواس الفجة، بينما الحقيقة الرابضة في أعماق المادة: حقيقة الذرات التي هي لبنات هذا الوجود، تكشف عن خطل كل ادعاء بالحتمية والعلية والضرورة واليقين واطراد الطبيعية ... إلى آخر عناصر المبدأ الحتمي، ثم أصبح التصور الميكانيكي للكون أثرا بعد عين، حين تقدمت النظرية النسبية بتصور للكون يهدم الميكانيكية، فإذا كانت النسبية لا تمس الحتمية مباشرة، فإنها تحطم الإطار المفترض لها أو لعالمها.
وأصبحت الإبستمولوجيا المعاصرة بدورها يلخصها ويبلورها مبدأ اللاحتمية
Indeterminism ، إنها انقلاب جذري من النقيض إلى النقيض، فكل ما تعنيه أن الحتمية كاذبة، فهي سلب أو نفي لها، تنفي أن كل الأحداث محددة سلفا بدقة مطلقة بكل تفاصيلها اللامتناهية في الصغر أو الكبر، تنفي اللاحتمية هذا، لكنها لا تعني ما عناه ديفيد هيوم من أنه ليس ثمة أي حادثة ترتبط بالأخرى، بل تعني أن القوانين التي تربط هذه الأحداث ليست حتمية، فحتى لو كان ثمة حدث يشترط آخر كظرف أساسي أو أولي له، أو كان بينهما علاقة وثقى، فليس يعني هذا أن ذلك الحدث - فضلا عن كل الأحداث - محتم سلفا، أو يعني عليه فضلا عن أبدية المبدأ العلي، لقد انهارت العلية: عماد الحتمية التي تتصور تسلسلا لأحداث (علة ... معلول ... علة ... معلول) في المكان الإقليدي المستوى أو المطلق، عبر الزمان المطلق الذي ينساب في نسب ثابتة مطلقة في اتجاه واحد، مطلق من ماض إلى مستقبل، وكل ما على العالم أن يلاحظها بموضوعية مطلقة، بمعنى أنه لا يتدخل إطلاقا، دوره سلبي لا يؤثر البتة على نتيجة استقراء الظاهرة: القانون العلمي حقيقة الظاهرة.
مع النظرة اللاحتمية المتخلصة من الإسقاطات اللاعلمية كافة، نجد عدة عوالم تؤدي علاقاتها ببعضها إلى عدة احتمالات كلها ممكنة، حدوث أي منها أو عدم حدوثه لن يهدم العلم، ولا العالم، ولن يحيله إلى فوضى وعماء، إنه تعاقب الأحداث اللاحتمي، لا تسلسلها الحتمي، وتتابعها وفقا لقوانين اللاحتمية العلية، والأحداث في كلتا الحالتين مترابطة، ومنتظمة، وقابلة للتعقل، والتفسير النسقي، لكن شتان ما بين التفسيرين.
حلت اللاحتمية محل الحتمية، فحل الترابط الإحصائي بين الأحداث محل الترابط العلي والاتجاه المحتمل محل الاتجاه الضروري، واحتمالية الحدث محل حتميته، لم يعد حدوثه ضروريا، ولا حدوث سواه مستحيلا، فأصبح التنبؤ العلمي أفضل الترجيحات بما سوف يحدث لا كشفا عن القدر المحتوم، ومن ثم انقطعت كل همزة وصل بين العلم وبين الجبرية العتيقة، بعد أن تكفل في مراهقته الحتمية بمواصلة مسيرتها، إنه زيف اليقين الذي انكشف لما انكشف زيف المطلق؛ حيث تصدعت تصورات الزمان والمكان المطلقين بفضل نسبية أينشتين، فاختفى المثل الأعلى للعالم العلام بالحقيقة المطلقة، الذي يعلم كل شيء عن كل شيء، ويتنبأ بكل شيء - كما تصور لابلاس
Laplace (1749-1827) - لما اختفى المثل الأعلى للعالم الحتمي الذي يسير كما تدور الساعة المضبوطة، والنتيجة أن ارتدع العلماء عن الغرور الأهوج الذي أكسبتهم إياه الحتمية، إنهم أدركوا سذاجة وسطحية تصور العمومية المطلقة لقوانينهم، بحيث لا يخرج من بين يدي أي منها، ولا من خلفه صغيرة ولا كبيرة، لا في الأرض، ولا في السماء، لا في الطبيعة، ولا في الإنسان، على هذا انتهينا إلى أن اطراد الطبيعة الذي يبرر العلية وهي تبرره «في دوران منطقي شهير» مثله مثلها افتراضات بلا أساس، كما كانت التحليلات المنطقية والفلسفية قد أوضحت، ومنذ هيوم.
أما ما أضافته ثورة العلم المعاصر، فهو أنه لم يعد ثمة مبرر لبقائهما ولا حاجة لهما، تضع الإبستمولوجيا المعاصرة نصب عينيها أن الفيزيائي المعاصر الذي يعمل بالآلات الدقيقة في معمله ليكشف قوانين انتظام الطبيعة لا يعوزه البتة مفهوم الاطراد الحتمي؛ لأنه يعلم جيدا حدود الدقة المتاحة، ويدرك صعوبة وعبثية أن يجعل الظاهرة تكرر نفسها تماما، إلا داخل حدود معينة من اللاتعين، ومن الخطأ المحتمل، إنه الآن لا يبحث عن اطراد الطبيعة، ويكفي انتظامها القائم على أساس إحصائي لا علي، ليبحث عن احتماليتها؛ أي ترددها بنسبة مئوية معينة مستمدة من ترددات لوحظت في الماضي، ويفترض أنها سوف تسري تقريبا على المستقبل، لقد استرحنا أخيرا من العلية والاطراد ودورانها المنطقي، انهارا معا حين تحققنا من دخول عنصر المصادفة في بنية الطبيعة، اكتست المصادفة ثوبا قشيبا ، وتخلصت من الأدران الجائزة التي لحقت بها في عصر يقين العلم الحتمي، الذي كان يفسر كل مصادفة وكل احتمال تفسيرا ذاتيا؛ أي كان يرجعه إلى جهل الذات العارفة، وعجزها عن الإحاطة بعلل الظاهرة، أما اليقين فلا حديث عنه سوى أنه تبخر تماما من دنيا العلم، حتى شاع القول الدارج: العلماء ليسوا على يقين من أي شيء، ويكفي أن العوام على يقين من كل شيء، فالعلم احتمالي، وحلت موضوعية الاحتمال محل ذاتيته، لا سيما بعد نشأة الميكانيكية الموجبة البارعة.
إن أبرز معالم الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة هي أنها جزمت - منطقيا - أن أي قضية إخبارية بما هي إخبارية، احتمالية ونقيضها ممكن، ولا يقين إلا في القضايا التحليلية الفارغة من أي مضمون إخباري قضايا المنطق الصوري، والرياضيات البحتة، وإذا كانت رياضيات الإحصاء، وحساب الاحتمال هي ألف باء العلم المعاصر، فلا يعني هذا لاحتمية، كما تصور الكلاسيكيون من أن صياغة القوانين باللغة الرياضية الضرورية تؤكد الحتمية، الأمر الذي تبدى الآن أن صياغة القوانين العلمية في أي لغة رياضية لا تعني حتمية أو لاحتمية، فالرياضيات في حد ذاتها محايدة تماما، محض رموز تعبر عن أي مرموز إليه، ونملؤها بالمضمون التطبيقي سواء افترضناه حتميا أو لاحتمي، المهم أن منطق الاحتمال أصبح العمود الفقري للعلم، بعد أن كانت العلية هي العمود والعماد والعمدة، وكما ذكرنا: قوضت النسبية عالمها الميكانيكي.
وفي خضم هذه الأطلال الدوارس اتضح مدى عبثية وسذاجة تصورات الكلاسيكيين العينية لمفاهيم الكتلة والطاقة والسرعة والأبعاد الثلاثة الثابتة، وتحديد أو التنبؤ بموضع وحركة وسرعة كل جسم بدقة فائقة ... اتضح عبثية تصورهم لعالم فيزيقي يمكن وصفه بدقة متناهية، إن لم يكن بواسطة علماء اليوم، فعن طريق علماء الغد، وكما يقول الأمير - أمير نسبا وعلما - لويس دي بروي أبو الميكانيكا الموحية (1892-1987): «لقد ظنوا أن كل حركة أو تغير يجب تصويره بكميات محددة الموضع في المكان والتغير في مجرى الزمان، وأن هذه الكميات لا بد أن تيسر الوصف الكامل لحالة العالم الفيزيقي في كل لحظة، وسيكتمل هذا الوصف تماما بواسطة معادلات تفاضلية، أو مشتقات جزئية، تتيح لنا تتبع مواقع الكميات التي تحدد حالته، ويا له من تصور رائع لبساطته، توطدت أركانه بالنجاح الذي لازمه لمدة طويلة.»
1
إنه المبدأن الحتمي الذي أملاه العلماء في مرسوم مهيب، وانقلب في النهاية إلى اقتراح لا تجيزه الوقائع، فأصبحت الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة بدورها لا تجيزه، إنها إبستمولوجيا لاحتمية لا تبحث عن التحديد الفردي الميكانيكي، بل عن متوسطات الإحصاء، وحساب الاحتمال، هي الآن تسود العلوم
2
الطبيعية باق أن تمتد إلى العلوم الإنسانية، وإلى أقصى درجة ممكنة.
فقد أصبح ذلك المنظور الحتمي البائد منه لا سواه تنشق الهوة الشائعة بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية من حيث المنهج، ومن ثم من حيث الثقة في حصائله. أما من حيث المنهج فإن العلوم الطبيعية تعمل بموضوعية مطلقة، الباحث بأدواته دوره سلبي لا يتدخل إطلاقا في موضوع المعرفة، وموضوع المعرفة نفسه - أي ظواهر الطبيعة - مطلق كل ما فيه ثابت، وأي احتمال ذاتي؛ لذلك يصل الباحث إلى قوانين لا استثناء لها، ولا احتمال موضوعيا فيها، قوانين يقينية، ضرورية الصدق، مطلقة العمومة في كل زمان ومكان. أما العلوم الإنسانية فمهددة دوما بالوصمة الذاتية؛ لأن الباحث هو نفسه موضوع البحث، عسى أن يحقق الموضوعية المطلقة، فضلا عن أن عناصر هذا الموضوع خاضعة للتغير من عصر إلى عصر، ومن حضارة إلى أخرى، فلا شيء مطلقا في حياة البشر، ثم إنه موضوع شديد التعقيدات، يستحيل ترجمته إلى بساطة العلاقة الثنائية (علة - معلول) هكذا يجعل المثال الحتمي البون شاسعا بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، والطريق مقطوعا أمام الأخيرة لتلحق بالأولى.
