Murur Fi Ard Hana
مرور في أرض الهناء ونبأ من عالم البقاء
Genres
فسألت الشيخ عن سبب ذهاب أكثر الحضور، فقال: إن منهم من يذهب إلى الجمعيات العلمية حيث يتلقنون العلوم والمعرفة والفنون، ومنهم من يذهب إلى استماع العظات الدينية، ومنهم من يذهب لزيارة خطيباتهم، ومنهم من يذهب لرصد الفلك والاستفادة من ذلك العلم الشريف المطرب، ومنهم من يذهب للنزهة ليخففوا عنهم أتعاب النهار، ويكسبوا أجسادهم قوة وانتعاشا بتنشقهم الهواء النقي، ومنهم من يذهب للرياضة الجسدية التي تقوي العضلات وتشد المفاصل، وقبل مضي ساعتين من الوقت تجد الجميع هنا، الكل ينامون باكرا؛ لكي يتمكنوا من النهوض باكرا، ويذهب كل منهم إلى أشغاله. فقلت له: حقا إنكم سعداء بكل شيء، وإن أرضكم هي أرض الهناء بلا مراجعة، ترى هل يرتجى لأرضنا التي يسميها بعضهم أرض الشقاء أن تصير يوما كأرضكم، ويصير سكانها يعرفون واجباتهم نحو نفوسهم، ونحو قريبهم، ثم نحو خالقهم، كما أنتم الآن تعرفونها بالفعل لا بالقول؟!
قال: هذا لا بد منه يا ولدي، فسيأتي يوم تصبح فيه تلك الأرض سعيدة تبعا لسنة الارتقاء، وقد ابتدأ أن يظهر ذلك فيها كما علمت من القادمين منها، وإذا كان يوجد - حتى الآن - قسم منها لم يزل منحطا كبلاد آسيا وأفريقيا مثلا، فسترزق من يقوم اعوجاجها، ويضبط شئونها، فلا تستبعد شيئا يا ولدي، فالانقلاب يأتي بغتة. قلت: من فمك «لدينة ربنا» أيها الشيخ الوقور.
ثم تناول الشيخ مجلة من على الطاولة الموضوعة في وسط القاعة وأخذ يطالع، وما كان أشد استغرابي عندما رأيته يطالع مع كبر سنه بدون نظارات، ولما فرغ من المطالعة قلت له: إن قسما كبيرا من سكان أرضنا - وخصوصا أهل النشأة الجديدة - لا يمر عليهم وقت طويل إلا ويضعون على أعينهم النظارات، إما لقصر في النظر؛ أو لتسطح في القرنية، وكثيرون الذين لا يستطيعون أن يقرءوا كلمة بدون نظارة.
فقال: هذا يا ولدي من كثرة المطالعة، وقد حصل ذلك في أرضنا من قبل، فقد كانوا يدرسون التلميذ ليلا ونهارا حتى يخرج من المدرسة شغفا بمطالعة القصص الغرامية، والحكايات الخيالية التي لا تفيد شيئا إلا ضياع الوقت، وضعف النظر، فضلا عن أنها تهيج في الشبان عاطفة بغير أوانها، وقد كثرت الجرائد التي صدرت في أول النهضة؛ لأن كل من له أدنى إلمام بالكتابة أنشأ جريدة، أو أصدر مجلة، أو ألف قصة في حب سعد لسعدا، أو غرام حنا بحنة، ولما تفاقم الخطب، وصار أكثر الشبان ينظرون إلى هذا الكون البهي ذي الجمال العجيب بعيون من زجاج، أوقفت الحكومة أكثر الجرائد التي لا تفيد، ونشطت الجرائد الصادقة المهمة، وعززت المجلات والمؤلفات العلمية، وأبقت على بعض الجرائد الفكاهية تسلية لخواطر السكان، فخف بذلك الضرر، وصار الشعب لا يطالع إلا الحقائق المجردة التي يستفيد منها حقيقة، ونبذ كل الكتب والجرائد التي ليس في مادتها غذاء للعقل فماتت، والآن تجد أن المطالعة أصبحت أقل من قبل، ولكنها تفيد أكثر؛ لأن كل كلمة تكتب الآن - إن كان من قبيل العلم أم الأدب أم الفكاهة أم السياسة - هي خلاصة الحقائق، ولم يبق في ميدان الإنشاء إلا من نبغ فيه، وشهد له الجميع بالمقدرة العلمية والأدبية؛ ولهذا تعزز هذا المركز كثيرا. هذا هو التغير الإصلاحي الذي جعل الإنسان منا أن يستفيد من المطالعة القليلة، ويريح عينيه ويبعد عنهما العلل وقصر النظر.
وأمامك الآن جريدة واحدة يومية ومجلة، فنطالع في الأولى أصدق الأخبار عن أبعد أقطار هذه الكرة، ونطالع في الثانية أهم الاكتشافات العلمية، وبعض فصول في الأدب والفلك والصناعة والهندسة والطب وعلم الطبيعيات والفلسفة.
