كذلك كانت الملكية حسنة العائدة في القرون الوسطى مع شارلمان. وإذا ماشيناها إلى أيامنا مع بسمارك - وهو أكثر ملكية من الملك، كما يقولون - ومع الإمبراطور غليوم الثاني، وجدنا أن ألمانيا في عهد هذه القيصرية الحربية المطلقة جرت خلال نصف قرن شوطا أجفلت له الدول قاطبة.
على أن بقع الظلام الواسعة تحاذي خيوط النور في تاريخ هاتيك المدنيات التي لم تكن تحسب لحياة الفرد حسابا، وإنما خلدت بعدها أسماء أشخاص اشتروا عظمتهم بدماء الجماعات وجثث العبيد. •••
ثم حصحص بصيص الكرامة الإنسانية في بلاد اليونان التي تناولت قبس الحضارة من يد الفرس بعد أن تغلب ملتيادس على داريوس في مرج ماراثون، وأغرق ثمستوكليس أسطول العجم في خليج سلامين؛ فأنشأ اليونان يكررون أصول تلك الحضارة وينقونها ويرتبونها ليجعلوها ترضي الذوق منهم والعقل، وهم الفنانون والفلاسفة قبل كل شيء؛ فحبوا وطنهم في قرنين اثنين بصيغ جديدة في القانون والعلم والفن والفلسفة. وهناك أخذ الفرد يعرف حقوقه وواجباته، هناك أشرق فجر الديمقراطية ولم تكن الحروب المتتابعة لتظلمه، ولا زحف الرومان وظفرهم ليلاشيه، بل ظلت أثينا المغلوبة مهذبة العالم.
لم تقم في روما حكومة ديمقراطية محضة، ويرى بوليبيس المؤرخ اليوناني أن النظام الروماني كان مزيجا بديعا من الملكية والأرستقراطية والديمقراطية. غير أن العنصر الديمقراطي كان كبير النفوذ راجح الشوكة بعد أن صارع الطبقات العليا فتساوت جميع المراتب في الخضوع لسيد واحد هو قيصر. وكما كان العالم القديم شديد الإعجاب ببسالة الجيوش الرومانية، كذلك كان الإعجاب بالوحدة الإمبراطورية من الشدة بحيث بقيت تلك الوحدة مثلا أعلى تنشده الملوك في العصور التالية؛ فأقام شارلمان دولته على منوالها، وطمع نابليون في إعادتها إلى الوجود بعد كر العصور.
شطرت دولة الرومان في آخر القرن الرابع للمسيح شطرين: إمبراطورية الغرب وعاصمتها روما، وإمبراطورية الشرق وعاصمتها بيزنطة (الآستانة اليوم). ولم يطل حتى تدفقت الشعوب الآسيوية واشتركت مع شعوب زحفت من أوروبا الشرقية والمتوسطة، فتبارى المغول والسلاف والجرمان في الإغارة على روما واكتساحها وإيساعها تخريبا وتدميرا زمنا يناهز قرنا، وطفقوا بعدئذ يقتبسون عادات الأمم المغلوبة وقوانينها، فألفوا منها نظاما قام عليه فيما بعد التشريع الإقطاعي.
وتجاذبت السياسة في القرون الوسطى نزعتان: الوحدة الدولية أو المركزية، والتخصيص القومي أو اللامركزية. فمن قائل بإخضاع الشعوب وتوحيد قيادتها كالإمبراطورية الرومانية، ومن قائل بتوزيع القيادة وإطلاق كل أمة تنظر في أمورها وتنمي مدنيتها وفقا لمطالبها القومية وممكناتها الطبعية. فتغلبت النزعة الأولى بصيرورة شارلمان إمبراطورا على الغرب، وهو الذي عهد إلى الأشراف بإدارة المقاطعات تحت مراقبة مفتشين اختصاصيين، على أن يكون إليه مرجع الأحكام جميعا حتى في الأمور الدينية. وسادت بعد ذاك النزعة الأخرى يوم تقاسم الدولة أحفاده الثلاثة في معاهدة فردون (في منتصف القرن التاسع)، التي أوجدت كلا من ممالك فرنسا وألمانيا وإيطاليا ذات كيان سياسي مستقل. ثم تناولها النظام الإقطاعي في القرن العاشر فظلت إلى القرن الثاني عشر عجاجة دويلات وإمارات ودوقيات وكونتيات لا عداد لها، وبين صاحب الأرض والرقيق تبادل حقوق وواجبات تتنوع بتنوع الأمزجة الشخصية والعادات المحلية. والمرجع النهائي إلى الملك الذي لم تقم فوق إرادته غير إرادة الله.