ولكن الآن بعدما أصبح مبدأ اللاحتمية أساس التصور العلمي في الإبستمولوجيا المعاصرة، سقط المثال الحتمي، وسقطت معه الموضوعية الكلاسيكية الزائفة التي تقوم على أساس الإنكار التام للعامل الإنساني في عملية اكتساب المعرفة، ومن أعظم معالم ثورة العلم مبدأ اللاتعين
Indeterminacy Principle
الذي صاغه فيرنر هيزنبرج عام 1925، وينص المبدأ على أن تأثير أدوات القياس يفرض قدرا من اللاتعين في التنبؤ بمسار الجسيم، فيستحيل التعيين الدقيق لموضعه وسرعته في آن واحد، ودقة أحد الجانبين: (الموضع أو السرعة) إنما تتحقق على حساب الدقة في الجانب الآخر، إذن فقد تعلمنا من هيزنبرج ضرورة حساب الأثر المتبادل بين الباحث وموضوع بحثه، معنى هذا أنهما لا بد أن يتفاعلا، إذن ليست العلاقة بين الباحث وموضوع البحث حيvثية لمشكلة تتفرد بها العلوم الإنسانية، بل هي مشكلة مشتركة بينها وبين العلوم الطبيعية إلى حد ما، وكما يقول برود: «حقا إن مبدأ اللاتعين لن يكون له أثر ذو بال على الحتمية أو اللاحتمية السيكولوجية أو الحرية في السلوك الإنساني غير أنه يوضح أن الفيزيائيين بعد نقطة معينة تواجههم صعوبات مماثلة لأخرى كثيرا ما شعر بها علماء النفس.»
3
فالعلم يهدف إلى التفسير، وليس ثمة تفسير واف ما لم يأخذ في اعتباره كلا من العالم والظاهرة، هذا هو الدرس العميق الذي لقنتنا إياه الفيزياء المعاصرة.
4
وقد أكده نهائيا أينشتين الذي يعود إليه فضل الاستبعاد التام لخطأ المطلقية من مجال الفيزياء، أو العلم إجمالا، قضى مبدأ اللاحتمية على تلك الموضوعية الموهومة؛ لذلك فهو قادر على - أو هو السبيل إلى - تحرير العلوم الإنسانية من خشية السقوط في براثن الذاتية، فالمفهوم اللاحتمي الأعمق للموضوعية الذي يضع في اعتباره متغيرات المعرفة، ولا يسلم بمطلق هو سبيل العلم الفيزيائي الأدق والأجدى؛ لذلك لم تتهيب بقية العلوم من الأخذ به، وفي هذا يقول إرنست هطن: «مع اللاحتمية لن تعود الفجوة بين علوم الطبيعة وبين علوم الحياة والإنسان - كعلم النفس مثلا وهو طرف النقيض مع الفيزياء - لا يمكن اجتيازها كما تصور لنا الحتمية حين افترضت أن التفاعل الضروري بين الملاحظ وموضوع الملاحظة من شأنه أن يفسد نتيجة البحث، فيفشل علم النفس في تحقيق الموضوعية التي لا تستطيعها إلا الفيزياء، الفيزياء على أي حال لم تعد موضوعية بالصورة التي تفترضها النظرة الميكانيكية؛ لأنها لم تعد مطلقة بذلك المنظور، وكنتيجة لهذا لم يعد علم النفس ذاتيا.»
5
وإذا كان اضمحلال تلك الموضوعية الزائفة قد أسهم في إزالة الفجوة بين العلوم الطبيعية والإنسانية، فقد حق إذن حكم هطن بأنها «مكسب معرفي كبير »،
6
ما دامت توحد طريقهما، وتفتح أمامهما إمكانات تقدمية مشتركة، ولا تجعل الثقة في علمية إحداهما تستبعد الأخرى.
والأهم من روح المنهج وشروطه - موضوعية أم ذاتية أم فوق هذا وذاك - هو أسلوب المنهج ذاته ، إن الإحصاء وحساب الاحتمال أسلوب الإبستمولوجيا المعاصرة، فقد أسقطت المثال الأقليدي المفضي إلى نتائج يقينية بتحديداته الفردية، والمستعصي أصلا على العلوم الإنسانية التي يناسبها تماما الإحصاء كما هو مسلم به الآن، والجدير بالذكر أن أقطاب العلوم الإنسانية إبان القرن التاسع عشر، وفي تشوفهم لعلمنة دراستهم، شنوا حربا شعواء على الإحصاء، حتى إن ثمة عالما بلجكيا في الفلك والاجتماع يدعى أدلف كيتليه، أصدر عام 1835 كتابا بعنوان «حول الإنسان وتطور ملكاته، أو محاولات في الفيزياء الاجتماعية» وأعيد نشره عام 1869 تحت عنوانه الرئيسي: «الفيزياء الاجتماعية» كدس فيه كيتليه العديد من المعطيات الإحصائية حول عدة مئات من الظواهر الاجتماعية، ومعطيات ديموغرافية، متسائلا: أفلا تظهر المعطيات المتعلقة بالظواهر الإجرامية مثلا تناسقات وانسجامات لا تختلف عن تلك الملاحظة في علوم الطبيعية؟ فكان الإحصاء عند كيتليه هو المعبر إلى علمية علم الاجتماع، تفكيره إذن متقدم عن عصره الغارق في الحتمية العلمية، بيد أن سلطانها آنذاك حكم عليه أن يروح في طي النسيان، فقد دفعت الحتمية بأوجست كونت إلى ردة فعل جامحة ضد كيتليه، وكما يقول بودون عن كونت: «إذ بينما برهن - أو ظن أنه قد برهن - على انقطاع العلوم جاء كيتليه ليجعل من علم الوقائع الاجتماعية فيزياء اجتماعية مدعيا أنه استعمل المعنى الحقيقي للفظة فيزياء، بينما نعت حساب الاحتمال بأنه سيلاقي عقاب الجماعة.
تصور كيتليه إمكانية تطبيق هذا الحساب على الظواهر الاجتماعية»،
7
هكذا جعلت الحتمية كونت يثور على الإحصاء المفضي إلى نتائج احتمالية، وبعد أن اعتزم تسمية العلم الجديد بالفيزياء الاجتماعية، عزف عن هذا، وأسماه علم الاجتماع بدلا من «الفيزياء الاجتماعية» التي دنسها كيتليه بالاحتمال والإحصاء، وعلى الرغم من تأكيد كونت أن الرياضة هي النموذج الأمثل الذي ينبغي أن تحتذيه كل دراسة لكي تصير علما، فإنه قد لاحظ أن الظواهر الاجتماعية أكثر تعقيدا؛ لذلك فإن تطبيق المنهج الرياضي في دراستها سيكون محدودا قد يعطي الوهم العلمي، لكن لن يعطينا الحتمية - العلم الحق - وسحقا لكل ما يمس الحتمية العلمية، أجل سحقا! وليس هذا تعبيرا إنشائيا، بل دلالي، فمثلا أدان كونت المجهر؛ لأنه يهدم الصورة البسيطة لقوانين الغازات المتسقة مع التصور الحتمي، هذا التشبث الأهوج بالحتمية، وإلى الدرجة التي تلهي فيها الوسيلة عن الغاية يعطينا تفسيرا لمعوقات التقدم عموما، وفي العلوم الإنسانية خصوصا؛ لأن الحتمية العلمية تنفي الحرية الإنسانية، وإمكانات الاختيار نفيا باتا كما أكد أوجست كونت وسائر الوضعيين في علم الاجتماع، ومعهم السلوكيون في علم النفس، بينما الحرية الإنسانية وإمكانية الاختبار بين البدائل ظاهرة أكيدة في واقع الإنسان،
8
ولا يتأتى الوصف والتفسير الكفء بغير أخذها في الاعتبار كما يسلم مثلا علم النفس المعرفي، وفروع أخرى من العلوم الإنسانية استطاعت استشراف ما يستشرفه من إمكانات تقدمية.
وهذا الإحصاء الذي هاجمه كونت، وتنازل بسببه عن المصطلح الذي استعمله منذ البداية (الفيزياء الاجتماعية) أليس هو الآن في عصرنا اللاحتمي هو منهج الفيزياء الذرية - أو الكمومية - ذات القوانين الاحتمالية، وما دامت الإحصاء هي الأسلوب، والاحتمال سمة النتائج، فلن يقوم فارق كيفي بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية ولا هوة بينهما، الفارق كمي فقط في درجة التقدم.
الإحصاء والاحتمال كأساليب منهجية يلغيان افتراض الاطراد في موضوعها، أو على أوسع الفروض يجعلانه يتخذ صورة المقدمات المحتملة تؤدي إلى النتائج المحتملة، فلن نصل أبدا لا في الفيزياء، ولا في علم من العلوم الطبيعية، أو العلوم الإنسانية على السواء إلى موقف كلي واحد يكرر نفسه تماما، وكل ما نلاحظه، وأيضا كل ما يعوزنا افتراضه في الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة أن مقدمات الموقف عندما تكون متشابهة، فإن المعقبات أيضا متشابهة، والنتيجة تقريبية بما يكفي سواء في الطبيعة، أو في الإنسان، فمثلا حين نقيس الماء بمقياس حرارة عادي، فإننا نعامل الماء على أنه مكون من عينات مختلفة لها درجات تكثف مختلفة، ونلاحظ الاختلافات الطفيفة في درجة الحرارة إذا كان مقياس الحرارة دقيقا بما يكفي.
9
هكذا نلاحظ أن الإبستمولوجيا المعاصرة هجرت مبادئ الحتمية من عمومية واطراد؛ لأن هذا يفضي إلى نتائج فيزيائية أو طبيعية أدق وأثمن، الأمر أيضا صحيح بالنسبة لظواهر العلوم الإنسانية التي يستحيل معها أصلا افتراض عمومية مطلقة، واطراد ثابت، كما أوضحنا حين البحث في حيثيات مشكلة العلوم الإنسانية، وحين أمكننا أن نخلف الفكرة الكلاسيكية عن القوانين الطبيعية المطردة التي تسير بدقة مطلقة من أصغر ذرة، حتى أضخم جرم سماوي، وأن نأخذ - بدلا منها - بمبدأ أكثر تواضعا للثوابت التجريبية أو الإحصائية التي تسري في مجالات محددة، أصبحت معرفتنا لظواهر الطبيعة تشابه معرفتنا بظواهر الاجتماع من وجوه عديدة، وكل ما في الأمر أن المعاملات الإحصائية في الاجتماع أو نسب الاحتمال أضعف أو أكثر انخفاضا.
10
مرة أخرى الفرق كمي فقط في الدرجة - درجة التقدم وليس في النوعية - نوعية المناهج والقوانين والمشاكل التي تجعل نتائج البحوث الطبيعية علما، ونتائج البحوث الإنسانية مشكوكا في علميتها.