وفي أثناء حديثي مع الشيخ كنت أرى النساء يطالعن بعض المقالات الفكاهية ويضحكن، فعجبت من اتفاق الكنة مع الحماة وجلوسهن معا في سرور وانبساط؛ لأنني كنت أرى في بلادنا عداوة الكنة مع الحماة كعداوة القط والفأر، فاقتربت من الشيخ وأسررت إليه كي لا تسمع السيدات قائلا: هل لك أن تفيدني عن الأسباب التي جعلت الكنة أن تتفق مع حماتها، فإني أرى الآن في هؤلاء السيدات غير ما كنت أراه في أرضنا. فضحك الشيخ وقال: كان زمان ومضى، فإن ما تراه الآن من الاتفاق بين الكنة وحماتها هو أولا من حكمة الرجل، ومقدرته على إدارة شئون عائلته، وثانيا من انتشار الأدب ومعرفة كل منهن واجباتها، فمتى كان الرجل رجلا في بيته بكل زبدة الكلمة، سار كل شيء على نظام تام، فالعداوة التي كانت تقع بين الكنة وحماتها لم تكن إلا على أمور تافهة، وكلها ناتجة عن اختلاف في الأذواق والطباع، وعن الجهل الذي كان متسلطا على المرأة، أما الآن فقد زال كل هذا، وحل محله الوفق، وسلطة الرجل في البيت هي من أهم دعائم راحته وسعادته، اللهم السلطة المقرونة بالحب والاعتدال.
ثم سألني الشيخ عما إذا كنت أريد أن أنام، فأجبته بنعم؛ لأنني تعب من مشاق السفر، فأدخلني إلى غرفة ضمن الدار لم يكن فيها إلا سرير بسيط لطيف، مغطى بالأغطية البيضاء النظيفة، وكرسي واحد، وطاولة عليها إبريق من الماء، وحنفيتان خارجتان من جدار الحائط، يصبان الماء عند اللزوم في حوض للاستحمام، وبجانبهما مرآة وفرشاة ومشط، وفي الغرفة أربع نوافذ، وفي أعلاها نوافذ صغيرة تفتح عند اللزوم لتجديد الهواء في الليل، وقال الشيخ: مثل هذه كل غرف النوم عندنا، خالية من كل أثاث، ومع اتساعها لا ينام فيها أكثر من اثنين أو ثلاثة على الكثير، وطول النهار تفتح النوافذ ليتجدد فيها الهواء وتدخلها الشمس فتطهر، فهذه حالة كل السكان هنا من فقراء وأغنياء، وكلهم يراعون - قبل كل شيء - القواعد الصحية على قدر ما تسمح حالة كل منهم، فالفقير الجاهل عندنا بعد أن كان في سالف الزمن ينام على الحضيض هو وأولاده، وينفق أكثر مدخوله على المسكر والتدخين، وعلى أمور تضره، أصبح الآن - بعد أن أدرك ما هي الحياة الحقيقة - في نعيم تام، يؤثث بيته، ويعد فيه وسائل الراحة من دريهمات قليلة، يجمعها من اقتصاده، ولا أظن أن في الكون أحدا يدرك ما هي الحياة، ويعجز عن تنظيف مسكنه وترتيبه على طريقة بسيطة، فإذا لم يكن من الحرير يكون من الصوف، وإذا لم يكن من هذا فيكون من القطن والكتان، فالاعتماد على النظافة والترتيب والذوق، لا على قيمة المفروشات والملبوسات.
ثم تركني الشيخ بعد أن أشار علي بغسل وجهي وأسناني قبل النوم، حتى لا تنام معي الجراثيم المرضية، التي تتجمع في بحر النهار على وجهي ويدي من المعاملة ومصافحة الناس، وقال: إن أفضل الغسيل ما كان قبل النوم. وقفل باب الغرفة وذهب.
فبعد أن نزعت ثيابي الخارجية، وغسلت وجهي كما قال الشيخ، استلقيت على السرير، وبعد قليل من الوقت نمت نوما هنيئا لم أذقه في كل حياتي الماضية، لا برغوث يقلقني، ولا بق يمتص دمي، ولا بعوض يحرمني راحتي ويأتي بالأدواء ، «ولا قع ولا مع»؛ لأن الأولاد - على ما ظهر لي في هذه الأرض - لا يعرفون البكاء على الإطلاق، ولا قنديل من الغاز يملأ الغرفة رائحة كريهة مميتة، ولا روائح «عطنة»، ولا شيء من كل هذه، ولا جيران يتخاصمون.
وفي الصباح انتبهت من نومي، فوجدت حركة في داخل الدار، فنهضت وتحممت، فكان الماء باردا في حنفية وسخنا في أخرى، ثم لبست ثيابي وخرجت، وفي من النشاط والقوة شيء كثير، فوجدت أكثر أهل البيت وقوفا على مائدة، عليها من المأكولات البسيطة كالجبن والزيتون والحليب والعسل، يتناول كل منهم ما يشتهي، فدعوني لمشاركتهم، فأكلت قليلا وقلت بفكري: هؤلاء الناس يعرفون كيف يعيشون حقيقة، نحن نقوم من الصباح إلى التدخين والقهوة والأركيلة، ونسم أجسادنا ونضعف معدنا بهذه المواد السامة، فإلى متى يبقى الإنسان في أرضنا غائصا في الجهالة، يستعمل كل وسائط الانتحار البطيء. آه، ما أمر تلك المعيشة مع تلك العوائد المضرة التي تتملك فينا.
Unknown page