Muqamarat Tarikh Kubra
مقامرة التاريخ الكبرى: على ماذا يراهن جورباتشوف؟
Genres
ومن ناحية اخرى فإن هذه الفترة القصيرة لم تكن على الإطلاق، بالنسبة إلى أصحاب هذه التجربة، فترة هدوء يستكشفون فيها أبعاد تجربتهم ويعملون على تطويرها بصورة إيجابية، وإنما كانت فترة صراع ضد المقاومة الداخلية في البلاد الاشتراكية من جهة، وضد المقاومة الخارجية الضارية التي حاول بها النظام الرأسمالي وأد التجربة الجديدة منذ لحظة ولادتها من جهة أخرى. وفيما يتعلق بهذه النقطة الأخيرة، فلا بد أن نذكر أن العالم، عند مطلع العصر الحديث، كان خالصا للرأسمالية، وكان في حالة «فراغ أيديولوجي»، إن جاز أن نستخدم في وصفه تعبيرا معاصرا، فلم تكن هناك مقاومة تذكر لأن الإقطاع والكنيسة كانا في زمن الأفول، بل يمكن القول، على العكس من ذلك، أن موارد العالم كله قد سخرت من أجل إنجاح التجربة الرأسمالية، وذلك عن طريق الاستعمار وغزو الأسواق واستجلاب الأيدي العاملة المجانية بالرق، إلخ. وهكذا استطاعت الرأسمالية أن تطور نفسها بالتدريج، وتحقق جميع إمكاناتها، في جو عالمي موات وملائم إلى أبعد حد. أما الاشتراكية فقد ظهرت إلى الوجود في وقت كان فيه النظام الذي تسعى هي إلى الحلول محله قد بلغ أوج قوته؛ ومن ثم فإنه قد مارس ضدها منذ بدء ظهورها وحتى اللحظة التي أكتب فيها هذه السطور، مقاومة ضارية، ولم يدع لها فرصة للتنفس لحظة واحدة في هدوء. ولا ننسى في هذا الصدد التأثير المدمر للحرب العالمية الثانية، التي خرجت منها الدولة الأم في النظام الرأسمالي سليمة متجددة الحيوية، بينما خرجت الدولة الأم في المعسكر الاشتراكي (والوحيدة حين ذلك الحين) محطمة مثخنة بالجراح.
وهكذا فإن أية مقارنة منصفة بين إنجازات النظامين ومستواهما وما حققاه لمجتمعاتهما ينبغي أن تأخذ هذه الفوارق الجوهرية بعين الاعتبار. ومع ذلك فإننا نعتقد اعتقادا راسخا بأن التجربة الاشتراكية، سواء تلك التي بدأت في نهاية الحرب العالمية الأولى أم تلك التي بدأت في أعقاب الثانية، قد ارتكبت أخطاء فادحة لم يكن لها ما يبررها حتى مع عمل حساب جميع الفوارق السابقة. وهذا الرأي لم يعد اليوم مجرد استنتاج فكري، وإنما تؤيده وتؤكده أصوات الجماهير الهادرة في عواصم الدول الاشتراكية ، فلا بد أن يكون هناك خلل واضح في النظام الذي يقوم بناؤه الأيديولوجي على العمل لصالح القاعدة الجماهيرية العريضة، إذا كانت هذه القاعدة الجماهيرية هي ذاتها أول من يثور عليه بضراوة.
ولكن السؤال الذي يشغل العالم بأكمله اليوم، ليس تحديد مدى الخطأ في التجربة الاشتراكية، وإنما هو: هل لا زالت للاشتراكية فرصة للبقاء في عالم اليوم والاستمرار في عالم الغد؟ هل تركت لها تلك الكراهية التي تنضح بها وجوه المتظاهرين الساخطين أملا في أن تظل أيديولوجية رئيسية عندما يحل القرن المقبل، أم أن العقد سينفرط، سواء بالحركات القومية الانفصالية داخل الاتحاد السوفياتي، أو بالتبرؤ من كل ما له صلة بالعهد السابق، في بقية الدول الاشتراكية؟ يبدو لي أن الاشتراكية، كأيديولوجية جماهيرية، تواجه في هذه الأيام أول اختبار حقيقي لها، فحتى خلال الحرب العالمية الثانية، عندما اجتاحت الجيوش النازية الجزء الأكبر من الأراضي السوفياتية الآسيوية، لم يكن الاختبار الذي تتعرض له الاشتراكية بمثل هذه القسوة؛ ذلك لأن تعبئة الشعور الوطني الذي يرتبط بتراث أقدم بكثير من التجربة الاشتراكية، قد أدت دورا هائلا في ذلك الصعود الأسطوري الذي تمكن السوفيات بفضله من إلحاق أفدح الهزائم بالغزاة النازيين، أي أن الاشتراكية لم تكن هي نفسها التي تتعرض للمحنة والاختبار، أما في هذه الأيام فإن المبدأ الاشتراكي ذاته هو الذي أصبح موضع التساؤل، وقدرته على الاستمرار هي التي أصبحت موضع شك.
