١ المولى حسين باشا باي
[١٠٨٠ ١١٥٣]
هو الأمير أبو محمد حسين بن علي تركي. كان مقدم والده من بلد كندية من جزيرة قريد أوائل دولة بني مراد، وتقدم للخدمة حتى ولي قيادة أزمة الأعراب، توفي سنة ثلاث ومائة وألف. وولد ولده صاحب الترجمة سنة ثمانين وألف، ونشأ باعتناء والده، وتقدم في خدمة الدولة وتقلد الوظائف المعتبرة مثل قيادة عمل الأعراض والجريد، وتقدم كاهية دار الخلافة على عهد الباشا إبراهيم الشريف باي داي. ولما انهزم مخدومه بمحله الجزيريين عند الكاف على يعد عشِّي حسن وأسروه وأوثقوا أخاه رجع كاهيته صاحب الترجمة طالبًا منجاته إلى أن وصل إلى زاوية الشيخ سيدي حسين السيجومي، فأرسل إلى الحاضرة يطلب أهله للفرار بهم، ولما تحقق أعيان الحاضرة انهزام المحلة وأسر إبراهيم الشريف اجتمعوا على مبايعة كاهيته حسين بن علي، فخرج إليه أهل الحل والعقد وأكرهوه على ذلك بعد الامتناع ورجعوا به إلى الحاضرة وبايعوه بالديوان المقابل لباب القصبة بحاضرة تونس صبيحة يوم الاثنين موفى عشرين من ربيع الأول سنة عشرة ومائة وألف. واطمأن الناس ببيعته وعندها أولى محمدًا الأصفر دايا، وأخذ يستعد لمدافعة الجزيريين، ولما قدموا إلى الحاضرة ردهم على أعقابهم خاسرين، ولحق بهم وهم على أسوأ الحال، والعرب تنتهب أطراف محلتهم، وهم يتركون مجاريحهم وأثقالهم في كل مكان.
وبينما هو يمهد السبل وإذا محمد الأصفر أخذ يستعيد استبداد الدايات بالمظالم التي لم يتحملها الباشا حسين باي حتى خرج إلى الفحص، وحين اشتدت وطأة الداي على الأهالي ونفرته العساكر خرجوا لطلب استرجاع الباشا حسين وعزل الداي فعزله وأولى مكانه قاره مصطفى دايًا وقدم الباشا حسين إلى الحرايرية. وطلب إخراج محمد الأصفر من البلاد قبل دخوله فأخرجه الجند وحملوه إلى الباشا غير أنه قتله أحدهم قبل الوصول إليه.
وعند ذلك دخل الحاضرة وجددت له البيعة سابع رمضان سنة سبع عشرة ومائة وألف وسكن بدار حمودة الباشا المرادي التي بالقصبة ثم تنقل إلى بساتين باردو فعمر قصوره وأحيا مسجده وجعل له منارة وصيره جامعًا وأقام له قاضيًا لتوقف صحة الجمعة عليه.
وأول من تقدم لقضاء باردو والمحلة معًا الشيخ علي شعيب أحد علماء باجة. ثم إن الباشا أخذ يمهد السبل ويرم ما خربه من قبله فأقام مباني القيروان، وأحيا رسوم العلم في سائر جهات المملكة، وبني المدارس بالقيروان وصفاقس والجريد وجربه، وأقام بها العلماء والمؤدبين للتعاليم الدينية زيادة على إحيائه مساجد الله وزوايا أوليائه. وكف المظالم، وهدم حانات الخمارين بالحاضر، وشاد الجامع الحسيني العظيم البناء والتربة الملاصقة له التي أعدها لدفنه والمدرسة التي إلى جنبه هنالك. وبنى المدرسة الضخمة التي قرب ساباط عجم وقدم لمشيختها الشيخ محمد الخضراوي مدرس جامع محمد باي وبنى المدرسة ذات النخلة التي قرب جامع الزيتونة وأوقف على جميعها الأوقاف الكافية وأجرى جراية بيت المال على علماء جامع الزيتونة وأجرى السقايات وبنى الجسور. وعدل وتحرى لدينه في قتل النفس ما أمكنه بحيث إنه لا يقتل إلا بحكم المجلس الشرعي. وساعده البخت بخصب المملكة فتوالت النعم علة عموم المملكة وأعظمها نعمة الأمن.
وله خاصة نفسه اعتناء برواية الحديث بين يديه وكان يروي له إمامة الشيخ الحاج يوسف برتقيز. وله شغف زائد بدلائل الخيرات وحسن الأذكار وعمل البر والمحافظة على أوائل أوقات الصلوات إلى غير ذلك من مكارمه التي عد كثيرًا منها المؤرخ حسين خوجة في تاريخه "بشائر أهل الإيمان".
وقد اتخذ كاهيته أولًا علي بن مامي ثم عزله وأولى عوضه مملوكه أحمد شلبي واتخذ خزنداره أزلًا حمَمَّدّ ثم عزله وأولى مكانه محمود السايري الأندلسي، واتخذ كاهية دار الباشا مملوكه الحاج سليمان كاهية، وكان باش كاتب الشيخ بلحسن الوسلاتي. ولما توفي أولى عوضه الشيخ قاسم ابن سلطانة.
1 / 1
وقد تبنى أولًا ابن أخيه على بن محمد إلى أن رزقه الله كرام البنين وهم محمد الرشيد باي وعلي باي محمود باي ومصطفى باي. ولما شب بنوه قدم ابن أخيه للباشية بدار الباشا التي هي أعظم من ولاية الأمحال ورجا أن يكون الملك لأبنائه وعقبهم فخرج عليه ابن أخيه وترامى لدى مملكة الجزائر وانتصر بهم على عمه، وفي أثناء ذلك فقد أصغر بنيه وهو مصطفى باي فسار إلى رحمة الله تعالى، ثم وردت المحلة الجزائرية، ولما قاربت الحاضرة خرج لها الباشا حسين باي متجهزًا في عسكره ونزل بسمنجة لمدافعة ابن أخيه، وتلاقى الجيشان، ووقع القتال بينهما يوم الأحد سادس عشر ربيع الأول سنة ثمان وأربعين، وصدق الجزيريون ومن انضم إليهم من الإعراب القتال، ونجا الباشا حسين وأبناؤه إلى القيروان، واعتصموا بها، وحاصرهم ابن أخيه بعد حروب باشر أكثرها ابنه يونس. ولما طال الحصار نجا أبناؤه الكرام ومن انضم إليهم إلى الغرب وخرج الباشا حسين باي بمن بقي معه لمدافعة حفيد أخيه، وهو يونس باي ووقع قتال استشهده فيه الحفيد المذكور قبلي مدينة القيروان يوم الجمعة سادس صفر الخير سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف وحمل ودفن بتربته الرفيعة عليه ﵀.
٢ المولى علي باشا باي
[١١٠٠ ١١٦٩]
هو الأمير أبو الحسن علي بن محمد بن علي تركي، لما لم يكن لعمه حسين بنون تسلمه من أخيه وتبناه واعتنى بتربيته وأحضر لتعليمه من العلماء أولًا الشيخ محمد التونسي فتهذب به، وصار به عالمًا، ثم حضر له الشيخ محمد الخضراوي للإقراء والمجالسة، وضم إليه من ذوي الرأي الخبيرين من يكتسب منهم حسن التربية ونشأ على تلك الحال حتى بلغ مبالغ الرجال.
ولما ولي عمه الملك أولاه سفر الأمحال في صفر الخير من سنة ثماني عشرة ومائة وألف، وزوجه بابنه كاهيته على بن مامي فأوتي منها بأبنائه يونس ومحمد وسليمان، ثم زوجه ابنته، وأمل بذلك أن يرث الملك من بعده.
ولما رزقه الله الولد طلب له من الدولة العثمانية الفرمان لسلطاني والقطفان العثماني على العادة، وذلك على عهد السلطان الغازي أحمد خان الثالث. وقدمه لخطة الباشية بدار الباشا سنة سبع وثلاثين ومائة وألف وأسكنه بدار رمضان باي بتونس، وعند ذلك أنف من صنيع عمه به، وتحفز للوثوب للطيران وخرج بابنه يونس هاربًا غروب شمس يوم الجمعة عاشر رجب سنة أربعين ومائة وألف، وتحصن بحبل وسلات مدة ثمانية عشر شهرًا أجلاه في آخرها عمه إلى الغرب بعد قتالات عديدة فدخل الجزائر وأقام بها عدة سنين يطلب الإعانة على قتال عمه حتى أمده حاكمها إبراهيم باشا على شروط تواعدوا عليها. وانفصل بالمحلة الجزائرية في حجة الحرام سنة سبع وأربعين ومائة ألف، ونازل عمه في سمنجة حتى استولى على محلته وأصبح مقيمًا بسمنجة إلا أنه لم يدر خبر أهل الحاضرة. ولما تحقق أهل الحاضرة نجاه العم المذكور وأبنائه وأحضروا مرادًا ومحمودًا أخوي على باشا وأخرجوا أباه محمدًا باي من السجن الذي وضعه فيه أخوه حين رآه مظاهرًا لابنه فأخذ عليهم البيعة لابنه علي باشا باي وأركبوا لتلقيه ابنيه محمدًا وسليمان فأعلماه بما وقع، فأرسل ابنه يونس ودخل الحاضرة يوم الثلاثاء، وجلس بالقصبة، ووفدت عليه الأهالي للتهنئة، ثم أقبل الأمير علي باشا إلى الحاضرة يوم الأربعاء تاسع عشر صفر الخير سنة ثمان وأربعين ومائة ألف وتمت له البيعة يومئذ، وانقلب الجزيريون لبلادهم بعد لدد ومشاغبة وأخذوا ما وعدهم به، وبعد أيام توفي أبوه محمد باي فجأة. ولما استقل الباشا المذكور أرهف الحد في شيعة عمه، واشتدت سطوته، وصادر الأمة بالمال الكثير، وعرضت في مدة ولايته محاربات فاز فيها بالظفر.
وكانت رجال دولته المقربون لديه باش كاتب الشيخ عبد اللطيف السهيلي وقد وليها بعد عزل الشيخ بوديدح، وكاتبه المقرب عبد الرحمن البقلوطي وعامل الأعراض الحاج مصطفى بن متيشة، وآغا باجة عصمان المملوك.
1 / 2
وفي آخر أمره اختلف عليه بنوه وكابد منه ولده نصيره يونس باي عَرق القِربةِ! حتى وثب للطيران إلا أنه تحزب على والده وتحصن بالقصَبة هو ومن معه فدخلها ظهر يوم الاثنين تاسع جمادى الثانية سنة خمس وستين ومائة وألف وكان النصف القبلي من البلاد في نصرته، فأطلق المدافع ودافعه أبوه وأطلق الكور في وسط البلاد واستمر الحال على ذلك بعد توسط العلماء في إصلاح ذات البين ولم يغنوا شيئًا إلى أن نفدت ذخائر القصبة فخرج هو وكاتبه أحمد السُّهيْلي من مماليكه وأتباعه ضحوة يوم السبت الثالث من شعبان وأبقى أبناءه الثلاثة أحمد باي وإسماعيل باي ومصطفى باي وفر بمن معه إلى قسمطينة. وعند ذلك دخل أخوه محمد باي إلى الحاضرة وسفط السيف على من قدر عليه، وأظهر ما في نفسه من الحقد واحتقار وجوه الناس وأبوه مرتض لصنيعه. ولم يزل يتمادى في سوء صنيعه حتى فوق سهمه لأخيه سليمان وخشي من وراثته الملك بعد أبيه لما يرى لأبيه من إيثاره عليه لما فيه من الأهلية فعاجله بالإطعام فمرض أسبوعًا وفاضت نفسه على حين لم يكن والده ليتوقع له ذلك، فتوفي ظهر يوم الجمعة من صفر الخير سنة ثمان وستين ومائة وألف، وترك ولده نعمان باي، فعدم أبوه بمكيدة ولده وسوء صنيعه بأخيه، وتحقق أن الله أذاقه بأس ولده محمد بإعدامه لعضدي نصرته يونس بالفرار وسليمان بالممات. وكان ذلك من مبادىء انتقام الله منه، والله عزيز ذو انتقام.
