93

Mushilat Maca Ghuraba

مشكلات مع الغرباء: دراسة في فلسفة الأخلاق

Genres

تتسم غائية نيتشه إذن بشيء من التراجيديا؛ فحياة الإنسان في نهاية الأمر لا يمكن أن تزدهر إلا بقدر مريع من العنف والبؤس واحتقار الذات؛ لكن ما من أثر للتراجيديا في الإنسان الأعلى نفسه، الذي يشع فيضا من اللطف والسكينة وسمو الأخلاق وما يسميه نيتشه على نحو غريب «سمو الروح». وإذ يبعد كل البعد عن أن يكون كائنا وحشيا مفترسا، فهو خبير في البهجة والانضباط والشهامة، يكرس نفسه فقط لازدهاره الذاتي بوصفه فنانا يرسم لوحته الخاصة؛ فالإنسان الأعلى أو الإنسان الأسمى؛ وإذ يدخل في المغامرة التي لا نهاية لها المتعلقة بالإبداع والتجربة الذاتيين، هو فنان وتحفة فنية في جسد واحد. فهو - إن جاز التعبير - قطعة من الصلصال في يديه هو نفسه، وله الحرية في تشكيل نفسه على أي صورة بديعة تناسب الحياة والنمو والقوة بالقدر الأكبر؛ إذ يجب علينا أن نكون «شعراء نكتب قصيدة حياتنا» بأدق تفاصيلها. إن وجود الأخلاق واجب؛ لكنها يجب أن تكون مصنوعة خصيصى كي تناسب شخصية الإنسان الفريدة وليست معدة مسبقا.

ليس هذا شكلا خاطئا من أشكال المذهب الفردي؛ فالإنسان الأعلى يهذب ويثري قواه لا من أجل نفسه، بل من أجل الازدهار الأكبر للنوع البشري، فهو كالقربان على هذا المذبح شأنه شأن تلك الكائنات التي وجب هلاكها باسم التطور. وفي هذا الإطار يمثل نيتشه نموذجا فيكتوريا بارزا؛ فالإيثار إذن مردوده يكون على مستوى أعلى. فمن ناحية يخضع الإنسان الأعلى لقانون حاكم شأنه شأن أكثر المواطنين الممتثلين خنوعا؛ لكن هذا قانون يضعه لنفسه؛ ومن ثم فهو صورة فريدة لا مثيل لها من القانون العام الذي يصر كانط (الذي هو عجوز جبان مخصي من وجهة نظر نيتشه الساخرة) على أن نخضع له؛ لذا فإن القسر الوحشي هذا يؤدي إلى الهيمنة على الذات. ومثلما يستعير نيتشه من كانط مفهوم الواجب - بينما ينكر أن ذلك قد يعني واجبا على الجميع إطلاقا - فهو يقتبس من سلفه رؤية التطويع الحر للقانون؛ لكنه إذ يطوعه يجرده من وحدته وعموميته. فالقانون في المستقبل سيكون ذا طابع لا قانوني غريب، يلائم كل فرد على حدة؛ فالإنسان الأعلى مقرر لكل شيء؛ حيث يستمد دليله من التدفق السعيد لقواه وليس من مبدأ مسبق أو قاعدة عامة، فهو كالعمل الفني يضع قوانينه وأعرافه الخاصة. إن ما يؤكد عليه الفلاسفة الحقيقيون هو تنوع الحياة وليس نمطا سلوكيا معينا؛ إذ ليس من الواضح أي المعايير تحدد ما يعد «تعزيزا» لجودة الحياة. ولا يسع نيتشه أن يخاطب الفطرة هنا أكثر من مخاطبته للأعراف السائدة. وكذلك إن كانت إرادة القوة تشمل كل الظواهر بحيث لا يتبقى أي معايير أخلاقية فيما وراءها يمكن بها الحكم عليها، فلن يمكننا معرفة ما إذا كانت نافعة، وفي تلك الحالة ما المثير للإعجاب في دعمها؟

