جاء دور التحرير تحت تأثير الفلاسفة، فأخذ العبيد يتعاطون جميع أعمال التجارة وتيسرت لهم المناصب السياسية؛ فارتفع بعضهم ارتفاعا عظيما مثل نارشيسس مستشار الإمبراطور كلوديس الذي حرض على قتل الإمبراطورة مسالينا. واشتهر آخرون بالشعر والفلسفة مثل ترانتسيوس الشاعر الهزلي، والشاعر هوراتسيو، وإبكتتس الفيلسوف الرواقي وغيرهم. وكانت كلما علت مكانة العبيد هبطت الدرجات العليا؛ إذ إن أولئك لم يكونوا يطلبون المساواة للمساواة وإنما يرمون إليها ليصيروا هم سادة ويمسي الموالي لهم عبيدا.
والمدهش في كل هذا أن الفلاسفة لم يقبحوا العبودية ولم ينكروها، بل أقروها مع أن منهم من ذاق مرارتها كديوجنس الكلبي، وإبكتتس السابق ذكره، وأفلاطون الذي ظل أسيرا في مصر وصقلية حتى فداه أحد أصدقائه. وكل ما امتاز به أفلاطون هذا أنه لم يضرب عبده بيده؛ لأن الفلسفة والشعر رققا منه النفس ولطفا الشعور فحملاه على أن يوكل إلى سواه تنفيذ العقوبة في مملوكه! •••
يوصلنا هبوط روما إلى مطلع القرون الوسطى التي تكيفت خلالها الطبقة السفلى تكيفا خاصا. لم تلغ العبودية، بل بالعكس بقيت منتشرة في البلدان المختلفة ولها في ليون بفرنسا، وفي روما بإيطاليا، أسواق عامرة بالتجارة الآدمية من السود والبيض. ومرت العصور، فاكتشف كولمبس القارة الأمريكية في أواخر القرن الخامس عشر، ولم يهمل هذا المرفق التجاري بل كانت له أهميته، ونظم بعدئذ الإسبان والبرتغاليون المتاجرة ببني الإنسان تنظيما دقيقا بين العالمين.
لم تلغ العبودية إنما امتازت القرون الوسطى بشيوع الرق الملازم لنظام الإقطاع في أنحاء أوروبا. لقد تسايرت العبودية
Slavery, esclavage
والرق
1
Serfdom, servage
في جميع فصول التاريخ، فاختلط معناهما والتبسا في اللغات المختلفة وحسبهما الناس مترادفين لمعنى واحد. أما الفرق بينهما فهو أن العبد يملكه سيد وهو لا يملك شيئا. وأما الرقيق فملك سيد يملكه أرضا مقابل ما يفرضه عليه من ضريبة وخدمة وطاعة قصوى. العبد ينزغ من بلده وأهله ويتبع سيده المطلق. أما الرقيق فيظل في ديار جدوده وسيادة المولى تحددها العادة والمصلحة؛ إذ ما نفع أرض لا يد تعمل فيها؟! فمن مصلحة الشريف أن تعمر الأرض وتنتج له الخيرات، ومن مصلحة الرقيق أن يشتغل في أرض يحبها وله من نتاجها ما يكفي - ولو بالإجهاد - لإعالة بيته وأولاده. فضلا عن أن الإغارات الخارجية وقلة الأمن في تلك الأيام كانت تقضي بالانتماء إلى سيد عظيم والاحتماء بحماه. والرق في ذاته أنواع، وظل يخف بالتدريج خلال الزمن حتى فقد في فرنسا صفته السياسية وصار مرجع الأمر إلى الملك، ولم يبق منه للأشراف غير الميزة الاجتماعية، ولكنهم ظلوا منطلقين في الظلم والإجحاف؛ فاهتاج الشعب غير مرة وهم يقمعون الهياج بقسوة متناهية، ثم زاد واتسع في المرة الأخيرة، ورأى العالم الطبقات الاجتماعية تمتزج وتتساوى على دوي سقوط العروش، وانهيار جدران البستيل، وفصل أعناق الملوك في ذلك الزلزال الهائل المدعو بالثورة الفرنساوية.
قضت الثورة على الاسترقاق الذي كان ألغي قبلئذ في إنجلترا، وظل يحذف في دولة بعد دولة، وفي مستعمرة تلو مستعمرة إبان القرن المنصرم. واستفادت أمريكا بدروس العالم القديم واختبارها الشخصي، فألغته الولايات المتحدة سنة 1865 والبرازيل سنة 1888. وهتف الكتاب والخطباء أن لطخة العار غسلت عن جبهة الإنسانية بفضل الثورة الفرنساوية وهمة مفكري إنجلترا.
Unknown page