وقد كان علي باشا باي مع سفكه للدماء وامتهانه للخاصة وإضراره للمملكة بمظالمه- معدودًا في العلماء، وشرح تسهيل ابن مالك النحوي شرحًا مهمًا اعتكف الناس على قراءته بجامع الزيتونة مدة دولته، وقرظه سائر علماء عصره. وكتب عليه الشيخ أبو الحسن علي البارع قوله: [الكامل]
لله شرح للأمير موضح ... لم يتصف بصعوبة التلويح
سهل التناول بالخفاء مصرّح ... قد فاق في التسهيل والتصريح
فإذا افتقرت إلى كتاب موضح ... فكتابه المغني عن التوضيح
وقد كان الباشا مع علمه ولوعًا بالكتب واكتسابها، وبنى تربته التي بالقشاشين ومدرسة الباشية، وقدم لمشيختها الشيخ محمد المحجوب الحنفي، وبنى المدرسة التي نسبها لولده سليمان، وقدم لمشيختها العالم الرباني، الشيخ محمد بن علي بن خليفة الغرياني. وجميع هاته الأبنية كانت حول الجامع الأعظم. وبنى مدرسة بئر الحجار وقدم لمشيختها الشيخ مسعود المغراوي الباجي. وبنى مدرسة حوانيت عاشور وقدم لمشيختها الشيخ عبد الله السوسي. وجميع هاته المدارس أوقف عليها أوقافًا من الربع والعقار تخرج منها جرايات كافية للشيوخ والتلامذة إعانة على طلب العلم الشريف. واعتنى بتحصين البلاد، وجهز الثغور، وأجرى السقايات العظيمة النفع، وهدم حانات الحفصية، ومنع بيع العنب لمن يعتصر الخمر، وبنى المباني الضخمة بباردو. ولما امتلأ مكياله ولاقى من عقوق بنيه ما صنعه لعمه وقيدته هموم فقد ولديه بعد أن جمع جميع أموال المملكة بين يديه دهمه الخبر بتجهيز أبناء عمه بالمحلة المنصورة من الجزائر تحت رئاسة حسن باي، فوردت المحلة إلى الحاضرة مع من حشد إليهم من الأعراب حتى نزلوا قبلي الحاضرة، ولج الباشا هو وابنه محمد في القتال حتى انهزما معًا، وقتل ولده محمد قرب الملاسين، وترك ولدين، وهما محمود باي ويوسف باي. واستؤسر الباشا بمحلة الجزيريين وأقام في الأسر عند حسن بايمما الجزيري على حال سيئة أيامًا تعادل أعوام تملكه. ثم أمر بقتله فقتل أواسط ذي الحجة الحرام سنة تسع وستين ومائة وألف.
وقد استكمل استقصاء خبره مع عمه وخبر أبناء عمه المؤرخ الشيخ محمد ابن يوسف الحنفي الباجي في تاريخه المسمى. "المشرع الملكي، بدولة أبناء علي تركي" بما يشفي الغليل. وقد دفن حيث دفن ولداه بتربته. عليه رحمة الله وأرخ وفاته كاتبه الشيخ محمد الورغي بقوله:
مضت دولة الباشا عليِّ كأنه ... من الدهر يومًا في البريةَّ ما عاشا
أتته المنايا وهو في عُظم قوة ... وجيش كثيف مثله قط ما جاشا
فصار دفينًا بعد ما كان دافنًا ... فقلت وقد أرخته: دفن الباشا
٣ المولى محمد الرشيد باشا باي
[١١٢٢ ١١٧٢]
1 / 3
هو الأمير أبو عبد الله محمد الرشيد بن حسين بن علي تركي، ولد في ذي الحجة الحرام سنة اثنتين وعشرين ومائة وألف، فاعتنى والده بتربيته وتعليمه وحنكه بما أهله إلى المراتب العالية، واختصه بإمامه الشيخ الحاج يوسف برتقيز، فاعتكف على إقرائه العلوم العقلية والدينية إلى أن بلغ خمس عثرة سنة، فأجمع رجال الدولة على طلب تقديمه لولاية الأمحال ليكون وارث الملك بعد والده، وألحوا بالطلب على والده، لما رأوا فيه من الأهلية لذلك فأجاب مطلبهم، وقدمه لولاية الأمحال أوائل سنة سبع وثلاثين ومائة وألف، وظهرت فيه الكفاءة لذلك مع ملازمته لقراءة العلم. وأكثر ولوعه بالعلوم المعقولة، وعلى الخصوص الأدب، فقد نسج فيه على منوال ملوك الأندلس، وأبدع رقيق الشعر باعتناء قاضي محلته وأستاذه الشيخ محمد بن محمد الشافعي الشريف ومن انضم إليه من الأدباء. ولم يزل مدة تملك والده في اعتناء عظيم بالعلم والأدب. ولما انقضت دولة والده وخشي سطوة ابن عمه خرج من القيروان بعد طول الحصار هو وأخواه علي باي ومحمود باي ومعهم الموفون بالعهد من أشياخهم وكتابهم وأتباعهم أوائل صفر الخير سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف فقصدوا الجزائر، وطلبوا من حاكمها نصرتهم على ابن عمهم. وبعد طول المقام جهزهم بمحلة خرجوا بها في ربيع الأول سنة تسع وخمسين ومائة وألف. وكان أمير المحلة حسين باي قسمطينة فوصلوا بها إلى الكاف، وامتدت أعناق الآمال إلى الإسعاف، ووافتهم نجوع العرب بالمدد، وواصلوهم بالرجال والعدد، لولا ما غدر به أمير المحلة فردها بدون كبير قتال، وغره في ذلك ما وصله من المال، وتفرقت جموع الحاشدين، وأسفوا من شماتة الحاسدين، حتى أتى الأسف على أخيهما محمود باي ففاضت نفسه بقسمطينة في الحادي عشر من شوال سنة تسع وخمسين، ولازم الأخوان الصبر مع قوة الرجاء في الله ﷻ.
ولم يكن هذا الأمير في جميع هاته المدة يعلق آماله بغير الله وأوليائه حسبما يعلم ذلك من مطالعة ديوان شعره المملوء بالتوسلات التي حقق الله إجابتها. ومن أعز ما رأيته في ذلك مكتوبه الذي وجهه إلى الولي العارف بالله الشيخ أبي العباس أحمد بن باباس وهو من إنشاء شيخه الشريف الشافعي، ولأهمية هذا المكتوب في واقعة الحال التزمت إثباته منقولًا من خطه المختوم بختم الأمير وهذا نصه: [الطويل]
رفعت إليك الحال يا نجل باباس ... وليس لهدا الأمر غيرك من آسي
فأنت نهارًا كوكب الخور في الدنا ... وبالليل نبراس السما أيُ نبراس
فكن فارسًا حامي الذمار بسيفه ... وجئني بعباس وجئني بمرداس
يحاربني قوم بأصناف مكرهم ... وجاءوا بأنواع الحروب وأجناس
وما علموا أني بعزك عائذ ... فأنت لهم يا أيها الجبل الراسي
وخذ بيدي لله طال تفكري ... وضربيَ أخماسي زمانا بأسداسي
أجب دعوة المظلوم ولتكُ ناصرًا ... له حين لاذوا النصر يوجد في الناس
وخُلْ جولةً تمحو بها كل ماكر ... وما كان من ضر وما كان من باس
رجوتك تكسوني من المجد حلة ... فأنت لأبناء السبيل هو الكاسي
وأحظى بما أرجوه فيك من المنى ... ويذهب إيحاشي ويُقْدِم إيناسي
عليك سلام ليت حامله الصَّبَا ... إليك فلا أحتاج فيه لقرطاس
ولو أنني اسطَعْتُ المسير لجئتكم ... فطورًا على عيني وطورًا على رأسي
1 / 4
أقول بعد حمد الله الذي به تنجلي الكربات، وتكشف البليات، وتسري النكبات، وتدرأ الرزيات، والصلاة والسلام على نبيه ومصطفاه، وحبيبه ومجتباه، صلاة تمحو آثار الكرب، وتهزم كتائب النوب، إني لما زحف إليّ الزمان بمحاله، وسقاني صرف كؤوس أهواله، وأجلاني من مقري، وكسا بجلباب الخسوف بدري، وكرَّ عليَّ بجيوش الكمد، وأعدمني الوالد والولد، فاستنسر عليَّ البغاث، وفقد المستصرخ والمستغاث، لم أزل أستجير من ظلمه فلا أجد مجيرًا، واستنصر عليه ولا أوافي نصيرًا، فأنا في غمار تلك الحال، ضجيع أوحال وأوجال، ناداني الفكر المطاع، بما لبته القلوب والأسماع، يا هذا لقد جئت شيئًا فريا، ونسيت من لم يك منسيا، أيا هذا الإنسان، المغمى عليه من تداول الأشجان والأحزان، حتى غفل عن الملاذ بذوي العرفان، الآسي ما تقرح من جراح الزمان، تالله لقد حدت عن الباب، والتمست الزكاة من غير مالك نصاب، وطالبت الضامن والمضمون حاضر، وتحيرت والأمن ظاهر، أين أنت عن أصفياء الله، وذوي الحمية والجاه، أين أنت عن المولى الذي ربضت الفضائل بناديه، ولبى المنى لمناديه، وعرجت الآمال بأرجائه، وآب قاصده برجائه، وانتشرت معارفه في الأقطار، ووكفت عوارفه كصيبات الأمطار، وكتبت على صفحات الزمان مفاخره، وصفت بواطنه وظواهره، سابق فبرز، ونال من المحاسن غايتها وأحرز، فأي عبارة تفي بعلياه وأي رام يطمع في بلوغ مرماه، هيهات هيهات ما هو إلا غرة هذا العصر، وحسنة من حسنات الدهر، تطلب المجد جاهدًا، وتناول النيرين قاعدًا، الجامع بين الشريعة والحقيقة، المتخذ الأتباع رفيقه وفريقه، فانتبهت لنداء الفكر من نومتي، وأفقت من غفلتي، علمت أني ظمئت والماء أمامي، وضللت وبجنبي إمامي، وأن المعني بالخطاب، والموجه إليك ذلك الجواب، وحامل لواء العرفان بلا ارتياب، الآتي من دقائق العلوم ورقائق الفهوم بالأمر العجاب، بقية أهل الإملا، والمدخر للجلى، حامي من بحماه احتمى، مروي صدى من أتاه على ظما، عمدتي وعياذي، وعدتي وملاذي، ومنبع إيجاري وإنقاذي، ومقصد تعريجي ولواذي، نتيجة قضايا الحجا ولا ريب ولا التباس، ومجمع أصناف الذكاء فأنى يضاهيه إياس، مظهر أساس العرفان حين تلاشت الأساس، لابس حلل التربية التي فيه حين نبذ ذلك اللباس، مولاي وأستاذي أبو العباس، سيدي أحمد بن باباس، لا زال مهتصرًا من المعارف والعلوم أفنانًا وأي أفنان، آية من آيات الزمان، ناشرًا لسنة عنصر آل عدنان.
