84

Mushilat Maca Ghuraba

مشكلات مع الغرباء: دراسة في فلسفة الأخلاق

Genres

لكن شوبنهاور سيقلب هذه الأولويات، فيصير نموذجا متقدما لفرويد نفسه. وكما أن الهدف الوحيد من تراكم رأس المال هو الاكتناز من جديد، فكذلك تبدو الإرادة - في نقض كارثي للغائية - مستقلة عن كل الأشياء المحددة التي تركز عليها؛ لذا تبدو الرغبة غارقة تماما في ذاتها، ساكنة في كيانها كروح نرجسية شريرة. وفي ظل نظام اجتماعي تعتبر فيه الفردية التملكية قانون العصر، ربما يكون شوبنهاور أول مفكر معاصر كبير مكنه الظرف التاريخي من أن يضع مفهوم «الرغبة ذاتها» المجرد في محور عمله، مقارنة بغيره من أشكال التوق. وهذا التجريد الشديد هو ما سيرثه لاحقا فرويد، الذي اعتبر شوبنهاور - في زلة فكرية غريبة - أحد أعظم ستة رجال على وجه الأرض. لكن سنرى بعد قليل كيف أصبح من الممكن أن نفهم فكر كانط الأخلاقي بصورة مشابهة.

الإرادة إذا قوة غامضة، شيء هادف بلا هدف (مستعيرين هنا تعليق كانط الشهير على الفن). إن الشيء المعيب الذي يتعذر إصلاحه هو مفهوم الذاتية بالكامل، وليس مجرد كبتها أو اغترابها؛ فالذاتية الإنسانية هي نفسها صورة من الاغتراب؛ إذ نحمل في أنفسنا حملا لا يطاق من اللامعنى، ونعيش محصورين في أجسادنا كالأحياء في زنزانة سجن؛ فالذاتية شيء يمكن أن نعتبره بالكاد ملكنا. فإن لم نفهمها بطريقة شوبنهاور باعتبارها هدية مسمومة من الإرادة، فثمة متبرعون كثيرون آخرون: «الفكرة» عند هيجل، و«الرب» عند كيركجارد، و«التاريخ» عند ماركس، و«إرادة القوة» عند نيتشه، و«الآخر الكبير» عند لاكان.

إن ما يميز عمل شوبنهاور عن رواد النظام الواقعي هؤلاء هو أنه لا يضع في مواجهة فظائع النظام الواقعي شيئا أقل من النظام الخيالي. ففي ارتداد غريب لعقيدة التعاطف، لا يمكننا أن نخدع الإرادة من خلال الفعل، الذي ما هو إلا تجسيد آخر لقوتها البغيضة، أو الانتحار، الذي يسمح لها بأن تتباهى بخلودها أمام فنائنا، بل بإطفاء جذوة الأنا التي تعذبها الرغبة في لحظة من الإيثار التام. إن مبعث الرتابة الذي لا يطاق في وجودنا هو أننا لا يمكن أن نتحرر من أنفسنا؛ إذ نجر وراءنا ذواتنا البائسة كالأغلال؛ فالرغبة تدل على عجزنا عن رؤية الأشياء على حالها، فهي النظرة الذاتية التي نحيل بها جبرا كل شيء إلى اهتماماتنا الشديدة التفاهة؛ فالذات تعني الرغبة، والرغبة تعني الوهم. لكن على المستوى الجمالي تنفك الرغبة عنا، وتعلق الإرادة مؤقتا، ونتمكن للحظة سعيدة من رؤية العالم على حقيقته. إن كلفة هذا التجلي الثمين ليست أقل من التفكك التام للذات، ذلك الشيء الأثمن من بين كل المفاهيم البرجوازية، الذي صار يتماهى في تضحية بنفسه مع الشيء؛ إذ لا يمكن للعالم أن يتحرر من ويلات الرغبة إلا بتحوله إلى مشهد جمالي، تنسحب الذات خلال هذا التحول إلى نقطة فناء من اللامبالاة التامة. يبدو الأمر كما لو أننا نشفق على الأشياء المختلفة من حولنا التي أصابتها عدوى التوق، ونخلصها من تلك العدوى القاتلة بمحو أنفسنا من المشهد، ناظرين إلى الصورة العامة للأشلاء الإنسانية برباطة جأش مراقب عديم الشغف لدرجة أنه لم يعد موجودا.