والمخرج الذي يلجأ إليه المثقفون عادة حين يصادفهم مأزق مماثل لهذا الذي تواجهه الاشتراكية في هذه الأيام، هو التمييز الحاد بين النظرية والتطبيق، فقد أثبتت الأحداث أن التطبيق كان سيئا إلى أبعد حد، وأن أولئك الذين وضعوا على قمة المجتمعات الاشتراكية لكي يكونوا حراسا للمبدأ وأمناء عليه، قد أساءوا إليه بممارستهم اللاإنسانية أبلغ الإساءة، ولكن المثقف يظل مصرا على أن النظرية ذاتها غير مسئولة عن أخطاء التطبيق، وعلى أن ما حدث لم يكن إلا انحرافا للممارسات عن المبدأ القويم. ومع ذلك فإن هذه الإجابة لا تقنع الكثيرين؛ ذلك لأن من حق المرء أن يشك في أية نظرية تعجز عن تجسيد نفسها في الواقع العملي إلى هذا الحد، أو تسفر عن نتائج مخيبة للآمال كلما طبقت.
ولا بد أن تكون النظرية التي تؤدي، في كل مرة تطبق فيها عمليا، إلى ظهور طغاة أو مجموعات حاكمة متحجرة تستغل نفوذها أسوأ استغلال، لا بد أن تكون هذه النظرية مشوبة بعيوب أساسية؛ لأن أحدا لا يستطيع أن يفصل بين الميدان النظري والميدان العملي التطبيقي إلى حد تصويرهما بأنهما ينتميان إلى عالمين متباعدين لا يلتقيان.
نعم، كانت هناك عيوب أساسية في النظرية ذاتها، بالإضافة إلى التجاوزات القاتلة في التطبيق. ولا جدال في أن مناقشة هذه العيوب تقتضي جهدا ووقتا كبيرين، وقد قدم الكثيرون، على مدى سنوات طويلة آراء خصبة في هذا الشأن، يستحيل أن يتسع المجال للحديث عنها في مثل هذا الحيز المحدود، وربما كان الأمر المجدي حقا، في هذا السياق، هو أن نورد أهم ما كشفت عنه الأحداث الأخيرة من عيوب في النظرية ذاتها؛ لأن الوعي بهذه العيوب سيكون هو المدخل إلى عملية التصحيح الكبرى التي ستحاول الاشتراكية القيام بها في الأعوام القليلة القادمة، إذا لم تطرأ عوامل تبدد فرصتها في القيام بأي تصحيح.
أول هذه العيوب تجاهل إنسانية الإنسان، صحيح أن مبدأ الاشتراكية يقوم أصلا على تحرير الإنسان من عبودية الاستغلال الذي يمارسه رأس المال، ومن تعامل الرأسمالية معه كما لو كان «شيئا» يباع ويشترى، غير أن الفكر الاشتراكي قد طور على مر السنين مفهوما للإنسان يؤكد الجانب الاجتماعي فيه أكثر مما يراعي الجانب الفردي، فالإنسان الذي تمجده الأعمال الأدبية والفنية والفكرية، التي تسودها الروح الاشتراكية، سواء أكانت اشتراكية ماركس أم غيره، هو الإنسان الذي تندمج أهدافه كلية مع أهداف المجتمع، وهو الذي ينسى نفسه كفرد له عالمه الخاص، لكي يوحد ذاته مع الكل الأكبر الذي ينتمي إليه. ومن السهل جدا، عند التطبيق، أن يتحول هذا المبدأ، الذي كان هدفه في الأصل نبيلا، إلى مبرر لقهر الإنسان وظلمه ، فما أسهل أن يتهم أي حاكم مستبد مثل ستالين من يعارضه بأنه يتآمر ضد مصلحة المجتمع، فيصدر حكما بإعدامه وهو مرتاح الضمير؛ لأن «الكل الأكبر» هو الغاية القصوى، وفي سبيله يهون كل شيء. وما أسهل أن توضع مصالح «الخطة» الشاملة فوق مصالح فئات كثيرة قد تجد من المستحيل، أو من المرهق، تنفيذها تبعا لرؤية المخططين الذين لا يرون إلا الصورة «الكلية» ويتجاهلون كل ما في داخلها من جزئيات إنسانية. وما أسهل أن تتم التضحية بكثير من ضرورات الحياة في هذا البلد أو ذاك من أجل مصلحة «المعسكر الاشتراكي» ككل. وهكذا فإن المبدأ الذي يوضع في الأصل لتحقيق مصالح أوسع قطاعات من الجماهير، يتحول بالتدريج إلى مبرر فكري لقهر الجماهير وتجاهل مطالبها المشروعة.
