Mushilat Maca Ghuraba
مشكلات مع الغرباء: دراسة في فلسفة الأخلاق
Genres
إن كان من المحتم أن تكسر دائرة النظام الخيالي في النهاية؛ فذلك لأن الرجال والنساء لا يحققون استقلالهم - على هشاشته - إلا في النظام الرمزي، وإن حدث فالثمن غال. مع ذلك، يكمن الجانب الإيجابي لهذا التجانس الاجتماعي في قابلية المشاركة الاجتماعية الإنسانية لنظام أخلاقي خيالي، نظام يرفض نزع القيم الأخلاقية من قلب الحياة اليومية. إن هذا الاحترام للحياة اليومية - الذي يظهر جليا في الأدب الواقعي كذلك - هو ما يميز مجلات القرن الثامن عشر ذات التأثير الكبير مثل «تاتلر» و«سبكتيتور».
على الرغم من ذلك تبدو هذه الأخلاق منغلقة ومعزولة بصورة خطرة، فالحب والتعاطف ينسحبان بطريقة مجردة على الإنسانية جمعاء؛ لكن الجار الحقيقي هو ابن العمومة أو الزميل وليس شخصا مجهولا محبا للخير مثلا. وترى هذه الرؤية الأخلاقية القائمة على الجسد أن الوجود الاجتماعي فيما يتجاوز الأصدقاء والأقارب ليس امتدادا لأجسادنا؛ ومن ثم فهو عرضة لأن يختفي من أفقنا الأخلاقي، فدوائر التعاطف متحدة المركز تتراكم في سلسلة ذات تدرج دقيق من البيت الدافئ إلى المجهولين القابعين في ظلمة الخارج.
صحيح أن قواعد السلوك وضعت باعتبارها وسيطا أو منطقة بينية تجمع الأصدقاء والغرباء؛ أي وسيلة لتهذيب النفس تتسم باللطف من دون مودة والتهذيب من دون ألفة. لقد رأى برتولت بريخت أن مثل هذه المنطقة البينية - بين ما هو مثير للعاطفة أو مألوف من ناحية وما هو غريب مجهول من الناحية الأخرى - هي عرف أساسي في أي ثقافة اشتراكية، فكلمة «الرفيق» - إن جاز التعبير - تتوسط بين كلمتي «عزيزتي» و«سيدتي». يكتب تيودور أدورنو في كتابه «الأخلاق الصغرى» عن «الذوق» باعتباره هذا الوسيط في بدايات مجتمع الطبقة الوسطى، وهي ملكة يخشى أنها قد ضمرت منذ أمد بعيد. ويكتب: «[البرجوازي] بما أنه حر ووحيد فهو مسئول عن نفسه، بينما أشكال الاحترام والتقدير الهرمي التي شكلتها السلطة المطلقة - والتي جردت من قاعدتها الاقتصادية وقوتها الخطيرة - لا تزال حاضرة بصورة كافية لتجعل العيش المشترك في ظل وجود جماعات تتمتع بامتيازات ممكنا.»
59
لكن أي نظرية أخلاق خيالية تخشى أن الدخول في دائرة القوانين والواجبات العامة معناه التخلي عن العواطف والمشاعر الخاصة، وتعني قراءة كتابات كانط الأخلاقية الاتفاق مع ذلك. من الناحية الأخرى، يبدو تيار الفكر الأخلاقي هذا برمته في نظر مناصري المبادئ الجليلة أو القوانين السائدة أو أهوال النظام الواقعي غامرا بالدفء والألفة، وكذلك مفتون بشدة بتلك المفاهيم العاطفية كتحقيق السعادة. فالشفقة والتعاطف ما هما إلا الوجه المستعطف الذي توليه الرأسمالية ذات الوجهين لضحاياها. والسعادة - التي هي مهمة المسئول في الحكومة البريطانية اليوم - هي المخدر العجيب الذي يساعدهم على الاستمرار في العمل.
