Musāmarāt al-ẓarīf bi-ḥusn al-taʿrīf
مسامرات الظريف بحسن التعريف
Genres
Biographies and Classes
يظهر لي أن من تروّى في المحاورة المذكورة في أمر التشطير لابد له من أحد أمرين، فإما أنه يتهم صدقها، أو أنه ينتقد علي عملي ويراني أبرمت الشيخ وثقلت عليه، بوقوفي لديه موقف الغريم المستقضى دينًا واجبًا، فلهذا وجب أن أبيّن سبب ما فعلت، ليتحقق صدق ما نقلت، وبتقديمي هذا البرهان أكون زدت المطالع معرفة بهذا الرجل الذي كان آية من بدائه خلق الله.
والحكاية هي أني وجدت يومًا في مجلس جماعة من كبراء الدولة التونسية فذكر أحدهم شدة إعجابه بقصيدة بشر ثم تلاها عليهم فتهز هوت إليها القلوب وودوا أن تكون أكثر طولًا فقال رجل منهم إن أحببتم تطويلها بما يفوق على ما سمعتم حسنًا فاقترحوا على الشيخ محمود قابادو أن يشطرها لكم ففرحوا برأيه وكلفوه إلى الافتراح فاعتذر، وأشار إلى آخر، والآخر إلى غيره، وكلهم يقول لا فائدة في الطلب لأن الشيخ بخيل بجواهره، فيعد ثم يلوي ويضيع السعي سدىً، ثم إنه وقع الإجماع على أن أكون أنا السفير إليه، وقالوا كلنا يعلم ما لك عنده من العزازة، فلا شك في أن يستحي منك ويلبي دعوتك، ولكن حذار من قبول الوعد إلى غد، قلت: لابد من إمهاله ولو ليلة لمثل هذا الاقتراح، فضحكوا كلهم وقالوا: كأنك لا تعلم اقتدار صاحبنا، وأخذوا يوردون علي من إخباره ما يذهل العقل، فمن ذلك أنه كان في دعون معهم مرةً فذكروا بيتًا حماسيًا لأبي الطيب والتمسوا منه أن ينظم لهم قصيدة على ذلك النمط من الغلو والإغراق بالفتوة، فأخذ ينشد حتى غادر ذلك المتنبئ وراءه بمراحل، ثم ابتدره أحدهم ببيت من تائية الفارضي، واقترح عليه النظم على نسق تلك الجناسات، فانتقل فورًا من فخامة ذلك التحمس إلى رقة ذلك النسيب، حتى أدهشهم، وقالوا: لو شاء الإنشاد يومًا كاملًا لقدر عليه لما عنده من غزارة المادة فهو بحر لا ينزح. وذكروا لي عجائب أخبار عن ذاكرته الوقادة حاصلها أنه ما قرأ شيئًا فنسيه وأن ما يقرع سماعه إعادتها عليهم ففعل، فمن ذلك ما أترك العهدة فيه على الناقل، أنه تلي عليه يومًا رسالة بالفرنساوية، فلما فرغ منها، أعاد الشيخ كلماتها مع أنه لا يعرف شيئًا من لغات الإفرنج، فلما سمعت كل ذلك توجهت إليه حازمًا على الإلحاح، فكان في ما بيننا ما مر بيانه وجاء فعله بقصيدة بشر مصداقًا لما قيل لي عنه.
أما حليته، فقد كان طويل القامة، مستوفي الجسامة، رقيق البشرة، أبيض مشربًا بحمرة، أدعج العينين، حسن الابتسام، عذب الألفاظ لطيف نغمة الكلام، يميل برقة لفظه إلى الإشمام، وكان سهل الجناب رقيق الحاشية أنيسًا متواضعًا على أنه ما كان يحجم أحيانًا عن القول أنه أعلم الناس طرًا وما كان مهذارًا، ولا سريع الكلام، وكان يخيل لسامعه أن فيه سرًا موجبًا لتصديق ما ينطق به، ذلك لأنه ينطق متأنيًا، كأن كلماته تتصعد من سويداء قلبه يرافقها أحيانًا تصاعد أنفاسه، وكان يحب الوحدة كأنه غير راضٍ عن الناس، ومع علو طبقة عقله كان يظهر أحيانًا ساذجًا، وما كان يسعى للدنيا ولا يحتال لطلب الوجاهة، ولذلك كان قليل النشب، تلازمه حرفة الأدب، أما علومه ففضلًا عن أنه كان الفقيه المحقق، والحافظ المدقق، واللغوي النحرير والأديب الماهر، الناظم الناثر، والمالك لزمام المعاني، والبيان والبديع، والنحو، والصرف، والعروض، لم يكن أجنبيًا عن سائر العلوم كالفلك، والمساحة، والحساب، والطب، والتاريخ، واستخراج الغوامض من علوم النجوم والجفر وأشباهها، وما كان يرى من الألغاز والمعمى شيئًا، إلا وكشف عنه الغطاء فورًا، وقد توفي وما أخاله بلغ الخمسين، وإني عليه لمن الآسفين. أهـ. مكتوب رشيد الدحداح.
وحيث تضمن هذا المكتوب ذكر واقعة تشطير القصيدة الغراء وتصديرها فإني أثبت ذلك هنا تزيينًا لترجمته وهذا نصه: [الوافر]
رنت بفواتر الأجفان سكرى ... يُخيِّل سحرهن النجب خزرا
فيالك من فتون في فتور ... ومن سكر به السحر استمرا
عقيلة ربربٍ جيدًا وطرفا ... وخوطةُ بانةٍ قدًّا وخصرا
يجول بخدها ماء وراح ... ليمتزجا فما أن يستقرّا
يبيح لناظر وردًا نضيرًا ... ويورد حائمًا وردًا مقرّا
أما وعيونها الدعج اللواتي ... أقامت للهوى العذري عذرا
وخالٍ بين قوسي حاجبيها ... بحيث يكون قطب الحسن قرَّا
1 / 267