ولقد حاول الكثيرون، طوال تاريخ الحركة الاشتراكية، أن يؤكدوا أهمية هذا الجانب الإنساني، ويقنعوا الأحزاب الاشتراكية، سواء أكانت في الحكم أم خارجه، بأن إعطاء جرعة من النزعة الإنسانية إلى مذهب سوف ينشطه ويزيد من عافيته. غير أن هذه المحاولات كانت تصطدم دائما بموقف المدافعين عن «الصرامة» و«القوانين الموضوعية»، وكانت تتهم بأنها اشتراكية «رخوة» أو «غير علمية»؛ لأن الاشتراكية الحقيقية في نظر هؤلاء المتشددين يجب أن تضع في اعتبارها العوامل العامة التي تتحكم في مسار التاريخ، وهذا وحده هو ما يجعلها «اشتراكية علمية» بالمعنى الصحيح، أما تلك الرهافة الإنسانية فإنها تحول السياسة إلى شيء أشبه بالشعر أو الفن. ولعل في هذا ما يفسر، إلى حد بعيد، تلك الأزمات المتلاحقة التي كانت تثور بين سلطة الحزب وبين الفنانين والأدباء، منذ بداية الثورة الشيوعية في 1917م حتى اليوم، ولعل فيه أيضا ما يفسر تلك الظاهرة الفريدة في تاريخ الإنسانية، وهي قيام الجماهير الثائرة على الاستبداد الصارم للحزب في تشيكوسلوفاكيا، خلال الأحداث الأخيرة، باختيار «كاتب مسرحي» رئيسا للجمهورية (وهي فيما أتصور المرة الأولى التي يحكم فيها أحد رجال المسرح بلدا بأكمله؛ مما يطرح تساؤلات طريفة، ينتظر المرء الإجابة عنها بشوق وتلهف، حول الطريقة التي سيتحول بها تفكير «هافيل» من استخدام خياله في تحريك شخوص المسرح وأحداثه بحرية كاملة، إلى استخدام عقله في تحريك أوضاع الاقتصاد والدبلوماسية والدفاع في عالم الواقع الذي لا يلين!) - هذا فضلا عن الدور الكبير الذي أسهم به الأدباء والفنانون والكتاب في أحداث البلاد الشرقية الأخرى، والاتحاد السوفياتي نفسه، ووصول عدد منهم إلى مراكز قيادته في المجر ورومانيا وغيرهما بعد الثورات الجماهيرية الأخيرة.
إن التجاء الشعوب إلى الكتاب والفنانين في مثل هذه الظروف يمثل رد فعل واضحا على تجاهل الإنسان النابض بالحياة في الأنظمة السابقة سعيا لا شبهة فيه من أجل إضفاء اللمسة الإنسانية التي حرمت منها تلك الشعوب طويلا، باسم «الموضوعية العلمية» على أسلوب إدارة المجتمع في تلك البلاد. وإذا كانت تلك التحولات تبدو في ظاهرها ثورة على التطبيق السيئ لمبدأ نبيل، فإنها في حقيقتها احتجاج على عناصر أساسية في المبدأ نفسه، تفتح المجال واسعا أمام كل من يريد إساءة التطبيق.
لقد كانت «الاشتراكية الإنسانية» توصف دائما بأنها «حريفية»، بل لقد بذلت محاولات لإلقاء ظل من النسيان على كتابات هامة لكارل ماركس، ألفها في وقت مبكر، لمجرد أنها تؤكد هذا الجانب الإنساني في الاشتراكية، مع أن هؤلاء الذين تجاهلوها لم يكونوا يتركون سطرا واحدا لماركس دون أن يحللوه ويستشهدوا به، ووصل الأمر ببعضهم إلى حد النظر إلى هذه الكتابات كما لو كانت تمثل المرحلة «الجاهلية» في فكر ماركس، قبل أن تهبط عليه «رسالة» الاشتراكية العلمية، وكم من اشتراكيين مخلصين طردتهم الأحزاب الشيوعية لمجرد أنهم سعوا إلى تطعيم النظرية بهذا الجانب الإنساني، فقد كانت تدور داخل تلك الأحزاب عملية «تكفير» مماثلة لما نجده لدى أشد الجماعات الإسلامية المعاصرة تطرفا، وكان الدفاع عن شكل من أشكال الحريات «الليبرالية» كافيا لطرد صاحبه من الحزب، وهو ما يعني الخروج من الجنة، والحكم عليه بأن يظل مشردا منبوذا.
Unknown page