1 / 5
أما بعد فأيها السيد الجليل، ذا الفخر العريض الطويل، أهدي إلى حضرتكم سلامًا أشهى من البرء للعليل، وأنفع من الماء للغليل، ورحمة الله وبركاته. وأشكو إليك جوى فؤاد عولت عليك أفلاذه، وأعول طويلًا وأنت مالكه وأستاذه، وفارقه وسنة، ورافقه حزنه وشجنه، وهام في طرقات همه، وأمسى أمسه خيرًا، من يومه، وارتدت على أعقابها آماله، وغدا شذر مذر حاله. وموضوع قضيتي مطال، وشرح قصتي تكل عنه الأقوال، وقد اقتضى الحال سرد بعضها على حضرتكم، وعرض أمري على سدتكم، ليتضح من ينسب الظلم إليه. ويظهر الباغي والمبغي عليه، وذلك أن والدنا ﵀ لمها قلد بطراز الولاية، ورشح لهذه الرعاية، اتفق على ولايته أهل الحل والعقد، ورضيه ذوو الاختبار والنقد، ولم يزل راغبًا عن الإمارة، راهبًا من ورطة النفس الأمارة، إلى أن ولوه بالرغم عليه، حيث توسم الناس الخير فيه، فقام في ذلك المقام، أحسن قيام، وعامل الناس بالرفق، وسلك سبيل الحق، واجتهد في إعلاء السنة المحمدية، وإحياء الشريعة الأحمدية، حتى غدا عصره أحسن عصر، ومصره أجمل مصر، والناس بحسن سيرته في أمن وعافية، وعيشة راضية، ولعله بلغكم ما فعله من الخيرات، وسوابغ الحسنات، ولولا الحرص على تعريف حضرتكم بالحال، وشرح المقال، لما سطرت يمناي في هذه التزكية حرفًا. ولا أعملت في ميدانها طرفًا. ثم إن والدنا ﵀ لما جرته الأقدار إلى موقف الملك، وانتظم في ذلك السلك، كان له ابن أخ رباه صغيرًا، وسقاه من صنوف الإحسان سلسلًا نميرًا، فرأى أن الأقارب أحق بالتقريب، وصلة الأرحام من أحسن ما سعى إليه اللبيب، فقرب ذلك الربيب وأدناه، وخصصه واجتباه، وولاه الولايات. ورأسه على الجبايات، وصاهره بكريمته، وأسنى في قيمته، وقدمه على الأجناد، وفعل معه ما لا يفعله إلا الوالد مع الأولاد، إلى أن أضحى بالعيون مرموقًا منظورًا، ولم يكن شيئًا مذكورًا، فلما شب وازدهى، واقتعد السهى، نبهوا والدنا عليه، وقرروا عنده ما يجنح إليه. وأغروه به، وعلى الاستراحة من نصبه وتعبه، فرأى والدنا ﵀ أن هذا محض ظن ووهم، وإن بعض الظن إثم، وأن الإقدام على الحد بغير ثبوت شرعي يسخط الرب، ويدخل في ظلمات الذنب، فأعرض عنه إعراض من ثبت لديه بغيه، وما يرتاده سعيه، وتغافل عما يبدو منه وأغضى، واختار الرضى بالقضا، فلم يلبث إلا قليلًا وفر ذلك الربيب ومال إلى بعض الجبال، وجمع عليه أهل البغي والضلال، وأفسد الطرقات، ومنع المعيشات، ورماح بغيه على المسلمين شرعٌ، وأموالهم نهب يوزع، ولم يزل والدنا يقاسي في حسم ذلك الفساد، والبلاء النازل على العباد، إلى أن أجلي من تلك الأقطار، وعاد الأمن إلى ما كان، وحسن الزمان، وسرت البلاد والعباد، وانمحى البغي والفساد، وحين وضعت الحرب أوزارها، وراجعت العافية دارها، رأى والدنا أن تأخير الحج المفروض المحتم، كتأخير رأس مال السلم، فعزم على الحج إلى بيت الله الحرام وزيارة قبره ﵇، وأن يلازم ذلك المحل، إلى أن تتلاشى روحه وتضمحل، وعمد أن جمع مجلسًا عامًا حضره العلماء الأخيار، والفضلاء الأبرار، وعهد إليّ بالولاية، وقلدني بالملك والرعاية، وبايعني الناس عامة على السنة المألوفة، والطريقة الموصوفة، وهذا العدو إذ ذاك بالجزائر يفسد في نفوس حكامها، وولاة أحكامها، ويحسن لهم القيام علينا، وإضرام نار الحرب في نواحينا، حتى استزلهم بدهاه، وبلغ من ذلك مناه، وكان ما في علمكم، وتقرر عندكم، وآل أمره إلى أن جرع والدنا الحمام بيده. وتولى ذبح مربيه ووالده، وغصب لنا ملكنا، واستحل هلكنا، وأقبل على الخلق قتلًا وصلبًا، ونهبًا وسلبًا، وبدل الناس البأس بالعيش الأول، وأفعال الله لا تعلل.
[الخفيف]
هذه قصتي وهذا حديثي ... وإذا كنت خاذلي من يجير
1 / 6
وقد قصدت جنابك، وطرقت بابك، ويممت فناك، وأملت دعاك، وتوسلت إليك بسيد البشر، الشفيع المشفع في المحشر، أن لا تتركني سدى، ولا تشمت بي الأعدا، يا بدر الصالحين، يا تاج العلماء العارفين؛ جئت إليكم مستجيرًا، فالله الله في هذا النازح الوطن، المحالف الشجن، المفارق الألف والسكن، ناشدتك الله لا تنبذني ظهريًا، ولا تتركني نسيأ منسيًا، أيخيب القاصد حماكم، أيرمى المتمسك بدعاكم، وأنتم أهل الله لا يخيب من بكم استجار، ولا يخشى صولة الأذعار، حنانيك أي هذا الإمام، جوارك يا علم الأعلام، لألو لك أن تعرض عمن بكم لاذ، وبسواكم استعاذ، وبحرمكم استظل، وبفيض كرمكم أم وأمل، ألا راحم لغربتي، ألا ساد لحلتي، ألا منفس لشجوي وكربتي، أليس عارًا عليكم، ضيعة القاصد بعزمه إليكم، فلا تتركوني مضاعًا، وفؤادي ملتاعًا، وقلبي شعاعًا، وأشجاني أجناسًا وأنواعًا. كيف أضام وإليكم قصدت، كيف أحرم وبكم وثقت وتعلقت، كيف لا أظفر بمرادي، وأنتم مخيم ودادي، ومواليَّ وأسيادي. وعليكم اعتمادي، وبهمتكم إمدادي وإسعادي، وإني أتوسل إلى حضرتكم بالله الذي لا إله إلا هو الرحيم الرحمن، الرؤوف المنان، والأنبياء والمرسلين، وبمحمد الصادق الأمين. والسادة صحابته، والأخيار قرابته، وبالمهاجرين والأنصار، والأقطاب والنجباء والأخيار. وبجميع الأولياء والصالحين، والعلماء الراسخين، أن لا تحرمني من دعاكم، والتوجه بهمتكم، إلى خديم سدتكم، حتى أظفر بمأمولي، وأبلغ غاية سؤلي، فلا خاب من إليكم انتسب، وعليكم أكب، فأغيثوا هذا المظلوم، الكثير الكُلوم، الغريب الديار، المقلب على الجمار، كلا فإني لما وفقت لقصدكم، واشتملت بودكم، وانتميت لذلك المقام، واعتززت بذلك الذمام، ظفرت بالأهل المطلق، ونزلت على المحلق. فمثلكم من يحمي جاره. ويبلغه أوطاره. لا زلتم موقف الآمال، ومحط المجد والنوال. وعائد السلام عليكم، كما بدا من ابنكم المنتمي إليكم، الطالب فضلكم ورفدكم، الفقير إلى رحمة ربه ولطفه محمد باي ابن حسين باي ابن علي. وكتبت بتاريخ أواخر جمادى الأولى من عام١١٦١.
هذا والغيب قد هيأ لهؤلاء الأمراء أعز السعادة المستدامة إلى أن تخلصوا خلوص التبر، وحنوا إلى وطنهم وساعدهم القدر. وأعيا الناس ما لاقوه من ابن عمهم، وكاتبوهم يستنهضونهم، فجهزهم حاكم الجزائر بمحلة منصورة تحت رئاسة حسن باي أزرق عينه. وأقبلوا مع من حشد إليهم من نجوع الأعراب الذين أعياهم الجلد وقاموا بإمدادهم إلى أن تغلبوا على عدوهم، واتصلوا بتراث أبيهم من غاصبه، واقتص الله لهم دم أبيهم ودخلوا الحاضرة في يوم مشهود، خفقت فيه الرايات والبنود، وهو يوم الخميس سادس ذي الحجة الحرام سنة تسع وستين ومائة وألف، فهرعت الخاصة والعامة إلى بيعتهم واطمأنت الأنفس وقرت العيون.
[الطويل]
وألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر
وأقام الجزيريون أيامًا كدروا بها صفو مشرب الباشا محمد الرشيد باي من إعناتهم وجراءَتهم وإضرارهم بالأهالي إلى أن أراحه الله من إقامتهم على ما هو مبسوط في كتاب "المشرع الملكي، بدولة أولاد علي تركي " وأقبل الأمن على الأهالي بعود الدر إلى معدنه وتنادى الناس بالفرح المديد، من ولاية محمد الرشيد، فاقتعد دست الملك التونسي وعم بإحسانه كل من وفد عليه سائلًا، وأنشأ من حماسة عزة نفسه الملوكية قائلًا: [الطويل]
أيشبهنا في العالمين قبيل ... ونيل علانا ما إليه سبيل
أرى العز لا يأوي سوى بيت مجدنا ... ولا في حمانا يستذُّل ذليل
وأعراضنا بين الأنام جواهر ... وجوهرنا في الخافقينْ يسيل
ترى السعد والأيام ملك يميننا ... تميل على العِلات حيث نميل
صوارمنا تطغى على طول دهرنا ... لها في رؤوس الدارعين صليل
إذا استقبل الأعداء صارمَ سيفنا ... فماضيه بالنصر العزيز كفيل
وإن نحن سرنا في كماة جيوشنا ... وللخيل وقع في الثرى وصهيل
تكاد جال الأرض من عظم بأسنا ... تذوب على سطح الثرى وتميل
تسع وستين ومائة وألف، فهرعت الخاصة والعامة إلى بيعتهم واطمأنت الأنفس وقرت العيون.
[الطويل]
وألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر
1 / 7
وأقام الجزيريون أيامًا كدروا بها صفو مشرب الباشا محمد الرشيد باي من إعناتهم وجراءَتهم وإضرارهم بالأهالي إلى أن أراحه الله من إقامتهم على ما هو مبسوط في كتاب "المشرع الملكي، بدولة أولاد علي تركي " وأقبل الأمن على الأهالي بعود الدر إلى معدنه وتنادى الناس بالفرح المديد، من ولاية محمد الرشيد، فاقتعد دست الملك التونسي وعم بإحسانه كل من وفد عليه سائلًا، وأنشأ من حماسة عزة نفسه الملوكية قائلًا: [الطويل]
أيشبهنا في العالمين قبيل ... ونيل علانا ما إليه سبيل
أرى العز لا يأوي سوى بيت مجدنا ... ولا في حمانا يستذُّل ذليل
وأعراضنا بين الأنام جواهر ... وجوهرنا في الخافقينْ يسيل
ترى السعد والأيام ملك يميننا ... تميل على العِلات حيث نميل
صوارمنا تطغى على طول دهرنا ... لها في رؤوس الدارعين صليل
إذا استقبل الأعداء صارمَ سيفنا ... فماضيه بالنصر العزيز كفيل
وإن نحن سرنا في كماة جيوشنا ... وللخيل وقع في الثرى وصهيل
تكاد جال الأرض من عظم بأسنا ... تذوب على سطح الثرى وتميل
عوائدها التي كانت عليها تلك المدة، وساعده البخت فأخصبت البلاد، وأعلن أصحابه ومن كانوا بمعيته بأفراحهم فاستعملوا الآلات المطربة للأنس بعد طول غربتهم، وجرى معهم في ذلك الميدان غيرهم. حتى كانت أيام تلك الدولة كأنها أعراس، وفاقت به وسطى دول بني العباس، ولا سيما وقد أكرم الله هذا الأمير بولديه أبي الثنا محمود باي وأبي الفداء إسمعيل باي اللذين جعل الله الملك مخلدًا في عقب أولهما جزاءً من الله على حسن طوية هذا الأمير.
وكان عالي الهمة عزيز النفس ضخم الدولة مشيدًا لدعائم شارات الملك وتعظيم شأن الدولة والميل إلى المعالي وحب العلم والعلماء وهو منهم، له ديوان شعر بديع جيد النظم والنثر والتوشيح. وقد نظم قصائد نبوية وتوسلية تدل على حسن وثوقه بالله وأوليائه.
أما قصيدتاه الميمية والقافية فهما آية الله في الإبداع. وقد سمى أولاهما "محركات السواكن، إلى أشرف الأماكن" وهي التي يقول في مطلعها: [الكامل]
هل زَورَة تشمِي فؤاد متيم ... يا أهل مكة والحطيم وزمزم
وشرحها أستاذه الشريف الشافعي بجزأين ضخمين التزم في شرح كل بيت منها خمسة فنون؛ وهي اللغة والنحو والمعاني والبيان والبديع عدا حاصل المعنى وسمى شرحه المذكور "إظهار النكات، من خبايا المحركات " فكان شرحًا مشحونًا علمًا وأدبًا حيث اعتكف به مؤلفه على استخراج الدر من بحرها العميق إذ أنه لما استقر به النوى ورجع مع تلميذه ومخدومه إلى أرضه التونسية التزم الإقامة بجبل المنار تاركًا جميع علائق الدولة. وكان الأمير يرسل له ليلة كل جمعة فرسه الأشهب، ولم يمتطه غير أستاذه المذكور فيحضر عنده بباردو للمبيت ومن الغد يرجع الفرس المذكور موصولًا بجميل الصلات، ووافر العطيات، وهو في رغد العيش من إقبال السعد، بإنجاز الدهر لجميل الوعد، يرصع تيجان تلك القصيدة، بالجواهر النضيدة، حتى أظهر ما احتوت عليه من النكات، بالآيات البينات، فرحم الله الناظم والشارح، إذ أخصبا تلك المسارح.
