Mushilat Maca Ghuraba
مشكلات مع الغرباء: دراسة في فلسفة الأخلاق
Genres
إن دخول النظام الرمزي يعني الخضوع للنفي نوعا ما، فعلاقتنا بالعالم لم تعد تتمتع بفورية الخيالي «الزائفة» بل يتوسطها الدال من كل الجوانب. وهذا يتضمن استنزافا معينا للواقع؛ حيث إن الدال نوع من الإخصاء، نصل قاطع يفصلنا عما هو واقع. فبدلا من تصور إحكام قبضتنا على الأشياء الفعلية، علينا أن نرضى بمدلولاتها الوسيطة التي تعرف باللغة، فالرمز - كما يبين لاكان - هو موت الشيء؛ حيث إن سيادة الدال تفرض «تلاشي» الذات الكاملة. فالتكلم - وهو ما لا يعدو إلا انتقالا أجوف من دال إلى آخر - يعني من هذا المنطلق انتظار الموت، حيث يمثل لا وجود الذات نذيرا بفنائها في نهاية المطاف. وربما يكون ذلك أحد معاني عبارة القديس بولس: إنا نموت في كل لحظة. إن الدوال قاصرة في جوهرها؛ فحيث إن المعنى ناتج عن الاختلاف، يتوجب وجود دالين اثنين على الأقل لإنتاج معنى واحد. وبما أن هذين الدالين يتضمنان دوال أخرى عديدة، فإن العملية كلها معقدة، ولا يمكن حصرها شأنها شأن الرغبة ذاتها.
كما أن هذه ليست علامات أو أصوات ابتدعناها بأنفسنا؛ فلكي تعبر الذات عن معنى، عليها أن تبني على المخزون أو المستودع الهائل للرموز والقواعد والدوال الذي يسميه لاكان بالآخر الكبير؛ لذا فهي لا تعبر عن معنى إلا بعد فترة وبوجود وسيط، باستخدام الدوال التي تبلورت من مقاصد الكثير من الآخرين المجهولين. فكل دال كاللوح المكتوب عليه أكثر من مرة، فحاجتي إلى أن يعترف بتميزي كذات تتداخل مع وسيط ليس لأي منا ملكية له، وله منطقه الخاص بصفة مستقلة عن إرادتنا، و«يعبر» عني أكثر مما أعبر عنه؛ فالدال هو ما يصنع الإنسان وليس العكس. إذن، فوهم السيطرة لدى الطفل في طور المرآة، إلى جانب هويته الذاتية الزائفة، يتبددان بالتبعية، فالآخر الكبير الذي أستعير منه كلامي لا يكتفي بإخباري بما قد أقوله، بل يخبرني بما قد أرغبه؛ لدرجة أن جوهر وجودي الصميم تصنعه روابطي بما يختلف عني.
إذن، نحن مقدر علينا أن نعبر عن أنفسنا بلسان غريب عنا دائما، فحتى إن أمكنني التعبير عن رغبتي فعلي أن أعبر عنها باستخدام وسيط - هو الآخر الكبير أو المجال البين-ذاتي بكامله - وهو الذي لا يمكن التعبير عنه؛ إذ ليس ثمة آخر بالنسبة للآخر الكبير، ولا يوجد منظور يمكن من خلاله رؤية هذا الفضاء بمجمله؛ حيث إن هذه العملية تحتاج للدلالة عليها من داخله؛ ومن ثم تعجز عن تجاوزه، فما يسميه لاكان بالفالس (القضيب) كما رأينا هو دال سحري يمكن الفرد من الفهم الكامل لخطابه في الوقت الذي يقضي فيه على غموض حديث الآخر؛ لكن القضيب كاذب. ويعرف هذا الالتباس للدوال التي أتقيد باستخدامها، والطريقة التي طالما تتجاوز بها آثارها الملتبسة مقاصدي، باللاوعي. فالذات تنقسم بين الأنا واللاوعي، وهو ما يعني أنها تنقسم بين خطابها وموقع هذا الخطاب ودلالته في إطار الآخر الكبير أو الشبكة الكلية للدوال التي لا يمكنها أن تدركها على نحو سليم. فاللاوعي هو إذن أداء وليس مكانا، فالإنسان كالرسول العبد في العصور القديمة «الذي تكتب على رأسه الوصية التي تحكم عليه بالموت «لكن» لا يعرف معنى الرسالة ولا اللغة التي كتبت بها ولا يعرف حتى أنها كتبت على رأسه المحلوقة وهو نائم.»