لا يؤيد نيتشه مفهوم الفضيلة، الذي ينحدر من الفكر الأخلاقي الأرسطي الذي سنتناوله فيما بعد. ويخبرنا في عمله «إنسان مفرط في إنسانيته» أن الأخلاق تبدأ في صورة إلزام، وتتحول إلى عادة، ثم تحول نفسها إلى غريزة، وأخيرا تربط نفسها بالإشباع تحت مسمى الفضيلة؛ فالفضيلة ما هي إلا صورة سامية من الإلزام الأعمى، مثلما تبدو أحيانا عند جاك لاكان. مع ذلك توجد عناصر مما يسمى بأخلاق الفضيلة في حياة الإنسان الأعلى. وكما الحال عند أرسطو، فإن الهدف الأسمى للإنسان الأعلى هو تحقيق الذات؛ رغم أن نيتشه بعكس سلفه القديم يغمره شك عميق في الوجود الفعلي لأي شيء في صورة نفس مستقلة، وعلى أي حال لا يكون تحقيق الذات هذا في نظره هدفا في نفسه - مثلما يرى أرسطو - بل لتحسين «الحياة» ككل. مع ذلك فثمة مواضع يتحدث فيها بأسلوب يذكر بأرسطو عن «أسمى صور الرخاء» وعن «الإنسان الكامل»، ويذكر عبارات مثل «مزيد من التطوير الحر للنفس» التي كانت شائعة تماما في أعمال ماركس، المؤيد الخفي لأرسطو. فالإنسان الأعلى شأنه شأن الإنسان الفاضل صنيعة عادة، عادة تعيش طبقا للغرائز التي غرست في نفسها أرقى القيم الثقافية والحضارية. ومن هذا المنطلق هو يجمع بين الطاقة الغريزية للمرحلة «الحيوانية» من الوجود الإنساني وبين اختياره الخاص للقيم في حقبته «الأخلاقية».

توجد نقطة اتفاق أخرى بين نيتشه وأخلاق الفضيلة، فالأخيرة - كما سنرى لاحقا - لا تتعارض مع القوانين والوصايا الأخلاقية، بل إن هذه - بعكس الأخلاق الكانطية - ليست نقطة انطلاقها، فهي تبدأ بتصورات معينة عن الفضيلة والتفوق والرفاهية وتحقيق الذات وما إلى ذلك، وتقيم وظيفة الأعراف والوصايا في إطار السياق الأوسع هذا؛ فالأوامر والنواهي لا ينبغي اعتبارها هدفا في ذاتها. ويستمر نيتشه في نفس الإطار قائلا: ستظل القوانين موجودة في مملكة الحرية المقبلة، لكن وجودها سيكون من أجل إثراء الحياة بصورة أكبر. لكن لو كان نيتشه قد استوعب فكر أرسطو على نحو تام، فلربما أدرك أنه حتى أخلاق الحاضر المنحل ليس من الضروري أن تكون متعلقة بصورة رئيسية بالقوانين والإلزام. وهذه إحدى أكثر النقاط الضمنية إيجابا لفكر الفيلسوف القديم. وللمفارقة، يؤيد نيتشه فرضية كانط المريبة التي مفادها أن الأخلاق قضية متعلقة بالواجبات والوصايا، فقط ليستبعد تصور الخاص بالأنا العليا كله من أجل رؤيته الخاصة شديدة الاختلاف؛ إذ يرى أن الأخلاق هي قبل كل شيء قضية فرض مسارات معينة للفعل، وإنكار أنواع معينة من الفعل ومن الأشخاص، وهو ما يرفضه كله بطبيعة الأمر. لكنه إن لم يكن قد عرف الأخلاق بمثل هذا الشكل الضعيف من البداية، فربما ما كان عليه أن يتبرأ منها على هذا النحو الصارخ. وهكذا يقع نيتشه فريسة لأخلاق القطيع باستنكاره إياها. وثمة مفارقة مشابهة عند ماركس الذي يبدو أحيانا أنه يختزل الأخلاق في التقييم الأخلاقي ، والذي يعجز عن استيعاب أن عمله يمثل دراسة أخلاقية بالمعنى التقليدي غير الأخلاقي للمصطلح.