وأما القصيدة الثانية القافية فقد شرحها الشيخ محمد الكواش وقيل شارحها والده الشيخ صالح الكواش غير أني لم نطلع عليه.
وقد عم فضل هذا الباشا سائر الموفين بعهده من أصدقائه ومن أدركهم من رجال دولة والده إلى أن مرض نحو العشرة أيام، وأدركته المنية ليلة الاثنين الرابع عشر من جمادى الثانية سنة اثنتين وسبعين ومائة وألف، ودفن بتربة والده عليه رحمة الله. وقد رثاه الشيخ محمد الورغي بقصيدة كتبت على قبره وهي قوله: [الكامل]
هذا ضريح للإمام الأمجد ... نجمِ الملوك السيد ابن السيد
علم غدا للقاسمين مجاورًا ... فأضا أمامهما ضياء الفرقَد
لاقى برأفته العباد فربه ... يلقاه بالغفران يوم الموعد
عم الأنامَ الهديُ في أيَّامِه ... إحكام حكم قل من لم يهتد
فالحلم شيمته وحليته الرضا ... والخير فيه لمن يروح ويغتدي
يا واقفًا بضريحه سل ربه ... كرمًا يمتعه بجور نهدِ
واقرأ له أم الكتاب هدية ... فعسى يفوز برحمة يم تنفذ
1 / 8
بشرى له إذ جاء في تاريخه ... (يا حسن حور زيني لمحمد)
٤- المولى علي باشا باي
[١١٢٤ ١١٩٢] هو الأمير أبو الحسن علي بن حسين بن علي تركي ولد سنة أربع وعشرين ومائة وألف، ونشأ بين يدي والده في التدريب والتهذيب وقراءة العلم الشريف على الشيخ الحاج يوسف برتقيز، وأكثر ميله إلى العلوم الدينية لا سيما الحديث النبوي، ونشأ على ذلك إلى أن غاب غيبته ورجع رجوع الدر إلى معدنه صحبة أخيه يوم الخميس سادس ذي الحجة الحرام سنة تسع وستين ومائة وألف وتمت البيعة لأخيه فقلده هو ولاية الأمحال ولازم السفر بالأمحال لاستخلاص الجباية مدة.
وبعد انتقال أخيه أجمع أهل الحل والعقد على تقديمه للإمارة فبايعوه يوم الاثنين الرابع عشر من جمادى الثانية سنة اثنتين وسبعين ومائة وألف، ووفدت عليه الوفود بالتهنئة، واستقر على كرسي المملكة وأقَّر رجال دولة أخيه على مناصبهم وقرر الأمور على ما كانت عليه واستعمل من الرفق والحنان ما جلب به جميع القلوب.
واصطفى لمجلسه العلماء ودخل في زمرتهم مع ما له من الذكاء والمشاركة في العلوم وحب المحاورة وملازمة رواية صحيح البخاري بنفسه يستحضر للمبيت عنده كل ليلة طائفة من العلماء للمسامرة على العلم وسرد الكتب المهمة والمحاورة فيها، وكثيرًا ما يورد عليهم المشكلات، والإشكالات من توقفاته ويديرون في ذلك كؤوس محاضراتهم ومحاوراتهم ويجزل عطاء المجيد منهم. ومن ذلك توقفه في مسألة إجزاء أداء النذور في وقت الكراهة مع أنه وقت إثم، وقد كتب له في المسألة شيخ الإسلام البارودي كتابة حرر فيها إشكال الأمير والنصوص التي توقف في الجمع بينها بما يدل على رتبة الأمير في العلوم الدينية.
وقد اتفق له أيضًا أنه كان يقرأ تفسير القاضي البيضاوي والعلماء بين يديه فمرت به عبارة فيها مخالفة بين الضمير ومفسره في التذكير والتأنيث فسأل عن وجهها فلم يحضرهم الجواب ثم أجابه الشيخ عبد الكبير الشريف بأن ذلك لمراعاة الخبر فاستحسن جوابه وأجزل صلته حتى قال بعض الحاضرين: إن هذا الجواب الذي أجاب به الشيخ مشهور مسطر تحت كل ورقة فقال له الأمير: وهلا أجبت أنت بهذا الأمر المشهور؟ ثم قال لهم: إني لم أعظم جائزة الشيخ استغرابًا لما أجاب به وإنما قصدت بذلك إظهار تعظيم أهل العلم وترغيب الناس في تعليمه والحث عليه. وبمثل ذلك كان العلماء لا يتخلفون عن مجلسه وهو يوسعهم برًا وكرمًا، مؤديًا لحقوق احترامهم الواجب، حتى أنه لم يشرب الدخان في مجلس اجتماعهم، ويتكلف في ليالي الشتاء الخروج لإجل التدخين حتى لا يرتكب ذلك بينهم. ولما راوده بعض العلماء على عدم الخروج متعللًا له بعدم الفرق بين دخان الاستنشاق المستعمل عند جميعهم وبين التدخين، أجابه بأن عموم كراهة رائحة التدخين فارقٌ بينهما وأنه يجتنب ذلك قيامًا بواجب حق علمهم.
وفي مجلسه العلمي كان اجتماع الشيخ محمد الشحمي مع الشيخ لطف الله الأعجمي شارح أسماء الله الحسنى حين وفد على تونس عام ثمان وسبعين ومائة وألف ووقعت بينهما محاورة في علوم حكميّة اعترف في آخرها بفضل الشيخ الشحمي، وكان جسيمًا فوضع الشيخ لطف الله يده على بطن الشيخ الشحمي، وقال له: إنها ملئت علمًا لا شحمًا. وهكذا كان الأمير يجمع بين يديه العلماء وتقع بينهم المحاورات وينثر بينهم نثار الذهب، ويتحلى من اجتماعهم بأحسن حليّ الأدب، ويوسع جميعهم برًا وعطاءً. يرجو به من الله جزاءً، ويرجعون من بيته الرفيع ولسان حالهم ينشد: [الطويل]
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
بل هذا البيت أنشده بين يديه لسان مقال أحد الجلة الحاضرين في بعض الليالي عندما أجزل لهم العطاء من نفائس اللآلي فأصبح تضمينه مجالًا لتسابق فصحاء الشعراء وضمنه جميعهم في قصائد بديعة، من أجلها تضمين الشيخ الحاج حمودة ابن عبد العزيز في آخر قصيدة يخاطب الأمير بقوله: [لطويل]
إذا زارك الوفد انثنوا وجميعهم ... من البحر ذي التيار للدر جالب
فيشكرك الركبان من كثرة الجبا ... وتشكوك من ثقل العطايا الركائب
ومذ صدورًا والعيس كالنخل ... إذْرها سألناهُم كيف العلا والمناقب
"فعاجوا فاثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب"
1 / 9
وقد ثار عليه ولد ابن عمه إسماعيل بن يونس باي وكفاه الله أمره بعد محاربات طويلة في جبل وسلات فمات حتف أنفه بقسمطينة وخلف ولدًا اسمه حسن مات بعد ذلك.
ثم إن الأمير حارب الدولة الفرانساويِّة وانفصل معها بصلح سنة أربع وثمانين. وأعان السلطان مصطفى خان على محاربة الموسكو سنة خمس وثمانين.
وضم ابني أخيه إلى أبنائه حمودة وسليمان وعثمان والمأمون في التعليم والختان والتدريب على أحوال الدولة حتى جهز لجميعهم محلة وجعل الحكم فيها على التناوب بينهم جميعًا.
وقد شاد من المباني والمفاخر ما بقي ذكره، فبنى تربته الشهيرة والمدرسة المجاورة لها. وأقام مكتبًا لتجويد القرآن العظيم لصق جامع والده وأسس التكيتين لإيواء الفقراء من الرجال والنساء وإطعامهم وكسوتهم وفراشهم وأوقف على جميع ذلك أوقافًا مهمة أجرى بها التعاليم والصدقات الجارية إلى هذا اليوم، وعطل الخمر، وهدم الحانات، وأجرى كثيرًا من السقايات، وأقام الجسور، وجدد كثيرًا من الزوايا والمساجد، وبنى المباني الباذخة بباردو.
وكان عالمًا عادلًا، ذا صيانة وعفاف وفروسية ونجدة وتقى وحلم وكرم، أقام في دولته سوق العلوم والأدب، فكثرت فيها الشعراء وتنافسوا في مدائحه بدواوين من الشعر وأولاهم من الجوائز والصلات ما بعثهم على الاعتكاف على مدائحه.
وكانت له في منطقة حبسَة أبدع حامل لواء شعراء تلك الدولة في وصفها بما يتمنى به أشهر فصحاء الملوك أن يكون له مثلها فيوصف بجميل أوصافها التي وصفه بها هذا الشاعر البليغ، وهو الكاتب الشيخ محمد الورغي إذ رصع إحدى عيدياته يخاطب الأمير بقوله: [الطويل]
وما فتن الألبابَ مثلك ناطقًا ... بأسهل ألفاظ على المطلب الوعر
وقتكَ أذى المعيان في ذاك حبسة ... ترد على أعضائه شهقة المكر
وعوضتَ منها في جنانك فسحةً ... يغيب بها ما في الحضيض إلى النسر
وسعت لها تأميل كل مؤمل ... وآويت في أكنافها كل ذي ذعر
وما ضر أن كانت لجودك آية ... كما أن غيم الجو كمن آية القطر
إذا ما شفعت الميم أتبعت منحة ... أو الباء جاء البر منك على الإثْر
ولولا الحيا والعلم أنك صالح ... لقلنا بفيكِ العذبِ فأفأةُ السحر
وفيك وفيها رحمة حين ينزوي ... أمامك ذو ذنب أو الطالب البر
فيأخذ هذا عن عتابك مهلة ... ويطنب ذا فيما يقودك للأجر
وإن زدت فيها عند ذاك تبسمًا ... فتلك لعمر الله منقبَة الفخر
كذلك فلينعتك من كان مغرمًا ... بحبك وليصدع بما فيك من سر
وقد أفرد له كاتبه المقرب الشيخ الحاج حمودة بن عبد العزيز تاريخًا جمع فيه مفاخر مملكته ودولته واستوفى من خصاله الحميدة وقصائد مديحه ما لم يحط به غيره من المؤرخين.
ولما شاخ هذا الأمير قدم ولده حمودة باي على ابن أخيه محمود باي الأكبر سنًا فجعل ولده ولي عهده وأجلسه لتعاطي الحكم بين يديه والسفر بالأمحال ثم توالى على الأمير المرض إلى أن حضر أجله فتوفي يوم السبت الثالث عشر من جمادى الثانية سنة ست وتسعين ومائة وألف ودفن بتربته التي أحدث بناءها قرب ساباط عجم عليه رحمة الله.
٥ المولى حمودة باشا باي
[١١٧٣ ١٢٢٩] هو الأمير أبو محمد حمودة بن علي بن حسين بن علي تركي. ولد ليلة السبت ثامن عشر ربيع الثاني سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف، وتربى في حجْر ملك والده المعتني به غاية الاعتناء فقد ضم إليه من المربين العارفين بفنون السياسة من لهم عنده ذكر. وقدم لإقرائه العلوم المعقولة والدينية العالمين الشيخ الحاج حمودة بن عبد العزيز، ومن ذلك السلم ارتقى إلى رتبته العالية التي بلغها في الدولة، والشيخ حمودة بن باكير فقرأ عليهما ما أهله لكل كمال، حتى أنه لما استكمل السبع عشرة سنة وأراد والده تقديم خليفة لملكه أجمع نصحاء الدولة على اختياره، فأرسل إلى الدولة العثمانية بطلب تقديم ولده المذكور فأسعفته بذلك على عهد الغازي السلطان سليم خان الثالث، ووجهت له الخلعة العثمانية وأحضره والده بالديوان بالحاضرة وقلده الولاية وتمت بيعته غرة المحرم سنة إحدى وتسعين ومائة وألف، ووفدت عليه الوفود بالتهاني من كل فج وجلس للحكم والأوامر تصدر بختم والده وباشر السفر بالمحلة شتاءً وصيفًا.