مع ذلك قد يكون الاختيار بين الحب والقانون وهميا، فما يعجز العاطفيون الأخلاقيون عامة عن استيعابه هو أن القانون الأخلاقي الوحيد الموثوق به هو قانون الحب؛ لكنه ليس على الإطلاق نوع الحب الذي يمكن التعبير عنه في إطار الإحساس؛ فالحب الوحيد الذي يهم هو الحب «القانوني» لا «العاطفي»؛ ففي رفضه القاسي اللاإنساني لتفضيل احتياجات إنسان على آخر، هو أقرب لمرسوم من غريزة. فهذا النوع من الحب يتميز باللامبالاة المتحجرة تجاه أشخاص معينين في النظام الرمزي، كما أن هذه اللامبالاة رهن خدمة انتباه «خيالي» للاحتياجات الخصوصية الفريدة لأي شخص أيا يكن ، فهي ليست قضية خير عام، قضية «حب للجميع» في موجة نقية من الحب السخي، وهو ما يشبه حب مفهوم اللون الأرجواني أو فكرة الاقتراع الفردي القابل للتغيير. من الحكمة أن استبعد هيوم هذا التصور؛ إذ ينبغي التعامل مع الحب العام باعتباره المفهوم الديمقراطي للشعب، فهو ظاهرة خرافية، من الناحية الحرفية. إلا أنه يشير إلى أن أي فرد يمكن أن يكون فاعلا اجتماعيا يكافئ في قدره من هم سواه.
من هذا المنطلق يتفق الحب الصادق مع منطق «ليس الكل» عند لاكان، فهي ليست قضية «يجب علي أن أحب كل الناس» - وهي فرضية فارغة إن كانت فرضية من الأساس - بل «لا يوجد من يجب علي ألا أحبه.» فالحب العام مسألة تخص السياسة الدولية لا النداءات الفضفاضة للتضامن الكوني. وهذا فيما يخص الأفراد يعني حب الجميع بمعنى حب أي شخص يظهر في المحيط. وبذلك يرفض التمييز بين الصديق والغريب، ليس لأنه جامد في مواجهة العواطف الشخصية، بل لأنه لا يعتبر أن الحب يتعلق بمثل تلك الأشياء، فليس على المرء أن يشعر على الأقل بالحب ليكون قادرا على الحب.
في إنجيلي مرقس ومتى، تعني كلمة «الجار» ببساطة الشخص الآخر سواء أكان صديقا أم معرفة أم عدوا أم غريبا. وغني عن القول إن هذه ليست عقيدة قدمتها المسيحية لأول مرة؛ فكل الناس عند الرواقيين القدماء مواطنون في العالم، وكل البشر جيران. ويرى لوقا - المؤمن بعقيدة العهد القديم التي ترمز فيها كلمة «الجار» إلى اليهود الغامضين الأدنى اجتماعيا الذين هم في حاجة ماسة للحماية - أن حب الجار يتجسد على وجه التحديد في الاهتمام بالمحتاجين والمعدمين؛ فالجار هو أول من تقابله وهو في محنة. أما كتاب الحكمة ورسلها، فكلمة «الجار» تعني قبل كل شيء الفقراء، وعمم يهود الشتات الكلمة لتشمل كل البشر.
60
لقد أصاب هيوم وهتشسون في أنه من الطبيعي أن نحب أطفالنا أكثر مما نحب مديرنا البنكي مثلا؛ لكنهم ينظرون إلى الحب بمعناه الشخصي أو العاطفي، وهو ليس معناه الأساسي؛ إذ ظهر قدر كبير من الإشكال في الفلسفة الغربية من الخلط بين الحب بمعناه العاطفي أو الغريزي بالمحبة أو الإحسان العام. وقد رأينا أن فرويد وقع في بعض الأحيان في هذا الخطأ. ويرجع هذا الخلط جزئيا إلى الذبول التدريجي لما هو سياسي، وهو بدوره ما يجعل فكرة الحب السياسي تبدو مناقضة لذاتها على نحو شديد. لكن عند الاختيار ما بين ذبح ولدي وإطلاق النار على مديري البنكي؛ فالأخلاق الرمزية وحدها دون الخيالية هي ما يفيد، فالحب بمعنى شعوري تجاه ولدي لا يصلح معيارا لتحديد أي الفعلين أخلاقي. في الواقع ليس أي من الفعلين أخلاقيا؛ حيث إن حياة مدير البنك لها حق علي بقدر حياة ولدي. ولا يؤثر كرهي لمدير البنك - وأنني ربما حاولت خنقه بنفسي مرة أو مرتين من قبل - في هذه الحقيقة الأولية؛ إذ يجب علي أن أعامل مدير البنك كما أعامل نفسي، وهو ما لا يعني أن يتورد وجهي حمرة لرؤيته في الطريق، أو أن أضمر له نفس الدفء الحاني الذي أضمره لابنتي، أو ألا أتردد في سرقة بنكه تحت ضغط ظروف مادية معينة، أو ألا يسرني أن أراه بائعا جائلا عندما تتحول البنوك إلى ملكية عامة. يذكرنا كوامي أنتوني أبياه بأن «القول إن علينا التزامات تجاه الغرباء لا يعني القول أنهم يستحوذون على عواطفنا بقدر من هم أقرب إلينا وأعز علينا.»
Unknown page