وضرب عنقه في (20 أكتوبر سنة 1039). •••
ثم وريت جثة أبي الفتوح التراب كما أمر باديس إلى جانب ابن عباس وحزن لمقتله جماعة العلماء والأدباء النابهين في غرناطة وصاروا كلما مروا بقبر هذين الرجلين العظيمين يتهامسون: «لله قبر يضم رجلين حكيمين أبيا أن يقيما على الضيم والذل، فماتا كريمين رحمهما الله رحمة واسعة. والبقاء لله وحده.»
الفصل الرابع
أخذ طاغية صنهاجة وجبار غرناطة يقوي نفوذه شيئا فشيئا إلى أن أصبح زعيم حزبه السياسي على رأس البربر
1
ولم يكن يعترف للخلافة الحمودية بمالقة إلا بمجرد السيادة الاسمية، وقد بلغ الحموديون الغاية في الضعف حتى جعلوا لوزرائهم السلطان عليهم، وكان بعضهم يعمد إلى إهلاك بعض، إما بتجريد السلاح أو دس السم. وهم عوضا عن أن يوجهوا نظرهم إلى أتباعهم من أمراء البربر الأقوياء فيشدوا بهم أزرهم كانوا يركنون إلى الدعة، ويرون السعادة كل السعادة في أن يظفروا بالحكم في مالقة، وطنجة، وسبتة، وإن فقدوا النفوذ في البلاد التي تخطب باسمهم على المنابر. •••
وكان ثمة خلاف كبير بين بلاطي غرناطة ومالقة، ففي غرناطة كان البربر وعلى رأسهم باديس ووزيره إسماعيل يعملون لصالحهم وهم على وفاق تام في الخطط ووجهات النظر، وفي مالقة كان الأمر على النقيض من ذلك، لوجود الصقالبة الذين تتنافر مصالحهم مع مصالح البربر، هذا إلى ما وقع للصقالبة أنفسهم من التحاسد والتطاحن، واستعانة بعضهم على بعض بأعدائهم من النصارى، وهذه العوامل بعينها هي التي كانت سببا في سقوط الدولة الأموية.
وقد حدث أن الخليفة الحمودي إدريس الأول كان مريضا في الوقت الذي جرد فيه جيوشه على جند إشبيلية، وقد أسلم الروح بعد أن وصل إليه الخبر بمقتل إسماعيل في معركة «أستيجة» بيومين، فاختلف الوزير البربري مع الوزير الصقلبي على تعيين الخليفة، فالأول يريد أن يتبوأ عرش الخلافة يحيى بن إدريس البكر، لتكون السلطة في يده وليقوم هو بالأمر، والوزير الصقلبي يعارضه في ذلك ولا يقره عليه. ولما كان هذا وزير الممتلكات الإفريقية قام بالبيعة لحسن بن يحيى ابن عم يحيى وأعد العدة ليجوز البحر به إلى مالقة. وقد أذعن لخطة الوزير الصقلبي وزير البربر لتردده وقلة ثباته، وكان من جراء التردد والتواني في أخذ الحيطة أن أهمل التدبير اللازم للدفاع في الوقت المناسب، فرأى بغتة الأسطول الإفريقي وقد ألقى مراسيه في مياه مالقة، فعجل بالفرار مع الخليفة الذي كان يريد أخذ البيعة له. •••
ولما استقر حسن بعاصمة ملكه أرسل وزيره إلى وزير البربر يمنحه العفو، ويرغبه في العودة، فوثق بكلامه، وعاد ليلقى حتفه، وقد تحققت النبوءة التي كان إسماعيل اليهودي رآها في منامه، وبعد ذلك قتل المدبر لدولة حسن أيضا وهو «نجاء» الذي ارتكب الجريمة كما ذهب إلى ذلك بعض المؤرخين، كما أن حسنا كان جديرا بأن يقتص منه، فقد قتل مسموما بيد زوجه شقيقة يحيى المسكين، ومن ذلك الحين أراد «نجاء» أن يزيد في نفوذه، فرأى أنه ليكون كملك مستأثر بالحكم يجب أن تكون السلطة في يده وحده، وأن تكون سيادة الخليفة اسمية، فعمد إلى قتل ابن حسن، وهو في ريعان الشباب، وزج بشقيق إدريس في غياهب السجن، وبعد أن تم له ما أراد من ذلك عرض نفسه على البربر كخليفة، وأغراهم بالوعود البراقة ليجتذبهم إلى جانبه، ولكن البربر كانوا ينطوون على ألم ممض، وغيظ كامن في الصدور، من جراء جرأته البالغة، وطمعه في منصب الخلافة طمعا يمس بالدين، فإنه كان يظهر للسلالة الهاشمية احتراما مزيفا يوقع في الريبة والشك. وعلى أثر ذلك فكر البربر في الانتقاض عليه والاقتصاص منه، وأخذوا يتربصون به الدوائر ويتحينون له الفرص، ولكي يخفوا ما انطووا عليه من البغضة وإضمار الشر، تظاهروا بإجابته إلى غرضه، وصارحوه بأنهم طوع أمره، وأقسموا له اليمين، وبايعوه على الطاعة والنصرة. ورغب «نجاء» حينئذ في انتزاع الجزيرة من محمد الخليفة الحمودي الذي كان يحكمها، وجرد عليها جيشه والتحم الفريقان، ولكن حدث في المعارك الأولى التي دارت رحاها مع العدو أن لاحظ الوزير الصقلبي أن البربر يقاتلون بتراخ، وأنه ليس في الإمكان التعويل عليهم، فرأى من الحكمة أن يصدر أمره للجنود بالارتداد، واعتزم أن ينفي عند عودته إلى العاصمة البربر الذين تحوم حولهم الشكوك والريب، وأن يجذب إليه العنصر الصقلبي بقوة المال، وأن يلف حوله من الصقالبة أكبر عدد ممكن، ولكن أعداءه الألداء من البربر عرفوا خطته، وتبينوا ما يرمي إليه، وانتهزوا فرصة مروره بالجيش وسط مضيق محصور، فانقضوا عليه وقتلوه في غرة (5 فبراير سنة 1043).
2 •••
Unknown page