2
فتجرد النظام الرمزي عن الأشخاص عند لاكان يرتبط ارتباطا كبيرا بمجهولية الموت.
وإن كان لاكان قد سمى نظامه ب «الرمزي» فذلك لأن محل الجدل هنا هو المواقع ذات الدلالة وليس الأفراد الذين من لحم ودم، فنحن لا نصير أشخاصا «حقيقيين» إلا باتخاذ موقع أو آخر من هذه المواقع الرمزية، مثلما لا نصبح أشخاصا إلا عندما نتعلم الكلام. وليس هذا الحال في النظام الخيالي حيث لم تتم الدلالة الرمزية بعد، فموضوع النظام الرمزي، كما يقول فريدريك جيمسون، «يتحول إلى تمثيل لذاته.»
3
إذا فنحن نتعامل مع بنية شكلية بحتة، يوزع الأفراد بداخلها ويوضعون في مكانهم بقانون حاكم يطبق بحيادية عليهم جميعا، فما يهم هو العلاقات، التي يمثلها دور كدور «الأب»، وليس الأفراد الواقعيين الذين تقوم بينهم هذه العلاقات، فسلوكي المداعب مع ابن عم والدي مثلا يرجع لأنه قريبي وليس لأنه شخص ظريف بالضرورة؛ فتبجيل الإنسان أباه لأنه ذكي، كما يقول كيركجارد، ضرب من العقوق. ويفرق كتاب باسكال «خواطر» بين المتشكك الذي يعرف حقيقة السلطة والسذج من العامة الذين يعتبرونها أمرا مقدسا، وفريق ثالث يحترم السلطة لكن ليس لأنها ذات قيمة في ذاتها؛ لذا فإن النظام الرمزي نوع من الخيال؛ فنحن نعلم مثلا أن حكامنا السياسيين مهلهلون أخلاقيا من كل الجوانب مثلنا؛ لكن اعتبارهم حكاما بالدرجة الأولى تعليق لهذه النظرة السالبة للقوة. إذا فالأماكن في هذا النظام مفاهيمية أو رمزية، وهي بهذا قد تجتمع أو تتبدل تبعا لقواعد صارمة معينة. أو بالأحرى، يسمح القانون بتغيرات معينة بينما يمنع أخرى (كزنا المحارم على سبيل المثال).
يوجد فارق هنا بين التبادل «الخيالي» و«الرمزي»، فعمليات التبادل الخاصة بالنظام الخيالي كما رأينا تتضمن طمسا للحدود بين النفس والآخرين؛ بحيث يبدو أن الأجسام تمتزج في سلاسة ببعضها، فيعيش كل منها حياة الآخر ويلتحم كل منها بالآخر. هذا إذا تبادل حرفي للذات لأقصى درجة متصورة. أما التبادل الرمزي فيقوم على التجريد؛ إذ يمكن لشيء أن يحل محل شيء آخر؛ حيث إن الأمر لا يتوقف على طبيعته الخاصة بل على موقعه المحدد في النظام، فهو كالسلعة غير موجود بذاته بل بحركته مع أمثاله. ويمكننا أن نزعم على الطريقة الماركسية بأن النظام الرمزي قضية مرتبطة بقيمة التبادل، بينما يعد النظام الخيالي، الذي نقدر فيه السمات الملموسة للآخر في حد ذاتها، حالة من قيمة الاستعمال. وكما يقول كيركجارد عن النوع الإنساني في كتابه «المرض طريق الموات»: كل فرد «أملس كالحصاة، يمكن تداوله كالعملة الرسمية لدولة ما.»
4
Unknown page