Muqaddima Li Dirasat Balaghat Carab
مقدمة لدراسة بلاغة العرب
Genres
والخلاصة: أن النقد ليس له قواعد ثابتة ولا قوانين عامة، بحيث يتخذها كل إنسان لتكون عمدته في البحث، بل هو فن من الفنون يختلف باختلاف الذكاء والاستعداد، وأنه لا يصح الاعتماد على الأذواق الصرفة في الحكم على البلاغات. ولكن هناك صلة حقيقية بين الذوق والأثر الذي يحدث في نفس الإنسان عند قراءة شيء من الأدبيات، أو رؤية شيء من الفنون الجميلة. هذه الصلة يكون لها أثر صحيح نافع في إدراك حقائق الأشياء، إذا كان الذوق قد تهذب بالتربية والتعليم، وتكون بالعلوم والفنون المختلفة، وقد يكون النقد الخالي من الذوق صحيحا لمتانة طريقته، ولكنه يكون جافا. ومهما كان النقد بعيدا عن العلوم، غير مقيد بقاعدة، فإنه يمكن سن طريقة له، والطريقة التي نختارها هي: (1)
أن يكون الناقد واقفا تمام الوقوف على نوع الكلام الذي يدرسه، وعلى جملة آراء الكاتبين فيه؛ بحيث يمكن أن يميزه من غيره، وأن يحكم عليه بناء عن خبرة تامة بآراء النقاد والمختصين بهذه الموضوعات. (2)
أن يكون له طريقة يبني عليها حكمه، وأصول يرجع إليها في ذلك: كأن يكون مبناها صحة الأساليب أو صحة الفكر، أو رقي الخيال أو صلة البلاغة بحوادث خاصة. (3)
البحث عن صحة ما في الكتابة بواسطة صلتها بالكاتب والاجتماع، وتأثير ذلك في الكلام والصناعة.
هذا هو جماع القول في النقد الأدبي، وسنذكر المذاهب المختلفة في ذلك.
النقد الأدبي في فرنسا
رأينا أن نجمل القول إجمالا في تاريخ النقد الأدبي في فرنسا؛ لنقف على سير حركة النقد وأطواره وأثره في الأدب الفرنسي، وعلى المذاهب المختلفة في ذلك، ثم نذكر بعد هذا حركة النقد عند العرب ومذاهب الأدباء لديهم.
يقولون: إن أرسطو أول من كتب في النقد الأدبي في نحو القرن الرابع قبل التاريخ المسيحي، وكتابه «فنون الشعر» عبارة عن كتاب في البيان وقواعد البلاغة، بنى عليه طريقته في النقد، وهو أول من قال «إنه يجب أن تكون أعمال الإنسان جارية على قوانين الطبيعة ونظاماتها.» وبدأ بالبحث عن عيوب الكتابات التي يثقل على النفس تذوقها، ووضع كل ثقته في علوم البلاغة؛ ليصل بها إلى كشف مخبأ الكلام البليغ. ولكنه لم يصل إلى قانون يبين الأنواع الأدبية، ولا إلى دراسة الأطوار التي تعتري البلاغة أثناء تقلب التاريخ عليها. غير أنه أرشد إلى الوسائل العامة التي يصح أن تكون طرقا ومناهج للكتاب، وظهرت بعد أرسطو كتب كثيرة في النقد لا تكاد تخرج عن هذا المعنى، أكثرها من قبيل النقد اللغوي.
وكتب النقد عند الرومان في نحو القرن الثاني قبل الميلاد كانت مملوءة بالمباحث اللفظية؛ إذ كان الغرض منها تقويم ألسنة الخطباء، وإصلاح حالة الخطابة في مواقف النزال، ولم يكن اهتمامهم بشيء من أنواع الكلام إلا من أجل ذلك؛ فكان النقد عند الرومان لا يكاد يخرج عن صناعة الخطابة، فلم يكن لديهم مذهب أدبي ولا طريقة واضحة في النقد؛ ولذلك انحصر النقد عندهم في النقد اللغوي وعلوم البلاغة، وفي القواعد النحوية والصرفية؛ أي في البحث عن اللفظ وأصله وصحته، ثم في البحث عن مطابقته للمعنى المقصود، وفي طرق تأثيره في نفوس السامعين، واستمر الحال على ذلك إلى القرون الوسطى، ومر على النقد نحو ستة قرون في تلك الأزمان، وهو لم يخط خطوة واحدة؛ لأن العقول في القرون الوسطى كانت مقيدة بأهواء الملوك والأمراء ورؤساء الأديان، ومتى كانت الأفكار خاضعة لغيرها فإنها لا تعرف الحرية، ولا ترى طرق الإصلاح؛ ولذلك لم يكن الشعراء إلا آلة لأهواء هؤلاء الرؤساء، فلم يكن لأحدهم أن يقول شيئا إلا لإرضاء أمير أو رئيس، فكيف يجد النقد له منفذا أو طريقا؟ إذ لا يمكن أن يكون الإنسان ناقدا إلا إذا كان حرا في الفكر؛ لأن حركة العقول تابعة دائما للحركة العامة للحالة الاجتماعية.
أما في عصر النهضة فقد تحررت العقول، وظهرت «شخصيات» الكتاب والشعراء؛ ولذلك تغيرت أيضا طرق النقد. ولكن النقد أيضا في هذه الأيام لم يخرج عن النقد البياني مع بعض التوسع عما كان عليه في الأيام الماضية، وكان من رجاله دانت
Unknown page