على هذا النحو يبدو جليا كيف أن الهوة التي أصبح المنظور الكلاسيكي كفيلا بشقها بين العلوم الطبيعية والإنسانية إنما تلتئم تماما من منظور الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة بفضل مبدئها اللاحتمي، والاسترشاد بالمثال اللاحتمي إن كان يلقي على كاهل علماء العلوم الإنسانية مسئولية عسيرة ومرهقة حين يطيح بالركائز الحتمية المطلقة التي بدت كفيلة بضبط أبحاثهم، فإنه يبرئ العلوم الإنسانية من مطمع المغرور، وفي نفس الوقت من اليأس والقنوط من الوصول إلى المثال الحتمي، فيمكننا من أن نعمل بعزيمة حديدية وإمكانات الانطلاق لفروض الجريئة، ويزيد من شحناتها مستوى التجريد الفائق الذي وصل إليه العلم المعاصر في الطبيعة، فلماذا لا يصل إليه في الإنسان أيضا؟
لقد قال المنطقي الميثودولوجي المدقق بريثويت: «إن التقدم الحديث في الفيزياء قد يعطي شحنة قوية لعلماء النفس كيما يضعوا تأملات جريئة؛ لأن النظريات الفيزيائية السائدة تدور حول أشياء لا يمكن تعريفها في حدود الخبرة، وفوق هذا نجد أن بساطة القوانين الفيزيائية واضحة فقط أمام الرياضيين والإحصائيين؛ لذلك أشعر بأن علماء النفس يجب أن تتاح أمامهم حرية كبيرة للعمل، فيما يتعلق بالكيانات التي يستعملونها، وأحسب أن مجالهم قد تعرقل كثيرا في الماضي بمطالب فلاسفة وآخرين (يقصد الوضعيين والسلوكيين) بأن كل مصطلح يستخدم يجب أن يكون له تعريف تجريبي مباشر، على أن علم النفس بالطبع يجب أن يظل علما تجريبيا، وقوانينه المقبولة يجب أن تكون مؤيدة بالوقائع بصورة أو وبأخرى.»
11
أو بعبارة أخرى قابلة للاختبار التجريبي، ثم التكذيب، أو التعزيز، ولما كان قول بريثويت هذا - عام 1931 - ينطلق عن تمثل جيد للإبستمولوجيا العلمية الجديدة الصاعدة آنذاك، فقد أتى تحققها بعد خمسة وعشرين عاما، حين بدأت منذ عام 1956 الثورة المعرفية - علم النفس المعرفي، والعلاج النفسي المعرفي - ثورة على السلوكية ونماذجها الميكانيكية الآلية التي تحققت بنجاح مبدئي في دارسة السلوك الحيواني، فافترض السلوكيون أن الأفعال الإنسانية جميعا، حتى اللغة والأفكار والإبداع وسمات الشخصية ... إلخ يمكن تفسيرها بنماذج مشابهة، وإن تكن أكثر تعقيدا، يرفض الجيل الجديد من النفسانيين المعرفيين هذه النظرة الآلية، محتجا بأن هناك تراكيب وعمليات للعقل لا سبيل إلى إحالتها إلى أخلاط من الاستجابات المدعمة، فنظروا إلى القيود التي وضعتها السلوكية في نصف القرن الأخير بوصفها قيودا عقيمة، وأنها - للأسف الشديد - مصوغة على أساس تصور العلوم الفيزيائية عفى عليه الزمان.
12
على أن علم النفس المعرفي ليس رفضا هجوميا للسلوكية، بل هو بالأحرى استيعاب وتجاوز أو حتى امتداد أنضج لها، إن السلوكية ذات فضل عظيم في تنمية الدراسات النفسية الإحصائية، والمعرفيون يرون ثورتهم انعكاسا لتطور العلوم الإحصائية - لكن لأنها تنشئ نوعا جديدا من المرونة الفكرية، وامتدادا لاستراتيجيات البحث، مدركين أنهم على طريق التقدم الجوهري الذي سيؤدي إلى بصيرة وفهم لهما قيمتهما النظرية والعلمية على حد سواء،
13
إن علم النفس المعرفي من أكثر التطورات في العلوم الإنسانية استجابة واستفادة من الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة؛ لذلك كان انتصارنا له منذ بداية هذا البحث؛ ولذلك أيضا كانت الإمكانات التقدمية المتاحة أمامه أفسح وأخصب - كما سبق أن أشرنا. •••
الخلاصة أن الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة - التي هي لاحتمية تعني انقلابا جذريا على الإبستمولوجيا الحديثة الكلاسيكية - التي كانت حتمية، و«أن هذا التحول الجذري قد أدى إلى تقارب كبير في المنهج بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، وإذا ما كان هذا التقارب قد بدأ أيضا بتحرك العاملين في مجال العلوم الرياضية، فإن الصياغة الجديدة لعلم الطبيعة، والتي تتبلور الآن أمام أعيننا قد أظهرت أن النظم المعقدة التي تدرسها العلوم الإنسانية، ليست أكثر تعقيدا من النظم الطبيعية، لقد كانت المحاولات الأولى لإحداث التقارب بين مجالي المعرفة أسيرة العلم الطبيعي التقليدي بموضوعيته وحتميته»،
14
ومن ثم كان تعثرها عبر الفجوة المذكورة آنفا، وكما أوضحنا التأمت، وبعد النسبية والكمومية الجديدة واللاتعين والميكانيكا الموحية ... اتضح أن الظواهر الطبيعية ليست مطردة ولا متجانسة كما كان يظن، وبعد الشوط الذي أحرزته العلوم الإنسانية - لا سيما في الدراسة الوصفية - اتضح أن ظواهر العلوم الإنسانية ليست متغايرة كما كان يظن، أي أن الطبيعة النوعية المعقدة لموضوع الدراسة لم تعد تحول بين العلوم الإنسانية وبين الاستفادة من إمكانات تقدمية كالمتاحة منطقيا أمام العلوم الطبيعية، ولا العلاقة بين الباحث وموضوع البحث في العلوم الطبيعية بأصفى وأنقى وأبسط منها في العلوم الإنسانية.
هكذا تستوعب الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة - لمن شاء واستطاع استيعابها - عاملي مشكلة العلوم الإنسانية، وتفتح الطريق للخروج منها، وتفتح الطريق لتحقيق درجة التقدم المنشودة فيها في المرحلة التفسيرية على ضوء الخاصية المنطقية المميزة للعلوم الطبيعية.
سوف نعرج الآن بالخاصية المنطقية على تفاعل العاملين معا، والذي ينجم عنه افتقاد المرحلة التفسيرية لتقنين منطقي أدق، المردود إلى أن الباحث مثقل بالأيديولوجيات القومية وأحكام الحس المشترك، ما يجعل أنساق النظريات في العلوم الإنسانية مفتوحة الطرفين؛ ولكي تتسع - بل لكي تتأتى إمكانات حل مشكلة العلوم الإنسانية - لا بد من الحيلولة دون تسرب أو اقتحام ما هو لاعلمي إلى داخل نسق العلم، وإذا كانت المؤثرات الخارجية والأيديولوجية قد أدت إلى تنازع العلماء، فحالت دون تكامل التفسيرات، ودون التآزر المتوازن بين التنظير والتجريب، فإن المنطق معامل موضوعي مشترك، كفيل بالجمع بين العلماء وتحقيق التآزر المنشود.
هوامش
الفصل السابع
إمكانية حل مشكلة العلوم الإنسانية
لقد بدا واضحا كيف يطرح معيار القابلية للاختيار والتكذيب التجريبي أمام العلوم الإنسانية، وبمنتهى الدقة المستطاعة لمنطق العلم محكا حاسما لتحديد ما هو علمي دونا عما هو لاعلمي؛ ليصبح من الممكن تحديد تخومها العلمية بما يحول دون تسرب الأيديولوجيات والفلسفات والإسقاطات التقويمية وأحكام الحس المشترك ، وكل ما هو لاعلمي ينجم عن اقتحامه بنية العلم: افتقاد الإحكام في المشروع العلمي، وافتقار للتقنين المنطقي الدقيق، ما يؤدي إلى تعارض المسارات وتعرقلها، والحيلولة دون تسارع التقدم العلمي المرتهن بتآزر الجهود وتكاملها على النحو المتحقق بأجلى صورة في العلوم الطبيعية.
وإذا كانت هذه الخاصية المنطقية تتحقق على الوجه الأكمل - بداهة - في العلوم الطبيعية، وعلى الأخص الفيزياء بحكم بساطة موضوعها، وعراقة ممارساتها، فليس معنى هذا أننا ننشد تحقيقها، وبهذه الدرجة نفسها في العلوم الإنسانية، والتطويع لشروط الخاصة المنطقية المقننة والمقننة لا يشبه بحال «وضع الآراء على سرير بروكرست؛ حيث تقطع أوصالها حتى يلائمها، بل هو أشبه بممر أو ثقب لا يسمح إلا بعبور ما هو علمي محتجزا أمامه ما ينتمي لغير العلم، ما دام كان عاجزا عن صوغ نفسه في فرض يقبل التحقق من صحته أو كذبه».
1
فلسنا نطرح القابلية للاختبار والتكذيب - أي الخاصة المنطقية للعلوم الطبيعية - كهدف ينبغي إحرازه، بل هي بالأحرى مبدأ تنظيمي، لصوغ الفروض والحكم عليها بمنأى عن التحيز والهوى وضغوط العوامل الخارجية، فيكفل الخروج بنتائج «علمية» أنه مبدأ تنظيمي، كلما اقتربت منه العلوم الإنسانية أكثر تآزرت جهودها أكثر لتمثل متصلا صاعدا عساه أن يتسارع.
إن هذا لا يعني أكثر من إمكانية إنجاز المشروع العلمي على نفس الأسس والحدود المنطقية للظواهر الطبيعية والإنسانية على السواء المشكلة معا لمجمل الكون الذي نحيا فيه، ونهدف إلى إحكام سيطرة العقل عليه بواسطة العلم التجريبي الذي أثبت نجاحا لا يمارى ولا يبارى في هذا الصدد، لقد هدفنا إلى استغلال ما هو مشترك في الممارسة العلمية التي أثبتت نجاحا واضحا، أي البحث عما يجعل من النسق نسقا علميا، وليس فلسفيا، أو فنيا، أو قيميا، أو غيرها من طرق تعامل قوى الإنسان المبدعة مع عوالمه.