33

إن الإنسان الأعلى كائن شديد الإيجابية؛ إذ يفيض بالصحة والبهجة الشديدتين. إلا أنه يختلف جذريا عن الإنسان ذي الروح العظيمة عند أرسطو في الثمن الفادح الذي يجب أن يدفعه لإيجابيته الأبدية. والثمن هو مواجهة مخيفة مع النظام الواقعي؛ أي إدراك أنه لا حقيقة ولا جوهر ولا هوية ولا أساس ولا غاية ولا قيم فطرية في الكون؛ فالإنسان وهم، وكذلك الأشياء التي تبدو راسخة أمامه. إن إدراك كل هذا يمثل التحديق في الهوة الديونيسيوسية المظلمة عند المذكورة في عمل «مولد التراجيديا» مع رفض كل مسكنات الوهم الأبولوني. فهو يعني تحويل حتى هذا الإدراك المريع لدافع الموت إلى عادة غريزية، والرقص دون أي يقينيات على حافة الهوة؛ فالإنسان الأعلى هو من ينتزع الفضيلة من الإلزام الشديد، ويحول انعدام وجود أساس للواقع إلى حالة من المتعة الجمالية ومصدر لعملية ابتكار الذات التي لا توقف. فهو شأنه شأن أبطال النظام الواقعي الأخلاقيين عند لاكان قد تخطى مرحلة التعميد بالنار التي هي مأساة في مكان فيما وراء هذه المحنة السعيدة، إلا أن الوصول إلى تلك الحالة التي يحسد عليها يتطلب من النوع البشري أن يستعد لدروس النظام الرمزي القاسية.

إذا ثمة تفسير يرى أن نيتشه يعتقد أن الإنسان حقيقي الوجود يتقدم من السقوط السعيد الخاص بالنظام الرمزي، إلى مواجهة مهذبة مع النظام الواقعي، ثم إلى حالة من الفضيلة تحيل العقل الخطابي إلى غريزة تلقائية. فالإنسان الأعلى منان وكريم، لكن ذلك مقرون بلا مبالاة السيد النبيل الراقية الخالية من الهموم. وفي هذه الحالة تكون الدوافع والعواطف الجسدية مهمتين، وهو ما يجعل هذه الحالة من بعض الجوانب نموذجا أرقى للنظام الخيالي. وسنرى لاحقا أن الأخلاق عند جاك لاكان وآلان باديو تكمن في الإخلاص الثابت للنظام الواقعي، الذي يجب أن يتمسك به الفرد رغم فخاخ النظام الرمزي وأوهامه؛ فالفعل الأخلاقي الحقيقي عند الطليعة الباريسية هو الفعل الذي يرفض زيف وملل ما هو معتاد من أجل الالتزام المستدام بهذه الحقيقة السامية؛ لكن ليس هذا هو الحال عند نيتشه. صحيح أنه من خلال المواجهة المكلفة مع النظام الواقعي وحدها يمكن للإنسان أن يدرك أن العالم بلا أسس أخلاقية، وأن الرب ليس ميتا فقط بل لم يكن حيا يوما، وأن الأنظمة الأخلاقية التقليدية بغيضة ومنحطة في جلها، إلا أنه بمجرد أن يصبح الإنسان سيد نفسه روحيا بهذا النحو، تكون النتيجة حياة تملؤها الفضيلة بطريقة ربما يفهمها إدموند بيرك. على أي حال، فإن بعضا من فضائل نيتشه المفضلة تتفق بصورة كبيرة مع الفضائل التقليدية؛ الشجاعة والبهجة واللطف والشهامة وما شابه. لذا، فإن أحد الانتقادات الموجهة لنيتشه ليس أن كتاباته تمثل نهاية الحضارة كما نعرفها، بل إن الإنسان الأعلى يحمل شبها مخيبا للآمال بالشخص الأرستقراطي القديم المعهود، فهو أحد شخصيات دزرائيلي أكثر منه شخصية شيطانية.

هوامش

الفصل الثامن

النظام الواقعي في الأعمال الأدبية

Unknown page