1 / 10
وظهرت منه الكفاءه والخبرة وحسن الفراسة؛ أتته امرأة في أحد أسفاره تشكوه افتقاد غلة تينها منذ إبان إثماره كل يوم لا تجد ما نضج منه مع أن ذلك هو توت أولادها فأحضرها في خلوته، وأمرها أن تجعل في أسفل كل تينة أشرفت على النضج شعيرة، وأمر من الغد بجمع التين الذي يؤتى به لسوق البلد ليطعمه العسكر. ولما حضر بين يديه التزم التأمل في ذات الغلة بنفسه لينظر جيدها من رديها حتى رأى وعاء ملآنا من التين الذي في أسفله الشعير فأظهر استحسانه للغلة، وطلب صاحبه يسأله عن سانيته وعن خدمته لها وضايقه في السؤال حتى تبين منه أنه اختلسه للمسكينة فسجنه وأحضرها وأمره أن يحاسبها على جميع ما استغله من سانيتها.
ولما توفي والده استقل بالملك وشمر عن ساعد الجد في فك أسر البلاد من سلطة الجزيريين، فبنى سور البلاد وأتم بناءه عام سبعة عشر، وأقام سائر الأبراج المحيطة بها والأبواب الشاهقة. وكان تمام بناء الأبراج عام إثني عشر. وأقام القشل الخمس التي في المدينة وهي قشلة البشامقية وقشلة سوق الوزر، وقشلة سيدي عامر، وقشلة العطارين، وقشلة طريق سيدي المرجاني. وأسكن بها من عساكر الترك نحو الأحد عشر ألفًا وأكثر هن الاحتفاء بهم والتزيي بزيهم حتى أنه اتخذ لنفسه بيتًا بينهم في قشلة البشامقية وعاوض دار حمودة باشا المرادي التي بالقصبة وبناها لمساكنة جنوده بالحاضرة. وأقام عدة فنادق بالأرباض لسكنى زواوة، واعتنى بعمل المدافع في الحفصية والبارود في القصبة. وأحضر جيد الأسلحة وأعمل التطلع على أحوال الجند والبر بهم حتى كان ذلك هو غاية شغله يركب إليهم في أكثر أوقاته. وبنى أبراج حلق الوادي. وجدد أبراج الكاف وسورها وجهز جميعها بما تحتاج إليه.
وأرسل وزيره يوسف صاحب الطابع إلى دار الخلافة العثمانية فأحكم وصلته معها سنة عشر.
ولما استكمل جهازه حشد الأمحال الضخمة وأوعبها أبطال جنده وأرسلها تحت رئاسة سليمان كاهية الأول سنة إحدى وعشرين فنزل بها على قسمطينة ورماها بالكور والبونبة وطال بها الحصار نحو الأربعة أشهر إلى أن أشرف على فتحها فخرجت منها محلة عظيمة للدفاع عنها آل أمرها إلى هزم المحلة التونسية. ثم جهز الأمير أمحالًا أخرى حشد بها جنوده المجندة وأرسلها تحت رئاسة صاحب طابعه يوسف خوجة ووقع النزال مع الجزيريين في سراط فانتصر التونسيون انتصارًا هائلًا، واستولوا على سائر ما احتوت عليه محلة الجزيريين من العدد الحربية وغيرها، ورجعت المحلات المنصورة غانمة في الثاني والعشرين من ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف. وزينت البلاد وتوالت الأفراح ومن ذلك اليوم نزعت البلاد أطمار مهانة الجزيريين ولبست ثياب العز وأصبحت رافلة في جلابيب أمنها.
وكان قبل ذلك حارب البلنسيان سنة أربع، وبعد الطول انفصل معهم على صلح كان أواخر سنة تسع بعد المائتين والألف.
وثار عليه عسكر الترك ليلًا في شعبان سنة ست وعشرين ومكنه الله منهم فقمع ثورانهم، وأطفأ نيرانهم.
ومن مفاخر دولة هذا الأمير الأساطيل التي اتخذها في البحر وغنم بها وسبى وانتصر بها على الجزيريين لما اقبلوا عليه من البحر بأسطول عظيم إلى حلق الوادي سنة ثمان وعشرين فعطب كثيرًا من أجفانهم وردهم.
وقد أغاث بقوة جنوده ابني باشا طرابلس لما استنصروا به على عدوهم فجهز لهم المحال تحت رئاسة وزيره وصهره الحاج مصطفى خوجة سنة تسع بعد المائتين والألف، فانتصر بالمنشية وفر المستولي هاربًا فأجلسهم على كرسي إمارة طرابلس وعقد لهم البيعة ورجع غانمًا فائزًا بهذا الفخر الذي خلده لمخدومه وكان من رجال دولته الفائزين بالقرب منه.
وأما بقية رجال دولته فهم: سليمان آغا كاهية المحلة، وخير الدين كاهية دار الباشا وليها بعد سليمان السابق الذكر، والحاج حسن خزندار، والشيخ محمد الأصرم باش كاتب.
وكار الأمير ولوعًا بإكرام الوافدين عليه من ملوك الجهات بحيث إنه خلف للبلاد مآثر ومفاخر لا يحصيها عدد بسبب ما عنده من الغيرة والحمية الوطنية وإعمال الفكر في أمن البلاد وثروتها، وله في ذلك أخبار لا يفي بها غير تاريخ مستقل. وقد تصدى الشيخ إبراهيم سيالة لتأليف تاريخ في مفاخر دولة المذكور وقفت على قطعة منه غير أنه لم يستكمله.
1 / 11
ومن منقولات أخباره في الحرص على نفع البلاد أنه كان لا يلبس إلا طيلسان بلد جربة واتفق له أن لبس الطيلسان الكشمير فلم تمض عليه مدة حتى رأى جميع رجال دولته مثله ففطن لكساد صناعة البلاد ورواج السلع الخارجية، وعند حضور موكب العيد أقبل عليهم لابسًا طيلسانًا من صناعة جربة، وفي ذلك اليوم ترك جميعهم الطيلسان الكشمير، ولبس مثل لبس الأمير.
مزورة عليه مع أنها كانت بعقد عدلين لا ريبة في عدالتهما وهما ميتان والرسم قديم، لكنه مع ذلك رأى من تلهف المدعى عليه بها ما تشكك به في ثبوت ذلك عليه، فأخذ الكاغذ الذي كتبت فيه الحجة وأحضر بعض الإفرنج العارفين بتواريخ إنشاء الكاغذ، وكشف الغيب على أن تاريخ كتابة الرسم كان قبل إنشاء أصل الكاغذ بسنين كثيرة وبالاختبار تبين أن الرسم مفتعل وأن الشهادة مزورة على شهيديها.
وكان متخذًا القبة الحمراء أمام باردو لقبول جواسيسه عشية كل يوم يعلم منهم جميع ما وقع ذلك اليوم حتى انفرد بمعرفة حقيقة ما عليه البلاد وأهلها. وبالجملة فإن هذا الأمير تصرف في المملكة تصرف الأب الشفوق في أبنائه وأحيا لها ذكرًا، وفك لها أسرًا.
وبنى المسجد الذي قرب القصبة وأقام به الأحزاب الجارية إلى هذا اليوم بما أوقفه عليها.
وكان شهمًا حازمًا غيورًا، عالي الهمة، عزيز النفس أبيَّ الضيم حاميًا للذمار، غير متحمل للعار، خبيرًا بسياسة البلاد، نصوحًا لها، حسن التدبير، محبًا للعلماء والصالحين، يباشر المهمات بنفسه مقتصدًا في شخصياته، حافظًا لأموال المسلمين عن غير مصالحهم، لا تأخذه في الحق لومة لائم، صادق الفراسة التي كاد أن يطلع بها على الغيب، بحاثًا عن الأحوال، كاظمًا للغيظ، أصيب بفقد ولده محمد المأمون باي فدخل عليه الشيخ صالح الكواش يعزيه وقال له في تعزيته: إن الله ما بولدك ابتدا، ولا عليك اعتدى، فإن رضيك ذلك فيا حبذا، وإلاَّ فعليك بذا ثم بذا، وأشار إلى الحائطين بميمنته وشماله، فاسترجع الأمير ولازم صبره. ولم يزل على اعتنائه بشأن ملكه إلى أن فاجأته المنية بعد مغرب ليلة الجمعة مفتتح شوال سنة تسع وعشرين ومائتين وألف، ودفن بتربة والده عليه رحمة الله ورثاه الشيخ إبراهيم الرياحي بقوله: [الكامل]
حكم المنية نافذُ الأحكام ... والدار ما جعلت بدار مُقام
كم فتتت كبدًا وكم أبكت دمًا ... ولرب عرش ثل بعد نظام
ولربما هان المصاب وفيك يا ... حمودة جلل على الأيام
يفنى الزمان ورزءُ فقدِك حادث ... يُتلى على الأفواه والأقلام
إن تسخُ جامدة العيون بدرها ... فلطالما رويتْ بكأس منام
أو تلبس الدنيا عليك حدادها ... فغروب شمسك مؤذنٌ بظلام
لكن مآثرك التي خلدتها ... أبقت سناك وأنت تحت رِجام
السور ما سوَّاه إلاَّ عزمُه ... ومشيدُ الأبراج تحت ضرام
أما الثغور فإنها غصصُ العدى ... وشفا الصدورِ بآية الإسلام
ولكم سقيت الرعب من شق العصا ... ومزجت كأس سروره بحِمام
مم بعد ما بالغتَ في إرشاده ... وغضضتَ جفنَ الحلمِ غضَّ كرام
حتى أطاعك فيهمُ النصر الذي ... خضعوا به قسرًا خضوع لِئام
وبلغْتَ أنّك إن رأوا لك عسكرًا ... هزموا بلا طعن وسل حُسَام
وغدت بذلك تونسٌ تفترُّ في ... حلل الهنا عن ثغرها البسَّام
محسودة كعقاب جوٍّ منعةً ... بشموخها وكميِّها الضِّرغام
والآن فهي لفقده محزونةٌ ... تبكي عليه بكل طرفٍ دام
فكأنما عين الحواسد فوقتْ ... لجمالها عن قوسه بسهام
لما دعا داعي الرضا فأجابه ... مستسلمًا لله في الأحكام
فافسح له اللهمَّ عندك منزلًا ... واسمح له بزيادة الإنعام
ولقولتي حقق بفضلك فيه إذ ... أرختُ: قيلَ: ادخُلْ لنا بسلامِ
٦- المولى عثمان باشا باي
[١١٧٦ ١٢٣٠]
1 / 12
هو الأمير أبو النور عثمان بن علي بن حسين بن علي تركي، ولد ليلة الجمعة الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة ست وسبعين ومائة وألف، وتربى في حجر اعتناء أبيه وعز دولة أخيه إلى أن توفي أخوه فاجتمع خاصته ورجال دولته للمشاورة فيمن يقدمونه للولاية حيث إن الملك يستحقه ابن عم أميرهم وهو أكبر الموالي سنًا ونفوسهم منبعثة إلى غير ذلك فاجتمع هنالك صهر الأمير المفتي الشيخ الحاج أحمد البارودي، ووزيره يوسف صاحب الطابع، ورئيس الكتاب الشيخ محمد الأصرم، ومن حضر هنالك لموكب ليلة العيد، وعند اجتماعهم استقدموا الموالي الكرام، فجلسوا على حسب مراتبهم، وكان أبناء صاحب الترجمة وشيعته متقلدين سلاحًا خفيًا وهم متأهبون للحرب، وقدم ابنا عمهم وبنوهما على حالة أمن، ولما انتظم مجلس اجتماعهم بادرهم الوزير يوسف صاحب الطابع بالتعزية والتسلية، ثم استشار جمعهم فيمن يقدمونه للولاية، فأجابه أكبرهم سنًا وأعلاهم مجلسًا وصاحبها استحقاقًا المولى محمود باي بقوله. إن الأمر واضح، وإنما الخيار بأيديكم في المبايعة، فانتهزها منه فرصة وقال. إنما يرث الميت أخوه، وعجل بالبيعة إلى صاحب الترجمة، وتبعه على ذلك شيعته وتمت له البيعة.
وأصبح على كرسي المملكة بذاته والتصرف بيد بعض المسارعين لبيعته حتى آل الأمر إلى استبدادهم عليه، وكاد أمر الدولة أن ينحل غير أن مدة ولايته كانت خصبة وكثر فيها الرخاء والأمن وعندما رأى أبناء عمه أشراف الدولة على خطر الانحلال أجمعوا على خلعه فخرجوا إليه ليلًا مع من قام بنصرتهم، وما الله مريد ظلمًا للعالمين، فدخلوا عليه واستشهد بعد هرج أطار نوم تلك الليلة. ومن الغد قتل ابناه صالح باي وعلي باي. وسجن مولوده تلك الليلة محمد باي. وكانت ليلة قتل الأمير المذكور ليلة عاشوراء من المحرم الحرام سنة ثلاثين ومائتين وألف ودفن هو وابناه بتربة والده عليهم رحمة الله.