والواقع أن الخاصة المنطقية التي جعلناها حجر الزاوية لحل المشكلة لا تعدو أن تكون الصياغة المنطقية الصورية المقننة الدقيقة، لما يعرف بالسمة التجريبية التي هي العلاقة المسئولة مع الواقع، وقد أصبحت خاصة مميزة للعلوم الطبيعية عبر ممارسات طويلة عريضة عريقة وراسخة، منذ أن أعلن فرانسيس بيكون البيان الرسمي لها، أي منذ ما يقرب من أربعة قرون خلت، ولا يجادل أحد في أن تجاوز العلوم الإنسانية لطور الميلاد والنشأة والنمو، وأيضا النضج راجع إلى أنها وجدت أساليبها التجريبية الأمبيريقية وأحكمتها، ويبقى أن مضاعفة درجة التقدم سوف تعتمد على التقنين المنطقي والأشمل لهذه التجريبية؛ خصوصا أن التكالب عليها أدى إلى جعل أنساق العلوم الإنسانية مفتوحة من جهة يتسرب منها سيل التعميمات التجريبية بغير أن تؤسس رصيدا متفقا عليه في انفلاق ضار بين التجريب والتنظير، وتلك السمة التجريبية المقننة التي هي قابلية الفروض العلمية للاختبار تطرح أمام العلوم الإنسانية محكا لضبط التجريب بتوجيهه نحو فروض، فيمكن أن تؤسس رصيدا متفقا عليه، وتداني بين التجريب والتنظير.
أما عن التخلف النسبي للعلوم الإنسانية الذي عالجناه في الفصل الثاني من الكتاب لنلقاه مردودا إلى افتقار التآزر بين التفسيرات، فإن بوبر يعبر عن هذا الافتقاد قائلا: «بعض علماء العلوم الإنسانية غير قادرين، بل ولا يرحبون بالحديث بلغة مشتركة.»
2
وطبعا معيار القابلية للتكذيب يرسم حدود الحديث المشترك، وتطبيقه المباشر أو الحرفي يعني أن ترفع العلوم الإنسانية تماما يدها عن النزعات الكلية، والتنبؤات التاريخية الواسعة النطاق، وأن تحيط بالمشاكل المطروحة فعلا، كل واحدة على حدة بواسطة المنهج النقدي: الاختباري التكذيبي، وبهذه النظرة تغدو وظيفة العلوم الإنسانية والاجتماعية دراسة النتائج غير المقصودة، بل وغير المرغوبة للسلوك، بدلا من التنبؤ بما سيجيء حتميا، وهذه الوظيفة ستجعلها تضع التنبؤات المشروطة القابلة للتكذيب، بدلا من التنبؤات الواسعة النطاق غير القابلة له.
3
إن الطبيعة القابلة للتكذيب، أو التكذيبية للنظرية العلمية، تعني وضع القانون العلمي في صورة حوادث ممكنة، ما يعني إمكانية وضع القانون العلمي في صورة نافية، وتلك الوظيفة المذكورة تفتح أمام العلوم الإنسانية إمكانية التوصل إلى مثل هذه القوانين، أو الفروض النافية؛ أي العلمية، ويعطي بوبر أمثلة على هذا: «لا يمكنك فرض الرسوم الجمركية على المنتجات الزراعية، وتقلل في الوقت نفسه من تكاليف المعيشة»، «لا يمكن تحقيق العمالة الكاملة دون أن يتسبب ذلك في حدوث التضخم»، «لا يمكن في المجتمع ذي التخطيط المركزي، أن يؤدي نظام الأثمان فيه نفس الوظائف الرئيسة التي تؤديها الأثمان القائمة على المنافسة» «لا يمكن أن تقوم بثورة دون أن ينشأ عنها اتجاه رجعي»،
4
هذه الوظيفة أيضا ستجعل التطبيق؛ أي التقانة أو التكنولوجيا تعقب المعرفة الاجتماعية والإنسانية كما تعقب المعرفة الطبيعية، ويلخص بوبر رأيه بأن التقانة الاجتماعية المطلوبة هي التقانة التي لها نتائج يمكن اختبارها بواسطة الهندسة الاجتماعية الجزئية
Social Piecemeal Engineering
المناهضة للتغيير الكلي الثوري كالماركسي، هذه المشاريع الأيديولوجية الواسعة النطاق والمفتوحة الحدود تخرج عن مجال وسيطرة العلوم الإنسانية، وإذا اعترض أنصار سوسيولوجية المعرفة بأن هذا ليس هو المطلوب، وأن مشكلة العلوم الاجتماعية ليست في أنها لا تتوصل إلى نتائج تطبيقية عملية، وإنما في أنها تتعامل مع مشاكل معقدة، ومتداخلة في الميادين النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فإن بوبر يرد عليهم بأن كل المشاكل والوقائع المعرفية معقدة ومتداخلة كما سبق أن أوضحنا، أو بالأحرى كما سبق أن أوضحت الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة، المهم أن البحث يبدأ من فرض توصل إليه العالم من أي طريق كان، وعليه أن يختار الفرض القابل للتكذيب كي يضمن استمرارية التقدم، أما التطبيق العلمي فهو لا يعادي المعرفة النظرية، بل هو حافز لها.
5 •••
كل هذه الإمكانات التي تطرحها الخاصة المنطقية للعلوم الطبيعية أمام العلوم الإنسانية لا تشترط قبلا إلا إمكانية العلم بالظواهر الإنسانية والاجتماعية، ولا يلزم هذا أكثر من التسليم بأن تلك الظواهر الإنسانية ليست قائمة في ملكوت السماوات أو عالم الغيب، بل هي قائمة في عالم الشهادة، إنها ظواهر مندرجة في بيئتنا: العالم الذي نحيا فيه، والذي أثبت منطق العلم التجريبي أنه أصدق من يأتينا بخير عنه، وأكفأ من يقوم بمحاولة وصفه وتفسيره في سلسلة متتالية كل حلقة أنجح من سابقتها.
ومع هذا فإن تلك الإمكانات الرحيبة أمام العلوم الإنسانية، ومجرد الاستفادة من الخاصة المنطقية للعلوم الطبيعية سوف يواجهها رفض واعتراض يتخذ صورا شتى وتكرر كثيرا، وشاع وذاع ربما لحد الملالة. «وقد يكن مبعثه أن العلوم الطبيعية تجاوزت العلوم الإنسانية إلى حد بعيد، ومن ثم تحيط بنا الخشية من السقوط في التبعية.»
6
فينهض المرجفون رافضين لهذا رفضا للنموذج الطبيعي، الذي يرد العلوم الإنسانية إلى العلوم الطبيعية أو يختزلها في حدودها لتغدو امتدادا ملحقا بها، وذيلا لها.
والواقع أن الخاصة المنطقية لا تنطوي البتة على أي رد أو اختزال، بل ولا تتعلق بهذا إطلاقا، ذلك أن هذا المشروع الردي الاختزالي هو مشروع الإبستمولوجيا الكلاسيكية وتفسيرها الميكانيكي، فالكون آلة ميكانيكية ضخمة مغلقة على ذاتها، ونظام من مادة وطاقة يسير بفعل علله الداخلية، ويحوي أنظمة أخرى أصغر قليلا أو كثيرا كلها علية ميكانيكية، ونظرا لليقين والضرورة والقطعية ... إلى آخر عناصر الحتمية التي تغمر هذا التفسير الميكانيكي، فقد غالوا في فكرة الرد هذه أو الاختزال، حتى أرادوها تشمل كل إنجاز عقلي جدير بالاعتبار، حتى الأيديولوجية ذاتها التي نهدف للحيلولة بينها وبين العلم، كانت مصطلحا - كما أشرنا - استحدثه دي تراسي عام 1797 ليبشر بنظام سياسي واجتماعي جديد يقوم على العلم الجديد بدلا من كل ترهات الماضي التي كانت لا علمية، وهذه الأيديولوجية فرع من علم الحيوان المردود إلى الفيزياء، وهو فرع يختص بالقدرات العقلية لواحد من الحيوانات العليا وهو الإنسان! على ألا تكون هذه الدراسة متصلة بطبيعة المعرفة كي لا نقع من جديد في أحابيل الفلسفة والإبستمولوجيا، إلى كل هذا الحد سيطر الوهم الردي على العقول في العصر الكلاسيكي، والرد لا يتأتى إلا في قالب حديدي هو «العلم الموحد» أو «وحدة العلم». و«العلم الموحد» هو الرديف الإبستمولوجي المطابق لتصور أنطولوجي يجعل الكون آلة ميكانيكية مغلقة.
ورغم انقضاء العصر الميكانيكي وانهيار الإبستمولوجيا الكلاسيكية، فإن الوطأة الثقيلة المهيبة لمشروع العلم الموحد جعلته يظل ماثلا، حتى نهايات القرن العشرين، مع أن الإبستمولوجيا المعاصرة لا تستدعيه، ولا تحمل له مبررات، وقد راعينا هذا فيما سبق، حين تعرضنا لتصنيف العلوم النسقي تبعا للعمومية المنطقية للمحتوى المعرفي إلى ثلاث مجموعات كبرى، أوضحنا أن هذه مسألة قواعد منطقية للعلاقات النسقية بين العلوم، ولا تعني ردا أو اختزالا، وطبعا لا علاقة لها بشرف العلم، ومكانته وسموه - تبعا لشرف موضوعه - تلك الفكرة التي سادت تقسيم العلوم في العصر الوسيط، وتبخرت مع مطالع العصر الحديث وإشراقة العلم الحديث؛ لتغدو كل العلوم متساوية في الشرف والمكانة، ثم في الاستقلال، بل وحرصنا طوال البحث على تعقب فلول الرد مثلا حين رفضنا اعتبار الرياضة لغة كل العلوم، وتعقبنا حتى بقاياه العالقة بالسلوكية بجلال قدرها، ورغم فضلها العظيم في تطور علم النفس.
لكن لأن الإبستمولوجيا الكلاسيكية لا تزال تنازع الإبستمولوجيا المعاصرة حتى الآن، فإننا نجد العلم الموحد، وحتى الثمانينيات من القرن العشرين لا يزال بدوره موضوعا لخلاف حاد، وبغية توضيح أطر هذا الخلاف يمكن حصره بين طرفين متضادين: روبير بلانشيه كمدافع قوي عن وحدة العلم، وجوزيف مارجوليس كأشد الرافضين لها إصرارا وإمعانا، ولكن لم يجد بلانشيه ما يقوله سوى: «وحدة العلم قد غدت واقعا معترفا به على مستوى الممارسة اليومية للعلم، فأصبحت تشغل اليوم كذلك مكانا مهما في فلسفة التجريبية المنطقية»
7
أي الوضعية المنطقية التي سادت في أواسط القرن العشرين، ثم بادت.
ذلك أنه وبطبيعة المواقف الحدية المتطرفة للوضعية المنطقية في تحمسها المشبوب لكل ما له علاقة بالعلم، نلقاها وقد تحمست بدورها تحمسا مشبوبا بزت به الجميع لمشروع العلم الموحد، حتى يمكن اعتبارها المتحدثة الفلسفية الرسمية باسمه، فقد وجد ذلك المشروع أصفى وأنقى صياغة له في مخططاتهم لبناء «اللغة الفيزيائية
»، بوصفها لغة عمومية للعلم، وأي لغة لأي مجال فرعي في العلم - بمعنى لأي علم آخر غير الفيزياء -يمكن أن تترجم إلى لغة العلم هذه، وبصورة مكافئة تماما لصورتها الأصلية، بناء على هذا نستنتج أن العلم بنية واحدة تكاملية مركزية، لا نجد داخلها مجالات لمواضيع ذات تباين جوهري، وتبعا لهذا لا نجد هوة بين العلوم الطبيعية أو الفيزياء، وهي الحد الأعلى للبنية، وبين العلوم السلوكية، وهي الحد الأدنى.
