Mushilat Maca Ghuraba
مشكلات مع الغرباء: دراسة في فلسفة الأخلاق
Genres
يرى هيجل أن تركيز كانط على الحرية والعمومية ضروري لكنه أحادي الجانب؛ إذ اشترى حريته الأولية على حساب فراغ اجتماعي وسياسي معين. ولا يمكن لهذه الحرية أن تزدهر حقا إلا عندما تمارس في ظل النظام الأخلاقي الهيجلي، من خلال مشاركة الذات في الصورة المادية للحياة الاجتماعية. إن التجريد الشكلي لفلسفة كانط الأخلاقية - التي ترفض بعناد أي تناول لواقع العالم - يجب أن يرد إلى عالم العلاقات الاجتماعية التجريبي؛ إذ يجب أن يتجسد القانون في نزعاتنا وثقافتنا العامة. ويمكن اعتبار أن هذا يمثل - تقريبا - انصهارا للنظامين الخيالي والرمزي معا، للسياق الاجتماعي الذي نجد فيه انعكاس أنفسنا فيمن حولنا وعالم القانون الأخلاقي العام. إن الوجود الأخلاقي عند هيجل - كما عند أرسطو - هو قضية ترتبط بالسياسة، وقبل كل شيء بالدولة التي تجسد عند هيجل صورة معينة من الحياة، وتمثل روح العقل العام. وإلى هذا الحد يمكن دمج الفردي والعام ، والحرية والمجتمع، والحق المجرد والفضيلة الملموسة. وبعكس كانط، يقر كل من هيجل وماركس بأن الذات وغاياتها تقومان على علاقات الذات مع الآخرين؛ فهما يريان أنها ليست مجرد قضية أفراد منفصلين يتصرفون على الطريقة الكانطية ليحققوا التناغم بين غاياتهم المختلفة، ساعين إلى جعل هذه الغايات متسق بعضها مع بعض، مع تعزيز قدرة بعضهم بعضا على تحقيقها. إن ما يمكن هيجل وماركس من التفكير بهذا الأسلوب هو مفهوم التنظيم المؤسسي، فهيجل بالدرجة الأولى هو من يدرك أن الأخلاق يجب أن تكون مسألة تنظيم اجتماعي وليس مجرد رغبات فردية منعزلة؛ فالمؤسسات هي الوسيلة التي يمكن للآخرين من خلالها أن يكونوا جزءا منا حتى وإن كانوا غير معروفين لنا؛ فهي وسيلة للجمع بين الغرباء تماما في مشروع واحد. وهي تمثل إلى هذا الحد حلا فريدا لمشكلة النظامين الخيالي والرمزي؛ فالأول تبادلي لكنه مقيد، والثاني عام لكنه مفكك.