٧- المولى محمود باشا باي
[١١٧٠ ١٢٣٩] هو الأمير أبو الثناء محمود بن محمد الرشيد بن حسين بن علي تركي، ولد سنة سبعين ومائة وألف وتربى في حجر عناية عمه مضمومًا إلى بنيه، وكان هو أكبرهم سنًا وهو المقدم عليهم في استحقاق الملك غير أن عمه آثر لوراثة الملك من بعده ولده أبا محمد حمودة باشا فغض الطرف عن ذلك حياءً من عمه وكظم غيظه. ولما انقضت دولة ابن عمه المذكور لم يحتسب أن في رجال الدولة من يؤثر الحيف فكان من أمرهم ما كان في تقديم أبي النور عثمان باشا وعند ذلك أيقن أن المآل هو غصْب حقهم في ملك أبيه وجده، ثم رأى من اختلال الدولة ما أكد له تهمة اغتيال الدولة حيث رأى أنها صارت طُعمة لكل متناول فجمع أمره ونهض هو وأخوه معتضدًا بابنيه وتسلم حقه في ملك أبيه بعد استشهاد ابن عمه ووقعت له البيعة صبيحة يوم عاشوراء سنة ثلاثين ومائتين وألف ولم يختلف اثنان في مبايعته فباشر أمور الدولة بلين ورفق وحسن صنع.
وحيث إن الإمارة أتته على كبر السن واعتراض المرض فوض الأمر لابنه وتخير الإقامة جوار سيدي أبي سعيد الباجي بجبل المنار والتنزه في المرسى وأحدث فيها أبنية. وقد ثار عليه جند الترك سنة إحدى وثلاثين واجتمعوا ببطحاء القصبة، وقدموا أحد أشقيائهم فتهاون الأمير بشأنهم وتركهم في ظلماتهم يخبطون فلم يستكملوا اليوم الثاني حتى اجتمعوا لديه، وقتل منهم من استحق القتل وأدرك من خرج وعمّ الباقين بحلمه وعفوه وكفى الله المؤمنين القتال.
وقد بنى الأبنية الباذخة، وشيد من فضله القواعد الراسخة، فأقام كثيرًا من المشاهد والزوايا وأنفق الأموال العظيمة في جلب الأقوات الكافية لسد خلة المملكة في مجاعة عام ستة وثلاثين وعقد الصلح مع الجزائر بشروط مرضية وتم انعقاده في جمادى الثانية سنة ست وثلاثين.
1 / 13
ومن رجال دولته سليمان آغا كاهية المحلة والحاج حسن كاهية دار الباشا والشيخ محمود الأصرم باش كاتب أما عمدة الدولة ووزيرُها لديه فهو الشريف العربي زروق خزندار وكان من أبناء أعيانها، المتغذين بعذب لبانها، وهو أبو عبد الله محمد العربي بن محمد بن أحمد بن عمر زروق بن أبي القاسم بن علي بن أبي رياح فرج بن أحمد بن أبي عمران بن موسى بن عبد الله بن علي بن فرج بن محمد بن عبد الله بن داود بن سليمان بن إدريس بن محمد بن موسى بن جعفر بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي وفاطمة بنت رسول الله ﷺ. قدم جده أحمد بن عمر زروق من الغرب إلى حاضرة تونس صحبة الأخوين والده عمر وعمه الشيخ محمد زروق صاحب زاوية ربض باب السوبقة على عهد المقدس الباشا حسين بن علي ونال عنده الحظوة وحج بيت الله الحرام. ولما رجع امتحنه الباشا علي وفر ولده محمد والتحق بالموالي إلى أرض الجزائر، ونال منهم القرب حتى أنهم لما عزموا على العود إلى الحاضرة استودعوه الحريم هناك إلى أن أخذوا قرارهم فاستقدموه بمن معه من حريمهم وكلفوه بمهمات وجرت على يده أبنية باردو المعمور. ولما توفي أقيم في خدمته ولده المذكور وجرى على يده إصلاح حصون الكاف وغيرها من أبنية الأمير حمودة باشا ولما أفضت الدولة إلى صاحب الترجمة الأمير محمود باشا استخلصه للوزارة فأحيا به خطة خزندار وأولاه إياها ثالث ربيع الأول سنة ثلاثين ولم يزل في خدمة الدولة إلى أن ناهز من العمر السبعين سنة وأدركه الحِمام ثالث عشر صفر سنة ثمان وثلاثين ومائتين وألف. وكان هذا الأمير المحمود الأخلاق، الطيب الأعراق، المشتهر بالحلم في سائر الآفاق، لينًا سمحًا كريمًا سهل الجانب قنوعًا، ذا بر وحنان تعاطى الشعر غير أنه لم يصل فيه للنسج على منوال والده، يحب الخير للعموم ولا يرضى السوء لأحد، كثير العفو كريم النفس.
قضى مدة دولته في أمن وخفض عيش وجذل قلب وسرور إلى أن حضرته المنية فتوفي ثامن رجب الأصب سنة تسع وثلاثين ومائتين وألف ودفن بتربة عمه عليه رحمة الله. وقد رثاه الشيخ إبراهيم الرياحي بقوله: [الكامل]
ما مات من يبقي الثنا ذكراه ... ويمينه ظفرت بكل مناه
كالسيد الباشا الرضا وهو الذي ... طيب اسمه يُهْدي شذا معناه
ملك إذ عد الملوك فإنما ... هُو صالح قد فاق في تقواه
أحنى على الضعفاء من لين الحشا ... وأمنُّ من أرواحهم رُحماه
وهو الذي بسط الهناء بيُمْنه ... فالهرج ما ناب الورى بدجاه
سبحان من جمع الكمال لمفرد ... لم يحكه في ذاك إلاّ ابناه
ثم اختفى كالشمس فرصًا لا سنا ... فابناه في فلك الحياة سناه
قل للأُّلَى سفكوا دماء عيونهم ... أأسىً بما قرت له عيناه؟
لم ينتقل إلا لخير وافر ... فيرى جزا ما قدمته يداه
ولذا بحسن الظن قلت مؤرخًا: ... (كان التحيةَ والسلامَ قراه)
ورثاه أيضًا الشيخ أحمد الكيلاني بقوله:
هي المنية لم ترهب ولم تهب ... تعدو على الأسد والأقيال في الحجب
كم من قلوب غدت منها ممزقة ... ومن جفون تفيض الدمع كالسحب
هيهات لا سوقةً تُبقي ولا ملكًا ... كل يصاب بهذا الحادث الأشب
فليسع ذو بصر فيما يقربه ... إلى المنجاة ويحميه من العطب
كما سعى في طريق الرشد مجتهدًا ... نجل الرشيد جليل القدر والحسب
(محمود) من حمدت في الناس سيرته ... زعيم آل حسين شامخ النسب
ببيت الفخار الذي طالت دعائمه ... حتى ارتقت شفًا عن مركز الشُهب
هذي الجدود وقد أغناه ما كسبت ... يمينه من علا عن قول: كان أبي
دعاه داعي المنايا فاستجاب له ... ولم يبال بملك لا ولا نشب
وار في أثر الإسراء محتفلًا ... بما يؤمل للمخلوق في العقب
لله يا رمس كم واريت راق منظره ... وطاب مخبره في العجم والعرب
لما قضى نحبه أنشأ مؤرخه ... (محمود حن لفوز الخلد في رجب)
٨ المولى حسين باشا باي
[١١٩٢ ١٢٥١]
1 / 14
هو الأمير حسين بن محمود بن محمد الرشيد بن حسين بن علي تركي، ولد سنة اثنتين وتسعين ومائة وألف، وتربى في حجر اعتناء والده، وهو في نفسه عالي الهمة. ولما استقبل بالملك والده أولاه إمارة الأمحال، فسافر بالمحلة حتى اطلع على سائر حال المملكة، ورتب أحوالها ثم تولى أمر الدولة فباشر الحكم وإدارة أمور الدولة بتخلي والده له، وقام لها قيام الزعيم معتضدًا برجال الدولة مثل صهريه حسين خوجة باش مملوك وشاكير صاحب الطابع ومن انضم إليهما من رجال دولة والده، وأحسن التصرف في المملكة والرعايا.
ولما احتضر والده عهد بالولاية إليه، فاستقبل بالملك صبيحة الثامن من رجب سنة تسع وثلاثين وألف، ووفدت الوفود من أعيان سائر جهات المملكة للبيعة والتهنئة، فجرى على سنته المستقيم. ولم يرع الدولة والأهالي إلا فقد شخص والده. فابتدر إلى إنشاء أسطول تألف من عدة سفن وكبح ثورات كثيرة أخذت تمد أعناقها لروع أمن دولته فصد جميعها بحزمة وعدده.
واحتفل لعرس ابنه بنيه المولى محمد باي احتفالًا بعد العهد بمثله بحيث إنه أظهر فيه من بذاخة الملك وارتفاع شان الدولة وبستطها وعزها ما لا يحيط بوصفه القلم.
ولما أقبل المهاجرون من الجزيريين أوائل سنة ست وأربعين قابلهم بإحسانه وفضله وأحلهم محل الأمن.
ثم إنه اتخذ العسكر النظامي من أهل المملكة، ووفدت عليه الخلعة النظامية في جمادى الأولى سنة وأربعين ومائتين وألف صحبة الداي مصطفى البلهوان كبير جوانب الترك والشيخ أحمد بن أبي الضياف أحد أعيان الكتاب فلبسها في يوم مشهود وتبعه في اللباس المذكور سائر رجال دولته، واعتنى بالنظام وأسس تربته، وابتنى لسكنى العسكر النظامي قشلة المركاض التي لم يعهد لها مثل في الاتساع وإحكام البناء وحسن التنظيم.
وأقام بناء البرج العظيم الذي قرب السيدة المنوبية قرب باب القرجاني وما حوله من السور، وأقام أبنية كثيرة بباردو وحمام الأنف وغيرهما، وبني عدة زوايا للأولياء بالحاضرة وغيرها لا زال اسمه مخلدًا على بنائها، إلى غير ذلك من الفاخر التي غرست حبه وحب ذريته في قلوب كافة أهل المملكة التونسية ولا سيما أهل حاضرتها فإن دولته معدودة عندنا من مواسم الأيام.
وهو الذي أطلع أقمار ملوكها شموسًا في دياجي الظلام، فكان بنوه في الخضراء هم زينة أفقها، الراكبون أعز بلقها، هم الملوك العظام، والسعداء الكرام محمد باي، والصادق باي، وحمودة باي، والمأمون باي والطيب باي، والطاهر باي، والعادل باي، ومحمود باي، ومراد باي، وهم الذين ذاع على أردانهم عابق البشر، وعوذهم الله بعدد العشر.
أما محمود ومراد فقد توفيا في الصغر، وأما العادل باي فقد توفي سنة أربع وثمانين، وأما المأمون باي فقد توفي سنة ثمان وسبعين، وأما الطاهر باي فقد توفي سنة وثمانين،أما حمودة باي فقد بلغ إلى ولاية الأمحال وتوفي سنة خنس وثمانين ومائتين وألف، أسبغ الله على جميعهم الرحمة والنعيم، وأدام عز لملك بمن بقي من ألهم الكريم.
وكانت ولادة المرفع أبي الحسين ثامن عشر ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وارتقى إلى ولاية الأمحال بعد وفاة أخيه أبي محمد حمود فهو اليوم ولي العهد، أدام الله به ابتهاج ذلك المجد. وكانت ولادة المرفع الطيب الغراسة في ثامن ذي القعدة الحرام سنة وثلاثين بعد الألف والمائتين، أدام الله به للملك أكرم جفن قرير، في ظل دولة مولانا المشير.
وقد تزينت البلاد في دولة صاحب الترجمة مرتين سرورًا بسلامته أحداهما حين سلم من عثار كروسته، والثانية لما نقه من مرضه، وفي كلتيهما أظهرت البلاد من مفاخرها ما لا حد له من الفرش والآلات والتحف والأكسية مما يدل على كمال علو همة أهاليها وغاية لطفهم وودهم لأميرهم.