8
هذه اللغة الفيزيائية تكفل ببنائها الوضعي المنطقي الأكبر رودلف كارناب
R. Carnap (1891-1970)، وفي البداية عاونه الوضعي المنطقي عالم الاقتصاد أوطو نويراث
O. Neurath (1882-1945).
9
إنهما كسائر أعضاء فيينا - منشأ الوضعية المنطقية - تأثرا بالتقدم الرهيب لعلم الفيزياء، فأراداه علم العلم والعلم الواحد الذي لا علم سواه «وهذا ما يسمى بالنزعة الفيزيائية
»، ومن ثم تكون لغة الفيزياء هي اللغة العلمية الواحدة للعلم الموحد، هذه اللغة تتمتع بخاصة تجعلها كلية عمومية
Universal
يمكن أن يقال فيها كل شيء له معنى تبعا لمطابقة الوضعيين المناطقة بين المعنى والعلم، وبين اللاعلم واللغو! إنها اللغة التي تتحدث عن الأشياء الفيزيائية وحركاتها في الزمان والمكان، وكل شيء إنما يمكن التعبير عنه أو ترجمته في مصطلحات هذه اللغة، حتى - بل خصوصا - علم النفس على قدر ما هو علم، أما مشكلة أسسه فهي:
هل يمكن رد مفاهيم علم النفس إلى مفاهيم الفيزياء بمعناها الضيق؟
هل يمكن رد قوانين علم النفس إلى قوانين الفيزياء بمعناها الضيق؟
والإجابة أجل، الرد بالإيجاب ليصبح علم النفس فقط علم السلوكيات، وتصبح كل عبارة ذات معنى - أي علمية - قابلة للترجمة إلى عبارة حول الحركات الزمانية المكانية للأجسام الفيزيائية، أي للغة الفيزياء أو لغة العلم الموحد، تلك هي اللغة التي حاول رودلف كارناب أن يبني لها بناء نسقيا منطقيا، ويضع قواعد الصياغة فيها أو قواعد التحويل إليها والاستنباط منها، وكتب يقول: «إذا كنا سنتخذ لغة الفيزياء كلغة للعلم، بسبب خاصيتها كلغة كلية، فإن جميع العلوم ستتحول إلى الفيزياء، وسوف تستبعد الميتافيزيقا على أنها لغو، وتصبح العلوم المختلفة أجزاء من العلم الموحد.»
10
وقد لاقت لغة العلم الموحد عند كارناب خصوصا، والوضعية المنطقية عموما، نقدا مريرا لا يبقي ولا يذر من كارل بوبر، ولا غرو، فأوتونويراث يلقبه بالمعارض الرسمي للوضعية المنطقية.
11
إن بوبر يؤمن بوحدة المنهج - بالمعنى الفلسفي العام، وليس الإجرائي المتعين - بين العلوم الطبيعية والإنسانية، ليس هذا فحسب، بل إنه يرى المنهج العلمي من المنظور الأشد عمومية، وهو عند بوبر منهج المحاولة والخطأ، إنما يحكم شتى محاولات الكائن الحي في التعامل مع بيئته، ولكن ليس يستدعي هذا رد العلوم جميعا كما في مخططات الوضعيين - أو سواهم - الدءوبة لبناء العلم الموحد، الذي ترتكز نهاياته على قضايا علم النفس السلوكي الجزئية، وترتد أولى بداياته إلى نظريات الفيزياء البحتة.
وليس بوبر في هذا متفردا، بل هو سائر في اتجاه عام يستهدف التخلص من رواسب الإبستمولوجيا الكلاسيكية الميكانيكية الحتمية، التي بانهيارها انتهى المشروع الردي، وفقد كل مبرراته، ولأن بحثنا هذا قائم منذ البداية من أجل تجاوزها، واستنفدنا الجهد طواله للحاق بالإبستمولوجيا المعاصرة، كنا أكثر الجميع طرا رفضا للمشروع الردي.
فيمكن أن ننتقل إلى الطرف المقابل للرديين، إلى جوزيف مارجوليس على الرغم من اختلافات ما بين مسلمات هذا البحث ومسلمات تفكيره. فعمله الضخم (علم بغير وحدة) من أحدث وأعنف وأجرأ الهجمات الموجهة لفلول المشروع الردي، وهو يسم كتابه بأنه «دفاع حار عن التشعب، ورفض تام للوحدة، وثمة ما هو أكثر من هذا، أو أننا ننتوي ما هو أكثر من هذا، وذلك أنه حتى لو كنا سنسلم بأن مشروع وحدة العلم لم يعد ذا وجود حقيقي كاختيار حيوي، وأن الاستسلامات التي توالت منذ أوان مجده قد مسخته تماما، وحتى لو كان السؤال عن المنهج قد سقط فعلا من الاعتبار بوصفه شفرة مدونة للولاء لفئة ما فرعية للمعتقدات الأساسية التي تسلمناها من زمان أسبق، فلا بد أن نستغل بتعمد ميزة الموجه المساعد على الكشف الكامنة في استحضار المناظرات القديمة بغير الوقوع في شرك العبارات الاصطلاحية الأسبق.»
12
وإذ نفعل هذا سنلقى كما يقول مارجوليس «معنيين للتشعب». فإذا عارضنا وحدة العلم، فإن التشعب - أي ما هو ضد الوحدة - سوف يسود، أما إذا كانت وحدة العلم قد اضمحلت فعلا فإن التشعب يشير إلى نقد أحر دعاوى الوحدة، حتى في قلب مجال النماذج التي ينبغي أن تكون للعلوم الفيزيائية، وذلك هو المغنم الأعظم، وإذا سلمنا بهذا فكل مشاريع العلم هي بحسم إنجازات إنسانية. فالعلم بعد كل شيء هو بصفة جذرية إنساني، وكل أنظمته الجديرة بالإعجاب نصونها نحن البشر، نصونها تحت الظروف التي تجعلها أكثر في الإعجاز وفي الروعة مما يتصور معتنقو دعاوى الوحدة.
13
حسنا، ولكن لماذا ينعت مارجوليس النماذج بأنها «ينبغي أن تكون» للعلوم الفيزيائية؟ •••
فلربما يستمر الاعتراض والرفض، على أساس أن تحرر العلوم الإنسانية من الرد إلى العلوم الطبيعية، ووقوفها في نسق العلوم، وقوف الأنداد قد ينطوي هو الآخر على فرض النموذج الطبيعي، بمعنى أن ينتهي الرد إلى العلم الموحد، وأن تتشعب العلوم ما شاء لها التشعب، وتستقل ما شاء من استقلال، على أن يظل النموذج الطبيعي هو المثال الذي ينبغي أن يحققه كل علم، و«رفض النموذج الطبيعي» شعار رفع لواءه الفينومينولوجيون، وتسابق لحمله كثيرون، يفعلون هذا بغير تدبر كاف، ومن أجل رفض النموذج الطبيعي قد يعزفون عن الاستفادة من مجرد الخاصة المنطقية للعلوم الطبيعية.
والواقع الآن أن ما يسمى «النموذج الطبيعي» مرفوض في العلوم الطبيعية، وفي قلب الفيزياء ذاتها رفضا للنموذج النيوتني، الذي انهار تحت وطأة جسيمات الذرة، ومجرد التفكير في الكون مع النسبية يناقض التفكير في أي نموذج، اللهم إلا إذا كان من الممكن ومن المجدي بناء عدد لا محدود من النماذج لهذا الكون، كل نموذج يصور الكون بالنسبة لواحد من عدد لا محدود من المواقع المختلفة والأزمنة والأمكنة والسرعات المختلفة للراصدين، ثم كان تطور علوم الذرة ليؤكد فكرة اللانموذج، فقد حاز نموذج رزرفورد
E. Rutherford (1871-1937) للذرة، الذي يشبه - إلى حد ما - النظام الشمسي شهرة ذائعة، وفيه تتألف الذرة من نواة تقع في المركز، ويدور حولها عدد من الإلكترونات في مدارات مختلفة، ورغم الشهرة الذائعة لهذا النموذج والمكانة العظمى لواضعه فإنه نموذج يعاني من عيوب كثيرة، والاقتباس التالي يوضحها: «العيب الأول يخص الإشعاع الصادر عن الإلكترونات التي تدور حول النواة، فحسب النظرية الكلاسيكية فإن على الإلكترونات كجسيمات مشحونة تسير في سرعة دورانية، أن تصدر إشعاعات كهرومغناطيسية بصورة مستمرة، وعندما يصدر الإلكترون إشعاعات، فإنه يفقد جزءا من طاقته، وهذا يؤدي بدوره إلى جعله يقترب من النواة في المركز، ويزيد في سرعته الدورانية، وهكذا فالإشعاع المستمر يؤدي إلى دوران يقترب فيه الإلكترون باستمرار نحو النواة (دوران حلزوني) إلى أن يلتصق بها، إذن يجب أن تلتصق كل الإلكترونات مع النواة في نهاية الأمر. وهذا يعني انهيار الذرة وانهيار الكون كله، والعيب الثاني للنموذج أنه يتنبأ بإصدار شعاع كهرومغناطيسي ذي طيف متصل، وهو ما يتناقض مع التجارب الطيفية العديدة المتوافرة.»
14
وقد حاول العالم الدانماركي نيلز بور أن يتدارك هذا بوضع نموذج آخر للذروة نشره عام 1913، وطرأت عليه بعض التحسينات خصوصا على يد العالم الألماني زومرفيلد، وهو أستاذ هيزنبرج. يقول العالم الفيلسوف هنري مارجينو أستاذ الفيزياء البحتة بجامعة بل: «ترسخ درس اللانموذج نهائيا بعد أن فشلت آخر محاولة لبناء النماذج، وهي نظرية بور في فهم العالم الأصغر. في حدود النماذج التي تتضمن الحركة المألوفة للميكانيكا المرئية، وأخطر نواحي فشلها عجزها عن التنظير لأطياف الذرات التي لها أكثر من إلكترون واحد.»
15
وهكذا ثبتت عبثية فكرة النموذج كأصل وفروع، كفكرة وتطبيق، في عالم العلم، ولكن هل النماذج شيء مهم؟ إنها قد تكون مهمة في مدارس الأطفال والصبية، ولكنها ليست هكذا في مدارس الفلاسفة والعلماء، إن الذرة وعالمها الأصغر والعالم الأكبر ... هذا متصور ومفهوم الآن فهما يزداد دقة يوما بعد يوم، بغير حاجة إلى نماذج، ينبغي أن تكون ثمة مقدرة أكبر على التجريد.