فلتنظر مثلا إلى فكرة التعاون المستقل، على النحو الذي تصور ماركس ازدهاره في ظل الاشتراكية. فأعضاء هذا المشروع لا يدعمون أهداف بعضهم بعضا إراديا، بل تكون هناك صورة من التبادلية مدمجة في بنية المنظومة نفسها. وهي منظومة تنجح تماما عندما يكون أعضاؤها المتعاونون غرباء عن بعضهم بقدر ما تنجح عندما يتصادف العكس؛ فالمنظومة إذ تسهم بجهودها المميزة في الكيان كله تضمن أن كل عضو فرد له دور في نفس الوقت في تعزيز تطور زملائه، فتجرد النظام الرمزي يستغل لتحقيق التضامن بين الأشخاص، تضامن يتمتع بلمسة رقيقة من النظام الخيالي. إن هذا - وليس مفهوم كانط عن الفضيلة الأخلاقية باعتبارها شركة مساهمة - هو الأساس الأخلاقي الذي تنبني عليه الاشتراكية، فتحقيق هدف كل فرد يصير شرط تحقيق هدف الجميع، ومن الصعب التفكير في نظام أخلاقي أكثر قيمة من هذا. •••
وحتى كانط المنكر لذاته بشدة لا يمكنه إنكار إغراءات النظام الخيالي جملة واحدة، فالعالم ليس ضدنا؛ لكنه، بقدر ما يمكننا الحكم عليه، ليس في صفنا كذلك. ولا يشعر الفرد بأن الواقع يشجعنا. مع ذلك توجد طريقة للتوفيق بين العقل والطبيعة، وهذه هي دائرة العالم الجمالي. ورغم أننا لا يمكننا أبدا الإجابة على الأسئلة الميتافيزيقية المستعصية مثل ماهية الواقع في ذاته، فيمكننا مع ذلك أن نسمح لأنفسنا بأن نتصور أنه محكوم بغايات إيجابية وينظمه نوع من القانون؛ ومن ثم فطبيعته مثل طبيعتنا. إن هذا النوع من التخيل الاستكشافي هو ما نستخدمه عندما نصدر أحكاما جمالية على الطبيعة، عندما يدهمنا إحساس بأن صورها تتوافق مع قانون معين، وإن كنا غير قادرين تماما على أن نحدد ماهيته. لا يتضمن الشيء الجمالي عند كانط أي فعل إدراكي؛ لكن يبدو أنه يخاطب ما يمكننا أن نسميه قدرتنا على الإدراك بصفة عامة؛ ليكشف لنا بصورة تشبه مرحلة «ما قبل الفهم» عند هايدجر عن أن العالم هو المكان الذي يمكننا فهمه من حيث المبدأ؛ إذ يلائم بحاله هذا عقولنا ملائمة رائعة حتى قبل وقوع أي فعل معرفي.
إذا فجزء من متعة العالم الجمالي تنبع من الإحساس بأننا نألف مكاننا في العالم على نحو يبدو مناقضا لاستنتاجات العقل، فنحن نرى الشيء خلال إصدار الحكم الجمالي كما لو كان ذاتا تبدي الوحدة والإرادة والحرية التي نتمتع نحن بها. بهذا الشكل فإننا نشعر بانسجام ممتع بين العالم وبين ملكاتنا الخيالية والفكرية، كما لو كان المكان مصمم بصورة غامضة ليناسب غاياتنا، فالشيء يفصل من شبكة الوظائف العملية التي يعلق بها عادة، ويمنح بدلا من ذلك شيئا من حرية الإنسان واستقلاله. وبفضل هذه الذاتية الخفية، يبدو الشيء كما لو كان يتحدث حديثا مفهوما لمن يدركونه، فيحرك فيهم أملا بأن الطبيعة ليست غير عابئة كليا بغاياتهم.
إن كان العقل والقانون الأخلاقي يخرجانا إذن من عالم النظام الخيالي؛ فالعالم الجمالي يعيدنا إليه من جديد؛ فالذات والآخر يلتفت كل منهما للآخر بلطف. ويبدو أن الواقع يقدم إلينا تلقائيا، مثل شيء يتسلل إلى راحة أيدينا كما لو كان تصميمه يراعي قدرتنا على الإمساك؛ ففي العالم الجمالي يمكننا أن نبتعد قليلا عن موقع الأفضلية الخاص بنا ونستدير إلى أنفسنا ونتأمل التوافق التام ظاهريا بين قدراتنا الإدراكية والعالم ذاته . عندها نجد أنفسنا في موقف علماء الفيزياء المعاصرين الذين يعجبون من أن أذهاننا، وهي نتاج التطور الأعمى، قادرة على اكتشاف البنى الأساسية للكون، دون أي فائدة عملية ظاهرة. ويرى كانط أن الشيء الجميل يتمتع بوضع فريد لكن عام؛ إذ يبدو أنه يقدم تماما إلى الذات ويخاطب ملكاتها، فهو «يشبع رغبة» ويبدو مطابقا للذات بنحو معجز؛ ورغم أنه يعطينا إحساسا بالإشباع، فهو لا يستثير فينا أي استجابة شهوانية. وربما ليس من الوهم أن نجد في هذه الصورة المادية المثالية - التي تنتزع منها كل الرغبة والشهوة الحسية - ذكرى لجسد الأم كما ترى في النظام الخيالي.