وكان شهمًا همامًا وقورًا، عالي الهمة، محبًا لأعالي الأمور، محافظًا على شارات الملك، كرم النفس لطيف الأخلاق، شجاعًا مهيبًا، سمحًا كثير العطايا، محبًا لخير البلاد وأهلها، حليمًا، أمنت في دولته البلاد والعباد، وهو بين بنيه قرير العين جذلان الفؤاد. إلى أ، حضر أجله فصار إلى جنة المأوى ودفن بالتربة عليه رحمة الله ورثاه الشيخ محمد الخضار بقوله:
أيقظ فؤادك لات حين منام ... وأبك الرسوم بكل طرف هام
وانظر إلى الأيام ماذا أنزلت ... من شاهق لا درَّ للأيام
1 / 15
أخلين من كسرى محل سريره ... وسلبن تاج الملك من بهرام
وأرعْن بالحدثان كل مملك ... ونبذن بالجزعان كل إمام
أمم حدا بهم الحمام فأسرعوا ... وتبددوا كالعقد بعد نظام
وحواهم سلك الفناء كما حوى ... هذا المملكَ بعد عز مقام
رحل ابن محمود حسين وانطوى ... كالبرق أسرع عليه ثوب ظلام
فهوى به عيش المكارم واكتسى ... وجه الزمان عليه ثوب ظلام
إن ما تحاماه الحمام فإنه ... نّمَّى الحماة لشوكة الإسلام
ولكان حباب الأمور مجربا ... بادي البشاشة سابغ الأنعام
خمدت بدولته الحروب وأخصبت ... فيها الذرى للناس والأنعام
يا واقفًا بضريحه استغفر له ... بعد السلام عليه ألف سلام
وعليه من منن المهيمن رحمة ... موصولة تقضي له بدوام
ما قال لما اقبروه مؤرخ: ... يا قبر ألقي فيك بدر تمام
٩ت المولى مصطفى باشا باي
[١٢٠١ ١٢٥٣] هو الأمير أبو النخبة مصطفى بن محمود بن محمد الرشيد ين حسين بن علي تركي. ولد عام واحد ومائتين وألف، وتربى في حجر اعتناء والده، ولما فوض والده وجميع مدة دولة أخيه، فكان أعرف الناس بأحوال أطراف المملكة وأحوال الأعراب وأهل المدن والقرى.
ولما توفي أخوه تقدم للملك فبايعه الناس البيعة الخاصة بمجرد وفاة أخيه في الحادي عشر من المحرم الحرام سنة إحدى وخمسين وما ئتين وألف، وبعد ذلك هرع الناس لبيعته وتهنئته. فابتدأ الأمر من حيث انتهى إليه أخوه ولم يغير شيئًا على الدولة، وأعاد المجلي الشرعي للاجتماع بين يديه على عادته السابقة يوم الأحد. ووفد عليه من الدولة العثمانية نيشان أمير الأمراء، فلبسه في اليوم العاشر من شعبان سنة إحدى وخمسين ومعه سيف محلى، فهو أول من لبس النيشان المذكور في ذلك اليوم المشهوج، وهو أول يوم ضربت فيه النوبة النظامية.
واعتمد على مصطفى صاحب الطابع وصهره مصطفى آغا وجرى على سنن أخيه في الاعتناء بالعسكر النظامي وأتم بناء قشلة المركاض وحشد إليها كتائب العساكر في سنة اثنتين وخمسين وهو أول من صاغ نيشان الافتخار ونقش عليه اسمه بالألماس. وقد بني زاوية الشيخ بن مسيكة. وأحيا مسجد الطراز ورتب به قراء ومحدثين. واستناب كبير أ÷ل الشورى من العلماء المالكية الشيخ إبراهيم الرياحي في حج بيت الله الحرام. وكان برًا بأخيه المقدس وبنيه الكرام مع أن له ولدين وهما أحمد باي، ومحمد الأمين باي. أما الثاني فقد توفي سنة ثلاث وتسعين، وأما الأول فكان ولي عهد والده ومع ذلك جعل ولاية الأمحال يتناولها ولده ولي عهده المذكور وأكبر أبناء أخيه مرة بعد مرة.
وقد عرف بالرأفة وكرم النفس والذهن الوقاد في فهم ما يرد عليه من النوازل إلى غير ذلك من الخصال الحميدة التي نالها بكرم أصله. وكانت أيام دولته أيام وسكون إلى أتاه أجله فسار إلى رحمة ربه يوم الثلاثاء عاشر رجب سنة ثلاث وخمسين ومائتين وألف، ودفن بالتربة عليه رحمة الله ورثاه الشيخ محمد الخضار بقوله: [كامل]
جد الرحيل إلى أشط قرار ... والركب شد حيازم الأكوار
والدهر يعبث بالكرام وينتقي ... قبل الأراذل أنفس الأحرار
لم ينج من حدثانه ذو موكب ... حفل ولا ذو جحفل جرار
آلي الزمان بحلفة مبرورة ... أن لا يغض الجفن عن ديار
منع البقاء ولا بقاء لراحل ... يطوي سواد الليل إثر نهار
نزل الحمام بساحة من دونها ... شهب الدجى ومنازل الأقمار
فلذا همت ديم الدموع زواخرا ... تبكي الدفين بوابل مدرار
والملك السلطان ليس لذي يد ... في الدهر بل للواحد القهار
هذا الضريح لمصطفى بن أبي الثنا ... ناهيك من ملك عزيز الجار
قد كان برًا بالرعية رافعًا ... للشرع أعلى رتبة ومنار
ذا عفة ونباه وسماحة ... وجلالة وسكينة ووقار
يعفو عن الزلات بعد تمكن ... فضلًا ويقبل من ذوي الأعذار
فعليه من منن الإله عواطف ... تسقي ثراه برحمة الغفار
لما مضى لسبيله أرخته ... ماضي له الفردوس أكرمُ دار
١٠ المولى المشير أحمد باشا باي
[١٢٢١ ١٢٧١]
1 / 16
هو المشير أبو العباس أحمد بن مصطفى بن محمود بن محمد الرشيد بن حسين بن علي تركي. ولد سنة إحدى وعشرين ومائتين وألف، ونشأ بين يدي والده بتربية مصطفى صاحب الطابع إلى أن أتت الدولة إلى والده فتناوب سفر الأمحال مع ابن عمه.
ولما توفي والده تقدم للولاية وأجلسه على كرسيها ابن عمه وإخوته وتمت له البيعة يوم الثلاثاء عاشر رجب الأصب سنة وخمسين ومائتين وألف. فنهض للمملكة نهوضًا لم يسبق له نظير وأرسلت له الدولة العثمانية الخلعة السنية ونيشان المشيرية صحبة أريالة بك مصطفى البلهوان باش حانبه ومن بمعيتهما، وذلك على عهد السلطان محمود خان. فتقلد لباس المشيرية في مركب مشهود صبيحة يوم الأحد السادس والعشرين من صفر الخير سنة أربع وخمسين ومائتين وألف. وعند ذلك نظم دولته وجمع رجالها، فكان مربيه مصطفى صاحب الطابع هو ذا اليد العليا والمرجع في الأمور، واستوزر مملوكه مصطفى خزندار، وجعل أمر الحرب لنظر مصطفى آغا صاحب الزغاية، ونظارة البحرية لمحمود كاهية، والتنفيذ للداي كشك محمد، وأمور الخارجية لنظر النصراني جوزاف راف. وجمع كتائب العساكر، وبنى الرباطات والأبراج، فبنى قشلة الطوبجية سنة ست وخمسين، وأتم بناء قشلة الخيالة سنة ثمان وستين، وبنى رباطات المحمدية وقصورها وحصونها التي أتم بناءها سنة تسع وخمسين.
واعتنى بالعساكر فجمع تحت رايته المنصورة من العسكر النظامي ما ينيف على الثلاثين ألفًا، واعتنى بتنظيمهم غاية الاعتناء يحضر مواكب تعليمهم بنفسه، وله بجميعهم برور تام مع شدة في الحكم العسكري ووقوف في مقتضيات القوانين العسكرية حتى انتهى في ذلك إلى أخبار يضيق النطاق عن حصرها. وقد أحيا ثغر غار الملح وعمره بالعدد والعدد، وشحن القشلة الكبرى وأبراج حلق الوادي بالرجال والمدافع والأسلحة النارية حتى طار له بذلك صيت عظيم.
ولما لم يكف لذلك مدخول البلاد وظف مكوسًا وأرباعًا وأداءات على الأشياء المبتاعة توفر بها دخل الدولة. وتقدم لها حمود بن عياد فاستخلصها مضاعفة وهو المصدق في كل دعوى وتكلف بشؤون العسكر من طعام ولباس وغيرهما، فكان هو القابض والدافع، وجميع مداخيل الدولة له وجميع مخاريجها من تحت يده مدة خمس عشرة سنة، وأقام معمل الملف الذي قرب طبربة على يده وأتم بناءه سنة ستين ومائتين وألف. ولما سافر محمود بن عياد إلى باريس خلفه في قبض الأموال ودفعها في الدولة اليهودي نسيم شمامة.
ولما استكمل المشير استعداده خرج بنفسه لتفقد حال أطراف المملكة في جيشه الكثيف في ربيع الأول سنة ست وخمسين، واستصحب في سفره قاضي حاضرته الشيخ محمد بن سلامة، وباش كاتب الشيخ محمد الأصرم، وكاتب سره الشيخ أحمد بن أبي الضياف وغالب رجال دولته فطاف الناحية القبلية ودخل الوطن القبلي وعمل الساحل وصفاقس وقابس وفيها قتل القاتلين لآخذي المكوس التي رتبها وركب البحر ودخل إلى جربة وعاد إلى حضرته، وبذل في سفره المذكور مالًا عظيمًا. ولما رجع أبطل جميع أداء الزيت والزيتون وجعل على شجر الزيتون قانونًا يؤديه سنويًا وأصدر بذلك منشوره الشهير المؤرخ بالرابع من جمادى الأولى سنة ست وخمسين. وأبطل بعد ذلك ملكية العبيد في ٢٨ المحرم الحرام سنة اثنتين وستين.
وسافر باريس لمقاصد سياسية فخرج من الحاضرة صبيحة يوم الخميس الرابع عشر من ذي القعدة الحرام سنة اثنتين وستين مصحوبًا بخاصة رجال دولته ورجع يوم الأربعاء الثاني عشر من المحرم الحرام سنة ثلاث وستين.
وأقام بناء باب البحر بناء في غاية الضخامة والإحكام، وأتم بناءه سنة أربع وستين.
1 / 17
وفي أثناء مدة دولته شيد رسوم رسوم العلوم، ببنائه المحكم المعلوم، فجمع آلاف المجلدات من الكتب وأوقفها بجامع الزيتونة وجعلها في صدر الجامع في عشرين خزانة، وكان إدخالها للجامع في اليوم السابع والعشرين من شهر رمضان المعظم سنة ست وخمسين، وأقام بجامع الزيتونة ثلاثين مدرسًا انتخبهم من علماء عصره؛ منهم خمسة عشر من المالكية، ومثلهم من الحنفية، ويقرئ كل واحد منهم درسين في الجامع من أي فن شاء ويأخذ ريالين. وعين لإجراء الجراية المذكورة مدخول بيت المال وكان ذلك في السابع والعشرين من شهر رمضان المعظم سنة ثمان وخمسين ومائتين وألف، وجمع الأوقاف الموقوفة على الدروس بجامع الزيتونة، وجعلها لنظر زكيل ورتب منها اثني عشر مدرسًا ستة مالكية ومثلهم حنفية يأخذ كل واحد منهم ثلاثة أرباع كل يوم عن درسن يقرئهما بالجامع.
وجعل طابعًا للقاضي المالكي. وأجرى على أهل المجلس الشرعي من المالكية جراية دار الباشا التي كان اختص بها المشايخ الحنفية، وذلك في الثاني عشر من ربيع الأول سنة ست وخمسين. وبالجملة فقد صرف جانبًا عظيمًا من همته في الاعتناء بالعلم والعلماء حتى رأى ثمار غراسته في دولته وأصبحت تونس كثيرة الفحول، من حفظة المعقول والمنقول.
وهو أول من اتخذ عمل المولد النبوي بإحياء ليلته والحضور لقراءته صباحًا بجامع الزيتونة في موكب يحضره جميع رجال الدولة بملابسهم الرسمية ويحضره جميع العلماء وأمر بإطلاق المدافع تبشيرًا به. وهو من العمل الذي لا يضيع له عند الله.
وحين وقعت الدولة العثمانية في الحرب مع الروس جهز لها من عسكره النظامي آلافًا رئاسة رشيد، وشحن بهم وبعددهم ومونتهم مراكب عظيمة وجهها إعانة لخلافة الإسلام على عهد السلطان عبد المجيد خان.