16
إذن ليس ثمة نموذج مفروض، فليس ثمة نموذج أصلا، ولا وصاية على علم، ولا وحدة حديدية تردها جميعا إلى الفيزياء، إنها فقط الأسس المنطقية الصورية من حيث هي متبلورة في الفيزياء، لتكفل تآزر الجهود، وتكاتف الأنشطة، وبالتالي تسارع التقدم.
إن هذا التآزر النسقي المنشود ينبغي وأن يتحقق على أكمل وجه في نظرية المنهج العلمي، ومنطقه التجريبي، من حيث هو متحقق في البحث العلمي ذاته، فالبحث العلمي هو النموذج الأمثل على الجهد الجمعي التعاوني، كما تشهد طبيعته، ويشهد واقعه على مستوى الممارسة، ومستوى الفكر، ومستوى النظر، بل ومستوى الرسميات، ومنذ أن بشر بيكون بهذا في «أطلانطس الجديدة» المدينة العلمية الفاضلة، حتى تم اعتماده رسميا بنشأة الجمعيات العلمية إبان القرن السابع عشر، خصوصا الجمعية الملكية في لندن وأكاديمية العلوم في باريس، وصيغ نهائيا «حين استبدل القرن الثامن عشر بفكرة العلم مفهوما على أنه إنجاز شخصي وعقلي، فكرة الموسوعة التي تهدف إلى تجميع المعارف المتفرقة على ظهر البسيطة »،
17
وكان أحد انعكاسات هذا في القرن الثامن عشر أن تكاتف علماء فرنسا أجمعين - بريادة العلماء ذوي الاستبصارات الفلسفية - لإنجاز هذه الموسوعة.
وبمرور الأيام وتواتر التقدم العلمي يزداد العلم إمعانا في طابعه الجمعي التعاوني، بالمنظور الرأسي وبالمنظور الأفقي، المنظور الرأسي يعني استناد كل إنجاز علمي إلى الأعمال السابقة في ميدانه منذ الرائد الأول جاليليو، فلولا أبحاث أرشميدس في العصور القديمة لما كانت بحوث جاليليو التي لولاها لما كان نيوتن، فضلا عن الأسبقية المباشرة لأبحاث روبرت هوك ذي العبقرية التجريبية الفذة متعددة الجوانب، حتى قيل: إن بعض أعمال نيوتن محض صياغة تجريبية لما قاله هوك.
18 «وأعمال مدام كوري مثلا لم تكن ممكنة لولا اكتشاف بيكريل لإشعاع اليورانيوم، وقد استلزم اكتشاف هذا الإشعاع مساعدة من التصوير الشمسي، ويفترض هذا الأخير بدوره اكتشاف التأثير الفيزيوكيميائي وهكذا».
19
أما التعاون الأفقي فهو بين الأفرع المختلفة من العلوم، وفقا للتقسيم السابق إلى ثلاث مجموعات: فيزيوكيميائية وحيوية وإنسانية، وفي المرحلة الزمانية نفسها، كما نلاحظ مثلا في الفيزياء الفلكية والكيمياء الفيزيائية من ناحية، والكيمياء الحيوية والكيمياء العضوية من الناحية الأخرى، بل واللافت والمثير حقا أن العلوم الإنسانية بحكم موقعها وتعقد ظواهرها واستفادتها من المجموعتين السابقتين عليها والأكثر عمومية، نقول إن العلوم الإنسانية أكثر من سواها توغلا في هذا التعاون الأفقي، بحيث يتجلى بصورة أوضح، فنجد مثلا علم النفس الفيسزيولوجي؛ حيث استفادة السيكولوجيا من الفيزيولوجيا، أو علم النفس الاجتماعي؛ حيث يتعاون ويتآزر علما النفس والاجتماع، أو الجغرافيا الاقتصادية؛ حيث يلتقي علما الجغرافيا والاقتصاد ... وهكذا «ولا يمكن لعلمي الاجتماع: الصناعي والمدني أن يضربا صفحا عن معرفة البنى الاقتصادية، فعلم النفس الاجتماعي مثلا حين يدرس العلاقات بين الجماعات الصغيرة لا يمكن أن يكون منفصلا عن دراسات أوسع للأحوال الاقتصادية أو لتاريخ التيارات الفكرية التي أثرت على الأشخاص الذين يستأثرون باهتماماتنا، ويخضع كشف النقاب عن مجال جديد لنتائج اكتسبت في الماضي، أو في فروع أخرى من العلم، فجذور الراديو والتليفزيون تمتد إلى عمل هيرتز
Hertz
في الإشعاع الكهروطيسي، وهو عمل نتج عن رغبة من التثبت اختباريا من نظرية ماكسويل
Maxwell
التي هي بدورها صهر للقوانين الكهروطيسية الاختبارية، والتي لم يكن بالإمكان فهمها لولا بطارية فولتا
Volta ، واختبار أورستيد
Orsted . وتظهر هذه الأمثلة التي مر ذكرها بشكل واضح وجود نوعين من العلاقات: إحداهما أفقية، والأخرى عمومية، ويعود خصب العلم إلى التمازج المستمر بين مقتبسات الماضي ونماذج العلوم. فالتجميع والإخصاب المتبادل يتيحان للعلم التقدم تقدما متسارعا باستمرار».
20
وما دامت أحد مفاتيح تقدم العلم وتعملقه هو ما يتجسد في واقعه وممارسته من تآزر وتعاون واستفادة متبادلة، فكيف لا يتأكد هذا، ويتعمق بالتآزر والاستفادة المتبادلة على مستوى العلاقات النسقية والخواص المنطقية، والتي لا تفرض وصاية على علم، أو تصادر على حدوده، بل على العكس تساهم في تجاوز مشكلاته، وبالتالي تفتح أمامه مجالات التقدم، أو تسارع معدلاته.
والعلم كلما ازداد تقدما، ازداد تشعبا، وفي أول صفحة، بل وأول فقرة من كتابنا هذا، نوهنا إلى الظاهرة اللافتة للنظر في الآونة الأخيرة، وهي أن العلوم الطبيعية، وأيضا الإنسانية تشهد كل يوم نشأة فروع جديدة، وأيضا استقلال مباحث جزئية في هيئة علم مستقل، فليتشعب العلم ما شاء له التشعب، وكلما ازداد تقدما سيزداد تشعبا، وطبعا هذا حسن، ومدعاة لمزيد من إحاطة أدق بالظواهر، لكننا نتساءل: أليس الأفضل والأدعى إلى إحاطة أدق أن يجري هذا التشعب على أسس مشتركة تكفل تقنينا للمشروع العلمي، على كل هذا تغدو الاستفادة من الخاصة المنطقية للعلوم الطبيعية في حل مشاكل للعلوم الإنسانية مشروعة، بل ضرورية، ولا ينطوي على أكثر من التسليم بإمكانية العلم بالظواهر الإنسانية، فعلام يعترضون وماذا يرفضون؟
ولا شك أن الرديين (الاختزاليين)، وعلى رأسهم الوضعيون، ودعاة فرض النموذج الطبيعي، ووحدة العلم، وبعد انقضاء العصر النيوتني، هم في حالة انبهار تام بالفيزياء، انبهار من نمط يزيغ البصر، وهو موقف يسمى بالنزعة العلموية
Scientism . يقول كارل بوبر: «إني أقدر تمام التقدير أهمية الكفاح ضد موقف التسليم الساذج بالمذهب الطبيعي، هذا الموقف الذي أطلق عليه الأستاذ هايك عبارة النزعة العلموية، ومع ذلك فلست أرى سببا يمنعنا من استخدام هذا التماثل ما دامت فيه فائدة لنا، مع إدراكنا أن بعض الناس قد أساءوا استخدامه، وأخطئوا في تصوره إلى حد مشين.»
21
فلماذا رفض التمثيل والتماثل مع الخاصة المنطقية للعلوم الطبيعية، ما دامت فيه إفادة للعلوم الإنسانية، وحيلولة دون تسرب ما هو لاعلمي إلى داخل نسق العلم، ومهما أثقلت علاقة الباحث بموضوع بحثه، بخصوصية وإسقاطات أيديولوجية وقيمية وسياسية، فلديه محك لصوغ فروض، والحكم عليها ليخرج بنتائج علمية، تضاف إلى نسق العلم، بموضوعية وبثقة. •••
ورب قائل «إن هذه العلاقة أو الوشائج الإسقاطية والتربصية بالعلوم الإنسانية، لا تربط بين الباحث وموضوع البحث، خصوصا أن الإبستمولوجيا المعاصرة علمتنا أن هذه العلاقة ذات تأثير حتى على الظواهر الفيزيائية، بل إن مكمن خطورتها في أنها تربط موضوع البحث، ونتيجة البحث العلمي بإسقاطات السياق الحضاري ككل، بالبنى الثقافية المختلفة، بعوامل خارجية عن حركة العلم.» هذا صحيح، لكن معيار القابلية للاختبار والتكذيب التجريبي يلزم كلا بموقعه، من حيث يرسم حدودا للمشروع العلمي لا يتخطاها إلا ما هو علمي ما هو إخبار عن الواقع، وبطبيعة الحال بقية عناصر البناء الثقافي العوامل الخارجية لن تتسرب بسهولة إلى المشروع العلمي؛ لأنها لا تستطيع اجتياز المواجهة الملتزمة المسئولة مع الواقع التجريبي التي يتطلبها اختبار التكذيب، ولا من المطلوب منها أن تجتاز هذا الاختبار، طالما أنه ليس مطلوبا منها القيام بمهام العلم والإخبار عن الواقع التجريبي، بل المطلوب منها مهام حضارية أخرى، ربما كانت أهم، فليس العلم - طبعا - كل شيء، ولا حتى أهم شيء، لكننا نعتقد أنه شيء مهم، ومن الأفضل أن يشق طريقه، ويؤدي مهامه الدقيقة على الوجه المنشود.
إن الهدف من العلوم الإنسانية، ومن حل مشاكلها هو حل مشاكل جمة للواقع الحضاري، ليس من المستهدف البتة عزل العلوم الإنسانية عن واقع الحياة الإنسانية، ومتطلباتها وأهدافها. وليس من المطلوب إذعان مستور للأوضاع الراهنة يتذرع بالحياد الأكاديمي، ولا خضوع، بل تكريس له بزعم الموضوعية العلمية، ولا طبعا إثارة الثورة عليه لمجرد الشغب والفوضى والرفض تحت اسم العلم المجيد، على هذا نستطيع التأكيد وبحسم على أنه ليس من المنشود البتة، ولا حتى من المقصود اجتثاث الأصول والجذور الحضارية للمشروع العلمي في المباحث الإنسانية، إن السياق الثقافي الحضاري القيمي رافد ضروري للمحتوى المعرفي في العلوم الإنسانية، إن لم يكن منبعا، وهو ذاته صلب موضوعها ومسرح ظواهرها، لكن إثراءها، وحل مشكلتها ومشاكل عديدة له، يتطلب التفاعل المثمر السليم بينهما، ويشترط هذا أن يكون كل في موقعه، كل لأداء دوره.