ليس ثمة ما هو أشق في نظر شوبنهاور من تلك الموضوعية العسيرة المنال التي هي ثمرة الانضباط الأخلاقي أكثر من مجرد نزعة موضوعية ساذجة أو ملاحظة سريعة قليلة الخبرة. فالموضوعية كما يقول شيء عبقري، فهي شأنها شأن الفكر البوذي، الذي ميزه بصورة كبيرة، عبارة عن «عدم التدخل» وهو ما لا يمكن المحاربة من أجله؛ حيث إن مثل هذا العمل لا يكون إلا في الأنا، وبذلك فهو جزء من المشكلة التي تسعى لحلها. فلا بد من اختراق حاجز الوهم أو الخداع التقليدي وإدراك وهم الأنا بطريقة ما؛ لكي نتصرف تجاه الآخرين دون لا مبالة حقيقية، وهو ما يعني انعدام التمييز الحقيقي بينهم وبين النفس. وعلى هذا الوجه يظهر النظام الخيالي من جديد في كتابات شوبنهاور. وبمجرد انكشاف «مبدأ الفردية» المخادع على حقيقته يمكن للأنفس أن تتبادل العواطف في رحمة وحب. فالمصدر الرئيسي لكل الأخلاق - كما يقول شوبنهاور - هو مشاركة معاناة الآخر بعيدا عن الدوافع الأنانية، فالتصرف السليم أخلاقيا لا يعني التصرف من وجهة نظر معينة، بل يعني التصرف دون وجهة نظر إطلاقا، فالذات الخيرة حقا هي ذات ميتة، أو على الأقل تعيش في حالة معلقة دائما. وحيث إن الذات هي وجهة نظر معينة للواقع، فكل ما يبقى بعد التغلب عليها نوع من السلبية الخالصة أو النيرفانا بالمعنى البوذي. إن فلسفة الذات عند شوبنهاور تدمر ذاتها، غير تاركة وراءها سوى تأمل إيثاري لا يتعلق بأي شخص على وجه التحديد.

إلا أنه ليس من الدقيق تماما أن نزعم أن النظام الخيالي عند شوبنهاور علاج للنظام الواقعي بل إن النظام الواقعي ينقلب ببراعة على نفسه، ويقع أسير قوته فينهار. يرجع هذا إلى أن القوة التي تحلل الذات إلى رمز كودي غير أناني - ومن ثم تتيح لها الاندماج الرحيم مع الآخرين - هي نفسها ما سيسميه فرويد لاحقا «دافع الموت». فمن خلال اعتبار عالم الصراخ البشري عرضا خاملا، نحقق الانفصال عنه ونتخلص من ذاتيته، وهو ما يشبه الموت كثيرا؛ لكننا في الوقت نفسه نتمكن من الانغماس في تصور للخلود، وتملؤنا السكينة؛ إذ نعلم أن مسرح الشر هذا لم يعد يؤذينا. ولأننا موتى بالفعل من ناحية ما، نصير محصنين مثل شخصية شكسبير بارناردين، وباكتساب هذه الميزة السامية ننتقم انتقاما لذيذا من كل القوى التي تقودنا إلى الفناء. إن هذه الحالة من الانغماس في الاستمتاع غير المباشر بالدمار - مع الاستمتاع بمناعتنا ضد القتل كشخصيات الكارتون - هي ما يميز مفهوم السمو في القرن الثامن عشر.

6

إن إضفاء شوبنهاور طابع جمالي على الواقع - الذي نستمد فيه الحياة من فنائنا - يتضمن لعبة مطاردة بين إيروس وثاناتوس، بين غريزة الحياة وشهوة الموت؛ لهذا، فهي إلى هذا الحد تخص النظام الواقعي. لكن لأن موت الذات يتخذ صورة التعاطف، فهي أيضا كما رأينا قضية تخص النظام الخيالي؛ إذ يهجر وهم الفردانية البائس بكامله، حيث نتعاطف مع معاناة الآخرين على مستوى أعمق كثيرا من الأنا. وينتهي بنا الحال بالتبعية إلى تسام من دون ذات؛ إذ يبقى فضاء المعرفة المطلقة لكن لا يبقى أحد ليشغله، فالتنزه عن المصلحة يعلمنا التخلي عن عواطفنا المدمرة والعيش في تواضع بلا طمع، وذلك في بساطة القديس. فأنا أعاني كربك لأنني أعلم أن جوهرك - الإرادة القاسية - يخصني أنا أيضا. وكما الحال عند هيوم وهتشسون فإنني أعرف هذا بفضل وجود سبيل مباشر إلى نفسي ونفسك معا، وليس من خلال حرص العقل المضني. ويعلق شوبنهاور في صياغة مميزة للنظام الخيالي قائلا: «كل كائن حي يماثل وجودنا في ذاته بقدر شخصنا نفسه.»

7

إلا أننا يمكننا أن نتلاقى في اتحاد عاطفي ليس كما في المرآة ولكن على أرض النظام الواقعي، وهو الشيء المشترك بيننا شأنه شأن جوهر الذات. إن تضمين النظام الخيالي في النظام الواقعي يعني تعزيز المودة التامة، فلا يسعنا إلا بالتقارب في منطقة محايدة غريبة علينا، وأقرب إلينا من أنفاسنا في الوقت ذاته؛ أن تكون روابطنا الشخصية أو السياسية متينة.

هذا هو ما يفهمه لاكان من وصية الكتاب المقدس بحب الجار كحب النفس، وهي وصية لا ينبغي تفسيرها في النظام الخيالي باعتبارها حب الأنا البديلة بل في النظام الواقعي الأقل وضوحا. يستبعد لاكان التفسير الأول متهكما، حيث يكتب: «ما أريده هو الخير للآخرين بشرط أن يظل في صورة خير لنفسي.»

Unknown page