وكان شهمًا حازمًا، ذا صولة عظيمة، عالي الهمة، وافي الكرم، يعطي العطايا الباهظة، ولوعًا بتعظيم شأن الدولة، لا يهاب المخاطر، خصه الشيخ محمد بن سلامة بتاريخ ضمنه كثيرًا من قصائد مديحه.
ولم يزل في صولته إلى أن أصابه فالج عطله مدة وأدركته المنية فتوفي بحلق الوادي ليلة الخميس السادس عشر من شهر رمضان المكعظم سنة إحدى وسبعين ومائتين وألف ودفن بالتربة عليه رحمة الله.
١١ المولى المشير محمد باشا باي
[١٢٢٦ ١٢٧٦] هو المشير أبو عبد الله محمد بن حسين بن محمود بم محمد الرشيد بن حسين بن علي تركي، وأمه فاطمة بنت محمد بن عثمان بن علي بن عثمان وفاطمة هاته أمها شلبية بنت على بن مصطفى الشريف ممن عرفوا بالشرف ويلبسون علامته بحاضرة تونس. أما عثمان الأعلى جد فاطمة المذكورة فوالدته تركية بنت حسين خوجة صهر الداي أسطى مراد، ويقال: إنها لها شرفًا من قبل أمها، على كل حال فإن المشير المذكور له شرف يتصل به.
وقد ولد سنة ست وعشرين ومائتين وألف، ونشأ في بذاخة عز دولتي جده وأبيه. وزوجه والده بابنة شيخ الإسلام البيرمي الثالث، وأقام له العرس الفاخر الذي جرى على نسق أعراس الملوك العباسيين. وأولم له بدعوة الجفلى، وأظهر فيه فخامة الملك ومآثر الفضل والبذل ما لا يدخل نحن حصره، وكان زفافها إليه ليلة الخامس عشر من شعبان سنة تسع وأربعين ومائتين وألف.
وسافر في الأمحال على عهد تملك عمه فجعلها عمه بينه وبين ولده يتداولانها إلى أن توفي عمه، فاستقل هو بولاية الأمحال، وباشر خفي الولاية وجليها.
1 / 18
ولما توفي ابن عمه قبل هو البيعة العامة صبيحة يوم الخميس السادس عشر من شهر رمضان المعظم سنة إحدى وسبعين ومائتين وألف. ووفدت عليه الوفود للبيعة والتهنئة، فزان ملك آبائه وأجداده كابرًا عن كابر، وأقر سائر الوزراء على وظائفهم، فكان مصطفى خزندار وزير العمالة والمال، ومصطفى آغا وزير الحرب. وجعل خير الدين وزير البحر، والنصراني فيلسين راف وزير الخارجية، وجعل التنفيذ بيد الداي محمد، وأقام صهره إسماعيل السني صاحب طابعه. واستدرك حال المملكة وضنكها، فأمر بتسريح جموع العساكر التي وجدها ولم يبق من عشرات آلافها المتآلفة إلا من بهم الحاجة للحراسة وحفظ شارات الملك، وأجرى على من أبقاهم فيوضًا من الإحسان، وهواطل من امتنان، وزيادة على تخليص جراياتهم التي يستحقونها، واستصحبهم معه في تنزهاته وخروجاته الشهيرة، وأطعمهم أعز الطعام من اللحوم والطيور والفواكه والمصنوعات السكرية البديعة، فأصبحوا في نعيم التنعيم، وخلد بذلك لنفسه ذكرًا حميدًا بين جموع السلامة من آلاف العساكر التي انتقاها، ولحفظ الراحة تخيرها وأبقاها. ولما وردت عساكر الجهاد الذين كانوا في دار الخلافة العثمانية أكرم قبولهم وأثنى على صنيعهم الحميد وتلقاهم بغاية البر والإنعام وجازاهم بزيادة الخمس في مرتب جميع العساكر النظامية، وكان ذلك في ذي الحجة الحرام سنة اثنتين وسبعين.
وقد أسقط غالب الأداءات التي وجدها مضروبة على المبيعات من الحيوان وغيره مما ضاق به ذرع المكاسب العمومية. وأزال عن الإعراب وسكان القرى جميع ما كانوا فيه من ضيم المكوس وأداءاتها وضرائبها وخطاياها، وفك أسرهم من ذلك كله وعوض للدولة من جميع ما أسقطه وأزاله أداءً معينًا على الرجال القادرين من الأعراب وسكان القرى قدره ستة وثلاثون ريالًا سنويًا لا يكلفون بغيرها، وأصدر بذلك منشوره الشهير المؤرخ بأواسط شوال سنة اثنتين وسبعين، وذلك بعد أن أطلق المقَيَّدِين في العسكرية. فاطمأن الناس عمومًا وأقبلت الأعراب وسكان القرى على شأن الفلاحة آمنين على كسبهم من الخطايا والضرائب. وساعد البخت بحصول الخصب العظيم، فأثرت المملكة ثروة بعد العهد بمثلها مع الأمن العام، وكثر التبايع وتعاطي الأسباب، وحصل الرخاء وتحسن المعاش، وأباح بيع اللحوم على تراض المتبايعين، فتنافس القصابون في اختيار الغنم والبقر التي يذبحونها.
وباشر الملك بنفسه، وأحيا وظيفة الحسبة بالاحتساب العام على مصالح البلاد ةالرعية والأوقاف بحيث أن محتسبه العام قائم في سائر الحقوق العامة بتفقد السجون وإعادة النظر في استحقاق المسجونين، ومن وجده مظلومًا أخرجه، وأقام من خواصه حارسين على تصرف العمال وجواسيس في سائر الأعمال مع ما له من الاهتمام بالبحث عن حال الرعية، يخرج للصيد، فينفرد عن الجموع الذين يخرجون معه، ويتقصص أحوال العمال من الأعراب العابرين السبيل. وتشدد في عزل من يشكوه أهل عمله العمال وإن كان من أقرب الناس إليه، واقتص لهم منهم ما أمكنه حتى حال بين العامل والمعمول، بما فوق المأمول.
واجتهد في تأمين الرعية في الحواضر والبوادي فأعمل السيف في قطاع الطرق والمحيرين لراحة السكان بكثرة السرقة، وقتلهم سياسة شرعية، حتى انقطع المتعاطون للسرقات، واطمأنت العباد والبلاد، وعدل بين الرفيع والوضيع وقبل الشكايات في مجلس حكمه بآحاد رجال دولته وأنصف المظلومين من غير محاباة. وكان محبًا لآل بيت رسول الله ﷺ ويعظم العلماء فأبقى على جامع الزيتونة ما تأسس فيه، وأجرى عمل المولد النبوي، واعتنى بتنظيم المجلس الشرعي، فبنى دار الشريعة المعمورة وجعل الحكم فيها يوميًا يحضرها القاضيان المالكي والحنفي، ويحضر مع كل واحد منهما في كل يوم مفت من شيوخ مذهبه. ويجتمع جميع المجلس الشرعي في كل يوم خميس لفصل نوازل الخلاف بمحضر الداي فكان هو المؤسس لديوان الشريعة المطهرة، وقد فتحه صبيحة يوم الخميس الخامس عشر من ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين ومائتين وألف، وحضر يوم فتحه بنفسه اهتمامًا بشأن الشريعة الإسلامية أدام الله عزها.
1 / 19
وأتم الجسر العظيم الذي ابتدأه والده على وادي مجردة في طريق بنزرت، فكان إتمامه بغاية الإحكام. وأقام جسرًا بين سوسة والمنستير قطع به سعي الثعابين السارية، فتواصل ما بين البلدين، بدون أين، وأصلح قنطرة وادي أبي حميدة بالفخص قرب زغوان. وبنى زاوية الشيخ سيدي مدين التي ببطحاء سيدي المشرف وأتقن بناءها ويسر بها مرتفعات السكنى لأهل الحرمين الشرفيين، وأقام بها أحزابًا وأورادًا أوقف عليها أوقافًا لم يزل ثوابها جاريًا عليه، وأمر بجلب ماء عين زغوان العظيمة الماء المنهمر لكفاية البلاد مؤونة العطش، فجلب الماء في الأنابيب الحديدية الضخمة من بلد زغوان إلى تونس، إلا أن وصوله كان بعد انتقاله إلى جنة النعيم. وأقام المجلس البلدي لتنظيم البلاد والنظر في عامة مصالحها، وجعل أعضاءه من أعيان أهل البلد تحت رئاسة مستشار خارجيته حسين فكان هو أول واضع لهذا النمط الكفيل بمصالح البلاد في ربيع الأول سنة خنس وسبعين ومائتين وألف. وكانت مدة دلته أحسن من الابتسام في ثغر الأيام.
وُلِعَ بسكنى المرسى، وأقام فيها الأبنية الفاخرة الدالة عل علو همته، ولازمها في أغلب أحايينه، وضرب حول أبنيته الضخمة فسطاطه الضخم المتسع الرائق الكسو والابتهاج، وجعله محكمته يجلس فيه عند الحكم، ويحضر به رجال الدولة وأرباب الخدمة، وخيام العساكر وخيام العساكر الحارسة مضروبة حوله وقلوبهم جذلانة مطمئنة بالسرور والاستبشار. وخرج إلى حمام الأنف الشامخ، فتوجه بالأبنية الضخمة التي ثبتت على قديم بنائه الراسخ، وزادر فيه أبنية كثيرة وضرب حولها الخيام، وأقام فيها عساكره الكرام، وقضاها أيامًا يقصر اللسان عن وصفها بذل فيها العطايا والتكرمات، ونفيس المطعومات والمشروبات، ولازم به الطراد والصيد مصحوبًا بآحاد أهل الرماية، وإن برز على جميعهم بما له من الإصابة والدراية، كثيرًا مات يكون راكبًا في كروسته فيرى الطائر فيتناول مكحلته ويصيبه حالة كون كروسته سائرو. ولربما عين ريشة من أحد جناحيه فبل الرمي فلم يخطئها ويجعل الخاتم غرضًا فلا تخطئ رصاصته حلقته. وكم له في هذا الباب من خبر مع أنه فارس الفرسان، لا يجاريه في مضمار الفروسية والرماية إنسان. وقد أبعد الشيخ علي الرياحي في قصيدته الطرادية التي امتدحه بها في بعض خروجاته للصيد لإذ قال في أثنائها: [الكامل]
ملك تعود بالنوال فكفه ... تنلُّ واكفةً بما لم يسأل
حتى أضاف الوحش في فلواته ... وسقى دم الرِئْبَال بنت الجيأَلِ
في يوم صيد هاج حرب هياجه ... لله من يوم أغر محجل
نفسي الفداء لمن حوله فيه المدى ... وأبان آية مجده المتأثل
ما عنَّ فيه واقع أو طائرٌ ... إلا رماه بالقضاء المنزلِ
يرمي فيُمصي ماشيًا أو راكبًا ... متأملًا أم ليس بالمتأمل
فإذا نظرت إلى مجال طراده ... لم تلف غير معقرٍ ومجدلِ
عجبًا كان ثقيله ذا فطنة ... أم كان فيه مغنطيس المقتل
لو ساعدته إلى المطار سبوحه ... شن الإغارة بالسماك الأعزل
كرمت فكانت للكريم وقلما ... تجد الشبيه لغير مشبهه ولي
يا فارس الفرسان غير مدافع ... وأجل من نيطت حلاه بمحمل
يا ابن الحسين محمد المولى الذي ... ورث السيادة أفضلًا عن أفضل
إن الفراسة والرماية دون ما ... لك كم حلى المجد الأعز الأطول
وقد بنى بين قصور باردو المعمورة قصرًا تحار دونه الألباب، أتى فيه من بدايع الأبنيو بالعجب العجاب. وكان مع ذلك ولوعًا بكثير من دقائق الصنائع بحيث أنه استخدم عنده لعمل نفسه معامل كثيرة في الصياغة والسبك والخرط والتمويه وعمل التحف من الأواني ومستقطرات العطور الفائقة وعمل العنبر الرفيع مما كان به في دولته رواج المصوغات والأحجار الثمينة وأنواع الطيب الرفيع ورقائق الصنائع الفاخرة حتى أنه أرسل إلى فرانسا وجلب المعامل والآلات.
وفي أثنائها جلب أحرف الطبع وآلات الطبع الحجري واستعمل المطبعة في الحفصية لطبع التذاكر الخفيفة العمل فهو أول من أدخل المطبعة إلى البلاد.
1 / 20