وإذا كنا توقفنا عند تشويهات الأيديولوجيا بالذات للعلوم الإنسانية، فقد أشرنا إلى أننا لا نعطيها في حد ذاتها أية دلالة سلبية، فهي مفهوم جوهري للجماعة الإنسانية. إن الأيديولوجيا كيان شديد الأهمية، وإذا كنا استعنا ببول ريكور لتوضيح طبيعة تشويهات الأيديولوجيا للعلم فإن ريكو نفسه يقول: «إن هذا الفساد والاختلال اللذين يلحقان بوظيفة الأيديولوجيا، لا ينبغي أن يخفيا عنا الدور الإيجابي لها، أي الدور البنائي التأسيسي الجيد الذي تلعبه في حياة الجماعة، ويجب علينا هنا أن نعيد التذكير بأن كل مجموعة إنسانية لا يمكن أن تتمثل وجودها الخاص إلا بواسطة فكرة وصورة نموذجية تصنعها عن ذاتها، وهذه الصورة هي التي تؤسس بدورها وحدتها وتماسكها وتقوي إحساسها بهويتها الذاتية.»
22
وإحساسنا نحن بهويتنا الذاتية تصاعد في الآونة الأخيرة، ويتخذ صورة صحوة قوية للحس الديني، ليغدو الإسلام العظيم خاتمة الرسالات السماوية، هو سبيل تحقيق الذات، ونشدان الهوية، وأسس المشروع الحضاري، وإطار الأيديولوجيا الأصولية والمستقبلية، وهذا شيء قد يكون محمودا، خصوصا في إطار مواجهة العولمة التي تهدد بمحو كل تنوع وثراء وتمايز حضاري، ولكن تنامت مؤخرا الدعاوى إلى العلوم الإنسانية الإسلامية أو العربية، والذي يجب تأكيده - وبداهة من أجل صالح حضارتنا أولا - أن أسلمة العلوم الإنسانية أو الفيزيوكيميائية، لن يحمل في حد ذاته حلا لمشكلتها أو تقنينا لمرحلتها التفسيرية، ومضاعفة لتقدمها، وبالتالي لن يزيد في حد ذاتها من إحاطتها بالواقع، وقدرتها على المساهمة في حل إشكالياته، أجل لن يزيد من هذا شيئا إذا ما غض النظر عن شروط العلم، أي خصائصه وقواعد منطقه، وأصوليات منهجه، ومن ناحية أخرى وإذا افترضنا أن ظواهرنا الإنسانية والاجتماعية ذات طبائع وحيثيات مختلفة عن الظواهر الغربية، وافترضنا أن النظريات العربية لا تحيط بها، فالمطلوب ومن أجل الإحاطة بها أن نضع نحن نظريات ملائمة لها، فتنجح في وصفها وتفسيرها، فلا بد إذن أن تكون هذه النظريات والفروض قابلة للاختبار والتكذيب التجريبي، لنتحقق من قدرتها على القيام بالمهام المرجوة من العلم، وفي كل حال لا مندوحة لنا عن معايير المنطق، إن المنطق هو المعامل الموضوعي والقاسم المشترك الأعظم بين البشر أجمعين مهما تباينت مشاربهم؛ لأنه قوانين العقل الإنساني من حيث هو إنساني، وبالتالي فإن منطق العلم هو قوانين العقل العلمي من حيث هو علمي.
وكما حرصنا على تحقيق هدف مؤداه ألا تقتحم البنى الحضارية والأيديولوجيا المشروع العلمي، فإننا نحرص أيضا على ألا يقتحم منطق العلم البنى الحضارية والمشاريع الأيديولوجية، ومنطق العلم لا يملك حكما - لا قبولا ولا رفضا - لمشروع حضاري معين أو بنية أيديولوجية دون سواها، معنى هذا أنه لا خوف إطلاقا على عناصر هويتنا القومية وقيمنا ومنطلقاتنا من صرامة منطق العلم ومعيار التكذيب، فإن المنابع الأيديولوجية في حد ذاتها محتمية بحدودها، فحتى ولو كانت مصدرا لفرض علمي، فإن الفرض هو فقط وفي حد ذاته الذي يخضع للاختبار التجريبي، يتم تكذيبه أو تعديله أو تعزيزه، أما المصادر الحضارية الكبرى فلا علاقة لمنطق العلم ومعاييره بها.
وقد انتهينا إلى أن الوقائع التجريبية والتعميم الاستقرائي لها ليس مصدرا منهجيا للفرض العلمي، فهو يأتي من أي طريق كان، المهم هو مضمونه، ومحتواه، وقدرته على حل المشاكل المطروحة، وإثارة مشاكل أخرى، ما دام فرضا علميا قابلا للاختبار والتكذيب، منطق العلم وأيضا منهجه لا علاقة لهما بمصدر الفرض، بل فقط بالفرض ذاته، والفرض العلمي قد يستلهمه الباحث المبدع من الملاحظة التجريبية من الأيديولوجيات والفلسفات، قد يهبط من التراث، وقد يصعد من حصائل الحس المشترك، وقد يأتي من طريق آخر غير هذا وذلك ...
وسيكون مغنما عظيما لنسق العلم ولبنائنا الحضاري، لو استطاع باحثونا في العلوم الإنسانية استلهام تراثنا الزاخر وواقعنا المتطلع والخروج بفروض علمية قادرة على الإحاطة بالظواهر الإنسانية ، فتثري نسق العلوم الإنسانية، وتمكنه من طرح تفسيرات أكثر كفاءة، المهم فقط أن تصاغ من المصادر المتنوعة فروض تتحقق فيها الشروط المنطقية للسمة العلمية، أي يصاغ الفروض في صورة نظرية يمكن أن نستنبط منها قضايا جزئية، ندبر لها المواقف التجريبية لاختبارها، كما سبق أن أوضحنا بالتفصيل في الفصل الرابع من الكتاب، على أن تدبير المواقف التجريبية والاختبارات التكذيبية في العلوم الإنسانية لا يقتصر على المشاهدات أو التجارب المعملية والميدانية فحسب - كما هو الحال في العلوم الطبيعية والفلك والجيولوجيا ... إلخ - بل يتعداه إلى كل الوسائل الإمبيريقية المعروفة من أسئلة واستبيان واستبار ومقابلات وأقوال شائعة ... وحتى ما تنشره الصحف اليومية ... إلى آخر الأساليب المعروفة لباحثي العلوم الإنسانية تبعا لتخصصاتهم المختلفة.
23
معنى هذا أنه يمكن أن يظل التراث والأيديولوجيا والحس المشترك والقيم ... بالنسبة للعلوم الإنسانية رصيدا هائلا، ولكن لا يمكن استثماره إلا إذا تحول إلى عملة قابلة للتداول بين العلماء، فالمهم إذن أن يكون ثمة محك مشترك يمكن الارتكان إليه للحكم على أهلية الفرض أو عدم أهليته للقيام بمهام العلم الإخباري، وتلك مهمة تؤدي داخل نسق العلم ذاته، بعبارة أخرى، معيار القابلية للاختبار والتكذيب التجريبي يحكم على مسير ومصير الفرض داخل نسق العلم ذاته، ولا يملك أي حكم على مصادره الأيديولوجية، ومهما كانت وثيقة الصلة بالعلم، إنه مثلا «لا يفضي إلى الحسم بين قول الماركسيين، إن المجتمع في صراع، وبين قول الوظيفيين بأنه متوازن ومستمر، فهذا من شأن المنظورات الأيديولوجية، وكذلك الدعوى بالعلاقة الجدلية أو الزعم بالتكامل، فهذا من شأن الافتراضات الفلسفية.»
ولكن على الماركسيين والوظيفيين وغيرهم أن يستخرجوا من هذا الزعم أو ذلك ما يصلح أن يكون فروضا علمية تقبل الامتحان، وتحتكم إلى المشاهدات والتجارب، وقد تؤيد أو تفند فروض من هذه النظرية أو تلك، بحيث تنضم الفروض الناجحة «أو التي اجتازت اختبارات القابلية للتكذيب، وتم تعزيزها» إلى شبكة نظرية أوسع قد تتجاوز حدود النظريات الأصلية، وتتخذ طريقا خاصا للتطور. فهكذا يتأسس المشروع العلمي، ويرتفع صرح العلم شيئا فشيئا، وطابقا فوق طابق .
24
هوامش
الختام
ليست الفلسفة ملكة العلوم والمعارف، ولا هي خادمة اللاهوت أو سواه، وقد ماهت الفوارق الطبقية منذ انهيار عصر الإقطاع، والآن في طريقها إلى الزوال والأفول التام، وأصبح تقسيم ماركس الحاد للمجتمع المنتج إلى برجوازية مستغلة وبروليتاريا مطحونة، مدعاة للسخرية، ولا يطابق الواقع بحال. إننا في عصر التعاون والتآزر والعمل الجمعي؛ حيث تتناسب قيمة العمل سواء في الفكر أو في الواقع - أي فكر كان وأي واقع كان - تناسبا طرديا مع تعدد العناصر الفعالة فيه، وأصالة تكاتفها، وعمق تآزرها.
ومن ثم ليست فلسفة العلوم ملكة آمرة أو مرشدا هاديا حاديا يرسم للعلماء خطوات المنهج الاستقرائي: (1) ملاحظة. (2) فرض. (3) اختبار ... إلخ، كما تصور فلاسفة العلم الكلاسيكي منذ فرنسيس بيكون حتى جون ستيورات مل، ليسير العلماء وفقا لها على الصراط المستقيم، حتى يصلوا حتما إلى الغنيمة الموعودة: كشف علمي هو قانون يقيني، حقيقة نهائية من حقائق الكون الميكانيكي! كلا بالطبع، ولا هي - أي فلسفة العلوم - محض خادمة تابعة تتلقط سواقط الفيزياء، أو فتات سواها من موائد العلوم لتنكب على تحليلها كما بدا للوضعيين المناطقة.
كل ما في الأمر أن فلسفة العلوم تتسلح بشفيعها: المنطق حصن الفلسفة الحصين، والمعامل الموضوعي المشترك بين الجميع، سواء في حلبة الفلسفة، أو في حلبة العلم، أو في البين بين، وذلك لكي تجرد الأطر الصورية للعلم، مما يعين على وضع النقاط على الحروف، ويمكن من استكناه الأسس التأصيلية الجذرية، بغية استبصار الآفاق المستقبلية.