وكان حجر الزاوية في صرح تحرير الأمم الحديثة تلك البراءة الملكية التي نالها الإنجليز من ملكهم في مطلع القرن الثالث عشر، وقد منحتهم مبادئ الحرية الدستورية التي ستتكيف الأحوال منذ الآن فصاعدا لتنشرها في جميع أقطار الغرب. من تلك الأحوال أن البرابرة عادوا إلى التفجر من مجاهلهم كما فعلوا منذ عشرة قرون فتدفقت سيولهم على الشرق والغرب، واكتسح التتر فيما اكتسحوه الدولة البيزنطية - تلك الدولة التي كان لجأ إليها أسمى عناصر الدولة الرومانية المقهورة وأجملها. ومن هذه الكارثة العالمية الكبرى، ومن اختلاط الشعوب وامتزاج المدنيات تكونت حضارة جديدة ازدهرت على الأطلال والأنقاض كما تنبت الأزهار في ميادين القتال وعند زوايا القبور؛ ذاك أن البيزنطيين عادوا بكنوزهم الفكرية والفنية إلى إيطاليا فألقوا فيها شرارة ما لبثت أن شبت نارا امتد منها اللهب في أنحاء الغرب؛ فخلقت فيه حياة جديدة وروحا جديدا - وذلك هو عهد الانبعاث أو النهضة.
انتعشت الفنون والآداب، واستنارت الأفكار، وتقدمت العلوم، واكتشف كولمبس القارة الأمريكية؛ فأدركت العقول من العالم صورة غير التي رسخت فيها، والتفت الناس إلى كرامة الفرد وأهليته وأخذ الاجتماع الحديث يتمخض بمبادئ تنافي مبادئ الاجتماع القديم. وشفعت هذه وغيرها من عناصر «النهضة» بثورة دينية بدأت في ألمانيا بزعامة لوثر. وكانت تلك الثورة ابنة النهضة الفكرية وحليفتها إلا أنهما افترقا بعد حين، وتسرب الإصلاح الديني إلى حيث لم تصل النهضة الفكرية؛ فكثر أتباعه في ألمانيا وسويسرا وفرنسا واسكتلندا وإنجلترا. ولئن أنتج معارك دموية فظيعة، فقد ساعد في تحرير الفكر لأنه أطلقه من القيود الدهرية، وأظهر إمكان النقد للفلسفة الدينية؛ فسمت بذلك قيمة الإيمان نفسه؛ لأن إيمانا يمتن ويرسخ بعد الامتحان بمحك النقد العلمي خير من إيمان يقوم على الجهل والوهم والتسليم. واختراع المطبعة وسهولة الطباعة يسرا إذاعة الآراء بين أهل البلد الواحد وشعوب البلاد الأخرى.
وبينا نظام الإقطاع يسود في ألمانيا وغيرها من بلاد الغرب، وبطرس الأكبر وخليفته كاترينا العظيمة يحولان الروسيا من مملكة شرقية إلى إمبراطورية ذات صبغة غربية؛ إذا بسويسرا عاكفة على تحسين نظامها الجمهوري الذي ساعدها بعدئذ نابليون على التمتع به في أكمل حالاته. وإذا بإنجلترا تعدل دستورها وتخطو به خطوة جديدة في ربوع الحرية فلم تنجح في ثورة 1648، ولكنها نجحت سنة 1688 دون هدر قطرة دم واحدة. وانتهت المناقشات السياسية مع زعم الملكية بتناول حقوقها من الألوهية، وتفرغت الحكومة للشئون الخارجية فأقامت هذه الإمبراطورية التي لا مثيل لها في التاريخ المثبوت. وسارت في طليعة دول تنيرها بقبس دستورها، ومضى الفلاسفة والمصلحون يستقون من منهل حريتها. وإذا بفرنسا تفوز بالوحدة الوطنية في عهد لويس الرابع عشر، إلا أن الأهالي كانوا في استياء من انقسام الأمة إلى ثلاثة أقسام: قسم الإكليروس، وقسم الأشراف، وقسم غير الأشراف. في استياء لأن هناك جماعة تتمتع بجميع الامتيازات ولا تحمل مسئولية، بينما جماعة أخرى ترهقها المسئولية، ويضعفها الكدح المتتابع، وتثقل كاهلها الضرائب. وليس يتساوى الجماعتان في غير الرضوخ لإرادة الملك.
لم تطل الحال، بل انبثق فجر آراء جديدة في التساهل والمساواة بفضل الفلاسفة والاقتصاديين والإنسكلوبيذيين، وظلت هذه الآراء كالشرارة تدنو من بارود السخط العام الذي دوى قاصفا في الثورة الفرنسية فأعلنت «حقوق الإنسان» لإزالة ما بين البشر من حدود وفروق. أو تقررت سراية القانون عليهم جميعا من غير ما جور أو تحيز، ولهم أن يقلدوا وظائف الحكم والتشريع والقضاء وفقا للكفاءة منهم والمقدرة. فإذا صح أن فرنسا درست الحرية على إنجلترا، فإنها مع أمريكا أشبعت العالم بفكرة الحرية فتبعت الدول آثارها تدريجا؛ لأن الديمقراطية، وكل نظام آخر يتغير بتغير طبيعة بلاد ينفذ فيها. ولقد جاهد الغرب حتى إنه بعد إعدام قيصر روسيا وانهيار عرش ألمانيا والنمسا، لم يبق في أنحائه ملكية مطلقة واحدة، وأن الديمقراطية عمت العالم المتمدن. وإن لم تكن البلاد جمهورية كأمريكا، فهي ممالك دستورية كإيطاليا وإسبانيا ... إلخ. ولا يعلم إلا الله ما يختفي وراء تلك العروش المترنحة من دسائس البلشفية، وقنابل الفوضوية، ومدمرات الشيوعية. •••
Unknown page