في ظل هذا السياق تبدو الطبيعة متفقة مع الفهم الإنساني، وليس التمسك بوهم أنها مصممة لتتلاءم مع فهمنا هو الآخر خطوة عظيمة عن كانط. ويمكننا - إذ نستند بهذه الطريقة إلى ما يحيط بنا - أن نحلم بأن أعين الكون لا تتجاهلنا كما نخشى، أن نحلم بأن الكون نفسه توقع قدومنا ويشاركنا بعض أهدافنا. ويكتب هربرت جيمس باتون، أحد المعلقين على كانط، يقول:
إنه لحافز كبير للعمل الأخلاقي، وداعم قوي للروح الإنسانية، إن استطاع الناس الإيمان بأن الحياة السليمة أخلاقيا أكثر من مجرد مشروع فان يشترك فيه الإنسان مع أخيه الإنسان وفي خلفيتهما كون أعمى غير مبال إلى أن يمحى هو والجنس البشري من الوجود إلى الأبد. فالإنسان لا يمكن أن يتجاهل احتمال أن جهوده الضعيفة نحو بلوغ الكمال الأخلاقي قد تتفق - رغم ما يظهر - مع الحكمة من وجود الكون ...
27
يبدو الأمر كما لو أن توماس هاردي - برفضه العنيد لفكرة تواطؤ الكون الحميد - قد اتفق أخيرا مع بابا الفاتيكان. وفي النهاية فإن رؤية العالم الخالي من المعنى ثبت أنها مستفزة أيديولوجيا جدا لكانط، وبالتأكيد لهربرت جيمس باتون، الذي نشرت شروحه لأفكار كانط في أعقاب الحرب العالمية الثانية. ويبقى احتمال وجود تواطؤ له حكمة بيننا وبين الكون - أي تناغم مسبق بين الذات والشيء - مجرد فرضية؛ إلا أنها فرضية تمنحنا على الأرجح «حافزا كبيرا للعمل الأخلاقي»؛ وذلك بعبارة باتون. فالرجال والنساء يواجهون صعوبة في تقبل أن القيم الأخلاقية ليس لها أصول إلا في أنفسهم، وربما يعانون من انهيار يصحبه هلع إلى العدمية نتيجة لهذا الإدراك. إن ما يخبرنا به العقل - أو النظام الرمزي - ليس تماما ما تقبله الأيديولوجيا أو النظام الخيالي؛ فالعالم الجمالي هو ذكرى باهتة للاتحاد العضوي في عصر عقلاني وأثر باهت للسمو الديني. فالتناغم أكثر أهمية في المجتمع الفردي من ذي قبل؛ لكنه يوجد في مجتمع يسوده الإحساس أو بنية مشتركة تقوم على العاطفة وليس في كيانات سياسية أو اقتصادية.
عندما يتأمل الطفل الصغير في طور المرآة جسمه، فهو ينسب لنفسه تماسكا يرجع في الحقيقة للصورة. إن هذا في واقع الأمر هو مصدر متعته. وعندما يشاهد الرائي عند كانط شيئا جميلا، فهو يجد فيه وحدة وتناغما، هما في الحقيقة نتيجة لقدراته العقلية الخاصة. وفي كلتا الحالتين، يقع خطأ إدراكي خيالي، وإن كان بمبادلة معينة بين الذات والشيء في كلتا النظريتين، فالذات الكانطي القائمة بالحكم الجمالي هي من بين أشياء أخرى الطفل اللاكاني المبتهج النرجسي.
Unknown page