وعلى هذا لم تكن محاولتنا السابقة إنشاء خطة عمل مستحدث، أو برنامج بحث مستجد لباحثي العلوم الإنسانية، فقد مضى زمان الدعاوى الهوجاء منذ أن انقضى عصر الأبنية الميتافيزيقية الشوامخ، بل كانت محاولتنا مجرد خروج من واقع العلم الراهن بالأسس التأصيلية متجها صوب الإمكانيات الاستشرافية؛ لكي تتلاقى شعاب التوجهات الواعدة في العلوم الإنسانية على محك موضوعي معتمد، توسلا للأمل المفتقد إلى حد ما في العلوم الإنسانية، والذي نراه متحققا بأجلى صوره في العلوم الطبيعية، أي الاتفاق على معيار مشترك يصون أهداف العلم، ويرسم نحوها حدودا واضحة، يتلاقى داخلها الرأي والرأي الآخر؛ لأن الاتفاق بين العلماء هو السبيل إلى الإحاطة بالظواهر الإنسانية، وصفا وتفسيرا، ومن ثم تنبؤا وتحكما وسيطرة.
إذن تبرير محاولتنا هذه وتسويغها إنما هو في حقيقة الأمر تنامي اقتفاء العلوم الإنسانية لمنطق العلم، وتدفق أبحاثهم وفق الفروض القادرة على الخضوع لإجراءات منهجية دقيقة، فيها يتردد كثيرا مصطلح الاختبار والقابلية للاختبار، ولولا هذا الواقع الواعد وحصائله المتنامية كما وكيفا لما كان ثمة معنى، ولا جدوى لتوضيح سبل التقنين المنطق الأدق.
فنحن بإزاء منطق العلم، وليس منطق الفن، والمنطق ما هو لبناء أيس من ليس، ولا هو ليشق - وهادا - في الأحراش والأدغال أو نهاجا في البلقع والفلاة ... إنه - كما أشرنا وكما هو معروف - مجرد تجريد للقوالب الصورية المتضمنة لتدفقات الواقع الحي المضطرم، وذلك لوضع النقاط على الحروف، فيزداد الطريق وضحا، ويزداد التقدم صعودا.
تلك هي مهمة منطق العلم.
ثبت المراجع
أولا: المراجع الأجنبية (1)
Althusser. Louis, Politics And History, Trans. By Ben Brewster, NLB, London, 1972 . (2)
Berlin. Isaiah, Four Essays On Liberty, Oxford, 1976 . (3)
Braithwaite, R. B. & Broad. C. D, indeterminacy And Indeterminism, in: Aristotalian Society: Suplementary Vol. X. Indeterminism, Formalism And Value, Harris Sons, London, 1931 . (4)
Burnet. John, Ancient Greek Philosophy: Thales To Plato, St, Martin Press, New York, 1968 . (5)
Butterfield. Herbert, The Origins Of Modern Science: 1300-1900, London, 1949 . (6)
Carnap. R, The Logical Syntax Of Language, Routledge & Kegan Paul, London, 1951 . (7)
Cohen. Morris R., Reason And Nature: Essay On The Scientific Method, Dover Publishing, New York, 1978 . (8)
Copi. Irving M., Introduction To Logic, Macmillan, New York, 1978 . (9)
Crowther. G. J., A Short History Of Science, Methuen Eductional, LTD, London, 1969 .
وللكتاب ترجمة عربية بقلم المؤلفة بالاشتراك مع د. بدوي عبد الفتاح، تحت عنوان: قصة العلم، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1998. كما صدر لنفس هذا الكتاب طبعة أخرى في سلسلة مكتبة الأسرة عن الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1999. (10)
De Broglie, Louis, The Revolution in Physic: A Nonmathematical Survey Of Quanta, Routledge & Kegan Paul, London, 1954 . (11)
Dilthey. Wilhelm, Patterns And Meaning in History: Thoughts On History And Society, Hebert Torchbooks, New York, 1961 . (12)
Feigl. Herbert & Brodbeke. Marry (eds), Readings on The Philosophy Of Science, New York, 1953 . (13)
Feyerabend. Paul K., Philosophical Pappers, Vol. I, Realism Rationalism And Scientific Method, Vol. II, Problems Of Empiricism, Cambridge University Press, 1981 . (14)
Gibson. Quentin, The Logic Of Social Enquiry, Routledge & Kegan Paul, London, 1963 . (15)
Grunbaum. A & Salmon. W., The Limits Of Deductivism, University Of California Press, 1989 . (16)
Heisenberg. Werner, Physics And Beyond: Memories Of Life IN Science, 1971 . (17)
Hill, D. E, The Impact And Value Of Science, Hutchinson, London, 1945 . (18)
Homans. George C., The Nature Of Social Science Harcourt, New York, 1967 . (19)
Hutten. Ernest, The Ideas Of Physics, Oliver & Boyd, London, 1967 . (20)
Jeans. James, The Mysterious Universe, Camberidge, University Press, 1933 . (21)
Katz, Jerold, Problems Of Induction And Its Solutions, University Of Chicago Press, 1962 . (22)
Kuhn, Thomas, The Structure Of Scientific Revolutions, University Of Chicago Press, 1970 . (23)
Margenau. Henery, The Nature Of Physical Reality, Mcgraw Hill, New York, 1960 . (24)
Margolis, Joseph, Science Without Unity: Reconciling The Human And Natural Sciences, Basil Blackwell, Oxford, 1987 . (25)
Mill. J. S, System Of Logic, Book1, Ed. By J. M. Robson, Routledge & Kegan Paul, London, 1973 . (26)
Myrdal, Gunner, Objectivity In Social Research, Gerold Duckworck, London, 1970 . (27)
Natanson. M. (ed), Philosophy Of Social Scail Sciences, Random House, New York, 1963 . (28)
The Bulgarian Academy Of Science, Sofia, 1973 . (29)
Hutchinson, London, 1976 . (30)
Scientific Knowledge, Kegan Paul London, 1972 . (31)
Approach, Clarendon Press, Oxford, 1976 . (32)
The High Tide Of Prophyecy, Vol. II, Hegel, Marx And The Aftermath, Routledge & Kegan Paul, London, 1986 . (33)
Roultedege & Kegan Pul, London, 1977 . (34)
Reichenbach H., Relativity Theory And Apriori Knowledge, Trans. & ed. With Introduction By Maria Reichenbach, University Of Chicago Press, 1958 . (35)
Russell B., The Scientific Outlook, George Allan & Unwin, London, 1934 . (36)
Schilpp P. A. (ed.), The Philosophy Of Karl Popper, Two Volumes, Open Court Publishing, IIIinois, 1974 . (37)
Collected Poppers :
The Science And Praxis Of Complexity, Controbutions To Symposium Held At Montpellier, France, 9-11 May 1984. United Nations University, Tokyo, 1985 .
ثانيا: المراجع العربية والمترجمة (1)
ألبرت أينشتين، أفكار وآراء، ترجمة د. رمسيس شحاتة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1986. (2)
بول ريكور، الخيال الاجتماعي ومسألة الأيديولوجيا واليوطوبيا، ترجمة منصف عبد الحق، المجلة التونسية للدراسات الفلسفية، العدد السابع، أكتوبر 1988. (3)
جاستون باشلار، الفكر العلمي الجديد، ترجمة د. عادل العوا، مراجعة د. عبد الله عبد الدايم، منشورات وزارة الثقافة، دمشق 1969. (4)
جاستون باشلار، العقلانية التطبيقية، ترجمة د. بسام الهاشم، دار الشئون الثقافية، بغداد 1987. (5)
جيروم برونر وآخرون، الجديد في علم النفس، ترجمة فؤاد كامل، ملف العدد 8، مجلة الثقافة العالمية الكويت، 1983. (6)
د. إيفانوف، الفيزياء الحديثة: استعراض عام للمبادئ الرئيسية للفيزياء المعاصرة، دار مير ، موسكو، 1971. (7)
روبير بلانشيه، نظرية المعرفة العلمية: الإبستمولوجيا، ترجمة د. حسن عبد الحميد، مطبوعات جامعة الكويت، 1986. (8)
ريمون بودون، مناهج علم الاجتماع، ترجمة هالة الحاج، منشورات عويدات، بيروت، 1972. (9)
رينيه مونيه، البحث عن الحقيقة: وجوهها وأشكالها وعلاقتها بالحرية، ترجمة هاشم الحسيني، مكتبة الحياة، بيروت، 1966. (10)
فرانكين: ل. بامر، الفكر الأوروبي الحديث، أربعة أجزاء، ترجمة د. أحمد حمدي محمود، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1988-1989. (11)
فوربس أ، ج د. هوز، ديكستر، تاريخ العلم التكنولوجيا، ترجمة د. أسامة الخولي، ج1، مراجعة د. محمد مرسي أحمد، مؤسسة سجل العرب، القاهرة، 1967. (12)
فيرنر هيزنبرج، الطبيعة في الفيزياء المعاصرة، ترجمة د. أدهم السمان، دار طلاس، دمشق، 1986. (13)
كارل بوبر، عقم النزعة التاريخية: دراسة في مناهج العلوم الاجتماعية، ترجمة د. عبد الحميد صبرة، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1959. (14)
كلود برنار، مقدمة لدراسة الطب التجريبي، ترجمة د. يوسف مراد وحمد الله سلطان، المطبعة الأميرية، القاهرة، 1944. (15)
كلود ليفي شتراوس، الأسطورة والمعنى، ترجمة د. شاكر عبد الحميد سليمان، دار الشئون الثقافية العامة، بغداد، 1986. (16)
ناليموف، ف. ف، قبول الفرضيات العلمية، ترجمة أمين الشريف، مجلة يوجين، رسالة اليونسكو، العدد 46، أكتوبر 1979. (17)
و. أ. بفردج، فن البحث العلمي، ترجمة زكريا فهمي، مراجعة د. أحمد مصطفى أحمد، دار النهضة العربية، القاهرة 1963. (18)
د. محمود رجب: المنهج الظاهراتي في الفلسفة، رسالة دكتوراه غير منشورة ملحق بها ترجمة كتاب: أدموند هوسرل، الفلسفة علما دقيقا، كلية الآداب، جامعة عين شمس، 1987. (19)
محمود أمين العالم، فلسفة المصادفة، دار المعارف، القاهرة، 1970. (20)
يمنى طريف الخولي، جون ستيورات مل، أول من نادى بإخضاع العلوم الإنسانية للمنهج التجريبي، مجلة التربية، الدوحة، العدد. 6، 1983. (21)
يمنى طريف الخولي، العلم والاغتراب والحرية، مقال في فلسفة العلم من الحتمية إلى اللاحتمية، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، 1987. (22)
يمنى طريف الخولي، ما هي الوضعية المنطقية، في: زكي نجيب محمود فيلسوفا وأديبا معلما، الكتاب التذكاري الصادر عن جامعة الكويت، 1987. (23)
يمنى طريف الخولي، فلسفة كارل بوبر: منهج العلم ... منطق العلم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1989. (24)
يمنى طريف الخولي، إشكالية الزمان في الفلسفة والعلم، ألف: مجلة البلاغة المقارنة، الجامعة الأمريكية بالقاهرة، العدد التاسع، 1989. (25)
يمنى طريف الخولي، الحرية الإنسانية والعلم: مشكلة فلسفية، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، 1990.
Unknown page